تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الحداثة والسؤال الديني

إدريس هاني

الحداثة والسؤال الديني*

في ضوء مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري

إدريس هاني

إن المراقب لما جرى ويجري داخل المشهد العربي والإسلامي طيلة قرن من الانشغال بأسئلة النهضة والتحديث، سيكتشف لا محالة أن الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، لم يكن بحق إفرازاً إيجابياً لعقلٍ تُساس به شؤونُ اجتماعِه، وتُدبَّر به كبرى الأزمات الناجمة عن علاقته بالمحيط وبدوران الأزمنة وآثار صيرورتها؛ بل إنه في حقيقة الأمر، لم يكن سوى حصيلة مسلسلٍ تاريخيٍّ من الرضّات والصدمات المتتالية، وهو ما يعني أنه كان دوماً حصيلةً لردود الفعل وليس نتاج فعل. وإذا ما اعتبرنا الفعل والانفعال  كليهما من فعل العقل في اختلاف وظائفه وتنوع مراتب نشاطه، قلنا: إن ما كان ثمرةً لردود الفعل هو منتجٌ لنشاطٍ عقليٍّ سلبي. فالإخفاقات والنكسات والإحباطات التي واجهت هذا الكيان العاري من كل شرائط المنعة ضد خطر السقوط والانهيار التام الممكن، جاءت متتاليةً منذ أولى الصدمات؛ صدمة الحداثة التي كشفت عن نفسها منذ أول زحف استعماري على المنطقة العربية، وتحديداً الزحف النابليوني باتجاه مصر. من هنا، لا غرابة في أن ينطلق سؤال التحديث وإشكالياته، حيث للسبق ها هنا خلفياته الموضوعية. فلقد تدفقت الأسئلة الحرجة نفسها على باقي البلاد التي خضعت للاستعمار تباعاً. وكأننا أمام معادلة؛ حيثما حل الاستعمار، وحدثت صدمة الأهالي بروائعه الحضارية، انطلق السؤال بثقله الإشكالي(1).

هذه الملازمة التاريخية بين واقع الاستعمار وبداية الانشغال بسؤال التحديث، هو ما جعل أول مظاهر الحداثة وأولى روائعها المستفزة، تدخل على المجال العربي والإسلامي كمظاهر للمستوطنين، أو تجديداً لهياكل المحلي بما يلحقه عنوة بالمتروبول. كل هذا الذي أسال مداداً غزيراً إلى حد الإشباع، جعل الحداثة والاستعمار في لحظة من اللحظات، وجهين لعملة واحدة.

حضرت هذه الملازمة في نظر المستعمر - بكسر الميم الثانية - الذي جعل من رسالته التحديثية والتحضيرية، مسوّغاً لتبرير فعل الغزو وسياسة المحو الثقافي وتدابير الاستتباع. كما كانت الملازمة حاضرة بالقوة نفسها لدى المستعمر - بفتح الميم الثانية - أي الحداثة بوصفها حدثاً استعمارياً بامتياز(2).

صدمة الحداثة هي إذن، أولى الرضّات التاريخية التي مهدت لمسلم آخر من الرضّات، حيث بات العقل العربي والإسلامي يتشكل تباعاً على إيقاع محنته، ما جعله يبدو في أوج نشاطه وتفاعله مع الأسئلة المذكورة، عقلاً مجروحاً ومحطّماً وحزيناً، ومهووساً ومهجوساً بأسئلة فك الارتباط بالمركز تارة، وتارة أخرى، مندفعاً إلى التماهي مع المركز إلى حد الاستلاب التعسفي(3)، في أفق استبداد الآخر وصورته بمخيال هذا الكائن المحبط والمحطم والمستباح ...

 إنه عقل انبنى على مشاهد التحطيم الخارجي الممنهج، وأيضاً التحطيم الذاتي الناتج عن خيبات الأمل. لذا كان عقلاً رفضوياً واستلابياً واستتباعياً وتعويضياً وإسقاطياً، أو بتعبيرٍ آخر، عقلاً مريضاً، لم يستطع حتى اليوم تحقيق خروجه المعافى من شرنقة ردّات الفعل إلى دائرة الفعل، ومن حال العقل السلبي إلى حال العقل الإيجابي. وقد بدا العقل العربي والإسلامي المعاصر، كجزءٍ من أزمة مجالٍ مأزومٍ كُلاًّ، محكومٍ بنسقٍ جامدٍ تستبد به بنيةٌ نائمة. فهو بالأحرى مرآةٌ صافيةٌ، تعكس هذا التوتر والاستفحال الأزموي الحاد، في واقعٍ عربي لا يزال في طور رجع الصدى لهزائمه المنكرة، يعيد إنتاج نفسه بشروطها الفاسدة والمرَضية. ومنذ ذلك الوقت، وسؤال النهضة وإشكالية الحداثة، لم يجدا طريقهما خارج شرنقة التبني المجمّد على النمط المعرفي الذي يحدد مصير الاتجاه التفكيري لمنظومة الأمم المحكومة بجدلية القهر أو المغلوبية.

أمام هذا القلق النابع من استمرار فعل الصدمات وخيبات الأمل - إذ يمكننا الحديث عن صدمات حداثية، بقدر الثورات العلمية والثقافية والاجتماعية، التي تحدث ولازالت في الغرب ـ، بدا العقل العربي والإسلامي المعاصر، محكوماً بالتردّد، أو بنزعات أو سدرة المنتهى في عالم الاختيارات، إما استلاباً تعيساً بلا شرطٍ يحفظ ماهية كائن مستلَب، وإما رفضاً شقياً مطلقاً، متجوهراً حول ماهية كائنٍ منزوٍ على حقائقه ومدائنه المحروسة(4).

نعم إن إشكالية الحداثة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، كانت قد نالت حظها الوافر من النقاش، بل لعل النقاش بلغ مبلغه بحيث لم يدع فكراً أو منهجاً أو (حدوثةً) غربيةً إلا وعاقرها على نحوٍ ما، على الأقل في إطار تنظيراته حول الأزمة(5). غير أن المشكلة، لم تعد مجرد انفتاحٍ غير مشروطٍ بموضوعية النظر العلمي، المتحرر من سلطة الموضات الفكرية والثقافية، ومشاهد الاستنبات الدوري للمفاهيم والأفكار. ولذا فإن فعل المواكبة الذي لم يلتفت إلى إشكالية تأثيرات (الحصر المنهجي) على عملية الفهم، هو ما جعل هذا الفكر يراوح مكانه، إذ لم يفلح في أن ينتج من الفكر ما هو حقيقٌ بتحرير العقل العربي والإسلامي من نزلات الوعي الشقي. وقد أدى هذا الهذيان البارانوياني في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، إلى أن يميل كل الميل من الأقصى إلى الأقصى، حيث انفلت من قبضته زئبق الجدل الممكن بين الأقصيين، بما يحدد لهما تخماً تركيبياً تواسطياً وليس توسطياً(6)، هما اليوم سمةٌ رئيسةٌ لمأزق عقلٍ عربيٍّ وفكرٍ إسلامي، لم يقبض أحدهما حتى اليوم على سرِّ خلطة وعيه بجدل الواجب والإمكان. إننا بالتالي غلاةٌ طوباويون، أو مستلَبون في ماهية هذا السبات التعيس، أو متنطعون أشقياء على ممشى ملغمٍ بالآمال المغشوشة والأشباح المعلَّقة. وتلكم آفة الفكر العربي والإسلامي المعاصر.

من هنا يتعين الدخول إلى بحث إشكالية الحداثة والسؤال الديني، حيث لا جدوى من إعادة إنتاج الفظاعات نفسها في تناول موضوعة كهذه إن تحرير محل النزاع ينبغي أن يسبق إنتاج الفظاعات نفسها في تناول موضوعة كهذه.. إن تحرير محل النزاع، ينبغي أن يسبق ها هنا بعملية تحرير العقل العربي والإسلامي من آثار جروحه الغائرة، ونفض غبار الهزيمة والإحباط وخيبات الأمل، التي تجعله عقلاً مرشّحاً لتبنّي كل أشكال الاختزال الفكري والتنظيري. فقبل أن نعقل الأشياء يتعين علينا معرفة كيفية عقل الأشياء. وهذا يتطلب قيام لغةٍ واصفةٍ للوقوف عند النمط المعرفي الذي ترتهن له كافة رؤانا ومشاريعنا وتصوراتنا. وقد خلصنا إلى حصر مشكلة العقل العربي والإسلامي والمعاصر في مستويين.

1- المستوى الذي تعكسه انجراحاته وتعبيراته التعويضية والهذيانية، ما يجعله في حالة من التمأزق السيكوباتولوجي، فتلك هي مشكلته السيكولوجية.

2- المستوى الذي تعكسه تناقضاته وهشاشته وفوضاه المعرفية، ما يجعله في حالة من التمأزق الباراديغمي، فتلك هي مشكلته المعرفية.

سوف لن نطنب كثيراً في تتبع أسباب ومظاهر هاتين المشكلتين. لكن هذا لا يمنع من القول على سبيل الاختصار، بأن مظاهر المشكلة السيكولوجية تقوم على مركب صدمات من مصدر واحد، وإن اختلفت مستوياتهما:

1- صدمة الحداثة - والتي هي في الواقع صدمات متتالية ومستمرة حتى اليوم ـ لازالت كما قلنا تمارس استفزازها للعقل العربي والإسلامي، ولازالت تحرجه تاريخياً.

2- صدمة الهزائم السياسية والعسكرية والتنموية المتتالية، التي لازالت تشكل مصدر إحساسٍ بالهزيمة والعار وخيبات الأمل. ما يجعل العقل العربي والإسلامي المعاصر ينتابه شعور حاد بالذنب: أساس ذاك العصاب المزمن في هذا العقل.

وأما ما يتصل بمظاهر المشكلة المعرفية، فهي تعود إلى ثقل التأثير السيكولوجي نفسه، إذا ما اعتبرنا أسباب الذهول والحصر المنهجي والاختيارات الإيديولوجية وغيرها، تجد لها دوافع في الأعماق السحيقة للذّات المجروحة(7). هذا إلى جانب الدوافع الموضوعية التي تربك عقلاً لم يدخل الكون الحديث بعد، حتى وإن دخله مهمَّشاً تابعاً منفعلاً.

وقد بدا العقل العربي أمام هذا التدفق الهائل من المدارس والاتجاهات والمناهج والثورات الباراديغمية، مندهشاً وفي منتهى الحرج، حيث أنَّى له الإحاطة بهذا التراكم الحيوي المدهش. وأنّى له الانخراط في سباق المسافات الطويلة لهذا التوالد المطّرد وأحياناً الفجائي، ولهذه الأنساق المعرفية والخبرات العلمية المتكاثرة. إنه وجود منفعل على نحو التعاقلية السلبية، ما لا يتيح له إمكانية التحليق حيث يحلّق عقل الحداثة هناك. وحيث ليس له منها اليوم إلا إمكان الاستعارة، بل وأسوأ أشكالها: استعارة خردتها المستعملة، يحدث هذا في السلع والخدمات والقيم والأفكار والتصورات ... فالعقل العربي والإسلامي المعاصر إذن هو في نهاية المطاف ليس له من هذه الحداثة، سوى سقط المتاع. وقد حقَّ على من يروم معالجة أي إشكالية مما سبق ذكره، أن يدرك أيَّ مهمةٍ تنتظره لتحرير هذا العقل من أعطابه وهشاشته وعقباته النفسية والمعرفية، قبل أن ندخل في عملية تحرير محل النزاع.

وهنا يبقى السؤال ضرورياً: كيف يتسنى لنا تحرير هذا العقل، وبأية وسيلة يمكننا فعل ذلك، وإلى أي حد نستطيع تحقيقه؟

* أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، كمشروع حل

لقد حاولنا من خلال هذه الأطروحة، أن نرقى بالفكر الإسلامي إلى ما بعد الحد الأدنى من تحقيق معذرية الأفراد. أي الانتقال من مطلب الحقّ في الوجود إلى مطلب السبق في الوجود. فالقضايا التي عُني بها الفكر الإسلامي في أفق التبني الحضاري، هي قضايا تتعلق بوجود أمّةٍ ورهاناتها وتطلعاتها. فسواءٌ تحقّق الحد الأدنى من معذرية الأفراد، أو الحد الأدنى من إمكانية الوجود، فإن ثمة فريضة غائبة تتعلق بخلاص أمّةٍ وتقدمها. أي أن الغاية من التبني الحضاري هو الجعل المركّب وليس الجعل البسيط(8). فمشروع التبني الحضاري يتعدى السؤال: كيف يكون الإنسان مسلماً - في الحد الأدنى من تكليفه الفردي - وكفى، في كل الظروف والشروط الممكنة، فهذا خلاص فردي وأخروي، ناظر في معذرية الفرد، مع الإغماض عن مسؤوليته الاستخلافية، الناظرة في تكليفه الجمعي كأمّةٍ لا يغنيها عن معذريتها (الأمّية)، معذريتها الفردية. فما كان خلاصاً أخروياً للأفراد، لا يرفع انشغال ذمّة المكلّف الجمعي برسم تكليفية الأمّة بالسبق في الوجود: مصداق شهادتها على الأمم. فيكون الفرد نفسه مشغول الذمّة، بلحاظ ما له من واجبات تعيينية تجاه الجماعة، المشغولة الذمّة بالسبق في الوجود الحضاري، لإنقاذ الإنسانية من ظلم وفساد خياراتها الحضارية غير العادلة. أجل، إن التبني الحضاري يتعدى بهذا السؤال إلى مدركٍ آخر: كيف نجعل المسلم، هو نفسه مسلماً نموذجياً متقدماً نامياً، سيد دورته الحضارية في ظروف معينة وشروط محددة. فهذا خلاص جماعي دنيوي وأخروي، برسم معذرية أمة وكائن مستخلف، ليس كما هو، ولا كما اتفق، بل بحسب شروط محددة.

وأما منحى التجديد الجذري، فمقتضاه إعادة تفكيك الأنساق التاريخية إلى مستوى التعاليم. أي أن نعيد الظاهرة المتحققة في الاجتماع الثقافي والتاريخي، إلى مستواها غير المنظوم، ـ أعني بالنظم هنا ما هو برسم العقل النظري وليس ما يتعلق بالعقل المنظم (بفتح الظاء) ـ. وهذا معناه، أننا في نهاية المطاف، مدعوون إلى تحرير التعاليم من كل أشكال الفهم المرتكزة على نمط معرفي، لعله لم يعد له حضورٌ فاعلٌ في زماننا. إن إعادة انتشار التعاليم، هو في الواقع تحريرٌ لها من سلطةٍ معرفيةٍ تاريخية، ومن هيمنة نموذجٍ معرفيٍّ تاريخي، ومن سيطرة فهمٍ معيَّنٍ أو أفهامٍ محصورة، لكي يتيح للمتلقّي، وفي ضوء التبني الحضاري، إمكانية إعادة بناء علاقته مع هذه التعاليم في ضوء إكراهات العصر وشروطه، وأيضاً في ضوء إعادة ربط الوشائج مع المفاهيم والوسائط المعرفية، بحيث تستجيب للنمط المعرفي الأكثر حداثةً وجدارةً ونجاعة. وبناء على مدّعى هذه الأطروحة؛ نحاول في هذه الورقة أن نقدم حلاًّ للمشكلتين معاً؛ الأولى: ما يتعلق بتحرير العقل العربي والإسلامي المعاصر من هجاسه وجروحه وهذيانه... والثانية: ما يتعلق بتحرير محل النزاع في إطار موضوعتنا: (الحداثة والسؤال الديني).

2- تحرير العقل

ثمّة أكثر من صورة لهذا الأسر المعرفي والسيكولوجي اللذين يعاني منهما العقل العربي والإسلامي المعاصر. ولعل أهم سؤال يعبر عن هذا النوع من الحصر النفسي والمعرفي، ذلك السؤال الأرسلاني: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ والذي انتهى في صيغة عنوان لإحدى أهم كتب الشيخ القرضاوي: أين الخلل؟ لقد أوضحنا بما فيه الكفاية، كيف أن هذا السؤال الذي يلخّص هاجساً نفسياً ومعرفياً لجيل النهضة العربية الأوائل، ينتمي إلى نمطٍ معرفيٍّ موسومٍ بالنزعة الثباتية والميكانيكية. وأنه في حد ذاته، سؤالٌ من شأنه أن يعمّق هذا الحصر، ويرفع منسوب خيبات الأمل إلى أقصاه في العقل العربي والإسلامي المعاصر. وقد انتهينا إلى صيغةٍ أكثر عملانية ودينامية، إذ تعيَّن أن يصبح السؤال الحقيقي اليوم: إننا متخلفون، فيكف نتقدم؟ إن سؤالاً كهذا، من شأنه تحرير العقل العربي والإسلامي من أن ينظر إلى الآخر الغالب، بمثابته مشكلته الأولى والأخيرة في التقدم. كما أن السؤال الأخير يحرر سؤال التقدم من هذا العناد التماثلي، ليجعله سؤالاً حقيقياً ناظراً في إمكانات النهوض الذاتي، من منطلق الوجوب في التقدم كما يفرضه التبني الحضاري. وهذا التحرر يجعل البحث متجهاً إلى مخارج الأزمنة ومداخل الحل، ولا يلهي نفسه بالبحث عن مداخل الأزمنة التاريخية، بعد أن عمّ الداء واستشرى الفساد، أو غدا مأزماً بنيوياً(9). فمن شأن هذا التغيير في صيغة السؤال، أن يحرر العقل من حال البحث في أسباب الانحطاط التاريخي وأقاصيصه عبثاً، وبالتالي تنامي الشعور بالذنب: المعطّل السيكولوجي للرؤية الإيجابية للعالم، القائمة على النسيان الإيجابي المحرر للعقل، من أوجاع الجرح السيكولوجي الغائر بفعل الصدمات التاريخية، وتصعيد فعل الإيحاء الإيجابي، والظفر بقدرٍ من الهمّة في اتجاه العمل الإيجابي.

 إن المفاهيم التي تم التعاطي معها في إطار التبني الحضاري والتجديد الجذري، ترمي إلى تحرير المفهوم من سلطة الأفهام، وصولاً إلى تحرير الفاهمة نفسها، من سلطة التواطؤ التاريخي بين الأفهام السابقة والمفاهيم. إنها تؤهل المتلقي كي يعيد تشكيل علاقة متجددة ونقدية مع المفاهيم، محرراً إياه من سلطة الثابت. حيث إن مقتضى التجديد الجذري، الأخذ بمفهوم (الثابت المتحول) ـ مع إسقاط واو العطف ـ وتعميم منطق الحركة كي يشمل كل المفاهيم.

إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تقدم مخرجاً للعقل العربي والإسلامي المعاصر، إذ تحرره من تسلط سيكولوجيا الهزيمة، وآفات التعويض والإسقاط والهذيان. لأنها تفتح أمامه أفقاً للإمكان المستدام، وتحثه على فعل النسيان الإيجابي لنكساته وإحباطاته التاريخية. فهي أطروحةٌ لم تقدحها نكسة 1967م، ولا إخفاقات مشاريع التنمية، بل هي أطروحةٌ متطلعة إلى المستقبل المنظور، وتنطلق من الإمكان المفتوح، مادام أن الغالب نفسه أصبح غير قادر على السيطرة على مداخل ومخارج أزمته. وحيث إن الثورات العلمية اليوم، تتيح هامشاً ما للمناورة بالوجود وفي الوجود. كما أنها تنطلق من بعض صور الانتصارات الجزئية، التي وإن لم تكن تعني الوقوف التام على مخارج الأزمة، فهي تصلح عاملاً لتخفيف وطأة رهاب الآخر، ومعالجة أدواء الهزائم المكرورة والجروح الغائرة(10).

إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، تمنح قدرةً على المناورة أكثر، وحريةً في العمل والتجريب أكبر. فالمطلوب في ضوء هذه الأطروحة، هو العمل وليس تحديد النتيجة، ولا في مشاريع خلاصٍ بنيوي، بقدر ما يكون هدفها تعقب الحامل لفكرة التبني الحضاري، حتى لا يقع في مطبات الانزواء السلبي، أو الوعي الشقي، أو خيبات الأمل. إنه مشروع رؤية من شأنها أن تفتح مدياتٍ للعمل المستدام والتراكمي، إلى حيث يتحقق التخارج التاريخي للبنية. وإذن، فالتبني الحضاري والتغيير الجذري يحرر العقل العربي والإسلامي المعاصر، سيكولوجياً، بفعل النسيان الإيجابي للهزائم ولآثارها، بتوسيع الاهتمام بالإمكان، والوقوف عند الهزائم الجزئية للآخر والانتصارات الجزئية للأنا، بما يحقق قدرتها على الإيحاء الذاتي لاستئناف الفعل الإيجابي. كما يحرره معرفياً بإعادة إنتاج المفاهيم على خلفية أنماطٍ معرفيةٍ جديدة، وإعادة تشكيل علاقةٍ حيويةٍ مع هذه المناهج والمفاهيم، والأخذ بمفهوم الاستحالة والانقلاب، في المفهوم والشخص والموضوع. إنه انتقالٌ بالعقل العربي والإسلامي من شرنقات الحصر الميكانيكي إلى فضاءاتٍ جدليةٍ وديناميةٍ واحتماليةٍ أوسع.

 2- تحرير محل النزاع

نحاول هنا، القبض على حقيقة الموضوعات المؤسِّسة لإشكالية (الحداثة والسؤال الديني). ونحن نعتبر أن قدراً من الصبر في انتظار تناول جوهر الإشكال، أمرٌ ضروريٌّ يتطلبه واجب التخلص من كافة العوائق، التي تنصبُّ في طريق الوصول إلى حقيقة الموضوع. وهنا ستنقسم المعالجة إلى مستويين:

- المستوى الأول: معني بتحرير المفاهيم من عموم عوائق المعرفة؛ وهنا سوف يكون البحث في (المنهج).

- المستوى الثاني: معني بتطبيقاتٍ نموذجيةٍ لبعض مفاهيم وقواعد التبني الحضاري، والتجديد الجذري على موضوعنا (=الحداثة والسؤال الديني) ضمن نموذجٍ معيَّنٍ أو عيِّنةٍ محددة.

أ- المفهوم وإشكالية المنهج

سوف أنطلق هنا من النتائج المهمة التي انتهى إليها صديقنا د. أحد قرا ملكي بخصوص ما أسماه (بالبيتخصصية) - Interdisciplinary - (11). وحتى لا أطنب في شرح أبعاد هذا المفهوم أو بالأحرى هذا المنظور، سأكتفي بعرض ما كان دافعاً لهذا الاختيار البيتخصصي.

لقد نبّه الباحث إلى مأزق استبداد المنهج الوحيد في الدراسات العلمية، أو ما أسماه بـ(الحصر المنهجي)(12). وقد أدى هذا النوع من الاتجاهات إلى نتائج سلبية على صعيد البحث العلمي. ليس فقط لأنه لا يحيط بالوجوه الأخرى والمختلفة للظاهرة الواحدة فحسب. بل لأنه لا يحسن الإنصات لوجهات النظر الأخرى أيضاً(13). إن الحصر المنهجي بهذا المعنى ينتهي إلى ضربٍ من حوار طرشانٍ معيقٍ للمعرفة ونافٍ للتواصل. وقد أدى الحصر المنهجي إلى كل صور الاختزال، التي هي في نهاية المطاف آفةٌ من الآفات العارضة على البحث العلمي. وقد كان لبروز الاتجاه الظواهري أهميةٌ قصوى، لأنه استطاع بالفعل تجاوز هذا الحصر المنهجي وآثاره الاختزالية، مما أدى إلى تحرير الباحث من كل مسبقاته، وأحكام القيمة التي تجعل الباحث لا يبلغ موضوعه البتة، بل يكتفي بإنتاجه في ذهنه وفق قوالبَ متخيّلةٍ جاهزة. هذا مع أن الظواهرية نفسها انتهت إلى شكل آخر من أشكال الاختزالية، منها كما يذكر أحد قرا ملكي، أن اعتبار الظاهريات منهجاً وعلماً، وليس محض اتجاه، من شأنه أن يوقعنا في ضرب من الحصرية. ومنها أيضاً أزمة الظاهريات، وتحديداً في نطاق إشكالية استبعاد النومين من إمكانية المعرفة كما يؤكد سايفرت(14).

لقد ضرب أحد قرا ملكي مثالاً عن هذه (البيتخصصية)، من خلال عَلَمين: أحدهما ينتمي إلى العالم الإسلامي وهو مِلاّ صدرا الشيرازي، والثاني ينتمي إلى الغرب الحديث وهو كارل ماركس.

لقد دافع قرا ملكي عن ملا صدرا، نافياً أن يكون نهجه نهجاً توفيقياً أو تلفيقياً. بل رأى في طريقته نوعاً من البناء البيتخصصي، الذي حرر هذا الفيلسوف المسلم من آفة (الحصر المنهجي). فلقد امتلك هذا الأخير قدرةً فائقةً على الجمع بين علم الكلام والفلسفة والعرفان والإلهيات، ما انتهى به إلى إنتاج طريقةٍ أكثر غنىً، جمعت بين كل هذه الصناعات، كما جمعت بين الإشراق والمشاء. فكان أشبه بمصالحةٍ أثمرت نتائج ملفتةً للنظر.

وأما بخصوص ماركس، فقد كان واحداً من روّاد هذه (البيتخصصية)، بعد أن استطاع دمج الاقتصاد السانسيموني والجدل الهيغلي ومادية القرن السابع عشر، في مشروع رؤيةٍ جامعةٍ بيتخصصية. طبعاً، لاشك أن هذا الدمج المتعدد للعلوم والمناهج، لا يتم توفيقياً أو تلفيقياً من دون خطّةٍ محكمةٍ، بل هي عمليةٌ تتم عبر نوعٍ من التركيب، الذي جعل الجدل الهيغلي نفسه ينقلب إلى جدلٍ مختلفٍ مع ماركس، وجعل مادية القرن السابع عشر الميكانيكية تنقلب إلى مادية جدلية، والاقتصاد السانسيموني إلى اقتصادٍ مختلف، وهكذا دواليك(15).

ليس هاجس هذا التعدد، الإحاطة بأوجه الظاهرة فحسب، بل إنه معني بدراسة الوجه الواحد من الظاهرة من منظوراتٍ مختلفةٍ أيضاً.

أعتقد أن قرا ملكي حاول جهده للاقتراب من فكرة تعدد المناهج في فهم الظاهرة الدينية، مع اهتمامٍ بمشكلة المنهج أكثر مما نلمسه عند د. محمد أركون، حيث راهن هذا الأخير على تحشيد المناهج في إسلامياته التطبيقية، من دون لحاظ مأزق التلفيق، ومن دون لحاظ شروط البيتخصصية. أجل، هناك اهتمامٌ أكثر بالمأزق الإشكالي الإبستيمولوجي الناتج عن استدماج المناهج المتعددة. فالبيتخصصية كما يبدو، هي المخرج الأكثر وضوحاً من التعددية المناهجية اللامشروطة عند أركون. لكن سوف يظل هنا، السؤال قائماً: كيف تتم هذه البيتخصصية؟ وإذا ما سلّمنا جدلاً بلا جدوائية الاقتصاد المناهجي، فهل ثمة منهجٌ أو مناهجُ وسيطةٌ لتحقيق هذه البيتخصصية. وهل سنكتفي بالوجدان، والفطرة في التعاطي مع الظواهر والأشياء والأفكار والمفاهيم؟.. فأيُّ مفهومٍ للفطرة يا ترى، هذا الذي أنهى به قرا ملكي دعوته إلى البيتخصصية أو العبر ـ مناهجية، لأجل الوصول إلى منظورٍ عالميٍّ موحَّدٍ لفهم الدين؟. وقد نفهم أنه منظورٌ واحد، لكنه في عمقه متكثّر، كنايةً عن الفكرة الصدرائية نفسها، بخصوص الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة(16).

ما أريد إضافته إلى هذه النتائج التي توصل إليها أحد قرا ملكي بخصوص البيتخصصية، هو أن الفكر -مطلق الفكر- لا يمكن إلا أن يتولد من هذا الجدل البيتخصصي. فكبرى الإبداعات هي تلك التي قامت على التناص، أو وسّعت من مدارك اختصاصها. وإذا كان ثمة من لم تظهر عليه آثار هذه البيتخصصية، فلأنه قام باستدماج الحد الأدنى من المناهج، أو أنه اكتفى بالمنهج الواحد، بعد أن خلق منه شروط توالدٍ جديد. إن الحد الفاصل بين البيتخصصية وغيرها، يكمن في سعة الاطلاع وقدرة الاستدماج، والأهم من ذلك كله، القدرة على التركيب، وجس نبض المختلف، والتحرر من آفة الحصر المنهجي.

 إن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، لا يقفان عند أهمية البيتخصصية، من حيث هي مخرجٌ حيويٌّ من شرنقة الحصر المنهجي، بل إنه يغور بالسؤال حول الفعل التعاقلي، الذي يجري لتحقيق هذه البيتخصصية، حتى يحول دونها والسقوط في مآزق التلفيقية والتوفيقية(17). وهذا رهينٌ بالمفاهيم التي يتوسّلها التبني الحضاري والتجديد الجذري في معالجة موضوعاته. فهو إذ ينظر إلى مفهوم الوسطية من منظارٍ أكثر إيجابيةً وحيوية، يدرك أن خطر التلفيق والتوفيق ناتجٌ عن ذلك الفهم الخاطئ والمغالط للوسطية؛ باعتبارها تموقعاً سلبياً داخل التخوم، أو إقامةً في مفترق الطريق. كما قد توحي به السابقة (بينـ) (=inter). والحق أن التوسّط ها هنا، والذي من دونه لن تتحقق البيتخصصية نفسها، هو فعل استنطاق الأنساق والمناهج والعلوم... وتحقيق حدٍّ أدنى من المصالحة بينها. أي، إيجاد تلك القدرة الفائقة في التنسيب والاعتبار وحسن الإنصات، الذي يجعل أكثر النزاعات بين المناهج والعلوم أحياناً، هي نزاعات مفتعلة برسم (الحصر المنهجي) والانزواء المعرفي. وإن مثل هذا القدر من الاستنطاق لهذه الأنساق المتجوهرة بطبيعتها، يكمن في كيفية التلقي نفسه.

إن ملا صدرا الشيرازي، على اهتمامه الفائق بالفلسفة والحكمة وباقي المعارف والعلوم، أدرك أن المناط المعوّل عليه في أي رحلة درسية، يكمن في هاجس التجاوز للرسوم والمنظورات العلمية، قبضاً على ملاكات الحكمة والتفلسف(18). إن ملا صدرا مثلاً، يريد من طالب هذه العلوم كافةً أن يتجاوزها. وكأننا أمام ضرب من امتلاك القدرة على تحقيق أسفاره الخاصة داخلها، إلى حدٍّ يمكننا فيه الحديث عن أسفارٍ أربعةٍ داخل هذه المعارف المختلفة والمناهج المتعددة، عبر آلية (الهدم والترصيف)، التي هي تعبيرٌ آخر عن (التفكيك والبناء) حيث مقتضى استكمال الدورة السفرية، عودة المسافر في عوالم هذه الصناعات من حيث بدأ؛ لكنه هذه المرة، يبدو محمّلاً بقيمةٍ مضافة، بعد أن تراءت له حقائق الأشياء خارج قوالبها المغلقة(19).

إن امتلاك ناصية هذه الصنائع طرًّا، لا يؤدي في نظرنا إلى (بيتخصصية) حقيقية، إذا ما افتقد الباحث إلى ملاك الهدم والترصيف بتعبير ملا صدرا، أو بتعبير قرآني أوضح: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. على أن أحسن القول هنا، ما كان ناظراً في المجموع، وحصل فيه الحد الأدنى من التركيب العبقري، الذي يجعل الفكر برسم (البيتخصصية) يملك إغناء الفكر واستيفاء النظر، والدنو قدر الوسع من حقيقة الأشياء. إن (الأحسنية) ها هنا ليست محض اختيارٍ تفاضليٍّ بين طرفين أو أطراف متناظرة، بل هي استدماجٌ لأوجه القول في جدل التقارع الفكري. وهو ما يوضحه كلام لعلي بن أبي طالب: (اضرب بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب، وامخض الرأي مخض السقاء!).

إن الأحسن من القول في نظرنا، متولد الأقوال لا راجح القول. إنه مخض السقاء، ما يجعل المتناظرين مشاركين في صناعة المعنى وإنمائه.

ب-  (الحداثة والسؤال الديني) مثالاً..

سوف نستند في هذه المعالجة إلى مفهومين، تم إعادة تأهيلهما في ضوء مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري. سنعمل تباعاً على تنزيلهما وتطبيقهما على موضوعاتنا الإشكالية. المفهومان هما: (التكييفانية الخلاقة) و(الثابت المتحول).

سوف نختبر من خلال هذا التنزيل، مصداقية هذه المفاهيم، ليس بالمعنى الذي يفيده مفهوم (الدحض) لدى كارل بوبر، معياراً لصمود النظرية فحسب، بل بالمعنى الذي يفيده معنى الإغناء للحقل الذي يخضع للاشتغال. فمقياس صمود المفاهيم والأفكار هنا، هو بقدر ما تغني به المجال وتشفي غليل المتلقي، إجاباتٌ على أسئلته المحتملة. غير أن مقتضى هذا التنزيل، تحدد وجهته في ضوء تحرير محل النزاع، حيث السؤال هنا: ما معنى السؤال الديني؟ ما معنى الحداثة؟

-  تحرير محل النزاع

تتطلع أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري، إلى ضرب من التعاطي المزدوج مع السؤال الديني، حيث يتعلق الأمر تارةً بمحاولة فهم الدين في نطاق (نفس الأمر)(20)، كتعاليم أو لنقل كظاهرة في المجتمع. ويتعلق الأمر تارةً بمحاولة فهم الدين، في نطاق تشخصه وصيرورته وتمأسسه الاجتماعي - التاريخي. أو لنقل النظر إلى الدين كظاهرةٍ اجتماعية. إننا إذن، أمام مستويين من الدين: أحدهما دينٌ مستقلٌّ بماهيته، يفتح أفقاً لإعادة تشكيل علاقاتٍ متجددةٍ ومستأنَفةٍ مع تعاليمه، على أسسٍ أكثر تكييفانية، والآخر دينٌ مشخَّصٌ حاكٍ عن تجربةٍ ما، وبالتالي عن أنماطٍ معينةٍ من التكييفانية، المستندة إلى شروطٍ اجتماعيةٍ وتاريخيةٍ وثقافيةٍ غير شروط راهننا. إن المسافة بين الدين كظاهرةٍ اجتماعية، وبين الدين كظاهرةٍ في المجتمع(21)، هي مسافة التشخّص الفعلي، والنزول التاريخي لتعاليمه في المجال وفي الزمان. وإن اهتمام مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري بالمستويين معاً، يحدد موقفه النقدي المزدوج من الظاهرة الدينية. إن التعامل مع الدين كظاهرةٍ اجتماعية، هو بمثابة مقدمة الواجب في سياق القبض على الدين لا بشرط، وتحريره أو إعادة تأسيس العلاقة مع تعاليمه في أسيقةٍ تكييفانيةٍ ممكنة، تتجدد فيها النزولات، برسم الأحوال والأطوار والمطارح التاريخية والاجتماعية.

على أننا سنكتفي هنا ببحث العلاقة بين الحداثة والدين في المستوى الأول. أي الدين كتعاليم وليس كظاهرةٍ اجتماعية. فالأول بحثٌ في الإمكان، والثاني بحثٌ في الواجب. وبما أن الموضوعة المطروحة هي إشكاليةٌ تتطلع إلى قدرٍ من الفهم المجرد، والنظر الكلي الحاكم بالنتيجة، على موضوعاته وأفراد المعاني الكلية، فسوف أكتفي بصياغة رؤيةٍ ممكنةٍ لهذه العلاقة، عبر عملية تنزيل المفاهيم والقواعد، المعاد تأهيلها في ضوء أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري.

الدين.. الحداثة: أية علاقة؟

حتى وإن كان الأدنى هنا مطروحاً في معناه العام، فإن ضرورات تحرير محل النزاع، قاضيةٌ بأن يجري الحديث عن الإسلام والحداثة، انطلاقاً من أن أي حديثٍ عن الدين المطلق، هو في حد ذاته إشكاليةٌ لم تستوفِ حقها من البحث، إذا لم نعتبرها واحدةً من أكبر المغالطات في المقام(22). فلا حديث إذن، إلا عن الدين الخاص، والتجربة الخاصة. فالحق أن ثمة منظوراتٍ دينيةٍ بحسب تعدد الأديان نفسها. ولذلك فإن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، معنيٌّ ببحث موضوعة علاقة الإسلام والحداثة. إذ لا وجود إلا لتجارب خاصة.

لقد بدا وكأن هناك مقابلةً أزليةً بين الدين والحداثة، على نحوٍ بلغ بهما إلى مستوى الطرد المتبادل. بالتأكيد لست من أنصار هذه الضدية الأزلية. سواءً كان مصدرها وجهة نظرٍ تنتمي للحداثة، أو وجهة نظرٍ تنتمي للفئة المحسوبة على الدين. فالعنوان إن كان المقصود به المقابلة النهائية إلى حد التناقض، فإن النقاش لن يكون له معنىً، مادام أن الحكم بالطرد جاء سابقاً للنقاش، موجِّهاً له وصادّاً لأي شكلٍ من أشكال التحليل. أفترض هنا أن تكون المقابلة من صنف آخر؛ من قبيل مقابلة المادة للصورة فلسفياً، أو المحمول للموضوع منطقياً. على أن أنواع العروض منطقياً من ثبوتية وإثباتية وعروضية، كافيةٌ في وضعنا أمام مأزق الحصر المنهجي، الذي ارتضاه أنصار المنظور الطردي أعلاه. فبدل أن تكون مقابلةً نقيضيةً أو ضديةً أو تضايفيةً، أو على نحو الملكة وعدمها، لِمَ لا نعالجها في نطاق نظرية الحمل، وجدل العوارض الذاتية والعروضية. ولِمَ لا نقول: إن الواسطة في العروض هاهنا واضحة المجاز، ما دام أن المتعلق في هذا النوع من العروض هو حامل الإسلام نفسه، حيث به يتقدم الإسلام أو يتخلف، وحيث إنهما يتمتعان بوجودين مستقلين، والإشارة إليهما ليست واحدة؟. بهذا التأطير الأولي لإشكالية العلاقة بين الحداثة والدين، يصبح النقاش ممكناً جداً.

لقد حصل تطورٌ كبيرٌ على مستوى هذه الثنائيات الضدية، التي كادت تصل بالدين -بنفس الأمر- إلى منتهى الحقيقة النقيضة المطلقة للعقل والعلم والحداثة، وليس الدين بوصفه صيرورةً تاريخيةً وتمأسساً سوسيو - ثقافياً. بدأت المقابلة بين الدين والعلم.. الدين والحرية.. الدين والدولة.. إلى أن أصبحت اليوم مقابلة بين الدين والحداثة. والحق أننا نقف أمام دينٍ يقدم لنا ما ينبغي أن يكون، وأمام حداثةٍ هي ثمرة فعل الإنسان، ومحصول فعاليته في المجال، أي ما هو حاصلٌ بالفعل. ليست الحداثة ديناً حتى تصبح مزاحمةً للدين في مجال اختصاصه، أو منازعةً إياه في وظيفته، أو منافسةً له فيما يعد به المؤمنين. بل هي نتيجة حراكٍ جماعي وتراكمٍ وصيرورةٍ وفعل. يدّعي الدين أنه يتضمن في ثنايا تعاليمه ما هو حقيقٌ بتحقيق خلاصٍ فرديٍّ وجماعي، وسعادةٍ روحيةٍ وماديةٍ في الآن وفي المآل. فهو إذ يفعل ذلك، يرى أن تعاليمه لا تخاطب متلقياً يعيش فراغاً ثقافياً واجتماعياً وتاريخياً. إن المتلقي قبل إنشاء الخطاب يتمتع بقدرٍ من الملاء. فهو ليس كائناً عارياً منتزَعاً من مجاله أو تاريخه. الدين لم يشأ إلا أن يخاطبه بلغته، وبرموزه التي تعكس جماع ثقافته وخبرته، ومرآة عقله وفكره، ومنعكَس معاشه وتقلباته ومطارح وجوده. وإذن فالإنسان، هذا المتلقي، مشاركٌ -برسم التاريخ والاجتماع- في تحديد المعنى الموجه إليه، حيث لغة الوحي أقرّت برموزه، واستعانت بلغة خياله، وسلكت من حيث مؤسساته. فهي لغةٌ ليس فقط أنها مخلوقةٌ لجهة التنزيه، كما هي إشكالية الكلام عند المتكلمين، إذ قصاراه إثبات التنزيه لواجب الوجود، بنفي حاجته إلى آلةٍ أو جارحةٍ للكلام، وإثبات كون الكلام قبل مورد النوازل هو بخلاف الحكمة؛ بل إن مرادنا من المخلوقية هنا، أن الكلام متولدٌ من لغة المتلقي ورموزه نفهسا. إنه كلامٌ مخلوقٌ من حيث هو معانٍ مودعةٌ في كلامٍ مخلوقٍ، ومتولدٍ من تاريخية هذا المتلقي. لكن في أرقى تولدٍ بلغ حد الإعجاز، وها هنا تكمن قيمة الإعجاز.

لقد خاطب الدين الكائن في كل زمان وفي كل مكان. وهذا ما يعني أنه غير مسؤولٍ عن التحولات التاريخية والاجتماعية، إلا بمقدار ما يرفد به جهد المتلقي في حركة الاستخلاف، وبما يؤديه من وظائف نفسيةٍ واجتماعيةٍ تتوقف على جهد الحامل، ومدى سعة أفقه، في عملية استنطاق نصوصٍ أخرسها بارئها ليستنطقها الإنسان، وينشئ معها علاقةً خاصةً ومميزةً وناجعة. فأن يُدرَكَ اللهُ بعدد أنفاس الخلائق، لا يعني هنا محض الطريق إلى الله فحسب، بل يعني تعدد أشواق النفوس ومراميها وأطماعها ورهاناتها؛ فهناك عابدٌ تاجرٌ طامعٌ في جنة الله، وهناك عابدٌ عبدٌ خائفٌ من ناره، وهناك عابدٌ حُرٌّ قد أدرك أن الله أهلٌ للعبادة، فعبده، ليس خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته.

يقدم الدين نفسه بوصفه ملاذاً للكائن، ومخلّصاً له من إكراهات المجال، واضعاً عنه إصره والأغلال التي كانت عليه؛ إنه خلاصٌ دنيويٌّ وأخروي، يقدم مخرجاً لإشكالية الموت وانحصار الزمان. لكن الحداثة تقدم نفسها كصيرورةٍ (قووية) بقدر ما تفرزه من روائع، تحفر للكائن مطباتٍ ومهاويَ للشقاء. بل وكما يقدمها منظّروها: نزع الابتهاج عن العالم(23). وفي هذا الضوء، يصبح للدين وظيفةٌ مضاعفةٌ داخل الحداثة وإكراهاتها وانزياحاتها. فالدين يصبح حافظ المعنى الوحيد، داخل هذا التركيب الحداثي النزّاع إلى اللامعنى. حينئذٍ يمكن للحداثة أن تكتشف، بألَّا مخرج لها من متاهاتها بوصفها وجهةً لعالمٍ منزوع الابتهاج، إلا بالدين نفسه. أي أننا في لحظة تاريخيةٍ مختلفةٍ تماماً، سوف تؤول إلى إعادة تشكيل علاقةٍ بين الحداثة والدين، على أسسٍ أكثر إيجابية. ومثل هذا حصل ويحصل دائماً، بوتائر متفاوتةٍ شدةً وضعفاً في الغرب نفسه. وعليه أن يحصل عندنا بطريقةٍ أكثر حيويةً وإيجابيةً، بلحاظ ذاك المقدار من خصوصية المجال ومكتسباته الاجتماعية والثقافية والتاريخية.

سوف نتفادى الحديث عن علاقة الدين (= الكنيسة غرباً) والعلم، ولن نبالغ حتى في درجة معاداتها المطلقة للعلم والعلماء، مادام التاريخ لا يفتأ يطالعنا بشواهد، على أن كبرى الثورات والإصلاحات الدينية التي شهدتها أوروبا غداة النهضة، قادها القسم الأكثر تحرراً من رجال الدين واللاهوتيين(24). لم يكن الدين في النهضة وما بعدها نشازاً عن التشكل العقلي الأوروبي، الذي بات يتغذى على مقايساته الدينية، على خلفية الوفاء لتعاليمه الأكثر عقلانية وعملانية؛ حتى وإن كانت ذاكرة القسم الأعظم من الأوروبيين، لازالت أسيرة الوجع التاريخي لذلك الشكل التعسفي الثيوقراطي المغشوش، والتعبيرات التسلطية للكنيسة، التي جعلت الدين نفسه في أسر الإكليروس، لقد كان هو ضحيتها الأول. فالتسلط كان بشرياً وليس دينياً - حتى وإن استغل الدين واجهةً لتسويغ البطش والإرهاب - كما أن التسلط هو تسلطٌ على العالم وشؤونه ومصالحه، وليس تسلطاً على الأذهان والأرواح، إلا بما هي مقدمة الواجب لإحراز السيطرة على تلكم المصالح. وقد فضح إيراسموز هذا الاختزال، لما أعلن أن ما توصلنا إليه من مكتسباتٍ عقلانية، يمكن إسنادها أو الوصول إليها انطلاقاً من التعاليم الدينية نفسها، فالحاجة إلى معاقرة الفكر الوثني الإغريقي القديم، أي ذلك التراث ما قبل السقراطي في مثل هذا المقام، غير ناجزة. وقد نحا المنحى نفسه توماس مور وآخرون. إن كوبيرنيك نفسه الذي حُوِّلت محنته إلى شبه أسطورة حديثة، كان قِسًّا، وممثلاً لكهنة الكاتدرائية في مهام ديبلوماسية. وقد تحدث ول ديورانت عن ذلك الاهتمام الذي أبداه البابا (ليو) بنظريته الفلكية. بل لعل موقف لوثر وكالفان، من نظرية كوبيرنيك كانت سلبيةً للغاية إذا ما قورنت بالبابا ليو(25). هؤلاء القساوسة العلماء في نضالهم المستميت كانوا بحق طلائع لاهوت النهضة بامتياز. بهذا المعنى ندرك أن تاريخ النهضة الأوروبية وموقع الدين كفاعل في هذا الحراك التاريخي الكبير، لم يكتب إلا على أساسٍ من (الإكليروفوبي) و(الحصر المنهجي). ولعلها مفارقةٌ بالغة، أن يدعونا المؤرخ الأوروبي نفسه وبزهو العلماء، إلى إعادة كتابة التاريخ بصورة دائمة؛ كل عصرٍ يعيد كتابة تاريخه، في أفق تضخم (تابو) إعادة كتابة تاريخ النهضة الأوروبية نفسه؛ حيث كتب مرةً واحدة، وتحت تأثير هذه النزعة الحصرية والإيديولوجية. وأعتقد أنه سيكون من المفيد ونحن نتحدث عن تأريخٍ جديدٍ للنهضة الأوروبية، أن نسلط الضوء على ما يمكن أن نسميه بـ(لاهوت التحرر) أو (لاهوت النهضة)، مثلما أصبحنا اليوم نتحدث عن الدور الحيوي لـ(لاهوت التحرير) (26).

إنه الأمر ذاته بالنسبة لعلاقة الدين (=الإسلام بالعلم). فهذا ما لا يحتاج إلى الكثير من الشواهد. فلقد استطاع الإسلام كحدثٍ تاريخيٍّ بناء حضارته وحداثته قبل أن تداهمه عصور الانحطاط. كما أنه اليوم كتعاليم، لا يشكل أي عقبة ضد العلم والتحرر والحداثة. إن الإسلام نفسه ـ وتاريخياً ـ يمثل انقلاباً دينياً في صيرورة الأديان السماوية. بل إنه الصورة التاريخية الأكثر وضوحاً للاهوت التحرر والتحرير التي شهدها تاريخ الأديان(27). من هنا، وإذ لا نرى أي إشكالٍ في علاقة الإسلام بالحداثة، سنختصر القول ونقتصد في البحث لنقف عند واحدة من أبرز عناصر الاختلاف، ومن أهم مصادر التنافر البيئي؛ أعني موضوعة (العلمانية)!

ففي سياق تناولنا لهذه الإشكالية، سوف نعمل على تنزيل قاعدتين أو مفهومين من وحي التأهيل المفاهيمي الذي يتيحه مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، ألا وهما:

أولاً: التكييفانية الخلاّقة على خلفية هدم الأنساق وترصيفها، والتعاطي المتجدد والمستدام مع التعاليم.

ثانياً: مفهوم (الثابت المتحول)، ـ من دون توسط واو العطف ـ ومقتضاه أن كل شيءٍ خاضعٌ للحركة والتحول في الشؤون والاعتبارات.

إن تنزيلهما في سياق بحث موضوعة الحداثة والسؤال الديني، سوف يتحدد هذه المرة في مجال الشريعة الإسلامية والممارسة الفقهية وفلسفة الأحكام. ولكن قبل ذلك بقليل، سنقف عند الإطار العام، ولندخل إشكاليتنا من الموقف الممكن واللامُفَكَّر فيه، من العلمانية. على أن تناولنا لموضوعة علاقة الدين (=الإسلام) بالعلمانية، يستدعي سؤالاً أساسياً: أي علمانية نقصد؟ إننا نحدد إطار نقاشنا في ذلك الحد الأدنى من معنى (العلمانية) كما يظهرها أصلها اللغوي الذي تستند إليه في كل حجاجاتها، باعتبارها، دعوةً تمنح الأولوية للعلم وللعالم(28). ومنهجنا في بحث هذه الإشكالية لن يكون حصرياً أو اختزالياً، بل سوف يكون منهجاً أكثر ظواهرية من حيث وضع كل المسبقات من أحكام القيمة بين قوسين، وتجاوز كل أشكال الاختزالية. إنه منهجٌ قائمٌ على إرادة الفهم وحسن الإنصات، والدنو قدر الوسع من الحد الأقصى من المعنى. إذ الاختزالية آفةٌ لا تستثني رؤيةً دون أخرى. ففي صلب هذا الصخب الديماغوجي، تضيع الكثير من الحقائق، وتتساقط الكثير من عناصر التفاهم والتقارب. إن المعنى لا ولن نقبض عليه في لجة عنف الخطاب ذي الطابع الاستئصالي المتبادل. وهكذا قد تجد في قلب المؤسسة الدينية من يحسن الإنصات على مدَّعَى العلمانية، كما قد تجد في الدائرة اللادينية من يقف من العلمانية موقفاً جذرياً(29). لكن بما أن أي نزاع لا بد له من موضوع؛ فما هو الموضوع الحقيقي لهذا الصراع الأزلي بين الدين (=الإسلام) والعلمانية في مجالنا المحلي؟. إن الاختزالية الحصرية ليست موقفاً خاصاً بفئة دون أخرى، بل إن حضور هذه الاختزالية الحصرية يبدو كثقافته لدى الطرفين.

ليس من الموضوعية بمكان، الحديثُ عن دينٍ أو جوهرٍ للدين بالمعنى العام. فهذه واحدةٌ من الدعوات التجريدية المستمَدَّة من صميم الرؤية الاختزالية الحصرية. ولقد جاءت كل القراءات والمقاربات المعنية بعلاقة الدين بالمجتمع أو بالدولة في الغرب، محصورة في نموذج الحداثة الغربية والمسيحية الغربية. ولاشك أن الموضوعية قاضية بأن يجري الحديث دائماً عن دين ما في مجال ما. وهذا النوع من التخصيص، هو مطلبٌ أنثروبولوجيٌّ بقدر ما هو مطلب الدين الإسلامي نفسه. إنه لا مجال لإسقاط تجربةٍ على أخرى، ومحاكمة دينٍ بدينٍ آخر. فالإسلام هو الدين الأكثر صرامةً في اختبار حجج الأديان، واستدعائها إلى الكلمة السواء، أو المحاججة بالبرهان، لإثبات صدقية الدين الأكثر نجاعةً والأكثر جدارةً لإسعاد النوع.

 إذا بقينا في الإطار اللغوي العام للعلمانية بالمعنى الذي يفيده لفظ علمانية - بكسر العين وفتحها، سواء بسواء - فهو دينٌ علماني -بالكسر- رافضٌ للسحر، وداعٍ إلى الدليل العقلي والبرهان، والتفكر في النفس والكون، والنفوذ من أقطار السماوات والأرض... وهو أيضاً علماني ـ بالفتح ـ معنيٌّ بقضايا العالَم والناس، وباني حضارةٍ ودولةٍ واجتماع... وهو ليس إكليروس مقابل للايكوس، من حيث هو دين جميع الطبقات. فلا يقال إنه مقابل للاّئكية، بالمعنى اللغوي والتاريخي. فهذا القدر من الاحتفال بالعلم والعالَم هو مكسبٌ للعرب وللمسلمين جميعاً، حيث إن مثل هذا التعلمن والتعولم لم يحضرا في المؤسسة الدينية في أوروبا غداة النهضة. إن أي دعوةٍ للمقايسة، فضلاً عن أنها تفتقر إلى الموضوعية العلمية، وتعزز آفة الحصر المنهجي والاختزال، هي مقايساتٌ لن تجديَ شيئاً في عملية البحث عن جسور الحوار والنقاش الحر حول قضايانا. إذ الاختزال يولِّد الاختزال المضاد. والاستئصال يولِّد الاستئصال المضاد. فحصر النقاش في الدين الخاص -وليس الدين العام والمطلق - أمرٌ ضروريٌّ لإعادة إنتاج هذه العلاقة على أرضيةٍ أكثر انفتاحاً وأقل تعقيداً وحصراً. ذلك بأن الخصومة للدين الخاص، قد يشارك فيها أهل الدين أنفسهم. وقد بدا في مواقع مختلفة، أن الدين واللادين في أوروبا وقفا صفًّا واحداً في صيغة تكتلٍ تاريخيٍّ ضد (الإسلام). واليوم إذ يعلن مارسيل غوشيه، عن دين الخروج من الدين، البادي في عملية التخارج الحاصلة في ثاني الأقانيم (الابن)، فإن معتقداً كهذا ضاجّّاً بالأسرار، لهو أبعد عن العلم مهما تم تظهيره تأويلاً بأنه انقذافٌ في متاهة العالم. لقد جعل الإسلام أمر الدنيا وشؤونها شاغلاً مشروعاً لذهن المتدين حتى في أوج تروحنه، بل في صلواته التي هي محلٌّ لحدوث الأسفار الأربعة. فهذا في منطق الإسلام ليس تدخّلاً في شؤون الحياة، بل هو مصالحةٌ وتواصلٌ بين الدين والعالم. فطالب الملح والكلأ في السجود، لمدرِكٌ لا محالة بأن للملح وللكلأ في زمان النزول بله زمان التأويل، علقةً سياسيةً ما. فيصار إلى تقرير حقيقة مفادها: أن السياسة إذا لم تمارسها مورست عليك. فالتسيس هنا غايةٌ نبيلةٌ ومقصدٌ شريف، ألا وهو تحرير الإنسان من العبودية. فتحريره من عبودية السياسة هو بممارسة السياسة. بل إن تحريره من عبودية الأديان هو بالدين نفسه. إنه دين إقحام الدنيا في الدين، وليس العكس. ومزجٌ لمشاغلها في صلب العبادات والابتهالات. إنه بهذا المعنى ليس تدييناً للعالم، بل علمنةً للدين. وكل ذلك باعتبار أن الإسلام ليس ديانةً روحيةً خالصة، ولا هي ديانةٌ ماديةٌ خالصة. إنها ديانةٌ من سنخ هذا التركيب المزجي الإنساني في بعديه الروحي والمادي. إنه دينٌ روحيٌّ ماديٌّ، أو ماديٌّ روحي. وتلك هي مشكلته بالأمس مع الديانات الروحية الخالصة، ومشكلته اليوم مع الديانات المادية الخالصة؛ حيث كلها في منطقه دين، وكل تمذهبٍ في تصور الدين هو دين، حتى الحداثة إذا ما عاقرت لاحقتها (ism)، فستصبح ديناً، من منطلق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. لذا تعيّن بألَّا تصبح الحداثة ديانةً جديدة، فهذا من شأنه أن يدخل البشرية في أكبر مفارقةٍ تاريخية.

هذا، وإذا كانت بعض الممارسات الكهنوتية للدين بما فيه الإسلام، قد أضرَّت به، وساهمت في اتساع الهوة بينه وبين العالم والناس، فإن فهماً حقيقياً للدين من شأنه أن يجعل منه ممارسةً توحيديةً شاملة، تنظر إلى الكائن بعين الوحدة لا بعين الشروخ المفتعلة، كائناً يدور دورته الكاملة من عالم الخلق إلى عالم الخلق بالحق، مروراً بعالم الحق. فهو من الخلق إلى الخلق، ككائنٍ عاقلٍ وعارف؛ أي بمعنى آخر، ككائنٍ حداثيٍّ ودينيٍّ متعدد الأبعاد، ومزجيِّ التركيب والسنخية. وحق علينا أن نتساءل: ماذا خسر العالم يوم أصبح الدين والحداثة خصمين لبعضهما البعض!

الشريعة ليست متعالية

لعل المثل الأبرز على بؤس الاختزالية الحصرية في مقاربة الدين الإسلامي، هو اختصاصه بقسمٍ شريعيٍّ يمثل المساحة الأكبر في تعاليمه. إن مجرد وجود شريعة، ينقل الموضوع من كونه علاقةً بين الإسلام والعلمانية، إلى كونه علاقةً بين علمانية الإسلام وعلمانية أوروبا. فالنزاع لن يصبح حول العلم والعالَم، بل بين فلسفةٍ ماديةٍ أحادية، وبين فلسفة ماديةٍ روحية، أو روحيةٍ مادية، هما ما يشكل خلفيةً لكلا العلمانيتين. إن مثل هذا الحصر الذي تقع فيه بعض التيارات العلمانية الاختزالية، هو نفسه ما تقع فيه بعض التيارات الإسلامية، التي تنظر إلى الشريعة كما لو كانت غايةً إلهيةً في ذاتها، أو مجالاً ثابتاً غير متحرك، متعالياً غير متدانٍ. وفيما يلي، سنبرر فهما آخر للشريعة، بما يحررها من هيمنة الأحكام المسبقة، والظاهرية، سواءً تلك التي لا ترى لها أي قيمةٍ تذكر، وتلحقها بالإرث الإكليروسي البائد، أو تلك التي ترى فيها الغاية القصوى للكائن، حيث الشريعة منظورٌ إليها ها هنا بغلوٍّ وحصرٍ ومجمودية.

أيُّ معنىً للشريعة في ضوء التبني الحضاري والتجديد الجذري؟

ليست الأحكام في الشريعة ثابتةً بل متحركة. وليست أحكاماً بسيطةً بل إنها مركبة. فالشريعة تمتد وتتسع ويعاد تشكيلها باستمرار. ما يجعل المهمة يسيرةً على فعل التكييفانية في المجال التشريعي الإسلامي نفسه. ولعل مشكلات الشرائع الأخرى ذات الخلفية الدينية، أو آفة المنظور إلى الشريعة الإسلامية لدى بعض أبنائها، هو ما جعلها مسألةً إشكالية. إن الشريعة ليست مقدسةً في ذاتية أحكامها، بل إنها مقدسةٌ بالعَرَض، من حيث أن مقاصدها خادمةٌ لمصالح الإنسان المكلَّف والمستخلَف. فهو أشرف ما في هذا التركب الحكمي كما سنرى.

الأحكام متحولة لا ثابتة

وحدهم الفقهاء والمجتهدون يدركون حقيقة هذا البناء الشريعي، الذي يتشكل من أغلبية الأحكام الظنية لا الواقعية. وقد جاء علم أصول الفقه ليملأ هذا الفراغ الذي أدى إليه غياب الحكم الواقعي، الذي باتت دائرته تضيق يوماً بعد يوم، منذ بدء الانسداد وإلى اليوم، حتى بات ممكناً اعتبار الشريعة ظنيةً بامتياز. وحاشا أن يرقى الظنيُّ إلى الواقعيِّ اليقينيِّ في الاعتبار، لولا أن الشارع أمضاه -للمصلحة السلوكية(30)، بعد أن قامت أدلةٌ أخرى على اعتباره، نزولاً عند ضرورات رفع الحرج عن المكلَّف وإبراء ذمّته. فمدار الأحكام واقعاً وظناً هو المكلَّف وحاجاته، تدور مدار إمكاناته وضروراته وظروفه ومصالحه المشروعة، حتى قيل بحق: حيثما وجدت المصلحة، فثم شرع الله(31). وحقَّ أن يكون المتبوع أشرف من التابع. فكان الإنسان أشرف من الشريعة، حيث ما هي في نهاية المطاف إلا خادمه ووسيلته لتحقيق مصالحه، وآلته لرفع الحرج ودفع الضرر، وجلب المنافع والمصالح. من هنا يصبح الخطاب الأصوليُّ الصلب -الذي يجعل من الشريعة غاية الغايات، بإغماضٍ عن حيثياتها وموضوعاتها ومتعلقاتها ومقاصدها وفلسفتها، وجعل الإنسان تابعاً لها لا متبوعةً له، أو ناظرةً لأحواله وشروطه وضروراته في الزمان والمكان -خطاباً استلابياً، وقلباً للحقائق، حيث يصبح شرف الكائن متحققاً بتمثلها بمنطق المقهور لسلطان حكمها، لا حقّ له في المساءلة والتحري عن مقاصدها، ولا حقّ له في الاستنطاق والاجتهاد والفهم، حتى في أزمنة الانسداد. فهي ثابتة، لذا تعيّن عليه أن يَثبُتَ ويُثبِتَ معه زمانيته. وقد عزَّ على هذا الاتجاه، الإدراك بأن خَرَسَ الشريعة وثباتَها، إنما حصل من ثبات همّة المتلقّي، وخلطه بين زمان التنزيل والتأويل. أو زمان الوحي وأزمنة الانسدادات العظمى. فشرف الشريعة فيما تفرزه من أحكام، جالبة للمصالح دافعة للمفاسد.

إن الأحكام في الشريعة متحركةٌ غير ثابتة. مرنةٌ غير جامدة. وللمتشرع مدخليةٌ في تشخيص موضوعات الأحكام. وله أن يأخذ بالعرف الصحيح، ما لم يكن هو في حد ذاته معارِضاً لمقاصد الشرع، حيث هي مقاصد العقلاء، من منطلق أنه ـ أي الشرع ـ هو سيد العقلاء. فهو مشمولٌ في السيرة العقلائية، واقعٌ في طولها.

إن قاعدة (الثابت المتحول) جاريةٌ على نحوٍ من الجريان الشمولي على كافة الأحكام وموضوعاتها. فقد تكون الأحكام الخمسة ثابتةً في نفس الأمر، لكنها متحولة بشرط انطباقها على مصاديقها وجريانها على الموضوعات. إن ما كان واجب الإتيان هنا، قد يغدو واجب الترك هناك، عند طُرُوِّ العناوين الثانوية، نظير حرمة الصلاة الواجبة في الأرض المغصوبة. وقد يتحول واجب الترك إلى الإباحة عند طُرُوِّ العناوين الأخرى، نظير لعبة الشطرنج، التي تبدّل عنوانها من آلةٍ للقمار، أو آلةٍ لهويّةٍ، إلى آلةٍ رياضيةٍ ممرنة للعقل. ولا نشاطر الرأي من لم يعتبر الأحكام الثانوية جزءاً من الشريعة. حيث يبدو أن القائلين بذلك متأثرون بفكرة الثبات وأشرفيته. معتبرين الثانويَّ عرضاً والأوليَّ أصلاً(32). والحق، إذا كان شرف الكائن والموضوع والمتعلق كامنٌ في حراكه، فإن شرف الحكم كذلك. فالأحكام الثانوية فوق أنها تنتمي للمنظومة التشريعية، هي أشرف من الأولية عند المكلّف الواقع في قبضة النازلة والبلوى. هذا مع أن البارئ تعالى يقول: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. فالشرائع متنوعةٌ مختلفةٌ بحسب القوانين الطارئة في حياة الإنسان الفردية والجماعية. والأحكام الثانوية حاكمةٌ ولها فضل السبق والأولوية في مقام الامتثال. إن الأحكام الثانوية هي أحكامٌ قائمةٌ بذاتها، تمثل ضرباً من النزول الحكميِّ المجدد، وليست عارضاً ضعيف الشرعية في المقام، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان. ليس لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فقط، -ذلك المعنى المصداقي الذي يتعلق بشرائع من قبلنا- بل لأن لها مدلولاً عاماً جارياً حتى على الشرعة الواحدة، في أزمنة التأويل واستنطاق النصوص وتصيد المعنى. فالأحكام الثانوية في تقديرنا مصداقٌ جديرٌ بأن يشمله عموم الآية المذكورة، حيث في كل نازلةٍ ثمّة شرعٌ جديد. على هذا الأساس، تكون الشرعية مركّبةً ومتحركةً ومتسعة. بل إنها بطبيعة الاختصاص ناظرةٌ في التحولات الطارئة على الموضوعات والمتعلقات، وتحولات الأزمان والبقاع...

إن أحكام الشريعة أنواع، وإن مصادرها أنواع. فلا غرابة في أن من جعل الشريعة في قبال القانون الوضعي، لم يقف على حقيقة تنوع مصادره، وانقسامها هي الأخرى إلى أحكامٍ مصدرها الكتاب والسنة، وأخرى مصدرها الاجتماع والعقل والعرف، وسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء. حتى أن القسم الأول من هذه الأحكام، فيه ما هو مولوي وإرشادي، وما هو أوليٌّ وثانوي، وما هو تكليفيٌّ ووضعي(33).. فالأحكام تتعدد وتتسع مواردها، باتساع دائرة النوازل وتنوع مدارك البلوى. حتى أن الحكم الواحد يمكنه أن يتحول إلى ما دونه، بفعل الاعتبار وما يطرأ عليه من عناوين، أو ما يطرأ على الموضوعات من أحوال، أو ما يلفُّ متعلقات الأحكام من حيثياتٍ واعتبارات. إن حركة الأحكام تعود في نهاية المطاف إلى حركة المكلّف الشرعي، بوصفه إنساناً يحيا في المجال. والمتدينون وحدهم يدركون ـ ولكنهم للأسف عادة ما يذهلون عن هذه الحقيقة ـ أن (الله) تعالى في غنىً عن الشريعة والمتشرعين. بل إن الشريعة هي العنوان الأصدق على رحمة الله بعباده. على أن للرحمة آثاراً ومصاديق. ومصداقها الأعظم، مراعاة حاجات الناس ولحاظ تطلعاتهم ومشاكلهم ومصالحهم، واعتبار القوانين التاريخية والاجتماعية، التي هي مخلوقةٌ لله مثلما هي الشريعة. إن حراكية الأحكام نابعةٌ من بنيتها المركبة، حيث ليس الحكم جعلاً بسيطاً لا يفترض تاريخاً ولا ينظر في مجال، بل إنه جعلٌ مركبٌ له تاريخيته ومجال توقعه، حيث المكلّف (=الإنسان) بكل ما يحيط به من شروطٍ وآثار، يدخل في هذا التركيب الحكمي. فالحكم كما قلنا له منازل ثلاثة: أولها الحكم لحظة الجعل والإنشاء، وثانيها الحكم لحظة التنزل والمجعولية، وثالثها الحكم لحظة الامتثال. إن المكلّف غير معنيٍّ بالحكم لحظة الإنشاء. وإنما هو معنيٌّ فقط بالمرحلة الثانية من صيرورة الحكم، أي المجعولية والامتثال، حيث يصبح المكلّف معنياً بامتثال الحكم، لا أعذار ولا عناوين طارئة ترفع الامتثال برسم الحكم الثانوي. وتلك هي تاريخية الجعل نفسه، وأما الحكم فهو مركّبٌ من حيث هو حكمٌ يفترض موضوعاً ومتعلقاً. وإن أي تحوّلٍ في الموضوعات من شأنه -كما لا يخفى- إبطال الحكم، لصالح حكمٍ ثانويٍّ محكومٍ بعناوين الحرج والاضطرار. من هنا كانت الأحكام تابعةً للعناوين، مؤطّرةً بها. ومن هنا كانت قاعدة لا ضرر، هي القاعدة الفقهية الأكثر حكومةً على باقي الأحكام، ليس بينها والأصل العملي سوى أنها لا تكون مجرىً عملياً في موارد الأحكام الضرَرِيّة، وفي[وفي ماذا؟ الجملة مقطوعة وناقصة] وليس بلوغها منزلة الحكومة على باقي الأصول الفقهية، نابعاً من قوة ذاتية لدليليَّتها، بل لأنها حاكيةٌ عن فلسفة التشريع ومقاصده، من حيث أن غايته جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الضرر. بل حتى الأحكام التي مناطاتها ضرَرِيّةٌ خارجةٌ موضوعاً عن حكومة قاعدة (لا ضرر) هي من ناحية أخرى، محكومةٌ بأحكامٍ ثانويةٍ تتحدد بعناوينَ أخرى، من قبيل عدم القدرة والاستطاعة، وعدم العلم بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقبح التكليف بما لا يطاق، وآيات التيسير ورفع الحرج، وحديث الرفع كما لا يخفى. فحتى في صلب الأحكام الضرَرِيّة كالصيام والجهاد والحدود، هناك جريانٌ للأحكام الثانوية، وأحكام التيسير ورفع الحرج.

وإذن اتضح أن الشريعة نفسها مصداقٌ لجريان قاعدة (الثابت المتحول)، الذي هو مقدمة الواجب بالنسبة إلى مفهوم التكييفانية الخلاّقة، التي تجعل الإنسان في حالة استئنافٍ مستدامٍ في تجديد روابطه مع المحيط، وعلاقاته مع الأحكام والتعاليم.

قد وضح أن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، يوفر إمكانية تغيير المنظور والنمط المعرفي، لصالح رؤيةٍ أكثر اقتداراً على مد الجسور مع المختلِف، من موقعية الإنصات لأقصى المعنى، ووضع الأحكام الاختزالية بين قوسين.

عـود على بـدء

لاشك أن أي تناولٍ للعلاقة بين الحداثة والدين، لن تؤديَ إلى نتيجةٍ ما لم نغيّر المنظور، وما لم نتخلص من هذا الاختزال الحصري. فالتعاطي مع المشكلة على أساس التشرنق، والاكتفاء والتجوهر الذاتيين، أو بتعبيرٍ أوضح، الانطلاق من دنيا كل طرف من طرفي الإشكالية كما هو، ليس بالمعنى (النفس أمري)، بل بالمعنى الممأسَس لكليهما، لن يجديَ نفعاً البتة.

إن مسؤولية تذليل هذا الإشكال ذي الطابع الديماغوجي، الذي يصل أحياناً حد الإسفاف، هو مسؤوليةٌ مشتركة، حيث بقدر ما أن (الإسلاميين) مدعوّون إلى إعادة بناء القراءة، وبالتالي إعادة بناء رؤيةٍ جديدةٍ أكثر موضوعيةً وعلميةً من الحداثة ومظاهرها، فإن (الحداثوي) هو أيضاً مطالَبٌ ـ ليس في مجالنا الخاص فحسب، بل حتى في المجال الغربي أيضاً ـ بإعادة بناء قراءةٍ، وبالتالي رؤيةٍ أكثر موضوعيةً وأقلَّ اختزاليةً وحصراً للدين. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأشكالٍ أخرى من الدين، نظير الدين المسيحي الكنسي الغربي.

إن واحداً من شروط هذا التحول في قراءة الآخر، أن نعمل على زحزحة العقبة المعرفية الكبرى، التي جعلت كل إمكانيةٍ للحوار والتواصل مسألةً منتهية. هذا التشرنق على مواقفَ تاريخية، تجعلنا أمام واحدةٍ من أكبر مصانع التمأزق المعرفي. لقد تحددت علاقة الحداثة بالدين على أساس النفي المطلق، بناء على إخفاقٍ تاريخيٍّ لبناء جسور التواصل بين الدين والحياة، أو الدين والسياسة. ومع أنه ظلت للدين مدخليةٌ ما في تدبير شؤون الحياة، وأيضاً في التأثير السياسي، إلا أنه تأثيرٌ غامضٌ وغير ممأسسٍ داخل النسيج السياسي. لكنه قد يصل أحياناً درجةً من التأثير المكثف عبر الفاعل السياسيِّ نفسه. ذلك الفاعل الذي تشكلت خلفيته الثقافية ومشاعره ووجدانه على إيحاء التربية الدينية. لقد خرج الدين بالفعل من الأبواب الرسمية في الغرب، كي يعود مجدداً من منافذَ ومداخلَ متعددة. قد تكون كثيرةً ومعقّدةً ومتشعبة، لكنها خادعةٌ من حيث عدم حضورها في التركيب السياسي بسلطتها العارية.

إذا كانت تاريخية الحداثة مع الدين، كما تظهر في مواقف بعض الحداثيين، هي تاريخيةٌ مشحونةٌ بصورٍ من التوتر، وذاكرةٍ بالغة الاسوداد، حيث باتت الحقيقة الدينية الإنجيلية في منتهى التضاد مع العقل العلمي والطموح الاجتماعي، فإن علاقة الدين (=الإسلام) بالحداثة، تستدعي تاريخ صدمة الاستعمار، وصورة ذلك الآخر الذي لم يمارس الاستعمار برسم علمانيته فحسب، بل حدث ذلك في تواطؤٍ كنسيٍّ أيضاً. كان الاستعمار تعبيراً عن أطماع الغرب، الغرب الإمبريالي بكل مكوناته الثقافية والدينية.

إننا اليوم في مفترق الطريق، من الخطورة حيث لا مجال للاختيار، ولا مندوحة عن التواصل والحوار. فالمجتمعات العربية والإسلامية تعيش على إيقاع التردد في اختياراتها. وحيث إن أي اختيارٍ ينحو منحى العزلة والتشرنق، سوف يكون مآله الفشل والاندحار، تحت سطوة المعطيات الأكثر رسوخاً في هذا الاجتماع العربي والإسلامي. لا أدعو هنا إلى ذلك الضرب المغالِط من التواصل السلبي، أو الوسطية الهوجاء، أو المراجعة السطحية، بل أدعو إلى التواصل الإيجابي والوسطية الحركية، كما يتيح ذلك مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري. وأعني بالتواصل والتوافق السلبي، ذلك الذي ينطلق من وإلى الدائرة الماهوية أو (النفس أمرية) للقضايا والأفكار. مع أن مقتضى تفكيك الأنساق، القبض على التعاليم الماهوية مجردةً عن تلبساتها بالموضوعات، وخارج تأثير تأويلات الحامل التاريخي له، وهو خطوةٌ منهجيةٌ رئيسةٌ في ضوء التبني الحضاري والتجديد الجذري. غير أن ما نعنيه بالتواصل، هو ألاّ نغفل التلبسات العلمية والتشخصات الضرورية، السابقة على تدشين النقاش الحر والتواصل الإيجابي. وهذا يتطلب قدراً من التسامح، وأرضيةً أخلاقيةً للقبول بالآخر كما هو قبل الحوار، وحتى بعد الحوار. مع فرض بقاء كل طرفٍ على ما هو عليه. مع أن من شأن الحوار والنقاش الحر، المحكوم بأرضيةٍ أخلاقيةٍ صلبةٍ ونزوعٍ للتسامح كبير، أن يجعل كل طرفٍ يضيف إلى رصيده الكثير مما في رصيد مناظره، وذلك هو أهم ما تساهم فيه المناظرة على مستوى إثراء العلم وتعدد المعنى. إن النقاش في نطاق (نفس الأمر) أمرٌ يسير، وربما نتائجه ناجحةٌ دوماً. غير أن الأهم في التواصل أن يتم النقاش الحر في مجال التشخص الشرطي. أي: كيف نتواصل في مطارح الموجود لا في مجاهل الإمكان فقط. أي أن التلاقي في شرط الوجود المشخَّص، أهم من التلاقي في مطلق الإمكان الموسَّع والمجرَّد. اللهم إلا أن يكون التلاقي في مطلق الإمكان بمثابته مقدمة الواجب في التلاقي في مقيد الواجب.

إننا ندرك خطورة الموقف؛ فبعض التعبيرات الدينية هي بلا شك، مستفزة للحداثة، كما أن بعض التعبيرات الحداثية المؤدلجة، مستفزة بطبيعتها للدين. وهذا أمرٌ ينبغي الاعتراف به من دون التفاف على الموضوع. لكن جدوى هذا التلاقي يستمد مشروعيته من مشروع رؤيةٍ سميناها التبني الحضاري والتجديد الجذري، التي تبحث في الإمكان الحداثي كما تبحث في الإمكان الديني. وهي هادفةٌ إلى رفع الشقاوة عن العقل العربي والإسلامي المعاصر، وتحريره من آفة الحصر وهذياناته وسجونه النفسية والمعرفية.

لقد اعتبرنا (الحداثة) في نهاية المطاف صيرورةً اجتماعية وتاريخية، فهي بالنتيجة (قوّة). وإن القبول بشروط الحداثة في الاستقواء العلمي والثقافي والاجتماعي، هو في نطاق ما دُعي إليه المسلمون، بإعداد القوة. ليس لممارسة الإرهاب كما يبدو للبعض، بل لمنع أي محاولةٍ لممارسة الغلب في حقهم واستباحتهم. إرهاب العدو من بعيدٍ بالنموذج والمنعة. ففرقٌ كبيرٌ بين إرهاب القويِّ وإرهاب العاجز. إرهاب القويِّ مانعٌ من حدوث الإرهاب بالفعل، وإرهاب العاجز لا يتم إلا بحدوث الإرهاب بالفعل(34). إن الحداثة ليست ملائكيةً، ولكنها أيضاً ليست شرًّا مطلقاً. ففي قلب الحداثة ثمة جبهاتُ معارضةٍ مفتوحةٍ ضدَّ تمركزها وقمعها ومفاسدها. وإذا انزوينا وخرجنا من منطق الحداثة، فسوف نساهم في تقوية شرورها، إلى حدٍّ سنجعل منها مجرد أسلحة دمارٍ شاملٍ، وانحرافاتٍ خلقيةٍ، وظلمٍ اجتماعيٍّ، واستغلالٍ طبقي... إن الاندماج في الكون الحديث، ومدَّ جسور التواصل مع جبهة الخير داخل الغرب، من شأنه أن يغلِّب خيرَها على شرِّها، فإذا بها تتحول من وجهها القميء إلى وجهها الآخر. فبدل أن تكون عبارةً عن عناوينَ من قبيل أسلحة الدمار الشامل، أو انحرافاتٍ خلقيةٍ أو ظلم اجتماعيٍّ، ستصبح عدالةً اجتماعيةً وحقوقاً للإنسان، وتقدماً وازدهاراً ورفاهيةً روحيةً ـ ماديةً، وبنيةً مفتوحةً غير ممركزة، وسِلماً اجتماعياً وتسامحاً، ونزعاً لأسلحة الدمار الشامل، وتكتلاً لمحاربة الأمية والفقر والتخلف والتلوث البيئي... وإذن لن ندع الحداثة للأشرار، إن أية دعوةٍ للانزواء ورفض الحداثة، هي تقويةٌ لشرورها، أو على الأقل تؤدي لأن تصبح قدرتها التدميرية في يد أشرارها، ولك أن تتوقع بعدئذٍ ما يمكن أن يحدث! إن الدين يمكنه أن يقوم بدوره داخل الحداثة، حيث وظيفة الدين تقديم حلولٍ للواقع والمتوقَّع. وحماية الكائن من الإحباط وخيبات الأمل التي يفرزها واقعه المادي، وأيضاً، وهذا هو المهم، فإن الدين هو مخزون المعنى الوحيد، في لجة هذا الحراك الجارف للمعنى، وهذا التجاذب نحو اللامعنى. إن الحداثة والدين بإمكانهما إعلان المصالحة بينهما من دون وسيط، غير وسيط المنظور الأكثر إيجابيةً ونجاعةً، وذلك بتجاوز الحداثة لتمركزها النافي للغير، غير المستوعب له في آفاقها الممكنة، وبتجاوز المسلمين لشقاوة وجودهم الحضاري، وتجاوزهم لمنظورات أزمنة الانحطاط. إن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، يؤمِّن بلوغاً معافى إلى حيث تصالح الممكن الديني مع الممكن الحداثي.

 

الهوامش:

* ورقة مقدمة لندوة (الحداثة والسؤال الديني)، نظمتها جمعية (الرائد للثقافة والتنمية) في مدينة العرائش ـ المغرب، يوم 23/10/2004م.

(1) إذا كانت مصر قد أحرزت قصب السبق في تفجير سؤال النهضة والتحديث العربيين، في زمنٍ أبكر مقابل البلدان العربية الأخرى، فذلك نظراً لكونها أول بلدٍ عربيٍّ تعرض للغزو والاستعمار الحديثين. غير أنه سرعان ما لحقت بذلك بلاد الشام أيضاً، حيث ساهم أهلها بدورهم في تعزيز مشروع النهضة العربية وسؤال التحديث. لقد استمر سؤال التحديث في بلادٍ عربيةٍ أخرى غير مصر والشام، كانت هي الأخرى قد دخلت دورة الاستعمار، مثل شمال أفريقيا. لكن قلَّما أُدرجت هذه التجارب في مجمل ما أُرِّخ به للنهضة العربية الحديثة، باستثناء ما ورد من أفكار لخير الدين التونسي. لم نقف على آراء للمختار السوسي المغربي مثلاً، أو آراء للحجوي وابن المواز وغيرهما في بلاد المغرب. قد يتساهل البعض ويعتبر ذلك ناتجاً عن ضربٍ من التجاهل المقصود، بسبب النزعة التمركزية لباحثين ومثقفين مشرقيين عموماً أو مصريين خصوصاً، لكن في تصوري هذا ناتج عن إهمالٍ من قبل المعنيين بهذا التراث الإصلاحي والنهضوي من الباحثين المغاربة أنفسهم. فلا زالت كبرى هذه النصوص مخطوطاتٍ لم ير منها النور إلا النزر القليل. والتأريخ للنهضة والتحديث والإصلاح في هذه البلدان لا زال في محاولاته الأولى. فلا ننسى التنويه بأولى المحاولات التي اضطلع بها د. سعيد بن سعيد العلوي في هذا المجال.

(2) أعني بالمستعمر ـ بفتح الميم الثانية ـ الوجهين معاً، أي المستعمَر المستلَب والمستعمَر الرفضوي. فكلاهما يعبّر عن الجرح ذاته والإحساس نفسه. وقد شهد المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أشكالاً من التفكير الاستلابي الذي ربط بين الاستعمار والحداثة، إلى حد الاستسلام لإرادة المستعمر والالتحاق به، كما صرّحت بذلك آراء سلامة موسى ولطفي السيد.. كما أن الموقف المعكوس سيستمر مع فئة من الرفضويين، الذين وقفوا من الحداثة موقفاً سلبياً، انطلاقاً من كونها بضاعةً استعماريةً مرفوضة، وهذا ما سنجده تباعاً في مقالات التيارات التي جاءت على أنقاض التراجع المهول لخطاب النهضة والإصلاح، وصعود نجم التيارات الغالية المتطرفة كما شهدنا ولا نزال نشاهد من نماذجها في عالمنا اليوم.

(3) لم تكن وجهة نظر المثقفين العرب واحدةً إزاء سؤال علاقة الـ(نحن) والغرب، في أفق ضرورات المجال المحلي وإكراهات الحداثة. وقد دار جدلٌ طويلٌ حول مشكلة التبعية وسياسة الاستتباع. وكما أن حركات الإصلاح والنهضة العربيين انقسمت إزاء هذا الموضوع، بين داعٍ إلى فك الارتباط الثقافي والحضاري، على خلفية العودة إلى المكتسبات الذاتية ابتغاء بناء أساسات النهضة، كان هناك من يعلن عدم جدوى ذلك رأساً، وبأن لا مندوحة من الارتباط المصيري بالمركز، والالتحاق بالغرب بلا شرط. وقد استمر الأمر نفسه وبأشكالٍ مختلفةٍ حتى اليوم. فثمة من يدعو إلى فك الارتباط مع كل ما هو ذاتيٌّ أو تراثيٌّ أو محلي، وتبنّي المنظور الغربي والانصهار في المركز، عراةً من دون حدٍّ أدنى من الاستحضار لأي قيمةٍ أخرى خارج منطق الحداثة ومنظومتها ـ مثال العروي ـ، كما أن ثمة من يعلن الرفض لهذا الاستتباع، بشكلٍ لا يبقي إلا على القيم المحلية دونما استثناءٍ لأي قيمة غربية، كالرفض الكلّيّاني للآخر وحداثته ـ مثالٌ على ذلك طه عبد الرحمن وإلى حد كبير د. غريغوار مرشو ـ.

(4) لقد ساهم سؤال الهوية في الكثير من أشكال الانزواء. ونعتقد أنه في ضوء مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، يمكننا تحرير العقل العربي والإسلامي من آفة التجوهر الماهوي، ليس بنفي صفة الجوهرانية عنه رأساً كما ذهب الكثيرون، نفي جوهرَانية العقل والقول بفعليته، تفادياً للإقرار بثباتية العقل والماهيات والهويات، كما فعل (ألمو) وتبعه في ذلك من العرب (الجابري) وسار على مذهبه طه عبد الرحمن. فهذا الرأي وإن تظاهر باختلافه مع المنظور الأرسطي للعقل، فهو يؤكد ويكرس نزعته الـ(ستاتيكية). فهم بذلك خالفوا أرسطو من حيث أكدوا على رؤيته للجوهر نفسه. فمذهبنا في الحركة الجوهرية يعفينا من هذا التمأزق الأرسطي رأساً. إن التجوهر الماهوي في نظرنا هو الذي يحفظ ماهية المتحرك، ويجعله مصداقاً للثابت المتحول. فالهويات لا تزول، بل تتطور. والذين يعملون على وضعها في القفص، أو تسويرها وحراستها بقواعدَ تداوليةٍ مغلقة، وقوالبَ إيديولوجيةٍ حالمة، لن يحموها أكثر مما لو أطلقوا سراحها في نطاق ما أسميناه بالتكييفانية الخلاّقة، والمجرى التداولي المفتوح.

(5) لا وجود لفكرٍ لم يتعرف عليه المثقفون العرب. وسواءً أكان تمثلهم لهذا الفكر على وجهه الصحيح، أم كان على وجهه المغشوش والمبتور والمحرَّف، فإن هذه الأفكار تجد لها تصريفاً في أكثر المشاريع الإيديولوجية العربية. ولعل تلك هي مفارقة الفكر العربي المعاصر. أليس ذلك شبيهاً بما يحدث في مجال استهلاك السلع والخدمات. ففي المجال العربي يستطيع المرء استهلاك آخر الموضات والمستهلكات الغربية، لكن هذا بالتأكيد، يتم بصورةٍ مبتورةٍ وهشّة، وفي مناخٍ من العلاقة المغشوشة والمستلَبة بين الكائن العربي ومستهلكاته الحديثة. فارقٌ تفضحه هشاشة التمثل، ونشاز التلقّي المفصول عن شروط الحامل الاجتماعي الحقيقي لثقافة الاستهلاك، والهوة السحيقة بين المجتمع الغربي والمجتمع العربي، سياسياً واجتماعياً وحضارياً وإنمائياً..

(6) لعل واحدةً من مقتضيات التبني الحضاري والتجديد الجذري، القطع مع النمط المعرفي الميكانيكي والـ(ستاتيكي)، بغية القبض على نمطٍ أكثر ديناميةً ونسبية. وعلى هذا الأساس، لن يكون فهمنا لمبدأ الوسطية على غرار السائد في أطاريحَ إسلاميةٍ شتى، محكومةٍ بالنمط المعرفي الميكانيكي، بل إننا نعتبر الوسطية فعلاً دينامياً نسبياً جدلياً. فهي تواسطٌ يتداخل بقدر ما يتخارج أقصَياه وطرفاه، وليس توسطاً بين أقصى وأقصى، توسطاً بينياً في التخوم بما يجعله نوعاً من التطرف التفريطي. فإذا به يكون وجهاً آخر للتطرف الإفراطي. إن الوسطية تأخذ حسب نظرنا معنىً تواسطياً وليس توسطياً.

(7) مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري لا ينظر إلى الاختيارات العلمية والإيديولوجية، ومطلق ما يتصل بالإنسان فعلاً وسلوكاً وقولاً، أمراً اتفاقياً وبريئاً. فثبوت مسؤولية الكائن المكلّف، لا يعني أن ما يصدر عن الإنسان لحظات الغفلة، ليس له جذرٌ في الأعماق السحيقة للنفس. إن ما أصاب العقل العربيَّ من رضّاتٍ، من شأنه أن ينقل آثار رواسب ردود الفعل من قاع لا وعيه الجمعي، ما يجعل النسبة العظمى من اختياراته محكومةً بدوافعَ وإيحاءاتٍ لا واعية، تجعل الخطأ والنسيان كليهما معلَّلَين بهذه التوترات العميقة. بهذا المعنى نستطيع أن نتحدث عن علم نفسٍ مرَضِيٍّ للحياة الجمعية التاريخية، مثلما نتحدث عن علم نفسٍ مرَضِيٍّ للحياة اليومية الفردية. بهذا يلتقي مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، مع التحليل النفسي في تفاصيل هذه الرؤية التعليلية . من هنا يمكننا إجراء ضربٍ من التحليل النفسي، على كل الاختيارات الفكرية والعلمية والإيديولوجية في المجال العربي والإسلامي، بناء على ما سبق.

(8) مفهوم الجعل البسيط والجعل المركّب، وكذا الهلِّيّة البسيطة والهلِّيّة المركّبة، اصطلاحان فلسفيان متضايفان، يفيدان معنى كان التامة وكان الناقصة عند النحاة. ومقتضاه أننا تارةً نتحدث عن إيجاد الشيء، كأن نقول: أوجد الله الإنسان. وتارة نتحدث عن إيجاد شيءٍ ما موجودٍ على نحوٍ ما من الوجود، كما لو قلنا: خلق من الطين إنساناً. من هنا اعتبرنا أن ما يتطلع إليه مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، هو الجعل المركب، بمعنى أننا لسنا معنيين بالسؤال: كيف نكون مسلمين ـ وهو وظيفة الدعوة، حيث هي قضيةٌ يمكنها التحقق بالوجود الفردي أو الجمعي، بتبنٍّ حضاريٍّ أو من دونه ـ بل إننا معنيون بسؤال: كيف نجعل المسلم كائناً نموذجياً تقدمياً رائداً لدورته الحضارية. فهذا مفاد كان الناقصة والجعل المركب.

(9) من شأن تغييرٍ كهذا في صيغة السؤال، أن يحرر العقل العربيَّ والإسلاميَّ من عقدة الشعور بالذنب. فالمشكلات والحلول ليست فرديةً حتى وإن كانت المسؤولية جماعيةً استغراقية، على مستوى المسؤولية الفردية بما هي في نهاية المطاف، الأساس الأول للفعل الجمعي. لكن مقتضى بنينة الأزمة والحل راجعٌ إلى ما يقع بالفعل، حيث الأزمة لا تبدأ عفويةً، كما أن الحلول لا تبدأ عفوية. الكل يتم وفق إشاراتٍ بنيوية. فالذي يرشح مدخلاً هنا للحل أو مخرجاً هناك للأزمة، هو البنية في مكرها وحراكها الكلي. أي جماع الفعل التراكمي. يبدأ الفساد في نظرنا في صورته العِلِّيَّة. لكنه سرعان ما تتجلى صورته الحقيقية بكونه فساداً بنيوياً. إن التعلق بالصورة العِلِّيّة للخلل، هو تعلقٌ بصورةٍ خادعة، لأن ما يبدو مدخلاً للأزمة ليس جانباً فاسداً في البنية، بل هو الجانب المرشح لاستقبال الخلل بفاعلية البنية المختلة نفسها. وقد يكون الجانب الأقوى في البنية، أو ما تبقّى من عناصرَ فاعلةٍ في البنية المرشحة للاختلال. إن البنى لا تختلّ ولا تنهار فجائياً، كما لا تنهض كذلك. وإذن لا جدوى من البحث عن جذور الأزمة فيما كان علّةً ومعلولاً، بل يتعين مراكمة الفعل الإيجابي لتفعيل النسق، كي يرشح إحدى مداخل الحل الناجعة، بغية تحقق التخارج التاريخي للبنى. وهذا من شأنه أن يخفف العبء عن الإنسان، ويرفع عنه هواجس تحديد وتوصيف الصيغ النهائية للحلول. إن المطلوب منه أن يعرف الحد الأدنى من المطلوب، ومن ثمة العمل في ضوئه بناء على قاعدة (عرفتَ فالزم). ليس الإنسان مكلَّفاً بتحديد النتيجة، وإن كان مطالَباً بأن يتصورها ويجتهد في رسم آفاقها، فهذا داخلٌ في شرط العمل، لكنه من باب المقتضى لا العلّة التامة. فهو معنيٌّ بالعمل واستئناف العمل. فنجاحه في العمل وإتقانه يكون مع تحقق النتيجة وعدمه، كما أن فشله في العمل يكون مع تحقق النتيجة وعدمه. النتائج التي يفرزها النسق بتراكم الفعل التاريخي، تأتي بمستوياتٍ قد تفوق حتى الخيال. فالحالمون الذين تفننوا في تصور عوالمهم اليوتوبية إبّان النهضة، من أمثال توماس مور، يظهرون أن ما آلت إليه صيرورة الأحداث، كان أروع من الخيالات المسبقة للحالمين. وقد كشف الواقع التاريخي، عن مراقيَ للحرية لم يكن في وارد توماس مور وباقي رواد الأدب اليوتوبي، لمن كان يبني جزيرته المحروسة على ما يشبه الأحلام.. فمن كان يدري أن هذه اليوتوبيا، التي لم تستطع في منتهى خيالها التحرري، أن تتحرر من كامل النمط المعرفي القروسطوي، لا بل إن يوتوبيا توماس مور لا زال نظامها يتسع للعبيد والعبودية. إن ما تنتجه الصيرورة يفوق التوقع، وهذا ما أسميه بـ(مكر الأنساق).

(10) من أهم آثار ورواسب الجرح الهزائمي الذي ارتهن له العقل العربي، صعوبة استرجاع ثقته بنفسه، وعدم الاكتراث لكل الإنجازات التي تحصل على الأرض. وكأنه محكومٌ بقانون: أخذ الكل أو ترك الكل. فالمقاومة اللبنانية والفلسطينية على المستوى السياسي والعسكري مثلاً، كان من شأنها أن تعيد النبض إلى قلبٍ عربيٍّ سكنه الرعب من أسطورة العدو الذي لا يقهر، فراح يستسلم ويسلّم ويفرّط في حقوقه تباعاً. نعم، لا أحد يرى كفايةً فيما ينجز اليوم حتى أصحابها، لكن أهم ما في هذه الإنجازات، هو خلخلة رهاب العدو، والتوقعات المبنية على هذيان وهواجس الهزيمة ورهاب الانقراض.

(11) أعتمد هنا الترجمة نفسها التي اختارها المترجم الأستاذ سرمد الطائي. وهناك من فضّل استعمال كلمة (عبر مناهجي). من جهتي، لا أرى جدوى في نقل الإشكال إلى الترجمة. فهذا في تصوري تحصيل حاصل، مادام أن المعنى هو المعتبر. فكثيرةٌ هي الاصطلاحات التي افتقدت معناها كما يوحي به لفظها. إن المفاهيم تشهد هي الأخرى تطوراً وأشكالاً من الصيرورات التعينية والانتهاكات والخروم، حيث قلما نعثر على مصطلحٍ ظلَّ وفيًّا لمعناه ومدلوله الأصلي. وهذا طبعاً، دليلٌ على مساوقة اللغة للوجود في ملتقى صيرورته. فالذين ينشدون المصطلح الأزلي، إنما ينشدون الموت للفكر وللمفاهيم وللمعرفة وللعالم. وإذن مهما دققنا في المصطلح الذي عادة ما تتم استعارته من منظوماتٍ أخرى، فلن نستطيع السيطرة على المعنى. لأن المعانيَ والمداليل هي في نشوءٍ وارتقاءٍ مستدامَين. من ناحية أخرى، أعتبر كل أشكال الاختيارات بما فيها اختيار صيغة ما لمصطلح ما، هي نابعةٌ من حقائقَ متجذرةٍ في اللاوعي المعرفي الجمعي أو الشخصي، حتى ولو بدت خاطئة. أما من ناحيةٍ أخرى، فإن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، لا ينظر إلى المفاهيم كجواهر مغلقة، كما أنه يأخذ بمفهوم التواسط بمعناه الجدلي، لا بمعناه الميكانيكي. ولذا فالمعنى الأول يتساوق مع مفهوم العبور والاعتبار، كما يمكن أن تمثله صيغة (عبر مناهجي) بينما المعنى الثاني يتساوق مع مفهوم التموقع البيني السكوني كما يمكن أن تمثله صيغة (بيتخصصي). ومع أنني سأحتفظ بالصيغة المترجمة، فإنني أعتقد أن العبر مناهجية، بما تفيده من معنى التواسط الدينامي والعبور والاعتبار الذي هو أساس التأويل، فإن نتائج البيتخصصية ليست تلفيقاً بين المناهج والعلوم المتعددة، بل هي توليدٌ ديناميٌّ وتأويليٌّ وتركيبيٌّ من داخلها. والإقرار بالصيغة الأخيرة للترجمة إذا لوحظ فيه المعنى الأخير، لا إشكال فيه. هنا يتداخل (العبر) ـ trans ـ مع (البين) ـ inter ـ في هذا المنظور التواسطي الجدلي. ولسنا من أنصار الغلو الترجمي الذي يؤدي إلى لغونة الإشكالية وجعل العلاقة بين الفلسفة والترجمة متمأزقةً بصورة مطلقة.

(12) الحصر المنهجي أو الحصرية المنهجية ترجمة لمصطلح methodological exclusionism. وقد صور الباحث أن الدوغمائية الوثوقية دخلت في تكوين هذا الأب: الاتجاه الحصري، وذلك الابن: الاختزالية. ومن صور هذه الاختزالية يضرب مثالاً في الجمل التالية:

ـ ليست قوانين المنطق سوى قوانين نفسية.

ـ ليست قوانين الأخلاق سوى قوانين نفسية.

ـ ليست أحكام الجمال سوى تجلياتٍ للذوق الشخصي.

ـ ليس الدين سوى الأخلاق.

ـ ليس الدين سوى إيديولوجيا...

د. أحد قرا ملكي، مناهج البحث في الدراسات الدينية، ص 242 ـ 243، ط 1 ـ 2004، معهد المعارف الحكمية ـ بيروت.

(13) ذلك لأنه ينطلق من فرضيةٍ عامة Macro theorie، غير خاضعةٍ للتجربة كما يؤكد الباحث نفسه. النتيجة أن الأشياء لا تُرى كما هي، بل كما هي مُشَكَّلَةٌ في قوالبَ مسبقة. وأمثال هؤلاء ليسوا قادرين على الإنصات مطلقاً. نعتقد من جهتنا، وفي ضوء مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري، بأهمية الإنصات والسماع كشرطٍ للتفكير السليم وإنتاج المعرفة. فالسماع في تصورنا، لم يعد ما كان علمُ الكلام القديم يقدمه في قبال العقل ورديفاً للنقل، بل إننا نعتبره في طول العقل وشرطاً من شروط التعقل. فالسماع بهذا المعنى هو موقفٌ ضد الاختزالية، وكل عوائق المعرفة النابعة من الحصر المناهجي.

(14) يسعى الفيلسوف الألماني المعاصر جوزيف سايفرت، وهو من أبرز رواد الفينومينولوجيا الواقعية، إلى تحرير فينومينولوجيا إدموند هوسرل، من أشكال الحصر الذي آلت إليه، وفي مقدمة ذلك موقفها من الشيء في ذاته، الذي يعتبره سايفرت من الآثار الكانتية على فينومينولوجيا هوسرل. وقد جاءت الفينومينولوجيا الواقعية كي تعيد فينومينولوجيا هوسرل إلى تطلعاتها الأولى، في مرحلة بحوثٍ منطقية، قبل معاقرة هوسرل لنقد العقل النظري؛ ومن ثمة مواصلة تطوير الفينومينولوجيا بما يخلّصها من أشكال الحصر المناهجي الذي آلت إليه.

(15) التعبير اللينيني الشهير يؤكد على ذلك. ففي نظره تكون الماركسية هي الوريث الشرعي لأفضل ما أنتجته البشرية، في الاقتصاد السياسي الإنجليزي والاجتماع الفرنسي والفلسفة الألمانية.

(16) الكثرة التي هي تعبيرٌ عن مراتب الوجود لا تنافي وحدته. وقياساً على ذلك، إن القول بتعددية المناهج في إطار البيتخصصية لا ينفي وحدة الموقف من المعرفة. فالبيتخصصية تتطلع إلى صياغة موقفٍ موحَّدٍ من دراسة وفهم الظاهرة الدينية؛ موقفٍ كونيٍّ مشترك، مهما تعددت الأديان.

(17) إن البيتخصصية لا تعني مجرد استحضار المناهج والعلوم بالجملة، في مقام النظر على نحوٍ من التلفيق والفوضى. بل لا بد من أن تنضم إلى هذا الاستدماج، خطةٌ نظريةٌ قمينةٌ بدرء آفة التلفيق عن التعددية المناهجية. وأصلاً لا قيام لبيتخصصية مع ثبوت النزعة التلفيقية.

(18) هذا أهم ما في فلسفة ملا صدرا الشيرازي النقدية العبر مناهجية الخلاقة. إنه لا يطلب من قرّائه أن يجمدوا على تعاليمها ورسومها، بقدر ما يدعوهم للقبض على ملكة التفلسف. فالغاية هي ملكة التفلسف، لا التعاليم المبثوثة في خزائن الكتب، تلك التي طالما سخر منها رائد الحكمة المتعالية.

(19) مفهوم الأسفار الأربعة يجرى على مصاديق كثيرة. فإذا وسَّعنا من مدلوله فقد يشمل ما هو أخفى من الأسفار الروحية والعقلية، أعني أن يصبح ذا قيمةٍ منهجية. على أن البيتخصصية هي نفسها تعبيرٌ وثمرةٌ لهذه الأسفار الأربعة المناهجية. فالباحث ينطلق من المنهج المحدد نفسه، باتجاه الفضاء المناهجي الأوسع. لكنه في نهاية المطاف يعود إلى منهجه المحدد، لكن هذه المرة، محمّلاً بحقائقَ مستفادةٍ من الفضاء المناهجي في صورته التواسطية التجادلية، مما يوسِّع من لحاظات الباحث، ويجعله أقدر من غيره على توسيع المنهج المذكور، معيداً ابتكاره وتجديده بصورةٍ خلاّقة. أعتقد أن هذا هو المخرج من المأزق الذي انتهت إليه الدعوة البيتخصصية، أو السؤال الحرج: كيف يتسنى لنا تحقيق البيتخصصية؟ فالجواب في تقديرنا: أن ذلك ممكنٌ بالأخذ بمفهوم الأسفار الأربعة في مداها المناهجي.

(20) لنفس الأمر في اصطلاح الحكماء، معنى الوجود الأعم. وهو يختلف عن الكليِّ وصدقِه على الأفراد، سواءً في الذهن أو الخارج. فالصدق هنا هو في نفس الأمر وفي مطلق الثبوت. إن للوجود الخارجي نحواً آخرَ من الوجود الذهني حتماً، أي الصورة الماهوية المنتزعة، بخلاف الوجود الذهني الذي قد يكون له وجودٌ خارجيٌّ وقد لا يكون له ذلك، أي أن التحقق الخارجي ليس ضرورياً ولا حتمياً في حقه. فمقتضى الحصر العقلي لأقسام الوجود، أن نفس الأمر هو وجودٌ غير الوجود الذهني والوجود الخارجي. لقد رأى القدماء لنفس الأمر دلالاتٍ عدّةً، فثمة من عنى به العقل الفعّال، وهناك من عنى به نحواً من الوجود الغامض، لا هو الوجود بشرط، ولا هو الوجود لا بشرط، ولا هو الوجود بشرط لا، كما الكلي الطبيعي. وأفترض هنا معنىً متطوراً لنفس الأمر، يجعله مساوقاً لمفهوم (النومينا). وذلك لكونه ليس وجوداً ظاهراً ولا فينومينا. فالتشخص ليس وارداً في حقه، أكان تشخصاً ذهنياً أو خارجياً. يمكننا اعتبار نفس الأمر هو الشيء في ذاته بهذا الاعتبار. وبهذا يكون الفلاسفة المسلمون قد فكّروا في النومينا قبل كانْت بزمنٍ بعيد.

(21) يستعمل البعض هذا التفريق على أساس رفض الثنائية طبعاً. فليس ثمة إلا الدين، بوصفه ظاهرةً في المجتمع وليس ظاهرةً اجتماعية. والحاصل، أن استعمالنا لهذا المفهوم، لا ينفي كون الدين ظاهرةً اجتماعية. بل إن الدين مع فرض كونه ظاهرةً في المجتمع، لن يكون كذلك إلا إذا كان ظاهرةً اجتماعية، أو له القابلية أن يكونها. فهو ظاهرةٌ في المجتمع لأنه ظاهرةٌ اجتماعيةٌ إما بالقوة أو الفعل.

(22) مثل هذه الدعوة شكلت غاية القانون الأخلاقيِّ الكانتي. وهي تظل دعوةً كانتيةً مغشوشة، لأن كانْت كان يبحث عن الجوهر المسيحي في كل دين، وليس عن الدين المطلق الكوني. وتلك هي أكبر مفارقاته، التي تؤكد على تمأزق كل دعوةٍ إلى الدين الحق، أو الدين العالمي، خارج سلطة الحجاج البرهاني التواصلي، وداخل الحصر المناهجي وآفة الاختزال. نعم إن الدين الإسلاميَّ يدعو للعالمية، وهو أول داعٍ لها قبل عصر النهضة الحديث. لكنه لم يفرضها من جانبٍ واحد، بل كانت دعوته إلى الكلمة السواء قائمةً على البرهان، حيث شرطه الاستواء فوق أرضيةٍ حواريةٍ غير مائلة. إن الدين الكونيَّ بهذا المعنى، هو دعوةٌ برهانيةٌ وليس ادّعاءً تبشيرياً. هذا في إطار النفس أمرية، أما في التحقق التاريخيِّ والخارجي، فلا يمكننا العثور على الممارسة الدينية الواحدة حتى في الدين الواحد، متى ما أصبح الدين ظاهرةً اجتماعية. وإذن ليس ثمة إلا تجاربُ دينيةٌ، وليس ثمة إلا أديانٌ متروكةٌ للقناعات والتعبيرات المتعددة والمختلفة..

(23) تحدث ماكس فويبر عن مفهوم le desenchantement du monde في كتابه: l, ethique protetante et l, esprit du capitalisme. وبتأثيرٍ منه كتب مارسيل غوشيه كتابه الموسوم:le desenchantement du monde ـ نزع الابتهاج عن العالم ـ وكتب أيضا: un monde desenchante ـ عالم منزوع الابتهاج ـ. وللتذكير فقط، أستعمل كلمة الابتهاج، التي هي المعادل العربي لـ le desenchantement، ونحن نتبنى هذا المعادل الذي هو مختار د. محمد سبيلا.

(24) يعتبر إيرازموس وراموس وديكارت وباسكال وأمثالهم، خريجي المدارس اللاهوتية.

(25) ول ديورانت، قصة الحضارة ص 130 ـ 131، المجلد الرابع عشر، تـ. علي أدهم، دار الجيل، بيروت 1988.

(26) يعتبر ريجس دوبريه رجال الكنيسة، أقرب إلى البراكسيس مقارنةً برجال العلم. ويقول: (فالشأن الدينيُّ هو إذن شأنٌ سياسيٌّ جاد، وشأنٌ اقتصاديٌّ ذو مردودية، لأنه يتصف بالديمومة).

انظر: مدارات غربية، ص 96، العدد الثالث أيلول ـ تشرين الأول 2004، بيروت.

(27) إذا لاحظنا الإشكالات الكبرى التي عالجها المتن القرآني، سنكتشف أن اللحظة الإسلامية، هي لحظةٌ حاسمةٌ في صيرورة الأديان السابقة، من حيث إنه اعتبر نفسه امتداداً تصحيحياً وإصلاحياً، وليس ديناً مفصولاً عن إشكالات أهل الكتاب. من هذا المنطلق، كانت اللحظة الإسلامية لحظة إصلاحٍ دينيٍّ شامل، بل ثورةً دينيةً غيّرت الموازين الاجتماعية القائمة على الظلم والاستبداد والجهل، باتجاه العدالة الاجتماعية وتحرير الإنسان والأرض.. إن الإسلام ثورةٌ في التاريخ؛ ظاهرةٌ في التاريخ قبل أن يكون ظاهرةً تاريخيةً واجتماعيةً وثقافية.

(28) للعلمانية بحسب الاشتقاق اللغوي معنيان: تارةً تحيلنا إلى (العالَم) من خلال seculum الكلمة اللاتينية التي اشتق منها مفهوم secularism، وتارةً تحيل إلى (العامة أو الشعب) من خلال laico، الكلمة اليونانية التي اشتق منها مفهوم la laicite. فبينما عنت العلمانية في اشتقاقها اللاتيني: العالَم. عنت في اشتقاقها اليوناني كما ترسّخ في الثقافة والوجدان الجمعي الفرنسي، معنى الشعب والعامة، في قبال الإكليروس، أي رجال الدين أو النخبة. ولذا كان من باب التحقيق، التعبير عنها بلفظ: العالمانية، بما تشير إليه من معنى: العالَم والناس.

(29) ليس الموقف السلبيُّ من العلمانية بالضرورة موقفاً دينياً مقصوراً على أنصار الأطروحة الدينية، بل مثل هذا الموقف وأقوى منه نجده عند مثقفين حداثيين وما بعد حداثيين في العالم العربي. يمكننا الحديث هنا عن موقف محمد عابد الجابري، وإلى حدٍّ ما أركون في موقفه من بعض المواقف المتطرفة للعلمانية، وأبو يعرب المرزوقي وحسن حنفي وعلي حرب، وآخرين أكثر جذريةً، أذكر من بينهم د. غريغوار مرشو.

(30) هذا من أجمل تعبيرات الشيخ مرتضى الأنصاري رحمة الله عليه، في رسائله، وهو مدار حديث الفصل بين الدليل والأصل. باعتبار أن قيمة الأصل فيما يوفّره من وظيفةٍ للمكلَّف. فالمصلحة في النهاية هي سلوكيةٌ تكمن في ذات الجري العملي، حتى وإن لم يكن الأصل كاشفاً عن الواقع. والحق أنه يمكننا القول هنا، بأن الأصل في غياب الدليل، لم يعد موضوعه الكشف عن واقع الحكم إنشاءً، بل موضوعه الوظيفة العملية، بما يعني إنشاءً جديداً لواقعٍ جديد. فالمقابلة بين الواقعيِّ والعمليِّ في مستوى المصلحة السلوكية، قد يكون فيها ما يوحي بالتقابل الحقيقيِّ عند الاشتباه، وفي هذا، إن حدث، مسامحةٌ قابلةٌ للنقاش، حيث العمليُّ هو المناط المشترك بينهما، سواءً أكانت الواسطة في ذلك كشفيةً أو إنشائيةً. فلا يختص الأصل وحده بتلك المصلحة، بل هي مصلحةٌ مشتركةٌ مع الدليل أيضاً. وكأن الشيخ الأنصاري أراد بذلك القول، إذا لم نحرز الواقع بالأصل كما هو الدليل، فهناك المصلحة السلوكية التي ستبقى محفوظةً عند جريان الأصل، وإن غاب الجانب الكاشفي: فما لا يدرك كله لا يترك كله. من ناحيةٍ أخرى، لا تَضادَّ بين الواقعيِّ موضوع الدليل، والظاهر موضوع الأصل، مادام أن اجتماعهما ليس وارداً. ليس فقط لأن العمليَّ متأخرٌ رتبةً عن الواقعي، بل لأنه متأخرٌ عنه برتبتين؛ إحداهما تأخر الحكم عن موضوعه كما لا يخفى، والثانية تأخر الحكم الظاهريِّ عن الواقعيِّ برتبةٍ أخرى. ففي المحصلة يتأخر الظاهريُّ عن الواقعيِّ برتبتين، فلا تناقض في البين. فالمصلحة السلوكية هاهنا ليس لها مقابل، كأن يقال مثلاً: المصلحة الكشفية مقابل المصلحة السلوكية، حيث الغاية في النتيجة كامنةٌ في الامتثال. وما الكشف إلا واسطةً وجدانيةً في ثبوت القطع. فيما المحركية واحدةٌ، سواءً أكانت الحجية ذاتيةً، كما لو تعلق الأمر بالقطع الطريقي، أو عروضيةٍ غريبةٍ وأوسطٍ منطقيٍّ، كما لو تعلق الأمر بالقطع الموضوعيِّ والأمارات والأصول العملية. فالمناط هو العمل والامتثال. والمصلحة السلوكية ثابتةٌ في الكل.

(31) على أن تكون مصلحةً حقيقيةً بمعاييرَ تشخيصيةٍ حقيقيةٍ وعادلة، وليست أهواءً شخصيةً أو فئوية. تُعتبر المصلحةُ شرعيةً، ما دامت حكماً قائماً على ضربٍ من التشخيص، ملاحِظٍ لمقاصد الشرع ومبنى العقلاء، والمقاصد العليا، والمصلحة العامة المبنية على العدالة الاجتماعية.

(32) حتى مع فرض صحة ما ذهب إليه هذا النفر، بأن الأحكام الثانوية ليست جزءاً من الشريعة، نكون قد حكمنا على أن الشريعة لم تعد كلها كذلك، بما أن أغلب الأحكام الناظرة في النوازل هي من قبيل الثانوية.

(33) الحكم الوضعيُّ في الاصطلاح ما يقابل الحكم التكليفيَّ المولوي. ونحن نرى أن الأحكام وضعيةٌ بالمعنى الشائع للعبارة، باعتبار أن الحكم بالنتيجة يمر من مراحل، ويلاحظ جملة اعتبارات، أهمها حال المكلَّف، وشروط التكليف، من القدرة والعلم وارتفاع المانع. وإذن نحن أمام حالةٍ من المواضعة بين الشارع وحال المتشرع، التي هي عبارةٌ عن إمضاءاتٍ وإقراراتٍ لشرائعَ إنسانيةٍ، جرى العمل بها حتى في المجتمع الذي كان موسوماً بالجاهلي. وما ثبوت الحقيقة الشرعية إلا أمارة على أن القسم الأعمَّ غير المستثنى من تلك الحقائق، لا زال يحتفظ بمواضعاته بحسب العنايات العرفية واللغوية.

(34) كثيرون هم الذين يستشهدون بالآية الكريمة أعلاه، ليبرروا بها بعض الممارسات الإرهابية المرفوضة عقلاً وشرعاً وذوقاً. وقد تبدو تلك المغالطة في منتهى السخف والخطورة أيضاً. وحق علينا بيان المراد من الآية درءاً للفوضى. إن المعنى هنا يتعلق بأمّةٍ مشغولةٌ ذمّتها بالتزود بأسباب القوة وعناصر المنعة للدفاع عن حوزتها؛ القوة الاستعراضية التي من شأنها أن تدفع طمع المعتدي بها. الإرهاب النفسي وليس المادي، والإرهاب النفسي عن بعدٍ للمعتدي لا للناس. فالضعف في حد ذاته داعٍ من دواعي الاعتداء. فكل ضعيفٍ يدعو بالقوة أو بالفعل إلى أن يكون هدفاً للاعتداء ـ يكاد المريب يقول خذوني ـ. القوة رادعة، والإرهاب الذي يصدر عن القويِّ الحقيقيِّ هو نفسيٌّ وعن بعد، يحاصر الأطماع في النفوس، ولا يسمح لها بالتعدي إلى حدود الفعل. بينما إرهاب الضعيف يبدأ بالفعل مباشرةً، فلا تحقُّقَ لإرهاب الضعفاء إلا بحدوث الإرهاب بالفعل.. وما نشاهده اليوم من صنوف الإرهاب المتبادل بين القاعدة والولايات المتحدة الأمريكية، هو إرهاب الضعفاء من الجانبين؛ الإرهاب الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بقتل المدنيين، وتجاوز الشرائع الإنسانية والشرعية الدولية. فهو إرهابٌ بالفعل لا بالقوة. في حين أن ما دعت إليه الآية، هو إرهاب بالقوة لا بالفعل. حتى لا يطمع الذي في قلبه مرضٌ في الاعتداء. وهو في كل الأحوال، إرهاب المعتدي الشاهر سيفه عليك، القاتلِ أبناءك، المخرجك من ديارك بغير حق، المستوطنِ أرضك بالغزو والاستعمار.. وليس إرهاب المدنيين وذبحهم. إن الذين يقتلون المدنيين والأبرياء، ويقتلون أبناء أوطانهم وإخوانهم في الدين، المخالفين لهم في النظر والمذهب والرأي، هم إرهابيون بلا منازع. مهما كانت الذرائع التي يبررون بها تعطشهم للدماء. فالدماء أمرها شديد في فقهنا.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة