تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

العلاقة مع الآخر .. أسسها وضوابطها في ضوء الوسطية في الإسلام

مريم آيت أحمد

العلاقة مع الآخر

أسسها وضوابطها في ضوء الوسطية في الإسلام*

 

الدكتورة مريم آيت أحمد**

 

* تمهيد

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

إن تحديد جوهر علاقة الأنا بالآخر، لا ينفك عن رصد واقع المجتمع العربي الإسلامي، الذي أُدخِل ومنذ القرن التاسع عشر في تاريخ غير تاريخه، من خلال جريمة الاستعمار الغربي، ومن خلال تجميد تاريخ شعوبه الإسلامية، وتشويه ثقافته وحضارته التي تعبر عن روحه التاريخي من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة معاناته من تحديات تأكيد الذات من جهة أخرى، وسط عالم تسارعت فيه الاكتشافات والاختراعات العلمية، وتنافست فيه المراكز الكبرى للاقتصاد والمال والتكنولوجيا لاكتساح أكبر مساحة من التأثير والإنزال والهيمنة.

ولذلك ولأسباب موضوعية، وجد مجتمعنا العربي والإسلامي نفسه أمام معطيات جاهزة تكنولوجياً، وتكتلات اقتصادية ضخمة مؤثرة إلى حد بعيد في صنع القرار السياسي، وهي عقبات لابد من الوقوف عندها والتعامل مع معطياتها وإفرازاتها ونتائجها المستقبلية بعقلانية وجدية، لأنها تلامس عمق البنيان النفسي والفكري لمجتمعنا، وتؤثر بشكل سلبي على مصداقية واستمرارية تواصل علاقات أجيالنا مع الآخر، ثقافياً، وحضارياً، واقتصادياً، وإعلامياً، وتقنياً...

لقد باتت مقولات التفاهم والتعايش بين الشعوب في إطار مفهوم (الاعتراف بالآخر)، موضوعاً من موضوعات العصر الرقمي، وهو موضوع جديد بالنسبة للغرب، الذي أثبت أن واقعه الثقافي والتاريخي والحضاري لم يتشكل في (إثبات ذاته) إلا من خلال نفي وإقصاء، وتشويه صورة الآخر، كما عبرت أطروحة العولمة ونهاية التاريخ عن قمة تمركزه حول الذات، وتبنيه لأسطورة الكمال المزعوم.

أما الإسلام فإنه يتجاوز هدا المنطلق الذي فرضته الثقافة الغربية في التعايش مع الآخر وعياً وممارسةً، لأن الاعتراف بالآخر ليس إشكالاً اقتضته تحديات المرحلة الراهنة وإنما هو جزء من عقيدة المسلم، وأسٌّ من أسس دينه التي علمته أن الإنسانية واحدة لا تتجزأ وأن الله أراد للناس أن يكونوا قبائل وشعوباً متنوعةً، ليتعارفوا، وليحققوا التفاعل المتحضر والعيش الآمن، داخل مساحات شاسعة وبيئات مختلفة تضم أسرة إنسانية واحدة.

إن الأمة الإسلامية من حيث هي أمة الوسطية -شاهدةً وكونيةً-، لا تنفي عطاء ونتاج الحضارات، وعلاقتها مع الحضارات ليست علاقة صراع لنفي الآخر، بل لاستيعابه في إطار مبدأ التعارف والتكامل في أفق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بوصفها قيماً إلهية توجّه البشرية إلى المثل الأعلى الحقيقي.

وتاريخنا لم ينتج الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون بعلاقاتهم الودية مع الآخر، عن عنف التوحيد القسري أو الانصهار التام في كل شيء، وإنما أسسوا لوحدة قائمة على احترام حقائق التاريخ والمجتمع، لأنها حقائق طبيعية متناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. إلا أن استحضار واقع المجتمع العربي الإسلامي في ظل التحديات العالمية المعاصرة، يوحي بارتباك العلاقة بين الذات/ والآخر (الداخلي). وتتضخم الإشكالية أكثر في علاقتنا بالآخر/ الغير (الخارجي)، الذي يغيب شعورياً ولا يحضر إلا في لحظات التجيير لتحقيق وصولية اجتماعية، أو دبلوماسية سياسية، غير مقررة بإيمان عميق بمبدئية القيم الإسلامية في ضرورة استحضار الآخر، تطبيقاً وممارسةً، وسلوكاً، كما طبقها رسولنا الكريم وشهدت بها صفحات تاريخنا المجيد.

ـ 1 ـ

ماهية العلاقة مع الآخر في ضوء الوسطية الإسلامية

مفهوم الآخر

المعنى العام لمفهوم الآخر هو الغير، أي المختلف وكانوا يطلقونه على الأشياء، وأيضاً الحالات المعنوية. إن الآخر هو السِّوَى المغاير، الذي يقابل الذاتي، والمشابه(1).

والغير هو أحد تصورات الفكر الأساسية، ويراد به ما سوى الشيء مما هو مختلف أو متغير عنه، ويقابل الأنا. ومعرفة الغير تعين على معرفة النفس(2).

إن كل إشكالية حول العلاقة مع الآخر، يجب أن تقرأ في ضوء تحديد إشكالية الذات، بمعنى أن السؤال عمن هو الآخر؟ ينطوي أولاً على السؤال: من نحن؟

الحديث عن ماهية العلاقة مع الآخر، يفرض علينا تحديد معنى الغيرية ومستوياتها كما حددها الإسلام، وهي تعني ضمنياً التعايش والتعارف مع احترام الفروق بالنسبة للأفراد شعوباً وقبائل وجنسيات ولغات وأديان على حد سواء.

فالنظرة الإسلامية للعالم لا تعدُّ التعدد، والتنوع البشريين، من قبيل الحوادث التاريخية، أو الانحرافات الشخصية أو العيوب الإنسانية، بل تعدهما مظهراً من تدبير الله للعالم، وسنّةً من سنن الله في الكون، ولو شاء الله تعالى لخلَقَ الناس على نمطٍ موحَّدٍ من الأفكار والمشارب، والأهواء والأذواق، ولكن حكمته سبحانه اقتضت اختلاف البشر وتعددهم في الكون إزاء سموه ووحدانيته، وهو ما أكدته مجموعة من آيات الكتاب الحكيم.

كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(3).

وقوله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم}(4).

وفي هذا التأصيل لمبدأ الغيرية والتعددية، يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وهذه هي أخص خصائص حقوق الإنسان وأقوم منهج للمجتمع الإنساني، فالغيرية في الإسلام تعني في جوهرها، التسليم بالاختلاف، التسليم به أفقاً لا يسع عاقلاً إنكاره والتسليم به حقاً للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه، وهي معنية بالموضوع الذي يكون الاختلاف حوله، أو الذي ينحصر فيه نطاقها، فتكون دينية، مذهبية، لغوية، ثقافية عرقية، اقتصادية، سياسية..

ولئن وجدت مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم نفسها -نظراً للتحديات الصعبة التي تمر بها- تبحث بجدية عن حلول استراتيجية للتعريف بذاتها، فهذا يعني أنها ملزمة بأن تقرّ حساباً للآخر، لأننا في ظل هذه التحديات، معنيون بوضع خطط متوازنة للحد من التوترات الداخلية، والخارجية على حد سواء، وذلك لأن العلاقة مع الآخر تصعب ممارستها واقعياً إذا انعدمت مع الذات، فالتصدعات والانشقاقات والخلافات الداخلية تعكر بلا ريب صفو العلاقات الخارجية مع الآخر.

إن حدود العلاقة مع الآخر تعني ضمنياً، التعايش مع احترام الفروق بالنسبة إلى الأفراد والجماعات على حد سواء، فإذا فهمنا حدود هذه العلاقة، والسائرة كلها نحو التكامل، والتعاقب والمداومة، والاستخلاف، والترقي، فإننا سنفهم بشكل أفضل مكانتنا ودورنا في العالم المعاصر، بل سندرك بشكل جدي أفضل المناهج والسبل اللازمة للمواجهة والتصدي.

ومن ثم فإن العلاقة مع الآخر لا يمكن أن تؤدي دورها المنشود، إلا إذا تأسست على قاعدة احترام متبادل بين الأطراف المتحاورة، واحترام كل جانب لوجهة نظر الجانب الآخر، وإن لم يقبل به، لأن الهدف ليس هو السعي وراء الاتفاق الكلي، وإنما هو ربط العلاقات مع الآخر لإثراء الفكر، وتمهيد طرق التعاون المثمر في شتى مجالات الحياة، وترسيخ قيم التسامح واحترام إنسانية الإنسان، بالبحث الجاد عن القواسم المشتركة، التي تشكل الركيزة الأساس للتعاون الفعال بين الأمم والشعوب.

هذا هو موقع التدافع الوسطي، المزكّي لحق الاختلاف والتمايز والتعدد، في الرؤية الإسلامية للكون والحياة، والعلاقات بين البشر، والأفكار، في إطار الجوامع الخمس المكونة لمقومات الأمة (العقيدة ـ الشريعة ـ الأمة ـ الحضارة ـ دار الإسلام ـ الانتماء الوطني).

إن الإسلام لا يقبل مبدأ احترام خصوصيات الآخرين فحسب، بل إنه يطالب المسلم شرعاً بالوقوف والحرص على حماية تلك الخصوصيات على تنوع انتمائها، وذلك من أجل تحقيق قيم الإنسانية المشتركة بين البشر، وإيجاد حالة من التعارف الذي يقوم على التآلف، ومن التآلف إلى التعاون على ما عرفه الإسلام بالبر والمعروف، وإسكات صوت ما عرفه بالمنكر والإثم والعدوان.

وهذا مشترك تتبناه الفطرة الإنسانية لجميع الشعوب على اختلاف ألوانها ومشاربها وتوجهاتها، لأن فيه حفاظاً على دوام وحدة الأصل البشري، وحماية لوحدة المصير المشترك بين أبناء الأسرة الإنسانية.

ـ 2 ـ

مستويات التأصيل القرآني لأسس

وضوابط العلاقة مع الآخر نظرياً وتطبيقياً

أ ـ المستوى التنظيري

ظهر الإسلام الذي جعل -في كل تشريعاته وتنظيماته ومواقفه الفكرية- الإنسانيةَ أساساً لدراسته كل المواقف والنزاعات والخلافات، في زمن عدم الاعتراف بحق الآخر دينياً وحضارياً، وقد سجل التاريخ البشري هذا الإشكال المتبادل للآخر في الفكر والواقع والممارسة والتطبيق.

فمفهوم الآخر في الحضارة الفرعونية كان قائماً على أساس التفاوت الطبقي بين الحكام والعبيد، وكانت العلاقة بين فرعون ورعيته قائمة على تكريس نظام عبودية الآخر ونفيه وإبادته.

وفي الحضارتين الإغريقية والرومانية، وبقدر ما أنتجتا من علوم ومعارف ذات قيم إنسانية، "تؤكد على ضرورة أن يعيش الإنسان وسط أقرانه وكفاحه من أجل الشعور بحب الآخرين والإحساس بقيمة الحياة في وسط جماعة"(5) بقدر ما ركزتا في المجال الاجتماعي على الاحتفاظ بمبادئ الاستعباد التي حكمت على الآخر/ الغير بالدونية والاحتقار، وسلب إرادته.

وبعد مجيء الديانة اليهودية ثم تجديد العلاقة مع الآخر المغاير، الأغيار من خلال تطويع النص الديني وإغنائه بمعايير أثبتوا بموجبها أنهم شعب الله المقدس: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك"(6) فغذَّت تلك النصوص نمو الوعي العرقي بفكرة الشعب المختار، الجنس المتفوق على الآخر، كُتب له تاريخ مقدس خاص لا يمكنه من الاندماج في أمة أخرى ولو عاش في ظلها أجيالاً.

وتحول هذا الوعي العنصري إلى درجة بات ظنهم يوحي لهم بأنهم خلقوا من عنصر الله، أما بقية الشعوب / (الآخر)، فمخلوقات حيوانية سخرها الله لخدمتهم، وعلى ضوء ذلك أمر عزرا بتطبيق الاصطفاء العرقي وفصل الآخر/ الغريب.

"وكل أولئك الذين اتخذوا زوجات أجنبيات طلقوهن مع أولادهن"(7).

فهذا الرفض المطلق للآخر تجاوز البعد العرقي لجهة رفض دم الآخر بالزواج، لتشمل أيضاً رفض ديانته وثقافته وصور سلوكه(8).

وبالنسبة للديانة المسيحية، فإنها قربت المؤمنين بها إلى الزهد والانقطاع عن الحياة الدنيا وشؤونها، وتركت (الآخر/ الغير) منضوياً تحت لواء الرهبانية والزهد، بعيداً عن مملكة الرب ولا يستحق الدخول فيها، وبالتالي فهو محروم من غفران الكنيسة، ومطرود من مملكة الرب فتعاليم السيد المسيح تقول: "ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"(9).

وبذلك تم تقعيد المقولة التاريخية المسيحية (ترك ما لله لله/ وما لقيصر لقيصر) على أساس أن الآخر/ الداخلي (الذات) الخارج عن سلطة الكنيسة، والآخر/ (الخارجي) هو من ينتمي لديانات أخرى، وبالأخص الدين الإسلامي الذي يبسط نفوذه إلى الفضاء المسيحي نفسه، فتوّجت العلاقةَ به حروبً الفرنجة المعروفة بـ(الحروب الصليبية)(10).

كان هذا هو واقع حدود التعامل مع المخالف في العالم وموقف أصحاب الديانات والحضارات من الآخر، قبل مجيء الإسلام، إقصاء، إلغاء، إبادة،  اضطهاد....

فما هي اللبنات العالمية الجديدة التي قدمها الإسلام نموذجاً للارتقاء بكرامة الإنسانية؟

لقد تميزت رؤية الإسلام في مسألة النظر إلى الشرائع والملل والنحل الدينية غير الإسلامية، والتعامل مع المنتمين لها والمعتنقين لعقائدها، بالموقف الوسطي التكريمي للإنسان، الذي قرر وحدة النفس البشرية، وأن دين الله واحد من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأن الشرائع السماوية متعددة بتعدد أزمنة أمم النبوات والرسالات.

وبهذه الرؤية الإسلامية، تحققت آية التنوع والاختلاف، والتمايز، والتعدد، في إطار وحدة الدين ووحدة العقيدة الإلهية. وتأسس لأول مرة في تاريخ الفكر الديني البشري أول ميثاق لحقوق الإنسان في العالم، وهو الميثاق الذي تجاوز بكثير حدود الاعتراف النظري بالآخر المخالف، إلى ضرورة تفعيل هذا الاعتراف من خلال القبول به ومحاورته، والتمكين له، وتأمينه إلى حيث جعله في الشريعة الإسلامية جزءاً من الذات الدينية الواحدة.

إن الإسلام في تعامله مع الآخر قد أضاف إلى تقريره وحدة الألوهية والربوبية لكل العالمين، عقيدة الإيمان بكل الكتب السماوية التي نزلت، وجميع النبوات والرسالات التي سبقت، وسائر الشرائع الإلهية التي توالت منذ آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام. وقد أصَّل القرآن الكريم لأسس الحوار والاعتراف بالآخر نظرياً، من خلال العديد من الآيات نورد منها:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(11).

ـ {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(12).

ب ـ المستوى التطبيقي

أ ـ التأصيل القرآني

إن منهج الحوار مؤسس على مفهوم الحرية التي يعدّها الإسلام قيمة كبرى، لاتصالها بغريزة الإنسان وطبيعته وفطرته، فهي حق أساسي من حقوق الإنسان يلامس عقيدته، وانتماءه وفكره وشعوره وطقوسه، وتراثه، بها تتشكل شخصيته وكرامته، وتتحدد مسؤوليته في بناء مجتمعه، والحفاظ عليه من النزاع القائم على رفض سنة الاختلاف.

لهذا السبب انتقل بنا القرآن الكريم من المستوى النظري في الاعتراف بالآخر إلى المستوى التطبيقي العملي، ليعلّمنا أن مفهوم الحوار في الإسلام له معايير وضوابط وأصول ينبغي الالتزام بقواعدها للتحاور مع المخالف وفتح العلاقة معه. وقد وردت صور متعددة لهذا التوجيه الرباني عبر قصص الأنبياء وفي تاريخ الدعوة الإسلامية، كما وردت في السنة النبوية العديد من التوجيهات والتعاليم النبوية التي ركزت مبادئ الحرية وأسست للمنهج التربوي الأخلاقي الذي سار عليه الصحابة الكرام.

يقول المولى عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فنص الآية واضح، في أمر المسلمين بالمبادرة إلى دعوة الآخر المخالف عقدياً إلى مائدة الحوار للبحث والمدارسة.

كما علّم أنبياءه وأرشدهم إلى أفضل السبل وأنجح الطرق لإدارة الحوار النافع المثمر، الذي يرتفع بمستوى التفكير إلى نور المعرفة واليقين، فيتبين الحق ويتضح الرشد. قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(13).

ومثاله ما أمر الله به موسى وهارون B في مخاطبة فرعون وهو جبار طاغية، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(14).

إن الحوار كما أصّل لضوابطه القرآن الكريم في المستوى التطبيقي، هو استعداد نفسي لقبول الآخر، ومعرفة ما عنده، والاستماع له، والقدرة على إقناعه بالتي هي أحسن، لذلك ركّز على الدعوة لتجنب الانفعال، والتعالي والتعصب، والغلو، مراعاة للخصوصيات النفسية والمميزات الذاتية لكل طرف من المتحاورين، وفي ذلك قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(15) وقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}(16).

قال العلماء في هذه الآية: حكمها باقٍ في هذه الأمة، ولذلك قالوا: لا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا رهبانهم، ولا أن يتعرض لما يؤدي إلى ذلك. وبذلك يتضح -كما ذكر القرطبي- أن في هذه الآية ضرباً من ضروب الموادعة والملاينة، وأن فيها دليلاً على وجوب الحكم بسد الذرائع، ودليلاً على أن المحق يكون على حق ما لم يؤدِّ موقفه إلى ضرر في الدين.

هكذا سن الله لعباده أصول وآداب التعامل مع المخالف، ولم ينكر عليه حق التعامل بالأسلوب الأمثل في محاورته، أو دعوته، أو مناظرته وجداله. ولذلك لا يمكن الحديث اليوم عن حوار مثمر وفعَّال مع الآخر بمعناه الإسلامي، في ظل غياب الالتزام بآداب الدعوة الوسطية الإسلامية، التي أسسها القرآن الكريم على قاعدة منهج الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى.

لقد بلغ الإسلام على درب العدالة والموضوعية والإنصاف، الحد الذي جعله يقبل بمحاورة الآخر الذي ينكر الإسلام ويجحده ويكفر بمقوماته.

وفي هذا السياق يمكن القول: إن اعتراف الإسلام غير المسبوق وغير الملحوق بالآخر لم يكن مجرد اعتراف نظري، كبعض الوصايا (المثالية الفلسفية) التي تضمنتها كتب الفلاسفة والحكماء قبل الإسلام، ولم تعرف طريقها إلى التطبيق العملي في سلوكيات وممارسات مجتمعات وحضارات الذين حُمِّلوها فلم يحملوها، واستُحْفِظُوا عليها فلم يحفظوها. وإنما تحول هذا الاعتراف النظري إلى تفعيل واقعي، ضُبطت شروطه وحُدّدت آدابه في القرآن الكريم، واعتمدها رسولنا الكريم في سلوكه العملي مع المخالفين، وجسدتها صفحات تاريخنا الحضاري.

ـ 3 ـ

الأسس الإسلامية للعلاقة مع الآخر

في ضوء الوسطية الإسلامية

أ ـ الكرامة الإنسانية

إذا كان احترام الآخر لوناً، وعرقاً، وجنساً، ولغةً، وثقافةً، يشكل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الإسلام، فإن احترامه -كما هو عقيدةٌ وإيمانٌ-، هو احترام لمبدأ حرية الاختيار التي هي منحة إلهية، فضّل الله بها الإنسان الذي خلقه من طين، على الملائكة الذين خلقهم من نور، إذ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}(17).

فهذا تكريم عظيم من الله تعالى لآدم، امتن به سبحانه على ذريته، حيث فضله على الملائكة بالمعرفة والعقل، فكان العقل محل الشرف ومناط التكليف. فالإنسان هو المخلوق المكرّم الحرّ المسؤول، المختار المؤهل لحماية الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال، فهو سيد الكون خلقه الله في أحسن صورة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(18)، ونفخ فيه من روحه، وسخر له ما في الكون، لينهض بالأمانة والمسؤولية التي أناطها الله به، ويقوم بأعباء الاستخلاف الإنساني في عمارة الأرض، وفقاً للمنهج القرآني، وبذلك استحق الإنسان مركز السيادة في الأرض {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}(19).

إن غرض الشرائع السماوية جميعاً هو مساعدة الإنسان على الارتقاء في هذا الكون، ابتداءً من التوجه لعمران الأرض، مروراً بتسخير الطبيعة، وانتهاءً ببلوغه ذروة الغايات، أي التأهيل لخلافة الله في الأرض، حيث يكون سيداً فعلياً للكون الذي يعيش في محيطه.

مما تقدم، يتضح أن المفهوم الإسلامي للكرامة الإنسانية، يتسم بخاصتي الشمولية والتعميم، بحيث لا يستثنى عنصر دون آخر، ولا يختص جنس دون جنس، وبذلك يتساوى الإنسان في الحقوق مع أي إنسان آخر، بقطع النظر عن اختلافه في اللون، الجنس، العقيدة، الانتماء، الثقافة.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الكرامة الإنسانية المكفولة بحق الحرية الفكرية والحرية الدينية، لا يمكن أن تسمو وترتقي مجتمعياً وعالمياً بين بني الجنس البشري من دون اعتماد لغة الحوار، وإشاعة قيم العدالة والمساواة والحقوق، لضمان استمرارية الحفاظ على مستوى التكريم الإنساني، بنفس القيمة المعيارية التي أقرها القرآن الكريم، قبل تقريرها من قبل المواثيق الدولية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعشرات القرون.

إن احترام التكريم الإسلامي للإنسان القائم على مراعاة تعدديات المجتمع، وتنوعه الفكري والثقافي والديني والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل والحوار المتبادل بين مجموع انتماءات المجتمع والأمة. ويبدو أننا من دون تفعيل قيمة هذا المبدأ الإنساني، سيبقى الواقع الداخلي للعرب والمسلمين يعاني الكثير من التحديات والأزمات، الناتجة عن سيادة عقلية الاستثناء والإقصاء والانغلاق.

ب ـ وحدة العنصر البشري

إن الإسلام وخلافاً للديانات السماوية التي سبقته، جعل العنصر البشري واحداً، فالناس في ظل النظام الإسلامي وحدة متماسكة عبر العالم، مهما اختلفت ألوانهم، وأجناسهم، وأعراقهم، أصلهم واحد "كلهم من آدم وآدم من تراب" يلتقون على أرضية مساواة النفس الواحدة، تذوب فيها فوارق الحدود الجغرافية، وصراع القوميات والأجناس والنعرات، وتتوحد قيمتهم على كلمة التقوى التي جعلها القرآن الكريم، ميزان التفاضل بين الناس وهذا معنى قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}(20)، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(21).

لقد أكد القرآن الكريم على مبدأ تساوي النوع الإنساني كافة في الخلق، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو اللون أو الأصل، وجعل التعارف سبيلاً للتقارب الإنساني في إطار وحدة الأصل، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(22). والتعارف غايته التقارب لا التباعد، الحوار لا التنافر، الاختيار لا الإكراه، التعاون على البر والتقوى، لا على الصراع والتصادم، فهذا الخلق، والجعل، والتعارف كلها تكوينية، قائمة بحقيقتها على التقوى والتقرب من الله سبحانه. إذاً فأساس الاجتماع الإنساني يقوم على الطاعة لله، والارتباط الوجودي، والإرادي والنفسي به سبحانه وتعالى.

ج ـ الحرية والعدالة

إذا توافرت الحرية والعدالة توافرت عناصر الاجتماع البشري على قاعدة التعارف الذي يحافظ على الاستقرار، ويعمق أسباب التواصل والتعاون، فلا تعارف ولا حوار دون حرية وعدالة. وهذه القيم والمبادئ هي التي تخلق عند الإنسان القابلية والاستعداد للاعتراف بوجود أوجه التنوع المختلفة، بين الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.

ولنا في التجربة النبوية خير مثال ونموذج على ذلك، إذ إن المواطنة التي شكّلها رسولنا الكريم في مجتمع المدينة، اعتمدت بالأساس مبدأ الحرية والعدالة، ولم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغت دستوراً وقانوناً يوضح نظام الحقوق والواجبات واحترام الخصوصيات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. فبلور بذلك استراتيجية تقوم على قاعدة مأسسة الحريات في إطار القوة الوحدوية، للاستفادة من كل الإمكانات والقدرات والطاقات، بعيداً عن أجواء الاضطهاد ومصادرة الحقوق والحريات، فرسولنا الكريم * كان يعلم أن المجتمع الاستعبادي والمغلق، لا يمكن أن تنمو في محيطه قيم الحرية والعدالة والتسامح والانفتاح والتواصل.

فباحترام مبدأي الحرية والعدالة تعاد صياغة علاقة الإنسان بالمفاهيم والتصورات، إذ تتحول من علاقة جامدة سكونية منغلقة إلى علاقة تفاعلية، تواصلية تنسجم والمثل العليا للوجدان الإنساني. فالإنسان محتاج إلى غيره ليقيم صرح العمران والحضارة والتمدن، فهو يستلزم قدراً من الحرية الواعية والمسؤولة والمنظمة، وإن خراب الأمم ودروس الحضارات وانحسار الثقافات يرجع إلى تدهور الفكر الحر، وإلى شيوع التغلب والاستبداد وضياع الحرية(23).

والأمة التي تنشأ على التطبَّع بالرأي الصحيح والتخلُّق بأخلاق الأخوّة والمساواة وحب الحرية، وتوفير العدل، لأمة خليقة بأن تُعرَف إلاَّ بمزية الوحدة، كالجسد الواحد تراه عديد الأعضاء والمشاعر، ولكنه متّحد الأساس متّحد العمل، فإن الناس إذا كانوا سواء متحابين انتفت عنهم دخائل الفساد بينهم، ولم ينظر أحد منهم للآخر نظر التحقير(24).

وبذلك يكون المسلم مطالباً بالالتزام بمنهج الوسطية والاعتدال في الأخلاق والسلوك، والعمل على التوفيق والموازنة بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، وحتى في أحرج حالات الخصومة والبغضاء والشنآن، يؤمر المسلم بالحفاظ على أسباب الود في النفوس، وسماحة الخلق، واستمرارية عدالة المعاملة وحسن السلوك.

يقول المولى عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}.

{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (7) لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

إن هذه المبادئ والقواعد التي أسس لها القرآن الكريم، وجعلها الإسلام أصولاً لمعاملة المخالفين، هي أرقى وأسمى وأعدل القواعد التي تتفق مع إنسانية الإنسان، وتهيئ الأرضية الملائمة والمناخ السليم للعيش المشترك بين جميع شعوب العالم، على اختلاف ألوانهم ومشاربهم وأعراقهم واتجاهاتهم، وقد استحق المسلمون بسبب تطبيقهم العملي لهذه الأصول كما شهد بذلك أكبر علماء الاستشراق من الغربيين وغيرهم- المئات من جوائز (النوبل للسلام).

ـ 4 ـ

الضوابط المنهجية للعلاقة مع الآخر

في ضوء الوسطية الإسلامية

لقد دعا الإسلام إلى نبذ الخلاف بين الناس، وأمرهم بالتواصي بالحق والصبر والمعروف، دفعاً لأسباب الصراع والنزاع والغلو، وتأليفاً للقلوب وتلطفاً في النظر الموقوف على الحق الذي لا يُختلف فيه. والمقصود بالتواصي بالحق والصبر عند الاختلاف هو تبادل الحوار، وتحري الحق من خلال جهد مشترك بين المتواصين، مع اعتماد الصبر في حدود ما تفرضه المعرفة وآداب التخاطب، لذلك أثنى الله تعالى على نبيه الكريم، الذي استمد توجيهه المنهجي الراقي من القرآن الكريم، ووصفه باللين في خطاب قومه، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(25)، وذلك نصٌّ أبان عن اعتماده * أسلوب الدعوة بالحكمة، والموعظة بالسلوك العلمي التطبيقي الذي أمر به، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(26).

ومن هذا المنطلق ارتأينا وجوب تقديم العناصر الضابطة لأجواء الحوار الملائم لربط العلاقات الهادفة والمثمرة، والوصول بها إلى مستوى القناعات المختلفة، والمنفتحة على بعضها بعضاً، التي تعمق إيمان الناس، وترسخ المفاهيم القرآنية الناظمة لمبادئ الحرية والعدالة، ومسؤولية الاستخلاف في نفوسهم سلوكاً، ومنهجاً، وعملاً.

أولاً: العناصر الذاتية

أ ـ المؤهلات المعرفية لأطراف الحوار

ويقصد بها جملة المعارف والعلوم المحصَّلة من قبل الأطراف المتحاورة، والتي ينبغي أن تكون ضابطة لماهية الأفكار، والمعارف الخاصة بموضوع ومحل الحوار.

ومعلوم أنه إذا كان من الحق ألَّا يمنع صاحب الحق عن حقه، فمن الحق ألَّا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألَّا يعترض على ما ليس له كُفْؤاً، ولا يدخل فيما ليس هو كفؤاً، لأن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به، وقد قرر هذه الحقيقة سيدنا إبراهيم C في مقام محاجّته لأبيه حين قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}(27).

كما أكدها موسى C حين قال للعبد الصالح: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}(28)، فلا بد إذن من التأهيل العلمي المتخصص لمن يريد الدخول في دائرة الحوار، وذلك بمراعاة امتلاك كل أطراف الحوار ثقافة دينية، فكرية وسياسية عامة، منفتحة على كل قضايا وشؤون الإنسان والحياة، وأن يتزود كل طرف من المحاورين بالمعارف الدينية والفكرية والتاريخية متعددة المشارب والاتجاهات، كي يكون على صلة بواقع الحوار وبطبيعته واتجاهاته وسياقاته المختلفة، ويتمكن من مواصلة الحوار، بتقديم الحجج الدامغة، والأدلة اليقينية أمام الأطراف المخالفة.

إضافة إلى ضرورة خبرته بعلم النفس ومراعاة الحس والوجدان، ونحو ذلك، كما لابد له من معرفة مداخل الباطل إلى القلوب، ومعرفة طريق التوفيق بين العقل والحق، ووسائل استمالة النفوس من جانب الشر إلى جانب الخير، وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد عبده: "لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإشغال الناس بالحق عن الباطل، وبالطيِّب عن الخبيث، أن يضرب الإنسان في الأرض ويمسحها في الطول والعرض، وأن يتعلم اللغات الأجنبية، ليقف على ما فيها مما ينفعه فيستعمله، أو ما يخشى ضرره على قومه فيدفعه، لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك ما يستطيعون"(29).

وكلام الشيخ محمد عبده، واضح في أن المسؤولية الإيمانية والفكرية، تقتضي منا معالجة مشكلاتنا الحضارية وأزماتنا الفكرية والثقافية، والسياسية والمذهبية بالحوار، وقبول دعوة الآخر في إطارها الشرعي، للخروج من الواقع المأزوم بالنزاعات والصراعات والانقسامات، إلى واقع إيجابي مثمر المنطلقات والأهداف. وليس يلزم كما قال ابن رشد: "من أنه، إن غوى غاوٍ بالنظر في كتب القدماء، وزلَّ زالٌّ، إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلماً يرشده إلى فهم ما فيها.. أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها"(30).

وقد نرى في واقعنا الكثير ممن يمارسون هذا الدور العكسي، ويحركون بعض المفاهيم الفكرية المغلوطة، والتي تعبر عن ضعف عام في بنيتهم المعرفية، وجهل واضح في فهم واستيعاب مضامين الفكرة الأساسية للحوار.

ب ـ مؤهلات أطراف الحوار النفسية والسلوكية

إن تمهيد الأجواء الملائمة لتفعيل مشاريع الحوار عملياً على أرض الواقع، ليس بالأمر السهل كما يتوقع البعض، وذلك لما يتطلبه الدخول في التجربة من متطلبات منهجية، وضوابط سلوكية وقيم أخلاقية، تتحكم بشكل مباشر في المؤثرات الداخلية النفسية والاجتماعية، لمن يرشح للقيام بهذا الدور. فنحن مدعوون من قبل ديننا الإسلامي إلى إيجاد وتهيئة أرضية نفسية واجتماعية، لإفساح المجال لحرية التعبير، وتفهّم وجهات نظر المخالفين، لكن نحن بحاجة إلى استقراء الذات قبل الحديث عن إطار للحوار مع الآخر.

وذلك لأن إشاعة مفاهيم الحرية وقيم العدالة والوسطية كما أقرها المنهج القرآني الكريم، لا تتحقق بتنظير الكتّاب والمؤلفين، ولا تُفعّل بتوصيات الندوات والمؤتمرات، ولا تُستثمر بحوارات المفكرين والحقوقيين والأدباء، وإنما تحتاج للانطلاق بوعي منفتح على الحياة كلها والإنسان، إلى إعادة الوقوف مع الذات ومساءلتها عن مدى سعة قدرتها وطاقاتها لاستيعاب وجود الآخرين، لأن المشكلة ليست مشكلة العربي والمسلم في التسامح مع غيره، بقدر ما هي مشكلته أولاً وقبل كل شيء في التسامح مع نفسه وأبناء جلدته وقومه ودينه.

فقد يصاب الإنسان بمرض (تضخم الذات) وتقديسها، الأمر الذي يولّد عنده إحساساً عميقاً بقداسة الفكرة التي يؤمن بها، ويتحاور فيها، فيحدث ارتباطاً نفسياً بين الذات المحاورة والفكرة (موضوع بحث الحوار)، بحيث تصبح الذات هي الفكر، وهذا ما يؤدي حتماً إلى تعكير جو الحوار، وزعزعة هدوئه واستقراره النفسي، وبالتالي عرقلة الوصول إلى نتائج حاسمة وموضوعية في محل الحوار.

إن بعض الخلافات يكون منشؤها الأساسي، هو ما يحتويه ويتضمنه الظاهر اللفظي، من السخرية والسب، والشتم والاستهزاء، لذلك فالعفة اللفظية وإن كانت من الأمور الظاهرية، فإن القرآن الكريم قد ربطها بأخلاقيات وضوابط محددة، لما لدلالتها النفسية على المحتوى الداخلي للإنسان {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(31)، {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}(32).

إن هذه الدعوة المنفتحة والمنطلقة نحو أهدافها العالية والطموحة، هي التزامات واعية وسلوك هادف يدعو إلى نبذ العنف في الحوار. وقد ذم الغزالي العنف، ولو لطلب الحق قائلاً:

"إن التعصب من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى قرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثلُ التعصب واللعن والتهم للخصوم، اتخذوا التعصب عاداتهم وآلهتهم"(33).

لذلك ينبغي على المحاور اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز، لأن كسب القلوب مقدّم على كسب المواقف فقد يفحم المحاور ذو السلوك الانفعالي العصبي خصمه، بالحجة والدليل الدامغ، لكنه لا يقنعه بأسلوبه الفظ. فأسلوب التحدي بالإيذاء النفسي، لا يولد إلا المزيد من الغيظ والحقد والحنق، ويمنع التسليم والإذعان ولو وجدت القناعة العقلية.

لقد رسخ القرآن الكريم قضية التفكير المستقل في الجو المعتدل والهادئ، ودعا الجميع إلى ممارسة ذلك، والانفصال عن الفعل الحماسي والانفعالي، وربط ذلك بهدوء العقل وسلامة الفكرة الحقيقية، من خلال ضرورة عقلنة العاطفة، وإلباسها رداء العقل والتفكير الواعي الناضج.

ثانياً: العناصر الموضوعية

أ ـ تحرير مضامين الحوار وموضوعاته

إن تحرير محل النزاع وتشخيص أبعاده، هو أهم شرط ينبغي اعتماده قبل الدخول في أي شكل من أشكال الحوار، إذ من المفروض أن تكون جميع الأطراف المتحاورة على علم بماهية الموضوع مدار الحوار، مع وجوب تحديد سياق وإطار محور الفكرة ومحدداتها العامة، التي يريد إثباتها أو نفيها، لأن الجهل بطبيعتها، يحوِّل مسار الحوار إلى أجواء مشحونة، تعمها انفعالات نفسية تترجم بأساليب السب والشتم والقدح والإهانة، مما يعقِّد مناخ الحوار ويغيِّر وجهته الحقيقية في تحقيق الغاية المرجوة منه، إلى مجرد ترف فكري ومشادات كلامية. إذ لا معنى للحوار حول موضوع لا تعلمه الأطراف المتحاورة أو لا يعلم تخصصه أحدهم.

وقد أوضح لنا القرآن الكريم بعض النماذج البشرية، التي وقفت ضد الرسول والرسالة من غير أن يكون لها أدنى معرفة أو إحاطة فيما تطرح وتدعي، كما في قوله تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(34).

وهذه الآية تبين بجلاء، المنهج القرآني في التأصيل لعناصر شروط الحوار، وتؤاخذ كل من يدخل دائرته من دون التمكن من آليات المعرفة بسياقه والإحاطة بموضوعه.

إن تحديد موضوع الحوار يتطلب جهدًا فكرياً راشداً، والتزامًا استشرافيًا واعياً، يضبط المسار الطبيعي للفكرة محل الحوار والمدارسة.

لذا يتحمل المثقف -وبالتحديد في وقتنا المعاصر مع اتساع شبكة الاتصال والتواصل- مسؤولية وعبء مواجهة الحياة الاجتماعية التي تستبطن الآراء المختلفة، وتزخر بالأفكار والرؤى المتنوعة. بيد أن هذه المواجهة، إذا لم يلتزم فيها المثقف منا اعتماد أصول ضوابط وشروط آداب الحوار، فقد يتحول توضيح الأفكار وعرضها على المخالف إن محلياً أو عالمياً، إلى إثارة أجواء مشحونة بالتوتر الفكري والنفسي والكلامي. وتنأى الجهود المبذولة لتعزيز القيم والمبادئ الدينية المشرقة عن بعدها الشهودي الحضاري لتتحول إلى مجرد مهاترات إقصائية وإلغائية، تلبي رغبة الاستعلاء الذاتي من موقع الغلبة والتعصب للرأي.

وللأسف فقد أخذ الحوار في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، مفهوماً سلبياً، خاصة عندما امتهنه البعض، بهدف الدفاع أو الصد، أو الهجوم، أو الشروع في تحديد مجالات الصراع الفكري أو المذهبي من خلال المناظرات غير المنضبطة بأصولها، فتتحول عوض الوصول إلى معرفة الحق، إلى شكل من أشكال الترف الذهني وتنمية الشعور بالغرور والاستعلاء الذاتي على الآخر.

ب ـ تحديد أسلوب الحوار مع الآخر

يبدي الإسلام اهتماماً بالغاً بأسلوب الحوار لضبط العلاقة مع الآخر، أي اعتماد الطريقة المنهجية لإدارة موائد الحوار، بحيث تحصل النتائج المرجوة في تمتين روابط الأخوة ووشائج المحبة بين بني البشر. وقد قدّم الماوردي معالجة أخلاقية واسعة لتحديد أسلوب الحوار، فربط فضيلة التسامح في الحوار بالمروءة "التي هي حلية النفوس وزينة الهمم، فالمروءة مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها، حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق"(35).

ويقسم الماوردي هذا التسامح أو المباشرة إلى قسمين: العفو عن الهفوات، والمسامحة في الحقوق.

أ ـ العفو عن الهفوات

إذ ينبغي في مجلس الحوار التأكيد على الاحترام المتبادل بين الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، بالمخاطبة بالعبارات اللائقة والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة والعفو عن الهفوات التي قد تقع من الآخرين.

وفي هذا السياق يقول الماوردي:

"فأما العفو عن الهفوات فلأنه لا مبرّأ من سهو وزلل، ولا سليمَ من نقص أو خلل، ومن رام سليماً من هفوة، فقد تعدى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه، وكان من وجود بغيته بعيداً، وصار باقتراحه فرداً وحيداً"(36).

إن أسلوب العفو عن الهفوات، يقود حسب ما يرى الماوردي إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، وعدم الانتصار للنفس، وما قيل من ضرورة التقيد بمبدأ العفو عن الأخطاء، لا ينافي النصح وتصحيح الأخطاء بالأساليب الرفيعة والطرق الراقية، التي تتحكم في ضبط خط الحوار في الاتجاه المنشود، عوض تحويله إلى مناقشات الأخطاء والتصرفات، وهفوات السير الذاتية للأطراف المحاورة.

ب ـ المسامحة في الحقوق

وهو الأسلوب الثاني من أساليب الحوار عند الماوردي -المياشرة والمسامحة-، إذ يقول:

"وأما المسامحة في الحقوق، فلأن الاستيفاءَ موحش، والاستقصاءَ منفّر، ومن أراد كل حقه من النفوس المستصعبة بشحٍّ أو طمع، لم يصل إليه إلا بالمنافرة والمشاقّة، ولم يقدر عليه إلا بالمخاشنة والمشاحنة، ولما استقر في الطباع من مقت من شاقّها ونافرها، وبغض من شاحنها ونازعها، كما استقر حب من ياسرها وسامحها، كان أليق الأمر استلطاف النفوس بالمياسرة والمسامحة وتألُّفها بالمقاربة والمساهلة"(37).

ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية ـ المياسرة ـ أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة، ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات، بعيداً عن منافرة صاحبها أو قائلها. فالمياسرة تدفع عن صاحبها حب الظهور والتميز، والتعالي على النظراء، وتعم عنده السلوك العقلاني، والانفتاح الروحي والتجدد المفاهيمي، بحيث يمكن بالتسامح تهيئة أجواء التعاون، وحسن التفاهم والتحليل المتزن، بعيداً عن المشاحنات الحماسية السلبية، التي تثير الفوضى واللامبالاة والاضطراب النفسي، مما يعيق الوصول إلى قناعات فكرية مشتركة.

وهذه المبادئ التي تبناها الإسلام في تحديده لأساليب الحوار ـ (بالتي هي أحسن) (وبالحكمة والموعظة الحسنة) (وبالدفع بالتي هي أحسن) ـ اعتمدها علماء الإسلام والفلاسفة، أمثال الفارابي، وابن رشد الكندي، والعامري، والماوردي وغيرهم، من علماء الكلام، وبخاصة في منهج المناظرة الذي طوّروه.

ولقد حكمت هذه المبادئ جل خطابات العلماء وفلاسفة الأخلاق في الإسلام، فقد كتب أبو الريحان البيروني في أديان الهند الكبرى في القرن الخامس من الهجرة، فلم يمس عاطفة أحد من أهلها، وكان إذا كتب عن نحلة، يوهمك أنه هو أحد أبناء تلك النحلة لتلطفه في وصف شعائرها. وكان كتّاب العرب يذكرون جميع المخالفين بكل حرمة وآداب. وفي كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وطبقات الحكماء لابن القفطي، وطبقات الأدباء لياقوت، والوافي بالوفيات للصفدي، وفي تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي أمثلة كثيرة لهذا التسامح.

فهؤلاء جميعهم استوعبوا حقيقة الإسلام، بوصفه صاحب أطروحة الكمال الإنساني، وأدركوا أنه هو المؤهل بشكل كبير لإدارة الحوار والمبادرة إليه، مما جعلهم يهتمون بالتأصيل لشروط وأساليب ومناهج الحوار سعياً لإشراك الآخرين بسعادة السلوك، والرقي نحو الكمال، خلافاً للعديد من الدعوات العنصرية والعصبية، التي اعتمدت فلسفة الإقصاء والاستكبار على مر التاريخ الإنساني.

وسأركّز على أبي الحسن العامري نموذجاً من بين من ذكرناهم، لأنه من الذين تبنَّوا قضية التأصيل لعناصر وضوابط الحوار مع الآخر، لدرجة أنه أفرد كتاباً خاصاً في الموضوع، سماه (الإعلام بمناقب الإسلام)، إذ تعرّض لمعالجة أهم القضايا التي تولّد الصراع والنزاع بين الرؤى والاتجاهات، وتقود إلى المماراة والجدل، وهي ظاهرة الاختلاف، فيقول:

"إن الحق لا ينقلب باطلاً لاختلاف الناس فيه، ولا الباطل يصير حقاً لاتفاق الناس عليه، وليس في وسع الحق قهر الأنفاس على الإقرار به وتسخيرها للاعتراف بصدقه، لكنه شيء محقَّق بنور العقل بعد الرويّة والبحث، فيظهر به المحق ويمتاز به عن المبطل"(38).

ويؤكد العامري على أن الاختلاف يؤدي إلى الجدل، والجدل يقود إلى التعادي، وهذا التعادي هو سُلَّم العصبية، والعصبية هي الداء العضال، وبحسب العامري هناك أربعة أسباب تؤدي إلى الاختلافات في كل الأديان، وإن كانت موافقة للحق وهي:

أولاً: "أن يُعجَب المتدين بعقله، ويغترَّ بذكائه، فيركب نوعاً من المقاييس الفاسدة.. فينتج نتيجة كاذبة، وهو يخالها صادقة، فيعتقدها ديناً، ويدعو الناس إليها جهلاً، فتعم البلوى وتغوى بمكانه الخليقة".

ثانياً: "أن يُولَع الإنسان من نفسه بالإغراب والتعمق، ويستهتر.. وقلما يبالي تنكُّب الجادة، شغفاً بأن يسلك طريقة يصير فيها قدوة..".

ثالثاً: "أن يكون قصد الإنسان عناد جميع ما يسمع من الأقوال الصادقة والمذاهب الحقيقية، وأن يتبع أبداً الآراء المسترذلة التي تنخدع بها طبقات العامة، إذ ليس عند الدهماء أروج من المذهب المستضعف والرأي المدخول".

رابعاً: "أن يعتمد تزييف الدين، وتوهين أساسه، إما لتعصب ملكي أو لتعصب نسبي، أو لإيثار طريق المجانة، فهو يجتهد في إلصاق المعيب به بأخبار مزورة، وينسبها إلى أئمة أصحاب الحديث، أو أحد رؤساء العامة، فيوهم الضعف من أهله أنها أساس الملة، احتيالاً منه للنكاية فيما أبغضه، وأحب الانتقام منه".

ويؤكد العامري أن هذه الطرق الأربعة ليست حكراً على الإسلام، بل هي شاملة لكل الأديان، إذ يقول: "فهذه هي الطرق للآفات المتواترة على الأديان والملل، وليست هي المقصورة على الدين الإسلامي، بل هي مشتملة على جميعها"(39).

فالمبادئ التي أقرها المنهج القرآني، وتبناها علماء وفلاسفة الإسلام، بما أسسوه لها على الصعيد النظري فلسفياً وكلامياً، توضح أن الإسقاط هو الحاكم على الموقف من الآخر.

فتحليله من منطلق الحكم عليه هو الأساس للتقييم والنقد، في حين المطلوب هو تفسير الآخر تفسيراً يُماهي الواقع ويحاكيه، ثم تقييمه، ثم الحكم عليه بعد ذلك.

إذن هناك إشكالية منهجية، إشكالية فهم الآخر وتمثله ومماهاته ومحاكاته، وبالتالي إسقاط الذات في عملية الحوار مع الآخر، وهي إشكاليات أرّقت جلّ علماء الإسلام، بما تحمله من حواجز، وصعوبات، تحول دون تحقيق المنهج القرآني في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

ـ 5 ـ

الممارسة العملية لأسس وضوابط العلاقة

مع الآخر في المجتمع الإسلامي

لقد كفل الإسلام لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي حقوقاً تمتعوا بها طوال التاريخ الإسلامي، وهي حقوق شملت صيانة وحماية أرواحهم، وأعراضهم، وأموالهم، كما ضمنت لهم حرية العقيدة وممارسة الشعائر والشرائع في مجال الأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، النفقة، الميراث..). وقد أباح الإسلام لهم حق مصاهرة المسلمين بالتزوج من نسائهم، وأكل ذبيحتهم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}(40).

وهي إباحة تؤسس لشرعنة علاقة الاندماج الكلي في المجتمع الإسلامي بروابطه الاجتماعية الواسعة. وعلى قاعدة المنهج القرآني في رسم حدود العلاقة مع غير المسلمين {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(41) فلقد وضع فقهاء الشريعة الإسلامية قاعدتهم الفقهية في التعامل مع الآخر وفق بند "لهم مالنا، وعليهم ما علينا"(42).

وذلك لأن أصل العلاقة مع الآخر استراتيجياً في الإسلام، هي علاقة الدعوة إلى الإسلام، والعيش المشترك مع الشعوب، التي أمر المولى عز وجل بالتعارف معها في إطار احترام مبدأ الكرامة الإنسانية، الذي يقوم على نبذ الممارسات التعسفية ضد حقوق الإنسان، ومن أشدها ظلماً، قتاله في الدين وإخراجه من بيته.

وباستثناء هذا الخرق المعرقل لتهيئة المناخ اللازم للحياة المشتركة بين جميع مواطني الأمة على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية واللغوية والمذهبية، فإن الإسلام يجعل من واجب المسلمين ليس فقط حمايتهم وصيانة حقوقهم، بل ربط علاقات ودية معهم عمادها العدل والبر وأساسها القسط، ومن هنا جاء التركيز القرآني على محبة المقسطين تحفيزاً ودعماً وتنويهاً. وعلى هذا الأساس تعامل فقهاء الإسلام مع أهل الذمة، وأصّلوا لحدود الالتزام بالمنهج القرآني في الدعوة إلى البر والقسط من خلال الأسس التالية:

1 ـ تأمين الحماية من العدوان الخارجي

وذلك بإيجاد الحماية اللازمة لكل من يعيش داخل المجتمع الإسلامي، ومنع أي جهة تتعرض لأذيتهم وفك أسرهم، ودفع الظلم عنهم، ومنع أي جهة من التعرض لهم بأذية أو سوء، وفي هذا الصدد يقول ابن حزم الأندلسي:

"إن من كان في الذمّة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمّة الله تعالى، وذمّة رسوله، فإن تسليمه دون ذلك، إهمال لعقد الذمّة"(43).

وقبل أن أسوق بعض الأمثلة من الممارسة العملية لحدود العلاقة مع الآخر، أود أن أوضح مفهوم أهل الذمّة الذي يثار حوله الكثير من الجدل، على أساس أن البعض يرى في المصطلح تنقيصاً من قدر غير المسلمين.

لقد جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين، باسم أهل الذمّة، والذمّة كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وسُمّوا بذلك لأن لهم عهد الله، وعهد رسوله، وعهد المسلمين، للعيش في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين. فهم في أمان وصون بناءً على عقد الذمّة.

وهو عقد مشابه لما يسمى في زماننا بالجنسية السياسية التي تعطيها الدولة للمواطن، لضمان حقوق مواطنته، والالتزام بواجباته اتجاه الدولة المانحة، أما الجزية  فهي ضريبة سنوية تفرض على المعفى من الجهاد، أي بدل الجندية، وليس بدل المخالفة العَقَدَيَّة، لأنه لو كان الأمر كذلك لما عفي من دفعها رجال الدين، وقد أسقطها الصحابة رضوان الله عليهم عمن قبل مشاركة المسلمين في الدفاع عن الوطن، وبذلك يكون معناها بدل الجهاد، أو ـ بدل الجندية ـ.

2 ـ تأمين الحماية الداخلية

أ ـ حماية أبدانهم وأعراضهم

تضافرت الأحاديث النبوية، وتميزت سلوكيات الصحابة رضوان الله عليهم، بمنع إلحاق الأذى والظلم بغير المسلمين، ومن ذلك قوله *: "من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"(44).

وقوله *: "من آذى لي ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة"(45).

وهذا علي بن أبي طالب وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، يرافق ذمياً في طريق سفره، فيسأله الذمي أين تريد؟ فيجيبه الإمام: أريد الكوفة، وعند مفترق الطريق إلى الكوفة، لم يسلك الإمام طريق الكوفة، وإنما سار مع الذمي في طريقه، فالتفت الذمي: ألست تريد الكوفة؟ قال: بلى، فسأله الذمي، فلماذا تجاوزت طريق الكوفة إذن؟

قال الإمام علي F: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبينا.

ب ـ الكفالة وحماية الأموال

وقد تكفّلت معاهدة النبي * مع وفد نصارى نجران، بحفظ وصيانة ممتلكاتهم "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمّة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير"(46).

والتاريخ الإسلامي مليء بشهادات تبنّت ضمان الممتلكات والتكفّل برعاية المرضى والعجزة في إطار الضمان الاجتماعي، نقتصر منها على ما جاء في كتاب الخراج:

أن خالد بن الوليد كتب في عهد الذمّة لأهل الحيرة بالعراق:

"وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله"(47).

وعلى هذا الأساس تعامل الفقهاء مع مفهوم أهل الذمة وأصّلوا من خلاله للعديد من الأحكام الشرعية في حقهم، بحيث رسموا باجتهادهم عملياً خطاً لتحقيق التوازن والتعادل في نفس الإنسان المسلم بين ثقته المطلقة بأحقية دينه وصوابيته من جهة، وبين احترام سائر مكونات المجتمع الفكرية والدينية والعرقية من جهة أخرى.

وهذا شهاب الدين القرافي من فقهاء المالكية، يشرح ما يجب على المسلمين للمعاهدين انطلاقاً من المنهج النبوي قائلاً:

"إن عقد الذمّة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا وذمّتنا وذمّة الله تعالى، وذمّة رسول الله * ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيّع ذمّة الله، وذمّة رسوله وذمّة دين الإسلام"(48).

ولعل أروع مثال على ذلك موقف ابن تيمية في وجه التتار، حينما أرادوا إطلاق سراح أسرى المسلمين فقط، وإبقاء النصارى في الأسر، فقال: "إننا لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسرى من المسلمين وغيرهم، لأنهم أهل ذمّتنا، ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمّة، ولا من أهل الملة"(49).

وإلى عهد قريب في تاريخنا المعاصر، نستشهد بموقف الملك محمد الخامس اتجاه النازية التي كانت تحصد اليهود حصداً، من جميع البلدان لتسوقهم إلى مخيمات التعذيب، وذلك برفضه رحمه الله تسليمهم، ودفعه الأذى عنهم وحمايتهم، من طغيان الألمان، لأنه عدّهم معاهدين، لهم عهد الله ورسوله وحكومة المغرب المسلمة.

ـ 6 ـ

وقفة مع رسالة الوسطية والشهادة الكونية

إن الرسالة الإسلامية رسالة العدالة والوسطية، تتسم على مستوى النظرية والتطبيق، بإلزام معتنقيها بالتعامل مع أبناء البشرية كافة مهما كان جنسهم أو لونهم أو دينهم أو قوميتهم، على أنهم أعضاء في المكون الاجتماعي المطلوب إقراره والحفاظ عليه، وقد زخر القرآن الكريم والسنة المطهرة بأروع الصور النظرية والتطبيقية التي جسدت تلك المفاهيم.

وهذا يعني أن المسلم الذي يرفض الحوار ويأبى الاعتراف بالآخر، سواء داخل الذات الإسلامية بمكوناتها المذهبية والسياسية والفكرية المختلفة، أو خارجها مع الآخر المغاير فكريًا ودينيًا وحضاريًا.. فإنه يكون قد حوّل الفكر إلى مرتبة المقدس، وأفتى في محرابه الخاص بتداول مظاهر وممارسات تغيّب النزعة الإنسانية التي دعم أسسها الإسلام، وما تنامت لغة التعصب الأعمى، وترعرعت الأحقاد النفسية الداعية للإلغاء والإقصاء، إلا بعدما تحولت الآراء والأفكار إلى معتقدات مقدسة. وما شاعت حالة الفوضى في الآراء والمواقف والاتجاهات بين الذات/ والذات، والذات/ والآخر، إلا عندما غُيّبت مشاريع إرساء الحوار المتواصل مع كافة مكونات الأمة وفعاليتها، وتم توظيف قيم العدالة والتسامح والوسطية لخدمة مصالح إيديولوجية موسمية مجردة عن وظيفتها التاريخية والحضارية..

إن الاعتزاز بالذات الثقافية والحضارية ليس تعصباً كما تظنه بعض الجهات، لأن الأنا الثقافية بمثابة الإطار أو الوعاء الذي يستوعب المنجزات الإنسانية، فالاعتزاز لا يعني إغلاق الأبواب، ورصد كل علاقة مع الآخر باسم التوظيف السلبي للدين، وإنما يعني أن نفهم بعضنا ونستوعب خلافاتنا، على أساس التسابق للخيرات لا التنافس على الإلغاء والإقصاء والنفي.

كل هذا يبعث المسلمين الملتزمين بتعاليم ديننا الحنيف، على التمتع بمميزات النظرة الحضارية، التي تؤهلهم للتفاعل الإنساني مع كل من يدخل في دائرة تعاملهم، وكما سبقت الإشارة، فإنه لم يخلُ مقطع من مقاطع التاريخ دون أن تتجلى تلك الصور المشرقة للإسلام في التعامل التكريمي للإنسان، سواء أكان التعامل في إطار الدولة التي احتضنت رعاياها من غير المسلمين، وجعلتهم ينعمون بكامل الحرية، أو في ظل الدولة الإسلامية نفسها، التي امتدت إلى بعض البلدان الغربية، فحفظت لأهلها -حمايةً وصوناً- منظوماتهم العقدية والفكرية والشعائرية والاقتصادية والفنية والمعمارية..

وقد يكون من الموضوعي أن نعترف بأن تاريخنا الإسلامي الذي امتد زهاء خمسة عشر قرناً، لم يخلُ في ظل تحديات خارجية من بعض التوترات الدينية، بين الفرقاء الذين عاشوا في كنف الدولة الإسلامية. لكن إذا ما وقفنا عند الحجم الحقيقي لتلك التوترات، مقارنة بأوضاع المراكز الحضارية الأخرى، سنجد أن تلك الحضارات تجاوزت حدود النفي المعنوي للآخر، إلى إلغائه وإبادته وإعلان الحروب الدينية عليه، بل إن وسائل الإقصاء والتدمير شملت حتى المخالف مذهبياً داخل الدين الواحد.

وهو ما حدث بالنسبة للكاثوليك مع البروتستانت، في الحروب الدينية التي دامت زهاء قرنين من الزمن، وأبيد فيها أكثر من 40% من شعوب وسط أوروبا، وكذلك الحروب بين البيض والهنود الحمر، وبين البيض والسود في أمريكا، ولعل شهادة العلماء من غير المسلمين، خير شاهد من أهلها على حقيقة حجم تلك التوترات وأسبابها، فالعالم سير توماس أرنولد يشهد للحرية الدينية التي قررها الإسلام وحضارته فيقول:

"إنه من الحق أن نقول: إن غير المسلمين قد نعموا ـ بوجه الإجمال ـ في ظل الحكم الإسلامي، بدرجة من التسامح لا نجد معادلاً لها في أوروبا قبل الأزمنة الحديثة، وإن دوام الطوائف المسيحية في وسط إسلامي، يدل على أن الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على يد المتزمتين والمتعصبين، كانت من صنع الظروف المحلية، أكثر مما كانت عاقبة مبادئ التعصب وعدم التسامح"(50).

وقياساً على هذه الشهادة نقول: إن الدولة الإسلامية لم يكن لها أن تحقق ما أنتجته من قيم التفاعل الحضاري، لو لم تتوافر لها آليات محددة، قائمة على قاعدة أخلاقية مستمدة من رؤية كونية تعبِّئ المسلم فكراً، وتبعثه وتضبط حركته سلوكاً، كي يتفاعل إنسانياً مع الآخر، ويساهم على هدي الدين الإسلامي في بناء الصرح الحضاري الإنساني المنفتح، الذي يقوم على العدل والوسطية، والمعرفة، والاحترام، والتعايش، والتعاون.

ـ 7 ـ

الإسلام والعلاقة مع الآخر

قراءة في الأبعاد واستشراف المستقبل

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد في ظل التحديات التي تواجهها أمتنا العربية والإسلامية عالمياً، يتمحور حول صورة الإسلام والمسلمين في الوعي الغربي، فما الذي غير صورة العالم الإسلامي، من عالم كان ملاذاً حقيقياً للخائفين، الهاربين من بطش وجبروت وتنكيل وإرهاب الغزاة، وقضاة محاكم التفتيش، إلى أن أصبح اليوم وكراً ومخبأً وحضناً للإرهاب، ومفرخة للعناصر الإرهابية؟.

من المؤكد أن هناك التباساً في المفاهيم والمعايير المزدوجة الجديدة، التي غيبت حقيقة التاريخ وموهت معطياته، التي لا زالت شاهدة بدينامية الإسلام الفاعلة في تهيئة حماية وأمن الآخر/ (أهل الكتاب)، وشاهدة على أن حماية الأنفس والأعراض والأموال والعقائد ودور العبادة من كنائس وأديرة وبيع، كانت جزءاً من نظام التشريع للدولة الإسلامية.

إن الحقائق اليوم تتغير، فلا حاجة بالنسبة للآخر إلى التذكير بأن عرب أسبانيا كانوا متسامحين مع المسيحيين واليهود، يحمونهم تحت سقف دولتهم، في جيتوهات اختاروها لأنفسهم عندما نُكّل بهم من قبل أبناء ملتهم، أو بأن صلاح الدين عندما فتح القدس كان أكثر رحمة بالمسيحيين منهم بالمسلمين عندما فتحوها، ولا عن المعاهدة العمرية في حق أهل القدس، أو معاهدات وفد نجران، أو دستور الصحيفة الذي أسّس لأول ميثاق تعاقدي، يضم جميع مكونات المجتمع بمختلف انتماءاته العقدية وتشكيلاته المذهبية والعرقية، فكل هذه الأمور حقيقة جُسِّدت على الأرض الواقع عملياً.

لكن في العالم الإسلامي اليوم توجد أنظمة أصولية ودينية لا يتسامح معها الغرب، فهم إرهابيون، لكن لا أحد يستطيع إزعاج قضاة الحكم على الإسلام والمسلمين. وتذكيرهم بإرهاب المذابح التي قام بها الفرنسيون في سان بارتوليميو، ولا إبادات الهنود الحمر التي تمت على أيدي الأمريكيين، والمستعمرات الأسبانية في الكاريبي التي أحرقتها سفن بريطانيا. فالتاريخ اليوم يرفض القول عن هؤلاء بأنهم متوحشون برابرة، إرهابيون.

أظن أن المعركة ضد الإسلام في الغرب قائمة ولها أنصارها من المتطرفين، الذين جعلوا من الإسلام حالة مرضية فوبيائية (إسلاموفوبيا)، غير أنها معركة لا يتبناها الغرب كله، فكما يوجد لنا أعداء يوجد أيضاً دعاة حوار معتدلون متعاطفون مع قضايانا الإنسانية.

وعلى هذا الأساس لا يمكن تحديد مفهوم علاقتنا بالآخر (الغرب بمكوناته الفكرية والثقافية ومنظومته السياسية، والاقتصادية، والدينية)، في ظل تغييب المفاهيم التي تعكس الصورة الأساسية لثقافة علاقة الغرب/ بالآخر(51).

وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر جملة من هذه المفاهيم:

العقل الآري في مقابل العقل السامي، والعالم الأول في مقابل العالم الثالث، الرجل الأبيض في مقابلالبربري الهمجي، النظام العالمي الجديد في مقابل النظام العالمي القديم، محور الخير في مقابل محور الشر، وأخيراً نظام العولمة بوصفه واقعاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، يعبر عن طموحات ومصالح وتوجهات الغرب بوصفه مركز الذات البشرية في مقابل الشعوب الأخرى غير الغربية، والعالم الإسلامي جزء منها بوصفهم مراكز للتبعية والرضوخ والاستسلام للأمر الواقع.

وفي هذا الإطار يمكن القول: إن أطروحة نهاية التاريخ المعبرة عن قمة تمركز الغرب حول الذات، تفسر أن واقع الغرب الثقافي والتاريخي والحضاري، لم يتشكل في (إثبات ذاته) إلا من خلال تشويه صورة الآخر وإقصائه ونفيه.

إن أطروحة العولمة ونهاية التاريخ وغيرها من المفاهيم الغربية، تُعدّ من وجهة نظر ذاتية أسطورة الكمال المزعوم، التي ابتدعها الغرب لتحقيق مصالحه من أجل نفي الآخر، وتعميق تبعيته وإحكام احتوائه. فهذا المنطلق الذي فرضته الثقافة الغربية، ينبغي أن نتجاوزه في وعينا وممارستنا الإسلامية في التعامل مع الآخر، لأن الإنسانية واحدة لا تتجزأ، ولأن القرآن يخاطب الإنسان في كل زمان ومكان.

لقد وضع الإسلام الآخر في مأزق ليس برسم الحداثة التاريخية، بل بوصفه ديناً يتميز بالممانعة والعصيان على الترويض، ثم إن موقعه من الناحية الجيوستراتيجية يمثل أهم ثروة للطاقة، لا يمكن للحداثة وتقنياتها أن تقوم دونها، وبالتالي فهو مطالب أن يظل يعيش على هامشها، وألاَّ ينال أدنى مستويات الشراكة في معطياتها. ومن هنا يجب أن نؤكد "أننا في العالم العربي والإسلامي اليوم بحاجة إلى فكر نقدي تأصيلي، يثبت للعالم أن التراث الغربي الأمريكي ليس بالتراث الإنساني العام، وإنما هو محض فكر لعنف موجه أملته بيئته وفقاً لشروط تاريخية غرسته"(52).

فكل ثقافة مهما كانت عظمتها تبقى رهينة لنتاج الواقع الذي ساهم في تشكيلها. الشيء الذي يجعل الثقافة الغربية في عصرنا الراهن تفتخر، بإرثها الحضاري الروماني واليوناني واليهودي(53).

لقد بات من الضروري اليوم وأكثر من أي وقت مضى، أن نتخذ موقفاً نقدياً مزدوجاً (مراجعة العلاقة مع الذات ومراجعة العلاقة مع الآخر)، بما يسمح لنا بإعادة صياغة رؤية جديدة لذاتنا في حدود ما تسمح به قوانين التاريخ، وما تدعو إليه قيم العقل، وفي حدود أمة العدالة والوسطية التي شرفنا الله بها.

إننا اليوم وإزاء التحديات المطروحة، أحوج ما نكون على مستوى الداخل العربي الإسلامي، أو مستوى العلاقة مع الأمم والشعوب الأخرى، إلى إبراز مبادئ العدالة والوسطية في الإسلام، ليس من الناحية النظرية بعرض فضائل الإسلام، وإنما من خلال تقديم نماذج تطبيقية عملية ملموسة على أرض الواقع. فهناك بون شاسع بين ما نسوقه من أبعاد إنسانية حقوقية رفيعة المستوى نظرياً، وتاريخياً، وبين ما هو قائم من تخلف عن تلك القيم، وتغييب لتلك المثل العليا في واقعنا المعاش، مما يساهم حتماً في تشويه صورتنا من الداخل والخارج.

فالضرورة الدينية والحضارية تفرض علينا عدم الاكتفاء بالحديث عن أخلاق الإسلام عدالة، ووسطية، وتسامحاً، ورحمة، وحقوقاً.... وإنما تلزمنا بضرورة ربط الواقع عملياً بهذه القيم الإنسانية الكبرى التي نستعرضها، ولكي نمارس هذه المسؤولية، فإننا بحاجة أولاً إلى ضرورة تثبيت السلم المجتمعي، وإرساء دعائم حقيقية للحوار مع الذات، قبل الحديث عن العلاقة مع الآخر في إطار السلم الدولي(54).

وذلك يعني أن أي خلل يصيب العلاقة مع الذات، سينعكس سلباً على عموم الحياة المجتمعية الداخلية، مما سيؤدي حتماً إلى تدهور مصداقيتنا مع الآخر.

إن دروس التاريخ الإنساني علمتنا أن إلغاء الآخر ونبذه، لا يحافظ على مصالح الذات ومكتسباتها، وإنما يزج بالجميع في دائرة لا متناهية من العنف والإقصاء، لا تتوقف إلا بحروب تدميرية تبيد وتسحق الذات والآخر.

لهذا ينبغي أن نستفيد من دروس التاريخ، ونستشعر القيمة الحضارية التي بلورها القرآن الكريم، من خلال تأسيسه لنمط العلاقة الحضارية مع الآخر في قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(55).

ـ 8 ـ

مقترحات وتوصيات البحث

إن السياج القوي الذي يحافظ على متانة العلاقة مع الآخر، ويجعلها ثابتاً من ثوابت الواقع المعاش، هو وجود منظومة أخلاقية تسد باب كل النوازع النفسية الشاذة. لذلك حث رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، على تطوير مستوى العلاقة الروحية مع الآخر، وإنزالها من أبراج الصوامع والبِيَع والأديرة إلى ساحة الواقع المجتمعي، معتمداً في ذلك على خطاب الباري تعالى الموجه للناس في العديد من آيات القرآن، {يا أيها الناس} وهو خطاب شامل لكل حيثيات الحركة الإنسانية على امتداد التاريخ والمجتمع، حيث وجدت آداب دينية، وغير دينية، وإيمان وفلسفة، وفنون وصناعة وأسطورة، وعدل، وظلم..

وبطبيعة الحال، لا يمكننا إعادة بناء العلاقة مع الآخر كما اعتمدتها الرؤية الإسلامية الوسطية على مستوى الممارسة والتطبيق العملي، إلا من خلال إنشاء مشاريع لبرامج عمل، تطور من واقعنا الذي يعتمد على التأصيل النظري والتاريخي لقيم التسامح والحوار والحقوق، والعمل على تأهيل البنيان النفسي والفكري لمجتمعاتنا للتكيف الإيجابي مع هذه المشاريع، ويمكن تحديد بعض المقترحات على النحو التالي:

1 ـ ضرورة الكشف عن البعد الحضاري للفكر الإسلامي، لأن هذا الكشف يجسد المضمون الحضاري للأمة مع هضم معطيات الآخر الحضارية، وتفادي السقوط في النزعة الانبهارية، أو النزعة التهوينية، لأن التعامل الانبهاري مع الغرب/ الآخر، قد أساء إلى الذات العربية الإسلامية بوصفها ذاتاً مبدعة وفعالة.

2 ـ بلورة استراتيجية عربية وإسلامية متكاملة، للاستفادة من منجزات ثقافة العصر، والعمل على إيجاد مستلزمات الحضور العربي الفعال المنتج، في مسيرة هذه المنجزات العالمية، أو على الأقل ضرورة استيعاب وتمثل الجوانب العلمية والتقنية الأساسية الكفيلة بتوثيق الاتصال مع العالم.

3 ـ صياغة خطط واعية لتمتين وحدتنا الاجتماعية والوطنية في مواجهة تحديات الفترة الراهنة. وذلك ببناء نظام علاقات داخلية بين مكونات الذات، على أسس أخلاقية ودينية ووطنية، تمكننا من إزاحة كل العناصر المسيئة للعلاقة الإيجابية بين مكونات المجتمع والوطن الواحد.

4 ـ الانخراط في مشاريع الإصلاح الثقافي والفكري والتواصل بين الذات، بإزالة الحواجز النفسية والأحقاد الإيديولوجية التي تحول دون التلاقي والتفاهم والاحترام المتبادل.

5 ـ إحياء مشروع إصلاحي ثقافي، يرتكز على أسس أكثر عدلاً ووسطية ومساواة وتسامحاً واعترافاً بالآخر، واحتراماً لكل أشكال التنوع داخل محيطنا الاجتماعي.

6 ـ صياغة المفهوم الوسطي في التاريخ العلمي العربي والإسلامي، بشكل يعيد قراءة الذات وفق القاعدة الإسلامية العامة في العلاقات الاجتماعية "عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به".

7 ـ ضرورة توحيد الاتجاه بين النظرية والتطبيق، وإنشاء مراكز أبحاث ودراسات استراتيجية، سواء عبر المبادرات الفردية والأعمال الجماعية، تعنى بإغناء الفضاء الفكري الإسلامي ببحوث ومؤلفات تحدد المسافة الموضوعية، بين الآراء والمعتقدات.

8 ـ ضرورة الاحتفاظ بتوازن الرؤية الإسلامية الوسطية في التعامل مع الآخر، وتطوير مناهجنا بناءً على قاعدة أن جلب المنفعة هو سبيل ضروري لدفع الضرر.

فمناهجنا اليوم تقوم إلى حد كبير على دفع الضرر، وهذا يكرس الإحساس بالترقب والضعف والتخوف والارتباك والدونية، لذا يجب أن تركز مناهجنا المعاصرة على ضرورة ربط دفع الضرر بجلب المصلحة، "فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام" كما ركزت دائماً قواعد الفقه الإسلامي.

9 ـ ضرورة استيعاب مختلف التجارب التاريخية للعلاقة مع الآخر الغير، واستنطاقها وتحليل مضامينها لتحصيل فهم أعمق لمعانيها واستشراف آفاق مستقبلية أوسع تنظم علاقاتنا مع الإنسانية بأكملها، شعوباً وأمماً وأجناساً وألوناً وديانات وثقافات وحضارات.

10 ـ ضرورة الالتزام بمبدأ الوسطية والشهادة على الناس، من موقع احترام المبادئ الإسلامية الثابتة، التي تفسح المجال لخيارات متعددة الآراء، وعلى كافة المستويات ليتميز من خلالها الفارق الجوهري، بين المبدئية الوسطية في صناعة الحاضر، والتحلي بالواقعية لاستشراف المستقبل، وبين ثقافة التبرير الوسطي لخيارات الضعف، المحكومة بقيم ومعايير تتداول في فضاءات مواسم تلميع مفاهيم الإرث الثقافي والحضاري لأمتنا الإسلامية.

 

الهوامش:

* بحث مقدم في أعمال المؤتمر المنعقد في عمان/ عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، في الفترة من 26 ـ 28 حزيران 2004، تحت عنوان: وسطية الإسلام بين الفكر والممارسة.

** أستاذة العقائد والأديان المقارنة، رئيسة وحدة حوار الحضارات في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة بن طفيل ـ القنيطرة - المغرب.

(1) الفكر الوجودي عبر مصطلحه، عدنان بن ذريل، منشورات اتحاد كتاب العرب 1985 دمشق ص 5.

(2) المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، مصر، عالم الكتب بيروت ط /1979، ص132.

(3) سورة النحل 93.

(4) سورة المائدة 48.

(5) جوزيف فوجت: نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان، ترجمة دمينرة كروان، المجلس الأعلى للثقافة/ مصر عام 1999، ص7.

(6) سفر التثنية: إصحاح 14/2.

(7) عزرا 10/44.

(8) روجيه جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ص68.

(9) إنجيل لوقا إصحاح 18 فقرة 24.

(10) الآخر بوصفه مفهوماً.. حول طبيعة تشكل مفهوم الآخر في الوعي الإنساني، ذاكر آل جيل، مجلة الكلمة، العدد 40 س 10 صيف 2003، ص123.

(11) سورة البقرة 62.

(12) سورة الحج 40.

(13) سورة النحل 125.

(14) سورة طه 43 - 44.

(15) سورة الأنعام 108.

(16) سورة فصلت 34 ـ35.

(17) سورة البقرة 30 ـ31.

(18) سورة التين 4.

(19) سورة إبراهيم 32 ـ 33.

(20) سورة النساء 1.

(21) سورة الروم 22.

(22) سورة الحجرات 13.

(23) المقدمة، ابن خلدون، ص 131 الفصل 25.

(24) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ابن عاشور، ط تونس 1964م، ص120.

(25) سورة آل عمران 159.

(26) سورة مريم 43.

(27) سورة مريم 43.

(28) سورة الكهف 66.

(29) راجع أدب الاختلاف في الإسلام: أبحاث الندوة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، بالتعاون مع جامعة الزيتونة،ط 2001م، ص 118.

(30) ابن رشد فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكماء من الاتصال، تحقيق ألبير نصري نادر، بيروت دار الشروق، ط 3، 1973، ص 31 ـ 35.

(31) سورة النحل 125.

(32) سورة البقرة 83.

(33) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي ج/1.

(34) سورة آل عمران 66.

(35) أدب الدنيا والدين، الماوردي، تحقيق مصطفى السقا، مكة - دار الباز للنشر، ط/2، 1978م ص265.

(36) أدب الدين والدنيا، الماوردي، ص265.

(37) المرجع نفسه 325.

(38) أبو الحسن العامري، الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق أحمد غراب، الرياض، دار الأصالة للثقافة ط/1 1988، ص 186.

(39) العامري، الإعلام بمناقب الإسلام ص193.

(40) المائدة 5.

(41) الممتحنة 8.

(42) انظر بدائع الصنائع، ج7، ص 100.

(43) شهاب الدين القرافي، الفروق، الفرق 19، ج 3، ص 14.

(44) رواه أبو داود والبيهقي ج 46.

(45) رواه الخطيب بإسناد حسن، الجامع الصغير 2/473.

(46) الخراج 78.

(47) الخراج 126.

(48) الفروق، م س، ج 3، ص 14.

(49) الرسالة القبرصية، ص 40.

(50) محمد عمارة، مرتكزات التعايش بين الأديان، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، س 7، عدد 22، شتاء 2003، ص 113.

(51) مصطفى حلمي، مناهج البحث في العلوم الإنسانية، دار الدعوة مصر، ط 2، 1981، ص 204.

(52) عبد السلام محمد الطويل: توظيف غير علم لمصطلح علمي (التاريخ)، مجلة الفيصل المملكة العربية السعودية ع 277 / 1999 ص 79.

(53) claude delarmas , histoire de la civilisation europenne puf p 5 france 1964

(54) محمد محفوظ، ثقوب في الوعي الاجتماعي تحديات في عالم معاصر، مجلة الكلمة، ع 40 صيف 2003، ص 41.

(55) الحجرات 13.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة