تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مؤتمر: مستقبل الاسلاميين بين التسامح والاستبداد

محمد دكير

تمهيد:

تعتبر مظاهر الاختلاف والصراع من بين المظاهر السلبية التي كشفت عنها الصحوة الاسلامية في الآونة الأخيرة. فإذا كان الاختلاف والتنوع سنة من سنن الحياة ومظهراً من مظاهر هذا الوجود الرحب والواسع فإن استشراء هذا الاختلاف وتجاوزه للحدود المقبولة جعله يتحول إلى نقمة حملت معها تداعيات سلبية أثرت على الواقع الاسلامي. الذي يشكو سلفاً من مظاهر الاختلاف العميق على عدة مستويات أولها الاختلاف في الدين حيث تم الاتفاق على النص القرآني المقدس وكذا مجموعة كبيرة من نصوص السنّة لكن اختلف في التفسير وتأويل وتوجيه هذه النصوص. كما اختلف في قراءة وقائع التاريخ الاسلامي، خصوصاً وقد ارتبطت هذه الوقائع بتفسير وفهم الاسلام ذاته. كما طال الاختلاف تفاصيل الأحكام معاً نشأ عنه عشرات المذاهب الفقهية المختلفة في قضايا الحلال والحرام. بالاضافة إلى اختلافات أخرى مهمة أثنية ولغويةوجغرافية تؤثر في توجيه الحياة العامة وتترك بصماتها على المستويات كافة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية.
ومع بروز ظاهرة الصحوة الاسلامية ظهرت اختلافات جديدة بين العاملين في ميدان الدعوة والعمل السياسي الاسلامي في توصيف المشاكل والاختلاف في وضع الحلول والبرامج بين اصلاحية وثورية، بين من يمشي باتجاه القرن الحادي والعشرين يحمل معه حلم «الخلافة الراشدة»، وبين من يدعو للقطيعة مع الماضي جملة وتفصيلاً والاكتفاء بالنص المقدس فهماً وتفسيراً بعيداًعن السياق التاريخي الاسلامي.
هناك اتفاق على شعار «الاسلام هو الحل» مثلاً، لكن اختلفت المنطلقات والمرجعيات الفقهية والأصولية والمدارس السياسية، فجاءت النتائج والبرامج مختلفة بل ومتناقضة في بعض الأحيان. لكن المظاهر الشاذة في هذا الاختلاف والتي أثرت سلباً وبشكل خطير كانت في تفجر هذا الاختلاف في عدة مناطق اسلامية، وتحول إلى صراع مفتوح ومستمر، تراق فيه الدماء وتنتهك فيه الحقوق الانسانية ويتم التحاكم فيه إلى منطق القوة بدل الحجة والبرهان، مما أثار مجموعة من الهواجس والتخوفات من طرف الجماهير المسلمة العريضة حول مستقبل الصحوة الاسلامية وما تدعو له من شعارات، بدأ الشك يتسرب لمصداقيتها مما ينذر بحدوث نكسات كارثية تضاعف حجم الأزمات التي يعاني منها الواقع الاسلامي.
في هذا الاطار ومحاولة للمساهمة في معالجة هذه الأزمة الداخلية ومناقشتها وإيجاد الحلول الناجعة لها، نظم المنبر الدولي للحوار الاسلامي في لندن المؤتمر الأول تحت عنوان: «مستقبل الاسلاميين بين التسامح والاستبداد» وذلك بين 13-14 أيلول (سبتمبر) 1997م.
حضر المؤتمر أكثر من (50) شخصية اسلامية من بينهم مفكرون بارزون على الساحة الاسلامية، وعلماء دين. ودار النقاش مفتوحاً على مدى يومين لمعالجة هذه المظاهر السلبية التي انغمست فيها الصحوة الاسلامية. حيث قدمت بحوث ودراسات منها من بحث في جذور الاختلاف واسباب الصراع، ومنها من حاول تقديم مقترحات عاجلة وعملية لتلافي سلبيات الواقع الخلافي، ومنها من اكتفى بتشريح الوضع وانتقاده وإبراز مكامن الخلل فيه ومحاولة تجاوزه بوضع مشاريع بديلة.

أعمال اليوم الأول من المؤتمر:
الجلسة الصباحية الأولى ترأسها الدكتور ليث كبة رئيس المنبر الدولي للحوار الذي تحدث عن التعريف بالمنبر ونشاطاته وعن فكرة واختيار موضوع المؤتمر، ثم قدم الأستاذ زكي الميلاد رئيس تحرير مجلة الكلمة دراسة بعنوان:«اشكاليات القطيعة والتصادم بين الاسلاميين ومستقبل العلاقة» متحدثاً عن مظاهر الاختلاف التي ميزت الساحة الاسلامية والتي بدأت تتفاقم محدثة أضراراًمختلفة، منها حدوث القطيعة بين الاسلاميين وصلت حد التقاتل والتصفيات الجسدية مع أن الأصل في العمل الاسلامي السلم وليس العنف. وطرح الميلاد مجموعة من الأسئلة وأجاب عنها مثل: كيف نعالج الوضع الاسلامي الذي أصابه الانكسار والتفتت؟ وكيف نتعامل مع اشكاليات التصادم بين الاسلاميين؟.
أما أسباب القطيعة والتصادم بين الاسلاميين فقد أجملها الميلاد في (7) نقاط هي:
1- اختلاف الرؤية والتقييم للواقع. 2- احتكار التمثيل وادعاء امتلاك الحقيقة. 3- عدم انفتاح الجماعات الاسلامية على بعضها البعض فكرياً. 4- التكوين الحزبي والعراقيل يضعها أمام تحقيق التواصل المطلوب اجتماعياً. 5- صعوبة التعايش مع التعددية الحركية. 6- تأثر الاسلاميين بعوامل الاختلاف والانقسام الكثيرة الموجودة على الساحة الاسلامية. 7- تعثر الحوار وضعفه بين الاسلاميين.
ولاعادة النظر في هذه العلاقة بين الاسلاميين وتجاوز المشاكل الواقعية التي يقترح الميلاد عدة نقاط منها:
على الاسلاميين أن يقوموا بمراجعات نقدية ذاتية وموضوعية، على أن تشمل هذه المراجعات قضية الحوار بينهم. مشيراً إلى‎أن هناك كتابات نقدية اسلامية مهمة ظهرت في الآونة الأخيرة، يجب الاهتمام بها وأخذ ملاحظاتها بعين الاعتبار وضرورة اجتماع المسلمين على مجموعة من الثوابت التي لايجوز الاختلاف فيها. وقد ذكر الميلاد تسعة ثوابت منها الاتفاق عل الدفاع عن المقدسات الاسلامية، والدفاع عن حقوق الانسان بشكل عام، وتشجيع النهوض الحضاري العام. وتأصيل ثلاث منظومات من المفاهيم. الأولى منظومة مفاهيم تؤسس لوجود الآخر والاعتراف بوجوده كمفاهيم الحرية والتعددية وحق الاختلاف والاجتهاد. الثانية: منظومة مفاهيم تؤسس للعلاقة مع الآخر والتواصل معه كمفاهيم التعارف والتعايش والتسامح. الثالثة: منظومة مفاهيم تؤسس للتلاقي مع الاخر والشراكة معه كمفاهيم العدالة والشورى والحريات العامة وحقوق الانسان.
أما بالنسبة للمستقبل فإن الاسلاميين قد أفاقوا ـ حسب الميلاد ـ على وجود «ثغرات كبيرة في تكوين رؤيتهم للمسقبل». كما أسفرت التجربة بإيجابياتها وسلبياتها على النظر إلى الواقع بمنظار يختلف عما كان عليه لأن الاسلاميين أدركوا حجم التحديات والمشاكل المعقدة التي تحيط بالواقع المراد تغييره واحلال البديل الاسلامي محله. وإن المستقبل لن يتم بناؤه بمعزل عن التكافل والتعاون ومعالجة المشاكل عن طريق الحوار المفتوح والمستمر.
المتحدث الثاني في الجلسة كان الدكتور عبد الوهاب الأفندي وهو باحث اسلامي سوداني مقيم في لندن. وقد تركز حديثه حول معالجة مفهوم الديمقراطية وآلياتها داخل الخطاب الاسلامي، في محاولة لتصحيح أو إعادة النظر إليها داخل هذا الوسط، لذلك فقد أكد على أهمية الديمقراطية ودعا إلى الأخذ بمنجزاتها ومكتسباتها. منتقداً الذين يرفضونها بحجة أنها منجز غربي. وقد برزت في الأوساط الاسلامية محاولات للعمل ببعض الآليات الديمقراطية كما حدث في إيران مثلاً حيث تتواجد مجموعة من المؤسسات ذات الصبغة الديمقراطية وهي تباشر العمل السياسي، والتشريعي والتنفيذي. كما عالج الدكتور الأفندي مجموعة من الاشكاليات المتعلقة بقضايا التعددية والشورى. وحاول ان يقدم رأياً مغايراً نسبياً لهذه القضايا، بميل إلى التوافق مع الديمقراطية، لكن ليس كما هي في المفهوم والتطبيق الغربي بشكل كامل ومطلق. وإنما لابد من تنقيحها وتطعيمها باجتهادات اسلامية تُقوّم ما يمكن أن يكون اعوجاجاً أو يشكل مخالفة لأساس اسلامي لايمكن مخالفته.
وقد أثارت آراء الأفندي جدلاً واسعاً بين المشاركين بين مؤيد ومخالف مما أكسب الجلسة حيوية خاصة.
الحقيقة أن آراء الأفندي حول الديمقراطية ليست جديدة أو تطرح لأول مرة من طرف مفكر اسلامي، لأن النظر إلى الديمقراطية بدأ يعرف تطوراً منذ مدة ليست بالقصيرة. فبدل الرفض المطلق لها بدأت تتعالى الأصوات من هنا وهناك تدعو للأخذ بحسنات الديمقراطية. وقد رد الدكتور يوسف القرضاوي بشدة على من يعتبر الديمقراطية من قبيل الكفر، وأكد على أن الاسلام لايختلف مع الديمقراطية في الآليات والوسائل، وإن الدستور الذي ترجع إليه الديمقراطية ويحتكم إليه المجتمع والسلطة هو في الاسلام «القرآن والسنّة». فالحاكم ينفذ ويحكم بشرع الله أي بالدستور كما هو الحال في الديمقراطية. والحاكم لايشرع أو يبتدع الأحكام من نفسه، كما أن اجتهاده ليس مطلقاً بل مقيداً بالشريعة وأحوال الاستنباط فيها.
هذه المقاربات لفهم الديمقراطية واستيعاب بعض أدواتها في الحكم والتي بدأت تنتشر داخل الأوساط الاسلامية يمكن أن نفسرها أو نعزوها إلى أسباب مهمة على رأسها أزمة التنظير في المجال السياسي الاسلامي والخوف المتنامي داخل الساحة الحركية الاسلامية من الاستبداد ومظاهره خصوصاً وأن التجربة التاريخية كانت قاتمة وسجلت أفضع الانتهاكات لأبسط الحقوق الانسانية ومن بينها الحقوق السياسية. كما أن الواقع الحالي يشهد اختناقات مهمة يعتبر الاسلاميون احدى ضحاياها. فهم يعانون من انعدام حرية التعبير عن آرائهم وتوجهاتهم السياسية إلا في حدود ضيقة في بعض المناطق من العالم الاسلامي. كما تعترضهم العقبات الكثيرة في العمل السياسي مما يحول دون مشاركتهم في الحياة السياسية داخل بلدانهم إلا نادراً في حدود لاتمكنهم من عمل شيء ويمكن أن يخدم أهدافهم الاستراتيجية.
بالاضافة وهذا شيء مهم حديث البعض من الاسلاميين عن تسرب ممارسات الاستبداد ومظاهره داخل الحركات الاسلامية نفسها وتلبسه بمفاهيم الطاعة والانقياد مثلاً كل هذه الوقائع والملابسات جعلت العقل الاسلامي يندفع شيئاً فشيئاً باتجاه استيعاب مفهوم الديمقراطية ومعالجته للكشف عن سلبياته وابراز ايجابياته حتى يصار إلى الأخذ بالايجابيات والاستفادة منها. وعليه يمكن أن نتكلم عن تحرك أو تململ داخل الخطاب الاسلامي السياسي باتجاه استيعاب الديمقراطية بشكل أعمق وأوسع وكذا محاولة التحرر من عقدة المصدر الغربي للديمقراطية على أن هذه المتقاربات الجديدة تخدم بشكل مباشر قضية الحوار الحضاري بين الاسلام والغرب، لأنها جزء من عملية الانفتاح والتواصل والتثاقف والاستفادة الايجابية من التطور الانساني في جميع المستويات التقنية والعلمية والفكرية.
الجلسة الثانية المسائية ترأسها الأستاذ خالد لحروب من فلسطين وتحدث فيها الدكتور محمد شحرور أستاذ بجامعة دمشق (سورية) الذي اشار إلى قوة الحضور المادي والسياسي للحركات الاسلامية. إن هذا الحضور قد غذته شعارات كانت حسب الدكتور شحرور تعبق منها رائحة الاستبداد لأنها تنطلق من موروث تاريخي تأسس تحت مظلة الاستبداد. لذلك لايمكن أن نتحدث مثلاً عن الحقوق السياسية انطلاقاً من تاريخ لم يشهد أبداً تداولاً سلمياً للسلطة وكانت اللغة السائدة فيه مع المعارضة هي لغة السجن والقتل وإلغاء الرأي الآخر بجميع الطرق الممكنة. وهذا الاستبداد أو الإلغاء لم يكن حكراً على الجانب السياسي بل طال جميع مجالات الدولة والمجتمع فكان هناك استبداد عقائدي ينتصر للجبر والتسليم، واستبداد معرفي يرفض كل منهج معرفي مغاير لما هو متعارف أو معمول به. وهناك استبداد ديني يحارب الاجتهاد والرأي الجديد ويندد بكل خروج عن الاتجاه المذهبي المسيطر.
بسبب هذا الواقع التاريخي والدعوات المعاصرة التي تلتزم احياءه وبعثه بقيت - كما يقول الدكتور شحرور- مشكلة الحرية الفردية والاجتماعية ومشكلة الدولة المعاصرة والمجتمع غائبة في أدبياتهم -أي الحركات الاسلامية- إذ لم يكن لها في التراث كما قلنا وجود بالأصل..
إذن لابد من العودة حسب د. شحرور لتأسيس مشكلة الحرية والديمقراطية انطلاقاً من منظومة معرفية مغايرة لتلك التي انطلقت منها الأدبيات التراثية واعتماد النظام البرهاني في التعامل مع التنزيل الحكيم. طبعاً قدم الدكتور تعريفاً جديداً للاسلام وللايمان مبرزاً الأسس الثلاثة التي يشتمل عليها التنزيل الحكيم. وهي في نظره: 1- القانون الأخلاقي، 2- القانون التشريعي، 3- شعائر الايمان. موضحاً بأن هناك مثل عليا أخلاقية في الاسلام هي قيم انسانية بحتة، من هنا تصبح الديمقراطية في نظر الدكتور ضرورة بذاتها، «بل هي النمط الاسلامي للحياة الانسانية».
أما بالنسبة للاختلاف الناتج عن الموروث الفقهي فالدكتور شحرور يرى ضرورة تأسيس أصول جديدة لفقه اسلامي معاصر، مستنبط من التنزيل الحكيم وفق نظم معرفية معاصرة وأدوات معرفية معاصرة بما يخدم مستجدات الزمان والمكان اليوم.
لقد قدم الدكتور شحرور مجموعة من الأفكار والملاحظات الجريئة لكن بعض آرائه تحتاج بدورها لنقاشات وتحليل يكشف عن أصالتها أو تهافتها، لأن أفكاره أصبحت مدار جدل جديد عمق حالة التمزق الفكري الذي يجتاح الساحة الاسلامية. خصوصاً آراءه الجديدة المتعلقة بالأحكام الفقهية، وهل نحن في حاجة لتطوير هذه الأحكام؟! أم نحن في حاجة إلى فهم حقيقي لها ومعرفة مجالات تطبيقها من حيث الزمان والمكان. أما فكرة تاريخية الأحكام وتأثرها بتطور الأزمنة الاجتماعية فهذه قضية لن يتوقف النزاع حولها بل ستكون بمثابة الفتيل المشتعل الذي يمكنه أن يفجر الساحة الاسلامية في أي لحظة. كما اقترح الدكتور إلغاء المؤسسة الفقهية ودور الفقيه واستبداله بالبرلمانات وانتخاب الناس من يمثلهم، لكن هذا الاقتراح يعاني من الضعف والتهافت وذلك للحاجة الماسة إلى الفقيه والمؤسسة الفقهية مع احداث التغييرات والاصلاحات المطلوبة. وقد نوقش الدكتور شحرور ورد عليه في أكثر من مناسبة وألفت بعض الكتب لمناقشة افكاره والرد عليها ونحن هنا حاولنا أن نسلط الضوء على ما جاء في ورقته المقدمة إلى المؤتمر ولم يكن غرضنا بالأساس نقدها أو رفضها جملة أو تفصيلاً. لكن الملاحظ أن الدكتور شحرور عالج قضية التسامح والاستبداد في الخطاب الاسلامي المعاصر بتقديم مشروع بديل يغلف الموروث الذي تنطلق منه الحركات الاسلامية، لكن هذا البديل غير الواضح المعالم سيشكل بدوره بؤرة جديدة للاختلاف والتضارب خصوصاً وهو يحتضن أفكاراً ومفاهيم لاتقبل بها غالبية رجالات الصحوة الاسلامية من مفكرين ودعاة بل يقف الجميع منها موقف الحذر والشك والرفض الكامل في نهاية المطاف.
بعد الاستماع لبحث الدكتور شحرور انطلقت النقاشات وسط المشاركين بين معترض بشدة على ما طرحه شحرور وبين مستفسر ومخالف لبعض ما جاء في ورقته. بعده تحدث الشيخ محسن الأراكي من ايران عن المرجعية الذكرية الاسلامية، كما انتقد بشدة ما جاء في بحث الدكتور شحرور واعتبر آراءه تفتقد للضوابط التي تضبط حركة الأفكار خصوصاً وأن لها علاقة بالقرآن وقضاياه مما يفرض الالتزام بضوابط صارمة في التعامل مع القرآن. ثم انطلقت المداخلات وفتح المجال مجدداً للنقاش لتنتهي أعمال اليوم الأول من المؤتمر.

أعمال اليوم الثاني من المؤتمر: ترأس الجلسلة الصباحية الأولى الدكتور سعيد الشهابي رئيس تحرير مجلة العالم (لندن) وتحدث فيها الدكتور طالب عزيز من العراق (وهو أستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية) عن العلمانية مدافعاً عن منجزاتها ومكتسباتها الحيوية والهامة في نظره، مطالباً الدول بعدم فرض ما تتبناه من عقائد على الناس مصداقاً لما جاء في القرآن من أن {لاإكراه في الدين}. لهذاولحل مشكل الاكراه العقائدي والديني رأى الدكتور طالب ضرورة تطبيق العلمانية أي فصل الدين عن الدولة. كما انتقد الخطابات الاسلامية التي ترفض العلمانية. المشاركون في المؤتمر فوجئوا بهذا الطرح المدافع والداعي لتبني العلمانية صراحة خصوصاً إن الذي يدعو لها يحسب على الوسط الاسلامي.
قد يرى البعض ان هذا الطرح إنما هو خروج صريح وواضح عن المنظومة الاسلامية وتبنّ لمرجعيات فكرية مغايرة، إلا أننا قد نخالف الجميع في التقييم عندما نفسر هذه الدعوة بشطحة انبثقت من واقع الأزمة العميقة التي يعاني منها واقع الممارسة السياسية داخل الوسط الرسمي والشعبي وكذا داخل الوسط الحركي الاسلامي. حيث أن الاكراه هو سيد الموقف فلا الحجة أو البرهان أو الدعوة أو الاقناع بالتي هي أحسن، وإنما يتم التحاكم للقوة والعنف. هذا الواقع المتردي والذي عانى منه الكثير من العاملين داخل الوسط الحركي الاسلامي جعل فكرة الفعل بين الديني والسياسي أو العلمانية تحوم وتنزرع في عقول عدد من المفكرين الاسلاميين.
كما تحدث في هذه الجلسة الأستاذ رفيق عبد السلام مدير منتدى الاسلام والحداثة في لندن الذي تحدث بدوره عن العلاقة بين الديني والسياسي في الأديان وداخل الفلسفات الأوربية الحديثة. مركزاً حديثه لمعالجة هذه العلاقة في المنظور الاسلامي. حيث ذهب في اتجاه مخالف لما طالب به الدكتور طالب عزيز الذي دعا لتبني العلمانية.
أما الأستاذ مصطفى عبد العال من مصر فقد جاءت مداخلته لتكشف عن الهواجس والمخاوف التي أثيرت من جراء تصاعد ونمو الحركات الاسلامية في العالمين العربي والاسلامي. خصوصاً وقد قدم النموذج الجزائري صورة مخيفة ومرعبة لتطور العمل السياسي الاسلامي وما يمكن أن ينجم عنه إذا ما تحققت معطيات موضوعية تشبه ما عليه الوضع في الجزائر. بعد ذلك انطلقت الأسئلة ومداخلات الحضور.
الجلسة المسائية ترأسها فادي اسماعيل من لبنان وقدم فيها الدكتور سمير صالحة (أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ديار بكر بتركيا دراسة تقويمية لتجربة حزب الرفاه في تركيا، حيث اعتبره ارتكب خطأ سياسياً عندما استلم الحكومة لأن الظروف الصعبة والمعقدة التي تعيشها تركيا لاتتحمل أن يدير الاسلاميون الحكم فيها. لم يوافق بعض المشاركين الدكتور صالحة فيما ذهب إليه من تحميل مسؤولية الفشل في الحكم لحزب الرفاه، لأن الذي يتحمل هذه المسؤولية هي المؤسسة العسكرية التي تفرض سيطرتها بالقوة على البلاد وتعرقل المسار الديمقراطي لتداول السلطة والحكم. لكن عدداً من المفكرين كانوا قد تنبؤوا بهذا الفشل وطالبوا وقتها حزب الرفاه بالبقاء خارج السلطة وألا يتورط في لعبة قد تفقده مبكراً الكثير من مكتسباته السابقة، لكن المسؤولين في حزب الرفاه كانت لهم حساباتهم واجتهاداتهم. ورغم أن الرفاه قد أجبر على التنازل عن السلطة وتعرض لمضايقات كثيرة، لكن الخبراء يؤكدون أن الرفاه مازال حزباً قوياً في تركيا وأن أي انتخابات نزيهة وديمقراطية ستوصله للسلطة مرة ثانية أكثر قوة وأكثر فاعلية.
المتحدث الثاني في هذه الجلسة كان الأستاذ طارق حمدي من العراق (مقيم في واشنطن) الذي اعتبر الشيخ حسن البنّا من أبرز النماذج في العصر الحديث التي جسدت مفهوم التسامح الديني والسياسي. كما تحدث الدكتور أحمد الموصلي (استاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في لبنان) عن مقاربة تقويمية لبعض مفاهيم الحركات الاسلامية المعاصرة، واعتبر ان هناك منهجان في قراءة خطاب هذه الحركات، القراءة الأولى تقرأ الخطاب بعيداً عن سياقه الواقعي والموضوعي أي بعيداً عن الملابسات السياسية والظروف الاجتماعية، المنهج الثاني يدرس السياقات العامة للحركات الاسلامية لكن ينقصه الفهم لما يحمله خطابها من أفكار. أما الطريقة الصحيحة فهي دراسة الخطاب ضمن سياقاته الموضوعية وفهمه في إطاره التاريخي وقدم الدكتور الموصللي مثالاً على ذلك من خلال معالجة مفهوم الحاكمية الذي دعا له المودودي في باكستان ونقله عنه السيد قطب إلى مصر. وقد سبق للموصللي أن عالج الموضوع نفسه في عدد من كتبه مثل: «قراءات نظرية تأسيسية في الخطاب الأصولي المعاصر» و«الأصولية الاسلامية: دراسة في الخطاب الأيديولوجي والسياسي عند السيد قطب».
المتحدث الرابع كان الدكتور أحمد بسام الساعي رئيس اكاديمية أكسفورد للدراسات العالية. الذي يقدم دراساته بعنوان: «الثقة المفقودة بين الأطراف: مشروع استعادتها» حيث حاول أن يقدم خطة مقترحة من 9 نقاط وضعها لتكون أساساً ومنطلقاً للوحدة والتسامح والتآلف بين المسلمين. أولى هذه الخطوات المقترحة، الغاء تداول التسمية سنّة شيعة في وسائل الاعلام العربية والاسلامية، واشاعة مصطلح المذاهب الاسلامية الخمسة مكانها. وهذا المقترح رغم وجاهته إلا أن التفكير في إلغاء التسمية بمجرد قرار من هيئات حكومية أو أهلية فكرية أو سياسية ليس يسيراً لأن خلف هذين الاصطلاحين تراث ضخم فكري وتاريخي تجاوز التأثير الوجداني والسلوكي ليصنع كيانات وحواجز سياسية وجغرافية ومصلحية مختلفة ومتناقضة، يصعب معها معالجته بجرة قلم أو بقرار، إنما يحتاج إلى خطة عمل عقلانية تحكمها أهداف استراتيجية تجمع عليها الأطراف المختلفة. أما النقاط الثمانية التي ذكرتها الخطة فالواقع أنها ليست نقاط منفصلة وإنما يمكن أن تكون الخطوات العملية التي عن طريقها يمكن التوصل إلى معالجة اسباب الاختلاف بشكل جذري بين الفريقين السنّة والشيعة. مثلاً، لأن فيها دعوة لعقد اللقاءات والحوارات داخل المساجد وإقامة الصلوات المشتركة، وكذلك تنظيم لقاءات عالمية يحضرها علماء من الطرفين لمعالجة نقاط الاختلاف، على أن تنطلق من نيات سليمة وصادقة ويكون هدفها الوصول إلى الحقيقة دون أن تقف المصالح والمنافسات مرة أخرى حائلاً دون الوصول إلى الحقيقة. كما دعا الدكتور الساعي إلى إنشاء محكمة تحت اسم المجلس الأعلى للمذاهب الاسلامية يرجع إليها في حال تعذر الوصول إلى اتفاق خلال اللقاءات المذكورة كما قال. كما دعى للاهتمام بتربية الأبناء على التسامح وطالب بالرجوع إلى القرآن والسنّة واعتبارهما الحكم الأخير في الخلاف. إلا أن هذه المقترح الأخير يحتاج لكثير من الضوابط لأن كل الفرق المختلفة تؤمن بالرجوع إلى القرآن والسنّة وترفع ذلك كشعار لها مع ذلك لم ينتهِ الخلاف والصراع. بل إن عملية الرجوع نشأ عنها الاختيار المذهبي والتعدد في الرؤى والاجتهادات.
طبعاً قد تكون ورقة الدكتور أحمد بسام ساعي قد طرحت نقاطاً هي نفسها تحتاج إلى معالجة ودراسة ولايمكن اعتبارها منطلقاً عملياً لتحقيق الانسجام والتسامح بين الاسلاميين، لكن مقترحاته التسعة بشكل عام جاءت كردة فعل على كثرة الكلام فيه كما قال: «صرخة غريق يشرف على الموت أرجو ألا تكون صرخة في واد..» أما المتحدث الأخير في هذه الجلسة فكان الدكتور ابراهيم العاتي مدير مركز الدراسات في الجامعة الاسلامية بلندن، الذي تحدث حول مفهوم التسامح في المنظور الاسلامي وقيمة هذا المفهوم الذي لازم الشريعة الاسلامية لدرجة وصفت معها بأنها الشريعة السمحة.
الجلسة الختامية كانت برئاسة الدكتور ليث كبة الداعي للمؤتمر وخصصت هذه الجلسة لحوار مفتوح حول موضوع المؤتمر، حيث أكد المشاركون على أهمية معالجة هذا الموضوع وحيويته البالغة في هذه المرحلة واعتبروا أن المؤتمر كان موفقاً في اختياره لهذا الموضوع، كما أكدوا على أهمية نقل الأفكار والرؤى التي عرضت أثناء جلسات المؤتمر ليطلع عليها أكبر قطاع ممكن من الناس. كما لفت بعض الحاضرين الانتباه إلى ضعف مشاركة المرأة في المؤتمر مع أنها الطرف الذي عانى وتضرر بشكل كبير من الاستبداد سواء داخل الأسرة أو في المجتمع. كما كشف المؤتمر في نظر البعض عن الحاجة لتولي الاسلاميين النقد الذاتي لأنفسهم وتجاربهم ولمشاريعهم الحالية والمستقبلية. وبالجملة فالمؤتمر يشكل فرصة مؤاتية للمشاركين لعرض مشاكل الاسلاميين واسباب اختلافهم، وتقديم المقترحات لتلافي ومعالجة هذا الواقع المتأزم، والذي ما فتىء يتفجر في كل لحظة في أماكن مختلفة من العالمين العربي والاسلامي. طبعاً لم يخرج المؤتمر بتوصيات عملية ينطلق أو يباشر المشاركون العمل من‎اجلها لكن الأوراق والبحوث المقدمة قدمت عدة مقترحات في هذا المجال منها ما هو مثالي يصعب العمل على تحقيقه الآن وبسرعة، ومنها ما كان موضوعياً ويستحق الاهتمام. كما أن بعض المقترحات التي قدمها أصحاب المشاريع التجديدية حملت معها عوامل جديدة للاختلاف لأنها احتضنت أفكاراً مختلفة وجريئة، كانت محل أخذ ورد بين القبول والرفض التام أو الاعتراض الجزئي.
لكن وبغض النظر عن التوصيات العملية، فالمؤتمر نفسه كان اجراءاً عملياً للشروع في صنع واقع متسامح ومتفهم، لأنه شكل فرصة للقاء الأطراف المختلفة، ليسمع كل واحد رأي الآخر، وليحاول أن يفهم خطابه بموضوعية ويرد عليه في اطار من الاحترام المتبادل للاختلاف والتنوع والاجتهاد.
والحقيقة أن الاسلاميين في أمسّ الحاجة إلى تشجيع وحضور وتنظيم مثل هذه اللقاءات لأنها تؤسس للحوار بينهم حيث يتعلم الجميع احترام آراء وأفكار الجميع دون تشنج أو تعصب أو تطرف في المواقف أو إدعاء باحتكار الفهم الصحيح وامتلاك الحقيقة المطلقة.
بقي أن نشير إلى أن الدكتور نصر حامد أبو زيد كان من المدعوين للمؤتمر لكنه لم يحضر واكتفى بارسال مشاركته التي حملت عنوان «تجديد الفكر الاسلامي: أسئلة واقتراحات».

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة