تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

حوار مع البروفيسور فرنسيس فوكوياما

هشام ميلوي

حوار مع البروفيسور فرنسيس فوكوياما

نهاية تاريخ ونهاية إيديولوجيات

نهاية التاريخ بعد مرور أكثر من عقد على إعلانها

 

حــــوار: إدريس هاني

ترجمة: هشام ميلوي

* تقديم

إن أول ما يثير الانتباه في حوارنا هذا مع داعية نهاية التاريخ، البروفسور فرنسيس فوكوياما، هو ظاهرة التحلل من الموقف التمامي الذي رافق أطروحتين شغلتا العالم، ليس لأنهما أتيا بخوارق الفكر، الذي كشفت عنه العبقرية النيوليبرالية، أو جادت به قريحة العقل الأميركي، بل إن مصدر هذا النفوذ غير الطبيعي، لفكرة مدفوعة بسكر الانتصار على المنافس السوفياتي، إلى التعبير عن أقصى الحنين لآراء الفيكتوريين، الذين يجدون الآن في الولايات المتحدة فرصة تحقيق ما كانوا فشلوا في تحقيقه خلال القرون الثلاثة الأخيرة..

وفي التحلل -كما يبدو هذه الأيام- من تمامية الصدام الحضاري، التي حضرت بقوة في تحليل هنتنغتون، أو نهاية التاريخ كما استعرضتها الإنشائيات الفلسفية لفوكوياما، نكشف عن الوجه الإيديولوجي للمقالتين المذكورتين..

هنتنغتون ينفي أن يكون كاهناً للعنف ضد الكيانات الثقافية الأخرى، كما يعلن أن النموذج الحضاراتي، ليس إلا محض نموذج قراءاتي، يمكن أن يتم استبداله، وربما قد تغير..

فوكوياما يتحلل من الطريقة التي تسعى من خلالها العسكرتارية الأمريكية، لفرض قيم المجتمع الحر على العالم..

المشترك إذن أن حركة البراءة من سياسة بوش، قائمة على أعلى مستوى من التنظير الفكري في الولايات المتحدة الأمريكية.. إنها سياسة لا تلتقي مع المضمون الفلسفي لمقولة صدام الحضارات، ولا بالمضمون الفلسفي لمقولة نهاية التاريخ.

فهل يمكن القول: إننا أمام نظرية ثالثة، تقيم صلحاً بين وجهتي نظر على تمام الافتراق، أو لنقل نظرية تلفيقية، تستقوي بالمضمون النهاياتي التبشير ي في انسياحها العسكرتاري، كما تستقوي بالمضمون الانزوائي والصدامي في استعلائيتها وتفردها النموذجي..

هذا ما قلناه واعتقدناه، إن قدراً من الانتقاء، حاضر في سياسة كان أحرى أن تواجه بنظرية ثالثة، نافية، يمكن أن نسميها: نظرية نهاية تاريخ الصدام بين الحضارات!.

إن هذا لا يمنع من مواصلة النقاش الحر، حول كبرى القضايا والأفكار التي تتساقط علينا من سماء هذا الغلب المستدام.. كما لا يمنعنا من القول بأن قسماً كبيراً من سوء القراءة لهاتين المقولتين، لا يزال يرهن العقل العربي، لأسوأ أشكال الأحكام هشاشة وتقلباً.. لذا تعين استمرارية النقاش، ومواصلة الفهم والاستيعاب..

وفي هذا السياق، لا يسعنا إلا أن نشكر المفكر الأمريكي ذا الأصل الياباني على هذا اللقاء..

* نص الحوار

* سأفترض للإيديولوجيا مقومين، أحدهما حقيقتها الزائفة إزاء الواقع، والآخر ضرورتها الوظيفية بالمنظور الاجتماعي... هذا على الأقل ما كشف عنه النقد الإيديولوجي، منذ الازدراء النابوليوني التاريخي بالإيديولوجيين، مروراً بماركس وكارل مانهايم، وانتهاءً بألتوسير وريكور..

قصدنا من ذلك أن نتساءل، في ضوء مقولتكم حول نهاية التاريخ، الذي يبدو وكأنه وعيد بنهاية حتمية للإيديولوجيات. هل معنى هذا أن هناك بالفعل تاريخاً لنهاية مسلسل الزيف؟.. أم أن إيديولوجيا ما، غالبة، ستفرض زيفها على التاريخ في نهاية المطاف، بقوة الحضور والإكراه؟.. هل سيكون الرجل الأخير رجلاً راشداً بالفعل؟، بمعنى أننا سنواجه نهاية حتمية للرجل الخطَّاء؟.

أظن أن رؤيتي تختلف قليلاً عما ذكرتموه، لأنني أومن بوجود نظام معين في التاريخ، تقوده الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وقواها الفاعلة التي تنتهي إلى شكل معين من أشكال الاجتماع البشري، ولا أعني بذلك أنني أنطلق من تصور ماركسي، أو نمذجة هيغلية للتاريخ، لأنني أرى في ذلك نوعاً من الرؤية القووية للتاريخ، إنه ممر ضيق، ذو مراحل جدّ مختلفة من التاريخ البشري، في حين أعتبر أن تصوري للتاريخ هو أقل قووية وأكثر مرونة، فمثلاً: أعتقد أن التحديث الاقتصادي غالباً ما يؤدي إلى مرتبة أعلى من الليبرالية السياسية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، إلى أن تصبح هذه المجتمعات في صف الريادة.

هذا من جهة، وأعتقد أن الديموقراطية الليبرالية تصبح وتتخذ شكلاً عقلانياً، للاعتراف في ثقافة هذه المجتمعات، التي تمرست على هذا النوع من النظام السوسيو-اقتصادي، ومع ذلك فهي ليست الشكل الوحيد للاجتماع البشري أو للجماعات، ولا النوع الوحيد للقيم، وربما هذا يقود إلى السلم السياسي بأسلوب عقلاني وسلمي.

وبالرجوع إلى سؤالكم وعمَّا أشرتم إليه، من أن نظرية نهاية التاريخ هي إيديولوجيا، فإني أقول: ليست إيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية إيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم، ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان.

* تحاول مقولة نهاية التاريخ أن تقدم نفسها بوصفها نهاية لجدل المثل الحالمة.. أو لنقل، الأشباح العالقة بالمعرفة... لكنها بالمعايير المنطقية، تظل حلماً ويوتوبيا، تستقوي على العقل بضرب من الحجاج، يستند إلى لحظات سكر القوة الليبرالية.. في أي مساحة من مساحات هذا الحلم النيوليبرالي المهجوس بالنهايات، يمكن أن يقيّم حلم الإنسانية المعذبة بالعدالة الاجتماعية؟

لم أقل يوماً ما، ولم أعنِ بنهاية التاريخ يوتوبيا معينة. لقد قلت فقط: كيف يمكن تخيل طريق وأسلوب مختلف، للتنظيم السياسي والمؤسسات الديموقراطية الليبرالية عبر الزمان، لكي تجعل من الناس أكثر سعادة، وهذا لا يعني أن الكل سيكون سعيداً، كما لا يعني أن الناس سيتوقفون يوماً عن الحلم، لأنه من الأكيد، أنه سيوجد أيضاً الظلم وعدم المساواة، ومشاكل أخرى لها علاقة ومدخلية في المجتمع الليبرالي.

لكن الإشكالية المطروحة هي: هل باستطاعتك حل هذه المشاكل دون مؤسسات ديموقراطية ودستور حديث؟، مثلاً عن طريق منع الانتخابات ومنع التعددية الحزبية الديموقراطية، والحد من حرية التعبير؟ في حين أرى أنه من اللازم اتباع أسلوب ونوع آخر في التعبير، أسلوب يؤدي إلى حل هذه التناقضات، ثم وضعها جانباً.

* إن تاريخ البشرية، هو تاريخ متواصل لأجل البحث عن الاعتراف.. هكذا أكد هيغل، وهكذا تأكد في مقولتكم “النهاياتية”.. هل تقيدون النزوع إلى الكرامة، والاعتراف بختم الرجل الأخير؟.. ألا ترون في النزاعات التي تحدث اليوم في عالمنا، ضد الهجمة الإمبريالية الجديدة، برسم الحرية والديموقراطية المغشوشة، أو على الأقل المرهونة بالسباق الاستراتيجي، وهجاس “المولنة” الاقتصادية، أنها نزاع في اتجاه البحث عن الاعتراف؟.

حسناً، حقيقةً إن هذا مشكل كبير وعويص في المجتمعات الليبرالية، وهو كيف نحصل على الاعتراف ونقيمه في هذه المجتمعات بشكل حقيقي؟، لأنه وقبل كل شيء، هناك فقط نوع من الاعتراف الصوري والشكلي للبعض، ولأنك ككائن بشري في حاجة إلى حق، وإن كان صورياً، للمشاركة السياسية والتصويت والتعبير عن الذات، ولكن وبطريقة لينة - Softly -، فإن شكل المجتمعات المعاصرة، يحدده موقعها في التراتب، الذي يتحكم فيه السوق وعوامل أخرى كثيرة، ومن الطبيعي أن يوجد هناك بعض الناس الذين يتذمرون من مثل هذا الوضع، وأعتقد أن هذا ضروري في طريق الاعتراف.

الإشكالية الثانية، هي أن بعضاً من الناس، الآخيرين، لا يرغبون في المساواة في الاعتراف، يحبذون الاعتراف بمن له ثروة وتراكم أكبر، وهذا مؤثر آخر. الإشكالية الأخيرة للرجل الأخير، هو أنه سيحاول في المجتمع الليبرالي، تحقيق نمو ديموقراطي لكل أفراد وطبقات المجتمع، إن المساواة ثمن أيضاً، وفي ظروف معينة، لن تقبل ولن يتحقق الرضا عن هذا النوع من الاجتماع، فالناس سيشعرون بفراغ روحي، ولا شيء سيملأ هذا الفضاء.

* بين الإيديولوجيا “النهاياتية” الفوكويامية، والإيديولوجيا “الصداماتية” الهنتنغتونية، مسافة الشرخ المنظوري في الاستراتيجية الأمريكية، أو لنقل هما طرفا الشفاه الشرماء للأرنب البري الأسطوري، كما في تأويلية ستراوس؛ زهو الانتصار، والإحساس بالرهاب.. هل لنا أن نتعرف على طبيعة هذه المسافة؟

أرى الأمر أكثر بساطة وسهولة من هذا، لأن هنتنغتون لا يؤمن بوجود نوع من القيم الكونية، أو الثقافية، أو حتى المؤسساتية، في حين أنني أعتقد أن الرغبة في العيش في مجتمع حديث هي رغبة كونية.. وبالنتيجة العيش في حضارة كونية، الديموقراطية الليبرالية ليست محددة بثقافة معينة، ولا تقتصر على شعب دون آخر، رغم أنه من الجدير القول إن الديموقراطية تتطور اليوم في الغرب المسيحي، لكن أظن أن هناك مشاريع في آسيا، وفي بعض البلدان الإسلامية في أفريقيا، لأن الديموقراطية الليبرالية هي الشكل الأكثر ملاءمة مع الطبيعة البشرية، كنظام كوني مرغوب فيه، في حين أن هنتنغتون يقول بوجود حضارات متعددة ذات خصائص كاملة.

* إلى أي حد تبدو لكم إيديولوجيا نهاية الإيديولوجيات، اختراعاً ممهوراً بسكر الغلبة العسكرتارية والانبعاث الفيكتوري؟. هل ترون في الملحمة النيوليبرالية بزعامة الرئيس بوش، آلية لتحقيق هذه النهاية؟ أو بتعبير آخر، هل ترى بوش قريباً من مقولة نهاية التاريخ أم من مقولة صدام الحضارات؟.

لا أعتقد بوجود ارتباط مع أي من النظريتين، فالاستراتيجيا الأمريكية لا تؤمن بالتراتب. أكيد ومن الواضح أن بوش لديه تصور كوني يخص الرغبة والنزوع إلى الحرية، لكن إذا ما نظرت إلى السياسة الخارجية يصبح ذلك الحس تبسيطياً في مقارباته للقضايا والمشكلات في العالم، صحيح أن الرغبة في الحرية هي أمر كوني وعام، كما هو المجتمع الليبرالي، لكن ذلك يتطلب إنشاء مؤسسات، ويتطلب وقتاً، إنه مسلسل صعب، إن التقدم الاجتماعي ينتهي بوضع شبيه بتجربة الحياة في المجتمع الحديث، وأعتقد أن ذلك ليس أمراً يمكن تحقيقه بقوة السياسة الخارجية وبالسلطة، إنها تجربة تتطور عبر مراحل طبيعية، تاريخية، ولا يمكن فرضها بقوة.

ربما بوش، بسياسته الحالية، يثير نوعاً من القلق، والإحالة على نظريتي في نهاية التاريخ، كما يمكن له أن يثير نظرية صدام الحضارات لهنتنغتون، لا يقصد ذلك مباشرة بطبيعة الحال، لكن مثل: أن طريقة معالجة الإرهاب في العالم، ربما تزيد من دائرته وتغذيه. لهذا أعتقد أن ذلك خطير جداً، كما أظن أن الهدف النهائي جيد، لكن طرق تحقيقه ليست كذلك.

* ماذا بعد أكثر من عقد على مرور أول إعلان عن مقولة “نهاية التاريخ”؟.. هل لازلتم تتطلعون إلى هذه النهاية؟ أم أن كبوة الرجل الأخير، بدأت ترخي بظلال اليأس على كل التوقعات الأمريكية؟.. ما الذي تغير إذن؟

من الواضح أنني سأكون ذاتياً في قراءة النظرية، لكن يمكنني القول تجاوزاً: إن “الجهاد” - Jihadisme - ومفاهيمه هي التحدي الأساسي لليبرالية، لأنه نوع مغاير من الإيديولوجيا، وربما الأشرس، لكن أظن أنه في النهاية لن يكتب له النجاح، على الأقل سياسياً.

هذا على مستوى التحدي الإيديولوجي. هناك تحدٍّ من نوع آخر، وهو عدم قدرتنا على تحقيق نمو اقتصادي في عدة بلدان فقيرة، الغالبية منها في إفريقيا، وبدون نمو اقتصادي من الصعب إيجاد نظام ديموقراطي ليبرالي ومؤسسات.

أخيراً، أظن أنه لدينا مشكل مع الديموقراطية على المستوى العالمي. لدينا ديموقراطية على مستوى الدولة ـ الأمة، مثلاً: مؤسسات في بريطانيا أو الولايات المتحدة، لكن على مستوى العلاقة بين البلدان، ليست هناك آليات للتنسيق. وأظن أن هذا أحد أكبر المشاكل التي تواجه الولايات المتحدة والعالم، وكذلك المشاركة الديموقراطية.

كما أنني لازلت أومن بالتحديث، وبمسلسل المنافسة الذي يقود إلى الديموقراطية السياسية. وبالرجوع إلى السياسة التي تنهجها الإدارة الأمريكية، سواء في صيغتها القديمة أو الحالية، فإنها سياسة خاطئة بالكامل، لأنها تتخذ القوة سبيلاً لتشريع التقدم والتطور الاقتصادي، في حين أن هذا التطور يقوم على عوامل داخلية أولاً endogène، وإلا فستغرق في بحر من المشاكل.. لهذا يجب توخي الحذر الشديد قبل نهج مثل هذه السياسات.

ولدي انطباع، أننا أمام خطر، إذا لم نلغِ ردود الفعل المتبادلة، وأعتقد أن الولايات المتحدة، قد بالغت في ردة فعلها بعد أحداث سبتمبر، في حين يجب أن نكون أكثر عقلانية بالنظر إلى موقعنا في العالم اليوم، وبإمكاننا نهج سياسة جديدة الآن.

وأظن أن سؤالكم فيه الكثير من الصحة، لأنه بالفعل هناك العديد من العوامل المشتركة في الحضارات والثقافات المختلفة، والتي يمكن أن تقود إلى مسلسل التحديث. مثلاً هناك أدبيات مهمة مقارنة مع أسيا التي تأقلمت مع طبيعة العمل الرأسمالي. هناك أيضاً مشاكل ناتجة عن العولمة، والتي أدت إلى الانكفاء على القيم الخاصة للمجتمعات، لكن كل الدول التي نجحت في مسلسل التحديث هي الدول التي استطاعت تجاوز ثقافتها. وأتاتورك، كان له هذا المشروع الكبير، والطموح للحداثة الهندية - التركية، أظن أن هناك العديد من مصادر التحديث، لكنه مسلسل كوني.. وكما قلت: إن النزوع للعيش في المجتمع الحديث تتقاسمه جميع شعوب العالم، وإن كانت تسندها قيم خاصة ليست بالضرورة قيماً غربية، لأنتهي بالقول: إن هذا المسلسل ليس غربياً خالصاً، والخطأ الذي ارتكبته إدارة بوش، أنها لم تستطع استيعاب كون التحديث ينبع من الداخل، فأشاعت نوعاً من الكراهية ضد الولايات المتحدة في العالم.

وأظن أن التقرير الثالث حول التنمية البشرية في العالم العربي، أثار مواضيع الإصلاح السياسي ومختلف المشاريع في الشرق الأوسط، لكن أظن أن هناك صدمة خارجية هي التي أدت إلى تحريك الوضع. ولا أقصد هنا تبني نظرية الصدمة الخارجية، لكن يجب أن نعمل جميعاً من أجل حل مثل هذه المشاكل العالقة، وعلينا أن نتذكر أن دول جنوب شرق أسيا، قد مرت خلال مسيرتها التنموية بنظم شمولية ومتسلطة قبل أن تنفتح على النظم الإيديولوجية. ويجب التأكيد على أن هذه الحالة تقتصر على دول أسيا، لأن النظم الشمولية في الدول الأخرى، لم تستطع إبداع مشاريع للنهوض الاقتصادي، إذن ليس هناك لا نمو اقتصادي، ولا ديموقراطية في هذه الحالات.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة