شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
المرأة المسلمة ودورها في التنمية الشاملة
للمجتمعات الإسلامية*
الدكتورة مريم آيت أحمد علي**
* تمهيد
الكل يعلم أن قضية المرأة أصبحت من المواضيع الحيوية، التي تحظى باهتمام واقع الحياة المعاصرة، وليست مجرد قضية بحث فكري أو نظري، بل تعدّت في غزارة طرحها الآفاق، سواء بالمؤتمرات الدولية أو الإقليمية أو المحلية.
لا يستطيع أحد أن يجادل في أهمية دور المرأة المسلمة في المجتمع، فالمرأة التي تدرك حقيقة دورها، وتلتزم بواجباتها، وتحرص على ممارسة حقوقها، إنما تؤثر في حركة الحياة في وطنها تأثيراً بالغاً، يدفع به إلى مزيد من التقدم والرقي وملاحقة الركب الحضاري، على مستوى المجتمعات الإسلامية والعالم أجمع.
والنظرة السريعة إلى التطور التاريخي، لوضع المرأة في المجتمع الإنساني قبل الإسلام، تكشف عن أنها قد عانت قديماً معاناة كبيرة، حيث كان ينظر إليها على أنها أدنى من الرجل، وأنها تابعة له، ولذلك كانت تحرم من كثير من الحقوق، فكان يحظر عليها أن تتصرف في أموالها، أو أن تعبر عن إرادتها، حتى في أخص ما يخصها، وهو اختيار شريك حياتها.
ولقد عانت المرأة طويلاً من هذا الوضع الظالم، إلى أن بزغ نور الإسلام، وأقر من بين المبادئ السامية التي جاء بها، مبدأ المساواة بين الناس جميعاً، ومن ذلك المساواة بين المرأة والرجل فيما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية، والمساواة بينهما في التكاليف الدينية وفي الثواب والعقاب، وفي الالتزام بطلب العلم، وكذلك المساواة بينهما في الحقوق المدنية، فللمرأة ملكيتها الخاصة، لا يشاركها فيها الزوج، ولها حرية التصرف في أموالها دون أي قيد، وهي تحتفظ باسم أسرتها مدى الحياة، فلا تفقده بالزواج. هذه المساواة التي أقرها الإسلام في القرن السابع الميلادي، لم تظهر في أفق الدول الغربية إلا في العصر الحديث، وبعد كفاح مرير، حينما صدر غداة الثورة الفرنسية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فنص على أن الناس يولدون أحراراً، ويتساوون أمام القانون، وقد أقرت هذا الإعلان الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م، وأدرجته معظم الدساتير في نصوصها.
من الممكن توسيع هذه القضية الخاصة بالمرأة، ورسم تفصيلاتها، لإظهار مدى أهميتها، لأن قضية المرأة تشكل إحدى أكثر القضايا التي تم استغلالها واستثمارها، والكتابة حولها بأشكال مختلفة، نعم من هي المرأة المسلمة؟ وما هي أدوارها؟ وعن أي جانب من جوانب إسهاماتها في تنمية المجتمعات الإسلامية يمكننا أن نتناقش؟ عن أية امرأة مسلمة نود تسليط الضوء؟ هل عن تلك التي تقضي العديد من ساعات النهار في صالونات تصفيف الشعر؟، أم المرأة القروية التي تخرج من البيت مع بزوغ الفجر، وتعود إليه مع غروب الشمس؟. أيجب أن نناقش قضايا المرأة التي تسرع من حفلة رقص إلى حفلة رقص، ومن حفلة الرقص إلى عرض الأزياء، أم المرأة العاملة التي لا تستطيع حتى إرضاع أطفالها، وتقضي عمرها واقفة أمام مكتب العمل، سواء في مجال التدريس، أو التطبيب، أو الإدارة، أو الأعمال المهنية والحرة؟ نتناقش حول فعالية المرأة التي تريح الضمير بخداع الأنظار في جمعية الرفق بالحيوان، وجمعية حماية الأطفال الفقراء، وفي نادي ليوننس، أم تلك التي حياتها محددة بجدران البيوت غير المرخصة للبناء، وتعمل في تربية الأطفال والخدمة في بيوت ومزارع ومصانع الأغنياء، وترعى أيتام الحروب وضحايا الأسر؟ نعم عن أيهن نتحدث اليوم في أعمال هذا المؤتمر؟
لا نبالغ إذا قلنا: إن المرأة في وطننا العربي والإسلامي، هي من أكثر الطاقات المهمشة في عملية التنمية، فلا زالت حتى اليوم لا تتمتع -في معظم المجتمعات العربية- بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الرجل، وظلت النظرة الأكثر انتشاراً، هي تلك النظرة التي تنظر إلى المرأة بوصفها كائناً لا يصلح سوى لإنتاج الخام البشري، لكن ما يدعو إلى التفاؤل، أن هذه النظرة قد بدأت في التغير شيئاً فشيئاً، وسط ضغوط احتياجات العصر للمزيد من الموارد البشرية المدربة، والمؤهلة للتصدي لجميع التحديات التي يحملها العصر بين ثناياه، ويظل وطننا العربي بوضعه الحالي، أكثر حاجة لإشراك نسائه في خطط وعمليات التنمية، وإدماجهن في مشاريعها الرامية إلى تحسين نوعية الحياة، وتأسيس بيئة أفضل لنمو الجنس البشري، بحيث يمتلك التعليم والتدريب والتأهيل الملائم، لمجابهة تحديات العصر الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها.
ولا يتم ذلك من دون التعبئة العلمية والتخطيطية الشاملة والدائمة للموارد الإنسانية، التي هي هدف من أهداف السياسة الإنمائية، لذا كان لابد من التأكيد على أهمية الإفادة من جميع الموارد البشرية في جميع القطاعات، فعملية التنمية تحتاج إلى تسخير كل الطاقات المادية والبشرية، ولعل أهم عملية استثمارية تقوم بها أية دولة -نامية على الأخص-، هي تنمية مواردها البشرية، ولا شك أن المرأة في المجتمع -كما هو متعارف- تكوّن نصف الموارد البشرية، التي يعتمد عليها في تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى دور المرأة في تكوين شخصية أطفال المجتمع، أو بمعنى آخر في تنمية الموارد البشرية الصغيرة، ويقصد بالمشاركة التنموية، تلك الجهود والإسهامات التي تبذلها المرأة، سواء اتسمت بالطابع الاقتصادي، أو الاجتماعي، والتي تؤدي إلى إحداث التغيير الاجتماعي، وتسهم في تحقيق درجة ما من التقدم الاجتماعي.
وتؤكد العديد من الدراسات، على أن من بين مؤشرات تقدم المجتمع، مساهمة نسائه في النشاط الاجتماعي والاقتصادي، بل هناك آراء ترى أن أي خطة تنموية، لابد أن تعتمد في جهودها على مشاركة المرأة بجانب الرجل، بوصفها نصف القوى البشرية في المجتمع، لذلك فإن تخلف مجتمعنا العربي، يعزى بلا شك إلى اقتصاره في مجهوداته التنموية على قوى الرجل، مهمشاً لدور المرأة ومستبعداً لأهمية هذا الدور، فظلت المرأة في تخلفها، ولم تتمكن المجتمعات من تجاوز أزماتها الاقتصادية والاجتماعية لحقب طويلة من الزمان، إن عملية التنمية عملية متكاملة، تهدف للارتقاء بالعنصر البشري دون تمييز بين فئاته، ولذلك ينبغي أن تستوعب في خططها كل فئات المجتمع، فنسق القيم من شأنه محو صورة المرأة السلبية، المتخلفة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وإحلال صورة المرأة المثقفة الذكية الواعية الإيجابية، المشاركة في الحركات التنموية المختلفة محلها، كما أنه بالمزيد من الوعي المجتمعي، يتضح الإطار الاجتماعي للعمل والإنتاجية، والدور الاجتماعي للفرد، فيسهل بذلك تحقيق أهداف السياسات التنموية، دونما تفريق في توظيف القدرات البشرية لجميع فئات المجتمع.
هكذا فعندما تكون المرأة -التي تمثل نصف المجتمع المؤثر- واعية بأدوارها، ومتسلحة بالقدر الملائم من المعرفة والثقافة، والخبرات والقدرات والمهارات الفنية والحرفية وغيرها، فبذلك يقل خطر وسائل الإعلام في التأثير سلبياً على المحيط الاجتماعي، الذي تتفاعل في داخله هذه المرأة، وتعيش فيه عدداً من الصراعات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة.
* أسباب مشكلة ومعوقات التنمية في البلدان الإسلامية
إن أحد أهم أسباب مشكلة ومعوقات التنمية في البلدان العربية والإسلامية، يكمن بشكل عام في تهميش قضية المرأة ودورها في العملية التنموية.. هذه المشكلة لا تخص المرأة وحدها وإنما هي قضية مركزية في مسألة التطور والتنمية الحقيقية، ولذلك فهي قضية اجتماعية أساسية، تطرح مشاكل المجتمع من أساسه، ومن هنا تبرز ضرورة المشاركة ببحث مشكلاتها ودراستها وطرح الحلول لها.
والمعادلة الأساسية هي، كيف نحقق التنمية الشاملة لمجتمعاتنا الإسلامية، بمشاركة النساء والرجال من كل الأعمار، ومن كل الفئات، سواءً في الحضر أو الريف.. فالتنمية الإنسانية في الجوهر، هي نزوع دائم لترقية الحالة الإنسانية للبشر، جماعات وأفراداً، أكانوا رجالاً أم نساء، من أوضاع تعدّ غير مقبولة في سياق حضاري معين، إلى حالات أرقى من الوجود البشري، تؤدي بدورها إلى ارتقاء منظومة اكتساب المعرفة. وفي العصر الراهن من تطور البشرية يمكن القول: إن الحرية، والعدالة والكرامة الإنسانية هي الغايات الإنسانية والأخلاقية العليا التي تسعى البشرية إلى تحقيقها عن طريق المعرفة.
والتنمية في العالم الإسلامي، بارتباطها بالمعرفة تواجه مشكلة مزدوجة، بين الإطار المعرفي القائم على الثقافة التي تتغلب عليها الغيبيات من جهة، وبين الواقع الاجتماعي الذي يقف عائقاً في وجه البدء في مشروع تنموي نهضوي، يضع الواقع الاجتماعي - المادي الملموس كمعيار من جهة أخرى... بل إن واقع منظومة اكتساب المعرفة الحديثة والمحدثة، هو واقع متخلف غير مجدٍ وفاعل... وهذا ما ترجمه واقع تقرير التنمية العربية الصادر عام 2003م.
1- ماهية التنمية المجتمعية
المقصود بالتنمية المجتمعية التي نتحدث عنها “التنمية التي تستهدف المجتمع المحلي (Community)، وتتم فيه، وتوظفه كأداة فاعلة في تحقيق أهدافها”، وبالتالي فهي تتضمن أنواعاً أخرى من التنمية، (من حيث موضوعها أو القطاع الذي تتم في إطاره)، كالتنمية الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، وتنمية المرأة والطفل والشباب …إلخ، وهي في الوقت ذاته جزء من عملية تنمية أكبر على مستوى المجتمع (Society)، أو البلد.
ويعتبر مفهوم التنمية المجتمعية، من أكثر المفاهيم المثيرة للجدل والتباين في وجهات النظر الخلافية، تتراوح النظرة إليها من اعتبارها أنصاف حقائق، وترهات غامضة لا معنى لها، إلى اعتبارها مفتاحاً للعصرنة في المجتمعات التقليدية، وما بينهما من موقف متوازن ينظر إليها نظرة تعترف بإمكاناتها من جهة، وبحدودها من جهة أخرى. ولعل لولادة هذا المفهوم علاقة كبيرة بهذه التباينات، فقد ولد المفهوم في المستعمرات، على يد المستعمرين الذين حاولوا مداراة سوءاتهم الأخلاقية الكبرى، بحديث عن مشاركة المجتمعات المحلية في عملية التنمية والتطور.
باعتقادي أن المهم، بل الأهم، في أي حديث عن التنمية المجتمعية، هو أن يتم وضع الأسس التي تفصّل هذا المبدأ البسيط، “تفعيل المجتمعات المحلية، واستثمار طاقاتها الكامنة، لتأخذ دورها في التنمية التي ستعود عليها بالنفع، محلياً وضمن موقعها من نسيج المجتمع الكبير، أو البلد الذي تشكل جزءاً منه”، وتحويله من مجرد تنظير يوظف البلاغة، إلى عملية تشتمل على برامج فاعلة، يتم تمويلها وتوجيه الموارد نحوها. ينبغي أن تخدم الأسس المطلوبة، والتفاصيل التي تليها، باتجاه جعله مقبولاً ممن يعنيهم الأمر، (أطراف هذه التنمية الأساسيين والشركاء)، وقابلاً للتنفيذ ضمن ما هو متسنى، وواعداً بنجاح ملموس، وبالتالي فإن الانشغال بدراسة عوامل النجاح، والعمل على توفير أكبر توليفة منها ضمن هذه الرؤية، يشكل المهمة الجدية المطروحة أمام مخططي التنمية المجتمعية، والعاملين في برامجها.
- 2 عناصر أساسية في التنمية المجتمعية المطلوبة
أ- جوهرها: تنمية تحترم حقوق الإنسان، وأسس المجتمع المدني، تحترمها بداية بالإقرار بها بشكل يتداخل مع بنية البرامج والأنشطة التي تتضمنها هذه التنمية، وتساهم مخرجاتها في ترسيخ هذه الحقوق والأسس، محولة إياها إلى واقع في حياة الناس، ويعبر عن ذلك عادة باعتماد هذه التنمية على مبدأي المشاركة والتمكين.
ب- طبيعتها المزدوجة: إذ ينظر إليها كعملية وكمخرجات ناتجة عن تحقيق أهداف برامجها، فالتنمية كعملية تهدف إلى توعية الناس، وحفزهم نحو العون الذاتي، وتطوير قيادة محلية مسؤولة، وترسخ القيم الديموقراطية بينهم، أما مخرجات برامجها فتمتد إلى جوانب حياة الناس المختلفة، وفي النواحي الأساسية التي ترتبط بحياة المجتمع المحلي المعني.
ج- التوازن ما بين الجزئية والكلية: يعاب أحياناً على التنمية المجتمعية بأنها محلية النزعة، تمنع امتداد تأثيرها كعملية إلى المستوى الوطني، أي تساهم بازدياد الفجوة بين الخدمة الاجتماعية، والتغير الاجتماعي. غير أن ذلك لا يعني بالطبع، أن الإمكانية غير واردة لإيجاد توازن بين هذين البعدين في التنمية المجتمعية، وذلك بالربط بين التنمية المجتمعية والتنمية الوطنية، لإحداث تغير اجتماعي بمعدل ملائم، وضمن زمن معقول، أخذاً بعين الاعتبار السياق الذي تحدث فيه التنمية المجتمعية.
د- المنظمة المجتمعية، أداة العمل الأساسية في التنمية المجتمعية: تشكل المنظمة المجتمعية إطاراً يوحد بين عملية التنظيم الاجتماعي للمشاركين، وما يشمله من علاقات داخلية وعلاقات خارجية، والبرامج التي سيقومون على تنفيذها. وحتى يقوم هذا الإطار بوظيفته المطلوبة كأداة فعّالة، ينبغي توفير مجموعة من ضمانات النجاح الأساسية، تتركز في شروط التأسيس، وينبغي أن يتمتع بصحة تنظيمية في أدائه لبرامجه، بالإضافة إلى توفير شروط الاستمرار.
* الفقر أكبر تحديات التنمية في البلدان الإسلامية
عرّف الباحثون الاقتصاديون مفهوم التنمية، بأنه عملية مجتمعية واعية ودائمة، موجهة وفق إرادة وطنية مستقلة، من أجل إيجاد تحولات هيكلية، وإحداث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية تسمح بتحقيق مطرد لقدرات المجتمع المعني، وتحسين مستمر لنوعية الحياة فيه.
قضية التنمية مطروحة بشكل قوي، على أجندة الدول المتقدمة والنامية، منذ الحرب العالمية الثانية، وقد شكلت العلاقات بين دول الشمال والجنوب، وكذلك بين دول الشمال ذاتها، فالعلاقات السياسية بين أميركا وأوروبا الغربية خلال الخمسينات من القرن الماضي، حددتها وبصورة أساسية هذه القضية، فيما عرف بمشروع مارشال لتنمية أوروبا.
أما العلاقة بين الشمال والجنوب، فالتنمية هي القضية المحورية إلى يومنا هذا، وإن تم تغيير مسمياتها إلى ما أصبح يعرف بالتنمية المستدامة، القائمة على الإصلاح الهيكلي والتحول الديموقراطي والخصخصة، وعلى الرغم من الأهمية المركزية لقضية التنمية طوال ما يقارب نصف القرن، فإنها لم تحقق أهدافها في دول الجنوب (الدول النامية)، التي من ضمنها الدول العربية والإسلامية، التي مازالت تعاني من الأزمات نفسها، التي كانت تعاني منها منذ الاستقلال، ولم تحقق في معظمها أي نقلات نوعية يعتد بها، في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
إن التنمية العربية تواجه تحديات كثيرة وخطيرة، يتوقع أن تشتد حدتها وتزداد انعكاساتها السلبية، على مجمل الحياة العربية خلال القرن الحالي، ومن التحديات الخطيرة التي تواجهها البلدان الإسلامية داخلياً، استفحال آفة البطالة والفقر.
ظاهرة الفقر
تعتبر ظاهرة الفقر واحدة من أهم المعضلات، التي واجهتها المجتمعات والحكومات والنظريات الاجتماعية منذ أقدم العصور. وفي القدم ارتبطت ظاهرة الفقر بفقدان الموارد، أو بالحروب التي تؤدي إلى القهر والاستعباد؛ ولذا فإن الأديان السماوية جميعها، أولت ظاهرة الفقر اهتماماً خاصاً، وقال *: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر”(1)، ويقول *: “كاد الفقر أن يكون كفراً”(2). ومن أشهر المقولات مقولة سيدنا على بن أبي طالب C: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، وفي التراث الفلسفي يقول أرسطو: “الفقر مولد الثورات والجريمة”.
الفقر كمفهوم
والفقر من المفاهيم المجردة النسبية، فهو مفهوم يحاول وصف ظاهرة اجتماعية واقتصادية بالغة التعقيد. تدور معظم الأدبيات التي تتحدث عن ظاهرة الفقر، حول نوعين أساسيين من الفقر: الأول يسمى بالفقر المطلق، ويحدد الفقر بأنه عدم قدرة الفرد/ الأسرة على الوفاء باحتياجاتها الأساسية، الغذائية وغير الغذائية. وهناك الفقر النسبي، ويشير لعدم قدرة الفرد/ الأسرة على الوفاء بالمستوى المعيشي للمجتمع الذي تعيش فيه.
وتحدد الأمم المتحدة خط الفقر، أي الخط الذي يفصل بين الفقير وغير الفقير، أنه دولار واحد باليوم بالنسبة للفقر المطلق، وبطبيعة الحال فالفقر يختلف باختلاف المجتمعات، والأوقات والأحوال والأشخاص، وأساليب تعريفه وطرق قياسه ووسائل معالجته. ويمكن التأكد أن الفقر بمفهومه النسبي، الذي يرتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد، هو ظاهرة موجودة في بلدان الخليج، يبرز أكثر في صورة التفاوت في توزيع الدخل وليس في انتشار ظاهرة الفقر المطلق أو المدقع منه.
أ - أخطار الفقر على المرأة
تشكل النساء 70% من فقراء العالم، نصف سكان العالم، يحققن ثلثي ساعات العمل، يحصلن -فقط- على عشر الدخل العالمي، ويمتلكن 1% من ثروات العالم، ويشكلن 1% فقط من صانعي القرار في العالم، وهن 75% من اللاجئين والمهاجرين، بسبب الحروب والفقر وانتهاك حقوق الإنسان.
إن عبء المرأة كبير في مواجهة الفقر، فحينما تنسحب الدولة ولا تؤدي أدوارها، يصبح على الأم -في الغالب- أن تقوم بدور في التعليم والصحة، وبالنسبة لأسرتها فهي بذلك المترجم الأول لاحتياجات الأسر، والمجتمعات الفقيرة تطلب من الجميع الالتفات.
ب- خطر الفقر على الأخلاق والسلوك
إن البؤس والحرمان الذي يعيشه الفقير، خاصة إذا كان إلى جواره مترفون، قد يدفعه لسلوك غير سوي، وتشكيك منه بالقيم الأخلاقية والنظام العام للمجتمع، لهذا قالوا: “صوت المعدة أقوى من صوت الضمير”، ويقول (صلى الله عليه وسلم): “إن الرجل إذا غرم استدان، وحدّث فكذب، ووعد فأخلف”.
لقد أوضحت مجموعة من الدراسات، أن اغلب الفتيات الجانحات والنساء المرتكبات للجرائم، ينتمين إلى أسر فقيرة، بالإضافة إلى وجود أعداد كبيرة من الفتيات الجانحات، يتجهن إلى ممارسة التسول، ومن ثم الانحراف إلى طريق الجريمة، وكثير من نزيلات السجون هن من مرتكبات جرائم السرقة، كونهن بحاجة ضرورية للمال والأشياء اللازمة، واتضح أن 75% من نزيلات السجون ينتمين إلى أسر فقيرة، والكثير من مرتكبات جرائم السرقة والزنا منهن أرجعن أسباب ارتكابهن لتلك الجرائم إلى العوز والفقر، إلى جانب أن الفقر يحول بين متابعة الفتيات لدراستهن، لعدم امتلاك المال لدفع الرسوم الجامعية وشراء الأدوات والكتب والمستلزمات الدراسية، مما يقف مانعاً من حصولهن على تعليم جامعي أو تخصصي، وبالتالي عدم إمكانية الحصول على عمل يمكن أن يتكسبن منه، مما يوقعهن في حالة بطالة، خاصة في المدن، ويلجأن إلى ارتكاب الجريمة للحصول على المال غير المشروع، من خلال السرقة أو الزنا والدعارة والاحتيال وخيانة الأمانة.
جـ- خطر الفقر على الفكر الإنساني
إن أثر الفقر يمتد للجانب الفكري كما هو في الجانب الروحي والأخلاقي للإنسان، فروي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: “لا تستشر من ليس في بيته دقيق”، لأنه مشتت الفكر ومشغول البال، فلا يكون حكمه سديداً.
والفقر مانع رئيسي من موانع الزواج، وتكوين الأسرة والتناسل الإنساني، لما وراءه من أعباء ونفقة، لهذا أوصى القرآن غير القادرين على الزواج بالتعفف والصبر حتى تواتيهم القدرة الاقتصادية، بقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(3)، وللفقر كذلك أثر على استمرار الأسرة، فمن حق القاضي أن يفرق بين المرأة وزوجها لعجزه عن النفقة عليها، رفعاً للضرر عنها، وفقاً لقاعدة “لا ضرر ولا ضرار”.
بل قد يتعدى أثر الفقر إلى قتل النفس التي حرم الله، وهي حقيقة قرآنية ذكرها تعالى بقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}(4)، وتظهر في بعض الصحف أخبار تشير لبيع بعض الأسر لأولادها بسبب ضيق الحال، أو انتحار الأب أو الأم مع الأولاد بسبب الفقر.
روي عن أبي ذر أنه قال: “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!” فقد يصبر المرء على الفقر إن كان ناشئاً من قلة الموارد وكثرة الناس، أما إذا نشأ من سوء التوزيع للثروة والدخل، وبغي بعض الناس على بعض، وترف أقلية في المجتمع على حساب الأكثرية، فهذا هو الفقر الذي يثير النفوس، ويحدث الفتن والاضطراب، ويقوض أركان المحبة والإخاء بين الناس.
* الحروب وآثارها السلبية على تنمية المرأة المسلمة لمجتمعاتها
إن أكثر التأثيرات سلبية للنظام العالمي الجديد، سيكون على النساء، الفئة التي تعتبر الأكثر تضرراً، ففي فلسطين والعراق وأفغانستان، تدهورت أحوال النساء، وانخرطن مع حركة المقاومة لطرد الاستعمار الأمريكي - البريطاني - الصهيوني، ليصبحن استشهاديات، (انتحاريات أو إرهابيات) كما تشاء أمريكا تسميتهن.
وبهذا تتحمل المرأة في البلدان الإسلامية، عبئاً جديدًا يضاف إلى أعبائها الكثيرة في ظل الترمل والثكل، لتصبح المعيل الوحيد لأسرة يتفاوت تعدادها، في ظل ظروف تقف في الجانب الآخر تماماً من مصالحها وما أتيح لها، في مجتمعات تضطهدها أساساً قبل هذه الظروف المعقدة.
وبعيداً عن أجواء الحروب الصاخبة ووضعها الخاص، نتجه إلى نساء يعشن العولمة الحقيقية بكل أبعادها في المجتمعات الغربية، حيث تبقى نساء الشعوب الفقيرة في أفريقيا وآسيا والمنطقة العربية، في مجال تهديد خطر العولمة، سواء على المستوى العقدي والفكري والثقافي أو على المستوى الاقتصادي، فيرتفع صوت الشعوب الغربية احتجاجاً واستنكاراً، لأنهم عرفوا تماماً حقيقة الخطر وأبعاده. وقد لبست أشكال الحرب على المرأة أكثر من حلة، ووظفت على أكثر من جبهة:
الجبهة الأولى: تأثير ضخامة العولمة بطبيعتها الخاصة على المرأة عموماً، إذ لا يميز المظلوم المنخرط فيها ظلمه، ويغيب الظالم مع مكاسبه، ليظهر كمنقذ من الفقر والجوع والموت. وهي: الاتجار بالنساء.
وإذ يتزايد عدد النساء والطفلات من البلدان النامية، ومن بعض البلدان التي تمر اقتصادياتها بمرحلة انتقالية، اللواتي يجري الاتجار بهن، فينقلن إلى البلدان المتقدمة، وكذلك في داخل المناطق والدول وفيما بينها، لندرك فجأة أن الصبية هم أيضاً من ضحايا مشكلة الاتجار.
وتزداد أنشطة التنظيمات الإجرامية عبر الشركات المروجة لهذا النوع التجاري الرابح، والعابرة للقارات أيضاً، والتي تجني أرباحاً من الاتجار بالنساء والأطفال على الصعيد الدولي، دون مراعاة للظروف الخطيرة واللاإنسانية، وفي انتهاك صارخ للقوانين والمعايير سواء المحلية أو الدولية.
ويتزايد استخدام تكنولوجيات المعلومات الحديثة، بما في ذلك شبكة الإنترنت لأغراض البغاء والتصوير الإباحي للأطفال، والاتجار بالنساء في الزواج، والسياحة الجنسية.
أما الجبهة الثانية: فتتضح في تأثيرات العولمة على وضع المرأة العاملة، فقد عملت الدول الرأسمالية الكبرى، على فرض حالة انسياب في حركة البضائع والرأسمال بدعوى حريّة التجارة، وذلك في سبيل غزو أسواق بلدان الجنوب من ناحية، وتحقيق شروط ملائمة لنشاط رأس المال في هذه البلدان، من ناحية أخرى، حيث(5):
1- توفير يد عاملة كثيفة من ضمنها النساء.
2- توفير يد عاملة بخسة، والتي تمثلها اليد العاملة النسائية بشكل بارز.
3- الاستثمار في قطاعات وصناعات ملّوثة للبيئة، غير مقبول تواصلها في البلدان الرأسمالية الكبرى، فيقع تصدير هذه القطاعات إلى بلدان الجنوب.
ما يلاحظ في هذه القطاعات، هو أنها تقوم في جانب كبير على تشغيل النساء، ذلك أن اليد العاملة النسائية تستجيب لشروط الاستغلال القصوى، في ظل كل الظروف المحيطة بها.
وتتسم شروط عمل النساء بالنقاط الرئيسة التالية:
1- أجور متدنية، ما يميزها كونها أقل من الحدّ الأدنى الذي حددّته القوانين، على الرغم من أنّ القوانين تكرّس بطبعها الاستغلال، وتخدم مصالح الرأسمال الأجنبي.
2- غياب قوانين العمل التي تحمي النساء من كل أشكال الخروقات القانونية في العمل، إذ تتجاوز عادة الحدّ الأقصى المحددّ قانوناً -حتّى وتحت صيغ عديدة- يقع إجبار العاملات على العمل لمدة تتراوح بين 9 ساعات إلى 12 ساعة، كما يقع إجبارهن على العمل في العطل والأعياد، بدعوى ضرورات التصدير، دون موافقتهن من ناحية، ودون احتساب تلك الساعات كساعات إضافية، وفقاً للتحديد القانوني من ناحية أخرى(6).
وهذه التحديات، لا يمكن حصرها على المرأة في البلدان العربية والإسلامية فقط، واستثناء المرأة الغربية، ذلك أن برجوازية النظام الرأسمالي الغربي، التي ترى المرأة بضاعة تنتج بضاعة، ولا تركز إلا على الجانب الجنسي منها، لن تستطيع إبراز قدرات وذكاء وعقل وإبداع المرأة.
إن البرجوازية التي اتخذت من المرأة الغربية وسيلة دعائية، ووسيلة جذب للتحريض على الشراء عبر الإعلانات الدعائية، والتي حولتها إلى بضاعة للاستغلال الجنسي والانحراف، عبر الإعلام والتلفزيون والسينما والأدب وغيره، وجعلت من الحياة العائلية شركة، وأعطت الشرعية “للحرية الجنسية” و”للحريات الفردية” وكل أشكال الانحرافات، وتحويل الجنس إلى ممارسة حيوانية في حلقات تناول المخدرات، وبين مجموعات الجنس الجماعي لن تستطيع توفير المكانة الحقيقية للمرأة في المجتمع..
لذا ففي عالم مملوء بالبطالة والجوع والاستغلال والتعذيب، فإن نظرية الأنثوية للمساواة بين الجنسين، التي تضع أمامها فقط المشكلة الجنسية، والتي تدافع عن سيادة المرأة تحت اسم علاقات الرجل والمرأة، والتي تنشر العداء ضد الرجل، من أجل حرية المرأة، تلهي المرأة عن النضال الحقيقي من أجل التحرر، وتحرفها عن هدفها.
وتواجه مشاريع تنمية المجتمعات الإسلامية، تحديات أخرى تتمثل في تعزيز التكتلات الإقليمية، وتغيير شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية، واتساع دائرة اندماج الاقتصادات الوطنية تحت مظلة العولمة، التي بدأت تظهر تجلياتها وتحولاتها في حقول التجارة والاستثمارات، وانتقال رؤوس الأموال، والقوى العاملة والثقافة، وإن كانت العولمة تدفع نحو المزيد من توسيع الإفقار العام للمجتمع، كتعبير داخلي عن حالة الاستقطاب العالمي بين المركزة المتزايدة للثروة من ناحية، والتعتيم المتزايد للفقر من ناحية أخرى، فإن الأمر يتخذ أبعاداً أعمق وأوسع، وأكثر خطورة وبربرية بالنسبة للنساء، حيث يتعمّق الفقر والإملاق، ويظهر ذلك خاصة في الأثر التهميشي للعولمة تجاه النساء، فيتواصل هذا التهميش لبلدان الجنوب لصالح بلدان المتروبول الرأسمالي، وتهميش الأرياف لصالح المدن، وتهميش أحزمة الفقر بالضواحي لصالح العواصم ومراكزها. وهنا يغيب دور المرأة تماماً في المركز، ليظهر حضورها البارز في الهامش، كجندي وحيد ومنسي ومجهول، في معركة لا تخضع لمقاييس.
* موقع المرأة في المجتمعات الإسلامية
كثيرة تلك المعايير التي يعتمدها علم الاجتماع، في التعرف على الموقع الذي تحتله المرأة في أي من المجتمعات البشرية، ومن خلالها يمكن التعرف على واقع ومستوى تلك المجتمعات. ويمكن في هذا الصدد إيراد ثلاثة معايير جوهرية، تعتبر محطات مركزية لاختبار موقع المرأة ومكانتها في المجتمعات الإسلامية، وهي:
• طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في هذا البلد أو ذاك، ومستوى تطور القوى المنتجة -المادية منها والبشرية- فيه، بما في ذلك مستوى تطور التعليم والمهارة الفنية، وتطور العلوم والحياة الثقافية، أو ما يطلق عليه اليوم بالتطور البشري أو الإنساني.
• مستوى الحياة الديموقراطية، ومدى سيادة دستور ديموقراطي، وتمتع شعوب هذا البلد أو ذاك بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.
• دور المرأة ومكانتها في المجتمع إلى جانب الرجل، ومكانتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومدى تمتعها بحريتها وحقوقها كاملة غير منقوصة.
وإذا حاولنا دراسة واقع المجتمع الإسلامي من خلال هذه المعايير، لوجدنا الحقائق التالية:
العلاقات العشائرية، التي تعود إلى حد ما إلى العلاقات الأبوية، التي تسبق العلاقات الإنتاجية الإقطاعية في الريف، ولكن تعكس تأثيرها وممارساتها البارزة على المدينة بشكل كبير، وبشكل خاص في المجمعات المهمشة من المجتمع، المنحدرة من أصل ريفي، ولم تدخل عالم الصناعة والعلاقات الإنتاجية الرأسمالية. وهي علاقات تحترم المرأة في داخل العائلة، ولكنها تحتقرها خارج إطار العائلة والمجتمع، وتعتبرها عاجزة عن التفكير والتصرف العقلاني، وهي دونية ينبغي الحذر منها(7).
* واقع المرأة المسلمة في العمل
للمرأة خصائص اجتماعية وبيولوجية، تؤهلها للقيام ببعض الوظائف، والتخصّص في بعض المجالات، التي تنتج بها وتؤدي فيها دوراً فعالاً؛ لذلك فإن عمالة المرأة تعتبر مهمة جداً لتحسين الإنتاج، وتسريع وتائر النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما أنه يزج في المجتمع طاقات كبيرة من الأيدي غير المنتجة.. ومع ذلك فإن نسبة قوة العمل النسائية من مجموع الإناث في البلدان العربية لا تزال ضعيفة، ولم تدخل المرأة بعدُ في مجال العمل الذي يلائم خصائصها وطاقاتها، وهذا التناسب بين الطاقات والخصائص من جهة، ونوع العمل من جهة أخرى ضروري جداً؛ إذ إن المطالبة بحق العمل دون النظر إلى إمكانياتها وأوضاعها الخاصة، مطالبة في غير محلها، وهذا لا يقف أبداً عائقاً في مساهمتها، فالطبيب لا يستطيع أن يقوم بعمل القاضي والعكس صحيح، فالتخصص وارد في جميع مجالات الحياة، إلا أن هذا التخصص يتطلب وضع سياسات حكيمة ومخططة، لدراسة واقع المرأة في العمل، وتطلعاتها ومجالات شيوعها أكثر ما يمكن.
وتتجلى أهمية مساهمة المرأة في البناء الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق التنمية في:
1- ازدياد الدخل الوطني؛ وبالتالي زيادة تراكم رأس المال الضروري لإنجاح برامج التنمية.
2- التقليل إلى حد كبير من نسبة السكان الذين يعيشون كمستهلكين فقط، أي عالة على المنتجين، وبذلك تزداد نسبة رأس المال الموجه إلى البناء، على حساب رأس المال المستهلك من الدخل القومي.
3- رفع إنتاجية العمل الاجتماعي؛ وهو الركن الأساسي لتحقيق التنمية.
وقد تنبهت إلى هذه الحقيقة جميع البلدان المتقدمة، وراحت تزج بالنساء في العمل، كما إن الدول النامية تسعى إلى زج الطاقة النسائية في العمل المنتج، ولكن يجب أن تدرك أن هذا الأمر يستلزم بيانات إحصائية دقيقة، للتعرف على الطاقات البشرية المتوفرة، لاستخدامها استخداماً صحيحاً وبصورة عقلانية، دون إحداث خلل أو عدم توازن في تركيب المجتمع؛ إذ لا نستطيع نقل المرأة من المنزل إلى العمل دون التخطيط لذلك من عدة جهات:
أـ تهيئة المرأة المسلمة علمياً: وذلك عبر فك العزلة عن عوالم الجهل التي تعيش فيها المرأة، والمراهنة على إيجاد أفضل الصيغ الملائمة لتحقيق مستوى من التعلم، يربطها بتعاقد تواصلي إيجابي مع كافة شرائح المجتمع. إن التجارب والدروس تؤكد أن مجال تربية وتعليم المرأة، متى تم ترشيده وتوجيهه كمجال استثماري، ومتى تم اعتباره النواة الصلبة للمشروع التنموي الشامل، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يعد أهم مصنع لإنتاج ثقافة التغيير الاجتماعي، والانتقال الديموقراطي إلى أزمنة التنمية الشاملة والحداثة والعولمة.. مراهنات تظل غير مجدية، إذا لم تعمل هذه المجتمعات على ترسيخ ثقافة مجتمعية شاملة للتغيير تركز على تعليم المرأة(8).
فأمية المرأة من أهم العوامل التي تحرمها من الاعتراف بما لها من دور هام في النمو الاقتصادي. وذلك عبر مساهمتها الفعلية والفاعلة في المجال الإنتاجي، سواء في الأوساط الحضرية أو القروية، إلا أن غياب تمتعها بالتعليم والتكوين، يعمل على تبخيس مساهمتها هذه رغم أهميتها ودورها الوازن، كما يساهم في تعميق تبعيتها وهامشيتها ودونيتها الاجتماعية.
ب- تهيئة المرأة عملياً وإعلامياً: فالعمل قبل كل شيء مسؤولية، فيجب على المرأة أن تعرف واجباتها وحقوقها الدينية، وتحرر المرأة من تبعيتها لكل ما هو تابع للموروث الثقافي الشعبي، و أيضاً لظواهر مدنية حديثة زائفة (السلوك الاستهلاكي غير الواعي، التقليد في اللباس والعادات.. الخ)، ويخلق (العمل) منها شخصية متكاملة منتجة متميزة، قادرة على تحدي مشاكل الحياة، مع الحفاظ على كرامتها وزيادة تمسكها بالعائلة والمنزل والأولاد، لاسيما وأنها تشعر أنها تشارك في عملية البناء هذه.
إن دخول المرأة معترك العمل بأسس علمية صحيحة، سوف يكون له أثر حضاري وثقافي، ينتقل من خلالها إلى الأجيال القادمة، التي هي عماد البلاد في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لأنها سوف تعلّم الأجيال القادمة أنماطاً جديدة للحياة.
إن مساهمة المرأة في العمل في معظم الدول العربية، شبه منخفضة مقارنة بالرجل، وإن هذه النسبة المنخفضة هي من سمات الدول النامية بصورة عامة، والعربية بصورة خاصة، مقارنة مع بقية دول العالم(9).
وإذا أردنا أن نحلل أسباب هذا التقصير في مواكبة التطور الطبيعي، نرى أن هنالك عوامل عديدة، تتحكم في موضوع مساهمة المرأة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فالبيئة المحافظة والأعراف التي تحيط بالمرأة، تجعلها أقل إقداماً على العمل في مجتمعنا، الذي لا تتوفر فيه الشروط الكافية، التي تخفف عن المرأة بعض الواجبات البيتية، مثل مراكز رعاية الأطفال، ودور الحضانة والخدمات المنزلية.
لهذه الأسباب نرى أن مساهمة المرأة تتأثر بعاملين رئيسين من جملة العوامل الأخرى، وهما الحالة الزوجية والحالة التعليمية.
إن تعلم المرأة يدفعها إلى ميدان العمل؛ فكلما ارتفعت درجة تعليمها، أدى ذلك إلى جعلها عنصراً فعالاً في المجتمع، نتيجة لزيادة وعيها.
لقد أثبتت دراسة اجتماعية ميدانية، أن نزول المرأة إلى معترك العمل، والمساهمة بالنشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعام، قد حقق مكسباً كبيراً في تكوين اتجاهات جديدة في تحرير نصف المجتمع من الجمود، ودفعه في طريق الإنتاج والمشاركة، لكن مجموعة كبيرة من المشكلات أخذت تدخل إلى معظم البيوت، من خلال إرهاق المرأة بعملين معاً، ولعدم توفر الخدمات التي تعتق المرأة من بعض مسؤولياتها من جهة، ولعدم قبول الأزواج بمساعدة زوجاتهن من جهة أخرى، إذ لم تتولد بعدُ قناعة لدى الجميع بأن الحياة أساسها المشاركة.
وقد حددت أغراض البحث بـ:
1- الكشف عن المشكلات الأسرية، وتحديد أبعادها وآثارها على حياة الأسرة واستقرارها، من خلال ما يعطيه البحث من معلومات وبيانات ومعطيات إحصائية.
2- الوصول إلى نتائج وإعلان مقترحات.
و إننا في الحقيقة نفتقر لمثل هذه الدراسات رغم أهميتها؛ إذ إنها تلقي أضواءً على مقومات جديدة لعمل المرأة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر المعطيات التالية:
- 68.57 % من الزوجات العاملات يقضين العطل في البيت للقيام بالأعمال المنزلية.
- 54.81 % من الأسر التي لديها أولاد، تغطي الزوجة غيابها عن العمل بسبب مرض طفلها بإجازات إدارية، و 10.04 % بإجازة بدون راتب.
- 29.82 % من العاملات التي جرت الدراسة عليهن، ينفردن بكافة الخدمات المنزلية داخل الأسرة، وهذا يعني أن ثلث الزوجات العاملات تقريباً، مسؤولات عن تأمين كافة الخدمات المنزلية بمفردهن دون أية مساعدة.
- 47.5 % من الأزواج يساعدون زوجاتهن العاملات، في الأعمال المنزلية التي تعتبر من اختصاص رب الأسرة (شراء الحاجيات، ومساعدة الأولاد في مسؤولياتهم المدرسية)(10).
النتائج الممكن استخلاصها من دراسة واقع المرأة في العمل تنحصر في النقاط التالية:
- إن مساهمة المرأة في العمل تبقى ضعيفةً رغم الجهود المبذولة، وإذا أردنا زيادة مساهمتها فيجب التخطيط من أجل تحقيق ذلك في ثلاثة اتجاهات:
1- زيادة تعليم المرأة.
2- تأمين فرص العمل التي تتناسب وإمكاناتها وظروفها.
3- العمل على تأمين الخدمات التي تحرر المرأة من أعبائها المتراكمة في المنزل.
* واقع المرأة الريفية
إن المعطيات الإحصائية، تظهر أهميتها خاصة في دراسة فئة لها أوضاعها الخاصة وظروفها الشاقة والصعبة، ولا سيما أن لها تأثيراً كبيراً على التنمية الاقتصادية، هذه الفئة هي عبارة عن فئة النساء الريفيات، إننا إذ نريد أن نظهر واقعها الذي هو بصورة عامة واقع أليم، فإننا نهدف من هذا، إلى التأكيد على أهمية دراسة أوضاعها بالأرقام، والتخطيط لتطويرها، وتنمية القطاع الزراعي، الذي يعتبر أهم من جميع القطاعات في الأقطار العربية(11):
أـ التركيب السكاني: 78% من النساء في الريف هن في أعمار تتراوح بين 15-59 سنة، بينما اللواتي تزيد أعمارهن عن 60% فلا يشكلن سوى 4%، وهذا معناه أن المرأة الريفية قوة بشرية فعالة، تسهم في العمل والإنتاج معاً.
ب- التركيب التعليمي: إن نسبة الأمية في الأوساط النسائية الريفية تبلغ 76% بشكل عام، وهي 61% في فئة السن 15-19 و91% في كل من فئات السن 30-34-35-39، ونؤكد على ما جاء في البحث، بأن هذه النسبة مؤشر خطر لأوضاع المرأة الريفية، وتظهر آثاره واضحة في جميع المجالات؛ الأمر الذي يدفع المسؤولين إلى الاهتمام الجدي بمحو أمية النساء الريفيات، عبر وضع برامج تنفيذية تتناسب والواقع، وتتفق مع الاحتياجات.
ج- المرأة الريفية والعمل: إن العمل الزراعي للمرأة الريفية جزء لا يتجزأ من عملها اليومي كربة منزل، فـ 96.87% من نساء الريف مشتغلات بعملهن بالزراعة والرعي، ولكن قلما تستقل المرأة الريفية مادياً، إذ هنالك 82.19% من النساء الريفيات، ليس لديهن أي إطلاع على الوسائل الصحيحة للخدمات ووسائل الترفيه والتسلية(12).
النتائج الممكن أن نستخلصها عن وضع المرأة الريفية تتلخص في النقاط التالية:
1- إن المرأة الريفية تساهم في التنمية بشكل ملموس.
2- مردود مساهمة المرأة الريفية يبقى منخفضاً، نتيجة مستواها العلمي والعملي.
3- قلما تعمل المرأة الريفية بأجر، إلا إذا كانت تعمل في الوظائف الإدارية، كمعلمة أو غير ذلك، وفي بعض الأحيان لدى مزارع الدولة أو الجمعيات التعاونية، والتي لا تشكل -في الحقيقة- إلا نسبة ضئيلة من عموم العاملات.
وهكذا نجد أن المرأة المسلمة عامة، قد حققت في الوقت الراهن، وقياساً إلى أواسط القرن مثلاً، نوعاً من الاعتراف بعدد لا يستهان به من حقوقها، في ميادين التربية والثقافة، والشغل والحقوق السياسية والمدنية.. فاقتحمت بذلك مجالات اجتماعية وإنتاجية كثيرة، محاولة بذلك إثبات ذاتها وتأكيد نجاعة مساهمتها، كرأسمال بشري فاعل ومنتج، إلا أنها ما تزال تعاني من كثير من مظاهر الإقصاء والتهميش، والفقر، والقهر، وعدم تكافؤ الفرص التعليمية والمهنية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي يحد من مشاركتها واندماجها في عملية التنمية الشاملة(13).
وهكذا نجد أن وضع المرأة المسلمة في المدينة، لا يختلف كثيراً عن وضع المرأة في الريف، إلا من حيث كون المرأة في المدينة، تحصل على بعض الخدمات الإضافية، التي تحرم منها المرأة في الريف، وهي حبيسة البيت والمطبخ وتربية الأطفال، والحرمان من أغلب الحقوق والواجبات الحقيقية في المجتمع. وعندما تحرم النسبة العظمى من النساء من العمل، فهن لا يتمتعن بأي استقلال اقتصادي.
* سبل مواجهة التحديات التي تعيق
دور المرأة المسلمة في التنمية الشاملة
تتمثل سياسات القرارات والخطط والبرامج الرامية لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والنهوض بالمرأة، في التركيز على تحقيق تضامن المرأة في مجتمعاتنا العربية، باعتباره ركناً أساسياً للتضامن العربي والإسلامي، وعلى تنسيق الجهود على المستوى الإقليمي والدولي، من خلال العمل المؤسساتي الفعال، وتبادل الخبرات في نطاق تحقيق التنمية المستدامة.
وتؤكد هذه السياسات أن تمكين المرأة داخل مجتمعها، يعد ركيزة أساسية لتقدم هذا المجتمع، وحركة الإنسان العربي وتمتعه بحقوقه، كما أن تطوير واقع المرأة المسلمة وتحرير طاقاتها، لا يمكن تحقيقه دون وجود منظومة من التشريعات القائمة على العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وإدماج قضايا المرأة في أوليات خطط وبرامج التنمية الشاملة، وفي إطار هذه السياسات لا بد من توعية المجتمع بقضايا المرأة، وقدراتها التي تخولها المشاركة في صنع القرار على مختلف المستويات، بما يعزز دورها الإيجابي في الأسرة والمجتمع.. ولتحقيق مثل هذه السياسات العامة، تلجأ منظمة المرأة العربية إلى وضع خطط وبرامج، تعتمد المنهجية القائمة على تحليل المواقف، وتحديد الأهداف والأوليات وآليات التنفيذ. ويأتي في إطار هذه الأوليات العمل على رفع قدرات المرأة العربية، وتمكينها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً في المجالات التالية:
- في مجال التربية والتعليم: حيث تعطى الأولوية في ذلك للقضاء على الأمية، من خلال اعتماد آليات تنفيذ تقوم على اتخاذ تدابير تضمن إلزامية التعليم، ودعم نظام تعليم الكبار عبر برامج خاصة تستخدم أساليب التعليم عن بعد.
- في مجال الصحة والبيئة: حيث تعطى الأولوية لتعزيز البرامج الوقائية، التي تحسن من صحة المرأة، وإدماج الصحة الانتخابية في البرامج التنموية للمجتمعات المحلية، وأيضاً زيادة وعي المرأة بالمخاطر البيئية، وانعكاساتها على صحة أفراد الأسرة.
- في مجال الإعلام، حيث تبدو الأولويات في ذلك:
أ- العمل على مكافحة الصورة السلبية للمرأة، واستبدال صور متوازنة تعزز بها دورها الإيجابي في المجتمع ومشاركتها في التنمية، على أن يتم ذلك عبر آليات تنفيذ تعتمد تشكيل مجموعات خبراء من الإعلاميين، تكون مسؤولة عن مراجعة ما ينشر حول المرأة في وسائل الإعلام، وتوفير المعلومات والردود أيضاً، وتخصيص جائزة باسم المنظمة لأفضل عمل إعلامي يبرز دور المرأة الإيجابي، إضافة إلى إقامة برامج تدريبية للإعلاميين، تحثهم على إعداد برامج لتوعية المرأة بحقوقها وواجباتها الشرعية والقانونية، وعلى عدم تقديم المرأة بصورة سلبية، والعمل أيضاً مع وزارات التربية في الدول العربية، على إعادة النظر بالمناهج المدرسية، لإظهار المرأة كشريكة متساوية في بناء الأسرة والمجتمع.
- وفي المجال الاجتماعي: اعتمدت المنظمة على أسلوب التخطيط للنوع الاجتماعي، وتبني مفهوم التخطيط بالمشاركة، والتأكيد على تماسك الأسرة العربية لحماية المرأة والأسرة من المشكلات الممكنة.
- وفي المجال الاقتصادي: تعتمد المنظمة إعطاء الأولوية لمشكلة الفقر، والعمل على خفض نسبة الفقر وتخفيض أثاره على المرأة، خاصة في القطاع الريفي، من خلال توفير فرص العمل والتدريب الملائمة للمرأة.. والتوسع في إقامة المشروعات الصغيرة والبرامج الأسرية المنتجة.
- وفي المجال السياسي: فإن أولويات المنظمة العربية هي دعم المشاركة السياسية للمرأة، من خلال زيادة نسبة تمثيلها في المجالس التشريعية ومواقع القرار، وأيضاً زيادة نسبة عضوية المرأة في الأحزاب والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني..
- أما في المجال القانوني: فإن أولويات المنظمة تعديل التشريعات التي تحول دون مشاركة المرأة العربية، وإزالة أشكال التمييز ضدها، وذلك عبر آليات تعتمد على إنشاء مجموعة قانونية عربية، تسعى لإزالة الفجوة بين النص القانوني والتطبيق الواقعي له.
* نجاح برامج التنمية وضمان استدامتها
رهن بمشاركة المرأة في التنمية
تؤكد الآراء الحديثة الواردة في أدبيات التنمية، على أن نجاح برامج التنمية وضمان استدامتها، وقدرة المجتمعات على مواجهة التغيرات العالمية، والتواؤم معها، مرهون بمشاركة العنصر البشري، وحسن إعداد الإنسان وطبيعة تأهيله. وتعتبر المرأة العربية المسلمة عنصراً مهماً في عملية التنمية. وإذا ما أريد لهذا العنصر أن يكون فعالاً فلا بد أن تتوافر للمرأة معطيات أساسية، تمكنها من المساهمة الإيجابية في حركة التنمية وتوجيهها، ويأتي في مقدمة هذه المعطيات الإنتاج الاقتصادي، الذي يضعها في موضع القوة ويجعلها قادرة على خدمة مجتمعها. ويعتبر عمل المرأة في المؤسسات الخيرية المتاحة تدعيماً لقدرتها الاقتصادية، كما يعطي مؤشراً واضحاً على تفهم المرأة لدورها في بناء المجتمع، وقدرتها على المشاركة الحقيقية في التنمية، خاصة إذا ما أدركنا أن دورها في هذه المؤسسات في تطور مستمر، نظراً لما وصلت إليه المرأة من قدرة على الأداء، وسوف يعرض هذا المحور للدور المتغير الذي تلعبه المرأة في المجتمعات الإسلامية:
أولاً: بالنسبة لمشاركتها في التنمية.
ثانياً: بالنسبة لمشاركتها في المنظمات غير الحكومية.
ثالثاً: بالنسبة لمشاركتها في العمل التطوعي، مشيرة إلى دورها في المؤسسات المَنَّاحة. مع العلم بأنه لا توجد دراسات سابقة بشأن مشاركة المرأة في مؤسسات الخير المَنَّاحة والمتلقية.
أولاً: بالنسبة لمشاركة المرأة في التنمية
يتصل مفهوم المشاركة بمفهومي التنمية والتمكين اتصالاً وثيقاً، فلقد أضحى من المسلم به أن تنمية حقيقية، يستحيل إنجازها على أي صعيد، دون مشاركة الناس بقطاعاتهم المختلفة، وفئاتهم وطبقاتهم وشرائحهم الاجتماعية، في صنعها من ناحية، وفي جني ثمارها من ناحية أخرى.
إن درجة المشاركة ونطاقها، تحدد إلى درجة كبيرة توزيع القوة power في المجتمع، بمعنى القدرة على إحداث تأثير في الآخر الذي قد يكون فرداً أو جماعة أو مجتمعاً بأكمله، إلى المدى الذي نستطيع أن نقول فيه: إن المشاركة والتمكين هما وجهان لعملة واحدة. أي أن المشاركة لا تستهدف فقط تنمية المجتمع وصنع مستقبله، بل تستهدف أيضاً تنمية الذات المشاركة وتطوير قدراتها وإمكاناتها، ووجودها الفاعل والمؤثر في الحياة الاجتماعية على أصعدتها المختلفة. ومن هنا فإن درجة مشاركة النساء في الجوانب المختلفة للواقع الاجتماعي، تقف كمؤشر أساسي على وضع المرأة ومشكلاتها، ومكانتها وقوتها وتمكنها في المجتمع.
ورغم حداثة مفهوم المشاركة النسائية، وارتباطه بتطورات حديثة في الحركة الاجتماعية بصورة عامة، والحركة النسائية بصفة خاصة، فإن ثمة أشكالاً من المشاركة التقليدية للنساء، وبصفة خاصة في مجتمعنا العربي لا ينبغي تجاهلها، بل إن أي دعوة لمشاركة المرأة العربية مرهونة في نجاحها، باستلهامها وارتباطها بأشكال المشاركة التقليدية المتجذرة في ثقافتنا، مع إفادتها في الوقت ذاته من المدلولات الحديثة لمفهوم المشاركة.
تكتسب “المشاركة” إذن أهميتها ودلالتها بالنسبة للمرأة وقضاياها من حيث كونها آلية أساسية لتنمية الذات (المرأة ذاتها)، وتنمية الموضوع (المجتمع والواقع الاجتماعي)، وهما بعدان يرتبطان ارتباطاً جدلياً، فالذات أو الشخصية المتفتحة، القوية، والمزدهرة، والفاعلة، هي القادرة على تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما أن النمو الاجتماعي بدوره، يمكن أن يقاس بمدى الفرص التي يتيحها لتحقيق مشاركة القطاعات المختلفة، وتفتحها وازدهارها وفاعليتها(14).
حول مفهوم التمكين أو البحث على تحقيق القوة
تشترط عملية المشاركة بصفة عامة درجةً معينة من القوة أو التمكين، إذ إن المشارك في الحياة اليومية هو فاعل لديه القدرة على الفعل والاختيار، وتحقيق الأوضاع والأهداف التي يرغبها، ومن ثم فإن المشاركة الحقيقية تعني وتفترض درجة الفاعلية وشروط تحققها، وقدرة الإنسان (المرأة هنا) على تحقيق إرادتها وتطلعاتها على الصعيد الاجتماعي، على أساس أن السعي نحو القوة عنصر كامن في الفعل الاجتماعي، وهو مصدر أساسي لمقاومة التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية الضاغطة.
ويرتبط مفهوم التمكين في التحليلات السيسيولوجية الحديثة بمفهومين آخرين؛ تحقيق الذات أو حضور الذات، وهو المفهوم الذي يشير إلى الوعي والمعرفة والخبرة، أو القابلية لامتلاك تلك العناصر الضرورية للمشاركة، ومقاومة الضغوط الاجتماعية.
إن المشاركة بهذا المعنى، تشير إلى مدى القدرة على الفعل، وصنع الظروف، ومقاومة الضغوط، وصولاً إلى تحقيق الذات، وتحقيق القوة أو التمكن بإزاء الظروف ذاتها.
ونستطيع أن نقول في هذا الصدد: إن المرأة بعامة، والمرأة العربية بصفة خاصة، ما تزال تستشعر الكثير من الضغوط المؤسسية الاجتماعية، التي تعوق مشاركتها في صنع القرار، إن مفهوم التمكين هنا، يشير إلى كل ما من شأنه أن يطور مشاركة المرأة، وينمي من قدرتها ووعيها ومعرفتها، ومن ثم تحقيق ذاتها على مختلف الأصعدة: المادية والسيكولوجية والاجتماعية والسياسية، ويتيح لديها كافة القدرات والإمكانات، التي تجعلها قادرة على السيطرة على ظروفها ووضعها، ومن ثم الإسهام الحر والواعي في بناء المجتمع على كافة أصعدته.
ثانياً: مشاركة المرأة في التنظيمات غير الحكومية
المنظمات الأهلية غير الحكومية
من المسلَّم به أن دور المرأة ومشاركتها في التنظيمات الأهلية، لا ينفصل عن وضعها في المجتمع بصورة عامة، وهو الوضع الذي سيتحدد بدوره، بمدى تطور البني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وإن العلاقة بينهما علاقة جدلية وتفاعلية، فمن المستحيل أن تتطور أدوار المرأة وتتحرر وتصبح شريكاً كاملاً في المجتمع، إلا إذا سمحت مرحلة تطور البنى الاجتماعية والسياسية في هذا المجتمع بذلك، وهي بدورها تتأثر في تطورها بدرجة تحرر المرأة وتفاعلها مع حركة المجتمع(15).
ويتمثل النشاط الأهلي للنساء في أنماط متعددة، من أقدمها وأكثرها شيوعاً الجمعيات الخيرية النسائية، وهي الجمعيات التي ترتبط بالبر والإحسان، وتحاول بالتالي ترميم وإصلاح العيوب ومعالجة المشكلات من موقف إصلاحي، وهي أكثر أصناف الجمعيات رواجاً وعراقةً. وهي تارة جمعيات خيرية “مختلطة” تساهم فيها نساء، وتارةً أخرى جمعيات خيرية نسائية صرفة، لا تعمل فيها إلا نساء..
وهناك جمعيات واتحادات نسائية، مرتبطة بأحزاب في السلطة أو خارجها، فإن كانت هذه الأحزاب خارج السلطة، فإنها قد ترتبط بالحركة الوطنية، وتربط نظرتها للمرأة بموقفها الإيديولوجي، أما تلك المنظمات التابعة لأحزاب في السلطة، فهي تتحرك في إطار الحزب، وتتسم بدرجة عالية من البيروقراطية.
وتشير البيانات والإحصاءات المتوافرة على الصعيد العربي إلى ضعف المشاركة النسائية بصورة عامة، في التنظيمات والجمعيات الأهلية، فضلاً عن ضعفها في العمل النقابي، وتواجد المرأة أساساً على المستويات القاعدية دون القيادية، وبالتالي ابتعادها عن مواقع صنع القرار. كما تأتي هذه المشاركة في هذه التنظيمات، من فئات وطبقات اجتماعية معينة ممن يملكن الوقت والمال، وكذلك من فئات عمرية متأخرة نسبياً بعد سن الأربعين غالباً، حتى لا يكون هناك أطفال في حاجة إلى الرعاية، كما تتسم هذه التنظيمات في الغالب بالطابع الحضري، فتستوعب نساء الحضر، مما يعني تهميش قطاعات ومناطق وأجيال وطبقات اجتماعية، عن المشاركة في العمل الأهلي النسائي العربي، يؤدي ذلك حتماً إلى صياغة مضمون النشاط الأهلي، في إطار أنساق فكرية وثقافية وقيمية، لا تمثل الغالبية العظمى من النساء العربيات(16).
غياب الاستراتيجيات الإنمائية
إن غياب التخطيط والاستراتيجيات الإنمائية -التي يجب أن تضعها المنظمات غير الحكومية لتسيير وتنشيط عملها- يعتبر من أهم المعوقات لدور هذه المنظمات في التنمية المحلية. والجدير بالذكر أن دور المنظمات العربية غير الحكومية ما زال ضعيفاً وغير ملموس، والشراكة المطلوبة مع الحكومة ما تزال موضوع جدل، رغم تزايد عدد هذه المنظمات، وتنوع أنشطتها واتساع دائرة عملها جغرافياً، ومشاركتها في المؤتمرات العالمية التي عقدت في التسعينات، مما وسع أفقها وانفتاحها وزيادة وعيها بالقضايا ذات الأهمية الحاسمة المشتركة، التي ركزت عليها معظم توصيات تلك المؤتمرات لتحسين نوعية الحياة، ومنها قضايا الفقر، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومحو الأمية الأبجدية والقانونية، وتمكين المرأة، وقضايا النوع الاجتماعي، والمساواة بين المرأة والرجل، وقضايا البيئة والتنمية البشرية المستدامة، والعمل المنتج، وإدماج الفئات المهمشة في المجتمع، وقضايا السكان والصحة الإنجابية والتنمية المحلية، والعمل على بناء القدرات المؤسسية والبشرية.
ثالثاً: مشاركة المرأة في العمل التطوعي
ظهرت بدايات العمل التطوعي في العالم العربي في القرن التاسع عشر، واستمر بوتائر مختلفة حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل دولة من الدول العربية، وكان له إسهامات كبيرة في تقديم العون والمساعدات للفئات الاجتماعية المحرومة.
ويعتبر البعد الثقافي القيمي عاملاً مهماً في العمل التطوعي، لما للمنظومة الثقافية والقيمية من تأثير على الدوافع والأسباب التي يحملها الأفراد، ولا شك أن الموروث الثقافي العربي الإسلامي يحتوي على العديد من القيم الاجتماعية والثقافية الإيجابية، كالتعاون والتكافل والزكاة والبر والإحسان، وغيرها من القيم التي تحفز المواطن على التفاني من أجل الغير(17).
ويمكن للمتتبع للتاريخ الإسلامي، أن يلاحظ أثر الأعمال التطوعية في الحياة العامة للمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في العهد الأول، إذ لم ينهضا ويقوما بدورهما الحضاري الرائد إلا بفضل الأعمال التطوعية التي كان يبذلها أفراد المجتمع الإسلامي، بل إنها كانت وراء استمرار المجتمع الإسلامي والمحافظة على بقائه وديمومته إلى الآن.
ولو نظرنا إلى التعليم والتربية في المجتمع الإسلامي مثلاً، لوجدنا أنها ما كان من الممكن أن تحرز التقدم المذهل والانتشار الواسع النطاق، لولا نظام الوقف الخيري، الذي هو أحد الأعمال التطوعية، وعن طريقه يتم تمويل عملية التربية والتعليم على جميع المستويات، مدارس وطلبة علم وأساتذة تعليم، وكتابة ومكتبات عامة وغير ذلك(18).
كذلك الأمر بالنسبة للصحة، فقد لعب العمل التطوعي دوراً مهماً في القضاء على الأمراض والحيلولة دون انتشارها وتفاقمها، وذلك من خلال حركة بناء المستشفيات ودراسة الطب والإنفاق عليه من موارد الأوقاف الخيرية، ومن خلال التوعية والتثقيف الصحي(19).
من هنا تأتي أهمية العمل التطوعي، في كونه أحد السبل المثلى -بل أهمها- التي تُشارك في عملية تحسين الأحوال المعيشية، وإيجاد حياة أفضل لأفراد المجتمع.
فمن المعلوم أن من مجالات العمل الطوعي التي حث الدين الإسلامي على الاهتمام بها، الرعاية الاجتماعية للطبقات المحرومة والمعدومة، كالأيتام والفقراء والمساكين، وكذلك المرضى والمجانين، والعناية بالعجزة والأرامل والمطلقات، مضافاً إلى قضاء حوائج الناس، وإقامة المشاريع ذات النفع العام للمجتمع، كالأسبلة (مواضع استقاء الماء)، والحمامات العامة، والمستشفيات والمدارس والمكتبات، وسائر الأمور الأخرى التي ينتفع بها عموم الناس.
وتلعب النساء المسلمات دوراً بارزاً في مؤسسات العمل التطوعي، سواء في الجهات المَنَّاحة أو المستفيدة.
* المصادر الخارجية لتمويل العمل الطوعي
ونعني بالمصادر الخارجية، أن التمويل يتم جمعه من مصادر خارج المنظمة الطوعية، سواء كان من أفراد أم حكومات أم جماعات.
وتمثل هذه المصادر جزءاً كبيراً في تمويل العمل الطوعي، ويمكن للمرأة المشاركة في إدارة هذه الموارد خاصة وأنها تمتلك المهارات الإدارية والقدرة على التخطيط، كما يمكن أن تلعب دوراً بارزاً في تطوير هذه الموارد، عن طريق تشغيل هذه الأموال واستثمارها، إذ إن التخطيط الإنمائي الفعال والتوجيه السليم للاستثمارات، لا يتحققان بغير المشاركة الكاملة لقطاع الأعمال مع القطاع الحكومي من قبل المرأة.
كما أن أداء هذه الأدوار من قبل المرأة في المؤسسات المناحة والمستفيدة، يعمق من خبرات النساء العاملات، ويطور قدراتهن الإبداعية والابتكارية، ويكسبهن العديد من المهارات، ويزيد من نطاق تفاعلهن، أي مشاركة للمرأة بالعمل في الجهات المانحة والمتلقية، سيساعد على حل بعض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، الناجمة عن التغيرات العالمية والمحلية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مشكلة البطالة والفقر، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى أنها ستكون قادرة على تفهم مشاكل العديد من النساء، مما سيتيح لها المساهمة في تحسين الخصائص المختلفة، لقطاع عريض من النساء في المجتمعات العربية، ومنها الخصائص التعليمية والاقتصادية والأسرية والصحية.
وفي الحقيقة توجد عدة أسباب، تدعو إلى إشراك المرأة إشراكاً كاملاً في صنع القرار الاقتصادي في المؤسسات المانحة والمتلقية، لأن للمرأة الحقوق نفسها في ذلك الاشتراك، وينبغي أن تتساوى المرأة مع الرجل، في القدرة على الوصول إلى المهارات والمكاسب والوظائف، اللازمة لبلوغ مستويات اتخاذ القرار في المؤسسات والجهات المانحة والمتلقية.
كما أن للمرأة مهارات تناسب العمل التطوعي، وتتناسب بشكل خاص مع مبادئ الإدارة العصرية، إذ اكتسبت المرأة العديد من تلك المهارات من واقع خبرتها في إدارة مواردها الشحيحة ووقتها الضيق، وفي قيامها بمسؤولياتها المتعددة، وتوفير الرعاية والقيام بالعمل دون أجر داخل الأسرة، وهذه القدرة على القيام بعدة مهام في الوقت نفسه ثمينة جداً، يمكن استثمارها من خلال إشراك مساهمة المرأة في مؤسسات العمل التطوعي، كما يدفع ذلك إلى زيادة نسبة تمثيل المرأة في الهيئات المناحة والمتلقية لأعمال البر والخير، حيث سيتيح ذلك للمرأة القيام بدور حيوي، خاصة في إيصال العديد من الخدمات التي تلبي احتياجات المرأة، كما تقوم المنظمات النسائية بدور أساسي في تفعيل مشاركة المرأة مع هذه الجهات، خاصة من ناحية تأهيل وتدريب المرأة على المهارات المهنية والفنية، التي تتطلبها أنظمة العمل في هذه المؤسسات، وبإمكان هذه المنظمات أيضاً أن تأخذ في اعتبارها الدور الذي تقوم به المرأة في منظمة المشاريع، وتتضمن البرامج الناجحة في دعم النساء منظمات المشاريع، خاصة بالنسبة للتمويل والمساعدة التقنية والمعلومات والتدريب وإسداء المشورة. وبناءً على ذلك يمكن توصيف الدور التنموي للمرأة العاملة في الجهات المانحة والمستفيدة بأنه:
- دور قيادي يتمثل في تأسيس عديد من المشروعات الإنتاجية والمشاركة مع القطاع الخاص في تنفيذ العديد من المشروعات لدعم الاقتصاد وتحقيق التنمية الاجتماعية.
ـ دور تفصيلي لأدوار المرأة، يتمثل في التدريب وحل المشكلات وإقامة المشروعات، وإيجاد فرص عمل متزايدة لقطاع عريض من النساء في القطاعات الريفية والحضرية.
ـ دور تنشيطي لبرامج التنمية للارتقاء بخصائص المرأة، من خلال التمويل لعديد من البرامج وتأسيس مشروعات خدمية، للارتقاء بالخصائص الاجتماعية والاقتصادية للمرأة. علماً بأن درجة مساهمة المرأة في هذه المؤسسات يختلف من مجتمع لآخر حسب حجم وخصائص ودور المؤسسة، وطبيعة التسهيلات التي تمنحها من أجل استقطاب ومشاركة المرأة للعمل بها، كما تتأثر هذه المساهمة أيضاً بنوعية المشروعات والمجالات والاحتياجات التي تقدمها هذه المؤسسة لكافة النساء المستفيدات.
وحتى تتعزز مشاركة المرأة في مؤسسات الخير المنّاحة والمتلقية، يجب أن تتوفر للمرأة عدة متطلبات أهمها:
- توفير الوقت الكافي واللازم، للإشراف والإدارة على الأعمال والمشروعات ومتابعة طرق الأداء بها وتنسيق خدماتها.
- القدرة على الإبداع والابتكار في مجال العمل الخيري، وتحقيق القدرة المالية للمؤسسات الخيرية، عن طريق بلورة أفكار لبرامج ومشروعات استثمارية، خاصة بالنسبة للمنظمات النسائية المتلقية لهذه المساعدات، مما يساعد على تطوير الموارد الذاتية، أو المساعدات المقدمة من مصادر خارجية.
* استشراف مستقبل تفعيل
دور المرأة التنموي في البلدان الإسلامية
مما تقدم يمكن القول: إن المرأة المسلمة قد أُطِّرت داخل سياق يتحدد مضمونه فيما يلي:
“ضعف العلاقة التبادلية بينها وبين المجتمع. حيث همش دورها العام المستغَّل داخل المنزل، كما هُمش واستغل مجال عملها خارج المنزل في الزراعة، والرعي، وقطاع الخدمات فيما بعد”.
وهو أمر طبيعي في ظل تبعية اقتصادنا، المبني على تصنيع يعتمد تكثيف رأس المال بدل العمالة في قطاعات محدودة، ويتسم باستهلاك متعاظم لمنتجات أجنبية، وتراجع في الزراعة، وقصور نسبي في الخدمات، وما ينتج عن ذلك من تزايد في أعداد العاطلين عن العمل، وتفاقم البطالة المُقَنَّعة، والأعمال الهامشية التي يكون للمرأة فيها النصيب الأكبر(20).
وإذا أضفنا لذلك غياب الوعي الاجتماعي المتكامل لأهمية دور المرأة في التنمية، وفقاً للمفهوم الشامل الذي يتخطى المواضيع الكمية والأعمال القياسية، فقد تتضح الصورة بشكل أكبر:
فإن ما تقوم به المرأة كزوجة أو كَرَبَّة منزل أو كأم طوعاً، له من غير شك قيمة اقتصادية فعلية، وليس هو من تحصيل الحاصل. والدليل على ذلك أن ما تقوم به المرأة في الأرياف، ومناطق البداوة الزراعية حتى الآن، هو في أساس اقتصاد هذه المناطق.
أما في المدن والمناطق الحضرية، فيتخذ شكلاً أكثر تأكيداً على قيمة عمل المرأة المنزلي اقتصادياً، بسبب استعانة العديد من الأسر بالخدم المأجورين، أو ببعض مؤسسات الخدمات الاجتماعية المساعدة، (مطاعم، وجبات جاهزة، محال تنظيف وكي،... إلخ)، لتقديم بعض الخدمات مقابل أموال تدفع لهم. وهو دليل على أن ما تؤديه المرأة له أضعاف قيمة أي جزئية يستعان بالغير لتقديمها، وبالتالي فعمل المرأة المنزلي يحقق نتائج ذات عائدية أساسية على الاقتصاد(21)، وعليه فقد اعتمدت منظمة العمل الدولية في مؤتمر بِكِّين الشعار التالي: “كل امرأة هي امرأة عاملة”.
وهو ما ينقلنا إلى المرأة ذاتها، التي لم تبحث في مسألتها الأساسية، ضمن رؤية لنفسها على أنها مورد إنساني وطني، تتوزع طاقاته وقدراته في مختلف المجالات والفروع، بل استغرقت في نضالها المطلبي، وانساقت وراء جزئيات متفرقة: تحررها من اضطهاد الرجل، أو المساواة به في جميع الميادين، أو تعديل التشريعات والنصوص، أو الخروج من مملكة المنزل إلى مملكة العمل بصرف النظر عن نوعه ومردوده، أو التحول إلى ربة منزل عصرية بالمفهومين التقليدي والاستهلاكي معاً، أو... إلخ.
أي أنها -وعلى رغم أهمية ما سعت إلى توجيهه وضرورته وفقاً لرؤية حيادية منطقية تتوافق مع المنطق والعقل، ولا تتنافى مع الأديان والشرائع- أغفلت إلى حد ما التركيز على القضية الأصل، أو المرتكز الأساس في كل هذا وهي:
“توفير القاعدة الاقتصادية المستقلة، القائمة على نشاطات إنتاجية تعتمد تشغيل كل القوى الاجتماعية القادرة على العمل، والتي تعد المرأة إنساناً ومواطنة عاملةً إنتاجية تسهم في الاقتصاد وفق قيمة مقاسة، سواءً أكانت تعمل داخل المنزل أو خارجه، وذلك وفقاً لما تحققه من نتائج”.
فإذا تم الاتفاق على مشروعية محور المورد الإنساني والعمل الإنساني، على أنه بديل لرأس المال، والقروض الخارجية، والتقانة المستوردة والعمالة الوافدة في حالة الاقتصاد، دون اليسر بدلاً من قول العسر، وإذا ما تم التسليم تالياً بأن المورد الإنساني هو عطاء يشمل المرأة والرجل في آن واحد، وليس من منطلق مجرد أو اقتراب أو مساواة لوضع الرجل، بل على قاعدة وضع قضية المرأة في قلب عملية التنمية ومعاناتها، وممارساتها. يصبح واجباً التوقف عند مؤشرات رئيسة، تطال الممارسة قبل تحقيق الوعي، وتتكلم عن الموقع الراهن والمرتقب للمرأة في الصيرورة التنموية(22).
هذه المؤشرات تشكل في مجموعها إذا ما أحسن استغلالها بنية تحتية، وحافزاً إيجابياً يدفع المرأة المسلمة إلى احتلال موقعها المنشود. وممارسة دورها في صنع حياتها وحياة بلادها، من خلال ما يسمى في الأدبيات الدولية “تمكين المرأة”، أي تسليحها بمقومات وعوامل تحقيق فاعليتها في العملية الاقتصادية التنموية، وشغل دورها الأساسي في المجتمع وفق مقولة النصف الثاني.
وعليه فقد نستطيع القول: إن مشكلة رئيسة لها انعكاساتها السلبية على تمكين المرأة من الأداء الفعّال في النشاطات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، تقف حائلاً دون المساهمة الفعلية في مسيرة التنمية.
فقصور تعليم المرأة، تتجلى أول آثاره الممتدة عبر حلقات متسلسلة على الجيل الثاني، وربما على الجيل الذي يليه، من حيث التمكين للدخول بكفاءة في ميدان الأعمال الإنتاجية غير المباشرة في المنزل، عند:
- قيامها بتنشئة أطفالها، وترسيخ مكارم الأخلاق والقيم في نفوسهم، وتنمية الشعور بالمسؤولية داخلهم.
- السهر على راحة أفراد أسرتها، بشكل يزيد من نشاطهم الاقتصادي وإنتاجيتهم.
- إدارتها لشؤون المنزل من حيث نمط الاستهلاك العائلي (ترشيد الاستهلاك)، نمط الإنفاق في ميزانية الأسرة.
وتتجلى أهم آثاره في النشاط الاقتصادي المباشر من خلال:
- التعداد الكمي للمتعلمات داخل سوق العمل، وازدياد فرص وصولهن إلى الأعمال المناسبة.
- شرائح الأعمال الإنتاجية والخدمية المباشرة وغير المباشرة التي تنتسب إليها المتعلمات.
- مستوى وعي المرأة بحقوقها، وكيفية الحصول على هذه الحقوق.
- فرص مشاركتها في الحياة السياسية ومراكز صنع القرار واتخاذه.
هذا عدا عن الافتراض بأن تعليم المرأة، وعملها الذي قد ينتج عنه، سيؤدي إلى تحملها أعباء ومسؤوليات تفوق قدرتها وإمكانياتها، وتخرج عن إطار واجباتها، وهو ما قد ينعكس على سيادة قيم الاتكال والتراخي في نفوس الرجال، وزيادة الضغط النفسي والتوتر في حياة المرأة.
إضافة إلى الاعتقاد، بأن التعليم يُفقِد المرأة فرصة الزواج المبكر، أو لا يُتيح لها الحصول على الزوج الذي يتحمل مسؤولية تكريمها واحترامها، بمنع تعرضها لمساوئ العمل خارج المنزل.
إضافة إلى ضعف الارتباط بين مستويات التعليم وفرص العمل والمردود الاقتصادي، حيث إن العمل لدى القطاع العام، وأجهزة الإدارة العامة، والذي يستوعب غالبية العمل النسائي، قد انطلق من حق إتاحة العمل للجميع، في وظائف وأعمال لا تشترط مستويات تعليمية معينة، ولا تختلف معدلات أجورها بنسب كبيرة عن غيرها من المستويات عالية التعليم، وقد أدى هذا مع غيره من العوامل، إلى ترسيخ القناعة بانتفاء الحاجة إلى متابعة تعليم الأنثى.
وما يتبع ذلك من تفسير خاطئ للنص الديني في القوامة والأهلية، ومن كيانات وبنى تقليدية في أجزاء الريف، تتمتع بقوة تتجاوز حرمة النصوص الدينية، وفعالية النصوص الوضعية، ومن افتقار المناهج التعليمية لتصوير المرأة كمورد بشري ذي طاقة إنتاجية تسهم في النمو الاقتصادي، ومن انخفاض مستويات الدخول، والاضطرار لاستبعاد المرأة من التعليم توفيراً لنفقاته، أو إدخالها في سوق العمل مبكراً للمساهمة في دخل الأسرة...
* توصيات ومقترحات البحث
1- تفعيل قدرات المرأة المسلمة الذاتية ودعم مهاراتها
وتتمثل أهم الوسائل والأدوات في التعليم والتدريب، من حيث التوجه نحو الكم والنوع في آن واحد، ومراعاة العوامل المسببة للفجوات الحاصلة فيها، من حيث: الموروث الاجتماعي، تكلفة فرصة التعليم ونفقاته، التوازن ما بين التعليم والعمل، مضمون مناهج التعليم ومعلوماته. وذلك من خلال:
ـ وضع وتنفيذ خطة ثقافية تنموية، هدفها توضيح الفهم الديني الصحيح لدور المرأة المسلمة، وأهمية تعليمها ومشاركتها، وشرح وإثبات نتائج تعليمها وعملها على الأسرة والمجتمع. وذلك بالاستعانة بمختلف الأطراف الاجتماعية من رجال دين، زعماء أحياء، مراكز استقطاب، رؤساء منظمات، قادة غير رسميين، رجال أحزاب، الإعلام.. إلخ.
- توفير المجانية الفعلية للتعليم العام والفني، من حيث (مستلزمات الدراسة، قرطاسية، ملابس، مواصلات، دروس تقوية، هبات مالية لمتابعة الدراسة..)، وذلك بعد تعديل مناهجه وتطويرها، لتخرج عن الإطار التقليدي لتوزيع أدوار المرأة، وتكرس أهمية العلم والمعرفة، وتتحول إلى مدخلات تنتج مخرجات يمتصها سوق العمل ويسعى إليها. ورفد كل ذلك باشتراط خصائص تعليمية ومهارات فنية معينة أثناء التوظيف في القطاعات المختلفة، أو أثناء الترخيص بإقامة مشاريع خاصة.
2- مساعدة المرأة في تحقيق التوازن بين دوريها الأسري والإنتاجي
من خلال توفير مجموعة الخدمات الاجتماعية: رياض الأطفال، مطاعم الوجبات السريعة، مؤسسات الخدمات المنزلية.. إلخ، وقد أثبتت الدراسات أنه في المناطق الفقيرة، أسهم توفير تسهيلات عامة من قبل الدولة، في زيادة فرص المرأة في العمل لكل الوقت ونصف الوقت.
3- مواجهة آثار الإصلاح وإعادة الهيكلة على المرأة
بمراعاة تفاوت حيازة كل من الرجل والمرأة للموارد الاقتصادية، وتفاوت الأنشطة التي يعمل بها كل من الجنسين، والعمل على استهداف المرأة من خلال مشروعات تعمل على زيادة دخلها، نظراً لأن ناتج هذا الدخل يتم توجيهه بشكل كبير لخدمة الأسرة ورفع مستواها.
4- الإلزام والقسر على تعيين المرأة وترقيتها في بعض مواقع اتخاذ القرار وصنعه
لذا ينبغي العمل على تخليص المرأة من قيود العادات والتقاليد والموروثات الشعبية المتخلفة، المضروبة حولها والمعيقة لمشاركتها في تنمية مهاراتها وقدراتها، ومن ثم تنمية المجتمع ككل، ولعل جهود تنمية المرأة ينبغي أن تبدأ بالتعليم، ثم تمتد لتشمل التدريب الفني والتأهيل والتثقيف، الذي يتواكب ومستجدات العصر من علوم وتكنولوجيا ومعلومات.
وقد أشارت العديد من الدراسات، إلى أن ضعف القاعدة البشرية يتمثل بشكل أساسي في انتشار الأمية، وبخاصة بين الإناث، وضعف التعليم الجامعي، ونقص التدريب الفني، وتواضع مستوى التنمية البشرية، وبخاصة في البلدان العربية غير النفطية وقد يؤدي ذلك إلى تدني دافعية الجماهير العربية وخصائصها الفنية، وقدرتها على المشاركة بفاعلية في جهود التنمية، فينبغي لذلك الالتفات إلى هذه الناحية المهمة أولاً كخطوة أساسية للإقدام على أي برنامج يهدف إلى تحقيق التنمية البشرية العربية.
الهوامش:
* قدم هذا البحث لأعمال “مؤتمر مشكلة الفقر في العالم الإسلامي، الأسباب والحلول”، نظمه المعهد العالمي لوحدة المسلمين، الجامعة الإسلامية العالمية بكوالالامبور ماليزيا، بتاريخ 2-3 ذي القعدة 1425هـ، الموافق لـ 14-15 ديسمبر 2004م.
** أستاذة العقائد والأديان المقارنة بجامعة ابن طفيل - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - القنيطرة - المملكة المغربية.
(1) رواه أبو داوود.
(2) رواه أبو تميم في الحلية عن أنس وسنده ضعيف.
(3) سورة النور 33.
(4) سورة الأنعام 151.
(5) العرب وتحديات الهيمنة والعولمة، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية الرباط الكتاب الثقافي السنوي 2/ 1997م.
(6) الحوار المتمدن - العدد: 767 - 8/3/
(7) عمر محمد التومي الشيباني- ديموقراطية التعليم في الوطن العربي 1986م ص 55.
(8) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت ط 1/1996م.
(9) مصطفى محسن، قضية المرأة وتحديات التعليم والتنمية البشرية سلسلة المعارف للجميع، ص 76.
(10) الإحصاء الاقتصادي، قاسم حسن.
(11) المرأة والمجتمع، د. سلوى الخماش.
(12) مسؤولية المرأة، حسن الصفّار.
(13) واقع المرأة وواقع المجتمع، مجلة الوحدة، المركز القومي للثقافة العربية س /1 ع/ 9 ص 3.
(14) محمد عودة، لجنة أوضاع المرأة 1995م، ص 10-11.
(15) لجنة أوضاع المرأة 1993م، ص10 .
(16) اللجنة الاقتصادية والاجتماعية 2000م، ص22.
(17) محمد عبد الحق، الإعلام والعمل التطوعي،2001م، ص1.
(18) محمد عودة، ص34.
(19) عبد الرحمن أحمد عثمان، العمل التطوعي، ص 94.
(20) د. الضرير: موسى، زكريا: خضر، السكان والتنمية، جامعة دمشق، صندوق الأمم المتحدة - 1997م، دمشق، ص 99 - 110.
(21) بركات: محمد، العمل التطوعي والخدمات الاقتصادية غير المدفوعة الأجر التي تؤديها المرأة لصالح الأسرة والمجتمع، منتدى المرأة العربية والاقتصادية، الكويت، نيسان 2002م.
(22) البزري: دلال، المرأة في العمل الأهلي العربي، مجلة المستقبل، مركز دراسات الوحدة العربية - لبنان، العدد 135 - 1990م، ص 67.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.