تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

صدام الحضارات أم صدام الحريات

د. محمد مزوز

صدام الحضارات أم صدام الحريات

د. محمد مزوز*

* مقدمة

بدون أي تأطير إشكالي أو نظري يبدأ هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات" بسرد مجموعة من الوقائع تأسر القارئ ولا تترك له مجالاً لأي تأويل أو تشكيك، بل لا تترك له حتى المجال لتنفس الصعداء. يقع الفصل الأول تحت عنوان: "العهد الجديد للسياسة العامة" يصحبه عنوان فرعي ومثير "الرايات والهوية الثقافية" ويبدأ بالوقوف عند الأحداث التالية: "يوم 3 يناير 1992 اجتمع بموسكو أساتذة جامعيون روس وأمريكان، ففي إحدى قاعات المحاضرات ببناية حكومية، وكان الاتحاد السوفياتي قد انهار أسبوعين قبل ذلك، وأصبحت روسيا الفيدرالية بلداً مستقبلاً، ونتيجة لذلك تمت إزاحة تمثال لينين أمام تلك البناية، وبدأت راية الفيدرالية ترفرف مكانه. وقد كانت هناك مشكلة صغيرة. كما أشار أحد الملاحظين الأمريكان، تتمثل في كون الراية كانت مقلوبة، وفي أول استراحة هرع المنظمون الروس إلى إصلاح الخطأ.

ثم بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى سرد الواقعة الثانية: "يوم 18 أبريل 1984 تظاهر حوالي 2000 شخص في سرايفيو رافعين ليس أعلام الأمم المتحدة أو الحلف الأطلسي، بل أعلام العربية السعودية وتركيا" وتأتي الواقعة الثالثة "يوم 16 أكتوبر 1994 في لوس أنجلوس تظاهر حوالي 70000 شخص وسط "بحر من الأعلام المكسيكية"، وذلك من أجل الاحتجاج ضد المقترح رقم 187، والذي كان سيُعرض على الاستفتاء، وبموجب هذا الأخير، سيحرم المهاجرون السوريون وأبناؤهم من الإعانات التي تقدمها الدولة"(1).

من سرد هذه الوقائع ينتقل الكاتب إلى أصدر الأحكام التالية:

"في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت الأعلام أساسية، كما هو الشأن بالنسبة لرموز الهوية الثقافية الأخرى مثل الصليب والهلال بل حتى القبعة، لأن الثقافة حاسمة والهوية الثقافية هي الأهم عند معظم الناس. يتم اكتشاف هوايات جديدة، تتم إعادة اكتشاف هوايات قديمة. وسواء كانت قديمة أم جديدة فإن التظاهر ورفع الأعلام يؤدي إلى الدخول في الحرب ضد أعداء قدامى ولكن أيضاً ضد أعداء جدد في غالب الأحيان"(2).

كتب فوكوياما أيضاً في مقدمة مقاله المذكور يقول: "عندما نلاحظ مجرى الأحداث في السنوات العشر الأخيرة" (يقصد عقد الثمانينات) من الصعب أن نتلافى الانطباع بأن شيئاً أساسياً قد حدث في تاريخ العالم... فخلال العشر سنوات الأخيرة شهدنا تغيرات بارزة في المناخ الفكري لأكبر بلدين شيوعيين في العالم، كما شهدنا بداية حركات إصلاحية مهمة في هذا البلد أو ذاك... من هذه "المشاهد" والتي هي مجرد "انطباع" يخلص فوكوياما إلى إصدار الأحكام الضخمة التالية: "قد يكون ما نشاهده ليس فقط نهاية الحرب الباردة أو نهاية حقيقية خاصةً بعد الحرب، بل نهاية للتاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديموقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء. هذا لا يعني أنه لن تقع أحداث من شأنها أن تملأ صفحات المجلات المتخصصة في العلاقات الدولية، لأن انتصار الليبرالية جرى أولاً في مجال الأفكار والوعي وهو ما يزال غير مكتمل في العالم الواقعي. ولكن توجد أسباب قوية تدفع إلى الاعتقاد بأن هذا المثال هو الذي سيحكم العالم الواقي لفترة طويلة".

ما الذي يبرر مثل هذه الأحكام؟ كيف تم الانتقال من "الواقعة" إلى الفكرة؟

جدل الواقعة والفكرة أمر خَبِره العقل الإنساني منذ مدة طويلة، وبواسطته تم إنتاج أنماط من التفكير وأشكال من الرؤى. وقد وقعت انزلاقات عديدة في عملية الانتقال هذه، مما حذا بنفس العقل إلى اتخاذ احتياطات ووضع قيود منهجية لضبط الجدلية بين الفكر والواقع، ولقد بدأ هذا الاحتياط منذ أرسطو على الأقل، لأن هذا الأخير هو الذي أنشأ قواعد المنطق التي "تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ". وتم تجديد القواعد المنهجية في العصور الحديثة، وبخاصة مع بيكون وديكارت... وغيرها.

من أجل التنظير للواقع يلزم احترام القواعد التي أفرزها العقل البشري بعد جهد مرير، وبعد تجارب ومحاولات شهدت مجموعة من الإخفاقات والإحباطات، تلتها تدقيقات واحترازات. هذا إذا كان الأمر يتعلق بالواقع المعيشي فما بالك إذا كان "الواقع" الذي نتحدث عنه هو المستقبل؟ في هذه الحالة لابد من مواجهة، السؤال التالي:

ما هي الضمانات التي تسند التفسير؟ ما الدليل على صحة الرؤية المقدمة بخصوص تصور معين للمستقبل؟ إذ عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، فإننا ندخل عالم التوقعات والتنبؤات؟

-1-
     إغراءات التنظير

من اليسير جمع بعض الوقائع وإدراجها ضمن سلسلة "منطقية" من الأفكار، من أجل استخلاص نتائج معينة. ومن اليسير أيضاً جمع الوقائع نفسها حسب سلسلة مباينة، بغية الوصول إلى نتائج مغايرة. إن المشكلة لا تكمن في الشواهد، بل تمكن في طريقة التفسير. وإذا أريد للتفسير أن يكون علمياً، يلزم أن يحترم علاقة العِليَّة بين الأسباب والمسببات.

فإنا قد نلاحظ الوقائع ونعتبرها بمثابة أسباب لظواهر أخرى، إلا أنه قد يكون عكس ذلك هو الصحيح؟ لنقف على أرقام وتواريخ ووقائع أخرى، أكثر راهنية وأكثر "واقعية" لاستخلاص رؤية مغايرة بل معاكسة تماماً.

في سنة 1996 صدر ببرلين كتاب بعنوان "فخ العولمة: الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية" لقي نجاحاً كبيراً. وأعيد طبعه تسع مرات في عام واحد. وقد أفلح مؤلفا الكتاب "هانز - بيتر مارتين وهارالد شومان" في تقديم النتائج التي أفضت إليها العولمة في صورة واضحة، ونوع من التحليل يرفع الكثير من اللبس والغموض عن مسار الحضارة الغربية في أفق القرن المقبل، يعرض المؤلفان نتيجة ما وصل إليه اجتماع أقطاب العولمة في عالم الكمبيوتر والمال وأساتذة الاقتصاد بجامعات ستانفورد، وهافارد وأكسفورد، وكذا القائمون على التجارة الحرة في سنغافورة والصين... وذلك سنة 1995 بفندق فيرمونت بسان فرانسيسكو، يقول المؤلفان: "يختزل البرغماتيون في فيرمونت المستقبل إلى العددين 20 إلى 80 وإلى مصطلح Tittytaiment، فحسب ما يقولون فإن نسبة 20% من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي..

ولكن ماذا عن الآخرين؟ ماذا عن 80 بالمائة من العاطلين وإن كانوا يرغبون بالعمل؟ إن المسالة ستكون في المستقبل: "إما أن تأكل أو تؤكل" "To have lunch or to be lunch"(3).

أما مصطلح Tittytainment فقد طرحه برجينسكي للمناقشة، هذا الأخير اشتغل لمدة أربع سنوات مستشاراً للأمن القومي على عهد جيمي كارتر. "وحسب ما يقوله برجينسكي فإن Tittytainment مصطلح منحوت من الكلمتين Entertainment (التسلية) و tits (حلمة) وهي الكلمة التي يستخدمها الأمريكون للثدي دلعاً، ولا يفكر برجينسكي هنا بالجنس طبعاً، بل هو يستخدمه للإشارة إلى الحليب الذي يفيض من ثدي الأم المرضع، فبخلطٍ بين التسلية المخدرة والتغذية الكافية، يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين"(4).

ما هي الوقائع التي تبرر مثل هذه الرؤية السوداوية للقرن المقبل؟ لنستمع إلى لغة الإحصائيات:

في ألمانيا كان هناك في عام 1996 أكثر من ستة ملايين يرغبون في العمل، إلا أنهم لا يجدون فرصة دائمة للعمل. وهذا العدد هو أعلى رقم يسجل منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية، أما صافي متوسط مداخيل الألمان الغربيين فهو في انخفاض مستمر منذ خمس سنوات. وفي النمسا أيضاً تعلن الدوائر المختصة باستمرار تناقص عدد العاملين، ففي كل عام تلغى في الصناعة عشرة آلاف فرصة عمل ويختزل الاقتصاديون والسياسيون أسباب هذا التدهور إلى كلمة واحدة لا غير: العولمة(5).

ما هي نتائج هذه العولمة على الدول وعلى تماسك النسيج الاجتماعي؟

"إن أممية رأس المال الجديدة تقتلع دولاً بجملها - وما تقوم عليه هذه الدول من أنظمة اجتماعية - من الجذور، فمن ناحية هي تهدد مرة هنا ومرة هناك - بهروب رأس المال لكي تجبر الحكومات على تقديم تنازلات ضريبة عظيمة، ومنح تبلغ المليارات أو إقامة مشروعات بنية تحتية لا تكلفها شيئاً"(6). إن الرأسمالية تنحو فعلاً نحو ذلك الاتجاه الذي توقعه كارل ماركس حينما قال سنة 1865: "إن الإنتاج الرأسمالي لا يميل في العموم إلى رفع متوسط الأجور، وإنما يميل إلى تحفيظه أو إلى الضغط على قيمة العمل إلى أدنى مستوى". شيء واحد لم يكن يتوقعه كارل ماركس وهو أن الرأسمالية في طابعها الأول ستطعّم في يوم من الأيام القادمة بالروح الديموقراطية ولكن ومهما كان الحال، فبعد الإصلاحات التي تمت في قرن سادته الأفكار الاشتراكية الديموقراطية، تلوح في الأفق حركة مضادة ذات أبعاد تاريخية: إنها تمثل في رسم صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق(7).

"العودة إلى الماضي السحيق؟ إنها فعلاً النتيجة التي تقود إليها العولمة حالياً، وذلك بالعمل على إيقاظ النزعات العرقية والدينية بفعل تفتيت الدولة الوطنية".

لم ير هنتنغتون في استيقاظ هذه النزعات القديمة سوى نتيجة طبيعية لنهاية الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي، وتوقف الإيديولوجيات عن تجنيد الناس وراء الأهداف السياسة. يقول:

"مع نهاية الثمانينات سقط المعسكر الشيوعي، ولم يعد النظام الدولي المرتبط بالحرب الباردة سوى ذكرى. ففي عالم ما بعد الحرب الباردة لم تعد الاختلافات الكبرى بين الشعوب إيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية بل أصبحت ثقافية. إن الشعوب والأمم تجهد نفسها للجواب الأساسي بالنسبة لجميع البشر وهو: من نحن؟ ويجيبون عنه بالطريقة التقليدية العتيقة: بالعودة إلى ما هو أهم بالنسبة لهم. إنهم يحددون أنفسهم بلغة السلالة والدين واللسان والتاريخ والقيم والعادات وكذا المؤسسات، إنهم يحددون هويتهم من خلال الجماعات الثقافية: القبائل، الأعراق، الجماعات الدينية، الأمم، وعلى مستوى أعم الحضارات. فهم يستغلون السياسة ليس من أجل مصالحهم، بل من أجل هويتهم فنحن نعرف من نحن إذا عرفنا ما لسناه "on saiy qui on est seulewent si on sait qui on n’est pas" وفي الغالب إذا عرفنا ضد مَنْ نحن(8) عندما يسرد هنتنغتون هذه الوقائع، لا يتساءل عن الأسباب التي كانت وراء هذه العودة إنه يتحدث عن كل ذلك بنوع من التقرير المحايد، وكأن الأمر يتعلق بالموضوعية العلمية أو بتأمل المجريات دون تدخل إداري. إن أقصى ما يمكن استخلاصه من هذا السرد هو أن نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعي هما المسؤولان عما حدث، فالحد الفاصل بين الحرب الباردة وعالم ما بعد هذه الحرب، هو الذي يؤرخ لبزوغ تلك العودة؟

أمام انهيار النظام الدولي بعد الحرب الباردة يبدو أن العالم يسير نحو الفوضى، باستثناء الغرب الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة. فهذه الأخيرة تظل الفاعل الرئيسي على مستوى الساحة الدولية. فكما كان الشأن في الماضي، ما يزال توجه الولايات المتحدة هو البحث عن القوة والثروة(9)، هذه القوة الجبارة من الناحية الاقتصادية والعسكرية، تبدو هي الماسكة بزمام الأمور في عالم اليوم، فهل يشهد ظاهر هذه القوة على باطنها؟ هل المسار الذي انخرط فيه الاقتصاد الأمريكي ينبئ فعلاً عن استمرار قيادة الولايات المتحدة للعالم؟

لنعد إلى كتاب "فخ العولمة" ونقرأ بلغة الأرقام "ليس هناك مكان آخر يبدو التدهور بيِّناً للعيان كما هو بيِّن في الموطن الأصلي للرأسمالية المضادة: الولايات الأمريكية، فالجريمة اتخذت هناك أبعاداً، بحيث أصبحت وباء واسع الانتشار ففي ولاية كاليفورنيا -التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية- فاق الإنفاق على السجون المجموع الكلي لميزانية التعليم، وهنالك 28 مليون مواطن أمريكي -ما يزيد على عشر السكان- قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفق الدولة على الشرطة"(10).

يستند هنتنغتون على نبوءة هنري كيسنجر القائلة بأن القرن الواحد والعشرين سيشهد "على الأقل ست قوى عظمى هي الولايات المتحدة، أوروبا، الصين، اليابان، روسيا ومن المحتمل أيضاً الهند بالإضافة إلى عدد كثير من البلدان المتوسطة أو الصغيرة" والقوى الست المذكورة تنتمى -حسب هنري كيسنجر- إلى "خمس حضارات متباينة" كما سيجعل الموقع الاستراتيجي والنمو الديموغرافي وكذا موارد النفط، من بعض الدول الإسلامية قوى مؤثرة. من هذا كله يستخلص هنتنغتون أنه "في عالمنا الجديد، أصبحت السياسة المحلية إثنية والسياسة العامة حضارية، لقد غدا الصراع بين القوى العظمى، صداماً بين الحضارات في هذا العالم الجديد، لن تكون الصراعات الشاملة، المهمة والخطيرة صراعات بين الطبقات الاجتماعية، بين الأغنياء والفقراء بين مجموعات محددة وفق معايير اقتصادية، بل بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة ستشتعل الحروب القبلية والصراعات الإثنية، داخل هذه الحضارات نفسها"(11).

لسنا ندري كيف وقع استخلاص هذه النتائج، ولا السبل التي سمحت لصاحبها برسم خارطة للقرن المستقبل بتلك الصورة الدرامية التي تذكرنا بحروب القرون الوسطى، هل سيشتعل القرن المقبل فقط لأن الغرب فقد الريادة وانتزعت منه الزعامة، على مستوى الأحداث الدولية والسياسة العامة؟ هل التاريخ "يغضب" من الحضارات الأخرى، أو "ينتقم" للغرب بإدارة عجلته إلى الوراء (هننتغتون) أو بإعلان توقفه عن الحركة (فوكوياما)؟

إن إغراء التنظير لا يقاوم، خاصة عندما يخلق نوعاً من التجاوب لدى الناس، والتجاوب عادة ما يأتي من الكتابة عن موضوعات مطلوبة لدى القارئ، أو تزحزح قناعاته إما بتهويل أو بتخويف أو بترغيب أو بما يجري هذا المجرى. وكتاب هنتنغتون أصاب في القارئ جانباً ما من الجوانب المذكورة، وضرب على وتر من الأوتار المثيرة للإحساس لدى الغربيين عموماً.

وماذا يقول مؤلفا كتاب "فخ العولمة" عن كتاب هنتنغتون؟

ما موقع "صدام الحضارات" من مظاهر العولمة الراهنة؟

خلص المؤلفان إلى التقويم التالي لكتاب هنتنغتون:

"كانت نظرية هنتنجتون القائلة بأن المستقبل لن يتحدد من خلال اختلاف النظم الاجتماعية كما الحال إبان الحرب الباردة، بل سيتحدد من خلال ما يدور بين الحضارات من صراعات دينية وثقافية، قد نالت اهتماماً في الدول الصناعية الغربية على وجه الخصوص ولا ريب في أن هنتنغتون قد أيقظ في بحثه هذا الفزع القديم الذي كان يهيمن على أوروبا، حينما اجتاحها قرنا بعد قرن، الهون والأتراك والروس(12).

هذا الكتاب إذن "أيقظ الفزع القديم" لدى الناس، وهذا سبب شهرته! فهو لا يحمل نظرية أصيلة عن الحضارات، ولا يقدم تصوراً جذرياً عن مسار التاريخ. إنه يدخل في ذلك النوع من الكتابة التي تستفز مشاعر الناس، وتؤلبهم على حقد الآخر، وتحرضهم على الحذر والالتئام والتكتل. ولكن السؤال الذي لا مفر من طرحه في هذه الحالة هو التالي: هل الاتجاه الذي اتخذه الاقتصاد الغربي اليوم يسمح بهذا الالتئام والتكتل أم بالعكس من ذلك يساهم في تفتيت المجتمع الغربي نفسه من الداخل؟ هل "الفزع" الذي يتحدث عنه الكاتب مصدره الآخر أم الذات؟ هل هو داخلي أم خارجي؟ ويمكن أن يتساءل بلغة مؤلفي "فخ العولمة" بالطريقة التالية أيضاً:

"أهناك ما يبرر هذا الفزع؟ هل ستحقق فعلاً نبوءة باحث هافارد بالشؤون الاستراتيجية، ويصطدم الغرب ذو النهج الديموقراطي بباقي العالم؟". بعد هذا يخلص المؤلفان إلى النتيجة التالية: "إننا نشك في هذه النظرية شكاً كبيراً، لا سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الدول التي لا تزال ثرية حتى الآن قد راحت هي نفسها.. تقوم بهدم ما سادها حتى الآن من نظام التكافل الاجتماعي بسرعة تدعو للدهشة والعجب، متسببة في خلق توترات في العالم الغربي"(13).

إن مصدر الفزع داخلي - إذن - ليس خارجياً، لأن الإحساس بالفزع لا يمكن أن يطفو على سطح الشعور إلا إذا كان هناك تهديد فعلي لحياة الإنسان. والتهديد لا يصبح مؤثراً إلا في حالة الاصطدام بالعوائق التي توضع أمام السير العادي لحركية المجتمع، أي عندما يتم المساس بما هو ضروري لاستمرار اليومي والعادي. من هنا يظهر أن الفزع من الماضي لا يشكل تهديداً، لآن استعادته لأن تكون سوى ذكرى عابرة. فأين هو العدو الذي يهدد الغرب؟ هل هو إنسان العالم الثالث الذي يبحث عن لقمة العيش ولا يجدها إلا بالكاد؟ من هو العدو بالضبط: هل هو العربي أم المسلم أم الزنجي أم الآسيوي.. أم من؟ وهل الحروب الدامية يمكن أن تجري بين الضعفاء والأقوياء (اقتصادياً وعسكرياً)؟

نقرأ في "فخ العولمة" الجواب التالي: بما أن 95% من الزيادة السكانية تتركز في أفقر مناطق المعمورة، لذا لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كانت ستندلع حروب أم لا، إنما صار يدور حول طبيعية هذه الحروب وحول من سيحارب من. فمن بين اثنتين وعشرين دولة عربية، ينخفض الناتج القومي في سبع عشرة دولة منها، وهذا في وقت يتوقع فيه المرء أن يتضاعف حجم السكان في بعض من هذه الدول في العشرين سنة القادمة.. ومن هنا فليس مصادفة أن يكسب الانفصاليون والمتحمسون المتدينون.. من المغرب وعبر الجزائر حتى الهند وأندونيسيا، أنصاراً أكثر فأكثر"(14).

-2-
        أين الخلل؟

كيف نفسر هذه الظواهر الاجتماعية؟ هل نلقي باللائمة دوما على الحرب الباردة؟ هل مظاهر التفكك التي نلاحظها هي مسببات أم أسباب؟

إن ما يعتبره هنتنغتون صراعات إثنية وثقافية ليست بالأمر الجديد، وإلا بماذا نفسر حروب القرون الوسطى؟ وكذا الحروب القديمة التي خاضتها روما أو اليونان أو فارس..؟ ألم تكن الحروب موجهة ضد الآخر المختلف، ضد الآخر الذي لا يشبه الأنا في العرق أو في الدين أو في المذهب العقائدي..؟! إن الخلافات والصراعات الحضارية ليست من نتائج نهاية الحرب الباردة، بل كانت حاضرة على خارطة الشعوب والأمم على مر العصور. فالإغريق مثلاً كانوا يعتقدون أن من ليس يونانيا هو بربري، والرومان كانوا يرون أن الآخرين همجيون يهددون استقرار حضارتهم، والمسلمون كانوا يقسمون العالم إلى دار الإسلام من جهة ودار الحرب من جهة أخرى. واليوم ما زلنا نشاهد التقسيم نفسه ولكن بلغة أخرى: الغرب والشرق، والشمال والجنوب، نحن والآخر، المركز والمحيط... الخ. بعد نهاية الحرب الباردة وضع خبراء أمريكيون تقسيماً جديداً للعالم يتمثل في الثنائية التالية: مناطق السلم (الغرب واليابان) ومناطق التوتر (باقي العالم).

هناك إذن تهديد قادم من المستقبل، من القرن الواحد والعشرين، فما سببه؟ وما دوافعه؟ ثم إنه تهديد بالنسبة لمن؟ إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أنتجت النازية والفاشية والشيوعية، فالحرب العالمية الثانية أنتجت الحرب الباردة، ونهاية هذه الأخيرة أسفرت عن تشتيت العالم إلى بؤر متعددة أصبحت الدول فيها مفككة إلى جماعات وأعراق وانتماءات لا تقوم على أساس إيديولوجي أو اقتصادي أو مصلحي بل على أساس ديني وإثني وثقافي عموماً.

وعندما نتأمل هذه المظاهر التي آل إليها العالم اليوم -وستزداد استفحالاً في القرن القادم- يتبين أنها تمثل مجتمعة الماضي الأوروبي والغربي عموماً. إنها مظاهر القرون الوسطى: تفتيت الدول القومية إلى إمارات، نشوب صراعات من طبيعة دينية، حدوث ولاءات وانقسامات وخصومات بناء على نزعات النسب والمصاهرة والقرابة وكل أشكال البنيات الأولية للمجتمع البشري. بعبارة أخرى إن التهديد الذي يتحدث عنه هنتنغتون مصدره الخوف من فقدان الغرب لسيطرته على العالم، والخشية من العودة إلى تاريخ مأساوي لم تندمل جراحه بعد في الجسد الغربي. والغرب يعلم جيداً أنه "لم يتغلب على العالم بفضل سمو أفكاره وقيمة وديانته (قليلون جداً هم الذين تحولوا إلى المسيحية من شعوب الحضارات الأخرى)، بل حصل ذلك بفضل تفوقه في استخدم العنف المنظم"(15). لكن الغرب ينسى هذه الحقيقة مع مرور الأيام، إلا أن الآخرين لا يغفرون له ذلك.

ما يعتبر خللاً عند البعض قد يكون عند البعض الآخر بوادر تنم عن قرب تأسيس نظام جديد. وما يعتبر تهديداً لدول معينة، قد يعتبر لدى دول أخرى إعادة للتوازن والاستقرار. وبخاصة إذا علمنا أن "الخلل" و "التهديد" هي مفاهيم لها طعم "القوة" أي أنها تعكس تحركاً ما لمجالات السيطرة وممارسة العنف أو العنف المضاد. فكل حضارة وراءها قوة ما، "القوة الرومانية" (مثلاً) خلقت حضارة كونية تقريباً في حدود العالم القديم. والقوة الغريبة بصيغتها الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر وكذا الهيمنة الأمريكية في القرن العشرين، نشرت الثقافة الغريبة في جميع أنحاء المعمور تقريباً. لكن هذا الوضع الاستعماري الأوروبي انتهى اليوم، أما بالنسبة للهيمنة الأمريكية فهي في تقهقر مستمر. وقد نتج عن ذلك بداية تآكل الثقافة الغريبة، بينما بدأت تتأكد العوائد واللغات والاعتقادات والمؤسسات المحلية والمتجذرة في التاريخ. فالقوة المتزايدة للمجتمعات الغريبة بفعل التحديث، بدأت تعمل على تجديد الثقافات اللاغريبة في العالم أجمع"(16).

ما هي الأسباب التي تغذي "العوائد واللغات والاعتقادات والمؤسسات المحلية والمتجذرة في التاريخ" على حساب الحضارة الغريبة الآيلة إلى الجمود والتقهقر؟

يعتقد هنتنغتون أن السر يكمن في شيء واحد تتوفر عليه المجتمعات المعادية للغرب، إنه: النمو الديموغرافي! ويزداد هذا التهديد حدة عندما يتواجد على أبواب الدول الغريبة، لأنه يحدث خللاً في التوازنات السائدة فـ"النمو السكاني في البلدان الإسلامية على الخصوص في البلقان، أفريقيا الشمالية وفي آسيا الوسطى، أكثر بكثير مقارنة مع الدول المجاورة وبقية العالم". إذ تبين الإحصائيات أنه "بين 1965 و1990 على سبيل المثال ارتفعت نسبة سكان المغرب العربي بـ2.65% في العالم الواحد، وانتقل عدد السكان بذلك من 29.8 مليون نسمة إلى 59 مليون نسمة.. وفي نفس الفترة ارتفع عدد سكان مصر بنسبة 2.3%، وبذلك انتقل 29.4 مليون نسمة إلى 52.4 مليون نسمة. أما في آسيا الوسطى فقد ارتفع عدد السكان بين 1970 و 1993 بنسبة 2.9%. وفي باكستان وبنغلادش تجاوزت معدلات النمو 2.5% في السنة، بينما في أندونيسيا تزيد النسبة عن 2%. بشكل عام المسلمون يمثلون 18% من سكان المعمور سنة 1980، أما في سنة 2000 فسيمثلون 20%، وفي سنة 2025 سيصبحون 30%"(17).

هذا الانفجار الديموغرافي نتج عنه تغير في طبيعة الهرم السكاني، حيث ازدادت نسبة الشباب. كما نتجت عنه ظواهر أخرى تتعلق بالهجرة من البوادي إلى الحواضر، مما أفضى إلى خلق الهوامش حول المراكز الكبرى. ونتيجة لعوامل التحديث التي عرفتها هذه البلدان بدرجات مختلفة، بدأت فئات الشباب والفئات البدوية الوافدة إلى المدن في البحث عن هويتها، وذلك بالعودة إلى الدين والاحتماء به من أجل الوقوف أمام التحديث من جهة وأمام التهديد باقتلاع الجذور البدوية التي ما تزال ترتبط بها، وهذا ما سماه هنتنغتون بـ"الانبعاث الإسلامي". إن فئات الشباب والبدو الوافدين سيشكلون الجيش الاحتياطي للإسلام السياسي، بفعل التمدرس والتعليم وتكوين نخبة من المثقفين تتمركز أساساً في معاهد الدولة وجامعاتها. وهكذا أصبحت هذه النخبة ترفع شعاراً واحداً يجمعها على اختلاف تياراتها وتوجهاتها، وهو "الإسلام هو الحل". وبالفعل يمكن لهذا الشعار أن يجد ترجمته العلمية كحل "لمشاكل الأخلاق والهوية والمعنى والعقيدة، ولكن لن يجد حلاً للمشاكل المرتبطة بالعدالة الاجتماعية وبالقمع السياسي والتخلف الاقتصادي والهشاشة العسكرية"(18).

إن ما يخيف هنتنغتون ليس فقط تنامي المحركات الدينية التي يغذيها النمو الديموغرافي المتزيد على حدود الأقطار الغربية، بل أيضاً انحسار الحضارة الغربية وتراجع الساكنة المتزايد في تلك الأقطار. إن الخلل حاصل فعلاً: تزايد يقابله تراجع. وإذا استمر التطور على هذا النمط -وهو مستمر لا محالة- فلا بد من انتظار الكارثة. ويكفي أن يضع المرء أمام عينيه الخارطة العالمية ويصغي إلى لغة الأرقام، لكي يتبين حجم الكارثة المحدقة بالغرب في أمد ليس ببعيد. فـ"في أوج توسعه المجالي -أي العشرينات من هذا القرن- كان الغرب يهيمن على حوالي  40 مليون كم2، وهو ما يقارب نصف الكرة الأرضية، ففي سنة 1993 تقلص هذا الحجم إلى 20 مليون كم2. لقد عاد الغرب إلى قاعدته الأوروبية وكذا الأراضي ذات الكثافة السكانية الضعيفة مثل أمريكا الشمالية أستراليا ونيوزلندا. وبالمقابل فإن الأراضي التي تسيطر عليها المجتمعات الإسلامية انتقلت مساحتها من 2.5 مليون كم2 سنة 1920 إلى 15 مليون كم2 سنة 1993. كما وقعت تغيرات مماثلة على مستوى مراقبة الساكنة: ففي سنة 1900 كان الغربيون يمثلون 30% من سكان العالم، وكانت الحكومات الغربية تسيطر على 45% من هؤلاء السكان، ثم قفزت هذه النسبة إلى 48% سنة 1920. أما في سنة 1993 -وباستثناء بعض الجيوب الاستعمارية مثل هونغ كونغ- فإن الحكومات الغربية لم تعد تراقب سوى السكان الغربيين أنفسهم. وهؤلاء لا يمثلون اليوم سوى 13% من الساكنة العالمية، وستنتقل هذه النسبة إلى 11% في بداية القرن القادم لكي تصل إلى 10% سنة 2025. وبلغة ديموغرافية فإن الغرب في سنة 1993 يأتي بعد الحضارات الصينية والإسلامية والهندية من حيث الترتيب"(19).

ما معنى هذا كله؟ أليس هو الحنين إلى الماضي الاستعماري؟! أليس هو الأسف على ماضٍ مجيد؟ أليس هو المنطق نفسه الذي تعتمده الجماعات الدينية عندما تعود إلى العصر الذهبي الذي شهد اكتمال الأهداف والغايات المسطرة في الكتاب؟

وبلغة تملؤها الحسرة يرسم هنتنغتون لوحة قائمة لمآل الحضارة الغربية، مقارناً ماضيها المجيد بحاضرها المؤسف ومستقبلها الآيل إلى الأفول، يقول: "في سنة 1919 كان كل من وودرو ويلسون وليود جورج وجورج كليمنصو يتحكمون في العالم بأسره. كانوا يقررون أثناء اجتماع باريس في مصير الدول التي ستوجد وتلك التي ستختفي، وكذا في مصير الدول الجديدة: حدودها وحكامها. وبعد مائة عام من ذلك التاريخ لن يعود أية دائرة ولو مصغرة من رجال الدول الغربية أن تمارس مثل تلك السلطة فمع خلفاء كل من ريغان وتاتشر وميتران وكول، سيتنافس خلفاء كل من دينغ سياوبنغ، ناكاسون، انديرا غاندي، يلتسن، الخميني وسوهارتو. لقد انتهى عصر الهيمنة الغربية، وفي المسافة الفاصلة بين أنحاء الغرب وبروز مراكز قوة جديدة سنحت الفرصة بنزوع عام نحو التفتيت ونحو ظهور ثقافات لا غريبة"(20).

-3-
         أين الحل؟

بعد هذه التنبؤات السوداوية، لابد من التفكير في الحل فمن أية جهة سيكون مصدر هذا الحل؟

عندما تصبح الرؤية عدمية، فإن الحل سيكون بلون هذه العدمية. فهنتنغتون يعتبر أن هناك نوعاً من الحتمية تتحكم في الطبيعة البشرية، وهي التي أفضت بالضرورة إلى هذه النتائج. إذ يرى أن "البغض جزء من الطبيعة البشرية. فلكي نتحدد ونتحرك، نحتاج إلى أعداء: متنافسون في الأعمال، خصوم أثناء مشوارنا، معارضون في السياسة. نحتاط من المختلفين معنا ونعتبرهم بمثابة تهديد لنا. فحل خلاف ما والقضاء على عدو معين، يبعث قوى شخصية، اجتماعية وسياسية تعمل بدورها على خلق أخرى جديدة"(21). هذه إذن طبائع الأشياء، عوائد الأمور، لا نملك تجاهها حولاً ولا قوة. ولكن من الذي قال: إن طبيعية الإنسان شريرة؟ هل تقرر هذا علمياً؟

يعرف علماء الاجتماع والأنتربولوجيا اليوم أن تفسير الطبيعة الإنسانية لم يرق بعد إلى مستوى النظرية، بل ما يزال في طور الفرضية. إذ لا أحد يستطيع اليوم أن يبرهن على أن الإنسان البدائي كان خيّراً أو كان شريراً بطبعه، تماماً كما هو الشأن بالنسبة للطفل في الأيام الأولى التي تتلو مرحلة الولادة. فالتحقق من وجود طبيعة إنسانية ثابتة وجد عليها الإنسان البدائي يستدعي العودة إلى الماضي، وإعادة التاريخ إلى الوراء أمر مستحيل. إذن فالأمر لا يعدو أن يكون سوى مقايسات افتراضية، وليس بحقائق تاريخية. لذا فالقول بوجود طبيعة شريرة يعادل في جوهره القول بوجود طبيعة خيّرة، مادمنا أمام افتراض وليس أمام واقع. إذا لم تكن طبيعة الإنسان بيّنة بنفسها، فكيف يجوز أن نستند عليها لتفسير مسار حضاري معين؟ كيف صح القول بأن هذه الطبيعة المفترضة سوف تؤدي إلى إبراز قوى جديدة بفعل التنافس والاحتكاك والاختلاف؟

يمكن التشبث بمفهوم "الطبيعية الإنسانية الشريرة" كتبرير نظري لتنافس الحضارات في حالة واحدة فقط، هي نفسها حالة المفكر الغربي الذي يبني نظرته إلى العالم وإلى الآخر على مفهوم ثانٍ هو "العنف المنظم"!

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي اعتقد الغرب أن آخر عقبة أزيحت أمامه، من أجل بسط سيطرته على العالم. تعتقد الولايات المتحدة على الخصوص أن لها وظيفة "تبشيرية" في عالم اليوم، وتتمثل في نشر قيم الديموقراطية والتبادل الحر وفصل السلط والفردانية ودولة الحق.. وغيرها(22). والغرب إذ يدافع عن هذه القيم فهو يدافع عن مصالحه الخاصة "تفوقه الخاص"، ولكنه لا يكشف عن ذلك مباشرة وإنما يعمل على تقديم تلك المصالح باعتبارها مصالح "المجموعة الدولية"؛ ومن ثم فهي ترتكز على مفهوم "الشرعية الدولية". وعندما تصطدم هذه المصالح الكونية المزعومة بالمصالح الشخصية للدول الغربية، يسقط عنها القناع ويبرز التعامل المزدوج. إذ "يتم الدفاع عن الديموقراطية ولكن فقط عندما لا تحمل الأصوليين إلى السلطة، يتم الدفاع عن منع انتشار أسلحة الدمار الشامل بالنسبة للعراق وإيران ولكن ليس بالنسبة لإسرائيل، يصبح التبادل الحر بمثابة إكسير للنمو الاقتصادي ولكن ليس للزراعة، وحقوق الإنسان هي مشكلة في الصين وليست كذلك في العربية السعودية، وردّ العدوان على الكويت الغنية بالنفط يصبح ضرورياً ولكن ليس كذلك بالنسبة للبوسنيين. هكذا تسير اللغة المزدوجة جنباً إلى جنب مع المبادئ الكونية"(23).

إن ما يخيف الغرب ليس هذه الحرب أو تلك، ليس هذه الجماعة أو تلك، بل إن ما يخيفه أكثر هو وجود حضارة مختلفة. لأن الاختلاف يقف سداً منيعاً أمام الكونية، وأمام النظرة الشمولية والأحادية. فـ"المشكلة المركزية لدى الغرب ليست هي الأصولية الإسلامية، بل هي الإسلام كحضارة مختلفة واعتقاد المسلمين في تفوق ثقافتهم.. والمشكلة بالنسبة للإسلام ليست هي المخابرات المركزية ولا وزارة الدفاع الأمريكية، بل هي الغرب كحضارة مختلفة واعتقاد الغربيين في كونية ثقافتهم"(24). وهذا يعني فيما يعينه أن التعايش بين الحضارتين أمر مستحيل، ما دام كل طرف ينظر إلى الآخر نظرة دونية. بل إن هنتنغتون يذهب إلى أبعد من هذا عندما يرى أن حدة الصراع ستزداد، نتيجة "تزايد النمو الديموغرافي الإسلامي وكذا القفزة الاقتصادية الآسيوية". كما ستزداد الصراعات بين "الولايات المتحدة من جهة وكل من الصين واليابان والبلدان الآسيوية الأخرى" مما ينذر بإمكانية وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين كقوة قائدة في آسيا.

إن واجهات الصراع ستعدد بعد انتهاء الحرب الباردة، نظراً لغياب القاعدة الإيديولوجية التي كانت توحد مجموعة من الدول في كتلة واحدة وسيستفحل الأمر أيضاً نتيجة غياب دولة قائدة etats phares (دول منارات) بالنسبة لبعض الحضارات، كالحضارة الإسلامية أو أفريقيا السوداء مثلاً. في هذه الحالة يصعب التحكم في مسار السياسة العامة لبلدان دون دولة قائدة، لذلك لا يؤمن عدم وقوع انفجارات غير محسوبة وغير متوقعة، فالغرب ينعم بالاستقرار اليوم لأن هناك دولة قائدة (الولايات المتحدة) كما أن للاتحاد الأوروبي دول قائدة كذلك (ألمانيا وفرنسا)... الخ.

أما حين تنعدم مثل هذه الدول القائدة في ظل حضارة معينة، فإن الباب سيفتح أمام تعدد الزعامات، مما سيفضي حتماً إلى خلافات إقليمية وجهوية، وانفجار صراعات إثنية.. وغيرها من الخلافات حول الحدود أو الثروات. أراد العراق أن يكون دولة قائدة أثناء حرب الخليج ففشل، وكانت النتيجة أن تحول الخليج العربي إلى بحيرة أمريكية، هذا هو الإحراج الذي آل إليه الوضع الجديد بعد الحرب الباردة: إذا لم توجد دول قائدة ستتأجج الحروب الإثنية والصراعات الإقليمية والجهوية، أما إذا وجدت دولة أو دول قائدة فالغرب لن يقبل بها ما دام قد أسس حضارته على الكونية وعدم القبول بالآخر المختلف! فأين هو الحل إذن؟

يتحدث هنتنغتون أحياناً بلغة الحكيم الذي أخذ العبرة من التاريخ، ويصل إلى نوع من الحل الذي ينتهي إليه أي تطور حضاري كيفما كان. يقول: "إن نهاية حضارة ما تظهر دوماً على شكل نهاية للتاريخ، إذ عندما تصل حضارة معينة إلى مرتبة الكونية، فإن شعبها يصاب بالعمى الذي سماه توينبي toynbee بـ"وهم الخلود" إذا يعتقد (كذلك الشعب) أنه وصل إلى المرحلة النهاية لتطور المجتمع البشري. لقد حصل هذا مع الإمبراطورية الرومانية، الخلافة العباسية، الإمبراطورية المغولية والإمبراطورية العثمانية"(25). وما يفهم من هذا الكلام أن الغرب وصل اليوم إلى المرحلة نفسها التي آلت إليها الحضارات السابقة، وعليه أن يستسلم لقدره. فهل أراد هنتنغتون أن يقنع الغربيين فعلاً بضرورة الرضوخ لمنطق التاريخ؟ أم أنه يريد أن يقنعهم بأخذ العبرة مما سبق بغية تلافي ما سيلحق؟ هل جاء هنتنغتون بهذه الكتاب منذراً أم مبشراً؟

بعد خمس عشرة صفحة من هذا التقرير، نسمع من الشخص نفسه الكلام التالي: "كل الحضارات تمر بنفس المراحل: الظهور، التطور، والانحطاط. لكن الغرب يختلف عن الحضارات الأخرى ليس بالطريقة التي تطور بها، بل بالطابع الخاص لقيمه ومؤسساته: المسيحية، التعددية، الفردانية، سلطة القانون، كل هذا سمح للغرب بابتكار الحداثة، حيث عرف توسعاً عالمياً، وفرض هذا النموذج على المجتمعات الأخرى"(26). ما معنى هذا الكلام؟ أليس هو الخلط والتناقض بعينه؟ أليس هنتنغتون نفسه هو الذي قال سابقاً: إن قيم الغرب ليست أفضل من قيم غيره، وإن هذه القيم ليست هي المسؤولة عن تقدمه وإنما جاء ذلك التقدم نتيجة سلوكه طريق "العنف المنظم"؟! ألم يقل قبل قليل: إن جميع الحضارات الإنسانية تصل إلى مرتبة الكونية في آخر مراحل تطورها؟! وبناء عليه فكيف يمكن أن يشكل الغرب استثناء في هذا المجال حين يسعى إلى فرض نموذجه على الآخرين؟

بعد كل هذا التحليل "المعمق" والذي شيده صاحبه على الإحصائيات الدقيقة ودعمه بـ"فلسفة التاريخ"، ينتهي إلى ما يشبه "الحل" الأمثل لمسار الحضارة الغربية. وذلك بتقديم وصفة لرؤساء وحكومات الدول الغربية، من أجل تغيير مسار التاريخ والنهوض بتلك المجتمعات ثانية فيما يشبه الصحوة والتجديد التاريخي. فهو يرى أن "الحفاظ على الحضارة الغربية -رغم انحطاط قوة الغرب- يجعل من مصلحة الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية أن:

"- تعمل على تحقيق الاندماج الاقتصادي، الثقافي، والعسكري، بغية منع الحضارات الأخرى من استغلال خلافاتها.

- تعمل على إدماج دول أوروبا الوسطى في الاتحاد الأوروبي، وفي الحلف الأطلسي...

- تعمل على تشجيع "عملية تغريب" أمريكا اللاتنية...

- تعمل على كبح تطور القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية لدى الحكومات الإسلامية، والبلدان ذات الثقافة الصينية.

- تعمل على اعتبار روسيا دولة قائدة للعالم الأرثوذوكسي وكقوة جهوية أساسية لها مصالح شرعية تتعلق بالأمن على طول حدودها الجنوبية.

- تعمل على ضمان التفوق التكنولوجي والعسكري للغرب على باقي الحضارات الأخرى.

- تعمل أخيراً على اعتبار تدخل الغرب في شؤون الحضارات الأخرى من المحتمل أن يكون سبباً خطيراً في زحزحة الاستقرار، وخلق صراع شامل في عالم متعدد الحضارات"(27).

وأخيراً فهذا كتاب بدأ بوقائع وانتهى بتمنيات، بدأ بالعلم وانتهى باليوتوبيا. هذا إذا اعتبرنا الإحصائيات والأرقام علماً خالصاً، ناهيك عن كون سرد تلك الوقائع يخلق انطباعاً سريع الزوال. فاستطلاعات الرأي بدورها تعتمد لغة الأرقام والإحصائيات، ولكنها لا تشكل قط دعامة لتأسيس نظرية علمية قائمة الذات.

 

الهوامش:

(1) ص:15 - 16.

(2) ص: 16.

(3) ص: 25 - 26 من الترجمة العربية، عالم المعرفة العدد 238 عام 1998.

(4) ص: 27.

(5) ص: 28 - 29.

(6) ص 32.

(7) ص 33.

(8) ص 21.

(9) ص21.

(10) ص 35.

(11) ص 22 - 23.

(12) ص 65.

(13) ص 65.

(14) ص 64.

(15) ص 61.

(16) ص 125.

(17) ص 167.

(18) ص 173 174.

(19) ص 111 113.

(20) ص 124 - 125.

(21) ص 185.

(22) ص 266.

(23) ص 267.

(24) ص 320.

(25) ص 453.

(26) ص 469.

(27) ص470 - 478.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة