تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الثقافة والمجتمع .. نظريات وأبعاد

زكي الميلاد

الثقافة والمجتمع .. نظريات وأبعاد

 

-1-
الثقافة والمجتمع وبناء المفاهيم

لعله ما كان بالإمكان التعرف على فكرة الثقافة، واكتشاف قيمة وفاعلية هذه الفكرة، وتطوير المعرفة بمكوناتها وأبعادها ووظائفها وعلائقها، بدون وجود المجتمع، وبعيداً عن مفهوم المجتمع، وقدرة المجتمع على البقاء والوجود والاستمرار.

 وما كان بالإمكان أيضاً التعرف على فكرة المجتمع كمعنى ومفهوم كلي ومركب بدون فكرة الثقافة. فالثقافة بدون المجتمع هي معنى بدون إطار، والمجتمع بدون الثقافة هو إطار بدون معنى. والمعنى بدون إطار هو معنى بدون صورة، وليس له تحقق وتمثل فعلي وإنساني، والإطار بدون معنى هو إطار بدون محتوى، وليست له هوية وشخصية ثابتة ومتماسكة.

وهذا يعني أن فكرة الثقافة لا تكتمل بدون المجتمع، والمجتمع ليس له معنى بدون الثقافة. لذلك كان من السهولة أن تتطور فكرة الثقافة باتجاه الارتباط بالمجتمع. التطور الذي دفعت به الثقافة من جهة دفعاً ذاتياً، ودفع به المجتمع أيضاً من جهة أخرى دفعاً موضوعياً. الثقافة دفعت به بحثاً عن الإطار، والمجتمع دفع به بحثاً عن المعنى. فهناك إذاً قابلية من الثقافة، وقابلية من المجتمع.

من هنا نشأ التلازم والتداخل بين الثقافة والمجتمع. التلازم الذي صورته وأكدت عليه معظم الدراسات والكتابات الثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية، القديمة والحديثة، ومازالت تعبر عنه وتؤكد عليه إلى اليوم. خصوصاً بعد أن تحول الاهتمام والنظر إلى الثقافة من البعد الفردي إلى البعد الاجتماعي، ومن فكرة التهذيب الذي يتصل بالفرد إلى فكرة التهذيب الذي يتصل بالمجتمع.

وهذا ما حاول تغليبه والكشف عنه توماس إليوت، وهو يبحث عن المعاني المتعددة لكلمة الثقافة، فارتباطات هذه الكلمة -كما يقول- تختلف بحسب ما نعنيه من صلة لها بنمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. لكن الأساس عنده هو ربط معنى الثقافة بالمجتمع. لأن ثقافة الفرد في تصوره تتوقف على ثقافة الفئة أو الطبقة، وثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. كما انتقد إليوت الذين ربطوا كلمة الثقافة بالمعنى الذي يتصل بالفرد دون وصله بالمعنى الذي يتصل بالمجتمع، وهو يعني بذلك ما ذهب إليه ماثيو أرنولد في كتابه (الثقافة والفوضى)، واعتبر هذا الربط ناشئاً من خلو الصورة عند أرنولد من الأساس الاجتماعي(1).

وفي نظر تيري إيجلتون أن الثقافة كان لابد لها أن تحتفظ ببعدها الاجتماعي، لكي يكون بإمكانها أن تمثل نقداً فاعلاً ومؤثراً، ولم يعد باستطاعتها أن تقفز عائدة إلى معناها الباكر حسب وصف إيجلتون، والخاص بالتهذيب الفردي(2).

ويعتبر لويس دوللو أن المرحلة الاجتماعية لمفهوم الثقافة بدأت مع تعريف تايلور للثقافة الذي عرفها بأنها ذلك الكل المركب الذي يشمل العقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.

وبهذا التعريف الذي عُرف بسطوته وقوة حضوره، يكون تايلور قد ساهم في تدعيم العلاقة وتوثيقها بين الثقافة والمجتمع. ومن بعد تايلور بدأت الثقافة تعرف وينظر لها عند الكثيرين في إطار علاقتها بالمجتمع، وباعتبارها مفهوماً اجتماعياً.

وهذا ما ظهر واضحاً في العديد من التعريفات اللاحقة للثقافة، كتعريف عالم الاجتماع روبرت بيرستد، التعريف الذي وصفه الدكتور الفاروق زكي يونس بأنه من أبسط تعريفات الثقافة، وأكثرها وضوحاً، حيث عرفها في أوائل ستينات القرن الماضي بقوله: “إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في مجتمع”(3)، أو في تعريف ورالف لينتون الذي يرى أن الثقافة هي التشكيل الخاص بالسلوك المكتسب، ونتائج السلوك الذي يشرك جميع أفراد مجتمع معين في عناصره المكونة ويتناقلونها. إلى غير ذلك من تعريفات ظهرت في أزمنة متعاقبة، ولسنا بحاجة إلى إحصائها وتتبعها.

ومن شدة التلازم والارتباط بين الثقافة والمجتمع، ظلت هذه العلاقة محور جدل لم ينتهِ عند المشتغلين في الدراسات الثقافية والاجتماعية، الجدل الذي ظل يفرض حضوره في مقدمة الحديث عن هذه العلاقة، وصورته تتحدد في: هل أن الثقافة هي التي تصنع المجتمع؟ أم المجتمع هو الذي يصنع الثقافة؟ وهل هناك مجتمع قبل الثقافة؟ أو ثقافة قبل المجتمع؟.

وأمام هذه الجدلية وجد الدارسون أن من الصعب، أو من المتعذر تحديد من الذي يتقدم ويسبق الآخر، ويكون هو الأصل. لذلك تركز الاهتمام على الأبعاد المشتركة بينهما. وعن هذه الجدلية وصورتها يقول أصحاب نظرية الثقافة: “يدور الجدل باستمرار بين العلماء الاجتماعيين حول ما إذا كانت الهياكل المؤسسية هي مصدر الثقافة، أم أن الثقافة هي السبب في البنية. وكما يبدو واضحاً من تعريفنا لأنماط الحياة، فإننا لا نرى سبباً للاختيار بين المؤسسات الاجتماعية والتحيزات الثقافية. فكلٌّ من القيم والعلاقات الاجتماعية يعتمد تبادلياً على الآخر ويقوّيه، فالمؤسسات تولّد مجموعات متميزة من التفضيلات، كما أن الالتصاق بقيم معينة يضفي المشروعية على الترتيبات المؤسسية المناسبة لها.

وإذا طرحنا التساؤل حول ما الذي يأتي أولاً، أو ما الذي يجب إعطاؤه أولوية سببية فهو متعذر”(4).

وبوضوح أكثر يقول الفاروق زكي يونس: “إن العلاقة وثيقة بين المفهومين -الثقافة والمجتمع- نظرياً وفي الواقع الاجتماعي كذلك، وحتى لو أمكن التفرقة النظرية بينهما، إلا أن الظواهر التي يعبران عنها لا ينفصل بعضها عن بعض في الحقيقة والواقع. فالثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع، ثم إن المجتمع لا يقوم ويبقى إلا بالثقافة. إن الثقافة طريق متميز لحياة الجماعة، ونمط متكامل لحياة أفرادها، ومن ثم تعتمد الثقافة على وجود المجتمع، ثم هي تمد المجتمع بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيه”(5).

وحين انتصر الدكتور كارل مانهايم لمفهوم الصفوة، وهو الفيلسوف الذي تستحق آراؤه عن فكرة الصفوة أقصى الاهتمام، لقيمتها في ذاتها، ولما لها من تأثير، فهو الذي رسم خطوط كلمة الصفوة في بريطانيا، هذا ما قاله عنه توماس إليوت قبل أن يناقشه في فكرته التي يقول فيها: “إن البحث الاجتماعي عن الثقافة في مجتمع حر، يجب أن يبدأ بحياة أولئك الذي يخلقون الثقافة، أي المثقفين ومكانهم في المجتمع ككل”، ويعقب إليوت على هذه الفكرة مخالفاً لها بقوله: إن “تصوري للثقافة هو أنها من خلق المجتمع ككل، إذ هي من وجهة أخرى ما يجعله مجتمعاً. إنها ليست من خلق أي جزء واحد من ذلك المجتمع”(6).

وحين اعتبر إليوت أن الثقافة هي من خلق المجتمع، سرعان ما تدارك واعتبر أيضاً أن ما يجعله -أي المجتمع- مجتمعاً هي الثقافة.

لذلك يمكن القول: إن الثقافة ساهمت من جهة في تطوير مفهوم المجتمع، كما ساهم المجتمع من جهة أخرى في تطوير مفهوم الثقافة.

-2-
الثقافة والمجتمع في رؤية رايموند وليامز

في المجال الثقافي والدراسات الثقافية، عرف رايموند وليامز (1780 - 1950م) بكتابه (الثقافة والمجتمع الصادر عام 1956م)، والذي قدّم فيه أوسع حديث حول هذه القضية. ولعل هذا الكتاب يعدّ في طليعة الأعمال الفكرية التي اقترنت فيها الثقافة بالمجتمع، في حين أن المؤلفات التي سبقته كانت تقرن الثقافة بموضوعات أخرى، ومن هذه المؤلفات المعروفة كتاب ماثيو أرنولد (الثقافة والفوضى)، أو كتاب ف. ر. ليفيس (الثقافة والبنية، الصادر عام 1933م)، والذي ألّفه بالاشتراك مع دينيس تومبسون،. وغير ذلك من مؤلفات أخرى.

وعلى هذا الأساس فإن محور فكرة وليامز عن الثقافة تدور في إطار علاقتها بالمجتمع، بما يمثل المجتمع من سياق تاريخي ممتد من الماضي إلى الحاضر، على صورة سيل لا يتوقف من التغيرات، المؤثرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية، والتي تؤثر بدورها في تطور فكرة الثقافة من جهة، وفي طرائق فهم المجتمع لفكرة الثقافة من جهة أخرى.

ولهذا يرى وليامز أن التطور الذي طرأ على لفظة ثقافة، يمثل سجلاً لعدد هام ومتواصل من ردود الأفعال، للتغيرات التي حصلت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذه الفكرة افتتح بها وليامز مقدمة كتابه واختتم بها أيضاً، حيث اعتبر أن تاريخ فكرة الثقافة هو سجل لردود أفعالنا فكرياً وشعورياً للظروف المتغيرة في حياتنا العامة. ويعيد وليامز التأكيد على هذه الفكرة بعبارة أخرى، من شدة قناعته بها بقوله: “وتاريخ فكرة الثقافة هو سجل لتعريفاتنا ومعانينا التي يجب ألاَّ تفهم إلا عبر سياق أفعالنا”(7).

وقد وجد وليامز أنه لكي يتعرف على تاريخ تطور فكرة الثقافة، وكيف تشكّلت وتعاقبت وتحددت، كان عليه أن يستحضر التاريخ الثقافي للمجتمع الإنجليزي، وتراثه الفني والنقدي كسياق لابد منه لتكوين مثل هذه المعرفة. وفي رأيه أن فكرة الثقافة قد مرّت بتاريخ من التطور والتحول تغير فيها منطق المعنى ومحدداته واتجاهاته، وهذا التطور كان يستجيب من جهة لتطور وتراكم المعرفة، ولطبيعة التطور الاجتماعي من جهة أخرى. والحدث الذي أبرز الاهتمام بفكرة الثقافة في نظره هو الثورة الصناعية في أوروبا، وهذا ما حاول وليامز الكشف عنه، والبحث عن تفسيرات له، فالمبدأ الذي قام عليه كتابه كما يقول هو “اكتشاف أن فكرة الثقافة، واللفظة ذاتها في استعمالاتها الحديثة والعامة، برزتا في التفكير الإنجليزي في الفترة التي نصفها عادة بالثورة الصناعية. وما يستهدفه هذا الكتاب هو تبيان كيف حدث هذا ولماذا حدث، ثم متابعة الفكرة وكيف وصلت إلينا” وبذلك يغدو الكتاب كما يضيف وليامز، “سرداً وتفسيراً لاستجاباتنا في مجال الشعور والتفكير، تجاه التغيرات التي حدثت في المجتمع الإنجليزي منذ أواخر القرن الثامن عشر”(8).

وما بين تلك الفترة إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، استخدمت لأول مرة في اللغة الإنجليزية المتداولة عدة ألفاظ، أصبحت فيما بعد ذات أهمية أساسية، حددها وليامز في خمسة ألفاظ هي: صناعة، ديموقراطية، طبقة، فن، ثقافة. والتغيير الذي حصل في تركيبة معاني هذه الألفاظ، يشهد -في نظر وليامز- على التغير الشامل الذي حصل في طرائق التفكير التي تتصل بالحياة العامة، وما يخص المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما يتعلق بالأغراض التي خصصت تلك المؤسسات لتجسدها.

وباقتضاب شديد، تتبع وليامز التغير الذي طرأ على تلك الألفاظ إلى أن وصل إلى لفظة ثقافة، فحدّد تعاقب المعاني التي مرّت بها في أطوارها التاريخية، فبعد أن كان معناها قبل تلك الفترة يدل على اتجاه النمو الطبيعي، أصبح فيما بعد يدل على تهذيب شيء ما في العادة. إلى أن تغير المعنى وأصبحت لفظة الثقافة تعني شيئاً مستقلاً في حد ذاته، وذلك في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فقد أصبح معناها أولاً -كما يقول وليامز- حالة أو عادة عقلية عامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة الكمال الإنساني، وغدت تعني ثانياً الحالة العامة للتطور الفكري في مجتمع بأسره، إلى جانب معنى ثالث هو الكيان العام للفنون. وإلى أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الثقافة تعني معنى رابعاً هو طريقة شاملة للحياة، مادية وعقلية وروحية(9).

وهذا المعنى الأخير للثقافة هو الذي ارتضاه وليامز، وظلّ يدافع عنه، ويغلّبه على غيره من المعاني الأخرى، لأنه الأكثر نضجاً ودلالةً واكتمالاً. كما ظل يرجع إليه باستمرار، وفي كل مرة يُقارنه بأحد المعاني يُظهر تحيُّزه له وتأكيد تفوقه.

هذه اللمحة الموجزة جداً عن مراحل تطور تاريخ فكرة الثقافة، لعلها من أهم الأفكار التي أشار إليها وليامز في كتابه. ولو تعقب وليامز هذه المراحل بمنهجية وتركيز، لكان الحديث أكثر ضبطاً وتقعيداً وفائدةً. بدل الإسهاب والإطناب الزائد، الذي أظهر الكتاب كما لو أنه توثيق لتجارب فكرية مختلفة، تنتمي لأزمنة متعددة ومتعاقبة، وتعبر عن اتجاهات ومسلكيات تحسب على أشخاصها. ومن هذه الناحية يعدّ الكتاب مملاً بعض الشيء، بسبب توسعه وإسهابه، وكونه يكتفي بالكُتّاب الإنجليز فقط.

وقد التفت وليامز نفسه إلى الملاحظة، وأراد أن يقدم تصويباً لها، وتوضيحاً لوجهة نظره، واعتبر أنه لم يختص في بحثه واستقصائه بتمييز المعاني المذكورة للثقافة فحسب، وإنما بارتباطها بمصادرها ومؤثراتها، ولا عن طريق اختبار سياق من القضايا المجردة كما يقول، بل بفحص سياق من الأقوال التي قدّمها الكتاب، ولئن كان إطار البحث عاماً حسب قوله، إلا أن المنهج في دقائقه هو دراسة الأقوال والمساهمات الفردية(10).

وما يؤكد مثل هذه الملاحظة، أن تيري إيجلتون، الذي اعتبر وليامز منظّر الثقافة الأكبر في بريطانيا ما بعد الحرب، لم يتحدث عنه في كتابه (فكرة الثقافة) إلا في حدود تلك الإشارة، التي عدّد فيها وليامز المعاني المتعددة والمتعاقبة للثقافة، مستشهداً عليها بتعقيد فكرة الثقافة. فقد وجد إيجلتون -كما يقول- أن تعقيد فكرة الثقافة لا يتضح جلياً في أي مكان، بقدر ما يتضح عند رايموند وليامز، الذي قدّم حولها عدداً من التعريفات، في مراحل مختلفة من عمله(11).

والملاحظة الأخرى، أن وليامز مع أنه يفضل المعنى الذي يصور الثقافة على أنها طريقة شاملة للحياة، ولعله يعلم أن أكثر من دعم هذا المعنى، ورسّخه في الدراسات الثقافية والأنثروبولوجية هو إدوارد تايلور، وعرف به أكثر من غيره، وتعرف عليه الآخرون من خلاله، مع ذلك لم يشمله وليامز من بين الكُتّاب والنقاد الإنجليز الذين تحدّث عن عدد غير قليل منهم، والكثير منهم ليسوا في منزلة وشهرة تايلور في مجال الثقافة، الإهمال الذي لم أجد تفسيراً علمياً مقنعاً له. ولا أظن أن هذا الإهمال جاء سهواً، أو كان بعيداً عن إدراك وليامز، أو غائباً عن ذكائه وفطنته.

وحينما خصص وليامز فصلاً في كتابه عن توماس إليوت، للحديث عن فكرته حول الثقافة كما عرضها في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، وجد أن مواضع الأهمية في هذا الكتاب التي تستحق الذكر والمناقشة -حسب رأيه- تتحدّد في فكرتين، الأولى: اعتباره الثقافة طريقة شاملة للحياة، وهي الفكرة التي أخذ وليامز يجادل فيها إليوت، توافقاً وتخالفاً من حيث تضميناتها وأبعادها. ومع أن إليوت أشار إلى تايلور عندما أخذ بهذا المعنى العام للثقافة، أو المعنى الأنثروبولوجي كما وصفه، مع ذلك بقي وليامز على موقفه الذي لعله تقصّد فيه ألاَّ يأتي على ذكر تايلور في كتابه. ومن النادر أن تجد كتاباً يتحدث عن الثقافة فكرة أو معنى أو تاريخاً يغيب فيه اسم تايلور. وما يتمم هذه الملاحظة أن وليامز توقف مليًّا أمام عام 1870م، وحين أراد أن يؤرخ للفترات التي يصفها بالأساسية، قسّم هذه الفترات إلى ثلاثة أقسام. تمتد الفترة الأولى من عام 1700 إلى عام 1870م، وتمتد الفترة الثانية من عام 1870 إلى عام 1914م. وفي مكان آخر يتوقف أيضاً أمام ذلك العام، ويرى أنه موضع ريبة بالغة باعتباره يمثل تاريخاً حاسماً. مع العلم أنه في عام 1871م أصدر تايلور كتابه الأكثر شهرة في مجاله (الثقافة البدائية) ويفترض لمثل هذا التزامن، أن يلفت الانتباه أكثر لشخصية تايلور وأفكاره، الأمر الذي لم يحصل.

أما الملاحظة الأكثر أهمية فهي أن وليامز لم يقدّم نظرية في العلاقة بين الثقافة والمجتمع، أو نظرية في الثقافة. مع أنه بذل جهداً واضحاً في استكشاف التاريخ الثقافي لمجتمعه، واستحضار تجارب الكُتّاب والنقاد المؤثرين، والذين ينتمون إلى ثلاثة عصور تمتد من عام 1780 إلى عام 1950م. ومن هذه الناحية يعدّ كتابه ثريًّا ومهمًّا في موضوعه ومجاله، وهو أشبه ما يكون بكتاب يؤرخ لتاريخ الثقافة في المجتمع البريطاني. وعملٌ بهذا المستوى يفترض فيه أن يكون مؤهلاً، أو له إمكانية بناء نظرية أو فكرة أو تصور في هذا الشأن. وإنجاز مثل هذه المهمة لا يتعارض واهتمام المؤلف بالسرد التاريخي، وتفسير الأقوال ونقد المقولات والأفكار، ولعله كان من المناسب أن يختم المؤلف كتابه بنظرية أو تصور حول موضوعه.

وعندما كان هذا الكتاب في المطبعة أدرك المؤلف الحاجة إلى نظرية جديدة عن الثقافة، تستفيد ممَّا أنجزه هو من تنقية التراث، وحسب قوله: “وبينما كان هذا الكتاب في المطبعة كنت أفكر في الاتجاهات التي ينبغي أن يسير عليها بشكل مثمر عمل آخر في نفس المجال.. ويلوح لي في البداية أننا في طريقنا إلى أن نصل من اتجاهات متباينة، إلى موضع ينبغي أن تنجز فيه بالفعل نظرية جديدة عامة عن الثقافة. ولقد نشرت في هذا الكتاب تنقية التراث، إلا أنه قد يصبح ممكناً الانطلاق من هذا إلى توضيح كامل للمبادئ، مع اعتبار نظرية الثقافة نظرية للعلاقات بين مكونات في طريقة شاملة للحياة”(12).

ولعله يفهم من كلام وليامز أنه يفصل بين مهمتين، مهمة الانشغال ببناء النظرية، ومهمة الانشغال بتنقية التراث. المهمة الأولى تحتاج إلى إمكانات البناء، والمهمة الثانية تحتاج إلى إمكانات النقد. وهذا الفصل ليس صائباً بالضرورة، لا من الناحية المعرفية، ولا من الناحية المنهجية. والأصوب هو الجمع بين المهمتين والتكامل بينهما. لأن الذي ينشغل ببناء النظرية، قد لا يكون عمله مقنعاً عند البعض إذا لم يستحضر معه التراث الثقافي، ويقوم بتنقيته والتأسيس عليه. لأن بناء النظرية ليس بحثاً في التجريد، ولا هو مجرد تأملات مكثقة ومنظمة، وكلما كانت هذه المهمة متصلة بالتجربة والتراث والتاريخ، كانت أكثر أهمية وقيمة وإقناعاً.

ومن الملاحظات الأخرى التي ينبغي أن تذكر، ما يذهب إليه البعض في تصنيف كتاب وليامز، من أنه يأتي في سياق النقد اليساري لطبقة التطور الرأسمالي والليبرالي، الذي حصل في بريطانيا بصورة متراكمة ومتلاحقة بعد الثورة الصناعية، التي كانت في زمنها أعظم حدث أثّر بعمق في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأدخل بريطانياً وأوروبا إلى عصر جديد. وهذه الملاحظة لا تخلو من صحة، ولها أساس واقعي في بنية وأطروحة الكتاب الذي يظهر عليه الاهتمام بالنقد الاشتراكي واليساري، وإظهار الخلاف مع اتجاهات التطور الرأسمالي، ومع النزعة الليبرالية.

هذه بعض الملاحظات، وهناك الكثير ممَّا يمكن مناقشته مع كتاب وليامز، لكننا لسنا بحاجة لمثل هذا التوسع.

-3-
نظرية القابلية الاجتماعية والثقافية للنمو

من النظريات الحديثة التي حاولت تأكيد العلاقة وتطويرها بين الثقافة والمجتمع، هي النظرية التي أطلق عليها أصحابها نظرية القابلية الاجتماعية والثقافية للنمو. ولأن هذا التعبير -في نظر أصحابها- غير لبق من حيث الأسلوب، ولا يستقطب الاعتراف الذي يسعون إليه كما يقولون، لذلك فإنهم يشيرون لهذه النظرية بتعبير مختصر، ويطلقون عليها نظرية الثقافة. وهو التعبير الذي حمل عنوان كتاب أصدره ثلاثة من الكُتّاب الأكاديميين، هم: ميشيل تومبسون مدير معهد وباحث في جامعة لندن، وريتشارد إليس أستاذ في علم السياسة، وآرون فيلدافسكي أستاذ علم السياسة في جامعة كاليفورنيا. وهذا الكتاب هو الأول في سلسلة من المؤلفات عن الثقافة السياسية صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية تسعينات القرن العشرين.

وترتكز هذه النظرية على ثلاثة مفاهيم أساسية، مترابطة بشدّة فيما بينها، هي كما اصطلح عليها أصحابها، التحيزات الثقافية، والعلاقات الاجتماعية، وأنماط الحياة. وحسب هذه النظرية، فإن التحيزات الثقافية تشير إلى القيم والمعتقدات المشتركة، وتعرَّف العلاقات الاجتماعية بأنها أنماط العلاقات الشخصية بين الأفراد، وأنماط الحياة هي حصيلة المركب الحي بين التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية، بدون إعطاء أولوية سببية لا للتحيزات الثقافية، ولا للعلاقات الاجتماعية، فبينهما علاقة تبادلية، وكل منهما تتفاعل مع الأخرى وتقويها. فالالتزام بأنماط معينة من العلاقات الاجتماعية يولد طريقة متميزة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً من العلاقات الاجتماعية. لذلك يكفي حسب هذه النظرية بيان أن كلاً من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية مسؤولة عن الأخرى، بدون الدخول في قضية من جاء أولاً(13).

وقد جاءت هذه النظرية لكي تستوعب الاتجاهات الرئيسية المتباينة في النظر إلى الثقافة من جهة، وتضع حدًّا للانقسام الحاصل بين الاتجاهات الثقافية والاتجاهات الاجتماعية والتقريب بينهما من جهة أخرى. فأمام التعريفات التي لا حصر لها للثقافة، والتي قد طرحت وجربت -كما يقول أصحاب هذه النظرية- دون أن يتحقق اتفاق حولها بين الباحثين، إلا أن هناك اتجاهين في تلك التعريفات يتنافسان على التفوق، أحدهما ينظر للثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات والرموز، وما شاكلها من المنتجات العقلية. أما الاتجاه الآخر فيرى أن الثقافة تشير إلى النمط الكلي لحياة شعب ما، وإلى العلاقات الشخصية بين الأفراد وطبيعة توجهاتهم.

وكما هو ملاحظ فإن الاتجاه الأول يربط الثقافة بالتحيزات الثقافية، والاتجاه الثاني يربط الثقافة بالعلاقات الاجتماعية وبنمط الحياة. وبدلاً من المجادلة لمصلحة تعريف دون آخر، حاولت هذه النظرية استيعاب كلا الاتجاهين في إطار مشترك، وتكوين نظرية على أساس الجمع والتكامل بينهما، هذا عن الجهة الأولى.

أما الجهة الثانية، فقد شهدت العلوم الاجتماعية في الحقب الأخيرة انفصالاً كما يقول أصحاب هذه النظرية، بين دراسات القيم والرموز والمعتقدات، وبين دراسات العلاقات الاجتماعية وأنماط التنظيم والمؤسسات. الانفصال الذي جعل من دراسات الثقافة كما لو كانت المنتجات العقلية تظهر في فراغ مؤسسي، في المقابل تجاهلت دراسات العلاقات الاجتماعية كيف يقوم الناس بتبرير طريقتهم في الحياة لأنفسهم وللغير. لذلك يعتقد أصحاب هذه النظرية أن أحد أهم إسهامات نظريتهم هو التقريب بين هذين الاتجاهين الثقافي والاجتماعي(14).

كما حاولت هذه النظرية أن تبرهن على عدم الحاجة إلى المفاضلة بين الثنائيات التي ظل العلم الاجتماعي غارقاً فيها، كثنائية الثقافة والبنية، الثابت والمتغير، الطوعية والجبرية، الموضوعية والذاتية، المادية والمثالية، العقلانية واللا عقلانية وغيرها. بالرغم من أن هذه الثنائيات مفيدة أحياناً -كما يقول أصحاب هذه النظرية- كتقسيمات تحليلية، إلا أنها غالباً ما تؤدي إلى نتيجة سيئة، وهي إخفاء مظاهر الاعتماد المتبادل بين الظواهر. ويضيف أصحاب هذه النظرية أنه كثيراً ما يفتعل العلماء الاجتماعيون إشكالات لا حاجة إليها بتمسكهم بجانب واحد من هذه الثنائيات، والادعاء بأنها الأكثر أهمية(15).

ولعل ما أشرنا إليه يعبر عن الفكرة الأساسية لهذه النظرية، وهناك أبعاد ومكونات أخرى في هذه النظرية لسنا بصدد الحديث عنها، ومتابعتها بكل تفاصيلها.

ومن الواضح على هذه النظرية أنها من نمط النظريات التوفيقية والتقريبية والاستيعابية، فقد جاءت للتوفيق بين اتجاهات ظهر بينها التباعد والانفصال، والتقريب بين ثنائيات يظهر عليها التباين والتعارض، ومحاولة استيعاب العديد من النظريات التي تنتمي لأزمنة مختلفة بحثاً عن الجذور، وانتظاماً في حركة الأفكار والمعارف وتطورها وتعاقبها التاريخي، وسعياً نحو تأكيد التفوق، وإظهار الإنجاز.

وهذا النمط من النظريات لا يروق للبعض، الذي يرى أنها تتصف بالمهادنة واللا حسم وإخماد الجدل، وأن لا ضرورة لهذه النزعة التوفيقية، التي لا تمثل في نظر هؤلاء مكسباً وإنجازاً، والوصول إليها لا يمثل فتحاً وإبداعاً، لأن من السهولة والبساطة الوصول لمثل هذه النتائج والحلول. وهذا بخلاف أصحاب هذه النظرية، الذين يتصورون أن محاولتهم هذه تأتي في سياق إخراج العلم الاجتماعي، من حالة الانسداد والمأزق الذي وصل إليه، والانتقال به من الحالة السلبية إلى الحالة الإيجابية، ومن الأحادية إلى التعددية، ومن التجزيئية إلى التركيبية، وأن السمة المميزة لنظرية الثقافة -كما يقول أصحابها- هي أنها نظرية للتوازنات المتعددة، فبدلاً من افتراض توازن مثالي، كما في حالة النظريات التي تجعل النجاة أو تعظيم المنفعة معياراً للاختيار الفردي، تصرّ نظرية الثقافة -حسب تصور هؤلاء- على أن هناك خمسة حلول مقبولة وعقلانية لكل مشكلة. ولهذا يعتبر هؤلاء أن هذه النظرية مرشحة كإطار تفسيري واعد على حد وصفهم.

ولاشك في أهمية وقيمة هذه النظرية، التي حركت من جديد مفهوم الثقافة ومفهوم المجتمع في إطار واحد، ووثقت الروابط والتشابكات بين المفهومين، وأكدت على الحاجة إلى كليهما، وليس تغليب أحدهما على الآخر، ولا تخلو هذه النظرية من تجديد ولمعان. والملاحظات العامة والكلية التي يمكن أن تسجل على هذه النظرية، من حسن الحظ أنها لم تكن غائبة عن إدراك المنظرين لهذه النظرية، ومن هذه الملاحظات:

أولاً: إن هذه النظرية تعكس بصورة أساسية المعرفة والخبرة الأوروبية والغربية عموماً، وتدور في فلكها، وتتأطر بها. والذي يلفت نظرنا نحن أن هذه النظرية لا تستحضر معها المعرفة والخبرة الإسلامية. والكتاب الذي عرض لهذه النظرية لم يأتِ على ذكر أي شيء له صلة بالمعرفة الإسلامية، أو المجتمعات الإسلامية، أو الديانة الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، لا على صورة حادثة أو واقعة، ولا على صورة نص أو مرجع أو غير ذلك. لذلك من الصعب إعطاء هذه النظرية وصف العالمية أو الإنسانية. والالتفاتة التي جاءت من أصحاب هذه النظرية حول هذا الأمر، لم تكن بقصد التشكيك في عالمية هذه النظرية، أو في قصورها أو عدم قدرتها، وإنما بقصد عدم المبالغة في تصوير عالمية هذه النظرية. فأمام الدور المهم -كما يقول منظرو هذه النظرية- الذي لعبته ظروف تاريخية محددة، ربما يبدد زعمنا بعالمية انطباق نظرية الثقافة، وكأنه غير جائز أو على الأقل مبالغ فيه(16).

ثانياً: يغلب على هذه النظرية الطابع النظري من حيث بنيتها وبناؤها وهندستها، ويقلّ فيها الجانب التجريبي. ولعل هذه الملاحظة ناشئة من طبيعة حداثة هذه النظرية، وبسبب كثافة التنظير الذي يطغى عليها. والنظريات بصورة عامة قبل مرحلة الاختبار والتجريب تكون لها صورة قابلة في العادة للتغير بعد مرحلة الاختبار والتجريب، وبعد هذه المرحلة تصبح النظريات أكثر نضجاً ووعياً، وأكثر حكمة، وأقل مثالية.

ويتأكد الاهتمام بالجانب التجريبي في النظريات التي تصنف على حقل العلم الاجتماعي، ويكون هذا الجانب معياراً في النظر لتلك النظريات، وفي نقدها وتقييمها. ولكون نظرية الثقافة هذه جديدة وحديثة، كان التقدير الاستراتيجي لأصحاب هذه النظرية -كما يقولون- يقضي بأولوية عرض النظرية في هذه المرحلة، على أمل أن يساعد النقد في تحسين العديد من التطبيقات الجارية، أو التي يُتوقع إجراؤها في المستقبل(17).

-4-
الثقافة والمجتمع.. وأبعاد العلاقة

قانون الحركة في العلاقة بين الثقافة والمجتمع يتغير ويختلف، بحسب تغاير واختلاف طبيعة الثقافات وتنوع المجتمعات. وعنصر العلاقة هو الجانب الثابت في هذه القضية، والجانب المتغير هو في أنماط هذه العلاقة. وهذا يعني أن أنماط العلاقة بين الثقافة والمجتمع ليست واحدة وثابتة في جميع الثقافات والمجتمعات، باعتبار أن الثقافات في التاريخ الإنساني ليست واحدة ومتحدة، وهكذا هو حال المجتمعات الإنسانية.

كما أن قانون الحركة في العلاقة بين الثقافة والمجتمع، يتطور ويتغير حتى في داخل الثقافة الواحدة والمجتمع الواحد. بمعنى أن هذه العلاقة لا تبقى على وتيرة واحدة متجمدة وثابتة على طول الخط، وفي نطاق نمط ثابت من العلاقات. وذلك باعتبار أن الثقافة لا تبقى على وتيرة واحدة في حركتها، وفي أنظمتها الذهنية والسلوكية، ولأن الثقافة من طبيعتها أنها لا تقبل السكون والثبات المطرد، وهكذا هو الحال في المجتمع أيضاً.

وكل تغير يحدث في الثقافة أو في المجتمع ينعكس على حركة وأنماط العلاقة بينهما، بغض النظر عن مصدر وطبيعة هذا التغير وكميته ونوعيته. والنماذج على ذلك كثيرة وعديدة، فمن الواضح جداً أن أنماط العلاقة وحركتها بين الثقافة والمجتمع تختلف في المجتمعات الإسلامية عن المجتمعات الأوروبية، وعلى صعيد آخر تختلف هذه المجتمعات الخليجية مثلاً ما قبل النفط وما بعده.. إلى غير ذلك من نماذج عديدة تنتمي إلى أزمنة وأطوار وبيئات وثقافات مختلفة ومتباينة.

لهذا يمكن القول بأن الثقافة هي عنصر تغيير في المجتمع، والمجتمع هو عنصر تغيير في الثقافة. بمعنى أن تغيير الثقافة سوف يتحول إلى عنصر تغيير في المجتمع، وتغيير المجتمع أيضاً يتحول إلى عنصر تغيير في الثقافة. وقد وجد علماء الاجتماع في هذه القضية وبالذات الذين لهم علاقة بعلم اجتماع الثقافة، مدخلاً لتطوير المعرفة بالعلاقة بين الثقافة والمجتمع، وعناصر التأثير المتبادل بينهما. فالتأثير ليس من عنصر دون آخر، فهناك تأثير من الثقافة على المجتمع، وهو على صورة التأثير من الذاتي على الموضوعي، وهناك تأثير من المجتمع على الثقافة، وهو على صورة التأثير من الموضوعي على الذاتي.

وهذا يدعونا لدراسة أبعاد هذه العلاقة، لمعرفة منزلة الثقافة وتأثيرها في المجتمع في نظر علماء اجتماع الثقافة، ومن هذه الأبعاد:

أولاً: مع مفهوم الثقافة أصبح بإمكان علماء الاجتماع تكوين نظرة كلية عن المجتمع، باعتبار أن الثقافة هي أوسع مفهوم، يضم ويستوعب مختلف عناصر ومناشط وعلائق المجتمع. وليس هناك مفهوم أكثر سعة وشمولية من مفهوم الثقافة يحقق هذه الغاية، أو ينازع الثقافة على هذا الدور. ومنذ التعرف على مفهوم الثقافة، أصبحت هناك نظرة جديدة إلى المجتمع، وإدراك جديد لمفهوم المجتمع. فالثقافة هي التي تجعل المجتمع متوافقاً ومتقارباً مع ذاته، وهي أيضاً مصدر الوعي في نظرة المجتمع إلى ذاته، وفي إعطاء المعنى لمفهوم الثقافة عند أفراده، وفي إنماء وتعميم هذا المعنى بصورة دائمة ومستمرة.

ثانياً: لقد وجد علماء الاجتماع في مفهوم الثقافة، أنه المفهوم الذي يمكن من خلاله الكشف والتعرف على ما يختلف به مجتمع عن آخر، وما يتميز به مجتمع عن آخر. كما أن الثقافة هي التي تفسر هذا الاختلاف والتمايز بين المجتمعات. والثقافة جاءت لكي تكون بديلاً عن مفاهيم اللون والعرق والبيئة الطبيعية في إنجاز هذا الدور، التحول الذي كان مهمًّا وضرورياً، لضعف تلك المفاهيم وقصورها وفشلها. ولا شك أن الثقافة هي أقدر من تلك المفاهيم وغيرها، في تحليل وتفسير الاختلاف والتمايز بين المجتمعات. وذلك باعتبار أن الثقافة تعرف بأنها طريقة الحياة الشاملة لكل مجتمع، أو أنها تعبر عن النمط الكلي لحياة شعب ما، وبتعبير الأستاذ مالك بن نبي هي أسلوب حياة، الأسلوب المشترك لمجتمع بأكمله من علمائه إلى فلاحيه. وهذا التعريف يراد منه تعريف الثقافة، ويراد منه أيضاً تحديد ما يختلف فيه مجتمع عن آخر.

ثالثاً: تعتبر الثقافة في نظر المشتغلين بهذا الحقل، هي التي تقوم بدور إدماج الفرد في المجتمع، وتهيئته نفسياً وذهنياً واجتماعياً، ليكون عضواً منسجماً مع المجتمع الذي ينتمي إليه، ومتكيفاً مع نسقه القيمي ومنظومته الجمالية والأخلاقية، وأنماطه السلوكية، ونظام رؤيته إلى العالم. ويبدأ تأثير الثقافة على الإنسان منذ ولادته، وكل المؤثرات التي يستقبلها من التنشئة والتربية والبيئة والتعليم والإعلام هي على علاقة بالثقافة، التي تقوم بتشكيل المناخ العام في المجتمع، وهو المناخ الذي لا يفارقه الفرد من المهد إلى اللحد. وهذا ما يفسر الميل الفطري عند الناس في كل مجتمع، بإظهار التشابه والتوافق فيما بينهم على مستوى النظام العام، والذي يتجلى في طريقة المخاطبة والكلام، وفي نوعية التفضيلات والتحسينات والتقبيحات، وفي نمط الأعراف والتقاليد، إلى نوعية الطعام وطريقة الناس في الأكل، وبصورة أعمق يتجلى في الفنون والمعتقدات والقوانين ونظم العلاقات والتعاملات.

رابعاً: يؤكد علماء الاجتماع أن الثقافة هي من أكثر العوامل تاثيراً على المجتمع، بحكم أن كل شيء في المجتمع يتأثر بالثقافة كمنظومة القيم، والفنون الجمالية، ونظام المعتقدات، ومناهج التفكير، وهندسة العلاقات الاجتماعية.. إلى غير ذلك. من هنا تتحدد حساسية الثقافة وخطورتها، وأصبح الاعتقاد أن الثقافة إذا تغيّرت تغيّر معها المجتمع، وكل تغيير يمس الثقافة مهما كانت كميته ونوعيته، يتأثر به المجتمع سلباً أو إيجاباً، تراجعاً أو تقدماً. ولهذا أيضاً فإنه ليس من السهولة التأثير في الثقافة، إذ يحتاج التأثير فيها إلى طاقة كبيرة وفاعلة ومستمرة. وهناك أكثر من طريقة للتأثير في الثقافة، فتارة يكون التأثير فيها عن طريق اللغة، وهذا ما سعى إليه الفرنسيون للتأثير في ثقافات المجتمعات التي استعمروها، وتارة يكون التاثير في الثقافة عن طريق التعليم ومناهج التعليم، وتارة عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال.. إلى غير ذلك. وفي تاريخ المجتمعات نجد أن أكثر الناس تأثيراً في الثقافة هم أعمق الناس تأثيراً في مجتمعاتهم.

هذه بعض أبعاد العلاقة بين الثقافة والمجتمع، وهناك بالتأكيد أبعاد أخرى. وبصورة عامة يمكن القول: أن ليس هناك نظريات جديدة في مجال العلاقة بين الثقافة والمجتمع في الدراسات الثقافية والاجتماعية منذ أن توازنت هذه العلاقة وبعد أن اكتسب مفهوم الثقافة قوة التحديد.

 

الهوامش:

(1) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، توماس إليوت، ص29.

(2) فكرة الثقافة، تيري إيجلتون، ص32.

(3) نظرية الثقافة، مجموعة من الكتاب، ص9.

(4) المصدر نفسه، ص59.

(5) المصدر نفسه، ص8.

(6) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ص52.

(7) الثقافة والمجتمع 1956م، رايموند وليامز، ترجمة: وجيه سمعان، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص326.

(8) المصدر نفسه، ص5.

(9) المصدر نفسه، ص10.

(10) المصدر نفسه، ص13.

(11) المصدر نفسه، ص83.

(12) الثقافة والمجتمع، ص6.

(13) نظرية الثقافة، ص31.

(14) المصدر نفسه، ص60.

(15) المصدر نفسه، ص59.

(16) المصدر نفسه، ص428.

(17) المصدر نفسه، ص429.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة