تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

في سبيل بناء نظرية للثقافة

زكي الميلاد

في سبيل بناء نظرية للثقافة

-1-
منطق الاجتهاد وفكرة الثقافة

كيف نبني لنا نظرية في الثقافة

لا بد من بناء هذه النظر ية. بهذه الإرادة ينبغي أن نجتهد ونضع حداً لهذا الجمود والتقاعس الذي جعلنا إلى هذا اليوم بدون نظرية نستقل بها، ونحتكم إليها، ونتزود من فيضها وحكمتها ونضع حداً لهذا العجز والانسداد الذي جعلنا وكأننا لا نمتلك القدرة والشجاعة، في أن نقتحم هذا المجال، ونتغلب على معضلاته. كما ونضع حداً لهذا الاسترسال والاتِّباع، وكأننا لا نمتلك الخيار، وليست لنا الاستطاعة، أو مازلنا في مراحل ما قبل الرشد، أو أننا نفتقد إلى موهبة التخلّق، وإلى الذوق الرفيع، أو إلى النباهة والكياسة والذكاء.

لهذا كله لابد أن نضع حداً، ونبذل ما في وسعنا من جهد وطاقة، ونتوكل على الله، ومن يتؤكل على الله فهو حسبه، ونتعامل بمنطق الاجتهاد. المنطق الذي يأبى علينا أن نتوقف أمام أية مسألة نضعها في دائرة البحث، مهما كانت طبيعة هذه المسألة وتعقيداتها. وبهذا المنطق نمتلك إرادة البحث، وشجاعة النظر، وعزيمة الكشف، وقوة الابتكار. وبهذا المنطق كذلك نتغلب على المعضلات، ونتخلص من الرهبة، وعدم الثقة، ونمضي في البحث إلى نهايته.

وهو المنطق الذي يتطلب منا إعمال العقل إلى أقصى طاقته، والسعي لامتلاك ناصية العلم، والإحاطة بكل ما تتطلبه عملية البحث من شروط معرفية ومنهجية.

وبهذا المنطق أنجبت لنا الأمة فقهاء ومتكلمين أمثال المفيد والمرتضى والطوسي، ومفسرين أمثال الفخر الرازي والطبرسي والزمخشري، وأصوليين أمثال الأنصاري والخراساني والنائيني، وفلاسفة أمثال ابن سينا وابن رشد وملا صدرا والسيد محمد باقر الصدر.

وبهذا المنطق أيضاً ساهم المسلمون في عصور الازدهار الحضاري بتأسيس المعارف والعلوم على اختلاف مجالاتها، وفي اكتشاف وابتكار المناهج والنظريات، وذلك حين كانوا رواد العلم وطلابه وصناعه. وقد اعترف لهم العالم بتلك الريادة، ولإسهاماتهم العظيمة في رفد الحضارة الإنسانية بتلك المناهج والمعارف والعلوم، وهناك من المستشرقين من التفت إلى أهمية وقيمة التعرف على مناهج العلماء المسلمين، وفي هذا السياق جاء كتاب الألماني فرانتز روزنتال "مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي" الذي شرح فيه نظرة العالم المسلم إلى المشكلات الأساسية التي تتعلق بالبحث العلمي وأساليبه وطرائقه، وكيف كان العالم المسلم يفكر تجاه تلك المشكلات، وعن الروح العلمية التي كان يتصف بها العلماء المسلمون. ولا شك أن هذه الروح العلمية كانت من نفحات منطق الاجتهاد عند المسلمين.

ولعل عدم تعرف علماء المسلمين في عصر تفوقهم العلمي على مفهوم أو فكرة الثقافة، كان سبباً أساسياً وقديماً في تأخرنا وتعثرنا اليوم، وصعوبة تعاملنا مع فكرة الثقافة، التي لا نملك حولها موروثاً علمياً نستند إليه، ونؤسس من خلاله، وننطلق منه. في حين أن المعارف الإسلامية المعاصرة تدين في كثير من معارفها ومناهجها ونظرياتها إلى ذلك العصر الذي تفوَّق فيه المسلمون علمياً. ومن ذلك العصر جاءتنا علوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والكلام والفلسفة، ونحن إلى اليوم لم نغير في تلك العلوم، ولم نقدِّم ما هو أرقى مما وصل إلينا.

أما لماذا لم يلتفت علماء المسلمين في ذلك العصر لفكرة الثقافة؟ فلعل السبب أن الثقافة لم تكن وثيقة الصلة بعلوم ومعارف ومناهج ذلك العصر، فقد كانت مجرد كلمة لغوية لا تلفت الانتباه، ولا تذكر إلا في مجالها اللغوي، ولا يأتي الحديث عنها باهتمام شديد، وبنوع من الوعي والإدراك الذي يجعل فكرة الثقافة تنقدح في الذهن، وتدخل في دائرة النظر.

لذلك أمام فكرة الثقافة لا خيار عندنا إلا أن نتعامل بمنطق الاجتهاد، لكي نبذل كل ما في وسعنا من طاقة عقلية ونفسية.

وحتى نصل إلى بناء نظرية في الثقافة نحتاج أن نبلور سياقاً معرفياً ممتداً يساعدنا في اكتشاف وبناء لبنات ومكونات فكرة الثقافة. وضرورة التوقف أمام هذه اللبنات والمكونات باعتبارها خطوات وأطواراً بحاجة إلى فحص، ولتكوين المعرفة بها، ومن خلال هذا السياق تتحدد لنا بعض المعاني والدلالات المتعددة للثقافة، والتي بفحصها والتعرف عليها تساعدنا في بلورة فكرة الثقافة، أو في التعرف على مكونات مهمة وأساسية فيها، أو ترسم لناً طريقا نتنبه من خلاله لفكرة الثقافة. المهم أننا بحاجة إلى بلورة مثل هذا السياق، وبدونه لا تكتمل لنا الرؤية حول فكرة الثقافة بسهولة ووضوح.

كما أن تحديد تلك اللبنات والمكونات يعد أمراً ضرورياً في تحليل فكرة الثقافة، وبدون هذا التحليل لا نستطيع أن نقوم بتركيب نظرية الثقافة. وتعد هذه الفكرة من الأفكار اللامعة في نظرية الثقافة عند مالك بن نبي الذي قسَّم دراسة الثقافة إلى مرحلتين، مرحلة التحليل النفسي للثقافة حسب اصطلاحه، ومرحلة التركيب النفسي للثقافة. والعمل الذي أنجزه مالك بن نبي في هذا المجال، يفتح لنا الطريق لمواصلة هذا العمل، والتراكم عليه، وهو من المفكرين الذي ألهمونا الثقة بإمكانية بناء نظرية لنا في الثقافة.

-2-
القرآن وفكرة الثقافة

هناك إشارات مهمة في القران الكريم تستدعي التوقف عندها، والبدء منها في تحليل فكرة الثقافة. ومع أهمية هذه الإشارات إلا أنه من النادر الالتفات إليها، والكشف عن قيمتها في الكتابات العربية والإسلامية التي عالجت فكرة الثقافة، مع قلة ومحدودية هذه الكتابات، وضعف تراكمها.

وعدم الالتفات إلى مثل هذه الإشارات، والكشف عنها، لعله مما يفسر لنا الضعف العلمي والتأخر المنهجي الذي نحن عليه في مجال بناء فكرة أو نظرية الثقافة.

والإشارات التي تأتي من القرآن الكريم هي إشارات فائقة الأهمية، وبحاجة إلى مزيد من التأمل والنظر حتى نكتسب منها قوة الاستلهام وفيض المعاني. خصوصاً في هذا المجال الذي يتعذر على الباحث الخوض فيه.

ومن هذه الإشارات القرآنية التي تتصل بتحليل فكرة الثقافة:

أولاً : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا }

تكمن أهمية هذه الآية أنها تتيح لنا النظر في أدل كلام ظهر إلى الوجود حول علاقة الإنسان بالعلم. وتحدد لنا البداية التي ينبغي أن نبدأ منها في الحديث عن كل ما يتعلق بالعلم أو المعرفة، والذي يشمل الثقافة أيضاً. وليس هناك بداية قبل هذه المرحلة التي علّم الله فيها أدم الأسماء كلها. والقرآن الكريم هو الكتاب الذي حدثنا عن هذه البداية، وكان يفترض أن يكون هذا الكتاب يمثل بداية كل حديث عن العلم والمعرفة وعن الثقافة كذلك. وكم كنا بحاجة لأن نكتشف لنا مثل هذه البداية، التي تصعب علينا دائماً، الصعوبة التي تتأكد وتتضاعف في هذا المجال بوجه خاص.

وأمام هذه الآية توقف المفسرون كثيراً، قديماً وحديثاً، وأمعنوا النظر في المقصود من كلمة الأسماء، والأسماء كلها، وتساءلوا ما هي هذه الأسماء التي تعلمها أدم، وعرضها الله على الملائكة فقال: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. لهذا فقد تعددت في هذا الشأن تفسيرات المفسرين ووجهات نظرهم، ووجدوا أن من الصعب عليهم الجزم في الآراء التي توصلوا إليها، لذلك لم ينتصروا بشكل قاطع لرأي محدد، فتحدثوا عن أكثر من رأي، مع الميل لرأي معين.

وهناك من المعاصرين من اتخذ موقف التوقف كالشيخ مصباح اليزدي الذي طرح تساؤلات وجد من الصعوبة جداً الإجابة عنها كما يقول، ومع الاختلاف الموجود في الروايات المروية عن أئمة آهل البيت (عليهم السلام) فقد تساءل: ما هي الميزة الكامنة في هذه الأسماء بحيث جعلتها مهمة إلى هذا الحد؟ وهل كان الملائكة قادرين على العلم بها أم لا؟ وإذا كانوا قادرين فلماذا لم يعلمهم الله، وإن لم يكونوا قادرين، فهل تعلموا بعد إخبارهم من قبل آدم أم لا؟ وإذا كانوا قد تعلموا فقد أصبحوا مثل آدم، وكان الله أيضاً قادراً على أن يفعل هذا الأمر بنفسه، أي يقوم الله نفسه بتعليمهم، فإذا تعلموا أصبحوا مؤهلين لخلافة الله(1).

ويمكن تقسيم التفسيرات المطروحة حول تلك الآية إلى اتجاهين، بينهما تقارب واتصال، اتجاه يعطي العلم والعلوم لمعنى الأسماء، واتجاه يعطيها معنى القوة العلمية وقابلية اكتساب العلوم.

وعن الاتجاه الأول تحدث الشيخ الطبرسي الذي أجمل آراء المفسرين قديماً، وهي الآراء التي غالباً ما يرجع إليها المفسرون المعاصرون أيضاً الذين يأخذون بهذا الاتجاه. وهذا الآراء هي:

1- هي معاني الأسماء. إذ الأسماء بلا معانٍ لا فائدة فيها، ولا وجه لربط الفضيلة بها. وقد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فاقروا عندما سألوا عن ذكرها والإخبار عنها أنه لا علم لهم بها، فقال الله تعالى: {يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِم}.

2- هي جميع الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا.

3- هي أسماء الأشياء كلها ما خلق وما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده من بعده

4- هي ألقاب الأشياء ومعانيها وخواصها، أي أن الفرس يصلح لماذا، والحمار يصلح لماذا. وهذا أبلغ لأن معاني الأشياء وخواصها لا تتغير بتغير الأزمنة والأوقات وألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة(2).

ويتضح من الرأي الرابع أن الشيخ الطبرسي يميل إليه ويرجحه على باقي الآراء الأخرى.

أما الاتجاه الثاني فقد أشار إليه الشيخ محمد عبده في تفسير المنار حيث اعتبر أن الأسماء كلها تشير إلى القوة العلمية التي هي عامة للنوع الآدمي كله، ولا يلزم من ذلك أن يعرف أبناؤه الأسماء من أول يوم ويكفي في ثبوت هذه القوة لهم معرفة الأشياء بالبحث والاستدلال(3).

والذي لم يحدث أن هذه الآية لم توظف في مجال تحليل فكرة الثقافة، وقد اقترب منها مالك بن نبي ولم يتوقف عندها كثيراً بالتأمل فيها، والتأسيس من خلالها، مع أنه قدّم إشارة مهمة بشأنها حين اعتبر أننا ربما أخطأنا -حسب قوله- "فلم ندرك معنى الآية إلا على أنه يصف لنا مشهداً بسيطاً، والأمر على عكس ذلك تماماً. فينبغي أن نرى هنا في تلك الصورة الرمزية أول عمل جوهري للعقل الإنساني حين يسيطر على الأشياء، وهو يخلع عليها أسماءها، الأمر الذي لم تستطعه الملائكة"(4).

ومع أن اقتراب ابن نبي من هذه الآية جاء في سياق بحثه عن تحليل فكرة الثقافة، وبعد أن تساءل عن: ما هي الثقافة؟ وتوقف عن سؤال: كيف يتكون تعريف معين في عقولنا؟ ومن هذا السؤال تحدث ابن نبي عن معنى الاسم وعلاقته بإدراك الشيء ودوره في أطوار تكوين المعرفة، حيث قدم فكرة قيمة في هذا الشأن، فالاسم -كما يقول- "هو أول تعريف للشيء الذي يدخل في نطاق شعورنا، فهو تصديق على وجوده. وهو القوة التي تستخرجه من الفوضى المبهمة، فتسجله في عقولنا في صورةٍ حقيقيةٍ محددة. والاسم بهذا الوضع يعدّ إذن أول درجة من درجات المعرفة، وأول خطوة نخطوها نحو العلم"(5). وهذا الكلام هو الذي قرَّب ابن نبي من تلك الآية، ولم تكن هي محور بحثه، ولو كانت هي محور بحثه، وضم إليها آيات أخرى تتصل بها وبسياق البحث، لكان بإمكان ابن نبي أن يقدم لنا إضافة مهمة في تحليل فكرة الثقافة، وبناء نظرية الثقافة على أساس التصور الإسلامي.

وحين نختبر هذه الآية وعلاقتها بفكرة الثقافة فإن ما نستنتجه يتحدد في أمرين مترابطين هما:

1- أن الله الذي علّم آدم هو مصدر العلم والمعرفة والإدراك. وبالتالي فإنه لا ينبغي أن ينفصل العلم عن مصدره، ويوجَّه ويسخَّر فيما يخالف هذا المصدر. ولهذا فإن أول العلم معرفة الله كما ورد في الحديث الشريف، وأن العلماء هم الذين يخشون الله، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(6) وهذا يعني ضرورة أن يتلازم العلم مع الإيمان بالله، ولا ينفصل أو ينقطع عنه، أو يتعارض ويتصادم معه. ونستنتج من ذلك ضرورة العلاقة بين الثقافة والإيمان بالله، باعتبار أن المقصود من (الأسماء كلها) هي القوة العاقلة في الإنسان التي هي مركز العلم والإدراك، والثقافة كذلك. وبهذه القوة العاقلة يكتسب الإنسان المعارف والعلوم ومعاني الأشياء وخواصها. وبهذه القوة العاقلة أيضا يدرك الإنسان حقائق الأشياء، ويتعقل حكمتها ومقاصدها، وبها كذلك يهذب الإنسان نفسه ويجعلها على أحسن صورة.

2- يفهم من تلك الآية أن الإنسان كائن عالم وعاقل من حيث الطبيعة، ومزود في داخله بقابلية حيوية للتعلم واكتساب العلم، تبدأ معه من مرحلة المهد، وتتواصل ولا تتوقف إلى مرحلة اللحد، مصداقاً للحديث النبوي الشريف: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". وفي البدء كان الإنسان وكان معه العلم أو قابليته، فالله سبحانه وتعالى الذي أخبرنا عن خلق آدم أبي البشر، أول صفة تحدَّث عنها بعد خلقه هي أنه علَّمه الأسماء كلها، وبهذا العلم أو قابليته تميز الإنسان عن غيره من سائر الكائنات والمخلوقات، وانفصل عن الطبيعة وقوانينها الجبرية والإكراهية، بمعنى أن الإنسان ليس كائناً جامداً وساكناً ومكرهاً أمام قوانين الطبيعة، وإنما له طبيعة مختلفة. ونشأ هذا الاختلاف من قدرة الإنسان على التعلم واكتساب العلم، وبهذه القدرة يضفي الإنسان معنى الإنسانية على ذاته.

وبهذا العلم أو قابلية التعلم أو القوة العاقلة يكون الإنسان قريباً من الثقافة، ولا تكون هذه الثقافة شيئاً خارجاً عنه، أو بعيدة عنه أيضاً. فالثقافة هي جزء من الأسماء كلها التي تعلمها آدم، الجزء الذي يرمز لمفهوم الإنسان أو آدمية الإنسان. ولو لم تكن الثقافة جزءاً من تلك الأسماء لما كان في مقدور الإنسان التعرف عليها، والتخلق بها. والثقافة هي التي تعطي معنى إنسانية الإنسان، وهي التي تحرره من جبرية قوانين الطبيعة وهيمنتها، وهي التي تقوم بدور تهذيب الإنسان من داخله، وتحرره من سيطرة الغرائز وإكراهات الأهواء والشهوات.

ثانياً: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}

التفت إلى هذا الآية أستاذ علم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي الذي اشتغل على دراسة ما أطلق عليه بالرموز الثقافية، وقدَّم في هذا المجال كتابات ومؤلفات قيمة وجادة، كشفت عن مستوى بديع في الجهد المعرفي والمنهجي. ولعل الدكتور الذوادي من أكثر الباحثين العرب عناية واهتماماً بهذا المجال، ففي عام 1996 نشر كتاباً باللغة الإنجليزية بعنوان "نحو علم اجتماع إسلامي للرموز الثقافية" كما نشر العديد من الكتابات والدراسات الأخرى في عدد من المجلات والدوريات الفكرية العربية.

ويقصد الذوادي بالرموز الثقافية اللغة والفكر والعقائد والمعرفة والقيم والمعايير الثقافية والقوانين والأساطير.. التي تميز أكثر من غيرها من الصفات، الجنس البشري عن غيره من الأجناس الأخرى. وقد وجد الذوادي -كما يقول- أن هناك حاجة إلى تبني منظور مختلف عن المنظور التقليدي السائد في العلوم الاجتماعية الحديثة، على أن يكون هذا المنظور متوازناً يدرس الرموز الثقافية من الداخل، ومن الخارج على حد سواء، ويركز على الجوانب المحسوسة والملحوظة إلى جانب الجوانب الذاتية والمتعالية للرموز الثقافية. ويجيب على بعض الأسئلة الخاصة بالرموز الثقافية التي لم تثرها العلوم الاجتماعية الحديثة، أو لم تكن تهتم بالإجابة عنها، ولإهمال هذه العلوم للجوانب الذاتية والمتعالية للرموز الثقافية -حسب رأي الذوادي- أسباب غير موضوعية، وغير محايدة علمياً في تعاملها مع الرموز الثقافية، وبالتالي فإن مصداقية رصيد هذه العلوم من مفاهيم ونظريات وأطر فكرية حول الرموز الثقافية تشكو كثيراً من القصور على حد وصفه. لهذا اختار الذوادي المنظور الإسلامي لدراسة الرموز الثقافية.

ولكي نتعرَّف على هذا المنظور الإسلامي حول طبيعة الرموز الثقافية، فليس هناك -في نظر الذوادي- أفضل من القرآن النص المرجعي الأول في الإسلام، الذي تحدثت فيه العديد من الآيات وبكثير من الوضوح عن الطبيعة البشرية للإنسان. ومن بين هذه الآيات اختار الذوادي آيتين لوصفهما بالكامل العناصر الأساسية التي تكوِّن الطبيعة البشرية، وهما قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}(7).

فالطبيعة البشرية حسب هاتين الآتيين، مزدوجة التركيبة، فهي تتكون من طين، ومن نفخة الروح الإلهية.

ويتساءل الذوادي: أيّ هذين العنصرين أكثر أهمية بالنسبة لكينونة الطبيعة البشرية من وجهة النظر القرآنية؟ ويجيب: إن محاولة فهم معنى الآيتين، قد يقود إلى القول بأن القرآن يعطي أهمية أكبر إلى النفحة الروحية الإلهية التي تحتوي عليها الطبيعة البشرية، إذ إنه طلب من الملائكة السجود لآدم بعد وليس قبل حدوث النفخة الروحية الإلهية في ذات آدم. وحين يرجع الذوادي إلى التفاسير القرآنية لتحديد معنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} يرى أن أقرب التفاسير في تحديد معنى هذه الآية، ما ذهب إليه يوسف علي بقوله: "إن نفخة الله لروحه في الإنسان تعنى أن الله قد أعطى الإنسان معرفة وإرادة تشبه معرفة وإرادة الله، وعند استعمال الإنسان لهما بحق فإنهما قادرتان أن تمنحا الإنسان التفوق والسمو على بقية الأجناس الحية الأخرى". ويتمسك الذوادي في هذا التفسير بمقولة: إن كلمة الروح تعنى المعرفة والإرادة شبه الإلهيتين اللتين مُنِحَتا للإنسان فقط، وبهما تفوق جنس الإنسان على بقية الأجناس الأخرى.

لذلك يرى الذوادي أن التحليل الموضوعي للنص القرآني المذكور يشير بكل وضوح إلى تفوق وسيادة جنس الإنسان على بقية الأجناس الأخرى. فمن جهة ترجع العلوم الاجتماعية الحديثة مثل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا تفوق الجنس البشري على بقية الأجناس الأخرى إلى تميز الإنسان بمهارات عالم الرموز الثقافية، ومن جهة ثانية يستوحي من النص القرآني أن سيادة الإنسان وخلافته في الكون ترتبطان بنفخة روح الله في صميم ذات الإنسان، وفي تقدير الذوادي أنه لا يكاد يوجد أي تناقض بين المنظورين. والنتيجة التي يريد أن يصل إليها الذوادي، أنه يمكن اعتبار أن الرؤية القرآنية تنظر إلى الرموز الثقافية على أنها جزء من نفحة روح الله في الإنسان، كما يستوحي من القرآن الكريم أن الرموز الثقافية ذات جذور أصول إلهية ما ورائية، ومن ثم فلها تجليات ميتافيزيقية في ثنايا السلوك البشري(8).

يكشف هذا التحليل العلمي الرصين من جهة عن أهمية وقيمة العودة إلى النص القرآني في مجال دراسات وأبحاث العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة. ويكشف من جهة أخرى عن أهمية وقيمة اختبار ما لدينا من مفاهيم وتصورات لها علاقة بفكرة ونظرية الثقافة. وهذا الاختبار والتجريب يعد شرطاً أساسياً في بلورة وتحديد فكرة الثقافة، وفي الكشف عن مكونات وعناصر نظرية الثقافية.

ثالثاً: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}

كثيراً ما دعيت إلى تعميق النظر في الحقل الدلالي لهذه الآية، ولكلمة (اقرأ) بوجه خاص. لكون هذه الآية مع الآيات الأربع التي تليها، هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وبهذا الاعتبار يكون لهذه الآيات حكمة السبق في النزول.

وكان يفترض لهذه الآية أن تلفت النظر بقوة لفكرة الثقافة في التصور الإسلامي، لشدّة الارتباط بين كلمة (اقرأ) وبين فكرة الثقافة. فالدعوة إلى (اقرأ) هي دعوة إلى أمر ما، لكنها دعوة إلى الثقافة أيضاً، والثقافة قد تبدأ من (اقرأ). فإذا أخذنا الثقافة بمعنى إصلاح الذهن، وتنمية الملكات الفطرية، وتهذيب القدرات الفكرية، فلاشك أن هذا المعنى وثيق الصلة بـ(اقرأ) التي تفيد الأمر بالقراءة من جهة، والاستمرار على هذا الأمر من جهة أخرى، عدم التوقف والانقطاع عن اكتساب العلم. وإصلاح الذهن إنما يتحقق بالقراءة والاستمرار عليها، وبهذا الفعل أيضا تتحقق تنمية الملكات الفطرية، تهذيب القدرات الفكرية.

كما أن الثقافة تبدأ بعد (اقرأ) ولا تبدأ قبلها، وهذا يعني أن (اقرأ) هي بداية الثقافة ومقدمتها. والذي نستفيده من (اقرأ) هو نفي الجهل بكافة صوره، وبهذا النفي تبدأ الثقافة وتنهض، فالثقافة هي نقيض الجهل، وشديدة الارتباط بالذي يرفع الجهل، وهو (اقرأ).

ومن دلالات (اقرأ) أنها خطاب موجه إلى كل إنسان، وليس إلى فئة أو شريحة معينة من الناس. وإلى الإنسان في كل الأزمنة والعصور، ولا يتحدد بزمن أو عصر معين. وهذا يعني أن كل إنسان مطالب بالتعلُّم، والتعقّل، والتثقّف، وهو الذي ينبغي أن يبادر لهذا العمل، ويستمر عليه بدون توقف أو انقطاع، وهذا الاستمرار هو شرط لتحقق الغرض، ولتمثل فعل التعلم والتعقل والتثقف.

والمطلوب ليس مجرد القراءة فحسب، وإنما تصويب هذه القراءة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، فكل شيء في الإسلام يبدأ بـ(باسم الله) الذي هو خالق كل شيء في هذا الكون، ولكي يخشى الإنسان ربه في تعلمه وتثقفه، وبهذه الخشية يلهم الله الإنسان الحكمة التي تؤتي الإنسان خيراً كثيراً {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(9). وفي الحديث النبوي الشريف: "رأس الحكمة الخشية من الله".

ودائرة (اقرأ) تتسع باتساع الخلق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} لقد أراد الله سبحانه وتعالى من الإنسان أن يتأمل في كل مخلوقات هذا الكون، من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان والنبات، ومن عالم الأرض إلى عالم السماوات، ومن أصغر شيء وهي الذرة إلى أكبر شيء وهي المجرة. ووراء كل هذه المخلوقات هناك علم أراد الله من الإنسان أن يكتسبه ويتعرف عليه، ويتمكن منه، ويسخره لعمران الدين والدنيا.

وأشرف هذه المخلوقات هو الإنسان الذي فضله على كثير مما خلق تفضيلاً، ولهذا خصه بالذكر {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} والإنسان الذي خلق من علق من أين له العلم؟ وكيف يكتسب الكرامة؟ ويأتيه الجواب والنداء {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ولهذا ينبغي أن يقرأ الإنسان باسم ربه الذي خلق، وربه الأكرم.

وبالنظر إلى مجموع هذه الآيات نلاحظ أنها تتحدث عن مرحلتين، مرحلة الخلق ومرحلة العلم والتعلم. مرحلة الخلق هي مرحلة التكوين الطبيعي والبيولوجي للإنسان التي أشارت إليها آية {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}. ومرحلة العلم والتعلم هي مرحلة التكوين الروحي والأخلاقي للإنسان، وبهذه المرحلة يكتسب الإنسان الكرامة {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}، ويتغلب على الضعف الذي في داخله، والشعور بالعجز والافتقار، لينتقل من الوضع الطبيعي والبيولوجي والغرائزي إلى الوضع الروحي والجمالي والأخلاقي.

وهذه الفكرة لها أساس متين في الدراسات التي تناولت فكرة الثقافة، فقد أشار إليها وباهتمام تيري إيجلتون، وهو يتتبع الثقافة في طبعاتها المختلفة، في كتابه "فكرة الثقافة"، حيث اعتبر أن الثقافة هي التي تنقلنا من الطبيعي إلى الروحي، والحاجة إلى الثقافة تشير إلى وجود ضرب من النقص والافتقار في الطبيعة، كما تشير إلى أن قدرتنا على الارتقاء إلى ذُراً لا تطولها بقية نظرائنا من مخلوقات الطبيعة، هي أمر ضروري يفرضه شرطنا الطبيعي، الذي هو أيضاً شرط غير طبيعي إلى حدّ بعيد قياساً بشرط أولئك النظراء. ونحن من نهذب أنفسنا كما يضيف إيجلتون، وبذا نكون مثل صلصال بين أيدينا، حيث يجتمع في الجسد الواحد ذاته كل من الضال والمهتدي، الخاطئ والقديس، أما لو تركت طبيعتنا الفاسدة وشأنها فما كانت تستطيع أن تنهض من تلقاء نفسها إلى نعمة الثقافة، مع العلم أن هذه الأخيرة لا يمكن أن تفرض عليها عنوة، ولابد بالأحرى من أن تقيم نوعاً من التعاون مع الميول الفطرية في الطبيعة ذاتها، كيما تحث هذه الطبيعة وتدفعها إلى التعالي على ذاتها. فالثقافة -والكلام مازال لإيجلتون- مثل النعمة لابد أولاً من أن تُمثِّل إمكانيةً ضمن الطبيعة البشرية كيما يكون لها تالياً أن تنغرز وتقتحم(10).

وجاء في معجم الأكاديمية الفرنسية الذي انكب -كما يقول لويس دوللو في عام 1972م- لدراسة كلمة الثقافة، وإعادة تعريفها وتحديث مفهومها، أن الثقافة تحدد في المعنى المجازي والعام بالرجوع إلى الطبيعة، بحيث تضاف العبقرية البشرية إلى الطبيعة لتعديل مواهبها وعطاءاتها وإنمائها. وبالنسبة للإنسان تفيد اهتمامه المنظم والمنهجي بتطوير مواهبه النظرية، وذلك بدراسة الآداب والعلوم والفنون، وبالملاحظة والتفكير(11).

رابعاً: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}

يعكس هذا التشبيه البديع بلاغة القرآن الكريم التي لا تعلو عليها أيّ بلاغة أخرى، ويعبر عن حكمة متعالية بحاجة إلى مزيد من التأمل والنظر. فالقرآن الكريم يصور لنا بهذا التشبيه كيف أن الكلمة لها قوة الثبات والتجذر والرسوخ كالشجرة التي {أَصْلُهَا ثَابِتٌ}، ولها قوة الرفعة والعلو كالشجرة التي {فَرْعُهَا فِي السَّمَاء}، ولها قوة العطاء واستمرارتية كالشجرة التي {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}.

ولعل في هذا التشبيه ما يلفت النظر إلى تشابه الأطوار التي تمر بها الكلمة، بالأطوار التي تمر بها الشجرة، وأهمية أن نجري مثل هذه المقارنات والمقاربات بين مثال الكلمة ومثال الشجرة.

والكلمة التي تنتمي إلى عالم الذهن أفضل تجسيم لها هو في صورة الشجرة التي تنتمي إلى عالم الحس. وهذا التصوير ينبِّه إلى أهمية وقيمة الاقتران بين مقولات الذهن، ومقولات الحس، وضرورة التعاضد بينهما. وتكمن أهمية هذا الاقتران في أن الناس يرتبطون بالشجرة في حياتهم اليومية، فهي من مصادر عيشهم ورزقهم، ويتعلقون بها لما تحتاجه منهم من رعاية واهتمام، وبسهولة يلتفتون إليها، لكنهم قد لا يلتفتون بنفس القدر والاهتمام إلى أهمية وقيمة الكلمة في حياتهم، وفي بناء مجتمعاتهم.

وبالتأكيد ليس المقصود من الكلمة، تلك الكلمة المفردة التي تقابل الجملة المركبة في اللغة العربية، وإنما المقصود منها ما هو أوسع من ذلك، والتي بالإمكان أن نمثل لها بالشجرة التي لها جذور وساق وأغصان وأوراق وثمار، وبالكلمة التي يفترض أن تكون لها عناصر ومكونات متعددة كما هي الشجرة.

وليس باستطاعة الكلمة أن يكون لها قوة الثبات والرسوخ كما هي الشجرة، إلا إذا كانت شديدة التفاعل والاندماج في النظم والتكوينات السلوكية والأخلاقية والجمالية للمجتمع وبدون هذا التفاعل والاندماج تفتقد الكلمة عناصر ومقومات الحياة والبقاء. وبمعنى آخر أن عمر الكلمة هو من عمر المجتمع، وبقاء الكلمة هو من بقاء المجتمع. وكيف أن عمر المجتمعات يكون طويلاً، هكذا يكون عمر الكلمة أيضاً، وبدون هذه العلاقة لا يكون للكلمة عمر طويل.

وهذا يعني أن هذه الكلمة، لها مضمون اجتماعي عام، يتجاوز البعد والمضمون، الفردي، ولو كانت العلاقة بالكلمة تتحدد في نطاق الفرد، لما كان في مقدورها أن تعمِّر طويلاً.

وهذه التصويرات والدلالات والأبعاد، تقرِّب مفهوم الكلمة من فكرة الثقافة، كما لو أن المقصود من تلك الكلمة هو الثقافة، أو بإمكاننا نحن أن نفهم الثقافة من دلالات تلك الكلمة مع ما بينهما من اشتراك، باعتبار أن الكلمة تنتمي إلى عالم الثقافة. ولو كانت الثقافة فكرة مختبرة ومتجلية لدينا بكل ما تشير إليه من دلالات ومعانٍ لوجدنا في مضامين ودلالات تلك الآية ما يقربنا بشدة من فكرة الثقافة.

والغربيون الذين اختبروا فكرة الثقافة، قربوا هذا الفكرة من مثال الشجرة التي كانت حاضرة في تصويرات بعضهم، فقد نقل عن الأديب الألماني غوته قوله: "الثقافة حين لا تبرح النظرية تصبح رمادية، ولكنها ستغدو حين تصل بضمائرنا خضراء كالشجرة الذهبية للحياة"(12).

وأكثر من ذلك أن الأوروبيين تعرفوا على الثقافة عن طريق الزراعة التي يرجع إليها الجذر الأساسي لكلمة الثقافة حيث كانت تعني عندهم حرث الأرض وزراعتها. ولهذا يرى مالك بن نبي أن تعرف الأوروبيين على كلمة الثقافة له علاقة بطبيعة النفسية الأوروبية عموماً، والنفسية الفرنسية بشكل خاص. وذلك لاعتبار أن الأوروبي هو إنسان الأرض والحضارة الأوروبية هي حضارة الزراعة. وعليه فإن العمليات التي تستنتج من الأرض خيراتها كالحرث والبذر والحصاد، لها بالضرورة دور هام في نفسية الإنسان الأوروبي، كما لها دور هام في صياغة رموز حضارته. إذ إن الزراعة هي العملية التي تضم بين دفتيها جميع العمليات السابقة، فهي التي تحدد وتنظم إنتاج الأرض. فإذا حدث في بعض الظروف أن تعاظم إنتاج الفكر، فلن تكون هناك غرابة إذا ما أطلق عليه الرجل الفرنسي كلمة culture التي تعني الزراعة إطلاقاً مجازياً، بيد أن هذه الاستعارة قد شخَّصت وصنَّفت واقعاً اجتماعياً لم يكن مدركاً، فالاستعارة حين أطلقت على الواقع الاجتماعي قد خلقت مفهوماً جديداً هو مفهوم الثقافة.

والكلمة التي تدعو إليها الآية الكريمة هي الكلمة الطيبة التي فيها صلاح وتهذيب عقول الناس وفطرتهم، والتي تنمو وتنغرس وتترسخ في عقول الناس كالشجرة الطيبة. وإلى جانب الكلمة الطيبة هناك الكلمة الخبيثة، وهي كالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض وما لها من قرار.

خامساً: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}

تشير هذه الآية إلى أن الناس جميعاً لهم طبيعة إنسانية واحدة لا تتبدل ولا تتغير، وبهذه الطبيعة يختلف الإنسان عن غيره من الكائنات والمخلوقات الأخرى.

ومنذ أن خلق الله الإنسان فطره على هذه الطبيعة التي جعلته في أحسن صورة، كما جعلته أميل إلى نوعه في الاشتراك والاندماج معهم. وبهذه الطبيعة أيضاً استطاع الإنسان أن يبني لنفسه اجتماعاً يعيش فيه، ويرتبط به، ويأنس معه. وبدون هذه الطبيعة ما كان بإمكان الإنسان أن يأتلف مع غيره من البشر، كما هو الحال في كل المخلوقات، فالنحلة تعيش في مجتمع النحل، والنملة تعيش في مجتمع النمل، وهكذا سائر أنواع الحيوانات الأخرى.

ومن هذه الآية نبرهن على أن الإنسان لم يكن من فصيلة الحيوانات، وأنه ظل يتطور بصورة تدريجية حتى وصل إلى ما وصل إليه، كما تذهب إلى ذلك النظرية الدارونية المتهافتة. فالإنسان منذ أن خلقه الله فطره على فطرته التي لا تبديل فيها. وفطرة الله تأبى على الإنسان أن يكون من فصيلة الحيوانات، أو على شاكلتهم. فبهذه الفطرة كرّم الله الإنسان، ورفع منزلته، وجعله من أكمل المخلوقات، وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(13) كما برهن أيضاً العلم الحديث.

وقد أبلغ الله الإنسان بهذه الكرامة حينما صرح له بذلك، وليس هناك كرامة تفوق هذه الكرامة بعد أن فطر الله الإنسان على فطرته.

وتخالف هذه الآية كذلك الادِّعاء بأن الإنسان يحمل معه الخطيئة منذ أن خلقه الله سبحانه وتعالى، وأنه جاء إلى الحياة بهذه الخطيئة التي تصاحبه وتبقى معه، وتشعره بالذنب دائماً مع ارتكاب الخطيئة أو بدونها. وفي حين أن الآية تذكّر الإنسان بأن أصله مفطور على فطرة الله منذ خلقه، ولا يناسب هذه الفطرة الادِّعاء بأن الإنسان يحمل معه الخطيئة منذ ولادته. وهذا لا يعني على الإطلاق أن الإنسان معصوم عن الخطأ. وهناك فرق بين أن يصدر الخطأ من الإنسان، وبين أن يكون الإنسان مفطوراً على الخطيئة.

والفطرة هي مصدر التهذيب، ومصدر الملكات الخيرة في الإنسان، وهذا هو منشأ العلاقة بين الفطرة والثقافة. فالثقافة تحاول أن تصل إلى تلك الفطرة لكي تنمي الملكات الخيرة، وتبعث طاقة التهذيب في الإنسان. وبدون هذه الفطرة لا نعلم ما مدى تأثير الثقافة على الإنسان، وتخلقه بالثقافة، ومن جهة أخرى ليس بمقدور الثقافة أن يكون لها تأثير على الإنسان إذا لم يكن له استعداد وقابلية من داخله على استقبال ذلك التأثير القادم من الثقافة، والفطرة هي الإطار الحيوي لاستقبال مثل تلك التأشيرات والتفاعل معها في مجال التهذيب.

ولعل من أوثق الروابط بين الفطرة والثقافة، أن الفطرة جاءت لتأكيد قابلية الإنسان للتهذيب، وأنه يحمل في داخله هذه القابلية، ولا يمكن له أن يتخلى عنها كلها بإرادته، أو بدون إرادته، ومهما كان حجم ونوع الشر والخطأ الذي صدر من الإنسان. كما لا يمكن لهذه الفطرة أن تضمحل أو تتلاشى، وبالتالي فإن نوازع الخير تظل موجودة في الإنسان بالقوة أو بالفعل.

وهذا ما تريده الثقافة لكي تصل إلى الإنسان وتقوم بتهذيبه، وتنمية الميول والملكات الخيرة فيه. وبسبب هذه الفطرة التي لا يمكن لها أن تضمحل فإن بمقدور الثقافة أن تكون مصدر تهذيب لكل إنسان، ولا ينعدم تأثيرها في أي إنسان. وهذه الفكرة في غاية الأهمية عند الذين يبحثون عن فكرة الثقافة، ويتأملون فيما تشير إليه من معانٍ ودلالات.

والله سبحانه وتعالى الذي فطر الإنسان على فطرته ليكون هو المثل الأعلى للإنسان، حتى يرتبط به، ويتخلق بأخلاقه، ويتعرف على أسمائه، ويؤمن برسله وكتبه وملائكته وباليوم الآخر.

هذه بعض الإشارات من القرآن الكريم التي تلفت النظر لفكرة الثقافة، وأهمية العودة إليها في اختبار هذه الفكرة، وفي التعرّف عليها.

وهناك إشارات أخرى تحدَّث عنها بعض الكتاب بشكل مقتضب وبدون توسع، فقد جاء في كتاب "الثقافة الرسالية" أن الكلمة التي أطلقها القرآن بديلة عن الثقافة هي البصيرة، كما أطلق كلمة الهدى والحكمة بديلة عن الفلسفة. فالبصيرة هي الثقافة المفضلة التي تهدف إلى إصلاح الإنسان، وإصلاح سلوكه، بينما الهدى هي المبادئ العامة لهذه الثقافة.

وهذا الربط بين البصيرة والثقافة جاء على خلفية تعريف الثقافة بأنها المعارف التي تعطي الإنسان بصيرة في الحياة ونوراً يمشي به في الناس(14).

وبالتأكيد سوف نكتشف إشارات أخرى كلما حاولنا اختبار فكرة الثقافة وحقلها الدلالي على ضوء آيات القرآن الكريم.

-3-
اللغة العربية وفكرة الثقافة

قدمت لنا اللغة العربية إشارات شديدة الأهمية حول فكرة الثقافة. وكان بإمكان هذه الإشارات أن تساعدنا منذ وقت مبكر في التعرّف على فكرة الثقافة، وإمكانية اختبار هذه الفكرة وتطويرها للانتقال بها من دائرة اللغة إلى دائرة المفهوم.

وأهمية اللغة في هذا المجال هي أنها ترجع بنا إلى الأصل الذي جاء منه اسم الشيء، وتعرفنا على استعمالاته المتعددة، وربط كل استعمال بقرينة من عالم الحس تارة، ومن عالم الذهن تارة أخرى، أو بهما معاً تارة ثالثة. كما تشرح لنا ما طرأ على تلك الاستعمالات من تغيّر وتطوّر، ومنشأ هذا التغيّر والتطوّر وتفسيره.

وبدون العودة إلى اللغة لا يكتمل الحديث عن اختبار فكرة الثقافة، وتتبع سياقها، فاللغة لها موازينها وأحكامها، ولها عبقريتها وتجريباتها، لها حقلها الدلالي الذي تتعدد فيه المعاني والدلالات بحسب تعدد استعمالات الكلمة واشتقاقاتها، وتغيّر حركاتها وأبنيتها.

وما يدهش حقاً أن ما تشير إليه اللغة العربية من معانٍ ودلالات لكلمة الثقافة، هي نفسها المعاني والدلالات التي فكّر فيها الأوروبيون في أول عهدهم بفكرة الثقافة، وبتلك المعاني والدلالات اختبروا فكرة الثقافة، ومنها كانت تأسيساتهم الأولى التي بنوا عليها لاحقاً تراكماتهم وتصوراتهم وتحليلاتهم المعرفية والأدبية والجمالية. واللافت أن مالك بن نبي قلل كثيراً من قيمة ما تشير إليه فكرة الثقافة في اللغة العربية، كما تحددت في معاجم اللغة. وتطرَّق ابن نبي إلى هذا الأمر لكي يشير إلى ضحالته وعدم الاستفادة منه، حتى يتجاوزه، ويبرر لنفسه مثل هذا التجاوز. فقواميس اللغة الموجودة بين أيدينا حسب رأيه، لا تذكر كلمة الثقافة إلا لماماً سواء في ذلك القديمة منها مثل لسان العرب، والحديثة مثل دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي. ويرى ابن نبي أن في هذه القواميس من التشابه ما يدعو إلى عدّها وكأنها نسخاً مكررة نقل بعضها عن بعض(15). لذلك لم يمعن ابن نبي نظره الثاقب وذكاءه الحاد في التأمل الفاحص لما تعطيه اللغة العربية، من معانٍ ودلالات لها علاقة وطيدة بفكرة الثقافة. وهذا بخلاف ما ذهب إليه الدكتور نصر محمد عارف الذي وجد أن تأصيل مفهوم الثقافة في اللغة العربية يستلزم الرجوع إلى المعاجم والقواميس العربية القديمة للوقوف على الدلالات الأصيلة -على حد وصفه- لمفهوم الثقافة. وانتقد الدكتور عارف ما يحصل عند المفكرين في عالمنا العربي والإسلامي من إهمال لتلك الدلالات، والتمسك في المقابل بالدلالات التي يعطيها المفهوم الأوروبي للثقافة(16).

ومن المعاني والدلالات التي نستفيدها من اللغة العربية:

أولاً : الحذق والمهارة

جاء في لسان العرب لابن منظور "ثقف الشيء ثقفاً وثقافاً، وثقوفة: حذقه، وثقف الرجل ثقافة أي صار حاذقاً".

ويقول الراغب الأصفهاني: "الثَّقْفُ: الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه استعير المثاقفة. ويقال: ثَقِفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر"(17).

وجاء في المعجم الوسيط "ثقف ثقفاً: صار حاذقاً، فهو ثقف، والعلم والصناعة حذقهما.وثاقفه مثاقفة، وثقافاً: خاصمه وجالده بالسلاح ولاعبه إظهاراً للمهارة والحذق"(18).

وعلى ذلك نسجت معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة. وتواتر هذا المعنى لدرجة الاتفاق عليه. والحذق والمهارة ينتميان إلى مجال النظر، وإلى مجال العمل. ولهذه فهما -كما يرى الراغب الأصفهاني- يقعان في إدراك الشيء وفعله. إدراك الشيء هو من متعلقات النظر، وفعله هو من متعلقات العمل. وهما أيضاً بمعنى العلم والصناعة كما جاء في المعجم الوسيط. ويتصلان كذلك بإدراك الشيء وإتقانه، وإدراك الشيء له علاقة بالحذق، وإتقانه له علاقة بالمهارة.

والإنسان الحاذق هو الذي يمعن النظر والملاحظة والتفكير، وبهذا الحذق يصيب إدراك الشيء. والإنسان الماهر هو الذي يمتلك الخبرة في عمله، وبهذه المهارة يصيب في إتقان الشيء.

وبهذا المعنى تشير الثقافة إلى تنمية الملكات الذهنية التي تجعل الإنسان حاذقاً في النظر إلى الأشياء، وإلى تنمية الملكات الفنية التي تجعل الإنسان ماهراً في إتقان الأشياء.

وبالحذق يكون الإنسان واعياً لذاته وطاقاته، وبالمهارة يكتسب القدرة على تسخير تلك الطاقات وتوجيهها.

وأكثر ما ركّز عليه المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، هو التأكيد هو التأكيد على معنى الحذق كجذرٍ وأصلٍ لكلمة الثقافة، وحين يصل المعجم إلى تعريف الثقافة يقول: "الثقافة: العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق فيها"(19).

ثانياً : الفطنة والذكاء

يقول ابن منظور في لسانه: "هو غلام لَقِنٌ ثَقِفٌ، أي ذو فطنة وذكاء، والمراد أنه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه" والفطنة في تعريفات الجرجاني هي " قوة يقع بها التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة"(20). وجاء في الحديث الشريف "المؤمن كَيِّس فَطِن". والفطانة في المعجم الوسيط هي قوة استعداد الذهن لإدراك ما يرد عليه. والذكاء يقال للإنسان الذي سرع فهمه وتوقد، ويعرف بأنه قدرة على التحليل والتركيب والتمييز والاختيار، وعلى التكيف إزاء المواقف المختلفة(21). وبهذا المعنى تشير الثقافة إلى تنمية قدرات التعلم والإدراك الذهنية للارتقاء بالفكر وتحسينه وتطويره، وإلى تنمية قدرات التمييز والاختيار السلوكية، للارتقاء بالسلوك وتحسينه وتهذيبه. وبهذه الفطنة والذكاء يتمكن الإنسان من إنماء طاقاته وقدراته، والارتقاء بإمكانياته وكفاءاته، لكي يتحول إلى طاقة فاعلة ومنتجة. والثقافة تميز الإنسان بالفطنة والذكاء، وتظهر هذا التميز في مواقفه الفكرية والسلوكية.

وحين تشير الثقافة إلى معنى الفطنة والذكاء، فإنها تظهر قابلية الإنسان الكبيرة والحيوية للتعلم والتقدم، حتى يندفع نحو هذا المسلك، ويتغلب على كل عناصر الجهل والانحطاط.

ونجد مثل هذا الربط بين الثقافة والذكاء، وبين الثقافة والفطنة أو الكياسة في كتابات الأوروبيين. فإلى الثقافة والذكاء أشار معجم الأكاديمية الفرنسية بالقول: "وحسب المجال الذي يمارس فيه الإنسان ذلك الاهتمام يمكن أن نحدد بدقة معنى الثقافة بالذكاء والمحاكمة والشعور"(22). واعتبر تيري إيجلتون أن الثقافة في تطور معانيها الحديثة كانت في البداية قد عنت شيئاً قريباً مما تعنيه الكياسة(23). وتحدث عن هذا الربط أيضاً رايموند وليامز في كتابه "الثقافة والمجتمع" حيث أشار إلى ثلاثة معانٍ أساسية للثقافة، هي الثقافة بمعنى الفنون، والثقافة بوصفها الكياسة، والثقافة بمعنى الحياة الاجتماعية. وجاءت هذه المعاني الثلاثة بعد أن أصبحت لفظة الثقافة -حسب رأي وليامز- تعنى شيئاً مستقلاً في حد ذاته، وذلك في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وأصبح معناها أولاً حالة أو عادة عقلية عامة(24). وهي الحالة التي وصفها إيجلتون بمعنى الكياسة، ونصفها نحن بمعنى الفطنة.

ويتصل بهذا المعنى ويشير إليه من الدلالات اللغوية للثقافة، سرعة حضور الشيء في الذهن وحضور البديهة وسرعة التعلم وفهمه.

ثالثاً : التهذيب وتقويم الاعوجاج

جاء في معجم مقاييس اللغة لفارس بن زكريا "ثقف: الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة إليها يرجع الفروع، وهو إقامة دَرْء الشيء. ويقال: ثَقَّفْتُ القناة إذا أقمت عوجبها"(25).

وفي المعجم الوسيط ثقف الشيء: أقام المعوج منه وسوَّاه، والإنسان أدّبه وهذّبه وعلّمه" وهناك استعمالات على سبيل المجاز -كما أشار الزمخشري في أساس البلاغة،- مثل: ثقف الولد "أدبه وثقفه، ولولا تثقيفك وتوقيفك لما كنت شيئاً، وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك"(26).

وهذا المعنى من أقوى المعاني التي تشير إليها الثقافة، وأكثرها تعبيراً ودلالة. فالثقافة في عمق جوهرها كانت وما زالت هي عملية تهذيب للنفس وإصلاح للفكر. تهذيب في بُعدين، بُعد توجيه الغرائز وضبط الشهوات، والتحكم في الأهواء. وبُعد تنمية الملكات الفطرية، والمواهب والطاقات الجوانية.

والله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وصف النفس بقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(27) والغرائز والشهوات بدون ضبط وتهذيب تقود النفس إلى الفجور والطغيان، ومن ثم إلى عاقبة السوء.

وإصلاح الفكر بتربيته وتعليمه، وتنمية مواهبه وملكاته. وبهذا التهذيب يتحول الفكر إلى مرآة صافية كما جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي C: "الفكرة مرآة صافية".

هذا على مستوى الإنسان الفرد. كما أن الثقافة هي عملية تهذيب للمجتمع أيضاً، وتقويم ما يحصل فيه من اعوجاج. تهذيب في النطاق الذهني على مستوى نظم التفكير واتجاهات النظر، وتهذيب في النطاق الجمالي على مستوى الفنون والذوق العام، وتهذيب في النطاق الأخلاقي على مستوى السلوك والعلاقات والمعاملات. وقد استنتج الدكتور نصر محمد عارف من الثقافة بوصفها تهذيباً "أن مضمون مفهوم الثقافة في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية، ولا يُغرس فيها من خارج. فالكلمة تعني تنقية الفطرة البشرية، وتشذيبها وتقويم اعوجاجها، ثم دفعها لتوليد المعاني الجوانية الكامنة فيها، وإطلاق طاقاتها لتنشأ المعارف التي يحتاج إليها الإنسان"(28).

وعن هذا المعنى أيضاً تحدث بعض الكتاب الأوروبيين، فقد أشار إليه رايموند وليامز وهو يتحدث عن تغير معنى الثقافة، فبعد أن كان معناها يدل على اتجاه النمو الطبيعي -كما يقول- أصبح معناها عن طريق الثماثل يدل على عملية تدريب إنساني يعني تهذيب شيء ما في العادة(29).

وتيري ايجلتون الذي قلب معاني الثقافة وجد أن ثمة معنى تجد فيه كلمة الثقافة نفسها أمام اثنين من السبل، حيث بمقدورها أن تشير إلى انقسام في داخلنا، بين ذلك الجزء منا الذي تثقف وتهذّب، وبين كل ما يشكل فينا المادة الخام لمثل هذا التهذيب(30).

ولا شك أن هذه المعاني والدلالات لو خضعت عندنا للفحص والاختبار والتراكم لكان بإمكاننا أن نطور من فكرتنا للثقافة، ونكسبها قوة التحديد الذي كانت ومازالت تفتقده عندنا.

-4-
الفقه وفكرة الثقافة

يمكن القول بأن الكلمة الفقه هي الكلمة التي أخذت مكان الثقافة في المنظومة الإسلامية، وكان بإمكان كلمة الفقه أن تصبح الكلمة التي تعادل كلمة الثقافة عند الأوروبيين، وتقاربها في الحكمة والرموز والدلالات.

وجاء اختيار كلمة الفقه باعتبار أن الإسلام جعل من الدين محوراً لحركة الإنسان في هذه الحياة، واتخذ من العبادة غاية من خلق الإنسان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(31) وربط الفقه بالدين، ووصف العلاقة مع الدين بعنوان التفقه {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ}(32). وجاء في الحديث النبوي الشريف: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقَّهه في الدين".

لهذا فقد تطورت كلمة الفقه في المنظومة الإسلامية، وأصبحت من الكلمات الشريفة، وحظيت بمنزلة رفيعة، وعُدَّت من أكثر الكلمات قرباً من الدين.

وبين الفقه والثقافة توافقات من جهة الدلالات اللغوية، فهما يأتيان بمعنى الفهم والفطنة، ويعزز هذا التوافق إمكانية البحث في العلاقة بينهما، وتأكيد مثل هذا الربط.

والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا الشأن هو: هل أن تطور كلمة الفقه في منظومة المعارف الإسلامية حجب أو أعاق تطور كلمة الثقافة؟ وهل كان من المفترض أن يساهم تطور كلمة الفقه في دفع تطور كلمة الثقافة عندنا؟

لعل من الصعب الجزم في اعتبار أن تطور كلمة الفقه قد حجب أو أعاق تطور كلمة الثقافة. لأنه حتى لو لم يحدث تطور كلمة الفقه بهذا المستوى الذي هي عليه أو بدونه، لم تتطور في المقابل كلمة الثقافة. وذلك لأن تطور كلمة الفقه ارتبط بسياق، هو السياق الذي افتقدته الثقافة، ليس بالضرورة أن الثقافة كان بإمكانها أن ترتبط بذلك السياق لو لم يرتبط به الفقه. ولو اتصلت الثقافة بذلك السياق لكانت هي في مكان الفقه في منظومة المعارف الإسلامية. والمقصود بهذا السياق الربط الذي حصل بين الفقه والدين، ونص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} ومن ثم تحول الفقه إلى علم بالدين، وأصبح يمثل في الثقافة الإسلامية "مكانة فريدة فلم يبلغ، اهتمام المسلمين بالعلوم الدينية الأخرى مجتمعة ما بلغه اهتمامهم بالفقه وحده، بل لعله لا توجد حضارة ركّزت على الناحية التشريعية تركيز الحضارة الإسلامية"(33).

ومن السابقين هناك من اعتبر -كما نقل الغزالي في إحياء علوم الدين- أن علم الفقه هو العلم الذي جعله الله فريضة على كل مسلم، إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام، وما يحرم من المعاملات وما يحل(34).

أما عن علاقة تطور الفقه بتطور الثقافة، فقد كان من الممكن لو أن فكرة الثقافة كانت معروفة، وتحظى بالاهتمام، وتشعر بالحاجة إلى التقعيد والتأسيس. لأن مشكلة الثقافة عندنا هي أنها لم ترتبط بأي علم من العلوم الدينية أو العقلية أو اللغوية، ولم يتم اكتشافها والتعرف على ما يمكن أن تنهض به من وظائف وأدوار على مستوى المعرفة، أو على مستوى الأمة، وبالذات في الفترة التي شهدت نهضة العلوم والمعارف في عصر الازدهار الإسلامي، كما هو حال أوروبا التي تعرفت على فكرة الثقافة في عصر ازدهارها الحضاري، فقد كانت ثمرة من ثمار عصر النهضة حسب لرأي مالك بن نبي، وذلك عندما شهدت أوروبا في القرن السادس عشر انبثاق مجموعة من الأعمال الأدبية الجليلة في الفن والأدب والفكر(35).

وفي نظر بعض الكتاب المعاصرين أن الثقافة حلت مكان الفقه في مرحلة بدأت فيها المنهجية العلمانية تتسرب في قطاعات واسعة من حياتنا الفكرية والمعرفية، حيث ظهر فيها الكثير من المصطلحات الجديدة الموازية لمصطلحات عربية تراثية تم استبعادها فيما بعد. فقد ظهر مصطلح الثقافة وغاب مصطلح الفقه أو حوصر في مجالات دينية ضيقة. وظهر مصطلح المثقف والمفكر، وغاب مصطلح العالم والمتعلم. وغاب مصطلح الاجتهاد وبرز مصطلح التجديد. وقد مثَّلت هذه المصطلحات الجديدة في نظر من يقولون بهذا الرأي البلورة النهائية لنزوعٍ فكريٍّ علماني يهدف إلى تخفيف أو محاصرة الصلة التي ترتبط الفكر بالدين - الإسلام(36).

فهل الثقافة حلت مكان الفقه فعلاً؟ هذا الادِّعاء كان يمكن أن يكون له أساس لو كان الفقه يقوم مقام الثقافة عندنا، والحال هو غير ذلك تماماً. وظهور الثقافة لم يغيِّب استعمال مصطلح الفقه، أو يحدّ من تداوله وانتشاره، إذ ما زال حاضراً وعلى نطاق واسع في المجال التداولي. وليس هناك من يقول بأن الثقافة هي السبب وراء محاصرة الفقه في مجالات ضيقة، لأن تحديد الفقه في هذه المجالات الضيقة حصل ووصل إلينا، قبل أن تصل إلينا الثقافة ونتعرف عليها.

ولو لم نتعرف نحن على فكرة الثقافة لما وجدنا في أنفسنا الدافع إلى مثل هذه المقاربة والحاجة إليها. ولا نريد أن نضع الفقه في نزاع مع الثقافة حتى لا نفشل مهمتنا، المهمة التي نريد منها التعرّف على ما يمكن أن يضيفه الفقه في بلورة فكرتنا ونظريتنا للثقافة. وذلك لما يمثله الفقه من خبرة ومعرفة وتراكم في منظومة المعارف الإسلامية.

والمعضلة التي تواجهنا في هذا الشأن هي أن هذه المقاربة بين الفقه والثقافة لم نمعن النظر فيها كثيراً، لا في السابق ولا في الحاضر، ولا زالت هي على هذه الحال، ولم تقترب كما ينبغي من دائرة الاشتغال والاهتمام على مستوى الكتابات العربية والإسلامية. ويمكن عدّ هذه القضية على أنها من القضايا المهملة التي لا نملك حولها رؤية واضحة. فلا توجد لدينا كتابات ودراسات تتناول أبعاد العلاقة بين الفقه والثقافة، ومحاولة الاستفادة من هذا التناول في بلورة فكرة الثقافة عندنا، وتطوير المعرفة بها.

ولم يحدث أي تطور في هذه القضية حتى مع الدراسات الجديدة التي تناولت فلسفة الفقه، وهو الحقل الذي قرّب الفقه من العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع ذلك لم يتم التطرق باتساع واهتمام للتعرف على العلاقة بين الفقه والثقافة. وما لم يتم توثيق مثل هذه العلاقة فلن نتعرف على كيف نستفيد من الفقه في بلورة فكرة الثقافة، وهي الاستفادة التي لا بد منها، ونراها ضرورية في هذا المجال.

ولعل تحول الفقه إلى علم يُعنى بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية، أوقف إمكانية أن تتطور كلمة الفقه خارج نطاق هذا العلم، بعد أن تحددت به بصورة تامة ونهائية.

لكن هذا لا يمنعنا نحن من أن نوسع من دائرة النظر حول كلمة الفقه، واختبار فكرة الثقافة في إطار هذه العلاقة. ولعلنا في هذا السياق قد نحتاج حقلاً يمكن أن نسميه بفقه الثقافة.

-5-
علم العمران وفكرة الثقافة

علم العمران البشري الذي اكتشفه ابن خلدون وتحدث عنه في مقدمته، يُفترض أن يمثل إلينا تراثاً معرفياً مهماً، نحتاج إليه بعمق ونحن نتأمل في فكرة الثقافة. وكل نظر في فكرة الثقافة بحاجة إلى أن يستند لتراث اجتماعي، وبدون هذا التراث يكون من الصعوبة التعرف على فكرة الثقافة بصورة واضحة ومتماسكة.

ولو كانت فكرة الثقافة معروفة عند اكتشاف علم العمران لاكتسبت منه نمواً وتطوراً على مستوى المعاني والدلالات، وعلى مستوى فلسفة الثقافة أيضاً، ولكانت هناك حاجة تستدعي إعادة التعرف على فكرة الثقافة، على ضوء المعارف والمنهجيات والنماذج والتحليلات التي جاء بها علم العمران الخلدوني، حيث تطرق إلى قضايا وموضوعات ومفاهيم وثيقة الصلة بفكرة الثقافة، مثل قضايا البداوة الحضارة، العمران البدوي والعمران الحضري، المدنية والتمدن، والصنائع والعلوم. وهكذا ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع. وهذه القضايا هي التي كانت مؤثرة ومتشابكة مع الحقل الدلالي للثقافة ومازالت تتأثر منها، وتتشابك معها، وتقترن بها دائماً.

والدارسون لتطور فكرة الثقافة عند الأوروبيين يلاحظون كيف أن اكتشاف علم الاجتماع وتقدمه ساهم بقوة في تطور فكرة الثقافة وتجديد النظر فيها. فالقرن التاسع عشر -كما يقول مالك بن نبي- أحدث تقدماً في مفهوم كلمة الثقافة، وأنجز خطوة في طريق تطوير تعريفها، وإذا بفكرة الثقافة تزداد جلاء، وتصبح مفهوماً أكثر تحديداً، كما أصبحت إحدى مشكلات علم الاجتماع الذي أثار في أذهان المفكرين هناك سؤال: ما هي الثقافة؟ وهو سؤال اضطرتهم إليه الأفكار الجديدة التي حملها إليهم علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأجناس. ومن هنا نشأت محاولات تهدف إلى وضع تعريف جديد للثقافة، إذ لم يعد التعريف التاريخي الذي خلّفه عصر النهضة كافياً لإقناع المنطق الجديد(37).

وإذا لم يساهم علم العمران الخلدوني في عصره وما بعد عصره، في التعرف على فكرة الثقافة وتطويرها، فهذا لا يعني أن هذه الإمكانية غير واردة أو ممكنة في عصرنا. والفارق أن الثقافة لم تكن معروفة في ذلك العصر، وأصبحت معروفة في عصرنا.

والدعوات التي ظهرت في العالم العربي مطالبة بالحاجة إلى تكوين علم اجتماع عربي كانت تنبعث، وتستلهم رغبتها وثقتها من مقدمة ابن خلدون التي تعدّ من أسبق المحاولات في المعرفة المنظمة لعلم الاجتماع، أو لعلم العمران البشري كما أسماه ابن خلدون، ولما تمثله هذه المقدمة من تراث اجتماعي مهم في هذا المجال. ومن هذه الدعوات، دعوة عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي الذي ناقش هذه القضية، وهو يتحدث عن منطق ابن خلدون الذي تابعه باهتمام، وواكب الكتابات والدراسات حوله، وكان مولعاً به كما يقول عن نفسه، وخصص عنه القسط الأوفر من رسالته للدكتواره عام 1950م. وقد ختم كتابه "منطق ابن خلدون" في الأسطر الأخيرة منه بقوله: "لقد آن الأوان لكي نرجع إلى الأساس الذي وضعه ابن خلدون لعلم الاجتماع، والذي أهملناه طويلاً، فَنُزيل عنه تراب الزمن، ونلقِّحه بما ظهر مؤخراً من نظريات ومفاهيم اجتماعية جديدة. وبهذا قد نتمكن من بناء علم اجتماع خاص بنا يلائم المجتمع الذي نعيش فيه"(38).

ونحن بحاجة إلى التراث الاجتماعي الذي خلفه لنا ابن خلدون وغيره، ليكون جزءاً أساسياً من السياق التاريخي الذي نتتبع فيه التأمل والتفكير لفكرة الثقافة من جهة، ولاختبار هذه الفكرة من جهة أخرى. حتى نقلب الثقافة على اختلاف دلالاتها ومعانيها، وتعدّد فلسفتها وحكمتها، إلى أن نصل للمعنى المركب الجامع لكل تلك المعاني والدلالات.

الهوامش:

(1) معارف القرآن، الشيخ محمد تقي المصباح، تعريب: محمد عبدالمنعم الخاقاني، بيروت: الدار الإسلامية، 1989م، ج3، ص64.

(2) مجمع البيان في تفسير القرآن. الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1986م، ج1، ص22.

(3) تفسير المنار، السيد محمد رشيد رضا، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999م، ج1، ص218.

(4) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، ص22.

(5) المصدر نفسه، ص21.

(6) سورة فاطر، آية 28.

(7) سورة الحجر، آية 28 - 29.

(8) الرموز الثقافية وطول أمد حياة أفراد الجنس البشري: رؤية من المنظور الثقافي الإسلامي. محمود الذوادي، الكلمة، بيروت، السنة الثامنة، العدد 32، صيف 2001 - 1422هـ، ص45.

(9)سورة البقرة، آية 269.

(10) فكرة الثقافة، تيري إيجلتون، ص22.

(11) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، لوليس دوللو، ص10.

(12) مشكلة الثقافة، ص26.

(13) سورة التين، الآية 4.

(14) الثقافة الرسالية، أحمد ناصر، بيروت: دار الصفوة، 1992، ص100.

(15) مشكلة الثقافة، ص19.

(16) الحضارة - الثقافة - المدنية، نصر محمد عارف، ص30.

(17) المفردات في غريب القرآن. الراغب الإصفهاني، ص85.

(18) المعجم الوسيط، ص98.

(19) المصدر نفسه، ص98.

(20) التعريفات، علي الجرجاني، ص215.

(21) المعجم الوسيط، ص314.

(22) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية. ص10.

(23) فكرة الثقافة. ص36.

(24) الثقافة والمجتمع، رايموند وليامز، ص10.

(25) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا، ص169.

(26) أساس البلاغة، محمود الزمخشري، تحقيق: عبدالرحيم محمود، بيروت: دار المعرفة، بدون تاريخ، ص46.

(27) سورة الشمس، آية 7 - 10.

(28) الحضارة - الثقافة - المدنية، ص31

(29) الثقافة والمجتمع، ص10.

(30) فكرة الثقافة، ص21

(31) سورة الذاريات، آية 56.

(32) سورة التوبة، آية 122.

(33) الإسلام والحداثة، عبدالمجيد الشرفي، تونس: الدار التونسية للنشر، 1991م، ص113.

(34) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، القاهرة: دار الحديث، 1998م، ج1، ص27.

(35) مشكلة الثقافة، ص25.

(36) تجديد الفكر الإسلامي، جمال سلطان، الرياض: دار الوطن، 1412هـ، ص61.

(37) مشكلة الثقافة، ص27.

(38) منطق ابن خلدون، علي الوردي، لندن: دار كوفان، 1994م، ص266.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة