تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الكلمة الأولى

قسم التحرير

هذا العدد

وراء النشاط الإنساني كله تقف إيديولوجيا تدفعه حيناً، وتبرره أو تفسره حيناً آخر. حيث غدت الإيديولوجيا -من وجهة نظر دارسيها- منظومة شاملة لتفسير وفهم العالم، وذات وظيفة تتعلق بالعمل الفردي والجماعي، مما جعلها محل عناية كثير من المشتغلين بالدراسات الفِكرية والاجتماعية والنفسية منذ زمن ولا تزال.

والكلمة تفتح ملفاً يتناول الإيديولوجيا تحت عنوان: “الإيديولوجيا.. الإشكال المعرفي والوظيفة الاجتماعية” ترصد فيه أهم وآخر الأبحاث والدراسات الغربية في هذا الموضوع. حيث كتب الزميل الأستاذ إدريس هاني دراسة قدَّم بها للملف بعنوان: “ماذا بعد الإيديولوجيا؟” وناقش فيها مشروعية هذا السؤال، مدخلاً للحديث عن إيديولوجيات عدة، لها أنشطة عالمية وفي الوطن العربي والإسلامي: الاقتصادي منها والإعلامي والديني.

وكتب الدكتور محمد مزوز عن “الوظيفة الرمزية للإيديولوجيا” بوصفها رغبة في الخلاص وتجاوز التاريخ بل الحاضر أيضاً لخلق واقع جديد مأمول.

ومن الدراسات النفسية تضمن الملف دراستين مترجمتين، الأولى بقلم (ب. أنصرت) تحت عنوان: “المقاربة التحليلية النفسية للإيديولوجيات”، والأخرى بعنوان: “الإيديولوجيا والبنية النفسية” بقلم كويمبرا دوتوماس. وتقاربهما دراسة عن الوظيفة الاجتماعية للإيديولوجيا تحت عنوان: “الإيديولوجيا واللاشعور” بقلم لويس ألتوسير، يفصِّل فيها أثر الإيديولوجيا في تكوين الطبقات الاجتماعية وإدارة العلاقة بينها.

ولتتبع أبعاد مفهوم “الإيديولوجيا” نقرأ تحت هذا العنوان لـ(جوزيف غابل) مقالاً يستقصي فيه هذا المفهوم عند أهم دارسيه في الغرب. ويكمل هذا الناحية مقال بعنوان “معايير الظاهرة الإيديولوجية” بقلم بول ريكور، يبحث فيه سمات هذا المفهوم وأثر هذه السمات على الجماعة التي تتبنى إيديولوجيا ما. وفي الملف رصد لـ”مصادر وآثار مفهوم الإيديولوجيا عند ريكور” وتتبع لأبرز أعماله التي تتصل بنقد الإيديولوجيا. وخُتم الملف بحوار مع فرنسيس فوكوياما صاحب “نهاية التاريخ” أجراه الزميل إدريس هاني.

ونقرأ في العدد إلى جانب الملف الكلمة الأولى لمدير التحرير الأستاذ محمد محفوظ بعنوان: “في معنى الحرية”، ومقالاً لرئيس التحرير الأستاذ زكي الميلاد بعنوان: “الثقافة والمجتمع.. نظريات وأبعاد”. وتكتب د. مريم آيت أحمد علي في رأي ونقاش عن “المرأة ودورها في التنمية الشاملة للمجتمعات الإسلامية”. ويقرأ الزميل الأستاذ حسن آل حمادة “السلم والسلام” يلخص محتواه ويعرض لرؤية مؤلفه السيد محمد الشيرازي في السلم التي طالما عُرف بها. إلى جانب بقية أبواب المجلة.

والله الموفق.


في معنى الحرية

محمد محفوظ

* مفتتح

تعتبر النزعة إلى الحرية والانعتاق من القيود والأغلال لدى الإنسان، من النزعات الأصيلة والعميقة في وجوده الطويل، وتعتبر حياة الإنسان السوي كلها، بحثاً مستمراً عن معنى الحرية المتأصل في وجوده وكيانه، والمتجذر في مختلف مستويات تجربته الإنسانية.

وكل المعطيات الوجدانية والدينية والحضارية، تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم، بأن الحرية حاجة إنسانية، وهي من ضرورات حياة الإنسان ووجوده، ولا تتحقق إنسانيته بالكامل إلا بها.. لذلك نرى أن الثقافة الإنسانية السوية، هي في جوهرها صوت الوعي بالحرية، ووسيلة اكتشاف المفارقات العميقة في أي كيان اجتماعي، من جراء غياب أو تغييب الحرية في مستوياتها المتعددة.

والحريات الإنسانية لا توهب، وإنما ينجزها الإنسان دائماً بإرادته وكفاحه المستميت، وسعيه الحثيث في سبيل حريته وكرامته، ويخطئ من يعتقد أن الحريات توهب، وذلك لأن الحريات بحاجة إلى وعي وبناء للذات وفق قيمها ومبادئها.

* جذر الحرية

وجذر الحرية، هو أن يتحرر الإنسان من كل الضغوطات والأهواء والشهوات التي تدفعه إلى الخضوع والانسياق وراءها.. فحينما يغمر الإيمان بالله عز وجل قلب الإنسان، ويتواصل بحب واختيار مع القدرة المطلقة، تنمو لديه القدرة على الانعتاق من كل الأشياء التي تناقض حريته، فطريق الحرية الإنسانية، يبدأ بالإيمان والعبودية المطلقة للباري عز وجل، وذلك لأن كل الأشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه، لأن الأشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لاختباء الإنسان عن الله في أي عمل يخفيه، أو سر يكتمه أو خطأ يستره.

من هنا وقفت الآيات القرآنية ضد الإكراه والسيطرة، ودعت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التحرك في أجواء الإبلاغ والإقناع، وحركة حرية الفكر والتعبير.. إذ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(1)، وقال عز من قائل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2)، وقال تبارك وتعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(3). فرشد الإنسان فرداً ومجتمعاً، هو من جرّاء التزامه بحريته واحترامه التام لحريات الآخرين.

فالحرية بكل ما تحمل من معانٍ إنسانية نبيلة، وقيم تعلي من شأن الإنسان وكرامته، وتحميه من كل نزعات الاستفراد والإقصاء والنبذ والإكراه، هي بوابة الرشد ووسيلته في آن، وهي التي تخرج الإنسان من الغي، وتخلق حقائق الاستمساك بالعروة الوثقى.

قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(4).

فالحرية وفق التصور الإسلامي، هي ثمرة عبودية وحيدة، يرتبط بموجبها الإنسان بالله المصدر الأول للكون والحياة. ولمّا كان الإنسان موضوعاً خصباً لأشكال لا تنتهي من العبوديات المختلفة، تعرض ومازال يتعرض لها منذ أقدم العصور البشرية حتى عصرنا، وسوف يستمر هذا التعرض ما دامت الحياة قائمة، ولمّا كانت مقاومة الإنسان لكل شكل من أشكال العبودية، في دوائرها الكونية الطبيعية أو الاجتماعية سوف تفضي إلى عبودية جديدة، فقد ربط الإسلام سعي الإنسان لامتلاك الحرية بعقيدة التوحيد، وبالدعوة إلى عبادة الله عز وجل. من هنا تصبح عبادة الله هي الوجه الآخر لحرية الإنسان، بل هي الحرية نفسها، ولا شيء سواها، لأنها تحرر الإنسان من كل عبودية نسبية، ولا تضع في طريق حرية الإنسان حدوداً، بل تجعل من المطلق (الله تعالى) هدفاً لحرية الإنسان.

فالحرية التي تصون كرامة الإنسان وحقوقه، هي تلك الحرية النابعة من تحرر الإنسان، من كل الشهوات والأهواء التي تحاول أن تدفعه إلى الحضيض. فبمقدار تمكن الإنسان من التحرر من أهوائه ونزعاته الشيطانية، يتمكن بالمقدار ذاته من الاستفادة من بركات الحرية في واقعه الاجتماعي والسياسي.

فالحرية دائماً بحاجة إلى إنسان حر، والإنسان الحر هو الذي يتحرر من رذائل الدنيا، والشهوات التي تركسه في الأرض. فالحرية لا يمكن أن تتجسد في الواقع الخارجي دون الإنسان الحر. وذلك لأن الإنسان بإرادته وصبره وعمله وكفاحه، هو الذي ينجز مفهوم الحرية في الواقع السياسي والاجتماعي. لذلك لا يكفي من أجل إنجاز الحرية في المجالين العربي والإسلامي، أن يرفع الإنسان شعار الحرية، وإنما من الضروري أن يجسد قيمها، ويتوفر لديه الاستعداد التام لدفع ثمنها، كفاحاً وصبراً وعملاً. فالصبر على الألم الذي يسلطه أعداء الحرية، هو الذي يقرب الواقع من تمثلها وتجسيدها، وذلك لأن “حريتك لن تأتيك من الخارج، وإن الحرية لا تصدر بمرسوم، فأنت حر حتى لو كنت في زنزانة لا تتسع إلا لجسدك، ما دمت تعيش حريتك في إرادتك، وفي أن ترفض ما يفرض عليك، بحيث تستطيع أن تقول (لا) عندما يريد الآخرون أن يستعبدوك لتقول (نعم)، أو عندما يريد الآخرون أن يستعبدوك لتقول (لا)، فلتكن (لاؤك) منطلقة من إرادتك ومن حريتك في الإيجاب، و(نعمك) متحركة في خط قدرتك على السبب..

إنك قد تكون عبداً حتى لو كنت تملك حرية الحركة في الساحات كلها، وذلك عندما لا تملك إرادتك، وقد تكون حراً وأنت لا تستطيع أن تحرك رجليك في الزنزانة، لأنك تملك إرادتك، فأن تكون حراً يعني أن تكون إرادتك حرة، وأن تكون الإنسان الذي يصبر على الأذى، ويصبر على الحرمان في سبيل القضايا الكبرى”(5)..

ويشير إلى هذه الحقيقة، حديث الإمام الصادق (عليه السلام): “إِنَّ الْحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ وَ إِنْ أُسِرَ وَ قُهِرَ وَاسْتُبْدِلَ بِالْيُسْرِ عُسْراً، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ الْأَمِينُ (عليه السلام)، لَمْ يَضُرَّ حُرِّيَّتَهُ أَنِ اسْتُعْبِدَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وَلَمْ تَضُرَّهُ ظُلْمَةُ الْجُبِّ وَوَحْشَتُهُ، وَمَا نَالَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الْجَبَّارَ الْعَاتِيَ لَهُ عَبْداً، بَعْدَ إِذْ كَانَ لَهُ مَالِكاً، فَأَرْسَلَهُ وَرَحِمَ بِهِ أُمَّةً، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً، فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا”(6).

من هنا فإن قيم الدين في هذا الإطار، توفر الشروط النفسية والسلوكية للانخراط في مشروع تجسيد الحرية، وإنجازها في الواقع المجتمعي والإنساني. فالرؤية الدينية تتجه صوب الإنسان، لتوفر له المناخ النفسي والوجداني والعقلي المؤاتي للمطالبة بالحرية، وتذليل كل العقبات الذاتية والموضوعية التي تحول دونها. فالحرية تبدأ من الإنسان نفسه. فحينما يكون قلب المرء طاهراً وبعيداً عن كل الأهواء والشهوات، فإنه يتمكن من التحرر والانعتاق من كل ضغوطات السياسة والمال والقوة. فمربط الفرس في مشروع الحرية في المنظور الإسلامي، هو أن تتحرر نفس الإنسان، وألَّا يكون خاضعاً لشهوة أو عبداً لنزوة، وإنما أن تكون علاقته شديدة بالله عز وجل. فالإنسان نفسه هو الذي يقرر أن يكون حراً أو عبداً، موالياً لأولياء الله أو معادياً لهم. ولعل في الحديث الشريف التالي إشارة إلى هذا المعنى. إذ جاء فيه: “إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيْراً فَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ، فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ، وَ يُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَفِيكَ خَيْرٌ وَاللهُ يُحِبُّكَ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طَاعَةِ اللهِ، وَيُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَلَيْسَ فِيكَ خَيْرٌ وَاللهُ يُبْغِضُكَ، وَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ”(7)..

فالمعادلة بكل مستوياتها، تبدأ من الإنسان نفسه. فهو الذي يقرر شكل حياته ونمط اختياراته والتزاماته الخاصة والعامة.

فبوابة الكثير من ظواهر الاستعباد وحقائق الخنوع، هي الحاجات. حيث إن الإنسان الذي يخضع لحاجاته النفسية أو المادية، فإن مالكها سيتمكن من السيطرة عليه.. لذلك فإن الحرية في بذورها الأولى، هي ألَّا تكون حاجاتك قاهرة لك. بمعنى أن المطلوب أن يعمل الإنسان على سد حاجاته بالطرق المشروعة، ولكن إذا تعذر تلبية هذه الحاجات لسبب أو لآخر، فإن المطلوب ليس الخضوع والخنوع لهذه الحاجات وأهلها، وإنما الصبر على الشهوة والحاجة. لذلك نجد أن صبر النبي يوسف (عليه السلام) على محنه حيث {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}(8).. لم يقهر إرادته وحريته، وانتهى هذا الصبر والالتزام بمقتضى الحرية بأن “صير الله الجبار العاتي عبداً له”..

وهذا ما يعلمنا إياه الإمام الحسين (عليه السلام) إذ يقول: “لَا وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ وَلَا أُقِرُّ لَكُمْ إِقْرَارَ الْعَبِيد”(9). فالحرية موقف وممانعة، تعالٍ على الحاجات وإرادة صلبة. لذلك كله فإن ملحمة الحرية في التجربة الإنسانية، انطلقت من أولئك النفر الذين رفضوا الخضوع للظلم، وأصبحوا أحراراً أمام أهوائهم وشهواتهم ونوازعهم الغريزية..

فالحرية في المنظور الإسلامي، لا تعني بأي حال من الأحوال، تحرير الغرائز والشهوات من ضوابط الشرع والعقل الإنساني، وإنما هي تحرير الإنسان من كل الكوابح والمعوقات، التي تحول دون تأدية أدواره أو القيام بوظائفه الخاصة والعامة، ويتحرر من ضغوطات غرائزه وشهواته، ليس عن طريق تفلتها من كل القيم والضوابط العليا، وإنما عن طريق إشباعها بالطرق التي حللها الله سبحانه وتعالى، واعتبرها هي الأطر المشروعة لممارسة تلك الحاجات والغرائز.

لذلك نجد أن الإمام علي (عليه السلام) يقول: إن “الطمع رِقٌّ مؤبّدٌ”(10). فحينما يتحرر الإنسان من الدنيا، ويتخذ منها الموقف الصحيح، يستطيع أن ينجز حريته ويحافظ على كرامته، وكلما ازداد الإنسان خضوعاً لله، تحرر من كل الأغلال والموانع.

من هنا فإن الحرية المعنوية (التحرر من الأهواء والشهوات)، هي بوابة الحرية في السياسة والمجتمع (الحرية المادية).

* الرؤية الفقهية للحرية

إن التقوى هي حجر الأساس في مسألة الحرية.. وبإمكاننا أن نحدد رؤية الإسلام لمسألة الحرية بمستوياتها المتعددة، من خلال العناصر التالية:

1- الأدلة العليا للشريعة الإسلامية، حيث أكدت هذه الأدلة على رفض الظلم بكل أشكاله ومستوياته، وحثت على العدل والإحسان، واعتبرتهما من الأمور المباشرة التي أمر الباري عز وجل بإنجازها وتجسيدها في الواقع الخاص والعام. إذ قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ..}(11).

ولم ترفض الأدلة الشرعية استخدام الظلم فقط، أو تجاوز حدود العدل والقسط فحسب، وإنما نفت الإكراه أيضاً، وحصرت مهمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدعوة والبلاغ. قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(12).. وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ}(13)..

وحث القرآن الحكيم المؤمنين على القول الحسن دون تجاوز على حقوق الغير. قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ}(14). وفي تفسير قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} قال الإمام الصادق (عليه السلام): “قولوا للناس كلهم حسناً، مؤمنهم ومخالفهم. أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه وبِشره، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم. فإن ييأس من ذلك، يكف شرورهم عن نفسه وإخوانه المؤمنين”(15)..

فالظلم بمتوالياته النفسية والمجتمعية، هو السبب الأول لدمار المدنيات والحضارات. قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}(16).. لذلك لا يمكن أن تنمو مدنية أو تتطور أمة، وهي تعيش الظلم. لأن الظلم يمنع الإنسان من ممارسة دوره، وتأدية وظيفته، ويحول دون انطلاق الإنسان في عملية التنمية والبناء. فحيثما حل الظلم، حل الفشل والتدمير ولو بعد حين.

لذلك فإن التقدم الحضاري يتطلب باستمرار تنقية الواقع من كل أشكال الظلم والعدوان والاستبداد. يقول الإمام الخميني في صدد نفي الظلم وأصل الحرية والبراءة: “لقد تم الاستدلال على البراءة بأدلة مصادر التشريع الأربعة (القرآن والسنة والإجماع والعقل)، أما من القرآن الكريم فإن الله تعالى يقول في الآية (15) من سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، فهذه الآية الكريمة هي في صدد تنزيه الخالق سبحانه عن الظلم، وهي تبين أن إنزال العقاب بأحد، قبل إلقاء الحجة عليه عن طريق بيان الحكم الشرعي له، ينافي مقام الربوبية، وبتوضيح أكثر تبين هذه الآية الكريمة، أن إنزال العذاب بالعباد لمخالفتهم حكماً إلهياً قبل تبيين هذا الحكم لهم، يكون إما منافياً لعدل الله وقسطه، وإما منافياً لرحمته وإحسانه ولطفه بعباده. وأما الدليل العقلي على أصل البراءة، فليس هناك أدنى شك بأن العقل يحكم بقباحة إنزال العذاب بالعباد قبل تبيين الحكم لهم، أي قبل إلقاء الحجة عليهم”(17).

2- القواعد الفقهية المستنبطة من تلك الأدلة العليا، كقاعدة نفي العسر والحرج ونفي الضرر.

وذلك لأن الحرية الإنسانية لا تنجز على الصعيد العملي، إلا على قاعدة توفير المصالح، التي يسعد بها الإنسان ويحيا حياة كريمة، ودفع الأضرار التي تجلب إليه الشقاء، والبعد عن الجادة والحياة الكريمة.

لذلك يقف الإسلام ضد كل الأضرار النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية التي تؤثر سلباً في حياة الإنسان الخاصة والعامة.. ولا يكتفي الإسلام بتأسيس هذا البعد من مفهوم الحرية الإنسانية، وإنما يسند هذا التأسيس بتأسيس آخر، هو استدعاء وجلب كل المصالح التي تضمن الحرية الكريمة للإنسان، التي قوامها القدرة والحرية والمسؤولية.

ويقرر الفقه الإسلامي، في الكثير من المفردات والأمثلة، على نفي سيطرة الغير على الذات، إذ للإنسان الفرد بوصفه عاقلاً، بالغاً، راشداً، الحق في التصرف في كل ما يملك بالطريقة التي يشاء، وفق ضوابط شرعية عقلية، هي في المحصلة الأخيرة تخدم حقوق الإنسان نفسه، وتوفر أسباب استمرار هذه السلطة الذاتية.

لذلك فقد اعتنى الدين الإسلامي أيما اعتناء بهذه المسألة، وأسس الفقه الإسلامي -استناداً إلى النصوص الإسلامية- العديد من القواعد الفقهية والقانونية، التي تحول دون الشقاء، وتجلب للإنسان الفرد والجماعة كل أسباب المصلحة والسعادة. فقد جاء في الحديث الشريف: “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام”(18).. فالحرية في المنظور الإنساني، لا تتعدى هذا الفهم وهذه القواعد، التي أرساها النص والفقه الإسلاميان. إذ يقف الإسلام والفقه الإسلامي، ضد كل الأضرار (النفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسلوكية)، التي تؤثر سلباً في حياة الإنسان الخاصة والعامة. وإن درء الشرور التي يقرها الفقه الإسلامي، هي من صميم عملية الحفاظ على الحرية الإنسانية ومقتضياتها الموضوعية.. و “إن الفقيه المسلم مسؤول في أن تكون له (حيلة) واسعة، حتى لا يقع في حبائل الحيل الشرعية، وحتى يحافظ على الشريعة الإسلامية بوصفها قوة تحرير للإنسان، لا تعيقه ولا تعرقل مسيرته في السعي إلى تحقيق ذاته، بما يتناسب مع المهام العظيمة التي أسندها الله له على هذه الأرض، أي مهام الاستخلاف {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ}(19)..

إن الفقيه المسلم ليس فقيهاً وحسب، إنه صاحب رسالة هدفها تحرير الإنسان والاجتماع الإنساني، وهذا العنصر (أي العنصر الرسالي) في شخصية الفقيه، ليس مفصولاً عن اختصاصه الفقهي، إنه عصب هذا الاختصاص، فهو -إذن- مسؤول عن مهمات كثيرة، ومنها أن يساهم في إنجاز أطروحة فقهية، تتسع لا لتحرير الإنسان من أغلال الشرائع السابقة فحسب، بل من أغلال الشرائع الراهنة الوضعية البشرية، التي ما زالت تتحكم في إنتاجها موازين القوة داخل الاجتماع الإنساني، بما يجعل المجتمع الإنساني مفتقراً إلى روح العدل والمساواة، وسائر الحقوق التي لم تنجز منها عصورنا الحديثة إلا القليل. إن فقهاً إسلامياً يخاطب الاجتماع الإنساني من هذه الزاوية، هو من أفضل وجوه تجديد المشروع الإسلامي، سواء داخل المجتمع الإسلامي أو في البعد العالمي لهذا المشروع”(20)..

فالمهمة الكبرى الملقاة على الفقهاء والمفكرين الإسلاميين، هي صياغة تصوراتهم ونظرياتهم ومشروعاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، على قاعدة أن مهمتهم الأساسية هي المشاركة في تحرير الإنسان الفرد والجماعة، من كل الأغلال والعقبات التي تحول دون عبادة الله سبحانه وتعالى، وتسعى نحو أن تكون تصرفات الإنسان متطابقة ومنسجمة وقيم الإسلام ومثله العليا. وإن الفكر الإسلامي المعاصر، مطالب في أبحاثه وتصوراته وأطروحاته، بالتمييز بين الآراء والنظريات السياسية التي لا تنسجم وروح الشريعة ومقاصدها العليا، والنظريات التي تتمثل هذه القيم وتجسدها في مسيرتها ومحطاتها المتعددة.

إن الرؤية السياسية التي تبرر الظلم، وسياسات الإقصاء والنفي وتغييب الحريات العامة، لا تنسجم ومقاصد الشريعة. وإن وجود هذه الرؤية في الموروث السياسي الإسلامي، لا يعني بأي حال من الأحوال، أنها مصنوعة على قاعدة مقاصد الشريعة، بل هي وليدة ملابسات تاريخية وسياسية، أقل ما يقال عنها أنها لا تنسجم وقيم الإسلام الكبرى. إننا مطالبون أن نحرر تصوراتنا السياسية من تلك الملابسات التاريخية والوقائع المجتمعية، التي صاغت تصوراتنا وفق حاجات السلطة وأهوائها ومصالحها، ومارست القطيعة مع الإسلام وقيمه في الحرية والسياسة. فكل رؤية تتجه إلى تغييب الحريات العامة للناس، وتحول دون مشاركتهم في تقرير مصيرهم ومستقبلهم، هي رؤية تساهم في تغييب جوهر الإسلام وتصوراته الحضارية، التي تكرم الإنسان وتمنحه الحرية التامة في التعبير عن آرائه وقناعاته، بعيداً عن ضغوطات الواقع ومصالح السلطة. “وإن طاعة أولي الأمر -وفق الشريعة الإسلامية- لا يمكن فهمها إلا في كونها دعوة إلى طاعة القوانين التي يتولى أولوا الأمر السهر على تطبيقها، بعد أن تكون الأمة قد أقرتها، وأقامت عقداً بينها وبين مجموعة من أفرادها، يقضي بقيام هذه المجموعة بمهمة السلطة، أي بمهمة تطبيق هذه القوانين كما أقرتها الأمة. وهنا تغدو الطاعة مرادفاً للالتزام بما اختارته الأمة نفسها، فطاعة أولي الأمر -بهذا المعنى- تعادل وجوب التزام الأمة باختيارها، لا أكثر ولا أقل، لذلك يغدو كل تجاوز لحدود السلطة مصدراً طبيعياً لسقوط واجب الطاعة عن الأمة، فضلاً عن نشوء واجب آخر يلزم الأمة تجاه تجاوز حد السلطة، هو واجب نقد السلطة، وصولاً إلى عزلها”(21)..

من هنا نجد أن الدين الإسلامي على المستوى التاريخي، حارب كل المظاهر والأعراف التي تغيب حرية الإنسان، أو تهين كرامته، أو تميز بين الإنسان وأخيه على قاعدة طبقية - مادية، وأرسى دعائم نظرية التعارف، وتجاوز كل الحواجز التي تحول دون إنسانية الإنسان. إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(22).. من هنا فإن الفقه الإسلامي اليوم مطالب بتنمية حقل الحريات والحقوق في أبحاثه الفقهية، وذلك من أجل تأصيل هذا الحقل، وربطه بسياق الوعي والمعرفة الدينية، في كل مستوياتها ومجالاتها.

فالإسلام العزيز حارب الوأد، والتمييز الطبقي والعنصري، وكل عمليات وأشكال الظلم، وحث على الحرية وصون الكرامة، واكتساب كل عناصر العيش الكريم. وإبداعنا الثقافي والفكري واستنباطنا الفقهي، من الضروري أن يأخذ هذه الحقائق النظرية والعملية، ويستند عليها في عملية إبداعه واستنباطه وعطائه.

3- حقل الإباحة في الفقه الإسلامي، وهو الفضاء المفتوح للإنسان الفرد والجماعة، لكي يمارس مسؤوليته في التوحيد والتزكية والعمران. وفي هذا الحقل الواسع من التشريع الإسلامي، يعد الإنسان فيه حراً، بمعنى أنه بإمكان الإنسان أن يقوم بالعمل، وبإمكانه ألَّا يقوم به، دون أن تترتب على هذا الموقف أية آثار وتداعيات، لذلك لا يمكن أن نفهم معنى الحرية في الفقه والتشريع الإسلامي، بعيداً عن حقل المباحات الواسع في الشريعة.

وفي هذا الإطار أيضاً نهى الإسلام عن التشدد في الدين، عبر الإكثار من الأسئلة التي تسبب المزيد من التكاليف، والتي بدورها قد تفضي إلى الكفر بها. قال رب العزة سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}(23)..

وأنكر القرآن على أولئك النفر أن يمتنعوا عن أكل بعض الحيوانات المذبوحة بالطريقة الشرعية. قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}(24)..

وندد القرآن أيضاً بأولئك الذين حرّموا على أنفسهم الطيبات افتراء على الباري عز وجل. إذ يقول تبارك وتعالى: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(25).. فـ”التحريم بحاجة إلى حجة بالغة، وإلى شهادة صادقة، أما بدون ذلك فإنه اتباع للهوى، وتكذيب بآيات الله، وكفر بالآخرة، وشرك مبطن، لأنه تشريع لم يأذن به الله.

ونستوحي من هذه الآية الكريمة (الأنعام/149) أن ما يدعو البعض إلى الزيادة في الدين، ليس المزيد من الإيمان والتقوى، بل حالة التطرف -الاعتداء- التي هي ظاهرة نفسية -وليست هدى عقلياً-، وبالتالي يعتبرها الدين هوى يؤدي إلى الضلالة، وما ابتلي به اليهود من التزمت والغلو في الدين في بعض التفاصيل والمفردات، تورط النصارى فيه بالجملة، وفي كل حقول الدين تقريباً. فنهاهم القرآن عن ذلك. وقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}(26)..

ويبدو أن النهي عن الغلو في الدين، يشمل -بإطلاقه وشمول مفهومه- جعل غير الله -أنى كان- مصدراً ذاتياً للتشريع، مثلاً جعل عيسى بن مريم مصدر الأمر والنهي، لا بصفته رسولاً عن الله سبحانه، بل بصفته الذاتية، حيث إن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فجعلوهم مشرِّعين من دونه، فنهاهم الله عن ذلك بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(27).. وفي معنى هذه الآية، ذكرت نصوص التفسير أنهم لم يسجدوا لهم، ولكنهم اتبعوهم فيما شرعوا من أحكام بخلاف ما أمر الله”(28)..

فالحرية في المنظور الفقهي الإسلامي، هي مسؤولية والتزام، لا يمكن التراجع عن مقتضياتهما ومتطلباتهما. ويتجلى ذلك في وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق، التي هي وسيلة ضمان الحرية، والأمن المتبادل بين جميع الأطراف، كما أن هذا الوفاء الواجب، هو الذي يحافظ على جميع المصالح.. إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}(29).. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}(30)..

واعتبر الذكر الحكيم أن نقض العهود والمواثيق من الخيانة، وتعرض بالذم البالغ لكل من ينقض عهداً أو ميثاقاً. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(31).. والاستثناء الوحيد الذي شرعه الدين الإسلامي، هو بما ينسجم والعدل ومتطلباته وأحكامه. قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}(32)..

وجاء في الحديث الشريف: “قال: قلت له: ما معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسعى بذمتهم أدناهم؟ قال: لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين، فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان، حتى ألقى صاحبكم وأناظره، فأعطاه أدناهم الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به”(33)..

فقوة العرب والمسلمين في حريتهم، لأنها بوابة الوحدة والتلاحم، وهي الوعاء الذي يستوعب جميع الطاقات والقدرات. وهي بحاجة إلى جهد وجهاد، سعي وكفاح، تدرج وتواصل، حتى تتراكم تقاليد وآداب الحرية في الفضاء الاجتماعي والسياسي.

* الحرية والتسامح

إن التعبير الإسلامي الشامل، الذي يحتضن مفردات التسامح وتجلياته الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية، هو تعبير ومبدأ العدل والعدالة.. قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(34).. إذ هو (العدل) يستوعب كل مفردات التشريع الإسلامي، والعدالة هي أم القيم وتجلياتها جميعاً. وفي هذا السياق أيضاً تأتي مفردات (العفو - الإحسان - دفع السيئة بالحسنة - الإعراض عن الجاهلين). إذ يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}(35).. ويقول عز من قائل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}(36).. وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على تجسيد هذه القيم في حياتهم وأحوالهم المختلفة.

إن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة واحدة، وإنما تنجز بالتدرج والتراكم. لذلك ينبغي أن نقوم بدعم وإسناد كل خطوة في هذا الطريق الطويل والشاق.

ومن الضروري ألَّا نستعجل النتائج. قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}(37).. ونحن مأمورون دائماً باتِّباع الأحسن. إذ قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(38)..

فحينما تتطور الظروف، وتتبدل الأحوال، وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا استناداً إلى هدى القرآن الحكيم، ونور العقل، وبصيرة الإيمان، اتِّباع الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا منهجاً واضحاً في طبيعة التعامل مع مستجدات الحياة، وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي. إذ إننا مطالبون بالاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة “فيتبعون أحسنه” و “إن ما نعيه من مقصد الشريعة في إثارة العقل، ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الإرادة ضد من يصادرون العقل. إن مراد الشرع من كل ذلك -حسبما نعيه- هو العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان عنه من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها”(39)..

والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية دون الثقة بالذات والعقل، تحوّل هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين دون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع اجتراح تجربته في الحرية، وبناء واقعه العام على قاعدة الديموقراطية والشراكة بكل مستوياتها.

* الحرية والعدالة

العدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر، الذي يحتوي ويتضمن كل الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات ومتطلبات العدالة. إذ إنه حينما يسود الظلم -وهو نقيض العدالة- في أي واقع اجتماعي، فإنه يزيد من إفساد الحياة العامة، ويحول دون المساواة والحرية، وكل الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة الكبرى لكل الشرور والرذائل، كما أن العدالة هي بوابة كل الحسنات والفضائل. ولذلك جاء في الحديث الشريف أن “العدل رأس الإيمان، وجماع الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان”(40)..

ولو تأملنا قليلاً في مضامين الحرية الإنسانية، لوجدناها حقائق جوهرية في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإن طريق المساواة هو أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنه هو بوابة انتهاك الحقوق، من هنا فإن طريق صيانة الحقوق، هو إحراز العدالة بكل مستوياتها وجوانبها.

وهكذا نجد أن كل تجليات مفهوم الحرية، ترجع في جذورها العميقة والإنسانية إلى قيمة العدالة. فهي طريقنا إلى كل الفضائل. ولا حرية خاصة أو عامة دون عدالة في حقول الحياة المختلفة.

والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين والإجراءات الديموقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف، كما تتعلق بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديموقراطي حقيقي. والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديموقراطياً حتى لو تجلبب بكل شعارات الديموقراطية. فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديموقراطية، وهي جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإن الحرية هي: ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف في أموره وقضاياه، دون أن يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أن حدود هذا الحيز الذي يستطيع الإنسان التصرف في فضائه هو العدالة.

فالحرية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرية والعدالة. فلا عدالة حقيقية دون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية دون عدالة في كل المستويات.

فالحرية لا تعني التفلت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية، كما أن العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك فإننا ينبغي أن ننظر إلى مفهوم الحرية، بعيداً من لغة الحذر والتوجس والتسلسل المنطقي، الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرية بالتشريع للانحراف والرذيلة، وأن نعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى الحرية بمفهوم العدالة. وبالتالي فإن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.

وعلى هذا فإننا لا بد أن “نميز بين الحرية كحق اجتماعي، والحرية كخطوة وجودية. فالحرية كحق، لا تشمل خيار ما هو محرم، ولكنها كحالة وعي وجودي تشمل جميع الاحتمالات، كما سبق وبيّنا. ففي المفهوم الوجودي يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالم بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى إجازة من أحد، بينما طالب الحق مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.

وأخيراً، لا بد أن نتذكر، أن ما هو جائز يظل أمراً خاضعاً لتفاسير مختلفة، باختلاف الأفراد والجماعات.

المفهوم الاجتماعي للحرية يتعلق بخيارات متاحة في حيز مباح، كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف أوجهه، وحرية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي في مجملها حقوق محددة المعالم، ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد بقرار اجتماعي. إن نقد الحكومة والقانون في النظام الديموقراطي حق قائم، ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة”(41)..

فأجواء الحرية وممارستها تحسن من قدرات المواطنين، كما أن العدالة ومتطلباتها، توجه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية. فكلما توسعت مساحة تأثير العدالة في المجتمع، أفضت إلى تكريس قيم الحرية ومفرداتها المتعددة في الأمة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على الحرية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أن ممارسة الحرية تكون في فضاء الالتزام والتقيد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز أثناء ممارسة الحرية الإضرار بالغير. فلا يجوز -من الناحية الشرعية والفقهية مثلاً- لمالك أرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعاً يلوث البيئة والهواء، ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرية في الملكية، ينبغي أن تكون في إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية.

فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعاً اجتماعياً بعيداً عن العدالة، وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام.

ولكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والاضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها (القسط والبر والإحسان)، هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر، إلى رحاب التقدم والحرية والتطور، بحاجة إلى العدالة..

إن جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار والتعبير، ونفي الإكراه بكل صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الإرادة الإنسانية.

 

الهوامش:

(1) سورة الكهف، الآية 29.

(2) سورة الغاشية، الآية 22.

(3) سورة يونس، الآية 99.

(4) سورة البقرة، الآية 256.

(5) السيد محمد حسين فضل الله، كتاب الندوة، الجزء الأول، ص 24، إعداد عادل القاضي، دار الملاك، بيروت، الطبعة الثالثة، 1997م.

(6) الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، أصول الكافي، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1365هـ. ش. ج2، ص89 باب الصبر.

(7) أصول الكافي ج2، ص127.

(8) سورة يوسف، الآية 20.

(9) العلامة المجلسي بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، 1404هـ، ج45، ص7.

(10) نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، الطبعة الرابعة 1409هـ - 1989م، ص703، قصار الحكم، الحكمة رقم 180.

(11) سورة النحل، الآية 90.

(12) سورة النحل، الآية 125.

(13) سورة الشورى، الآية 48.

(14) سورة البقرة، الآية 83.

(15) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 309، دار إحياء التراث العربي - لبنان.

(16) سورة القصص، الآية 59.

(17) رضوان زيادة، الإسلام والفكر السياسي - الديموقراطية - الغرب - إيران، ص 129 - 130، المركز الثقافي العربي، لبنان.

(18) الكليني، الشيخ محمد يعقوب، أصول الكافي، ج 5، ص 292 - 293، دار التعارف، لبنان، 1990م.

(19) سورة الأنعام، الآية 165.

(20) مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثامن، ص 52، مجلة فكرية متخصصة تعنى بالهموم الثقافية للمسلم المعاصر.

(21) المصدر السابق، ص 55.

(22) سورة الحجرات، الآية 13.

(23) سورة المائدة، الآية 101 - 102.

(24) سورة الأنعام، الآية 119.

(25) سورة الأنعام، الآية 144.

(26) سورة النساء، الآية 171.

(27) سورة التوبة، الآية 31.

(28) السيد محمد تقي المدرسي، التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده، المجلد الثاني، ص 75 - 76، الطبعة الأولى، انتشارات المدرسي، إيران.

(29) سورة المائدة، الآية 1.

(30) سورة الإسراء، الآية 34.

(31) سورة الرعد، الآية 25.

(32) سورة الأنفال، الآية 58.

(33) الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج 15، باب 20 ص 67، دار إحياء التراث، لبنان.

(34) سورة الشورى، الآية 15.

(35) سورة الرعد، الآية 22.

(36) سورة الفرقان، الآية 63.

(37) سورة الأعراف، الآية 146.

(38) سورة الزمر، الآية 18.

(39) السيد محمد تقي المدرسي، التشريع الإسلامي، ج 2 - مصدر سابق - ص 49.

(40) التميمي، عبدالواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، مكتب الإعلام الإسلامي - قم، 1366هـ. ش. الحكمة رقم 10206.

(41) إيليا حريق، الديموقراطية وتحديات الحداثة: بين الشرق والغرب، ص 158 - 159، الطبعة الأولى، دار الساقي، لبنان، 2001م.

 


ماذا بعد الإيديولوجيا؟

إدريس هاني

ليس الغرض من هذه البعدية أن نقبض على شيء ما. إذ ليس بعد الإيديولوجيا سوى عماء الفكر. فالإيديولوجيا لم تصنع تاريخ البشر القديم فحسب، بل إنها تصنع مستقبلهم أيضاً. لقد انساحت الإيديولوجيا واحتوت عالم البشر، بعد أن استوعبت كل مخيلتهم. حتى ليبدو أنه ما حلم البشر وتخيّل أو فكّر إلا وفعل ذلك بمنطق الإيديولوجيا. إن التوق إلى ما بعد الإيديولوجيا هو واحدة من أكثر الأوهام رواجاً خارج النقد الإيديولوجي. وليس حينئذ من مخرج سوى تصعيد هذا النقد إلى منتهاه، كي نخفف من عراء الزيف الإيديولوجي، وشطط الخداع الذي يجعل التخلي عن الإيديولوجيا حتى لحظة نهايتها السيئة أمراً مستفظعاً. إن قصارى ما يملكه البشر إزاء الإيديولوجيا، هو تصعيد الوعي بها. الوعي وحده من يخلص الإنسان من بطش الإيديولوجيا واستدراجاتها نحو الوعي الشقي..

الحديث إذن عن (ما بعد الإيديولوجيا)، حديث ليس في محله، إذا ما نظرنا إليه نظرة سطحية ظاهرية. لكن متى ما أدركنا أن أي حديث عن الإيديولوجيا هو نفسه يستدعي الحديث عما بعدها، سندرك أي تصور بعدي هذا الذي نقصده. التصور الحقيقي للإيديولوجيا لا يتم إلا بتصور ما بعدها. أي تصور العماء الذي يترتب على الفراغ الإيديولوجي، باعتبار الإيديولوجيا ضرورة. نعم لعل السبب الرئيسي الذي دفعنا إلى تخصيص ملف حول الإيديولوجيا، ليس هو التدفق الكبير لخطاب النهايات، الذي بات يحتل فراغات الانسحاب الإيديولوجي بمعناه التقليدي، ويتساقط كبديل عن الانتظارات التي لا زالت تؤرق البشرية، على إثر رضات التحولات الإيدوستراتيجية الكبرى فحسب، بل إن دافعنا كان هو ما لاحظناه من سوء استعمال لهذا المفهوم الذي قلَّما تستحضر إشكاليته عند الاستعمال.. هكذا امتلأت خطاباتنا ومقالاتنا، وانتفخ كلامنا وإعلامنا، بالحديث عن الإيديولوجيا كما لو كانت محض علم للأفكار، أو منظومة فكرية أو تعبير ساذج. والحق أن هذه العبارة التي تطلق عفو الخاطر، تختزل أعقد الإشكاليات التي واجهتها ولا تزال المعرفة الإنسانية..

* ما الإيديولوجيا؟

تطرح هاهنا مشكلة انتقال المصطلح، وثقله على اللسان العربي. وتلك مشكلة ليس لأحد أن يحلها على الإطلاق، سوى أن نخفف من غلوائها، كما فعل بعضهم وهو يحاول إيجاد المعادل العربي لمصطلح إيديولوجيا. قبل فترة اقترح عبدالله العروي كلمة “أدلوجة”.. وبعد ذلك استعمل د. طه عبد الرحمن كلمة فكرانية -دون أن ننسى اقتراحاً سابقاً للراحل عبد العزيز الحبابي: فكرولوجية-. والحقيقة أن الاقتراحين يحيلان إلى اتجاهين وذوقين في الترجمة، ليس هاهنا مجال بحثهما. إنها الإيديولوجيا مرة أخرى تحضر بقوة في التعبير عن نفسها. لكن يمكنني القول بأن اقتراح العروي كان وجيهاً، فيما اقتراح الفكرانية كمعادل عربي للإيديولوجيا يحتاج إلى تأمل. فهو يقوم على استسهال كبير لمشكلة المفاهيم والمصطلحات، وما يتصل بها من متواليات مفاهيمية، وما يتفرع عنها من استشكالات، يناقض أصل التثبت في الترجمة، بحسب المنحى الذي سلكه صاحب فقه الفلسفة بناء على إيديولوجيا التقريب التداولي.

إن مذهب طه في الترجمة -وتحديداً ترجمة إيديولوجيا- هو مذهب إيديولوجي بامتياز. يتضح ذلك من خلال الدفع بالخلاف مع المقترح العروي السابق في الزمان وفي الاشتغال، مخالفة من دون مرجح، سوى الاستناد إلى التشقيق اللغوي، دون استحضار الحمولة المفهومية والإشكالية للعبارة. في حين تبقى الصيغة العروية حافظة للمضمون الإشكالي للمفهوم، مع تقيد مبدع في مراعاة الوزن العربي. وهو الاختيار المبني على وعي تاريخي وفلسفي واستيعاب للنقد الإيديولوجي.

هذا في حين تبدو الترجمة الطاهائية رغم تمسكها بالاستبدال العربي، ليست إلا تعاطياً حرفياً مع المفهوم، إذ يتضح عموماً أن الطريقة المذكورة في الترجمة تترنح بين التساهل والتشديد، بحسب موقف انتقائي تتحكم به حالات المترجم، ومدى استيعابه للإشكالية المعرفية للمفاهيم..

فأما منحى التساهل فمثاله فرض مصطلح فكرانية ترجمة للإيديولوجيا. وأما منحى التشديد والتعقيد الذي يصل أحياناً إلى درجة الإعجاز والتعجيز، فمثاله ترجمة جملة الكوجيتو الديكارتي بخلاف ما تم تداوله وفق صيغة الخضيري: “أنا أفكر إذن أنا موجود”. وكان مختار صاحب فقه الفلسفة، صيغة أخرى هي: “انظر تجد”..

وكما أننا في مناقشة سابقة، في محلها، لصيغة: “انظر تجد”، اعتبرناها مخالفة للمدعى، فهي من حيث التقريب التداولي لو سلكنا معيار الترجمة المعكوسة، فسنجد أول معنى يتبادر منها إلى الذهن هو: qui cherche trouve، وهي تعني: “من بحث وجد”. ليس ذلك فقط من حيث إن كلمات الجملة المذكورة تحمل نفس المعنى ـ انظر، تأتي أيضاً في اللغات اللاتينية بمعنى ابحث وفتش، (chercher)، يستعمل في الإنجليزية صيغة look for، بمعنى بحث عن.. في اللغة العربية تأتي بمعنى فكّر وتأمل ورأى وبصر وانتظر..، ووجد، تأتي بمعنى (trouver) - أجل ليس هذا فحسب، بل إن ثمة تركيباً متداولاً في اللغة الفرنسية كما يدل عليه المثل المعروف: qui cherche trouve. نعم، يمكننا القول بصيغة “انظر تجد”، لكن هذا يفترض تسليم المتلقي بكل الإسقاط المتكلف المذكور، والذي لم يكن ليحضر في بال أي مترجم أو قارئ لأولى الصيغ الترجمية للكوجيتو تحت تأثير المجال التداولي.. بل هذا أكبر دليل على غرابتها، لأنها لو كانت تداولية لحضرت في وجدان اللغويين عفو الخاطر. فكذلك نجدنا مضطرين هنا لتدارك الهنات الترجمية للاستاذ طه عبد الرحمن -وهي هنّات تصبح أمراً فظيعاً، عندما ندرك أن صاحب فقه الفلسفة هو لغوي كبير ومحقق دقيق- حيث إن ترجمة إيديولوجيا إلى فكرانية توقعنا في مأزق فلسفي، وفي خلط مفاهيمي، وفي اشتراك لفظي. وهذا ما يعني أنها ترجمة لا تقوم على الاستيعاب التاريخي للمفهوم، ولا على إشكالية النقد الإيديولوجي، ولا على الاجتهاد القائم على استفراغ الجهد في التشقيق، على الرغم من أن وضع صيغة “انظر تجد” رافقها -رغم الهنات الترجمية المذكورة- من النكات ما أمتع به الباحث قرَّاءه برياضة لغوية ومنطقانية لا يلوى لها ذراع.

أقول: إن طه حينما ترجم الإيديولوجيا بهذا الشكل، وقع في المزالق التالية:

- إنها ترجمة تخفي الأبعاد الإشكالية للمصطلح. فهو يقدمها بمعناها التقليدي المتجاوز، بوصفها منظومة أفكار أو معتقدات. ولا يمكن استحضار هذه الإشكالية المفهومية، إلا بالإبقاء على المصطلح كما هو مع إخضاعه للوزن اللغوي المحلي، كما هو عرف سائر اللغات، وكما هو عرف اللغة العربية مع الأسماء والمصطلحات المنقولة. فإذا كان ذلك وجهة نظر أنصار التقريب التداولي من التراث العربي، ممن كان لهم فهم متردد ومهجوس بموقف سلبي مسبق من الصنعات الجديدة، بدءاً بالغزالي وانتهاء بابن حزم، فإن رواد الصنعة من أهل التراث أنفسهم، لم يجدوا مشاحة في نقل العبارات الجديدة ومنحها وزناً عربياً، حفاظاً على مضمونها العلمي والفلسفي، كما فعل الفارابي وابن سينا وجمهور الحكماء المسلمين إزاء مفاهيم منقولة كالاستقسات والهيولى.. ومثله ما سارت عليه عادة العرب في الترجمة والنقول، ومما أقره القرآن الكريم يوم استعمل من الأسماء ما لم يكن من العربية بحسب الأصل الوضعي، ما فجّر نقاشاً شهيراً حول وجود غير العربي في القرآن. والحق أن القرآن الذي وصف نفسه بأنه كتاب عربي، قصد بذلك الإقرار بالبعد الانسيابي للغة. معترفاً بأن معيار عروبة الكلمة هو الوزن والتداول. فليس الإقرار مختصاً بما كان وضعاً طبيعياً تعيينياً، بل إن المتعين تعيناً بحسب التداول، مشمول أيضاً.. فالقرآن استعمل كلمة برهان وسندس وإستبرق وزرابي.. وكان من الممكن من خلال التشدد والمبالغة أن يقال: لم هذا؟، وقد كان أولى بموجب التقريب التداولي المزعوم أن يقال: (بسط) بدل (زرابي)، أو (دليل) بدل (برهان).. وما شابه. ولم يتدخل القرآن في بعث العرب المسلمين على الاختصاص بالاصطلاح استبدالاً، بل يكفي في عروبة المصطلح خضوعه لمقتضى الوزن العربي. ومثل ذلك ظل رائجاً في لغة العرب.. فهل كان ابن عربي مخالفاً لمقتضى قواعد التقريب التداولي عندما سمى كتابه المعروف: ترجمان الأشواق؟، وقد علمت أن كلمة ترجمان ليست من أصل عربي.. وقس على ذلك كلمات من قبيل: زنديق، وزنج، وغيرها مما داخل اللسان العربي، واستقر في لغة العرب بفعل التداول التعيني كما لا يخفى.

أقول: إن كان هذا مما تحصل وتقرر في اللغة الطبيعية، فهو من باب الأولوية مجزئ في الاصطلاح والتداول الصناعي. ولم يمنح القرآن العرب المسلمين حق التميز بالاصطلاح، إلا فيما كان مورد تداول أخلاقي، كقوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}.. وهو مجرد تدخل اقتضاه وضع أخلاقي للأسباب المذكورة في محلها.. فهذا خارج موضوعاً عن الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، أو الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، بما أن مواد التفكير، ومقدمات التفلسف ومفاهيمه، هي أمر عقلي محض، مهما تلبست بمحمولات المجال التداولي الذي انبثقت وتكاملت داخله. فعملية الإبداع إن كنا لا بد فاعلين، عليها أن تصطنع مفاهيمها الخاصة ابتداءً، لا أن نسطو على ما اصطنعه الغير، ونسقط عليه إكراهات مجال لم تنشأ فيه، ولا قِبَل له بها ولا قِبَل لها به. يتعين على عملية الإبداع للمفاهيم، أن تنطلق من أصل المفاهيم والفكر، لا من خلال ممارسة الأستذة على مفاهيم من صنع الغير، فالإبداع هو أمر جعلي بسيط، وليس مركباً.. وأيًّا كان الأمر فالمنتج بالجعل البسيط هو أشرف من المنتج بالجعل المركب.

وهذا هو المبدأ الأول للمعرفة؛ لنقل حق المعرفة الموجب للاعتراف. وإن التفكير في الإيديولوجيا ليس من اختصاص مجال دون آخر، فهو يتعلق بظاهرة كونية تخص المعرفة والفكر والإنسان ومطابقة الواقع وعدمه. هذا ناهيك عن أن الاستناد إلى آراء الغزالي وابن حزم وابن تيمية، في بناء إيديولوجيا المجال التداولي وقواعد التقريب التداولي، حاكٍ عن موقف تراثي معين، وليس عن موقف كل التراث.. وفي تعميم هذه القواعد تغليب لتراث على آخر بلا مرجح، بل هو نفسه موضوع للنقد الإيديولوجي للتراث.

ـ إن ترجمة إيديولوجيا بالفكرانية، يسقطنا في اشتراك لفظي، والتباسات تحرم اللغة العربية من جملة مفاهيم مشتقة من كلمة فكرة idee في اللغات اللاتينية، نظير idealisme.. idealite.. ideisme.. ideat.. ideation.. ideologie. وقد تكون ترجمة كهذه أنسب معادل عربي لمفهوم ideisme. أي الفكروية - وقد اعتاد البعض أن يفرز اللاحقة ism عن مطلق النسبة الطبيعية، بمعاوضة صناعية، بإضافة الألف والنون على المصدر - كهيئة المثنى - قبل النسبة، نظير تقليداني، فكراني، علماني، شكلاني.. على وزن “فعلاني”...

هنا تكون الترجمة المذكورة توحي بهذا الخلط بين idiologie وideisme الذي يفيد معنى التمذهب للفكر الخاص أو الفكرة الخاصة.. هذا في حين أن الإيديولوجيا هي نظرية للعمل.. تصبح الإيديولوجيا نقيضاً للفكرانية التي بمعنى: ideisme، من حيث وفاء الإيديولوجيا هو لمصلحة الحامل الإيديولوجي وليس للفكرة.

لهذا السبب تحديداً، استحسنا ورجحنا الصيغة العروية: “أدلوجة”، لأسباب هي:

ـ أن العروي سلك مسلكاً أصيلاً في عرف اللغات، وفي عرف التداول العربي، الذي جعل الفلاسفة العرب لا يترددون أمام المفاهيم الجديدة التي جاءتهم من الخارج، بإخضاعها للوزن العربي درءاً للاستثقال.

ـ من ناحية أخرى، جاءت كلمة “أدلوجة” على وزن أفعولة. هذا مع أن العروي افترض معادلاً لها في اللغة العربية دونما تحمس كبير لهذا الاختيار، وهو كلمة: دعوة. فيتضح أن العروي كان مهتماً بالمضمون الإشكالي لمفهوم الإيديولوجيا، أكثر من المعنى الحرفي للمصطلح. وأن الطريقة الحزمية التي تمثلها الأستاذ طه وبالغ فيها في إيديولوجيا التقريب التداولي، تكون أشبه بأن يشتري رجل عربي سيارة ثم بسبب وضرورة المجال التداولي، يفرض إعادة صياغتها بدفع سقفها إلى الأعلى كالسنام، ويضع لها لجاماً ويجعل منها جملاً رغماً عن أنفها. وحتماً مثل هذا التمسيخ لمنجزات الفكر الإنساني الحديث لن يجدي شيئاً، ولن تصبح السيارة جملاً.. بل المطلوب أن نرقى نحن إلى مستوى استعمال السيارة، فنشق الطرق للسيارة، ونضع نظام المرور.. هذا ما عنيت به في مناسبة أخرى، بضرورة أن ترقى الفاهمة إلى مستوى المفهوم، وليس العكس. غير أننا نجد عكس ذلك في الإيديولوجيا التداولية، حيث يتنزل المفهوم ويمسخ ويجرف باتجاه الفاهمة. وهذا فيه حكم تعسفي، يفرض على المعرفة العربية ألَّا تتطور باتجاه الإشكاليات الكبرى التي يطرحها الفكر الإنساني، وألَّا تغتني بالتراكم الذي تشهده علوم الإنسان.. إنها حالة من التداول المغلق، والتمثل اللغواني والمنطقاني الصوري الدائري، المفرغ من المحتوى الفلسفي والمعرفي.

هذا معناه أن صيغة العروي في تقديرنا، تحافظ على المنظور الإشكالي للمفهوم، ولا تنظر فقط إلى المعنى اللغوي. فتبين إذن أن ترجمة د. طه هي الترجمة الحرفية، وهذا بخلاف مدعى “فقه الفلسفة”.

* منطق الإيديولوجيا وإيديولوجيا المنطق

يضعنا الاشتغال الميتا-إيديولوجي أمام إشكالية العلاقة بين المنطق والإيديولوجيا. ولعله أيسر على الباحث أن يبحث في منطق الإيديولوجيا أو إيديولوجيا المنطق، من أن يبحث في علاقة الإيديولوجيا بالمنطق بالمعنى الصناعي.

ويمكننا حسم هذا الموضوع ببيان وجه الافتراق بين الأمرين من جهتين:

- فمن جهة الوظيفة، فإن الإيديولوجيا وإن شاركت المنطق موضوع الفكر، فهي لا تهتم بترتيب المقدمات على النحو البرهاني المجزي للوصول إلى المجهول. فعادة ما تستند الإيديولوجيا إلى ما هو حجاجي، إلى حد تكاد تشبه فيه منطق الأسطورة، هذا إذا لم نقل: إن الأسطورة في مبناها وغايتها هي إيديولوجيا المجتمع القديم (البدائي).

- وأما من جهة الغاية، فإذا كانت غاية المنطق صون الفكر من الخطأ، وتمييز هذا الأخير عن أشكال التفكير الأخرى، من وهم وخيال، فإن الإيديولوجيا تقع غايتها خارج المعرفة، فهي وظيفة اجتماعية، وليست المعرفة إلا وسيلتها. وهذا التبني الوسيلي للمعرفة، لا يعني أنه تبنٍّ لمقتضى الباعث العملي للمعرفة نفسها، بل يعني أن الإيديولوجيا تجعل من المصلحة الاجتماعية ومن الفعل الاجتماعي معياراً لصحة الفكرة، بل ويمكن التدخل في إعادة صياغة النظرية لتستجيب للمصلحة. فالمعيار في الصدق والكذب ليس هو منطق الفكرة، بل هو منطق المصلحة، أي منطق مصلحة الحامل الاجتماعي للإيديولوجيا. هكذا بإمكان الإيديولوجيا أن تتوسل بالخيال والوهم لإثبات صدقها، فهي باستنادها إلى أدوات الحجاج، تطلب الإقناع، وليس صدق مقولاتها.

نعم تصبح الإيديولوجيا منطقية متى كانت المصلحة تقتضي ذلك.. وقد بات أمراً مواتياً لبعض الإيديولوجيات، بأن وصفت نفسها بالعلمية. وكان ذلك توظيفاً في غاية الحذاقة، انقلاباً على إيديولوجيات بائدة، ظلت محكومة بنمط من التفكير التقليدي أو الطوباوي. لكن مثل هذا الادعاء كذبته الوقائع، يوم أصبحت هذه الإيديولوجيات العلمية المزعومة عائقاً أمام فعل المطابقة ومعاقرة الواقع.. أصبح زيفها واضحاً، ودخلت في مرحلة الكذب، أي الوقاحة الإيديولوجية. لم يكن هم الإيديولوجيا العلموية المزعومة انتصاراً للعلم وللمنطق، بل كان الهدف هو تحقيق الانتصار على إيديولوجيات سابقة، وبالتالي من أجل الإقناع أكثر. الإيديولوجيا العلموية استغلت مرحلة سيادة النمط العلمي على الفكر العالمي، تماماً مثلما استغلت الإيديولوجيات الطوباوية عالماً ساده النمط الفكري الخرافي أو الطوباوي.. ليست الإيديولوجيا هي التي تنتج النموذج المعرفي، بل قصاراها استغلال النموذج المعرفي وفرضه وإعادة إنتاجه والدعوة إليه.

ففي كل إيديولوجيا، قد نقف على آثار منطقية، كما في المنطق قد نقف على ما هو ضروري التصديق به من دون برهان، كالاستقراء، وشرائط الحد التي يتعذر معها تعريف بعض الأشياء، إلا على سبيل المسامحة والتقريب اللفظي، ما يجعل شرائط الحد المنطقي أمراً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. وبما أن المنطق علم يزعم صون الفكر عن الخطأ، وفن ترتيب المقدمات، فهو كعلم يدافع عن نفسه بوصفه الطريق الوحيدة للمعرفة الصحيحة. وعليه، فهو يحاجج ويسعى إلى الإقناع، كما فعل أهل الصناعة الأوائل، في مفتتح حديثهم عن المنطق. ففي المنطق أيضاً نقف على آثار للوهم والخيال والمسامحة وإرادة الإقناع. طبعاً كل هذا ناتج عن أن الإيديولوجيا رفيقة الإنسان المفكر، تحل معه حيثما حل، وترتحل معه حيثما ارتحل.. تعاقر فكره متى فكر وكيفما فكر، فليس له إلا أن يفكر إيديولوجياً، بقليل من الزيف أو كثير من الزيف.

لا تعني الوظيفة التزييفية للإيديولوجيا أنها كاذبة. فعملية التزييف تتم بصورة لا واعية. لكن متى تصبح الإيديولوجيا كاذبة، أي تمارس التزييف العاري بوعي وتصميم تامين؟ إنه موعد قيامتها.. فالإيديولوجيا بعد أن تستنفد أغراضها وتتنكر للمعرفة، التي نشأت في أحضانها قبل أن تتحول إلى نظرية للعمل، يجعلها غير قادرة على إخفاء التزييف، بل تزييفها لم يعد مبرراً، لأنه ضد المصالح التي هي مناط مشروعية التزييف البنيوي للإيديولوجيا. فتبدأ تمارس دورها بصورة مفضوحة، ويبدأ حاملها الحزبي أو.. أو.. يظهر مزيداً من الكذب، حيث لا مخرج للإيديولوجيا في طور الشيخوخة إلا بأن تكذب وتكذب، حتى يكفر بها الجمهور وتصبح متهمة ومدانة، فينقلب السحر على الساحر، فتظهر فيها بعض مظاهر الهروب إلى الأمام، كأن يصبح الماركسي الشيوعي ليبرالياً جديداً.. أو أن يصبح القومجي أصولياً متطرفاً، أو الأصولي المتطرف لقلقاً من شدة انقضاضه على شعارات الحوار واحترام الآخر، بينما هو هو نفسه مشكلة التواصل.

* الإيديولوجيا والعالم

الإيديولوجيا في مواجهة سؤال النهاية، في الفكر العربي والإسلامي المعاصر.

الملفت للنظر ها هنا، أن معظم النقد المفهومي الإيديولوجي في المجال العربي، لم يأتِ بجديد إضافي. حتى ليبدو أن البيطار والعروي، قد أشبعا القول فيها، ولم يتركا مجالاً لإعادة عرضها، دون أن يكون في ذلك تكرار معيب. هذا بالطبع، ليس بسبب نبوغ غير مسبوق للبيطار أو العروي في هذا الخصوص، بل لكونهما سبقا غيرهما لممارسة هذا التقديم العرضي. قد يكون للإطار الزمني الذي حكم الاشتغال الإيديولوجي لدى البيطار أو العروي، مدخلية في تحديد مستوى النظر، ودرجة الوثوق وطبيعة الاختيار لدى كل منهما.

 فالبيطار الذي كتب “الإيديولوجيا الانقلابية” عام 1964م، كان محكوماً بحدث انهيار مشروع الوحدة العربية بين مصر وسورية. وفي زمن لا يزال للإيديولوجيات الكبرى مكانتها الفاعلة في العالم. الأمر نفسه بالنسبة إلى العروي، الذي تحدد اختياره في حقبة زمنية موسومة بثقة الجماهير بوعود الإيديولوجيات المتنفذة. وكلاهما لم يكتب ما كتبه في زمن اهتزاز المكانة التي احتلتها الإيديولوجيات، ليس فقط في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، بل في الوعي الغربي نفسه.

نتحدث عن مرحلة دشنت قطيعة مع موسم حصاد الإيديولوجيات، الذي تجاوز الفصل المحدد له. كي ندخل عصر النهايات. وهو العصر الذي فاجأ العالم، بانهيار أكبر الإيديولوجيات رسوخاً وانتشاراً في العالم الحديث؛ “الشيوعية”. أي ذلك السقوط الدراماتيكي، الذي أعقبه فراغ إيديولوجي كبير، في الغرب الذي حتى ذلك الحين، لم يزل منشطراً على نفسه، بين الليبرالية والاشتراكية. وعلى الرغم من أن الشيوعية المنهارة سرعان ما حاولت تكييف نفسها غرباً، والتعبير عن جدواها من خلال شعارات جديدة ومشاريع مستحدثة، كانخراطها في موجة الدفاع عن البيئة، والتنظيمات النقابية المناهضة للعولمة، فإنها في المجال العربي - الإسلامي المعاصر، فتحت الطريق أمام صحوة دينية عارمة، دفعت باليسار إلى أقصى اليمين، للوقوف ضد ما رأته خطراً على نفوذها. الأمر الذي لم يترك فراغاً كالذي حصل في المجال الغربي، حيث بدت الردة إلى أشكال الإيمان المغشوش ظاهرة تؤرق المجال السوسيو-ثقافي الغربي.

سقوط المعسكر الشرقي، أوهم العالم، وبتأثير من الإعلام العالمي، بأن العالم اليوم ليست أمامه خيارات سوى الانخراط الطوعي أو الكرهي في الموجة الليبرالية، بوصفها نهاية المطاف في التفكير الإنساني. وبما أن الشيوعية طرحت نفسها نقيضاً تاريخياً لليبرالية، وبأن التاريخ سينصفها لتنتصر، فإن سقوطها، أدى إلى أن تصبح الليبرالية، الإيديولوجيا الغالبة. ما أوحى للبعض بأنها نهاية التاريخ وخاتمة الفكر.

في هذه الأثناء صدرت مقالة ثم كتاب، الإيديولوجي الأمريكي، الياباني الأصل، “فرنسيس فوكوياما” معنون بـ: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. أعاد الحياة إلى خطاب غربي تقليدي، ترك انطباعاً كبيراً وخطيراً على العالم كله. فقد اعتبر لسان حال العقيدة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية، وللغرب عموماً. فلتكف البشرية إذن عن التجريب والمغامرة في البحث وراء بدائل إيديولوجية واهمة، عن الرأسمالية والديموقراطية الحرة أو السوق الحرة. وليتمسك الجميع بدءاً من الآن بهذا الخيار، لأنه لا خيار لهم بعد اليوم سواه. فالإنسان الأخير، خاتمة النوع، هو إنسان ليبرالي، سياسته ديموقراطية، واقتصاده سوقي.

في العالم العربي والإسلامي، كان وقع انهيار الاتحاد السوفياتي على النخب السياسية والفكرية لا حدود له. فهو وإن كان بمؤسساته السياسية والعسكرية والاقتصادية ضمان تعبير بعض الأقطار عن استقلالها عن الغرب، فإنه إيديولوجياً كان ضمانة لنجاح أي إيديولوجيا أخرى خارج الهيمنة الأمريكية. لكن ما حدث بعد سقوط سور برلين، هو أن لا حلم بدا يراود هذه النخب عن إمكانية الثورة والتغيير. وهذا لا يعني أنه في المجال العربي-الإسلامي لم تحدث هناك شوشرة أو احتجاج ولو خجول، عن الواقع الجديد الذي فرضته الغلبة الليبرالية. فقد قامت احتجاجات وتظاهرات فكرية وسياسية لدراسة الحدث المريع. وطبعاً، بدون جدوى!

في نيسان 1992م، صدر عدد من مجلة الفكر العربي، الصادرة عن معهد الإنماء العربي ببيروت، محوره “مأزق الإيديولوجيا”. يمكننا للوهلة الأولى التعرف على الغاية من وضع هذا المحور وفي تلك اللحظة بالذات. الأمر يتعلق بمساهمة عربية في تجاوز محنة السقوط الدراماتيكي للإيديولوجيا الاشتراكية. وتقعيد أرضية نظرية لذلك، قوامها التمييز بين سقوط تجربة محكومة بظروف داخلية وخارجية، وبين سقوط الإيديولوجيا من حيث هي إيديولوجيا.

يكتب د. ساسي عساف متسائلاً: “الانهيار الذي حدث، انهيار أنظمة هو أم انهيار إيديولوجي”(1).

ويشرح ذلك بشيء من التفصيل، مرجحاً كون مأزق الإيديولوجيا الاشتراكية، إنما هو مأزق نظام اجتماعي - سياسي - اقتصادي - أخلاقي... إنه مأزق في مستوى التطبيق والممارسة، وليس في مستوى النظرية والمنهج... والمأزق، تالياً، هو وليد تراجع عن الإيديولوجيا ونتيجة تشويه لها...”(2).

لقد بدا جليًّا، أن الانهيار الذي عانت منه ثاني أكبر إيديولوجيا عالمية، لم يكن مسألة عربية خالصة، حتى نعزوه إلى الاختلالات البنيوية للاجتماع العربي، أو الموقع الجيو-سياسي المحكوم بتوترات لها آثارها السلبية على مستوى الاختيارات الإيديولوجية ودرجة استيعابها. بل، لقد كان سقوطها دراماتيكياً. وقد نجد أن ثمة مفارقة كبرى فيما يروج له من تبريرات وتسويغات، تهدف إلى جعل هذا السقوط معلقاً على مشجب ظروف ومناخات وإكراهات أخرى قاهرة، وذلك كله تبرئة للإيديولوجيا الاشتراكية، وتأكيداً على طهرانيتها وأزليتها. فالسقوط هو سقوط واقع وأنظمة، لا سقوط فكر وإيديولوجيا.

ولعل التهافت الذي يظهر فوراً من هذه المحاولات التبريرية، يؤسس لنوع من المفارقات في التعاطي مع هذه الإيديولوجيا المنهارة. فالماركسية كفلسفة اجتماعية استمر تأثيرها في الوعي الحديث، وتغلغلت كأطياف أكثر المدارس النقدية المعاصرة. لكن الإيديولوجيين الماركسيين يصرون على استمرارها كمنظومة فكرية وكإيديولوجيا أزلية خالدة. وهم بذلك يصرون على أمر حكم فيه التاريخ وقضى، قد يبدو مناسباً أن يستعيد فيه ماركس عباراته الشهيرة: إنكم ماركسيون أكثر مما أنا ماركسي!

إن “الدور” المنطقي الذي يقودنا إليه هذا التبرير الأخير، هو أن سقوط الإيديولوجيا الشيوعية، راجع إلى إكراهات وظروف داخلية وخارجية. وهذا ينم حقيقة عن فهم مغالط للإيديولوجيا ذاتها، باعتبار قيمتها في وظيفتها. إن الإيديولوجيا ليست روضة من رياض الجنة، وليس لها دور ترفيهي، أو أنها أداة تسلية، بل هي وظيفة للتغيير والبناء. كان يفترض من الإيديولوجيا أن ترفع عن الناس مشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتجعلهم مؤهلين للمعرفة واليقظة والنباهة، وليس عكس ذلك، أن تتطلب هي منهم ذلك. إذا كان المجتمع معافى من كل أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية، فما الحاجة للإيديولوجيا رأساً؟.

لم يكشف إصرار النخب العربية على الدفاع عن ديمومة الإيديولوجيا، عن جديد أو إضافي حتى أثناء محاولتهم هذه، التي تبدو خجولة إلى أبعد الحدود. فقد ظهر بأن الإيديولوجيات تنشأ وتسقط بغير إرادتنا. وبأننا لم نساهم لا في نهوضها ولا في استفحالها. فهل يعقل بأن الإيديولوجيا الاشتراكية التي سقطت في معسكرها التاريخي بكل إمكاناته ونفوذه، هل يعقل أن يعاد استنباتها في مجالنا العربي - الإسلامي؟ يبدو أن هذه القراءة لم تأتِ بجديد، سوى أنها أعادت استحضار الجدل الجاري في المعسكرين الشيوعي والليبرالي معاً، عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين. لقد تبين بأن قوة الإيديولوجيا في مجالنا ليس مصدرها ضرورات الاجتماع المحلي، أو التطور التاريخي الخاص، بل هو صدى لما يجري في الخارج، ونتمثله في وضع قريب من التمسرح.

إلا أن المجال العربي الإسلامي لا يخلو أيضاً من دعاة النهايات. من أولئك الذين ازدهر خطابهم على حين غفلة، وعلى إثر اشتغال الفكر العربي - الإسلامي على تعديل منظوره، والبحث عن وسائل ناجعة للنهوض. لقد ذكرت بأن التطور الذي حصل على مستوى نقد الإيديولوجيا في المجال العربي - الإسلامي المعاصر، هو فيما يبدو للناظر صدى لما جرى في المجال التداولي الغربي. على أنه لا يعكس ذلك التطور بشكل نهائي. وهو ما يؤكد عليه النقاد العرب أنفسهم، متهمين بعضهم بعضاً بسوء الفهم لما يجري من تطورات فكرية في الغرب. وقد مر معنا موقف العروي الذي لم يزل يصف ما يكتبه العرب بالثرثرة والتجريد وقلة الفهم. لقد شهد النقد الإيديولوجي العربي هو نفسه انعطافات كبرى، مرجعها كما ذكرنا، ليس في ضرورات النظر ومقتضيات المعاش المحلي، بل في تفاعل سلبي مع ما يجري في الغرب، وترديداً لما تجود به مدارسه النقدية. فلا يزال العالم العربي - الإسلامي يبحث عن الإيديولوجيا المناسبة، وعن مخرج لمأزقه الحضاري، حتى باغتته المدارس النقدية الما بعد-حداثية post-modernistes، مشوشرة على اختياراته وأولوياته، مبشرة إياه بآفاق أوسع للنظر، وأعماق أكبر لمناورة الفكر، ومواقع أكثر لمناوباته.

فجأة ألفى العالم العربي نفسه أمام موجة عمائية جديدة، تتوعد كل الأنساق بالاضمحلال الحتمي، وترفع عن جدول أعمال الفكر العربي - الإسلامي المعاصر، ضرورة البحث عن طرائق ناجعة للنهوض، أو وسائل صالحة للتغيير.

وبينما كان العقل العربي الإسلامي المعاصر يجتهد لمواجهة التحديات الحضارية، واقتحام مجال الإشكاليات الكبرى العالقة، جاءت الموجة العمائية لتسوغ له الاستقالة والهروب، وتبرر له الكسل ومعانقة جحيم التيه والمفارقة مجدداً. هذه الموجة لا تخفي استهانتها بالتفكير الموجه، والهادف إلى تحقيق النهضة المنشودة، وتغيير الأوضاع البالية. ولا تخفي أيضاً أن همها نقدي يرمي إلى تفكيك ما هو حاضر، وطلب ما هو غائب، ولماذا حضر ولماذا غاب. كما تعلن أن لا هم لها بالحقيقة التي يجود بها المخيال. إنها بالأحرى تهتم بنقد الفكر ونقد الواقع. وتهتم بالعلاقة المخاتلة بينهما. وهي العلاقة القائمة على أساس الحجب والإخفاء. فالأفكار قلما تمثل الوقائع، بل تسعى إلى إخفائها. ومهمة المفكك هي كشف المخبوء، والكشف عن أصول الأفكار، وأسباب ظهورها. إنه الموقف الجينيالوجي النيتشي - الفوكوني، الذي حملته أدبيات ما بعد الحداثة، ولا سيما النصوص التفكيكية والحفرية لنقاد الميتافيزيقا الغربية، لاسيما الفرنسيين منهم، وعلى رأسهم رائد النتشوية الجديدة؟ مشيل فوكو!

في زحمة الحجاج الإيديولوجي العربي حول حاضر ومستقبل الإيديولوجيا، تبرز على الهامش محاولات د. علي حرب، الذي تولى قراءة ملف “مأزق الإيديولوجيا”، مقدماً بذلك رؤية مختلفة للموضوع، هي بلا شك رؤية نقدية تنتمي للموضة الفكرية المابعد-حداثية. وتستحضر أدوات النقد الحفري والتفكيكي، تلك التي بشّر بها رائد حفريات المعرفة -ميشيل فوكو- وداعية التفكيكية -جاك دريدا-. وكان علي حرب في أثناء نقده لهذا الملف، قد أثار مسألة الاتباع والتقليد. متعرضاً بنقد لاذع لهذا السلوك الفكري، الذي ينأى بنفسه عن الإبداع وعن خلق الجديد. ولكن، لا أهمية لهذه الدعوة، طالما أنها صادرة عن ناقد لم يتحرر هو نفسه من هذا التيار الكبير الجارف للعقل العربي. وقد يبدو علي حرب متحرراً إلى حد ما، من سلطة الدوغمائيات الميتافيزيقية الغربية، ووثوقيات الإيديولوجيا الماركسية، أو القومانية أو الليبرالية أو الإسلامية، ما يجعله يستشعر وضعه الخاص في الأزمنة الموسومة بنهاية الإيديولوجيات. لكن الحقيقة، هو ما يخفيه الناقد، وراء اختياراته الفكرية. إنه التزام بتيار نقدي، وليس تحرراً من التيارية. أي أنه هو نفسه يتبنى مدرسة نقدية، ويحترم طريقتها -وإن كانت أصولها نقدية عائمة غير مدونة أو ممسطرةـ لكنها ممارسة ومتفق حول قواعدها، كاتفاق المجتمعات الشفهية حول أصول لغاتها وثقافتها دون تدوينها أو تنظيمها، أو لنقل إنها أشبه بدولة لا دستور لها، لكنها مقيدة بقانون عرفي!؟.

وهذا ما شهد الناقد على ثبوته من خلال قوله: “ولكن لا خطاب يبرأ في النهاية من الإيديولوجيا التي هي على ما يبدو شر لابد منه”(3). فهل يا ترى، بعد هذا سيشكل موقف الناقد وخطابه استثناءً من هذا الحكم الكلي!؟

* الإيديولوجيا اليوم: العولمة الاقتصادية

دخلت الإيديولوجيا عالم الاقتصاد، ليس بوصفها نظرية للعمل، محرضة ومعبئة في اتجاه الإنتاج والعمل.. على غرار ما كان بحثه ماكس ويبر، بخصوص علاقة البروتستانتية بالعمل، وعلاقة التقشفية الكالفانية ومبدأ بيروث، بما يؤكد على البعد العملي للاعتقادات وتأثيرها في العملية الاقتصادية.. لكن ما لم يبحث في الموضوع، هو كيف أن الإيديولوجيا هنا دخلت إلى عملية الإنتاج والتوزيع بكل عبقريتها التزييفية. يحتاج العقل المنتج إلى مثل وأفكار لإقناع العامل بحتمية نمط الإنتاج، ولو في شروط مجحفة.. وكذلك يحتاج إلى أفكار مزيفة لإقناعه بأن عملية التوزيع أمر لا علاقة له بالعمل والجهد الذي يبذله العامل.. كل الظلم الاقتصادي والنهب العاري للقيمة المضافة مبرر ومقنع، وهذا يحتاج أن تعاقر الإيديولوجيا الاقتصاد، وتمده بمزيد من الخيال والتزييف والإقناع. إن الإيديولوجيا الاقتصادية المهيمنة على العالم اليوم، تقوم على جملة مسلمات، وكثير من المغالطات، هي أن النهب الصريح للقيمة المضافة حق، للمالك، وهذا يقتضي استدعاء تصور جديد لتراتبية الاجتماع العبودي بشكل جديد، وذوق أكثر نعومة وأقل عراء وتوحشاً.. على المالك أن يعمل كيف يشاء، ويمر من حيث يشاء.. وليس للعامل المرتهن لحتمية العمل وشروطه ونمط الإنتاج وغلبه، المعين سلفاً، إلا طريق واحد: أن ينتج قيمة مضافة، ويسلم بحق المالك في وضع اليد عليها.. هذا النمط الجديد من عبودية الإنسان للإنسان، يتطلب إيديولوجيا مزيفة تؤمن شكلاً من القناع، يحجب فظاعات هذا النمط المدمر للوجود الإنساني، وأيضاً قدراً من الاقتناع بعالم تراتبي قسري.. واليوم تتدفق شعارات العولمة الاقتصادية بإيديولوجيتها المزيفة، التي باتت أكثر وضوحاً من السابق.. تظهر العولمة للمتلقي عالماً من المثل، مستثمرة قوة الحلم الذي يجتاح عالم البؤساء، لتبشرهم بجنة عدن على أرض يتهددها التلوث، والكوارث الإنسانية والبيئية أكثر من أي وقت مضى.. لتمرير مشاريع جهنمية تقتل كل سياسة اجتماعية، وتجعل العالم ملكاً للأقوى اقتصاداً في عملية مولنة مكشوفة للاقتصاد.. إذا كان الإنسان هو آخر ما تفكر فيه العولمة الاقتصادية، التي يسعى باروناتها لنسف كل ما له علاقة بالتكلفة الاجتماعية، أي بحقوق الإنسان وحقوق البيئة والتنمية المستدامة، فإن أول مظاهرها الإيديولوجية الاحتفالية هي الإنسان.

يعيدنا الأمر مرة أخرى إلى ذلك الشكل الأجوف والكاذب، للأنسنة الشكلية التي ابتكرتها إنشائيات الصالونات البورجوازية، التي أثارت بنفاقها وازدواجيتها حفيظة نيتشه، وبعد ذلك بفترة ميشيل فوكو، كي يعلن موت هذا الشكل المزيف من الأنسنة -موت الإنسان- مثلما أعلن الأول موت الإله، الإله المزيف الذي اخترعه خيال الإقطاعيين والبطريركيين، حراس الجور والعبودية ودين قتل الإنسان وملاحقة العلماء.. بهذا التزييف لواقع العولمة، وأحلام قراصنة الحقوق الاجتماعية والبيئية، وهم مجرمون في حق الإنسانية إلى حد الفحش، تكون العولمة تمارس خدعتها الكبرى ضد الإنسانية..

هناك واقع ينذر بالدمار، وشعارات تبشر بشروق الوفرة.. غير أن إيديولوجيا العولمة تبدو أكثر وقاحة من حيث هي معاندة في رفضها الوقائع.. لقد استقبلها العالم على إيقاع الطرد الوحشي لأفواج من العمال وتسريحهم، وقبول جيل من الشغيلة بلا شروط ولا حقوق.. وثمة تراجع كبير على مستوى الإنفاق الاجتماعي، مما زاد المجتمعات فقراً وبطالة واضطراباً اجتماعياً وجريمة.. لكن اللسان الطويل لأنصار العولمة بمعناها الإيديولوجي الفج، لم ينقطع بعد، بمقص الفظاعة اليومية لضحايا تساقط الشروط والعقود وتراجع الحقوق.

كل إيديولوجيا لا تقر بالعدالة الاجتماعية، هي إيديولوجيا خادعة، تضيف إلى زيفها البنيوي والوظيفي خداعاً أنكى وأمر.. ولذا قد يكون من مفارقات الليبرالية أن تقدم نفسها بوصفها نظاماً ضامناً للعدالة الاجتماعية.. في أوروبا التي ظلت حتى حين تعيش على امتيازات السياسة الاجتماعية، التي ألَّفت بها قلوب الشعوب الأوروبية، الذين وضعتهم استراتيجية الحرب الباردة كأكياس رمل ضد التهديد الباليستي السوفياتي. لقد كانت السياسة الاجتماعية التي بدت كمرحلة ذهبية في أوروبا، من فضائل الحرب الباردة والتهديد السوفياتي لأوروبا.. أمر سرعان ما دلت عليه الوقائع فور نهاية التهديد المذكور، مع سقوط المعسكر الشرقي. والواقع أن ثمة ما هو أعظم من سقوط سور برلين، إنه السقوط الدراماتيكي للسياسة الاجتماعية في أوروبا، حيث باتت الأمركة بديلاً عن السياسة الاجتماعية، لا بل عودة بأوروبا إلى أحضان الفيكتورية، برسم التاتشرية والريغانية التي أعادت إلى الواجهة كل ذلك الإرث من الكراهية للقيود الاجتماعية على الاقتصاد، مع العولمة، التي يقودها رباط مقدس، بين فرسان المولنة الاقتصادية واليمين المسيحي، على إيقاع حروب تتهدد النوع بأكثر وسائل الدمار فتكاً، وبأنعم الشعارات الإيديولوجية، كذباً وخداعاً.. قد تكون الديموقراطية والليبرالية بمعناهما الفلسفي، حاجبة لكل هذه الفظاعات التي ترتكبها النظم الليبرالية الجديدة في حق الإنسانية، وهي نفسها الديموقراطيات والفلسفات الحرة عديمة الوجود في العوالم الأخرى، التي تجعل كل نضال ضد هذا الشكل المتوحش لليبرالية أمراً غير مجدٍ.

من هنا أحب أن أشير إلى البدائل المطروحة، كيف ينزاح النضال ضد التوحش الليبرالي، إلى حرب ضد الديموقراطية والفكر الحر.. ففي إيديولوجياتنا البديلة، نشجب الليبرالية الاقتصادية، ونشجب الاحتكار والربا، ونفتخر بأن الاقتصاد الإسلامي ناهض على العدالة الاجتماعية، غير أن أي طرح من هذا القبيل لن ينفع، إذا كانت تجارب المسلمين والهيئات الإسلامية لا تقدم نموذجاً للعدالة الاجتماعية.. ففي كل مكان ترانا نشجب الليبرالية، لكننا في معاملاتنا المالية نتصرف كليبراليين صغار.. ومنا من ينافسهم في الأسواق العالمية.. حتى المؤسسات الدينية تعاني من هذا التحدي.. هناك سوء توزيع، وهناك احتكار وتداول بيني محصور للمال الشرعي.. وارتهان للحزبية والولاء الحزبي والعصبية في التوزيع.. إننا في العالم العربي والإسلامي لم نحرر لا الأسواق ولا الإنسان، ولا حتى كسبنا عدالة في التوزيع، على شرط الاستسلام لانسداد آفاق الحرية الاقتصادية والمدنية.. فبدائلنا ليست بالضرورة بعيدة من حتمية الزيف الإيديولوجي. تلك هي المشكلة، أن نوضع بين خيارين أحلاهما مر. ففي نقدنا لليبرالية، تنزاح أمواج الاعتراضات التي لها مطالب تتنكر لكل ما هو مكتسب إنساني، وما هو نقطة قوة في النظم الليبرالية، أقصد الديموقراطية وحقوق الإنسان.

* الإيديولوجيا الدينية

يأخذنا هذا لبحث نمط آخر من الإيديولوجيا، أعني الإيديولوجيا الدينية. وأقصد بذلك مجمل ما كوّنه وأنتجه أهل الدين فكراً حول الدين.. ليس معنى ذلك أن الأمر يتعلق بالنوايا.. فسوف ندرك مع هذا الملف، أن الإيديولوجيا هي أعقد من أن تكون أمراً واعياً. إنها ليست زيفاً إرادياً ولا هي كذب محض.. فكل هذا من فعل الوعي، بينما الإيديولوجيا هي من فعل اللاوعي.. إننا ننتج الإيديولوجيا بلا وعي، وننتمي إليها بلا وعي..

أردت الحديث عن الفكر الوظيفي الذي ينتجه أهل الدين عن الدين، بمعنى الإيديولوجيا الدينية من حيث إن معاقرة الإنسان للدين تنتهي به إلى دين مؤدلج، لعله واحداً من مصاديق مقولة “غوشيه” بدين الخروج من الدين. إنها حالة إنسانية تؤكد على أن واحدة من تجليات أنسنة الدين، هي أن نجعله يعبر من خلال طيف الشرائط الواقعية. الدين هنا كوظيفة اجتماعية، لكنها بفعل التدليج -الذي أحياناً يأخذ معنى التدليس- يتعرض الدين إلى أكثر أشكال الإسقاط والمغالطة رثاثة.. أو لنقل أن التدليج المسقط على الدين، إذا لم يكن على تمام الوعي بالبنية والوظيفة الإيديولوجية، سيكون خطراً.

من هنا وددت لو تعرضت للفكرة المؤسسة لخطاب علي شريعتي، أي ضرورة جعل الدين إيديولوجيا. والحق أن شريعتي طرح أفكاراً جريئة فيها فكر كثير وتأمل كبير.. ومع ذلك فقد طرح أفكاراً قابلة لمزيد من المعالجة والنقاش. لقد أولى شريعتي اهتماماً كبيراً للإيديولوجيا. اهتماماً، يحمل بذور الإيديولوجيات الثورية لجيله. الإيديولوجيات التي جعلت الهيمنة للإيديولوجيا على حساب المعرفة.. ولا يخفى تصميم علم الاجتماع والانتماء الثوروي لأكثر الأفكار الثورية لجيل الستينات والسبعينات بادٍ في الخطاب الشريعتي المناضل.

إذا كان شريعتي رجلاً ثورياً بامتياز، فمن الطبيعي أن تشغل الإيديولوجيا كل اهتمامه. فهو يطالب بتدليج الدين وإخراجه من ثقل المؤسسة الرسمية التقليدية. وقد بدا أن كل الذين جاؤوا بعده، وحملوا الموقف السلبي من الدين الممأسس، كانوا صدى لهذه الدعوة الشريعتية.. دين ضد الدين..

لكن أن نجازف بتدليج الدين، دون نقد إيديولوجي يعمق الوعي به -وهو الشيء الغائب في كتابات علي شريعتي- مغامرة لا يستسيغها إلا الثورويون، الذين جعلوا الثورة فوق كل شيء.. أي الثورة كدين لا تعلو عليه قيمة.. إذا كانت دعوة شريعتي لتدليج الدين تقف على تصور وظيفي للإيديولوجيا، بوصفها محرضاً اجتماعياً على تحقيق الثورة والتغيير، فإن ما لم تقف عنده المحاولة الشريعتية هو، كيف نجنب المعرفة الدينية ضلال الإيديولوجيا، وفعلها التزييفي الثاوي في صميم وظيفتها، كما سيظهر في مقاربة بول ريكور.. ما هو ميلاد هذه الإيديولوجيا؟ وما هو معاد قيامتها؟.. ما شكل هذه الإيديولوجيا؟ وما حدود وظيفتها؟ وما هي المحاذير المتعين استيعابها؟.. وما علاقة هذه الملحمة التدليجية مع مدارات المعرفة؟.. هل من الضروري أن نضحي بالمعرفة لصالح الإيديولوجيا؟.. أم أن الحياة والثورة والاجتماع والحضارات لا تقوم إلا على الوظيفتين.. فالحياة هي علم وتعبئة.. ثورة وإصلاح.. عاطفة وعقل.. روح ومادة.. لون أحمر وأسود.. إيديولوجيا ومعرفة.. فلسفة وانقلاب.. نباهة واستحمار..

إن الدعوة الشمولية لتدليج الدين -هذه الدعوى الغارقة في المثل المستحيلة، والعارية من ضمانات معرفية صلبة، قوامها النقد الإيديولوجي نفسه- لها مطبات ندركها متى ما أصبح الشكل الإيديولوجي المشخص للدين، أقل جدوى وأقل دينامية واستجابة من الدين نفسه. ستكون الإيديولوجيا حينئذ عالة على الدين، بل ستعيق الدين عن وظائفه الكونية الكبرى، حيث للدين تجلياته وإمكاناته التي هي أكبر من إمكانات الإيديولوجيا ووظائفها.. إنه معانق لكل المدى الإنساني بكل أبعاده اللامتناهية.. بينما الإيديولوجيا تحصر المديات وتحصر التاريخ وتحصر الإنسان.

 إن الذين بالغوا بالأطاريح الشريعتية الجادة والممتعة، لم ينتبهوا لخطر سحر الإيديولوجيا وتردياتها الدراماتيكية.. لكن ما يلفت النظر أن المثقفين الإيرانيين هم اليوم أقل الشريعتيين.. فشريعتي -الذي لم يقرأ بعد في العالم العربي- هو اليوم متجاوز أمام الموجة الهيرمينوتيكية والبيتخصصية الإيرانية، الأكثر نزوعاً إلى النقد الإيديولوجي وما بعد الحداثة، في لون فكري خاص لم يشهد له مثيل.. وليس لها من الإرث الشريعتي إلا إنسانية خطابه، وصراطه الواحد المستقيم تحت خطو المثقف النبيه الملتزم، وليس صراطات مستقيمة، في معميات تكافؤ القوة المنطقية للأفكار، في المعاقرات المابعد حداثية، كما في مقاربات عبد الكريم سروش. إن الإيديولوجيات تجد طريقها سالكاً لدى الحامل الاجتماعي من ذوي الاستعدادات المتطرفة والغالية.. لذا، فإن الضامن لتجنب زيف الإيديولوجيات الوظيفي والبنيوي، وحماقات الإيديولوجيين، هو الاعتدال. فلا نغلو في الحكم على كذب أمر ما، عسى أن يكون أمراً صادقاً يوماً ما.. ولا نغلو في تصديق أمر ما، عسى أن يكون أمراً كاذباً يوماً ما. ومع الاعتدال يظل التساؤل مفتوحاً، إلى أن يجاب عنه يوماً ماً.

* آفة التدليج الحزبوي: في نقد العصبية المؤدلجة

كل ما حولنا يحمل تصميم الإيديولوجيا ويحيل عليها.. وحق على المعرفة أن تتساءل أمام هذا التدفق الإيديولوجي الثاوي في أنطولوجيا كائن لا يحسن أن يفكر إلا زيفاً.. حق على المعرفة أن تتساءل: أين المفر؟..

إن الإيديولوجيا تعترف بأكذوبتها فقط حينما تشيخ.. تتدخل المعرفة كطبيب، لإسعاف الفكر وتزويده بحقنة لتقوية مناعته.. حينها تنتعش الإيديولوجيا من جديد؛ لتنشأ وتترعرع وتطغى، ثم تشيخ مرة أخرى.. ليس للإيديولوجيا خلود.. إنها حالة من نشوء وارتقاء الإيديولوجيات.. تكيّفها وانمساخها، ولِمَ لا نقول أيضاً، تناسخها.

لقد أعطت الدولة الحديثة شكلاً جديداً للفعل السياسي، قائماً على التعددية الحزبية، لتنشئ بذلك تعويضاً سوسيو-تاريخياً عن التعددية القبائلية. ويساوق مفهوم الحزبية العصبية، حيث لا أحزاب بلا عصبية، ولا عصبية من دون إيديولوجيا تنشأ داخل الأحزاب، لا سيما المتقادمة المعمرة، آفة العصبية المؤدلجة التي تأخذ في النمو إلى حد الشطط. تملأ الإيديولوجيا رؤوس المنتمين فتنتفخ بطلسمات إيديولوجية تزيد على المقدار العقلاني، الذي يحفظ للفرد المنتمي حريته وقدرته على التفكير الحر، متى ما استنفدت إيديولوجية الحزب أغراضها.. وانتهت المؤنة الإيديولوجية في زحمة التكرار والروتين، ويبدأ موسم الاستيقاظ من تخديرها، وتتضخم المشكلات والتحديات والتساؤلات، التي تصيب الإيديولوجيا في نهاية المطاف بالوهن، فتصبح كعجوز شمطاء مخرفة هاذية، لا تحسن سوى الثرثرة ومضغ الكلام، وأحياناً تلوذ بالانتحار.. تأتي حالات على الأحزاب السياسية، يتعرض منتموها إلى وضع مرضي خطير، تتنامى فيهم حالة التواهم بين المنتمين.. يتساكنون، أي يسكن بعضهم إلى بعض بحذر.. كذلك يسكّن كل منهم روع الآخر ويطمئنه بصدق دعوته. ظاهرة التواهم هي واحدة من أعراض مرض التدليج المتضخم، الذي يجعل الحزبي الصادق، من لا يحسن التساؤل أو التفكير الحر. فعدو الحزبوية المغلقة هو التفكير الحر. والأعداء البارزون للحزبويين هم المفكرون الأحرار. المنتمي الحزبي الذي لم يدرك أفول الإيديولوجيات المزمنة، ويظل يغتذي من نفايات الإيديولوجيات المقبورة، هو شخصية مستلبة ومخدرة وسلبية بامتياز. ثمة من الأحزاب العصبانية من يسلك أهلها بذكاء، عملية استقطاب مستدام لشباب غفل لم يغادروا غرارتهم.. وهم بذلك أذكى من غيرهم، لأنهم يدركون أن طاقة إيديولوجيتهم لا تستطيع إنعاش سقف عمري معين.. إنها ضرب من المنشطات الوقتية، سرعان ما يفيق الإنسان من مفعولها التخديري، بفعل التقدم في العمر وتراكم الخبرة.. تلك الإيديولوجيات يكون الزمن كفيلاً ببيان هزالها.. فالإيديولوجيا التي لا تستطيع أن تصمد أمام تقدم العمر، هي بالأحرى إيديولوجيات طفولية لا يمكن أن ترضي إلا الأطفال. ولعله من الحكمة بمكان أن الوحي نفسه لا يختار من الأنبياء إلا أهل الأربعين، لأنه هو سن النضج الذي لا يمكن أن ينساق فيه الإنسان إلى أي اختيار فكري بسرعة ونزق.. الأربعون ضمانة وحماية من النزق الإيديولوجي والوعي الشقي.

ما الحل إذن؟ على الأحزاب السياسية أن تدرك جدل الإيديولوجيا والزمن. وأن تدرك أن الإيديولوجيا تحتاج إلى تدبير وإنعاش مستمرين، أي إلى قوة معرفية تتدارك هزال الإيديولوجيا باستمرار. إنه فعل الوعي والحذر المعرفي المستدام. وهذا أمر لا يمكن أن يقوم به الإيديولوجيون، بل هو دور النقاد المعرفيين. وهذا معناه أن الأحزاب السياسية عليها أن تقلل من ذهانها العصبوي، لتقبل في داخلها بمنتمين ليس بالضرورة أن تمتلكهم كلاًّ.. أي منتمين أحرار. إن مشكلة الأحزاب السياسية في العالم كله، وخاصة في العالم الثالث، أنها أحزاب لا تقبل بالمنتمين الأحرار. أي تكفر بالنقد الذاتي.. إنها أحزاب تحتقر مفكريها ومثقفيها وتستهين بالنقد.. فهل يمكن للأحزاب السياسية أن تتحول إلى مختبر نقدي ومعرفي، تتعايش فيه المعرفة والنقد الإيديولوجي.. أليس ذلك على الأقل سيجنبها الحالة الانقسامية القبلية، التي تحكي عن وحدة النمط العصبوي الحزبي - القبلي.. ألسنا في مثل هذه الحالة في حاجة إلى أنثروبولوجيا حزبية، تجعل الدولة الوطنية الحديثة موضوعاً للأنثروبولوجيا، وليس موضوعاً لعلم السياسة.

ليست الأحزاب السياسية وحدها من عاقرت الإيديولوجيا في عز عرائها.. فالمثقفون لا سيما في العالم العربي، هم سادة التدليج وخبراؤه.. فالعقل العربي لم يعد يخجل من هذا الشكل من المعاقرة الإيديولوجية العارية، في غياب الرقيب الجمعي الواعي، وفي لحظة تسلطن المثقف الإيديولوجي الكدحي وليس الحر -الاستعارة نيتشية-.

ثمة مثقفون اليوم حولوا الممارسة الثقافية والفكرية والنقدية، إلى كانتون وزوايا وأحزاب مغلقة، تستند إلى كتل جماهيرية وأنصار وأتباع وحواريين، تستقوي بهم في تغالبها المرضي مع نظرائها، قمعاً للنقد وقمعاً للحوار وقمعاً للاجتهاد.

إذا كانت الإيديولوجيا مرض الفكر وآفته، فإن وراء الإيديولوجيا كائناً مركباً هو صانعها.. إن الإنسان هو المسؤول عن مرضه وعن إيديولوجياته.. بل هناك من صنوف هذه الإيديولوجيات ما يكرس تخلفاً مزمناً في عالمنا العربي. حيث ما صدقنا أن بدأت السياسة تجد رشدها رويداً رويداً، تكيّفاً مع التحولات العالمية، والإكراهات التي أرغمت أنوفاً على أن تنظر في نفوسها بعض الشيء، ولو بخجل وإحساس بالهزيمة -في الحقيقة، هزيمة من؟ هل هزيمتنا أن بدأنا نفكر في ذواتنا.. يا لمفارقة المجال العربي وتاريخيته الغبراءـ، حتى انبرى من المثقفين وأصحاب المشاريع المزيفة المغررة للعقل العربي، أن بدؤوا يحتلون مكان المستبد، يبشرون بالرأي الواحد والمصير الواحد، كما هو في مخيلة متورمة بحصرها التعسفي..

من سوء حظنا في العالم العربي، أن صناع أوهامنا الإيديولوجية وصناع مثلنا الحالمة، مستبدون غارقون في وحل الشرور الدنيا.. وقد شهدنا كيف هللت ذات مرة، إيديولوجيا ديكتاتور العراق المخلوع، الذي جعل الشعوب العربية تحلم بِمُثُلٍ سرقها من مخزون هذا المتداول.. وقد هلل معه مثقفون إيديولوجيون كثر، أخفوا بمدائحهم الوجه الوحشي لطاغية العراق، الذي جلب الويلات على شعبه المعذب، احتلالاً وحروباً وحصاراً.. قبل فترة فقط، كان طاغية العراق رمزاً نحتته الإيديولوجيا العربية، وحشت به مخيّلة السواد المخترم من الأغلبية المقهورة والأمية والمستعبدة، في هذا الليل العربي الذي طال ومللناه.. ووحدها الإيديولوجيات العربية تملك هذه الجرأة النادرة في صناعة الطواغيت، واللعب على الحبال.. حتى بات كل شيء له نصيب من هذا الزيف، ديموقراطيات مزيفة.. تنمية مزيفة.. معارضة مزيفة.. جهاد مزيف.. مقاومة مزيفة.. بكاء مزيف.. أفراح مزيفة.. كل شيء مزيف..

فمعركة العقل العربي هي اليوم ضد الزيف.. أي ضد التدليج وتقيؤاته.. وضد نزيف الزيف ومرض الفكر، وهواجس المثقف الإيديولوجي الهائم في سلطنته المرعبة والإرهابية والاستئصالية العبثية. حيث لا فكر يعلو على خدمة الإنسان، ونصرة المظلومين والمعذبين.. ووحده المثقف العربي المأخوذ بلعبة التدليج والتكوثر الوهمي، المزيف للواقع الممجد للطغيان، المتزلف لصانعي المقابر الجماعية، المتطلع البصر والبصيرة إلى كوبونات من مسروقات شعب جائع تأكله الملاريا.. هذا الضرب المؤدلج من المثقفين العرب، هم أبشع صورة عن خطر الهذيان الإيديولوجي، وزيف الإيديولوجيا العربية المعاصرة.

فهل نقول: إنها نهاية المثقف الإيديولوجي العربي؟

ليس المقصود هنا بالإيديولوجي، المثقف الثوروي حصراً، بل المقصود بالإيديولوجي هنا المعنى القدحي. أي المثقف الانتهازي العربي عديم الضمير غير الحر.. يستوي في ذلك أن يكون ثوروياً أو متلبرلاً.. فليس المرددون الممضون على بياض للدجل الإيديولوجي، النيوليبرالي الكاذب، المستكبر، المدمر للشعوب، أكثر فقداناً للحرية من ثوروي لا يضيع فرصة للنهب، ومد اليد للأسياد لقاء ما يقدمه أو يقوله أو يكتبه.. وهؤلاء وأمثالهم هم من تورطوا في الكوبونات.. هم إيديولوجيو الكوبونات، الذين شكلوا وسيشكلون دوماً دروعاً للطغيان والاستبداد.. أمثالهم لا يمكن أن ينتعشوا إلا في ظل الطغيان.. فهم لا يجدون حاجتهم لأن يكونوا أحراراً، أو يََرَوا من حولهم يتمتع بكامل حريته..

ليس الطغيان فردياً بل هو جماعي، يساهم فيه مثقفون مستبدون انتهازيون أنذال أيضاً.. لقد كشفت فضيحة الكوبونات الوضع الفظيع والمرضي للمثقف العربي، ذلك ما نسميه بفضيحة الإيديولوجيات العربية. الضحالة الوجودية والانمساخ السياسوي؛ ثمن موت الإيديولوجيات الحية. تموت الإيديولوجيا في مشهد وإن كان ممعناً في رفض التجدد، فهي تكره الفراغ.. تتحول الأحزاب السياسية والفعل السياسي، إلى تشظٍّ سياسوي، فتفرز التربة الفاسدة من هذا اليراع السياسوي، اللاهث وراء أتفه المصالح، من الحالمين من يفسدون الحياة السياسية، ويزيدونها ضلالاً وهياماً.. يصبح الفعل السياسي مشهداً يفيض بالحماقات، ويتكاثر حوله كذابون يعوضون رحيل الإيديولوجيا، التي مهما قيل عن زيفها فهي تصون حاملها من الكذب العاري والتزييف الفاضح.. فمتى اختفت الإيديولوجيا الحية من المشهد السياسي، تنقض مواكب القطا على المشهد، وتبدأ رحلة الضحالة السياسوية، فيزداد الناس عزوفاً عن السياسة، فتمارس عليهم كأقبح ما تكون السياسة جرماً ونفاقاً.

* الإعلام والميديولوجيا

وأما عن الإعلام فحدِّث ولا حرج.. الزيف بلغ مبلغه مستعيناً بشيطان التقنية الإعلامية.. ملايين الطيبين من هذا الشعب العربي، فاغرة فاها أمام شاشة تقذف بحمم الأكاذيب والصور الخادعة المزيفة.. يتغذى مشاهدونا الأعزاء على كل أشكال الطبيخ الإيديولوجي.. سوق معروضة على آخر طراز من الزيف والتضليل.. طغاة يصاغون في هذا المخبر الإعلامي الفاسد في صورة ملائكة الرحمن.. ورجال أخيار يمسخهم الإعلام نفسه إلى أشرار. الفرجة الإعلامية لم تعد سوى وجبة ميديولوجية، نأكلها ونتقيؤها، وكل منا يجب أن يقول لجليسه: حظ سعيد!

* الحركات الإسلامية ونصيبها من الإيديولوجيا

هذا حال الأحزاب السياسية، فما بال الحركات الإسلامية؟.. هل هي حقًّا بمنأى عن مرض الإيديولوجيا؟ هل نصمت ولا نتحدث عن مرضها؟.. هل هي معصومة؟ .. هل هي تنظيم ملائكي؟.. من قال ذلك؟!

في البدء لا بد من قولها: “فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها”. لقد أصاب الحركات الإسلامية من هذا المرض، ما جعلها ترث كل أعراض الهذيان البارنوياني، الذي أصاب الأحزاب والتنظيمات الشمولية المغلقة.. قيادات تنزع إلى الهيمنة على الأرواح والعقول، التي إنما بعث الأنبياء ليثيروها لا ليسيطروا عليها: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ}..

الأنبياء أنفسهم لم يمارسوا في حق أتباعهم ما يمارسه قزم سياسي في هذا الزمان.. فهم ليسوا مسيطرين ولا جبابرة. الرمز يفكر عن القاعدة، وفي بجاحة النوكى يقبل الأتباع بكل ما يصدر عنه بلا مراجعة ولا نقاش ولا مساءلة.. إنها قيادات ترتكب أكبر جريمة ضد نهج الأنبياء؛ المتمثل بـ: “ليثيروا لهم دفائن العقول”.. عندما تضع سقوفاً للتفكير ضد أتباعها، الذين ضمن لهم الشرع الحق في أن يخرقوا السماوات والأرض بسلطان عقولهم..

* مفارقات المؤدلجين أو إيديولوجيا الموت..

تلك هي المفارقة، أن تعدك الإيديولوجيا بالحياة، وتحرضك على ضرب قبيح من الموت الأناني، قوامه بديل متخيل للفردوس الأعلى، معاوضة عن بؤس المعاش، على حساب حياة الأبرياء والنفوس المحترمة. هي صورة عن شاب قطط، انتفخ رأسه بإيديولوجيا زائفة، تضخم فيه إحساساً ذهانياً، على أن كل من حوله كفار، وأن الجنة له وحده، ولهذه العصبة التي ترى أن الطريق إلى الجنة لا تكلف أكثر من مجرد تكفير المسلمين وقتل الأبرياء.. ويكفي التعلق بشعارات مقرصنة لاستعمالها غطاءً تبريرياً، كالجهاد، بسطحية فقهية عمياء، جهاد لا يبقي ولا يذر، لتصريف كل أشكال هذه الحماقات. تصور أن شخصاً مؤدلجاً بهذا المعنى السخيف، توجه إلى حيث يفجر نفسه في سوق أو مكان مقدس أو في جنازة.. عبث بالأرواح البريئة، موت أناني، يشتري فيه المنتحر جنة الرحمن التي لا عوض لها إلا العمل الصالح، ومعرفة أرحم الراحمين، والسفر في الملكوت، بدم ونفوس بريئة. إنه من السهل أن تحشى رؤوس هؤلاء الغفل، الذين يستهينون بالحياة في سبيل أحلام بائسة وأفكار مزيفة، وتحت طائلة التخدير بإيديولوجيا الموت الرخيص واللامعنى، لكن من الصعب حشوها بأفكار بناءة إيجابية، تعيد لها جمالية الحياة رغم كل معاناتها وبؤس معاشها.. لست أنت من يصنع قيامته وقيامة العالم.. أنت مطالب بالإحسان في العمل.. فأن يكون المرء حلس بيته أفضل ألف مرة، من أن يخرج للناس بهذا الفكر المنكر والمرعب.. إيديولوجيات القتل البارد.. القتل المرضي.. هي أكثر أشكال الإيديولوجيات مدعاة للشفقة. . فهل تقاوم بالعنف المضاد وبالتدبير الأمني؟ لا، إنها حالة تعالج بوسائل متضافرة، كلها تمر عبر وسيلة الوسائل الناجعة: ألا وهي سياسة التثقيف، وهي سياسة لا يمكن أن تنجح إلا في ظل مناخ حر، ترعاه نظم حرة، تؤمن بالحوار الاجتماعي وحق المواطنة، دولة للحق والقانون والحريات وحقوق الإنسان، بقواعدها المشهودة، لا بترديدات غارقة في معميات الإنشاء الثوروي الرّثّ.

يبدو المتعصبون للوهلة الأولى كأصحاب إيديولوجيا متطرفة غير متسامحة. والحق أن المتعصبين والإرهابيين متسامحون في قناعاتهم وإدراكهم، حيث لا يكلفون أنفسهم عناء الغور في الوجوه المحتملة للموضوعات والأحكام، فيكتفون بالنزر القليل من المعرفة، ولا يستفرغون الجهد عند الدليل.. إنهم يخفون كسلهم المعرفي بالتظاهر بالجهاد، فيكفرون الناس بسهولة منقطعة النظير، ومع ذلك هم غير متسامحين في قناعتهم تلك، الجهاد غير المحفوف بشرائطه الموضوعية وأحكامه الشرعية، تعويضاً عن تقاعس منكر في جهاد المعرفة، وما تتطلبه من إعمال نظر واستفراغ للجهد.. المكفرون هم أصحاب إيديولوجيا رخوة ورثّة، يظهر غباؤها للوهلة الأولى.. لذا وبما أنها إيديولوجيا كاذبة عارية مفضوحة تفتقر إلى قدرة الإقناع، تراهم يعوضون ذلك بالعنف والإرهاب والكراهية..

* الإيديولوجيا والإرهاب الأكبر

شهد العالم تحولاً كبيراً على إثر سقوط المعسكر الشرقي، السقوط الذي كان منتظراً منذ سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى سياسة الإنهاك واستنزاف الاقتصاد السوفياتي، عبر التصعيد في سباق التسلح، الذي بلغ نهايته مع إطلاق مشروع حرب النجوم في الحقبة الريغانية.. لقد تبلورت رؤية استراتيجية أمريكية جديدة، في سياق البحث عن عدو خارجي يعوض فراغ السقوط الأحمر، ويبرر استمرارية استراتيجية التدخل والانتشار الأمريكي، تعبيراً عن اللحظة الولسونية. أظهرت حينئذ كافة الكتابات والتقارير الأمريكية، أن العدو المفترض والأنسب للاستراتيجيا الأمريكية بعد الحرب الباردة هو الإسلام، وتحديداً الإسلام السياسي. في سياق تعميق القناعة بضرورة التحول برسم النموذج الاستراتيجي الجديد، تداعت الأحداث بشكل يكاد يكون مطَّرداً إلى حد الانفجار، فكانت واقعة الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، بداية التنفيذ العملي لهذه الاستراتيجية الجديدة.. كانت ثمة استدراجات من هذا القبيل، ازدهر معها خطاب إيديولوجي تمركز حول مسألة الإرهاب.. فجأة أصبح الإرهاب لغة العالم، كما لو أنه لم يحدث في يوم من الأيام، ولا عاقره تاريخ البشر قط.. وقد رافقت هذا التدفق الميديولوجي أوهام، لا تقل عن كل الأوهام التي سبقت في المتخيل الأمريكي، رداءة ووقاحة إلى درجة الاختزال الشديد. لم يكن الأمر يتعلق بالصدق والكذب، كما تسعى وسائل الإعلام للتعبير عنه.. فالمسألة تتعلق باستراتيجيا وإيديولوجيا، تهيئ المناخات النفسية والثقافية والذوقية، لاستقبال نموذج جديد في الفعل السياسي والاستراتيجي الأمريكي.

فجأة وجدنا أنفسنا في العالم العربي والإسلامي، مرتهنين لأبشع صور الانتقال التاريخي الذي تصنعه قوة الإرهاب، إرهاب استراتيجي مناور، وإرهاب فوضوي عارم.. إرهاب الدولة التي تمارس الإرهاب باسم الشرعية الدولية، مستغلة نفوذها وقدرتها على الضغط.. وإرهاب يفتقد لتلك الشروط، لذا يبدو إرهاباً عارياً وفاقداً للمشروعية.. وبما أن الحديث عن الإيديولوجيا الأمريكية مما أصبح واضحاً للعالم، بعد أن أصبح من الصعب الإقناع به حتى الرأي العام الأوروبي والأمريكي، فلنقف عند الإرهاب الديني الذي تمارسه بعض الحركات الإسلامية التكفيرية، طلباً للنقد الذاتي -الفريضة الغائبة-. لقد فعلت الحركات المذكورة ذلك دائماً، حتى عندما كانت حليفاً موضوعياً للاستراتيجيا الأمريكية إبان الحرب الباردة.. فعلته في حق المسلمين، ولا تزال تفعل مثل ذلك في العراق، مرة بدعوى التترس بالمسلمين في أجهل تخريج فقهي، وتارة بحجة أنهم من عامة المسلمين أو المخالفين، وهم على أية حال في نظرها، مسلمون من الدرجة الثانية، أو ربما حسبوهم كفاراً خارجين عن الملة. فإذا أصبح الإرهابيون اليوم يصفون حساباتهم، ويواجهون استحقاقات المرحلة القادمة، فلن يكون الأمر أكثر مما قد يقال: إنها صحون إبليس تكسر بعضها.

* وأخيراً

أخيراً، نأمل أن نقدّم في ملفنا هذا، ما يروق القارئ في زمن فوضى الإيديولوجيات الصاعدة. فبسبب هذه الفوضى التي تحدث في الإيديولوجيات وبالإيديولوجيات، أردنا إنجاز ملف حول الموضوع، حاولنا قدر الوسع أن يشمل الجانب النظري المتعلق بـالـ”ميتا-إيديولوجيا”، كما يشمل المقاربة التحليل-نفسية للظاهرة (الإيديولوجيا)، ويظل الجانب المتصل بعلاقة الإيديولوجيا بالعالم وبالاقتصاد والأحداث العالمية الراهنة، مما لم يتسع له المقام، وإن كنا أشرنا إليه اختزالاً في تقديمنا هذا...

لا شك أن الحديث عن الإيديولوجيا وفي الإيديولوجيا حديث ذو شجون.. لقد بدا يأس العالم من كل إيديولوجيا مهما أحاطت نفسها بشعارات حالمة.. إن كان حقًّا هناك ما يميز مرحلتنا الانتقالية، فهو بداية هذا الشك العارم، الذي بدأ ينهال على عالم البشر، بداية تاريخ زوال اليقينيات الإيديولوجية الكبرى. اليأس من المعروض يختزن تطلعاً لبدائل أخرى.. وحده الزمان كفيل بإظهارها..

في هذا السياق، أود أن أشكر كل الذين ساهموا في إنجاز هذا الملف، وبالمناسبة أشكر الباحث والمفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا، على جهده الترجمي، وإصراره المشروع على عرض المنتوج الغربي بين يدي القارئ العربي، دونما إغراق في التأويل، المهمة المعرفية التي لم تكتمل تاريخياً في العالم العربي، لندخل عصر النقد والتأويل قبل تشكل المعطيات والتراكمات الضرورية لممارسة هذا النقد.. إن مساهمته معنا في هذا الملف بأكثر من عمل ترجمي، يأتي في سياق اشتغاله الطويل في مجال النقد الميتا-إيديولوجي، ويعد كتابه “الإيديولوجيا” -أطروحته في الدكتوراه- من أهم ما قدّم في هذا المجال مغربياً وعربياً.. ولا أنسى أن أشكر البروفسور فرنسيس فوكوياما على مشاركته معنا في مجلة الكلمة، بحوار في الموضوع نفسه وفي إطار ملفنا هذا، أجدد شكري له، رغم ما نحتفظ به من خلاف ونقد جذري لأطروحته، بما لمسنا منه من حس متسامح ومن دماثة، جعلتنا نلمس في سلوكه وفاءً للأخلاق الشرقية، التي لم تبددها شخصيته الجديدة كمتولد أمريكي ذي أصل ياباني.

 

الهوامش:

(1) مجلة الفكر العربي، عدد 68، ص 7، معهد الإنماء العربي، بيروت 1992م.

(2) المصدر السابق، ص 8.

(3) علي حرب، نقد النص، ص 94، ط 1993م، المركز الثقافي العربي - بيروت.

 


الوظيفة الرمزية للإيديولوجيا

- من خلال فكرة الخلاص -

د. محمد مزوز*

* توطئة

قبل التعرف على أهم جوانب هذا الموضوع، يستحسن الرجوع إلى الفلسفة الألمانية، وبالضبط إلى هيغل، وذلك للتمييز بين وضع الإنسان والحيوان في العالم، أي الشروط التي تتحكم في وجودهما معاً، يقول هيغل في هذا الصدد: إن الحيوان يعيش في هذا العالم بالمباشرة انطلاقاً من إحساسه بذاته، أما الإنسان فيعيش بتوسطٍ انطلاقاً من وعيه الخاص.

بعد هذا يمكن التساؤل عن معنى هذا التمييز، والذي ليس سوى أن الحيوان يقيم علاقاته مع العالم عن طريق الحواس، بحيث يتكون له إحساس بالذات، في حين أن الإنسان ورغم اشتراكه مع الحيوان في ذلك، يمكنه أن يدرك وضعه في العالم، ومن ثم يتكون له وعي بالذات.

كما يمكن التساؤل كذلك، عن طبيعة ذلك التوسط الذي يوجد بين الإنسان والعالم، في حين يعيش الحيوان بالمباشرة، وبمعنى آخر، كيف يعي الإنسان ذاته؟.

الإنسان يتكون لديه إدراك عن طريق التمثل، في حين يعجز الحيوان عن التمثل، ولا يتجاوز ذلك عنده مرحلة الإحساس، فحين يعي الإنسان العالم، وتلك درجة أرقى من الوعي، ويعي وجوده في العالم، يكوّن في الوقت نفسه وعياً بالذات، وهذا الوعي ليس متجانساً ولا من طبيعة واحدة، وهو بالإضافة إلى ذلك وعي يشمل أصنافاً عديدة أخرى من الوعي، أي تلك التجليات التي أنتجها الإنسان في سيرورته التاريخية، فالإنتاج كانت أسبابه تغيرات دينية أسطورية وإيديولوجية.

-1-
الإيديولوجيا والمعنى

من خلال تمثلنا للعالم إيديولوجياً أو شعائرياً أو دينياً، ننحاز بالضرورة إلى رؤية معينة لما ينبغي أن يكون. وحين نتبنى رؤية دينية للعالم، فإننا نرفض أية رؤية أخرى، عندما لا نعترف إلا بهذا التمثل للعالم، ونرفض تمثلات مغايرة. الاعتراف بالعالم دفاع عن الذات. إن هذه التمثلات هي حصيلة لتجربة تاريخية طويلة عند شعبٍ ما أو أمةٍ معينة، والدفاع عنها قد يصل إلى حد الموت، وكمثال على ذلك الجهاد الديني والثورات السياسية.

هذا الدفاع عن التمثلات، هو اعتراف بالذات في التاريخ أو في العالم. وعملية الاعتراف هذه، هي ما تدعوه سلزفسكي بالوظيفة الإيديولوجية. وماركس يقول: “الصراع الطبقي هو محرك التاريخ”، وقياساً على هذا القول يمكن أن نقول: إن الثمتل هو محرك الذات في التاريخ، سواء كان ذلك التمثل دينياً أو إيديولوجياً.

ما غاب عن سلزفسكي، هو أن عملية الاعتراف بالذات في التاريخ، ليست وظيفة خاصة بالإيديولوجيات فحسب، بل تشترك فيها الأديان والأساطير أيضاً، لماذا؟ لأن جذر هذا الاعتراف وأساسه هو التمثل، إذن فالتمثل آلة تشتغل بين الإنسان والواقع، من أجل إنتاج التصورات والرؤى التي تحرك الذات في التاريخ، وهي التي ستنتج الفكر والواقع، حين نتأمل الفعل الإيديولوجي في التاريخ، نجد أنه لا يعترف بالذات في التاريخ بقدر ما يتجاوزها، أو يعمل على تجاوز هذا الاعتراف، وذلك لأن هدف الإيديولوجيا هو زحزحة ذوات تاريخية معينة، وهي بالضبط الذوات التي تؤسسها الأديان والأساطير، وذلك من أجل بناء ذات تاريخية جديدة، ستتعرض بدورها لزحزحة أخرى. وهذا ما يفسر النضال كمطلب إيديولوجي، أي الدخول في صراع مع إمكانية تأسيس ديني أو أسطوري، لذاتٍ ما قسراً على التاريخ، لماذا تحاول الإيديولوجيا زحزحة الذوات الدينية والأسطورية؟ إنها ترى فيها ذوات تزيف الواقع فترفضها.

الإيديولوجيا لا تعترف بالذات في التاريخ، وإنما ترفضها باستمرار، إنها ترفض كل الذوات حتى ذاتها هي. والسبب في ذلك أنها لا تعترف بطبيعتها الإيديولوجية، بل ترى أن الآخر هو الإيديولوجيا. وبذلك تسقط في مفارقة، بحيث إن عملية التجاوز لا تعرف نهاية حقيقية، وليست لها نهاية أو حد، بل هي في سيرورة دائمة، أي أن تحطيم الذوات لا نهاية له،  إنجلز يقول بأن التطور الجدلي لا يعترف بما هو ثابت ومقدس، بمعنى آخر، إن الإيديولوجيا حينما تركب منطق التجاوز، سيؤدي بها الأمر إلى الإطاحة بالتمثلات التي تريد تشييدها حول العالم.

أمام عجز الإيديولوجيا عن ترميم هذه الشروخ داخل منطقها الخاص، تأتي الأحداث لتفجر هذا التناقض، ويظهر التجاوز في صيغة خيانة تاريخية، وكمثال على ذلك علاقة الكنيسة بالبورجوازية في أوروبا، ذلك أن الكنسية تحولت من كونها خصماً تاريخياً للبورجوازية، وحليفاً للإقطاع، إلى كونها رمزاً للهوية الحضارية المسيحية. وذلك يعود إلى الفراغ الرهيب الذي بدأ يعاني منه الوعي الأوروبي، بعد انسحاب الدين أمام زحف العلمانية، وهكذا ما يحدث اليوم في أوروبا الشرقية، حيث يظهر التجاوز كخيانة تاريخية للمبادئ السابقة.

يجوز الحديث هنا عن الثورة المغدورة - الإيديولوجيا، رغبة في تحطيم التمثلات السائدة، لأن تغيير الواقع يمر عبر تغيير القناعات أولاً، لكن بمجرد وصولها إلى مواقع السلطة السياسية، تنقلب الوظيفة الإيديولوجية على نفسها، إذ تتنكر للتجاوز، وتبدأ في الدفاع عن التمثلات التي أقامتها، أي تدافع عما هو كائن وتنبذ الممكن.

وفي هذه الحال يبدأ انزلاق الواقع فوق التمثل، لأن السيرورة التاريخية لا يمكن أن توقفها التمثلات. إلا أن التمثل يعمل جاهداً كحارس لإيقاف سيل السيرورة، ومن ثم يصاب بالإرهاق المزمن، فيقترب من الشيخوخة وتتصلب شرايينه. وأمام ذبول التمثلات، لن يجد وعي الناس ما يقتات به، فتبدأ الإيديولوجيا في فقدان وظيفتها، أي فقدان احتواء السيرورة بالتمثل، ولهذا تتدخل السلطة لحمايتها.. وهكذا.

وعندما تتلوث الإيديولوجيا بالسلطة فإنها تشيخ، وتظهر التمثلات الشابة خارج مواقع السلطة، وتبدأ البحث عن النسقية، حين يشتد ضغط التاريخ وتتواتر السيرورة، وذلك استعداداً لشغل منصب البديل الإيديولوجي، تبدأ التمثلات الشابة في اتهام الإيديولوجيا الملوثة بالسلطة، لأنها سمحت للسلطة بشغل المنصب الذي كان يحتله التمثل، وبذلك تريد أن تنفي الذات التاريخية، التي أسستها الإيديولوجيا المتزاوجة مع السلطة، ولهذا اعترضنا سابقاً على تعريف سلزفسكي، الذي لا يرى في الوظيفة الإيديولوجية إلا الاعتراف بالذات في التاريخ، وينسى أو يهمل عملية النفي أو الرفض لهذه الذات.

نستخلص مما سبق، أن الإيديولوجيا هي رغبة في الخلاص من الآن الذي جمده التمثل، إذا كانت الإيديولوجيا في طور النشوء، أما إذا كانت ملوثة بالسلطة، فهي ترغب في الخلاص من المستقبل الرهيب المجهول، الذي تبشر به التمثلات الناشئة.

خارج هذه الرغبة في الخلاص من الآن، توجد أنواع أخرى من الرغبة، التي قد تكون رغبة في الخلاص من الوجود، (هذا هو الدين)، وقد تكون رغبة في الخلاص من الشر، (هذه هي الأسطورة)، الإيديولوجيا -الدين- والأسطورة تعبيرات متباينة عن قضية واحدة، وهي الرغبة في الخلاص، كيف؟.

أمام ثقل الوجود وصعوبة مجابهته، يفضل التفكير الديني تجنب المواجهة والصراع، فيعمد إلى حل يرضي شعور الإنسان المهزوم، وهو الانتظار، انتظار أن تهزم السيرورة، وتنتهي الحياة، ويخمد نبض الوجود، إذن فعلى المستوى الديني، ينتصر الإنسان وهو في قعر الهزيمة، أي حينما ينهزم أمام ثقل الوجود، تتكون لديه رغبة في تجاوزه، رغبة في التعالي عليه.

التفكير الأسطوري يعمد إلى حل آخر، وهو الرغبة في تجاوز الشر، فأمام سيادة الشر على مستوى الطبيعة (البشرية أو الفيزيائية)، تتكون للإنسان البدائي رغبة في تجاوز هذا الشر الواقعي، فيفضّل أن ينصر الخير على مستوى الخيال.

النتيجة هي أن هناك رغبات ثلاثاً للخلاص، أولاً: من الآن - الإيديولوجيا -، ثانياً: من الوجود - الدين -، وثالثاً: من الشر - الأسطورة -، هذه الرغبات الثلاث، هي التي تنتج الدلالة وتضفيها على الأشياء والكائنات، وبدونها سينعدم المعنى ويسود العبث، وزوال المعنى سيؤدي إلى انهيار التمثلات، وهذا سيقطع الصلة بين الفكر والواقع، بين الإنسان والعالم.

الإنسان يعيش في العالم بتوسط، وهذا التوسط يمثله التمثل، وهكذا يقع الانسجام بين الإنسان والعالم، لذا يلزم إنتاج المعنى، والمعنى لا يصبح دالاً إلا إذا كان تعبيراً عن رغبة، ونحن لدينا رغبات ثلاث، فما هي العلاقة بينها؟.

بما أن الأديان والأساطير تختزن أماني بعيدة التحقيق، فإن الفعل القريب يظل مفتوحاً أمام الإيديولوجيا، الفعل الإيديولوجي فعل آني، يدخل في صراع مع الأماني البعيدة لأنها تغتال اللحظة الراهنة، الإيديولوجيا ترى في الأديان والأساطير تزييفاً للواقع الراهن وترميماً له بالوهم، وتتهم الدين بأنه يؤجل الرغبة الآنية ويستبدلها بالانتظار، انتظار مجيء اليوم الآخر لتحقيق الآنية، كما ترمى الأساطير بالزيف، لأنها تستبدل هي الأخرى الشر الواقعي بالخير الخيالي، الأديان إذن تطمس الآن، والأساطير تطمس الهنا، في نظر الإيديولوجيا، في حين أن المطلوب هو تعرية الآن والهنا من أجل تجاوزهما.

لكن الإيديولوجيا قد تتصالح مع الأديان والأساطير، وذلك عندما تفقد السيطرة على التمثلات المنتجة للمعنى، وعندما تعجز الإيديولوجيا السائدة، الملوثة بالسلطة، عن احتواء الواقع بواسطة التمثل، بفعل سيل الصيرورة الجارف، تصاب بالهلع، وتتراجع إلى الوراء، بحثاً عن مناطق “شبقية” غنية بالمعنى، وهذه المناطق الشبقية -التي تغذي الوعي والغنية بالمعنى- مناطق تستوطنها الأديان والأساطير، وهنا تقع عملية نكوص إيديولوجي، أي أن الإيديولوجيا تتراجع إلى الوراء، أمام صعوبة التكيف مع متطلبات التطور، وحين تراجعها إلى الوراء فإنها لا تجد إلا أيادي عدوها ممتدة إليها، فتتمسك بها، والخصم العنيد للإيديولوجيا هو كل ممارسة تزيف الواقع، وها هنا خصوم تاريخيون، عملت الإيديولوجيا كثيراً على محاربتهم، وهم بالخصوص الأديان والأساطير.

تنهار الإيديولوجيا حينما تتجمد التمثلات، والمعنى يتقلص بالضبط عندما يتجمد التمثل، بما أن الوعي يقتات بالتمثل، وها هنا قد وقع جمود وقحط في مجال التمثل، فإن الوعي سيعاني من سوء التغدية، وهذا يعني أن الإيديولوجيا لن تستطيع التحكم في وعي الناس ومصائرهم، وهكذا تظهر التمثلات الشابة، لتعد الوعي بإمكانية توفير ما يكفي من المعنى لضمان الحياة، ومن ثم ينقاد الناس إلى هذا المعنى الذي يختزن ملامح مستقبل موعود. لذا يصبح المعنى نبيلاً، وترتقي التمثلات الشابة إلى مستوى المبادئ، وسيموت الناس من أجل تحقيق المبادئ، ويصبح الإسراع في الكشف عن المعنى النبيل الذي يبشر بمستقبل سعيد ضرورياً.

-2-
الإيديولوجيا والزمان

مصائر الناس هي مجموعة من المعاني يراد لها أن تتحقق في زمن آت، لهذا تبشر الإيديولوجيا دوماً بهذا الآتي، فتعمل على ضم المعاني بعضها إلى بعض، لرسم خارطة ذلك الآتي. وهنا تلتقي الإيديولوجيا بالدين، فكلاهما يبشر بعالم آخر، والفرق بينهما يكمن فقط في الموقف من الزمن، فبينما تصر الإيديولوجيا على تحويل المعاني إلى وقائع، يفضِّل الدين أن تتحول المعاني إلى أماني، ولهذا يستجيب الناس للدعوات التبشيرية، التي تراهن على مواصلة الطريق من أجل تحقيق المستقبل السعيد، فالسعادة تناجي دوماً ما هو آت، إنها تهتف في أذن الفرد: “أنت الآن شقي، ولكنك ستصبح سعيداً بعد انهزام الآن”، هنا يجبر الإنسان على الانتظار، وسيكولوجية الانتظار هي الخاصية المميزة للأديان.

الإيديولوجيا ديانة مقلوبة، لأنها تضحي بالأماني في سبيل الوقائع، وتنتحر على عتبة الزمان لكي تحيا اللحظة الراهنة. إلا أن الإيديولوجيا حين تلح على تقريب الآتي وإخضاعه للآن، تدفع بعجلة التاريخ إلى الوراء.

ما يخفف من حدة هذه العملية، هو بروز الفرحة التي تخلقها الرغبة في الخلاص من الآن، ولإنجاز هذه الفرحة يلجأ الناس إلى نصرة الزعيم “الكاريزمي”، الذي يعتبر رمزاً مكثفاً للمعاني المأمولة، هكذا يتم تسريح المعاني من قفص التمثلات الصلبة، فترفرف بعيداً، وتحلق في سماء المستقبل الموعود السعيد، فتعود بشفرات مرموزة ستفكك في أبراج التوجيه والإرشاد القومي والتوعية والدعاية.

حين تتحول المعاني -بعد تفكيكها- إلى وقائع، أي حين تتلوث الإيديولوجيا بالسلطة، تجد الرغبة مجالاً للإشباع، وهنا تنفجر الطاقة المتوترة التي كانت تتوق للتحرر، ومن ثم يهدأ الغليان (النضال)، فيتوجه الوعي، ويتثاقل الاندفاع الحيوي الذي كان يؤجج الرغبة.

في هذه اللحظة بالضبط، يتقاطع الآن مع الآتي، وبفعل اصطدامهما تتوقف السيرورة وتتساقط رذاذاً، هنا تلجأ الإيديولوجيا إلى استغلال منطق الأديان، أي أنها تعمد إلى الزمان وتقذف به إلى المستقبل، أي يلزم انتظار مرور الزمن لنحقق ما عجزنا عنه الآن، لكن هذا الاستغلال الإيديولوجي لمنطق الدين ليس تقليداً صرفاً، لأننا في مجال الإيديولوجيا ننتظر وصول المستقبل إلينا، بينما في مجال الدين نتخلى عن الآن، ونسير إلى ذلك المستقبل البعيد.

الإيديولوجيا تطمح أن يحيا الآن في قلب الآتي، بينما تمنح الأديان كل الامتياز للآتي على حساب الآن. هناك إذن اتجاهان متعاكسان بخصوص استغلال سيكولوجية الانتظار، الدين يسير نحو الآتي، أما الإيديولوجيا فالآتي هو الذي يسير نحوها.

-3-
الإيديولوجيا والقيمة

عندما تتصلب التمثلات، تبدأ عملية انهيار المعاني، وهذا يؤدي إلى حدوث انشقاق في وعي الناس، هنا تتدخل السلطة لترميم الوعي، أي أنها تبدأ في معالجة مجال ليس من اختصاصها. وبما أن تقوية الوعي تمر عبر إنتاج المعنى، وهذا الأخير يتغدى بالتمثلات، والتمثلات تحركها الرغبة، فإن السلطة تريد إحياء الرغبة، ولكن مع كبح جماحها إلى أقصى الحدود، (القمع).

ذلك أن السلطة هي رغبة في الآن وليست رغبة في الخلاص منه، لذا تشتغل بالمعاني المنهارة من أجل توحيد الوعي. لهذا تربط السلطة بين الرغبة في الآن وبين القيم النبيلة، والتي تقف قيمة الخير على رأسها، ونحن نعلم أن الخير هو الهدف الأسمى للتفكير الأسطوري، أي أن الأسطورة تريد تحقيق الخير على مستوى الخيال، للتخلص من الشر على مستوى الواقع.

هكذا تعمل السلطة على قلب منطق الأسطورة، إذ تنتشل الخير من الخيال وتربطه بالواقع، بينما تقذف الشر من الواقع وتربطه بالخيال، السلطة إذن أسطورة مقلوبة، السلطة ترى أن المواطنين هم سعداء بالتعريف ما داموا يقطنون المدينة، لأن الخير واقعي والشر خيالي، إن الشر يوجد في أذهان الناس فقط، وإذا كان الخير يتربع في كل مكان، فلن تعود هناك أية رغبة للخلاص من الآن، وسواء كانت الإيديولوجيا ملوثة بالسلطة أم لا، فهي تشتغل بأدوات غيرها، إما دينية وإما أسطورية، لكن الإيديولوجيا تعمل على قلب هذه الأدوات بعد انتزاعها من مجالها الأصلي، ومن ثم تتغير وظائفها.

الإيديولوجيا هي نقطة تقاطع بين الزمان والقيمة، وهنا ينتج المعنى، هذا الأخير ليس زماناً وليس قيمة، ليس واقعاً وليس خيالاً، إنه رمز، الوظيفة الإيديولوجية هي وظيفة رمزية بهذا المعنى، المجال الرمزي يقع بين الواقع والخيال، وهنا تشتغل الإيديولوجيا، لهذا السبب فإنها تطلق المعنى -إذا تضخم أكثر من حجمه- فترمي به إلى مجال الخيال، أو -إذا تقلص أكثر من اللازم- فترمي به إلى مستوى الوقائع.

هنا تعجز التمثلات عن الإمساك بالواقع، فتلفظ الإيديولوجيا أنفاسها، وذلك قدر محتوم. هذا القدر المأساوي الذي يلاحق الإيديولوجيا نابع من محاربتها للزمان، ورغبتها في تجميد الصيرورة والتخلص من الآن، وأمام عجزها في تحقيق هذه الأهداف، تشعر الإيديولوجيا بمرارة الهزيمة، فتتولد لها رغبة في الخلاص من هذا العبء الثقيل: (الزمان/ الوجود/ الآن/ القيمة)، الذي سيحتاج إلى نوع آخر من الخطاب، يتجاوز الخطاب الإيديولوجي، ويؤدي وظيفة أخرى غير رمزية.

هذه الوظيفة المغايرة، هي التي تمارسها الفلسفة، لأن الفيلسوف هو الذي يملك القوة النظرية لتأمل الوجود وملاحقة الزمان، والبحث عن جذور القيمة وتحمل عبء المعنى.

الهوامش:

* أستاذ الفلسفة - المغرب.

 


المقاربة التحليلية النفسية للإيديولوجيات*

بقلـــــم: ب. أنصـــــرت

ترجمة: د. محمد سبيلا**

يطرح فرويد في عدة صفحات من كتابه: “السيكولوجيا الجماعية وتحليل الأنا” (1920م)، مشكلة طبيعة ووظائف الإيديولوجيا في المؤسسات، فهو يقدم كأمثلة، الجيش والكنيسة، ويحدد الفرضية التي طرحها سابقاً سنة (1907م)، والتي يمكن  -بحسبها- أن نستخرج من النتاج الثقافي -من رواية أودين- إشكالية تماثل الصراعات النفسية الداخلية، لكنه يضيف آنئذ أن من المهم أن نتساءل، حول وظائف الإيديولوجيات السياسية أو الدينية، في إحداث التماسك أو التفكك في المؤسسات، ويشير إلى أن لهذه الإيديولوجيا ربما، على وجه الخصوص، وظيفة الحفاظ على الروابط الليبيدية القائمة بين الخاضعين ورؤسائهم، وضمان تجديد الاستثمارات الإيجابية نحو السلطات، ومن ناحية أخرى، الإبقاء على علاقات بين أفراد المؤسسة، مماثلة للعلاقة بين إخوة متساوين.

إن هذه الأوراق المتعلقة بالمقاربة التحليل-نفسية، تأخذ مكانها ضمن المجموع النظري الذي تستمد منه دلالتها، فهي تفترض فعلاً، أن كل نظرية الإنتاجات الثقافية، ونظرية العلاقات بين الذوات والعنصر الاجتماعي، متصورة كحدود لا تنفصل، وغير ذات دلالة في حالة التمييز بينها، وأخيراً كل نظرية الذات واللاشعور.

كذلك نجد أن هذه المقاربة التحليلية للإيديولوجيات، التي تستخدم في  الوقت نفسه نظرة الأجهزة الرمزية، وتصور العلاقات الاجتماعية ونظرية الذات نفسها، لم تغفل عن إثارة العديد من السجالات حول مظاهر خاصة، أو حول مدى صحة أساس مثل هذه المقاربة. ولهذه الإشكالية، فوق ذلك، أهمية خلخلة الحدود التقليدية للتخصصات المعرفية، ومراجعة النزعة الموضوعية في العلوم الاجتماعية، وكذا كل سيكولوجيا محدودة بحدود الذات.

وإذا كانت هذه النقاشات المتعلقة بالعمق، فيما يخص الإمكانات المضبوطة لهذه المقاربة، ما تزال متواصلة (بارسنز 1950م- ألتوسير 1962م - ر. كاسل 1978م)، فإن لنا أن نشير هنا إلى أن هذه المقاربة، تمكّن اليوم من انتهاج عدة طرق في البحث، مقابلة لقدر من كيفيات إنشاء مجال الدراسة.

لنميز أربعة نماذج للمقاربة التحليلية للظواهر الإيديولوجية: التحليل النفسي للمنظومات الإيديولوجية، التحليل النفسي لوظائف الإيديولوجيا في المؤسسات، وفي الذهنيات، وفي التحولات الاجتماعية - الثقافية.

أ- التحليل النفسي للمنظومات الرمزية

كانت إحدى المساهمات الإيجابية للبنيوية في المقاربة التحليلية للإيديولوجيات، هي الدفع إلى تركيز البحث التحليلي حول النصوص وحول بنية النصوص، بتعليق مؤقت لدراسة منشئها أو نتائجها التاريخية.

فمقابل مثال فرويد وهو يحلل نص رواية سنة 1907م، يمكن أن يكون من المفيد للبحث، ألا نولي الاهتمام إلا لدوالِّ منظومة إيديولوجية، وأن نحللها كما يحلل خطاب المريض. وسيتم التوصل إلى الهدف من هذا التأويل، عندما يتم إبراز البنية اللاشعورية لإيديولوجية ما، وتناقضاتها وأشكال حلها. وهكذا فقد حاول بوزانسون (1967م) -وهو يدرس أعمالاً ذات نفس روائي، ومقاطع من حكايات أسطورية- أن يستخرج الإيديولوجيا السياسية نفسها، التي كانت ربما سائدة في الثقافة الروسية، والتحليل البنيوي يرى في ذلك نمطاً خاصاً من الأزمة الأوديبية، المتبلورة في رمزية الخضوع التأديبي - الذاتي للابن أمام أب قوي جداً.

ومضامين الديانات هي أيضاً قابلة لهذه المعالجة التأويلية، التي تعيد للنص كل غناه الوجداني، وفي الوقت نفسه منطقه الوجداني.

وبقدر ما نعتقد أن الإيديولوجيات الحديثة تجديد لبعض بنيات الفكر الديني، فإن تحليل الرمزية الدينية، منظوراً إليها على أنها رمزية قديمة، يمكن أن يكون مقدمة لتحليل الإيديولوجيات الحالية، مثل النزاعات القومية (لوجندر 1974م). إن كل خطاب سياسي (ج ميلر 1975م) يمكن أن يكون موضوع هذه الدراسة، المهتمة بإبراز التشكيلة اللاشعورية الكامنة خلف الخطاب الصريح.

ب- التحليل النفسي لوظائف الإيديولوجيا في المؤسسات

تساءل فرويد، في دراسته للتماسك الاجتماعي داخل جيش أو كنيسة، عن وظائف الإيديولوجيات في تكثيف التبادلات الاجتماعية، انطلاقاً من مقاربة تحليل-نفسية. وقد دفعت هذه الأبحاث إلى التساؤل حول موقع ومكانة المنظومات الإيديولوجية في الحياة السياسية، وحول منشئها وفعاليتها. ويؤكد و. رايخ (1933م) هذه الإيحاءات قائلاً: إن المقاربة التحليل-نفسية ليست متناقضة مع المقاربة المادية للظواهر السياسية، بل إنها على العكس من ذلك تكملها. كما أنه وسّع من جهة أخرى مجال البحث، مبيناً أنه لا يتعين فقط أن ننظر إلى الإيديولوجيا السياسية ضمن مؤسسة (الحزب النازي)، بل من خلال كل مصادرها المنتشرة، ومن خلال كل المؤسسات الاجتماعية، وعلاقات العمل، وأشكال الحياة العائلية، وأنماط التقوى الدينية. وضمن هذا المنظور، فإن المعالجة التحليلية توسّع طموحها، وتحاول أن تكشف عبر تحليل الإيديولوجيا السياسية، عن الأنماط الاجتماعية - الوجدانية لمجتمع خاص، خلال لحظة معينة من تاريخه.

وهكذا نجد مشكلاً آخر مطروحاً، وهو مشكل علاقة الذات بالقانون. ونحن نعرف أن فرويد في الطوطم والتابو (1912م)، يضع العلاقة مع السلطة ضمن الإشكالية الأوديبية، ويميل إلى تفسير الخضوع والامتثال السياسي بتجدد الشعور بالذنب.

ويبقى من المطروح معرفة إلى أي حد لم يكن تأويل فرويد ذاته مطبوعاً بطابع الثقافة السياسية السائدة في عصره (دولوز وغاتارى 1973م)، وما هي التعديلات النظرية الضرورية للتفكير في المنظومات الإيديولوجية لعصرنا (كوفمان 1979م).

ج- الإيديولوجيات والذهنيات

عندما تساءل فرويد عن “قلق الحضارة” (1930م)، كان قد مهد للحديث عن السمات اللاشعورية للثقافات الغربية، وعن دور المثل في تجديد الشعور بالذنب. ومعنى ذلك أنه سيكون من الممكن إبراز التشكيلات اللاشعورية الخاصة بذهنية جماعية، ستكّون الإيديولوجيات الصريحة، وفي الوقت نفسه، أعراضها ومواطن تجديدها، تحاول المقاربة التحليل-نفسية، تحليل المشاعر السائدة ضمن ثقافة معينة، وتشكيلها ودورها في الممارسات الاجتماعية.

وقد طرحت هذه المسائل بجلاء، بصدد المجتمعات التي لا تعرف الكتابة ( ج. دوفرو1970م)، لكنها أيضاً صيغت فيما يتعلق بظواهر جماعية مثل محاكمة السحرة، أو الأحقاد الجماعية (1973م. A. Danet). وقد أفسحت ظواهر الإيديولوجيا العرقية العنصرية المجال أمام العديد من الأبحاث الاجتماعية التحليلية، وأحسنت ذلك، إذ يمكننا أن ننتظر من المقاربة التحليلية أن تساهم في إيلاء الاعتبار والعناية، لعنف العواطف الوجدانية المستخدمة في أهواء جماعية (R.Lewenstein 1952 E.Simmel 1946).

إن مثل هذه الأبحاث لا تغفل تجديد “المسألة المطروحة من طرف فرويد عن العلاقات القائمة، بين الحالة المرضية الفردية والحالة المرضية الثقافية، بين العِصاب مثلاً والدين (فرويد 1927م)، ويتعلق الأمر بالنسبة لكل إيديولوجيا خاصة، بتحليل شكل الأنا الأعلى الذي تدعمه، وما هي أشكال الكبت والبدائل التي تقدمها لرغبات الذوات. يبدو أن الإيديولوجيات لا تتوافق مع النموذج العصابي نفسه، فهي يمكن أن تقابل وتناسب تشكلات موضة مختلفة عصابية أو ذهنية (F.Rous-tang 1976). وكما أشار إلى ذلك فرويد بصدد الدين، فإن من الممكن أن العصاب الجماعي يجنب الذات الفردية تكاليف عصاب شخصي (أسار 1975م).

د- الإيديولوجيات والتغيرات

إن أشكال النقد التي وجهت للمقاربة التحليل-نفسية للظواهر المجتمعية، أشارت دوماً إلى أن مثل هذه المقاربة تفيد أكثر في دراسة التكرارات الاجتماعية، أكثر مما تفيد في دراسة التغيرات، وقد سار نوع من التحليل النفسي، وهو التحليل النفسي ليونج خاصة، فعلاً في هذا الاتجاه.

وبدون أن نثير هنا النقاشات الأساسية، نشير فقط إلى أن الكثير من الدراسات الحالية تتحاشى هذا المنزلق، وتحاول على وجه الخصوص، التركيز على دراسة التغيرات في الإيديولوجيا.

تتساءل الدراسات المتعلقة بالأزمات أو بالظروف التاريخية الخاصة/ حول خصوصية التشكيلات المستخدمة في لحظة محددة... تعلق الأمر بأزمة اجتماعية (أندريه ستيفان 1969م)، أو بحركة سياسية خاصة laqueur، فإن الهدف بالضبط هو إبراز أصالة وهشاشة التشكل السيكولوجي، الملازم للوضعية الإيديولوجية المدروسة.

وفوق ذلك فإن المقاربة التحليلية، دون أن تدعي تقديم تفسير وافٍ لتغير ما، يمكن أن تدفع إلى المساهمة في هذا التفسير. وهكذا، فإنها، في الأمثلة المتعلقة بانتشار وسيطرة إيديولوجية ما، يمكن أن تقترح تفسيرات جزئية لمستويات متعددة، فهي يمكن أن تطبق بنجاح على فهم حماسة الفرق (J.Demos 1971)، كما يمكنها أن تساهم أيضاً في تفسير الظاهرة المهمة، المتعلقة بكيفية تقبل الجماعة لمنظومة إيديولوجية ما (و. رايخ 1933م). لن نفاجأ إذن أن عدداً من الباحثين، يولي اهتماماً للتغيرات الحالية في الذهنيات والإيديولوجيات من وجهة نظر تحليلية. وهذه الأعمال التي تتعلق بالتشكيلات النفسية الجديدة، وأزمة الهوية (اريكسون 1950م) مثلاً، أو الشكل الجديد لصورة الوالدين (ميتشرليخ 1969م، منذ 1968م)، تقود بالضرورة إلى طرح أسئلة جديدة، تتعلق بالنظرية الفرويدية وتصحيحها بدلالة التحولات الاجتماعية الحالية (هـ. ماركوز 1963م).

الحدود

إن تعدد هذه الأبحاث، يجعلنا نتصور أن المقاربة التحليلية للإيديولوجيا لا تطرح نفسها كَنِد للمعالجة التاريخية والاجتماعية، بل إنها تقدم مكملات مختلفة للتفسير، لفهم متغير حسب الأوساط والإيديولوجيات. وبقدر ما تتخلى هذه المقاربة عن كل ادّعاء ذي “نزعة تحليلية نفسية” مبالغ فيها، وتركز على تكملة التفسيرات الاجتماعية التاريخية، وعلى تجاوز الفواصل الحادة بين الفروع المعرفية، فإنها تكون قادرة على أن تقدم الكثير لعلم الإيديولوجيات. وفيما يتعلق بالأشكال الجديدة للمعتقدات واللامعتقدات السياسية، فإنه لا يبدو أن هذه المقاربة قد تم إلى حد الآن اتباعها بما فيه الكفاية.

ويتعين الإشارة إلى النقص الحالي في هذا الميدان، لأن على المقاربة التحليلية للإيديولوجيات أن تضطلع بوظيفة مزدوجة، نقدية وإبستمولوجية، وذات نتائج مهمة، ومهمتها في إطار مواصلة الكتابات الأخيرة لفرويد، إدانة الاضطرابات العصابية أو الذهانية التي يمكن أن تصيب الثقافات أو الحركات السياسية، وذلك عن طريق تحليلها. كما أن بإمكانها أيضاً، أن تؤدي وظيفة إبستمولوجية حاسمة، بإضافة طابع إشكالي على العلاقات التي يقيمها عالم الاجتماع أو عالم السياسة، مع الإيديولوجيات التي يدرسها، ومع إيديولوجيته السياسية الخاصة.

مساهمة التحليل النفسي في دراسة الوضعيات الإيديولوجية*

تمكننا تحليلات فرويد حول الثقافة، من الإجابة عن سؤالين أوليين: لماذا يمكن أن تعاش الإيديولوجيا السياسية بشدة من طرف الذات؟ ولماذا يتخذ الاستيهام طابعاً جماعياً؟

يستبعد فرويد، منذ المقدمات الأولى النظرية، الفصل بين الذات والمجال الاجتماعي، عندما أوّل الهستيريا على أنها نتيجة لصدمة تقع داخل تاريخ الذات، أي في التجربة اللاواعية لعلاقاتها مع الآخرين. ومنذ ذلك، أخذ البحث يجري في الواقع ضمن مجال العلاقات القائمة بين الأشخاص، هذه العلاقات التي تتشكل الذات عبرها باستمرار، حتى ولو بدا أن هذا البحث يقلص من مفعول السياق الاجتماعي على الذات. بل إن تصور اللاشعور، ككيان يسمه خطاب ورغبة الآخر، ينشئ -في أساس العلاقة بين الفرد والوسط الاجتماعي- علاقة جوهرية وضرورية بحيث إن تناقضات الدوافع تتغذى وتجري باستمرار في هذا المكان؛ بل إن مدلول العلاقات بين الاجتماعي واللاوعي -منظوراً إليهما كحدين متمايزين- يقود إلى الخطأ، وكل محاولات فرويد كانت تستهدف بالضبط هذا المزلق. ويتعلق الأمر بإعادة التفكير في كيفية تشكل الذات، وكيفية مساهمة المتخيل في تشكيل الأنا، وعبر أي آليات دائمة من الإسقاط والتماهي.

إن الذات واقعة في السياسة، لكن بمعنى آخر مختلف عن تصور علم الاجتماع الوضعي. ليس الفرد هو تلك الذات المتحكمة، التي تؤول علاقتها بالسياسة إلى سلسلة من الاختيارات العقلية، بين الاستراتيجيات المختلفة، وتبعاً لقواعد مصلحتها المفهومة جيداً. إن الذات منخرطة قبل ذلك في شبكة علاقاتها البينة اللاشعورية، في المجال السياسي والإيديولوجي.

والصفحات التي كتبها فرويد تضاعف هنا الروابط، والتصالبات والمباطنات القائمة بين هيئات الذات والأشكال الثقافية.

يؤكد فرويد في “قلق في الحضارة” ما كان قد أشار إليه في مؤلفاته السابقة، حول الدور التأسيسي للمثل على مستوى الأنا الأعلى. فالمثال الجماعي، ليس فقط ظاهرة ضاغطة، بل إنه يندغم في ديناميات وتناقضات الذات. فهو يتدخل في الوقت نفسه في تنظيم الكبت، وفي عملية إضفاء الطابع المثالي على الأنا. وفعلاً فإن الذات تجد أنه قد أُضفي عليها طابع المشروعية، من حيث إنها عضو في جماعة مثالية، وتشير إلى نفسها على أنها هي الحامل الشخصي للقيم العليا، وذلك بواسطة العقلنة السياسية. وهكذا فإن تمثل المثل الجماعية داخلياً، يمكن أن يحقق للذات إشباعاً نرجسياً قوياً، تجد فيه ظروف تأكيد لأناها المثالي، ومناسبة لتحقيق متعة خاصة.

ويجب كذلك، إذا اتبعنا التصنيف الموقعي الثاني، الإلحاح على كون المتخيل السياسي يسهم في بنية الأنا بواسطة تقديم هويات. إن المتخيل السياسي يشكل الفرد كـ”ذات” مسؤولة عن المثل التي ينقلها إليها. وإذا كان المتخيل السياسي يحقق هوية، فإنها هوية مضفية للقيمة، وقادرة على تحقيق الإشباعات على المستوى النرجسي الأولي. وأخيراً فالمتخيل السياسي قادر على وجه الخصوص على أن يقدم للدوافع موضوعات استثمار. فالمنظومة الثنائية التي يقترحها (إضفاء المشروعية، نقض المشروعية - تمجيد الجماعة، إدانة الأعداء)، ينتظم تبعاً لنمط تناقضات الإيروس ودافع الموت.

إن كل الخطاب التمجيدي الذي يقدمه الخطاب السياسي، يدعو إلى الاستثمار الليبيدي حول مثل الجماعة، وإلى التحويل السلبي على أعداء الجماعة. وهكذا فإن هذه التحليلات المختلفة، التي قدمها فرويد، تلتقي لتفرض ضرورة إعادة التفكير في اندراج الذات في المجال السياسي، ولتضاعف أنماط الالتقاء بين العنصر الاجتماعي وهيئات الذات (...).

أما بالنسبة للسؤال الثاني، المتعلق بمعرفة كيف يمكن أن يكون استيهام ما، فردياً وجماعياً في الوقت نفسه، فإن فرويد يقترح في “السيكولوجيا الجماعية وتحليل الأنا” جواباً يقتصر فقط على العلاقات بين الذوات المتمايزة والرئيس. لكن الأبحاث التي تم إجراؤها على المجموعات الصغيرة، ثم على “المجموعات الموسعة”، تفسح المجال أمام فرضيات أخرى. إذ نشاهد فيها انتظام بنيات ليبيدية جماعية تفرض نفسها، بنيات لا تخضع لنمط ثابت، وتحقق تشكلات وجدانية متنوعة، وتلف كل المشاركين في حياة وجدانية حقيقية للجماعة. إن الطابع الجماعي للاستثمارات الوجدانية، لا يؤول فقط إلى مجموع تناظراتها، بل يتضمن شكلاً من أشكال القسر، الذي اعتبره دوركهايم معياراً للواقعة الاجتماعية.

 

الهوامش:

* P.Ansart  Approche des idéologie , in Analyse d idéologie Galillé 1983.

** مفكر مغربي وأستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط.

* P. Ansart : « La psychanalyse comme instrument danalyse des situations idéologiques » . Lhomme de la societé N : 51 –54 (1979) 9 154 - 155.

 


الإيديولوجيا والبنية النفسية *

بقلم: كويمبرا دوتوماس

 

للإيديولوجيا في حالاتها القصوى، مصدران متعارضان كليًّا. المصدر الأول هو البحث المستمر عن التماهي مع مثال للأنا على هيأة استدخال لموضوع مثالي، والخضوع له، وهي عملية لا يتم التوصل إليها بشكل نهائي، أما المصدر الثاني فهو تحقيق عملية تفتُّح وازدهار الفكر في علاقة متطورة مع أحد الموضوعات، وتشغيل الأنا الذي يستعمل لصالحه هذه الوظيفة التي نسميها الأنا المثالي.

عندما نتحدث عن الإيديولوجيا، سواء كانت إيديولوجيا سياسية، أو دينية، أو فلسفية، أو علمية، أو غيرها، فإننا نشير دوماً تقريباً إلى هذا الشكل من الإيديولوجيا المشتقة من بنية عتيقة لعلاقة الذات مع إحدى الموضوعات.

إن الموضوع المثالي الذي تم استدخاله في الذات، إضافة لصبغة مثالية على الجزء الجيد من الموضوع الكلي المقسوم، يشتغل كمصدر للتخفيف من الألم الذي يسببه الموضوع المضطهِد (بكسر الهاء)، الذي هو أيضاً موضوع قد تم استدخاله في الذات. ومعنى ذلك أن الموضوع المثالي صورة تعويضية، تم إنشاؤها لإبعاد الذات عن العلاقة الاضطهادية مع الصورة الشفوية الأولية والمخربة.

وهكذا فإن مثال الأنا هو بقايا هذا الموضوع القدسي، القوي كل القوة، والذي يفرضه الخضوع لمبدأ اللذة، وذلك بغية التوصل إلى الحالة النرجسية التامة التي انتهت مع الميلاد، والتي لا تحققها إلا جزئيًّا فقط وللحظات قصيرة، الغلمة الجنسية من بين كل إشباعات الحياة العادية.

إن الموضوع المثالي، الذي يتم الاحتفاظ به داخل الفرد كجسم أجنبي، هو موضوع مسقط باستمرار على الخارج، لأنه لم يتمثل تمثلاً كليًّا، بسبب طابعه المطلق. وفعلاً فإننا لا يمكن أن نتماهى مع موضوع في غاية الكمال، اللهم إلا عندما يسقط المرء صريع المرض النفسي، أي عندما يتم الاستغناء عن الواقع الخارجي ويحل الهذيان محله.

يمكننا أن نسقط هذا الموضوع المثالي على شخص آخر، لكننا لا يمكن أن نُبقي على هذا الإسقاط، لأن الآخر لا يبلغ درجة التطابق مع الموضوع المثالي. ولا أحد يصل إلى حد الكمال. إلا أن المثل العليا يمكن أن تصلح بالنسبة له كدعامة ملائمة، وخاصة إذا كانت هذه المثل مجسدة في شخص، وإذا لم يكن هناك إلا مثال واحد.

إن الاستيهام الأصلي الكامن خلف المضمون الظاهر للإيديولوجيا، يعبر إذن عن إشباع رغبة لا شعورية ذات قوة نرجسية كبيرة، وهي قوة غالباً ما يتم إسقاطها على أشياء أضفيت عليها صبغة القدسية، بينما ترتبط الرغبة بتجارب الإشباع المبكرة، والتي يبقى الفرد مشدوداً إليها أو ينكص نحوها. وفعلاً فإن تجارب الإشباع هذه هي التي تشعل الرغبة بمجرد عودة حالة الاحتياج، والإحساس بنقص شيء كان موجوداً. وقد أشار إلى ذلك فرويد من قبل: “تبدو الرغبة الأولى وكأنها كانت استثماراً هلوسياً لذكرى الإشباع”.

إن الاستيهام البدائي، عندما يتم إحياؤه بهذا الشكل، غالباً ما يتم تشويهه بواسطة متطلبات الدفاع، وبواسطة المعيش اللاحق.

وبهذا الشكل فإن الأفكار الظاهرة في الإيديولوجيا تمثل، كما هو الأمر في الحلم، العلامة المرضية (العرض) والسمة المزاجية للفرد، وتسوية أو حلاً وسطاً يتدرج بين غلبة جانب التعبير أو الجانب الدفاعي، أو غلبة الدوافع في الشخصية، على الرغم من أن الجانب الغالب هو الدفاع.

وبالتالي فإن الإيديولوجيا تقع على مقربة من تشكيلات رد الفعل (التكوينات العكسية) والعصاب الاستحواذي، أكثر مما تقع على مقربة من الهستيريا والميل إلى الأفعال الاندفاعية.

لاحظنا لدى مريض قمنا بمعالجته، ذي بنية استحواذية، وجود إيديولوجيا تصوفية تدفعه نحو حياة الزهد وكراهية البشر، وبدا أن هذه الإيديولوجيا هي بمثابة قوة دفاعية ضد النزوع إلى الجنسية المثلية، التي هي بدورها موقف دفاعي عن علاقة حلولية مع الأم، سابقة على المرحلة التناسلية.

فهو يشعر في معظم الأوقات أنه منهك، وفي الواقع فإن إيديولوجيته المتشددة والقاسية تجاه ذاته تشل حياته كلها، لأنها تجعله يبدد كل طاقته النفسية في صراع لا جدوى منه، فهو يعزل نفسه، وهكذا تصبح حياته سيراً حثيثاً نحو الانتحار، وهو سير تلعب فيه مثله الخاصة دور الجلاد أو السياف.

ومع ذلك فقد حقق خلال العلاج قسطاً من التقدم، لكن صعوبته في التماهي مع أبيه ومع محلله، جعلته يبقى مرتبطاً بِمُثُل تحول بينه وبين الوصول إلى تفتّح صريح على الفكر والتجربة.

وبالعكس فإن الإيديولوجيات بالمعنى المحدود للكلمة تتعلق بمنظومات من الأفكار، وبتيارات من الفكر، وبنظريات نعرفها جميعاً، والتي تخدم إلى حد كبير ازدهارنا الفكري.

فهي في علاقة مع جملة من التماهيات -وليس الإسقاطات- التي ترتكز على التماهي الثانوي مع الجنس الآخر من الوالدين، أو مع أحدهما من الجنس نفسه، بعد التماهيات البدائية (الإسقاطية) مع الأم والأب، وبعد معاناة التنافس الأوديبي، وبعد أداء دور الموضوع بالنسبة لأحد الوالدين الذي هو من الجنس نفسه. وفي عملية التماهي هاته مع أحد الوالدين الذي ينتمي إلى الجنس نفسه خلال المرحلة الأوديبية، نعثر على مصدر الأنا المثالي الذي هو وظيفة للأنا.

وبعد المعنى (ومع قبوله كما حدده Luzés في تمييزه بين مثال الأنا والأنا المثالي، وهو التمييز الذي لم ينل موافقة كل المؤلفين، لأن هذه المفاهيم -مثال الأنا والأنا المثالي- مفاهيم مختلطة قليلاً في الأدبيات التحليل-نفسية) فقد سبق لي أن قلت (في هذا المعنى الذي يعطيه Luzés والذي أتبناه): إن الأنا المثالي ليس -كمثال الأنا، ورماً في الجهاز النفسي- شيئاً دخيلاً على الشخصية يتعين علينا قذفه بسبب مطالبه الملحة في الكمال، رغم أننا نستمر في الخضوع له. فالمُثُل هي دوماً أشياء كبيرة بالقياس إلى لا جدوى الإنسان كما يظن الكثيرون، فالأنا المثالي وظيفة للأنا في خدمة تكيفه مع متطلبات الهو، وأوامر الأنا الأعلى ومقتضيات الواقع، وهو شرط الوجود المستقل للذات. وهو ليس كمثال الأنا المرتبط بمبدأ اللذة، بل هو تابع على وجه الخصوص لمبدأ الواقع.

وبعد التماهي مع شخص كنا قد أحببناه ووددنا لو كنا مثله، وبعد الإحباط الذي ألحقه بنا، فإننا نستطيع أن نكتسب معنىً للواقع، وأن نكون ذواتنا، وأن نحقق ازدهار قدرتنا الخاصة.

يمكن أن نجد أنفسنا في عملية تكون الإيديولوجيات، إما أمام إشكالية صراعية بين الهو والأنا الأعلى، وتمتد جذورها إلى العلاقة قبل التناسلية مع الموضوع، أو إلى الحاجة النرجسية، إلى أن يعيش المرء من جديد حالة القدرة الكاملة، أو أمام التعبير، عبر الأنا الضعيف أو المنهك، أي عن المكبوت (الهو) من خلال ألفاظ المثال، وذلك تحت تأثير أنا أعلى بدائي ومتشدد، أو على العكس من ذلك، أمام إعداد مرن لمجموعة من الأفكار، التي يستعملها ويحافظ عليها أنا يستعمل الطاقة الزائدة، ليفهم ما يحيط به فهماً أحسن، وذلك بمراعاة حاجاته الدافعة الخاصة، ومتطلبات واقع الآخرين وحاجاتهم.

وإذا كانت هناك إيديولوجيات (النرجسية) مماثلة في منشئها وغايتها للجنون، فإن هناك إيديولوجيات أخرى -لا أود أن أسميها إيديولوجيات، بل فقط فرضيات بحث- تعكس علامات النضج.

ما قلته الآن يمكن أن ينطبق على كل تعبيرات الفكر الإنساني، بما في ذلك التحليل النفسي -الذي يمكن أن ينزلق في إيديولوجيا مغلقة وبدون منافذ- كما يمكن أن يكون، إذا ما كان منفتحاً على البحث، أداة مثلى لفهم الإنسان.

* خلاصة

لكي نبرز دينامية التكوين النفسي من حيث الارتباط بإيديولوجيا معينة، ندرس قطبي النسيج الإيديولوجي.

في إحدى الجهات، نشاهد إيديولوجيا مغلقة وذات صبغة عقدية متشددة، كما لو كانت ديناً، وهي إيديولوجيا تتولد عن علاقة بموضوع عتيق، قبل تناسلي. أما الموضوع المؤمثل (الذي أضفيت عليه صبغة مثالية)، الموضوع الجزئي غير المؤله، الناتج عن سيادة مبدأ اللذة والقوة الكلية للأفكار، فهو مسقط على المثال - وهو الدعامة الملائمة لهذه الإيديولوجيا- إذ إنه نسيج شبيه بنسيج الهذيان، والبنية النفسية التي تهيئ الإيديولوجيا أو تتلقاها، بنية شبيهة ببنية الذهان.

نورد مثالاً عيادياً:

قبل كل شيء، الإيديولوجيا تقدم نفسها كدفاع ضد النزعة الجنسية المثلية الكامنة. وخلال النكوص نرى أنها تخفي الانهيار في علاقة، مع فقد الموضوع الأولي، وأعمق من ذلك مظاهر قلق ذات ميل عظامي (نسبة إلى داء الإحساس الحاد بالعظمة)، أمام التهديد بعلاقة انصهارية. وهناك صعوبة حادة تتمثل في التماهي مع المحلل كأب -حيث تكون الحركات استدخالية- وهي صعوبة تعوق التقدم.

وفي القطب المقابل، نشاهد الإيديولوجيا المتفتحة، العملية بالمعنى الحقيقي، المشيدة في علاقة بموضوع لاحقة للمرحلة الأوديبية ومتطورة.

وفي هذه الحالة يتقبل الآخر ويعرف به، كما يتم فهم التناقض وعدم التلاؤم، ويعاش المثلث الأوديبي ويتم إعداده بصورة عادية.

في الشكل الأول -الإيديولوجيا بالمعنى الجاري- يشكل قسم الأنا الأعلى البدائي، أي مثال الأنا، ورَماً حقيقياً يخترق الشخصية.

وفي الحالة الثانية، حيث تشكل نظرية من النظريات أو فرضية من الفرضيات مجموعة من الوقائع التي لم تكن من قبل غير ركام من الأشياء الخالية من الدلالة (بوانكاري: العلم والمنهج)، فإن إحدى وظائف الأنا، وهو الأنا المثالي، يتحكم في عملية التكيف الاجتماعي للفرد.

إن التعبير الكامل عن الفكر الإنساني، يمكن أن يتجه صوب الطرف القاتل الذي هو طريق الإيديولوجيا بالمعنى القوي، وذلك عندما تضغط القدرة الطفولية وتفرض علينا الإحساس بها. والتحليل النفسي، لا يفلت هو ذاته من هذا الخطر.

 

الهوامش:

* العنوان الأصلي للمقال: “حول الإيديولوجيات” منشور بالمجلة الفرنسية للتحليل النفسي (1969م).

 


الإيديولوجيا*

بقلــــم: جوزيف غابــل

 

يحتل مشكل تحديد المفاهيم مكانة هامة في علم السياسة. فقد لاحظ
(
F. Bertier) أن “هناك ميلاً في العلوم نحو المزيد من الدقة، وسعياً نحو محاولة استبدال الكلمات العائمة في المنطق الصوري برموز محددة تحديداً جيداً، أما في لغة السياسة فالأمر عكس ذلك حيث تهيمن باستمرار أشد أنواع الخلط سوءاً”.

وقد جمع Kluchohn وKrober بضع مئات من التعاريف المختلفة للثقافة، ولعل محاولة مماثلة بالنسبة للإيديولوجيا ستعطي بدون شك النتيجة نفسها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم الإيديولوجيا -وهو مفهوم أكثر تسيُّساً من مفهوم الثقافة- مصاب بالدوغمائية، فكثيراً ما يتم تقديم تعريف ليس أكثر ولا أقل نسبية من تعريف آخر، لكنه مكرّس من طرف إحدى السلطات، مما جعله ينسب للمتمسكين بتعريفات مخالفة له صفات الجهل والالتباس.

ولعل أحسن طريقة -إن لم تكن الطريقة الوحيدة- للتوصل إلى حد أدنى من الموضوعية، هي تجميع التعاريف المختلفة لاستخلاص “نموذج مثالي”، نتصوره من حيث قيمته الأداتية. وهكذا فإننا بمقابل المطالبة الوهمية بموضوعية مطلقة، نقدم بذلك نوعاً من الذاتية المقبولة وذات “الأداء الوظيفي”.

وستأتي حقًّا فترة تؤدي فيها نتائج العديد من البحوث إلى تعريفات يقبلها الجميع. وهذا الطور قد بلغته العلوم الطبيعية والقطاع الكمي من العلوم الإنسانية، لكن علم السياسة بعيد عن ذلك، هل هناك تعريف واحد مقبول من طرف الجميع، لمفاهيم في مثل أهمية “الفاشيّة”، “اليسار” أو “اليمين”. لذلك فلن نندهش للمكانة المخصصة هنا للبحث عن تعريف، إن هذا البحث ليس فقط مقدمة أولية للعمل العلمي في علم الاجتماع السياسي، بل هو بعد من أبعاد هذا الأخير.

-1-
تمييزات أساسية: المفهوم المحايد والمفهوم القدحي

لعل من المهم بادئ ذي بدء أن نسجل التباساً أساسياً: إن لفظ “إيديولوجيا” يستخدم أحياناً بمعنى محايد، حتى لا نقول بمعنى مدحي، وأحياناً يستعمل بمعنى نقدي (قدحي). يشير رايمون آرون إلى وجود “نوع من التردد، في الاستعمال الجاري، بين الاستخدام القدحي النقدي، أو الجدالي للإيديولوجيا -الإيديولوجيا هي الفكرة الخاطئة، وتبرير المصالح والأهواء- والاستخدام المحايد، أي التنظيم المتفاوت في الدقة لموقف تجاه الواقع الاجتماعي أو السياسي، والتأويل النسقي بهذا القدر أو ذاك لما هو موجود ولما هو مأمول، وفي النهاية فإن أي خطاب فلسفي هو خطاب إيديولوجي. في هذه اللحظة تصبح الإيديولوجيا لفظاً مدحياً لا قدحياً” (آرون: ثلاث دراسات حول العصر الصناعي)، يميل الماركسي الأصولي، منذ بعض الوقت، نحو الرجوع إلى الاستخدام المحايد (هـ. شامبر. انظر أيضاً التعريف اللاحق لألتوسير) مما هو مؤشر في الوقت نفسه على ابتعاده عن التصورات الخاصة بماركس وعن مظاهر تقدم عملية أدلجة الماركسية لحساب فوزها السياسي.

الإيديولوجيا والبنية الفوقية

هناك تمييز ثانٍ مهم فيما يخص نتائجه الإبستمولوجية، وهو التمييز بين البنية الفوقية والإيديولوجيا. وهو تمييز مرتبط بالتمييز الذي يقيمه بعض المؤلفين الأنجلو ساكسون بين أصل وتحديد Détermina اجتماعي للفكر: مفهوم الأصل يشير إلى مجرد علاقة علية اجتماعية، في حين أن لفظ تحديد يعبر بالأحرى عن الانتماء إلى بنية جزئية “كفاحية”، يمكن أن نتوجس فيها نوعاً من “التعسف”. والبنيات الفوقية، حسب هذا التعريف، من أصل اجتماعي، أما فيما يخص الإيديولوجيات فهي محددة بواسطة الانتماء إلى كلية فرعية: طبقة، جيل، كيان أخلاقي أو ثقافة فرعية. “قانون الوسط” المشهور يقدم لنا، من وجهة النظر السوسيولوجية، مثالاً جيداً للإيديولوجيا، معرفة على أنها تقنين للمصالح الخاصة بكلية جزئية “كفاحية”.

تصنيف كارل مانهايم

يمكننا -إذا ما قمنا بتبسيط تصنيف مانهايم- أن نميز المفهوم الجزئي والخاص (الجدالي) للإيديولوجيا، عن مفهومها الشمولي والعام (البنيوي). فالأول يتضمن بوعي الأنانية العادية في الحياة السياسية: الإيديولوجيا هي الفكر السياسي للآخر. وهو بالإضافة إلى ذلك يظل في المستوى النفسي، ويعني إما التضليل المقصود، أو الخطأ الراجع إلى “وضعية طبقية”. وبالنسبة للمفهوم الكلي (البنيوي) فإن الأدلجة عملية عامة تطبع كل أشكال الفكر الملتزم، وهو ما يفسر أن الفئة التي تحمل الوعي الصحيح، بالنسبة لمانهايم، ليست هي البروليتاريا المنخرطة في الحركة التاريخية، بل هي فئة المثقفين الخالية من الارتباطات.

المقولة المركزية في هذا المفهوم الكلي والعام ليست إذن هي التضليل المقصود أو الخطأ، بل هي تحول الجهاز المفهومي للفكر من خلال منظور خاص. وعلى العموم فإن في ذلك تطبيقاً لنسبية اينشتاين في ميدان الفكر السياسي.

إن هذا التصنيف -من بين أعمال مانهايم المتشابكة والمعرضة غالباً للانتقاد- ما يزال إلى الآن صالحاً. فهو يمكننا من فرز بقايا التمركز الاجتماعي الذي يطبع الماركسية، والذي يمكن أن يصيب نقدها الإيديولوجي بالعقم. إن إلصاق تهمة التضليل المقصود بإيديولوجيا الخصم، معناه إغلاق الباب أمام التحليل السوسيولوجي. وبالإضافة إلى ذلك فهو يمكن من ربط مشكل الإيديولوجيا بمشكل الوعي الخاطئ.

يشير ريمون آرون من جهته إلى أن قضية الاستلاب وقضية الوعي الخاطئ “قضيتان متلازمتان” (من عائلة مقدسة إلى أخرى. دراسة في الماركسيات المتخيلة).

الإيديولوجيا والوعي الخاطئ

لا نستطيع هنا الموافقة على الرأي التبسيطي لبول كاهن (P. kahn)، الذي يدعي أن مانهايم “يطابق بين الوعي والمفهوم الكلي للإيديولوجيا”، فالأشياء أكثر تعقيداً من ذلك. فبالنسبة للمفهوم الجزئي والخاص للإيديولوجيا -أو بعبارة أخرى بالنسبة للفكر السياسي المتحيز-، نجد أن مسألة العلاقات بين الإيديولوجيا والوعي الخاطئ ليست مطروحة، فالقول بأن فكر الخصم يتطور في مناخ من الوعي الخاطئ، معناه أن نوفر له ظروفاً مخففة. ومن ناحية أخرى فإن المسألة، في هذا المنظور، لن تكون متعلقة بتطبيق مقولة نقدية على الفكر السياسي الخاص بنا، أما فيما يخص المفهوم الكلي والعام للإيديولوجيا، فإن علاقاته بالوعي الخاطئ هي نفس العلاقات التي ارتآها و. باريتو W. Pareto بين المشتقات والبقايا، فالإيديولوجيا هي التعبير -أو إذا شئنا التبلور النظري- عن الوعي الخاطئ.

وبفضل هذا التعريف، فإن الإيديولوجيا هي دوماً قرينة الوعي الخاطئ. لكن يمكن أن تكون هناك أشكال كثيفة من الوعي الخاطئ دون تبلور نظري حقيقي. فدرجة تأدلج مجال سياسي ما ليست بالضرورة متناسبة مع شدة وكثافة وعي الخاطئ. فالتمركز حول الذات، وهو قوي في ولايات الجنوب، تمركز متأدلج قليلاً فقط، في حين أن نزعة التمركز الألماني حول الذات كانت، عكس ذلك، جد متبلورة نظرياً.

الإيديولوجيا واليوتوبيا

يهدف تصنيف مانهايم إلى توضيح هذه المسألة المهمة، ومع ذلك فإن مؤلف “الإيديولوجيا واليوتوبيا” عندما يتناولها ينتاب مساره نوع من التذبذب المثير للانتباه. يتصور مانهايم أن الإيديولوجيا واليوتوبيا مرتبطان بالوعي الخاطئ. كما أنهما كليهما “متعاليان على الكائن الاجتماعي”. فالإيديولوجيا، من حيث إنها متجهة صوب الماضي، ستكون وظيفتها هي الحفاظ على الوضع الاجتماعي، في حين أن اليوتوبيا، وهي مشرئبة نحو المستقبل هي عامل ثوري. ومدلول “التعالي على الكينونة الاجتماعية” يحتاج، في نظر الشخص ذي التصور التاريخاني، إلى دليل، إذ إن الإيديولوجيا “وهي مركزة حول الماضي”، ستكون بالأحرى متجاوزة من طرف الكينونة الاجتماعية بدل أن تكون مجاوزة لها. وبالإضافة إلى ذلك فإن مانهايم يتجاهل الالتباس الكبير لمفهوم اليوتوبيا، الذي يعني أحياناً سلوكاً فردياً فصامياً، وفراراً إلى أحلام عقيمة، ويشير أحياناً أخرى إلى الجماعات التي تحلم باللاممكن لتحقق الممكن. الشكل الأول لليوتوبيا يتجاهل التاريخ (ر.روير Ruyer)، في حين يتدخل الشكل الثاني فيه بقوة. في إطار هذا الاستعمال الثاني سيقترب مفهوم اليوتوبيا بالأحرى من مفهوم الأسطورة الاجتماعية.

وهذان الشكلان يقبلان في النهاية زمانين تاريخيين مختلفين: اليوتوبيا السيكولوجية تندرج ضمن مكان ذي صبغة زمنية، في حين أن اليوتوبيا الاجتماعية السياسية تقع في زمن انفجاري. وبالتالي فإن من الخطر دمجهما في مفهوم واحد، وأن نعتبر أن هذين المدلولين يتضمنان الوعي الخاطئ، فهذا أمر ممكن، بل ومحتمل، لكن مفهوم الوعي الخاطئ ذاته سيصيبه حينئذ الالتباس الخاص باليوتوبيا، وسيدل تارة على موقف متطرف ذي نزعة فكرية (عقلانية معتلة)، وتارة أخرى على دوار في العمل. أما القيام بصياغتهما معاً صياغة مفهومية، فهي محاولة لا غبار عليها من الناحية المنطقية، لكنها عقيمة منهجياً. لأنها ستحول دون إمكان تطوير نوع من البحث الشمولي.

إن هذا الفحص الأولي، قد أبرز بعض الصعوبات المتعلقة ببحث يتعين عليه الاختيار بين العقم والتعسف. من الضروري إذن إبعاد التعريف “المحايد” للإيديولوجيا، هذا المفهوم الذي لن يفتح الآفاق عملياً إلا على بحوث مونوغرافية. كما أن مفهومها الجدالي (“الجزئي” و”الخاص” حسب تعبير مانهايم)، هو ذاته مشحون بالإيديولوجيا، بحيث لا يصلح كأداة للبحث.

يجب أن يكون هناك تمييز بين مدلولي الإيديولوجيا والبنية الفوقية ذاتها، بمساعدة معايير كالفرق بين الأصل والتحديد. ولعل هذا التمييز لن يكون دوماً سهلاً. فالعلم بنية فوقية ذات أصل اجتماعي. ونظرياته يمكن مع ذلك أن تدخل في سياقات إيديولوجيا يتحكم في توجهها الانتماء إلى بنيات فرعية نضالية. ومع ذلك فإن هذا التمييز ضروري ولا مناص منه. إن من الصعب التوصل إلى نظرية شاملة حول ظاهرة يعرفها كل باحث بطريقته الخاصة. لكننا يمكن أن نحد من اعتباطيتها إذا نظرنا إليها نظرة مفتوحة، وإذا أشرنا بدون لبس إلى السمة الأداتية للتعارف المستعملة. ولنذكر الجرَّاح الذي يستبدل أدواته باستمرار خلال العملية.

وهكذا كان علينا أن نتخلى، لأسباب تقنية، عن دراسة ظاهرة الالتقاء الإيديولوجي، التي هي مع ذلك ظاهرة مهمة، والمقصود منها القرابة القائمة حول بعض الموضوعات، بين إيديولوجيات بورنهام (P. Burnham)، بمثابة فرعين من الإيديولوجيا التحكمية والتوجيهية. والحال أن المفهوم التقليدي للإيديولوجيا من حيث هي “منظومة شاملة لتأويل العام التاريخي - السياسي” (ر. آرون: ثلاث دراسات في العصر الصناعي)، ربما كان مفهوماً أكثر إجرائية، بالنسبة لهذا البحث الخاص، من مفهومها النقدي. بتطرقنا لهذا الباب، يكون للباحث كامل الحق في أن “يغير أدواته” شريطة أن يشير إلى ذلك بدون لبس.

-2-
تعريف الإيديولوجيا ومحاولة إنشاء نموذج مثالي

“نحصل على نموذج مثالي، بتضخيمنا -من جانب واحد- لوجهة نظر واحدة، أو لعدة وجهات نظر، وبالربط بين العديد من الظواهر المنعزلة، المشتتة والمتكتمة، التي نعثر عليها أحياناً بأعداد وفيرة وأحياناً بأعداد ضئيلة، وقد لا نعثر عليها في بعض الأحيان، والتي ننظمها تبعاً لوجهات النظر السابقة المختارة من جانب واحد، بقصد تشكيل وحدة متجانسة” (ماكس فيبر: “بحوث في نظرية العلم”).

سنستعرض إذن عدداً من التعريفات الكلاسيكية للظاهرة الإيديولوجية، بهدف استخراج “نموذج مثالي”. وليست أية واحدة من هذه التعريفات “صحيحة ولا خاطئة”. فكل منها تعكس أحد جوانب الظاهرة الإيديولوجية، التي تظهر للملاحظ بارزة بشكل خاص. وهكذا فالعملية التركيبية هي هنا خطوة نحو الموضوعية.

بعض النصوص

- “الإيديولوجيا عملية يقوم بها ذلك الذي يظن أنه يفكر بوعي، دون شك، لكن بوعي خاطئ، إن القوى الحقيقية التي تحركه تظل غير معروفة لديه، وإلا فلن تكون تلك عملية إيديولوجية. وهكذا يتخيل قوى خاطئة أو ظاهرة. وبما أن الأمر يتعلق بعملية فكرية، فهو يستخلص منها مضمون وشكل الفكر الخاص، سواء من فكره الخاص أو من فكرة السابقين عليه. إنه أمام مواد فكرية على وجه الخصوص، وبدون أن يتفحصها عن كثب، فهو يعتبر هذه المواد آتية من الفكر، ولا تراه يهتم بما إذا كان لها أصل أبعد من الفكر ومستقل عنه. وهذه الطريقة في التفكير بالنسبة له هي البداهة عينها. لأن كل فعل إنساني يتم بواسطة ومن خلال الفكر، يبدو له في آخر المطاف قائماً أيضاً على الفكر” (أنجلس).

- “لا يهمنا هنا تاريخ الطبيعة، وهو ما ندعوه بالعلوم الطبيعية، لكن علينا أن نهتم بتاريخ البشر، لأن الإيديولوجيا كلها تقريباً تؤول إما إلى تصور مغلوط لهذا التاريخ، أو إلى تجريد كامل لهذا التاريخ” (ماركس).

- “الإيديولوجيا منظومة (ذات منطق خاص ونظام داخلي خاص) من التمثلات (صور - أساطير - أفكار أو مفاهيم حسب الحالات) المتمتعة بنوع من الوجود، وبدور تاريخي في مجتمع محدد. وبدون أن نتطرق إلى مشكل العلاقات بين العالم وماضيه (الإيديولوجي)، نقول بأن الإيديولوجيا، من حيث هي منظومة من التمثلات، تتميز عن العلم من حيث أن الوظيفة العملية - الاجتماعية تتغلب فيها على الوظيفة النظرية (أو وظيفة المعرفة)” (ألتوسير).

- “نعني بالإيديولوجيات تلك التأويلات للوضعية، هذه التأويلات التي ليست نتاج تجارب ملموسة، بل هي نوع من المعرفة المشوهة لهذه التجارب، التي تستهدف طمس معالم الوضعية الحقيقية، والتي تؤثر على الفرد كضغط خارجي” (مانهايم).

- “الإيديولوجيا منظومة شاملة لتأويل العالم التاريخي - السياسي” (ر. آرون).

- “وظيفة الإيديولوجيا هي تقديم توجيهات تتعلق بالعمل الفردي والجماعي” (م. رودنسون).

- “الإيديولوجيا هي التعبير الفكري المتحدد تاريخياً عن وضعية المصالح” (مينيك).

- “الإيديولوجيا مركب من الأفكار أو التمثلات تبدو للذات وكأنها تأويل للعالم أو لوضعيتها الخاصة. والتي تقدم لها حقيقتها المطلقة، لكنها تقدمها على شكل وهم تبرر به الذات نفسها وتخفي ذاتها. وبصورة أو بأخرى، لكن كل ذلك في مصلحتها المباشرة. أن نعتبر فكراً ما فكراً إيديولوجيا معناه أن نكشف عن خطأ، وأن نكشف القناع عن الشر، وأن ننعت فكراً ما بأنه إيديولوجي معناه أن نأخذ عليه كونه كاذباً وغير مستقيم، وليس هناك ما هو أعنف من هذا الهجوم” (ياسبرز).

استنباطات حول المضمون

يشير (ف. شاتليه) إلى أن الإيديولوجيا مشيئة، فهي تهدف إلى “إبقاء الوضع الحالي للأشياء، فهي في جوهرها مضادة للتاريخ. ويشير (م. رودنسون) من جهته، إلى الطابع الثنائي للإيديولوجيا، هذا الطابع الذي يصادر على “التنقيص من قيمة كل الصراعات غير تلك التي يجد المرء نفسه منخرطاً فيها”. أي إضفاء صبغة مثالية على الجماعة التي ينتمي إليها الشخص، و”إضفاء صبغة شيطانية” على الخصم. ومقال رودنسون في غاية الأهمية بالنسبة لموضوعنا، لأنه يظهر تواجد عناصر إيديولوجية في فكر ماركس، أي عناصر تضرب جذورها في وجوده كمناضل، بجانب معطيات علمية.

وقد أقام (ل. غولدمان) تمييزاً مفيداً بين الإيديولوجيا ورؤية العالم. وهذه الأخيرة بالنسبة له - في الحدود المرسومة من طرف الوضعية التاريخية - رؤية شاملة، أما الإيديولوجيا فهي ترتبط بنظرة جزئية، ومن حيث إن غولدمان ماركسي ملتزم، فهو يخص الطبقات “الصاعدة” بميزة امتلاك “رؤية شمولية، وفي ذلك ترويج للدلالة التاريخية للستالينية. وتحت هذا التحفظ نجد لدى غولدمان عنصرين ضروريين في إنشاء “النموذج المثالي” للإيديولوجيا، وأهمية المقولة الجدلية التي هي الكلية، حيث تكون الإيديولوجيا رؤية مبعدة للنظرة الشمولية، وغير جدلية، وكذا فكرة المعامل المتمركز للأنا، فالإيديولوجيا هي في الغالب التعبير عن وهم المركزية. العنصر الأول يحيلنا إلى مفهوم امتلاك الوعي (awarness) كما حدده كارل مانهايم في مرحلته الأنجلو ساكسونية، أما العنصر الثاني فيحيلنا إلى بعض مظاهر سيكولوجية الطفل، فقد أبرز جان بياجيه فعلاً وجود شكل من “اللاتاريخية الخاصة بالطفل” وأظهر أيضاً وجود شكل من الأخلاق “الموضوعية” الإيديولوجية جداً، والتي هي أخلاق تنصب على النتائج لا على النيات. والحال أننا نميز بين مركزية الأنا، وتضاؤل الحس الجدلي، أكثر من مجرد تعايش، فمن الممكن أن نستنبط أحدهما من الآخر. وإمكانية مثل هذا الاستنباط تظهر جيداً فائدة أحد أشكال منهج الفهم في علم الاجتماع. والإيديولوجيا الستالينية يمكن أن تصلح هنا كنموذج. ففي العالم الذهني الذي تخلقه الستالينية يتضمن الموقع المركزي، المتميز للحزب - أو بالأحرى للمركب: حزب - روسيا - ستالين - منطقياً رؤية ثنائية للتاريخ، متصوراً على أنه صراع بين مجموعتين متجانستين. ومن ثمة الميل إلى المطابقة والتوحيد بين مختلف عناصر الطرف الآخر (انظر “مسلمة العدو الوحيد” لجان ماريدوميناك في كتابه الدعاية السياسية)، وكذا إلى تفسير التاريخ على أنه تحقق خارجي لمؤامرة تقع خارج التاريخ (م.سيربر). وإذا كانت المطابقة، من وجهة النظر الإبستمولوجية، تقنية صالحة (إ.ميرسون) فهي في الوقت نفسه تقنية مضادة للجدل. فالإيديولوجيا يحركها فكر مضاد للجدل أساساً، وما ظاهرة “المطابقة المتسلسلة”، التي أشار إليها ريمون آرون في “أفيون المثقفين”، إلا وجه من ظاهرة أعم، تهم من بين ما تهم، علم النفس المرضي. وبمجرد الاعتراف بالطابع التمركزي للإيديولوجيا حول الأنا -وهو ليس سوى النتيجة المنطقية لدورها كأداة كفاح-، فإن اللاتاريخية الإيديولوجية التي تحدث عنها ماركس، تصبح بدورها ضرورة منطقية.

يظهر هذا “الاستنباط المفهومي” بوضوح كبير في حالة الستالينية، ويمكننا استعمال هذا المثال كعنصر برهان بالمماثلة في حالات أخرى، لا يفسح فيها تعقد معطيات الظهور إلا للتواجد فقط، ومن ناحية أخرى فإن التاريخ الحالي قد تفكل بمهمة تقديم البرهان العكسي على هذه الفرضية، كتشتت المعسكر الشيوعي.

ليس من الضروري -وعلى كل حال من الصعب في إطار محدد- الإكثار إلى ما لا نهاية من أمثلة “الاستنباط المفهومي”، ويمكننا الآن أن نقترح “لوحة فكرية متجانسة”، (أو بالأحرى متناسقة)، عن الإيديولوجيا، أو بعبارة أخرى “نموذجها المثالي” حسب معايير ماكس فيبر. عناصر هذه اللوحة المتناسقة لا تتواجد فيه فقط مجرد تواجد، إذ يمكننا أن “نستنبط مفهومياً” أحدهما من الآخر: الإيديولوجيا منظومة تعبر بدون تبادل عن المصالح الواعية بهذا القدر أو ذاك لهذه المجموعة، على شكل من أشكال الوعي الزائف.

الإيديولوجيا ورفض النزعة التاريخية

إن ظهور اتجاه ماركسي اليوم يناهض بوعي النزعة التاريخية، أمر يطرح على نظرية الإيديولوجيا مشاكل خاصة. إن هذه النظرية -في رأينا- هي ذاتها إيديولوجيا، من حيث إنها تبرير للاتاريخية و “لمركزية الحاضر” المميزة للفكر السياسي في الفترة الستالينية. توجد فعلاً في الستالينية قطيعة فعلية بين سوسيولوجيا الماضي وسوسيولوجيا الحاضر، فالأولى تعطي الأولوية العِلِّيّة للعامل الاقتصادي، في حين أن إدارة الحزب المقرِّرة (الراء الأولى مشددة ومكسورة)، وفاعلية علية القوم، تتدخلان بفاعليه وقوة في سوسيولوجيا الحاضر. فالستالينية إذن هي مادة الماضي ومثالية الحاضر. فمحاكمات التطهير قد كسرت مظهراً آخر لأولوية الحاضر: التعديل اللاحق لماضي المتهمين من خلال متطلبات الحاضر. “لا يصبح المرء خائناً، بل هو كذلك دوماً”. وتلك هي الأيلية السياسية المحضة. وقد صاغ لوكاتش، منذ 1923م -من حيث هو تاريخاني منسجم مع نفسه- صاغ تحذيراً واضحاً ضد محاولة إعطاء مكانة اجتماعية - تاريخية متميزة للحاضر.

والحال أنه يبدو أن بعض عناصر المذهب الألتوسيري تشكل تبريراً -شعورياً أو لا شعورياً- لهذه النزعة الأيلية. فالامتياز اللامشروع، و”الإيديولوجي”، للحاضر يصبح هنا “علمياً” بفضل استعمال مصطلحات ملائمة. يتحدث ألتوسير عن “الأولوية الإبستمولوجية المشروعة للحاضر على الماضي”، التي يبدو حسبها أن “النظر إلى الماضي من خلال الحاضر” ليس “إيديولوجياً”، بل معرفة “علمية”. وتلك فعلاً، إيديولوجيا في صورتها الخالصة.

إن من الجائز أن نقبل مع الفيبريين فكرة الأولوية المنهجية للحاضر: فالمؤرخ ينتقي الأسئلة التي يطرحها على الماضي من خلال معاييره الحالية. إن الحديث عن أولوية إبستمولوجية يتضمن إمكانية تشويه لاحق للواقع التاريخي بدلالة المتطلبات المتغيرة للحاضر، والأمثلة التي ما تزال قريبة العهد والمتعلقة بالمحاكمات التطهيرية، تظهر أن تلك ليست وجهة نظر متعلقة بالفكر.

من المثير للدهشة أن الألتوسيريين يميلون إلى مؤاخذة النزعة التاريخية، من حيث إنها تهمل الخصوصية التاريخية. “إن المشروع المتمثل في تصور الماركسية كنزعة تاريخية (مطلقة)، يبعث آلياً التأثيرات المتلاحقة لمنطلق ضروري، يهدف إلى اختزال الكلية الماركسية، ومطابقتها مع نسخة معينة من الكلية الهيجلية، وينتهي- حتى وهو يحتاط بالقيام بتمييزات ذات طابع بلاغي، إن قليلاً أو كثيراً- إلى طمس واختزال أو إخفاء الفروق الفعلية التي تفصل بين المستويات “ (ألتوسير وباليبار).

ونحن نود أن نرى أمثلة ملموسة لدعم هذه الاعتبارات الغربية، وفي انتظار دليل مضاد، فإن المتمسكين بالنزعة التاريخية يبدو أنهم أفضل حراس هذه الخصوصية، أكثر من تلاميذ ألتوسير. والمثال المثير، فعلاً، بصدد هذا المسار الذي “ينتهي إلى طمس واختزال أو إخفاء الفروق الفعلية التي تفصل بين المستويات”، يأتي بالضبط من أحد أتباع ألتوسير. فقد كتب E.Terry في كتابه المهم، المخصص لمشكل التطبيقات الإتنولوجية للمادية التاريخية، ما يلي: “نحن نعلم أنه بالنسبة لماركس، لم تظهر الطبقات “في صورتها الخالصة” إلا عندما أرسى نمط الإنتاج الرأسمالي هيمنته. وعندما يصبح نمط إنتاج آخر سائداً -عبودياً أو إقطاعياً مثلاً- فإن الطبقات تقدم على شكل عشائر أو أنظمة أو ظروف”. والإحالة على ماركس هنا إحالة كاملة. يحيل Terry إلى نص كلاسيكي، حقًّا، لكن قيمته العملية الضئيلة قد أشير إليها من طرف (ج. غورفيتش).

وفي هذا الصدد، يأخذ تمييز رودنسون بين “ماركس عالم الاجتماع” و”ماركس المنظر الإيديولوجي”، كل قيمته وفائدته. ليس هناك، من وجهة النظر العلمية، مقياس مشترك بين نضال العبد القديم، الخالي تماماً من أية عناصر طوباوية، وبين نضال البورجوازي سنة 1789م، وهو نضال محمل بيوتوبيا تعادلية، كما أنه ليس من الممكن إقامة تصور مشترك، يضم العشائر الهندوسية الخالية من الحركية الاجتماعية، وفئات ميدلتاون الأمريكية. وعندما قام ماركس بالمطابقة بينهما، فقد مارس كإيديولوجي نوعاً من “المطابقة المتسلسلة”، التي ما تزال بقاياها الإيديولوجية حية إلى اليوم.

ليس هناك أي شيء يسمح لنا باعتبار التاريخ الماضي كمقدمة لحاضر “متميز وممتاز”. اللهم إلا من خلال قبولنا لأرضية وجود معنى خفي للتاريخ، ولا ينقص E.Terry إلا مدلول فكر فوق إنساني وفوق تاريخي حتى يلتحق تصوره بتصور Boussuet، هكذا نرى إذن أنه يكفي أن يدير المرء ظهره لنزعة التاريخية حتى يسقط في الميتافيزيقا، وتلك هي الخلاصة التي ننتهي إليها في هذا الجرد العام.

مقاومة التغير

يمكن كذلك أن نقوم بتحليل مناظر لإيديولوجيا مختلفة تماماً. فالنقد الذي يوجهه محمد جسوس لنظرية التوازن الاجتماعي Equilibrum Theory عند تالكوت بارسنز، يبين أن نظرية ذات طابع علمي يمكن أن تؤدي دور تبرير إيديولوجي. وهنا يمكن أن نشير إلى التوازن مع الوظيفة الإيديولوجية للألتوسيرية، التي رأيناها سابقاً. تظهر الإيديولوجيا في هاتين الحالتين كعامل مقاومة للتغير.

تهدف نظرية التوازن الاجتماعي هاته، “إلى إظهار الكيفية التي يعمل بها مجتمع ما، في حالة ما إذا شكل نظاماً متوازناً توازناً قاراً. تخلق نظرية التوازن تصوراً خاصاً للدينامية الاجتماعية، وهي تساعد على تفسير ثلاثة أنماط من التغيرات الحادثة في التنظيم العالمي: (أ) تغيرات ضرورية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي (“الحركات الدورية” المرحلية، وتمايز البنية الاجتماعية)، (ب) تغيرات أخرى متلائمة مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي (نمو بعض المتغيرات نمواً تراكمياً على مدى طويل)، (ج) وأخيراً التقلبات المحدودة والمقابلة للانعكاس حول وضعية تتميز بالتوازن الاجتماعي.

“ولعل تحليلاً أكثر دقة لهذه النتائج، يكشف أن نظرية التوازن تتضمن عدداً كبيراً من النقائص والحدود التي يمكن أن تؤذي البحث السوسيولوجي.

أولاً: لأنها تركز على القوى ذات المنشأ الخارجي، من حيث إنها هي المصدر الأساسي للتغيرات البنيوية، بحيث يبدو أن نظرية التوازن تكاد توحي بأن التوترات الاجتماعية العنيفة تحدثها أسباب خفية، وربما أسباب لا يمكن معرفتها.

ثانياً: لا تقدم لنا هذه النظرية أي تفسير مقنع لعملية التكيف الجماعي مع التوترات الاجتماعية.

ثالثاً: لأنها تصادر على أن التغيير الاجتماعي هو دوماً حركة تسير في اتجاه التوازن، وفي اتجاه دمج واختزال التوترات الاجتماعية، وبذلك فإن نظرية التوازن تحكم على نفسها بأن تبقى غير قادرة على فهم ديناميكية الثورات، والطفرات الاجتماعية، والانعطافات الفجائية في مسار التطور الاجتماعي.

رابعاً: يبدو أن نظرية التوازن غير قادرة على تفسير وتقديم أهمية وسعة التغير الاجتماعي، لأنها غير قادرة لا على استشراف شدة التوترات البنيوية، ولا على تحليل أنماط التكيف الجماعي التي ينتج عنها تحليل مضبوطً”. (عن الخلاصة الفرنسية لمحمد جسوس).

من أجل أن نبين الدلالة الإيديولوجية لهذه النظرية، يتعين أن نتذكر أهمية نفي التغير في “الإيديولوجيا المنتشرة”، أو بعبارة أخرى في الوعي الزائف - حول الحياة الأمريكية التقليدية. فالأمريكي المتوسط مقتنع صراحة بأن “الآباء المؤسسين” قد خلفوا له سير المجتمع الكامل، واحترامه شبه السحري لـ”دستور” بلاده يعود إلى هذه النفسية عينها. ولعل تاريخ أي بلد ذي أهمية لم يعرف - باستثناء السويد - عدداً قليلاً من التغيرات.

إن النفسية التقليدية للأمريكي المتوسط، يمكن أن تتلاءم مع فكرة التغيرات الميلية التي تذهب في اتجاه التحسن، فالتغيرات البنيوية تفهم فهما سيئا، وتعزى بسهولة إلى تأثيرات خارجية، مما يكتسي في الممارسة العملية صبغة نفور من الأجنبي، بل صبغة نزعة عنصرية. لقد مارست هذه الذهنية تأثيراً على الفكر السياسي للجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، بل دمغت بطابعها التعليم العالي في الولايات المتحدة.

هناك “تماثلات” بين هذه الإيديولوجيا المحافظة ونظرية بارسنز، وهي تماثلات مشابهة لتلك التماثلات القائمة بين المتطلبات الإيديولوجية للستالينية والمجهود النظري لحلقة ألتوسير. وهذه الملاحظة لا تتضمن أي حكم ذي قيمة، فنحن نعلم أن مؤرخين في مثل جدية H.Pirenne، قد بينوا أن الاحتكاك الثقافي هو المحرك الأساسي للتغير الاجتماعي.

ومن ناحية أخرى فإن الخلاصة التاريخية لفترات طويلة من الانعزال، بجانب غياب شبه كامل لتغيرات بنيوية، كما هو الأمر في فترة الطوكوغاوا في اليابان، أو الفترة الاستعمارية في المكسيك، تبرر جزئياً على الأقل نظرية بارسنز. ومع ذلك فإنها لا تنتقدها في كونها تنتمي بكل أحقية لإيديولوجيا قطاع من المجتمع الأمريكي (انظر جوناس أيضاً).

-4-
الإيديولوجيا والحقيقة

تبقى فقط مشكلة هامة هي مشكلة العلاقة بين الإيديولوجيا والحقيقة، (هـ. لوفيفر و ف. شاتلية: الإيديولوجيا والحقيقة). فدراسة هذا المشكل تتطلب مقالاً خاصاً، لكن هذا البحث سيبقى ناقصاً إن لم يطرح على الأقل الخطوط الأولى للمشكل.

إن التمييز بين الأصل الاجتماعي للمعارف، والتحديد الاجتماعي - السياسي للوعي، يمكننا أيضاً من أن نحل صعوبة اصطدم بها باحثون مرموقون من صنف ريمون أرون (أبحاث فلسفية)، في بحث ينتمي إلى فترة شبابه، والذي كان له مع ذلك فضل طرح المشكل السوسيولوجي للإيديولوجيا في فرنسا لأول مرة. وفعلاً فإن الإقرار بالأصل الاجتماعي لنظرية ما، لا يتضمن أي شك في صلاحيتها المحدودة، أو “المنظورية”، وهكذا مثلاً فالموافقة مع دوركهايم على الأصل الديني لمفهوم الطاقة، لا يسلب مدلول الطاقة الذرية قيمته العملية.

وفي النهاية فإن لسوسيولوجية المعرفة تأثيراً ضئلاً نسبياً على الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة. وتأدلج (أو أدلجة) النظريات العلمي، هو وحده المشكل المطروح بصدد معامل مصداقية هذه النظريات. وبذلك فإن مشكلنا يجد نفسه مطروحاً ببساطة.

وليس هذا التأدلج ذاته مرادفاً للشك في صدق هذه النظريات. وسنتبنى بصدد هذه النقطة الخلاصات الواضحة لرودنسون. إذ إنه يمكن أن تندمج بعض النظريات العلمية الصحيحة ضمن مجموعات إيديولوجية كبرى. والاستدلال الذي نسمعه أحياناً بأن “هذه النظرية خاطئة لأنها جزء من سياق إيديولوجي معين”، تشكل إقحاماً غير مبرر للإيديولوجيا في ميدان العلم.

يمكن لأية محاولة إيديولوجية أن تلعب دوراً إيجابياً بتمهيدها الميدان أمام محاولة علمية. إن الهوى الإيديولوجي يولد اهتماماً يبقى أحياناً راسخاً بعد انطفاء الأهواء، ويمكن أن يفتتح الطريق لدراسات ذات قيمة علمية.

ومفهوم الخطأ لا يمتلك في العلوم الإنسانية، العمق نفسه الذي يمتلكه في العلوم الطبيعية، وذلك بالضبط بسبب أهمية مدلول المنظور. والحال أن للسياقات السياسية السلطوية ميلاً نحو استعمال لفظ “خطأ” في معناه العلمي، وهو أمر يحيلنا على تصورهم المشيَّأ للواقع الاجتماعي. (أدورنو). إن التأدلج غالباً ما يعمل لصالح انتقاء موجَّه، بين تصورات نظرية ذات قيمة متقاربة، هذا “الاختيار الإيديولوجي” لا يمكن أن يضمن صلاحية النظريات المنتقاة، لكنه لا يضمن إيضاح طابعها الخاطئ.

إن أهمية مفهوم “المطابقة” في الإبستمولوجيا (لدى مييرسون) وفي آليات التأدلج كذلك، يطرح مشاكل خاصة. ما هي الحدود التي تفصل المطابقة (identification) “الجيدة” عن المطابقة “السيئة”؟ سنقتصر هنا - مع إحالة القارئ إلى دراستنا حول “الوعي الزائف” - على تسجيل أن المطابقة العلمية تهدف إلى تبسيط الوقائع المعقدة لجعلها في متناوله، أما المطابقة الإيديولوجية “فتبالغ في تبسيط” الوقائع التي قد تكون بسيطة أحياناً، بغية أن تفوز، مقابل هذه الراحة الفكرية بانضواء الجماعات في إطارها.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الآلية التي وصفها إ. مييرسون (Meyrson) تهدف إلى التعريف بشيء عن طريق تشبيهه بشيء معروف من قبل. إن المطابقة الإيديولوجية تميل إلى جعل الناس يكرهون شيئاً ما، عن طريق تشبيهه ومماثلته بشيء مكروه من قبل (تيتوفرانكو). لكن الحدود غير واضحة، إذ يمكن أن تكون هناك أشكال انتقالية وحالات مختلطة.

إن الضمان الحقيقي لمشروعية مطابقة معينة، هو في النهاية القدرة الجيدة على الإدراك والتمييز، التي هي قدرة يصعب صياغة قانونها صياغة مجردة، بقدر ما هي في الغالب قدرة بديهية في الواقع الملموس. 

 

 

الهوامش:

* عن الموسوعة الشاملة.


معايير الظاهرة الإيديولوجية*

بقلــــم: بــول ريكور

 

(...) إن الظاهرة الإيديولوجية مرتبطة بحاجة الجماعة -ضرورة- لأن تقدم لنفسها صورة عن ذاتها، وأن تمثل نفسها أمام ذاتها، بالمعنى المسرحي للكلمة، وأن تلعب في الميدان، وتظهر على المشهد، وتلك هي السمة الأولى التي أود الانطلاق منها.

لماذا يكون الأمر كذلك؟ يعتبر J.Ellul، في مقال أثّر عليَّ كثيراً وألهمني: العلاقة التي تقيمها مجموعة تاريخية ما، مع الحدث المؤسس الذي أقامها، علاقة أولية، مثل الإعلان الأمريكي للحقوق، الثورة الفرنسية، ثورة أكتوبر ...إلخ، إن الإيديولوجيا دالة وتابعة للمسافة التي تفصل الذاكرة الاجتماعية عن حدث يتعين مع ذلك ترديده؛ ودورها ليس فقط نشر الاعتقاد خارج دائرة الآباء المؤسسين، لتجعل منه عقيدة الجماعة كلها؛ بل يتجاوز ذلك إلى إدامة الطاقة الأولية فيما بعد مرحلة الغليان.

إن الصورة والتأويلات تتدخل في إطار هذا الفاصل، الذي يميز كل الوضعيات اللاحقة لحدث ما؛ إن الحدث المؤسس يعاد تناوله وإحياؤه دوماً، عبر تأويل يدخل عليه بعض التعديل، من خلال منظور اللحظة اللاحقة، ولعله لا وجود لجماعة لا تقيم علاقة غير مباشرة مع لحظة نشوئها الخاصة بها، وهذا هو ما يجعل الظاهرة الإيديولوجية تنطلق مبكرة جداً: إذ إن الإجماع، بل أيضاً الاتفاق والعقلنة، كلها تنشأ مع التدجين بواسطة الذاكرة. وهنا تتوقف الإيديولوجيا عن أن تكون تعبوية، لتصبح تبريرية؛ أو بالأحرى فهي لا تستمر في كونها تعبوية، إلا بشرط كونها تبريرية.

ومن ثمة فإن السمة الثانية للإيديولوجيا في هذا المستوى الأول: ديناميتها؛ فهي تنتسب لما يمكن أن ندعوه نظرية في الحوافز الاجتماعية؛ فهي بالنسبة للممارسة الاجتماعية، مثل الحافز بالنسبة لمشروع فردي، فالحافز هو في الوقت نفسه ما يبرر وما يدفع.

وبالطريقة نفسها فإن الإيديولوجيا تبرهن؛ فما يحركها هو إرادة البرهنة، على أن للجماعة التي تبشر بها الحق في أن تكون كما هي، لكن يجب ألا نستخلص من ذلك بسرعة حجة ضد الإيديولوجيا، إن دورها الوسيط يظل غير قابل للاستبدال.

يتبين من ذلك أن الإيديولوجيا هي دوماً أكثر من مجرد انعكاس، وذلك من حيث إنها أيضاً تبرير ومشروع. إن هذه السمة “التوليدية” للإيديولوجيا، تعبر عن نفسها في السلطة المؤسسة من الدرجة الثانية، التي تمارسها تجاه المؤسسات والمنشآت، التي تتلقى منها الاعتقاد في الطابع المضبوط والضروري للفعل المؤسس.

لكن كيف تحافظ الإيديولوجيا على ديناميتها؟ هنا تطرح علينا السمة الثالثة، إن كل إيديولوجيا تبسيطية وخطابية. إنها خانة، ونظام من القواعد، تستهدف تقديم رؤية شاملة، لا للجماعة فقط، بل للتاريخ، وفي النهاية للعالم. وهذه السمة ملازمة للوظيفة التبريرية للإيديولوجيا، وقدرتها التحويلية لا يمكن المحافظة عليها إلا بشرط أن تصبح الأفكار التي تحملها آراء، وأن يفقد الفكر من دقته ليضاعف فعاليته الاجتماعية، كما لو أن الإيديولوجيا وحدها هي التي يمكن أن تستخدم كواسطة، لا فقط ذكرى الأفعال المؤسسة، بل منظومات الفكر ذاتها؛ وهكذا يمكن أن يصبح كل شيء إيديولوجيا، الأخلاق، الدين، الفلسفة.

و”هذا الانتقال من منظومة فكرية إلى منظومة معتقدية” كما يقول Ellul، هو الظاهرة الإيديولوجية. وما إضفاء طابع مثالي على الصورة الخاصة التي تكونها الجماعة عن نفسها، إلا العنصر الملازم لهذه السمة الخطابية. إن كل جماعة تمثل لنفسها صورة عن وجودها، من خلال صورة أضفي عليها طابع مثالي. وهذه الصورة هي التي تقوّي -بمفعول معاكس- النظام التأويلي؛ ونحن نرى ذلك في أنه منذ الاحتفاءات الأولى بالأحداث المؤسسة، تبرز ظواهر الشعائر الطقوسية والنماذج الواحدة، ومعها يتولد قاموس من المصطلحات الخاصة، ومعه نظام من “التسميات الصحيحة”، إنه سيادة الصيغ المذهبية، الليبرالية والاشتراكية. ولعله ليس هناك صيغ مذهبية، بالنسبة للفكر التأملي، إلا بالتماثل مع هذا المستوى من الخطاب، روحانية، مادية.

وهذه السمة الثالثة تمكننا من استشراف ما سأدعوه بالطابع المعتقدي للإيديولوجيا، فالمستوى الإبستمولوجي للإيديولوجيا هو مستوى الرأي، أو ما كان الإغريق يسمونه الدوكسا (Doxa). أو إذا ما فضلنا استعمال مصطلحات فرويدية، فهو لحظة التبرير العقلي. وهذا هو السبب في أنها تعبر عن نفسها تلقائياً بأمثال وشعارات وصيغ مختصرة. وهذا أيضاً هو السبب في أنه لا شيء أقرب إلى الصيغة البلاغية -فن المحتمل والمقنع- من الإيديولوجيا. وهذه المقاربة توحي بأن التماسك الاجتماعي لا يمكن، بدون شك، أن يكون مضموناً، إلا إذا لم يتم تجاوز الحد المعتقدي الأقصى، الذي يقابل المستوى الثقافي المتوسط للمجموعة المعينة. لكن، مرة أخرى، يجب ألا نكون متسرعين في اعتبار ذلك غشًّا أو حالة مرضية، إن هذه السمة الخطابية، وهذا الإضفاء للطابع المثالي، وهذه البلاغة هي الثمن الذي يتعين أداؤه لتحقيق الفاعلية الاجتماعية للأفكار.

مع السمة الرابعة تأخذ في التحدد الصفات السلبية والقدحية، المنسوبة عادة لإيديولوجيا معينة، ومع ذلك فهذه السمة ليست عيباً في حد ذاتها. فهي تعني أن نظام القواعد التأويلي لإيديولوجيةٍ ما، تجعل الإيديولوجيا هيئة غير نقدية بطبيعتها. والحال أنه يبدو جليًّا، أن عدم الشفافية في  نظام قواعدنا الثقافية، هو شرط إنتاج الإرساليات الاجتماعية.

والسمة الخامسة تعقد وتضخم الطابع غير التفكيري وغير الشفاف للإيديولوجيا. فأنا أشير إلى العطالة والتأخر الذي يبدو أنه يسم الظاهرة الإيديولوجية. ويبدو أن هذه السمة هي المظهر الزمني الخاص للإيديولوجيا.

فهي تعني أن الجديد لا يمكن أن يتقبل إلا مما هو نمطي، الذي هو نفسه ناتج عن استقرار التجربة الاجتماعية. وهنا يمكن أن تندرج وظيفة الإخفاء. فهي تمارس على وجه الخصوص، تجاه أجزاء من الواقع عاشتها الجماعة، لكنها لم تتمثل من طرف خطابتها الرئيسية. فكل جماعة تظهر أشكالاً من الأرثوذكسية، وعدم قابلية الهوامش.

ولعل مجتمعاً تعددياً إلى أقصى الحدود، وتسامحياً إلى أبعد مدى، غير موجود بتاتاً. هناك دوماً قدر مما لا يسمح به، والذي يكون منطلق عدم التسامح. يبدأ عدم التسامح عندما يهدد الجديد بقوة، إمكانية الجماعة في أن تتعرف على ذاتها، وأن تعيد العثور على نفسها. ويبدو أن هذه السمة تناقض الوظيفة الأولى للإيديولوجيا، التي هي إدامة وقع الصدمة الملازم للفعل المؤسس.

لكن لهذه الطاقة الأولية قدرة محدودة؛ فهي خاضعة لقانون الإنهاك. فالإيديولوجيا هي في الوقت نفسه مفعول إنهاك ومقاومة للإنهاك. وهذه المفارقة موشومة في الوظيفة الأولية للإيديولوجيا، والتي هي إدامة الفعل المؤسس الأولي على شكل “تمثل”، وهذا ما يجعل الإيديولوجيا في الوقت نفسه تأويلاً للواقع، ومحلأً للممكن.

إن كل تأويل يحدث في مجال محدود؛ لكن الإيديولوجيا تجري تقليصاً للمجال، بالقياس إلى إمكانيات التأويل، التي تنتمي إلى الاندفاعة الأولية للحدث. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن نتحدث به عن انغلاق إيديولوجي، بل عن اعتماء إيديولوجي(...).

يصل تحليلنا هنا إلى المفهوم الثاني للإيديولوجيا. يبدو لي أن وظيفة الإخفاء تتغلب بجلاء، عندما يتم الربط بين الوظيفة العامة للإدماج، التي عالجناها لحد الآن، والوظيفة الخاصة للسيطرة، التي ترتبط بالمظاهر التراتبية للتنظيم الاجتماعي.

لقد أصررت على وضع تحليل المفهوم الثاني للإيديولوجيا بعد المفهوم السابق، حتى أنتهي إليه بدل أن أنطلق منه. ويتعين على المرء أن يكون قد فهم الوظيفة الأولى للإيديولوجيا، حتى يفهم تبلور الظاهرة إزاء مشكل السلطة. إن ما تؤوله الإيديولوجيا وتبرره أساساً، هو العلاقة مع السلطة، ومع أنظمة السلطة. ولكي أفسر هذه الظاهرة، سأستعمل -كمرجع- تحليلات ماكس فيبر الشهيرة حول السلطة والسيطرة. فكل سلطة في نظره تعمل على إضفاء المشروعية على ذاتها، والأنظمة السياسية تتمايز حسب نمط مشروعيتها. إلا أنه يبدو أنه، إذا كان كل ادّعاء للمشروعية مرتبطاً باعتقاد الأفراد في هذه المشروعية، فإن العلاقة بين الادعاء المعلن عنه من طرف السلطة، والاعتقاد الذي يستجيب له، أمران غير متناظرين. سأقول: إن ادّعاء السلطة هو دوماً أكثر من الاعتقاد فيها(...)، وهنا تكون الإيديولوجيا هي مطية فائض القيمة، وفي الوقت نفسه تؤكد ذاتها كمنظومة تبريرية للسيطرة.

هذا المفهوم الثاني للسلطة مندغم بالأول، من حيث إن ظاهرة السلطة هي ذاتها ملازمة لنشأة الجماعة. فالفعل المؤسس لجماعة تتمثل نفسها إيديولوجياً، فعل سياسي في جوهره، والجماعة التاريخية لا تصبح واقعة سياسية، إلا عندما تصبح قادرة على اتخاذ القرار؛ ومن ثمة تنشأ ظاهرة السيطرة. وهذا هو السبب في كون الإيديولوجيا - الإخفاء، تتداخل مع السمات الأخرى للإيديولوجيا - الإدماج؛ وخاصة مع سمة عدم الشفافية التي ترتبط بالوظيفة التوسطية للإيديولوجيا(...).

عندما يلتقي الدور التوسطي للإيديولوجيا بظاهرة السيطرة، فإن طابع التشويه والإخفاء المرتبط بالإيديولوجيا يقفز إلى الصف الأول. ولكن، من حيث إن اندماج الجماعة، لا يؤول أبداً كليًّا إلى ظاهرة السلطة والسيطرة، فإن كل سمات الإيديولوجيا التي أرجعناها إلى دورها التوسطي، لا يجري به العمل في وظيفة الإخفاء، التي طالما اختزلت الإيديولوجيا إليها.

وها نحن الآن على عتبة مفهوم ثالث للإيديولوجيا، المفهوم الماركسي. وأود أن أبين أنه يبرز إذا ما أدمجناه في المفهومين السابقين. فما الذي يحمله من جديد؟ إنه يحمل أساساً فكرة التشويه والتحريف بواسطة القلب(...).

وأعتقد أن ما قدمه ماركس، هو عرض تحديد خاص لمفهوم الإيديولوجيا، يفترض المعنيين السابقين. كيف يمكن أن تكون فعلاً للتخيلات الطليقة، وللأوهام وللشطحات الخيالية، فعالية تاريخية ما، إذا لم يكن للإيديولوجيا دور وسيط، مندغم بالرابطة الاجتماعية الأساسية، وكأنه مكونه الرمزي بالمعنى الذي أعطاه ماوس وليفي ستروس؟ وهو ما لا يجيز لنا الحديث عن نشاط واقعي قبل إيديولوجي أو غير إيديولوجي.

ومن ناحية أخرى، فإننا لن نفهم أيضاً كيف أن تمثلاً مقلوباً للواقع، يمكن أن يخدم مصالح الطبقة السائدة، إذا لم تكن العلاقة بين السيطرة والإيديولوجيا أقدم من التحليل إلى طبقات اجتماعية، وأكثر قدرة على البقاء بعده. إن ما يقدمه ماركس من جديد، يبرز على هذه الأرضية الأولية، المتعلقة بنشأة رمزية للرباط الاجتماعي عامة، ولعلاقة السلطة على وجه الخصوص. وما يضيفه هو أن فكرة الوظيفة التبريرية تنطبق أساساً على علاقة السيطرة، المنبثقة عن الانقسام إلى طبقات اجتماعية، وعن صراع الطبقات (...).

... وهذا يجب ألا ينسينا الأطروحة الرئيسية، التي تهيمن على القسم الأول من بحثنا، وهي أن الإيديولوجيا ظاهرة لا يمكن تجاوزها بالنسبة للوجود الاجتماعي، وذلك من حيث إن للواقع الاجتماعي دوماً وأبداً تكويناً رمزياً، ويتضمن تأويلاً للرابطة الاجتماعية ذاتها في صور وتمثلات.

 

الهوامش:

* P.Ricoeur : Du texte à laction. Seuil 1986 .P306 - 314.

 


الإيديولوجيا واللاشعور*

بقلــــم: لويس ألتوسـير

 

“الكل يتعلق إذن بمعرفة طبيعة النزعة الإنسانية كإيديولوجيا. وليس المقصود هنا أن نحاول تقديم تعريف معمق للإيديولوجيا، بل يكفي أن نعرف بصورة تعميمية جداً، أن الإيديولوجيا منظومة (لها منطقها ونظامها الخاصان) من التمثلات (صور، أساطير، أفكار، أو مفاهيم حسب الحالات) تتمتع بوجود وبدور تاريخيين، ضمن مجتمع معين. وبدون أن نتطرق لمشكل العلاقات القائمة بين علم وماضيه “الإيديولوجي”، لنقل بأن الإيديولوجيا كمنظومة من التمثلات تتميز عن العلم من حيث إن الوظيفة العملية تتغلب فيها على الوظيفة النظرية (أو وظيفة المعرفة).

ما هي طبيعة هذه الوظيفة الاجتماعية؟ لكي نفهم هذه الوظيفة، يتعين علينا العودة إلى النظرية الماركسية في التاريخ. إن ذات التاريخ هي عبارة عن مجتمعات إنسانية معينة. تظهر هذه المجتمعات على شكل كليات تتشكل من خلال نمط معين من التعقد، مستخدمة هيئات - يمكن أن نقلصها بعد أن نجزئها إلى ثلاث: الهيئات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.

نلاحظ في كل مجتمع إذن -بأشكال تختلف إلى حد الغرابة أحياناً- وجود نشاط اقتصادي أساسي، وتنظيم سياسي، وأشكال “إيديولوجية”، (دين، أخلاق، فلسفة..إلخ).

الإيديولوجيا إذن تشكّل جزءاً صميمياً من أية كلية اجتماعية، والأمر يجري كما لو أن المجتمعات الإنسانية، لا يمكن أن تستمر في الوجود، بدون هذه التشكيلات الخاصة، هذه هي المنظومات من التمثلات (من مستويات مختلفة) التي هي الإيديولوجيات.

- إن المجتمعات الإنسانية تفرز الإيديولوجيا وكأنها العنصر والمناخ الضروريان لتنفسها، أي لحياتها التاريخية. والتصور الإيديولوجي للعالم هو وحده الذي استطاع أن يتخيل مجتمعات بدون إيديولوجيات، وأن يقبل الفكرة الطوباوية، المتعلقة بعالم ستختفي فيه الإيديولوجيا،  بدون أن تترك أي أثر، (لا هذا الشكل أو ذاك من أشكالها التاريخية)، ويحل العلم محلها.

(...) ليست الإيديولوجيا إذن شذوذاً أو نشازاً عارضاً في التاريخ. إنما بنية ضرورية وأساسية للحياة التاريخية للمجتمعات. إن الاعتراف بوجود الإيديولوجيا وبضرورتها، هو ما يمكّن من التحكم فيها ومن تحويلها إلى أداة لفعل واعٍ في التاريخ.

من المتعارف عليه القول بأن الإيديولوجيا تنتمي إلى منطقة “الوعي”،  يجب ألَّا ننخدع بهذه التسمية التي تظل ممسوسة بعدوى الإشكالية المثالية السابقة على ماركس. وفي الحقيقة فإن الإيديولوجيا ذات صلة ضئيلة بـ”الوعي”، هذا إذا افترضنا أن لهذا اللفظ معنى واحداً محدداً. إنها في عمقها لا واعية.. حتى ولو قدّمت نفسها، كما هو الأمر في الفلسفة السابقة على ماركس، بصورة واعية.

إن الإيديولوجيا فعلاً منظومة تمثلات.. لكن هذه التمثلات لا علاقة لها في أغلب الأحيان بالوعي.. إنها في أغلب الأحيان صور، وأحياناً مفاهيم، لكنها تفرض نفسها قبل كل شيء، على الأغلبية الساحقة من الناس، على شكل بنيات دون أن تمر بـ”وعيهم”، إنها موضوعات ثقافية مدروسة - مقبولة، وتؤثر تأثيراً وظيفياً في الناس عبر عملية تفلت من إدراكهم. إن الناس يحيون “إيديولوجيتهم” (.....) كما لو كانت عالمهم الخاص نفسه. ما المقصود عندما نقول: إن الإيديولوجيا تتعلق بـ”وعي” الناس؟ إنها تعني أننا نميز الإيديولوجيا عن بقية الهيئات الاجتماعية. لكنها تعني أيضاً أن الناس يحيون أفعالهم، التي يرجعها التراث الكلاسيكي كلها إلى الحرية وإلى “الوعي”، يحيونها في الإيديولوجيا عبر ومن خلال الإيديولوجيا.

وبإيجاز، فإن العلاقة “المعيشية” للناس مع العالم، بما في ذلك علاقتهم المعيشية مع التاريخ، في فعلهم أو عدم فعلهم السياسي، تمر عبر الإيديولوجيا، بل هي ربما الإيديولوجيا عينها. وهذا هو المعنى الذي قصده ماركس، عندما قال بأن الناس يعون موقفهم في العالم وفي التاريخ ضمن الإيديولوجيا ومن خلالها، (من حيث هي مجال تجري فيه صراعات سياسية)، فضمن هذا اللاوعي الإيديولوجي، يتوصل الناس إلى تعديل علاقتهم “المعيشية “ مع العالم، ويتوصلون إلى هذا الشكل الجديد من اللاوعي الخاص، الذي يدعى “الوعي”.

تتعلق الإيديولوجيا إذن بعلاقة الناس “المعيشية” مع عالمهم. لا تبدو هذه العلاقة -التي لا تظهر- واعية إلا بشرط كونها لا واعية، ولا تبدو بسيطة إلا بشرط كونها معقدة، أي أنها ليست علاقة بسيطة، بل هي علاقة علاقات، أي علاقة من الدرجة الثانية.

في الإيديولوجيا، يعبر الناس فعلاً -لا عن علاقتهم بظروف وجودهم بل- عن الكيفية التي يحيون بها علاقاتهم مع ظروف وجودهم، وهو ما يفترض في الوقت نفسه علاقة واقعية ـ وعلاقة “معيشية” متخيلة. الإيديولوجيا إذن هي التعبير عن علاقات الناس بعالمهم، أي الوحدة (المحددة تحديداً تضافرياً) القائمة بين علاقتهم الواقعية وعلاقتهم مع شروط وجودهم الواقعية. ففي الإيديولوجيا تستثمر العلاقة الواقعية حتماً ضمن علاقة متخيلة. علاقة تعبر عن إرادة (محافظة انصياعية، إصلاحية أو ثورية، بل عن أمل أو حنين أكثر مما نصف واقعاً. وضمن هذا التحديد التضافري للواقع بالمتخيل، وللمتخيل بالواقع، تكون الإيديولوجيا مبدئياً فاعلة، أي أنها تقوى وتسند وتعدل علاقة الناس بشروط وجودهم ضمن هاته العلاقة المتخيلة نفسها. يستتبع ذلك أن هذه الفاعلية لا يمكن أن تكون فاعلية أداتية خالصة. فالناس الذين يستخدمون إيديولوجيا معينة وكأنها مجرد وسيلة فاعلة، مجرد أداة، يلفون أنفسهم مأخوذين في شباكها، ومنشدين إليها في اللحظة التي يستخدمونها فيها، أي في اللحظة نفسها التي يعتقدون فيها أنهم سادتها بلا منازع.

وهذا واضح كل الوضوح في حالة المجتمع الطبقي. إن الإيديولوجيا السائدة إذن هي إيديولوجيا الطبقة السائدة. إلا أن الطبقة السائدة لا تقيم مع الإيديولوجيا السائدة -التي هي إيديولوجيتها- علاقة خارجية وواضحة، علاقة منفعة خالصة أو خداع محض.

عندما طوّرت “الطبقة الصاعدة” البورجوازية، خلال القرن الثامن عشر، الإيديولوجيا الإنسانية حول العدالة والحرية والعقل، فإنها أعطت لمطالبها الخاصة صورة الشمولية، كما لو أنها بذلك تود أن تعبِّئ إلى جانبها الناس أنفسهم، الذين لن تحررهم إلَّا لتستغلهم، وذلك بإعدادهم وتكوينهم لهذه الغاية.

تلك هي أسطورة روسو حول أصل التفاوت: فالأغنياء يوجهون إلى الفقراء “الخطاب الأكثر معقولية”، الخطاب الذي لم يتصور من قبل أبداً، وذلك لإقناعهم بأن يعيشوا عبوديتهم وكأنها حريتهم. وفي الحقيقة فإن على البورجوازية أن تعتقد في أسطورتها قبل أن تقنع الآخرين بها، لا بمجرد الإقناع فقط، لأن ما تحياه في إيديولوجيتها هو هذه العلاقة التخيلية، التي تقيمها مع ظروف وجودها الواقعية، مما يمكنها في الوقت نفسه من أن تؤثر على نفسها، (أن تعطي لنفسها وعياً قانونياً وأخلاقياً، وأن توفر الشروط القانونية والأخلاقية لليبرالية الاقتصادية)، وعلى الآخرين (مستغليها الآن ومستغليها في المستقبل: الـ”عمال الأحرار”)، وذاك من أجل أن تتحمل وتنجز وتضطلع بدورها التاريخي كطبقة سائدة.

تعيش البورجوازية بذلك -في إيديولوجيا الحرية- علاقتها بالضبط مع شروط وجودها، أو علاقتها الواقعية (الحق في الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي)، لكنها علاقة موظفة ضمن علاقة متخيلة، (كل الناس أحرار بما في ذلك العمال الأحرار). تقوم إيديولجية البورجوازية على التلاعب بالكلمات بصدد الحرية، مما يفسد إرادتها في تضليل مشغليها (“الأحرار”)، من أجل الإبقاء عليهم مغلولين، بواسطة المساومة حول الحرية، وذلك بقدر حاجة البورجوازية إلى أن تعيش سيطرتها الخاصة الطبقية، وكأنها حرية مستغليها أنفسهم. ومثلما أن أي شعب يستغل شعباً آخر، لا يمكن أن يكون شعباً حراً، فإن الطبقة التي تستخدم الإيديولوجيا لأغراض سيطرتها، هي نفسها خاضعة أيضاً لهذه الإيديولوجيا.

عندما نتحدث عن الوظيفة الطبقية لإيديولوجية ما، فيجب أن نفهم من ذلك أن الإيديولوجيا السائدة هي إيديولوجيا الطبقة السائدة، وأنها تستخدم لا فقط للسيطرة على الطبقة المستغلة، بل تستخدم أيضاً وتصلح لتجعل منها هي ذاتها طبقة سائدة، بأن تجعلها تقبل علاقتها المعيشية مع العالم كأمر واقع ومبرر.

ويجب أن نذهب بعيداً ونتساءل عن واقع ومصير الإيديولوجيا في مجتمع اختفت فيه الطبقات. وما قلناه يمكننا من تقديم إجابة. إذا كانت كل الوظيفة الاجتماعية للإيديولوجيا تتلخص في صلابة وهمٍ (كما هو الأمر في “الأكاذيب الجميلة” لأفلاطون، أو تقنيات الدعاية المعاصرة) تصفه وتستعمله الطبقة السائدة من الخارج، لتضليل أولئك الذين تستغلهم، فإن الإيديولوجيا ستختفي مع الطبقات. لكن بما أننا رأينا أنه، حتى في حالة المجتمع الطبقي، فإن الإيديولوجيا فعالة وذات تأثير على الطبقة السائدة نفسها، كما أنها تسهم في تشكيلها، وفي تعديل مواقفها لتجعلها تتكيف مع ظروف وجودها الواقعية.. (مثلاً الحرية القانونية)، فإن من الواضح أن الإيديولوجيا (كمنظومة تمثل جماهيرية) ضرورة ولازمة لكل مجتمع، من أجل أن تشكل الناس وتحولهم وتجعلهم قادرين على الاستجابة لمتطلبات ظروف وجودهم.

ففي الإيديولوجيا يحيا المجتمع اللاطبقي عدم تطابقه - وتطابق علاقته مع العالم، هذه العلاقة التي يتم فيها وبها تحويل “وعي” الناس، أي موقفهم وسلوكهم، لجعلهم في مستوى المهام المطروحة عليهم، وفي مستوى ظروف وجودهم.

إن الإيديولوجيا، في المجتمع الطبقي، هي المعبر والعنصر الذي تنتظم بواسطته علاقة الناس بظروف وجودهم لحساب الطبقة السائدة. وفي المجتمع غير الطبقي تكون الإيديولوجيا هي المعبر والعنصر الذي تتعايش به وفيه علاقة الناس مع ظروف وجودهم لحساب “كل الناس”.

 

الهوامش:

* louis altusser/ pour marx.

 


مصادر وآثار مفهوم الإيديولوجيا عند ريكور*

بقلم: مارثيلو فيليكس تورا**

ترجمة: هشـام الميلـوي***

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على موضوع الإيديولوجيا في أعمال بول ريكور. فحسب هذا الأخير ليست الإيديولوجيا انعكاساً للواقع الاجتماعي فحسب، بل، إنها كذلك مرتبطة بسلطة المجتمع والاندماج البشري. والذي بدوره سيؤثر على طريقة وأسلوب فهمنا للعالم كله. إن الإيديولوجيا إشكالية أزلية لا حل لها، وبالتالي ليست هناك مساحة ومتسع خالٍ من الإيديولوجيا وتأثيرها، يتيح لنا مناقشة الإيديولوجيا.

* مدخل

حيث إن معظم المدارس الفلسفية المعاصرة اتخدت منحى المعالجة الواقعية، فسنحاول في هذه الورقة تناول موقع أعمال بول ريكور، وتتبع أبرز أثاره، خاصة ما يتصل منها بنقد الإيديولوجيا.

إنه لمن الأهمية بمكان، التذكير بمساهمة بول ريكور في ميدان الفلسفة الاجتماعية والأخلاقية “Ethics”. فلقد برهن هذا الأخير على مستوى من القدرة العالية على الإقناع، وشرح آرائه لجعلها في متناول القارئ، فضلاً عن توفره على تقليد كلاسيكي، في مناقشته لمواضيع تتطلب تقليداً فلسفياً عميقاً.

* نظرة تاريخية موجزة عن مفهوم الإيديولوجيا

سنحاول في هذه الفقرة، تقديم نظرة موجزة عن مفهوم الإيديولوجيا من مصادرها الأصلية، إلى التعريفات المتقدمة والمتطورة، مستعملين المنهج الهيرمينوطيقي كما هو.

لقد تم اختراع كلمة إيديولوجيا من طرف ديستوت دوتراسي Destutt de Tracy، من أجل تعريف الأهداف الأساسية للعلم الذي يقوم بتفسير وفهم الأفكار، خصائصها وقوانينها، ثم علاقة هذه الأفكار بالرموز التي تتخذها في المجتمعات، والتي تقوم بوظيفة تقديمها للجمهور. قبل أن يتم تطعيم هذا المفهوم بمعاني جديدة، من طرف فلاسفة آخرين كأوغيست كنت وإميل دوركايم.

واعتبرت الإيديولوجيا كذلك طريقة لإخفاء الواقع الاجتماعي، كما في أغلب التعريفات الموجودة في القواميس الفلسفية. بل أكثر من ذلك فهي -أي الإيديولوجيا- تحاول تقديم عالم مزيف ومغشوش، وفرض وجهة نظر للطبقة المهيمنة على الطبقة الأضعف. أما من وجهة نظر ريكور فإن هذا سيقودنا إلى منظور ضيق لن يقوِّي سوى الجانب السلبي القدحي من المناقشة.

ومساهمة منه في الدفع بهذا النقاش، يقترح بول ريكور إعادة التفكير في الإشكالية نفسها، لإيجاد معنى مزدوج ووجهة نظر أوسع في الموضوع. فهناك تاريخ طويل للكلمات يرجع إلى الشك الماركسي، والذي لا يشكل سوى حلقة في هذه السلسة الطويلة.

إن ريكور، في كتاب “الإيديولوجيا واليوتوبيا” يدعو إلى قراءة تاريخ موجز للإشكالية. بدأت الإيديولوجيا أولاً مع فلسفة السياسية، وبالتالي فقد ظهر وجود أكثر من ماركس: هناك ماركس الشاب، الإنساني، كما عبرت عنه كتبه “مخطوطات في الاقتصاد والسياسة سنة 1844م”، و “الإيديولوجيا الألمانية”، ثم ماركس الكهل، والكلاسيكي، كما قدمه “رأس المال”. ولقد كانت البنيات الاقتصادية للمجتمع هي الهم الأساس لماركس.

عندما تناول ماركس الشاب مفهوم الإيديولوجيا، انتقد المثالية التي تقول باستقلالية الأفكار ومفارقتها للواقع، وارتباطها بتطور العمل الجماعي. أما في أعمال ماركس الكهل، تتخذ الإيديولوجيا مصدراً للنقد الاجتماعي الوضعي، كما هو شأن البنيوية الماركسية للويس ألتوسير.

إذا قرأنا كتاب “الإيديولوجيا واليوتوبيا” عن طريق مانهايم، نجد ريكور يناقض العلم والإيديولوجيا، ويعالج بعض الوظائف الأخرى الراديكالية للإيديولوجيا، فضلاً عن شرخ الواقع وتغطيته. وبالتالي فإن استعمال منهج تحليل السلطة من طرف ماكس فيبر، هي طريقة للبرهنة على وظيفة الاندماج في المجتمع... فبالنسبة إلى ريكور، ذلك يساهم في ضمان هوية المجتمعات.

ويمكن القول، حسب ريكور دائماً، أن الفكر الحديث أصبح موضوعاً للتأويل، بينما النقاش الأساسي يتجه إلى الوهم. إن فلسفة ريكور تروم إيجاد طريقة لتفكيك وهم الذات. وهذا يفتح النقاش، ويضع شكوكاً حول اليقين الفوري للتأمل الديكارتي، كما يبين مدى ضعف الاعتقاد المبدئي في اليقين. لذا فإن ريكور يرى أن من واجب الفيلسوف الحديث، تأويل الرموز والعلامات والإيديولوجيا انطلاقاً من وجهه نظر هيرمينوطيقية. وهذا أيضاً هو هدف الفلسفة المعاصرة، التي تبدأ بمستقبلات الإنسانية وبنقد وهم الذات. وهناك نقطة مشتركة بين الأخلاق والسياسة التي تهدف إلى إقامة الحقوق الأساسية في المجتمع. هذه الحقوق هي في الأساس مرتبطة بمسألة توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية.

لقد نشأت ظاهرة الإيديولوجيا في المجتمع الـ”ما ـ بعد” صناعي والتي تخص مسألة كشف الواقع. إن الصراعات الكبرى في المجتمع، والتي تحاول توفير أجوبة عن المجال في الدولة - الأمة، هي نتيجة شرط الوهم هذا. لقد شاهدنا صراعات في البرازيل، وهي دولة متوسطة النمو، أثارتها إيديولوجيا تنتهي إلى المجتمع الـ”ما ـ بعد” صناعي، وتحاول المحافظة عليه. يريد آخرون مع ذلك، مجتمعاً صناعياً. في حين يشدد آخرون على مشاكل هذا المجتمع.

* مصادر مفهوم الإيديولوجيا عند بول ريكور

- سنحاول باختصار شديد تتبع مفهوم الإيديولوجيا عند ريكور، انطلاقاً من كتابه عن “الإيديولوجيا واليوتوبيا”، ثم تطور هذا المفهوم منذ ماركس إلى كرتيز، مروراً بألتوسير، مانهايم، فيبر، وهابرماس.

يبدأ ريكور بشكل واضح، باستخلاص المعنى الأساسي للإيديولوجيا. يؤكد على أن وظيفة الإيديولوجيا: أولاً: تزييف الواقع، ثانياً: مشروعية السلطة، وثالثاً: الإدماج الاجتماعي. إن تحليل ريكور يبدأ منذ ماركس، مثلاً: إن التصور المشترك والجلي لظاهرة الإيديولوجيا، تزييف الواقع، والذي يأخذ بعين الاعتبار المقابلة بين الإيديولوجيا (المستوى المثالي)، و Praxis (المستوى الواقعي). وينطلق أيضاً عبر ألتوسير ومقاربته البنيوية عن الماركسية، التي تقول بدورها بوجود مقابلة أخرى بين العلم والإيديولوجيا.

وكانعطاف في هذه المسيرة، يأخذ ريكور بعين الاعتبار مقاربة مانهايم أيضاً، في تحليله لظاهرة الإيديولوجيا، ليبرهن على عدم وجود أساس علمي محايد لمناقشة مفهوم الإيديولوجيا. لهذا لا نستطيع التفريق بين العلم والإيديولوجيا، وبأن أساس معرفتنا بالواقع موسومة حتماً بالإيديولوجيا.

انطلاقاً من ماكس فيبر، يحاول ريكور إيجاد طريقة أخرى لمعالجة ظاهرة الإيديولوجيا، مركّزاً على المفهوم الثاني للإيديولوجيا، الشرعية السياسية للسلطة. فحسب ريكور، هناك مساحة بين نوايا من هم في السلطة، وبين الشرعية، وهو ما يسميه ريكور بفضل القيم السياسية، وتقوم الإيديولوجيا دائماً بتغطية هذا الفرق. بتتبع مصادر تحليل ريكور، من الضروري نقد مفهوم الإيديولوجيا بواسطة العقل، فهي دائماً مرتبطة بالسلطة، كما يستعير بعض المفاهيم من هابرماس، محاولاً التقريب بين نقد الإيديولوجيا والتحليل النفسي.

بعد إخضاع الإيديولوجيا لمختلف أنواع النقد، اعتماداً على كيرتز، يتناول المميزة الثالثة للإيديولوجيا: الاندماج الاجتماعي. ففضلاً عن التزييف والشرعية، تتوفر الإيديولوجيا على وظيفة المحافظة على الهوية والتكامل في المجتمع. بالنسبة إلى ريكور، هناك علاقة جدلية بين العلوم الاجتماعية والإيديولوجيا، على وظيفة المحافظة على الهوية والتكامل في المجتمع. بالنسبة إلى ريكور هناك علاقة أيضاً (رابط) بين الإيديولوجيا والصراعات التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، الأمر الذي يؤكد على ضرورة مقاربات جديدة، للتوسط بينهم في مجتمع ما بعد صناعي.

* اعترافات على مقاربة ريكور

بمجرد ما يتم تناول إشكالية الأسس الفلسفية، ستظهر هناك اعتراضات على مقاربة ريكور الخاصة بظاهرة الإيديولوجيا. حسب هذا المنظور، فإن الإيديولوجيا تؤثر على كامل معرفتنا بالواقع. مما يعني استحالة وجود موقف لا إيديولوجي للحديث عن الإيديولوجيا. عادة ما نتحدث عن أن الفلسفة والعلم، خاصة العلوم الإنسانية، مليئة بالإيديولوجيا، لهذا يتم النظر إليهم أساساً وبمعنى أوسع، كمرادفات للزيف والتغطية للواقع. لهذا فالعلم والفلسفة بدورهما يخفيان ويزيفان الواقع، وإن النظريات الفلسفية والعلمية ليست مضبوطة ودقيقة بما فيه الكفاية. أكثر من ذلك فإنهما ليسا متوافقين مع الحقيقة.

هذا الاعتراض يؤدي بنا إلى طرح سؤال حول مدى الحياد العلمي، وضرورة التميز بين الفلسفة والإيديولوجيا، وباستطاعة التفكير الفلسفي لريكور الإجابة عن هذا التساؤل.

إن الهم الأساسي لريكور، هو تجنب تصور خالص حقيقي، وخطاب أحادي ينتهي إلى حقيقة مطلقة. لهذا نرى أنه يعلن معارضته للحياد العلمي، الذي تقترحه المقاربات الوضعية والوظيفية. بالنسبة إلى العلم هو عبارة عن معرفة موضوعية، تخضع للمراقبة والملاحظة دون تداخل ذاتي. بمنظور آخر، وحسب ريكور دائماً، إن اتخاذ موقف مضاد سيجعلنا أمام مقاربة نسبية للأبحاث العلمية، وستجعل من النتائج المحصل عليها أقل كونية، وطافحة بالنظرة التاريخانية.

هناك وجهة نظر أخرى أكثر رحابة وموضوعية، تجعل من العلم والفلسفة - التي لا يعمل بها إلا بعد منهج نقدي يتضمن وهم الذات، رغم هيرمينوطيقا العلامات - طريقاً لتمثل الواقع وفهمه.

إن الدرس الأساسي للفلسفة حسب ريكور، هو الكشف عن المعنى الحقيقي، مروراً بالأمر الذي لا يتأتى إلا عن طريق التقصي العلمي. وللوصول إلى هذه الغاية، يقترح الفيلسوف الفرنسي فهماً هيرمينوطيقياً للتاريخ. إنه طريق طويل لفهم الإشكال. وكوضع قائم، فإن هذا الطريق يقوم على مساحة دقيقة، تفصل بين مرحلة ما قبل فهم الواقع، ومرحلة ما قبل التصور، الراجعة إلى المسافة الفاصلة لنشوء الإيديولوجيا وأوهام الذات، وبين النقد. يمكن القول: إن الكثافة المعرفية وتراكمها قام على أساس المصالح. إذن فلقد كانت موضوعاً للتلاعب وللتوظيف، والسيطرة و... و، وواجب الفيلسوف هو فضحها، بمجرد ما تصبح مصدراً لإنتاج أوهام الذات.

إن ريكور يتفق مع مشروع تحرير الإنسان بفضل المنهج والصيرورة النقدية، وإن كان يؤكد ويحذر من ضرورة تحمل وضعنا وشرطنا التاريخي. لا يوجد هناك نقد مماثل قادر على كسر الأسس بالكامل. تلك الأسس التي قام عليها شرط الظرف التاريخي. إن الإيديولوجيا مرتبطة بفهم خاطئ للواقع وللمصالح، وتتوفر على بعض السمات الخاصة بها: عمق الخطاب، التزييف، وعن طريق الاكتشافات العديدة والقضايا. إن الإيديولوجيا كذلك، تجعل من المعرفة نظاماً عقائدياً، وهكذا فإن الباحث المهتم لن يكون باستطاعته الفصل بين العقل والاعتقاد في أبحاثه العلمية.

يقوم ريكور بإنشاء علاقة جدلية بين الفلسفة والإيديولوجيا، دون أن يعترف بطبيعة العلاقة بينهما، وأن كل طرف يؤثر في الآخر. فهو يبين لنا كيف أن واجب الفيلسوف، يقوم على نقد الإيديولوجيا من معنيين آخرين جديدين: أحدهما هو شرعية السلطة، والآخر يخص التكامل الاجتماعي، مما يعمق ويوسع من فهمنا التخصصي للظاهرة. فلا يمكن الاقتصار على المظاهر السلبية للإيديولوجيا، ولكن علينا أيضاً إبراز مظاهرها الإيجابية في التقليص والتقريب ما بين العلم والإيديولوجيا. كما يمكن لنا القول: إن موضوع أو مخرج الحياد العلمي ليس أمراً ممكناً بالنسبة لريكور، لأن التدقيق العلمي لن يجدي نفعاً إلا بعد نقد المسلك الذاتي، وهو: الأوهام.

بالنسبة للفيلسوف الفرنسي، فإن الإيديولوجيا واليوتوبيا دليلان على المخيال الاجتماعي، تحتل الإيديولوجيا موقفاً مقابلاً لليوتوبيا، ويمكن نقد الإيديولوجيا ومفاهيمها من خلال اليوتوبيا فقط. إن الإيديولوجيا محافظة، وتهدف إلى الحفاظ والإبقاء على نظام السلطة، في حين أن اليوتوبيا هي شيء ثوري لبحثها عن قلب النظام.

عندما نقارب الإيديولوجيا عن طريق الهيرمينوطيقا، تنتهي دائماً باستكمال يوتوبيا ما، لأنها تشكل حدودها الخاصة. مثلاً، إن الإيديولوجيا ترمي بنا إلى مفهوم اليوتوبيا، والعكس صحيح. إن الأسلوب الذي عالج به ريكور اليوتوبيا يستحق مقاربة منهجية، الأمر الذي ليس من أهداف هذه الورقة المقتصرة على دراسة الإيديولوجيا. ونترك المقاربة العميقة لليوتوبيا للبحث القادم.

* خلاصة

حسب ريكور، إن الفلسفة هي “تعبير عن مجهودنا الوجودي وعن رغبتنا في الوجود، بغض النظر عن الطريقة التي يرى بها هذا المجهود وهذه الرغبة”. إن ريكور يفسر الفلسفة بكونها تفكيراً دقيقاً حول الأدب والفنون، والتي هي بدورها علامات تدل على وجودنا.. إن هذه الورقة لا تدعي الإحاطة بكل آثار مناقشة ريكور للإيديولوجيا، ولكن تؤكد على مصادر أقام عليها قراءاته، والإشارة باختصار إلى نشوء آفاق جديدة لمقاربته. يمكن إيجاد هذا الحكم في كتابه.

إن هدفنا هو التركيز على أهمية المقاربة الهيرمينوطيقية للمدرسة الفلسفية، إن بعضاً من خصائص المنهج الهيرمينوطيقي يبدو واضحاً في كتابات ريكور، مثل المقاربات ومقارنة المفاهيم. ليثير صراعات جديدة في المجتمعات الحديثة والمفتوحة، وإخضاع هذه المقاربات المختلفة للنقد، والبحث عن آفاق أوسع، مع الحفاظ واحترام الاجتماعية التي تجرم تفسير الصراع.

إن مشروع ريكور الفلسفي، يرسم تقريباً جيداً بين الذات والواقع، باحثاً عن أجوبة لمشكلات الوجود التي يقدمها الواقع التاريخي. إنه يبحث عن معانٍ أعمق تؤثر على الوجود الفردي في العالم، لهذا فهو يقترح علامة هيرمنوطيقية تؤسس للذات والوقائع.

إننا لا ندعي في هذه الورقة، الإحاطة بكل أثار نقاش ريكور لمفهوم الإيديولوجيا، ولكن حاولنا إبراز المصادر التي اعتمد عليها، مؤشيرين في ذلك إلى الأفاق الأخلاقية التي يمكن أن ترمي إليها مثل هذه المقاربة. التركيز على العيش المشترك بين أناس ينتمون إلى مؤسسات مختلفة، وهو ما نجده في كتبه مثل Du texte à l 'action , Soi -même comme un autre.

إن الهدف الأساسي من هذه الورقة هو إبراز أهمية المقاربة الهيرمينوطيقية للفلسفة الاجتماعية. وبعض من خصائص هذا المنهج الهيرمينوطيقي نجده في كتابات ريكور، خاصة في مقارباته ومقارنة المفاهيم، فأتاح بذلك صراعات جديدة في المجتمعات المعاصرة المفتوحة، بإخضاعه مختلف المقاربات للمنهج النقدي والبحث خارجاً عن آفاق أخرى، خاصة الظاهرة الاجتماعية التي تتجاوز تأويل الصراعات.

إن مشروع ريكور الفلسفي يضع معالم لتقريب جديد بين الذات والحقيقة، باحثاً عن أجوبة لإشكالات الوجود الفردي كما يقدمها الواقع التاريخي، إنه يبحث عن المعاني العميقة التي تؤثر في الوجود الفردي في العالم، لهذا فهو يقترح إشارة هيرمينوطيقية تؤسس لحقيقة العالم والذات. وهذا شبيه بنص تجب ترجمته وشرحه. إن معنى الحقيقي والواقع، حسب ريكور، تكوّن بفضل تجربة الذات عبر التاريخ، قبل تجليها في السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وهذا المعنى لا تدركه الذات بطريقة فورية، وإنما يتكون عبر التاريخ.

هناك تاريخ للمعنى يرثه التقليد الثقافي. إن الطريق لا زال طويلاً لاستكمال معرفة تامة بالواقع. إن اليقين المبدئي للمعرفة الديكارتية، والاستعمال الصحيح لعلامات اللغة، ليس كافياً لإدراك الكيفية التي تكوّن بها الواقع، هناك حاجة ملحة لطريق التحليل النفسي، مثلاً، التحليل القبلي للذات، من أجل تفسير الشروط اللا عقلية لمسار المعرفة، وهذا يعني أيضاً توسيعاً لمفهوم العقل.

إنه أمر صعب ومستمر، أن تحاول شرح وتفسير الواقع، مما يدل على أن هذه المهمة تمثل سيرورة من التأويلات المستمرة. إن المنهج العلمي الصارم سرعان ما يتبخر أمام وقع الشروط النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية للذات. إن فن صناعة الفلسفة يتحول إلى مسلسل لا نهائي من النقد والتأويل. فبمجرد ما يتم تمثيل الفعل الاجتماعي بمجموعة من الإشارات، سرعان ما يتولد صراع بين مختلف أساليب التأويل، التي تولد بدورها ما نسميه بصراع التأويلات Conflict of interpretation، إن وجهة نظر ريكور مبدعة في مجال تقريبها ما بين التأويل التقليدي في العالم الفلسفي، وبين تأويل فعل الذات.

إن التقريب الذي قام به الفيلسوف الفرنسي مع التحليل النفسي، خاصة الفرويدي قد فتح حقلاً واسعاً جديداً للفلسفة. وتذكرنا بعض مقاربات ريكور بيونغ. ويمكننا الإشارة على سبيل المثال إلى مقاربته للخيال الاجتماعي، الذي يذكرنا باللاوعي الجمعي لدى يونغ. إن الفحص الدقيق للتقريب بينهما، يتطلب دراسة مقارنة، ليست من بين أهداف هذه الورقة.

إنني أتفق مع ريكور في نقاشه حول الإيديولوجيا، لأنه لا توجد هناك مقاربة أفضل، إن مقاربة ريكور للإيديولوجيا، تظهر العلاقة والربط بين المعرفة، والسلطة، والإيديولوجيا. يمكننا القول: إن ظاهرة الإيديولوجيا متضمنة في سيرورة المعرفة الإنسانية.

إن مساهمة الفيلسوف الفرنسي في هذا الموضوع، تتجلى في أن فعل ظاهرة الإيديولوجيا ليس مرتبطاً فقط بالظاهرة الاقتصادية، ولكن أيضاً بالسياسة والاجتماع والثقافة. إن الإيديولوجيا لا تأتي فقط من هيمنة طبقية اجتماعية، وإنما أيضاً من نظامٍ للسلطة ينشئه المجتمع.

ويمكننا القول أيضاً: إن ظاهرة الإيديولوجيا ظاهرة لا نهائية وعصيّة على الاستيعاب، لأنه من المستحيل نهج مقاربة لا إيديولوجية عند الحديث عن الإيديولوجيا.

في النهاية، وحسب هذه المقاربة، يجب إعادة قراءة الكتب الأساسية عن الإيديولوجيا، وبعضها يحتاج إلى مقاربات جديدة، مثلاً: إيديولوجيا العمل، الإيديولوجيا والدعاية، الإيديولوجيا والإعلام. يجب البحث عن معنى أعمق لظاهرة الإيديولوجيا، وللمواضيع المرتبطة بها.

 

الهوامش:

* النص الأصلي باللغة الإنجليزية، وهو في الأصل ورقة قدمت للمؤتمر العالمي العشرين حول الفلسفة، ببوسطن، بتاريخ 15/10/1998م.

** أستاذ الفلسفة  بجامعة ليشبونا/ البرتغال.

*** كاتب ومترجم مغربي.

 


حوار مع البروفيسور فرنسيس فوكوياما

نهاية تاريخ ونهاية إيديولوجيات

نهاية التاريخ بعد مرور أكثر من عقد على إعلانها

حــــوار: إدريس هاني

ترجمة: هشام ميلوي

* تقديم

إن أول ما يثير الانتباه في حوارنا هذا مع داعية نهاية التاريخ، البروفسور فرنسيس فوكوياما، هو ظاهرة التحلل من الموقف التمامي الذي رافق أطروحتين شغلتا العالم، ليس لأنهما أتيا بخوارق الفكر، الذي كشفت عنه العبقرية النيوليبرالية، أو جادت به قريحة العقل الأميركي، بل إن مصدر هذا النفوذ غير الطبيعي، لفكرة مدفوعة بسكر الانتصار على المنافس السوفياتي، إلى التعبير عن أقصى الحنين لآراء الفيكتوريين، الذين يجدون الآن في الولايات المتحدة فرصة تحقيق ما كانوا فشلوا في تحقيقه خلال القرون الثلاثة الأخيرة..

وفي التحلل -كما يبدو هذه الأيام- من تمامية الصدام الحضاري، التي حضرت بقوة في تحليل هنتنغتون، أو نهاية التاريخ كما استعرضتها الإنشائيات الفلسفية لفوكوياما، نكشف عن الوجه الإيديولوجي للمقالتين المذكورتين..

هنتنغتون ينفي أن يكون كاهناً للعنف ضد الكيانات الثقافية الأخرى، كما يعلن أن النموذج الحضاراتي، ليس إلا محض نموذج قراءاتي، يمكن أن يتم استبداله، وربما قد تغير..

فوكوياما يتحلل من الطريقة التي تسعى من خلالها العسكرتارية الأمريكية، لفرض قيم المجتمع الحر على العالم..

المشترك إذن أن حركة البراءة من سياسة بوش، قائمة على أعلى مستوى من التنظير الفكري في الولايات المتحدة الأمريكية.. إنها سياسة لا تلتقي مع المضمون الفلسفي لمقولة صدام الحضارات، ولا بالمضمون الفلسفي لمقولة نهاية التاريخ.

فهل يمكن القول: إننا أمام نظرية ثالثة، تقيم صلحاً بين وجهتي نظر على تمام الافتراق، أو لنقل نظرية تلفيقية، تستقوي بالمضمون النهاياتي التبشير ي في انسياحها العسكرتاري، كما تستقوي بالمضمون الانزوائي والصدامي في استعلائيتها وتفردها النموذجي..

هذا ما قلناه واعتقدناه، إن قدراً من الانتقاء، حاضر في سياسة كان أحرى أن تواجه بنظرية ثالثة، نافية، يمكن أن نسميها: نظرية نهاية تاريخ الصدام بين الحضارات!.

إن هذا لا يمنع من مواصلة النقاش الحر، حول كبرى القضايا والأفكار التي تتساقط علينا من سماء هذا الغلب المستدام.. كما لا يمنعنا من القول بأن قسماً كبيراً من سوء القراءة لهاتين المقولتين، لا يزال يرهن العقل العربي، لأسوأ أشكال الأحكام هشاشة وتقلباً.. لذا تعين استمرارية النقاش، ومواصلة الفهم والاستيعاب..

وفي هذا السياق، لا يسعنا إلا أن نشكر المفكر الأمريكي ذا الأصل الياباني على هذا اللقاء..

* نص الحوار

* سأفترض للإيديولوجيا مقومين، أحدهما حقيقتها الزائفة إزاء الواقع، والآخر ضرورتها الوظيفية بالمنظور الاجتماعي... هذا على الأقل ما كشف عنه النقد الإيديولوجي، منذ الازدراء النابوليوني التاريخي بالإيديولوجيين، مروراً بماركس وكارل مانهايم، وانتهاءً بألتوسير وريكور..

قصدنا من ذلك أن نتساءل، في ضوء مقولتكم حول نهاية التاريخ، الذي يبدو وكأنه وعيد بنهاية حتمية للإيديولوجيات. هل معنى هذا أن هناك بالفعل تاريخاً لنهاية مسلسل الزيف؟.. أم أن إيديولوجيا ما، غالبة، ستفرض زيفها على التاريخ في نهاية المطاف، بقوة الحضور والإكراه؟.. هل سيكون الرجل الأخير رجلاً راشداً بالفعل؟، بمعنى أننا سنواجه نهاية حتمية للرجل الخطَّاء؟.

أظن أن رؤيتي تختلف قليلاً عما ذكرتموه، لأنني أومن بوجود نظام معين في التاريخ، تقوده الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وقواها الفاعلة التي تنتهي إلى شكل معين من أشكال الاجتماع البشري، ولا أعني بذلك أنني أنطلق من تصور ماركسي، أو نمذجة هيغلية للتاريخ، لأنني أرى في ذلك نوعاً من الرؤية القووية للتاريخ، إنه ممر ضيق، ذو مراحل جدّ مختلفة من التاريخ البشري، في حين أعتبر أن تصوري للتاريخ هو أقل قووية وأكثر مرونة، فمثلاً: أعتقد أن التحديث الاقتصادي غالباً ما يؤدي إلى مرتبة أعلى من الليبرالية السياسية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، إلى أن تصبح هذه المجتمعات في صف الريادة.

هذا من جهة، وأعتقد أن الديموقراطية الليبرالية تصبح وتتخذ شكلاً عقلانياً، للاعتراف في ثقافة هذه المجتمعات، التي تمرست على هذا النوع من النظام السوسيو-اقتصادي، ومع ذلك فهي ليست الشكل الوحيد للاجتماع البشري أو للجماعات، ولا النوع الوحيد للقيم، وربما هذا يقود إلى السلم السياسي بأسلوب عقلاني وسلمي.

وبالرجوع إلى سؤالكم وعمَّا أشرتم إليه، من أن نظرية نهاية التاريخ هي إيديولوجيا، فإني أقول: ليست إيديولوجيا بالمعنى الذي حملته تسمية إيديولوجيا منذ زمان، إن نهاية التاريخ هي أكثر من ذلك، إنها وصف وتحليل للأسلوب وللطريقة التي يتغير بها العالم، ويطور بشكل أمبريقي نظامه السياسي في الزمان.

* تحاول مقولة نهاية التاريخ أن تقدم نفسها بوصفها نهاية لجدل المثل الحالمة.. أو لنقل، الأشباح العالقة بالمعرفة... لكنها بالمعايير المنطقية، تظل حلماً ويوتوبيا، تستقوي على العقل بضرب من الحجاج، يستند إلى لحظات سكر القوة الليبرالية.. في أي مساحة من مساحات هذا الحلم النيوليبرالي المهجوس بالنهايات، يمكن أن يقيّم حلم الإنسانية المعذبة بالعدالة الاجتماعية؟

لم أقل يوماً ما، ولم أعنِ بنهاية التاريخ يوتوبيا معينة. لقد قلت فقط: كيف يمكن تخيل طريق وأسلوب مختلف، للتنظيم السياسي والمؤسسات الديموقراطية الليبرالية عبر الزمان، لكي تجعل من الناس أكثر سعادة، وهذا لا يعني أن الكل سيكون سعيداً، كما لا يعني أن الناس سيتوقفون يوماً عن الحلم، لأنه من الأكيد، أنه سيوجد أيضاً الظلم وعدم المساواة، ومشاكل أخرى لها علاقة ومدخلية في المجتمع الليبرالي.

لكن الإشكالية المطروحة هي: هل باستطاعتك حل هذه المشاكل دون مؤسسات ديموقراطية ودستور حديث؟، مثلاً عن طريق منع الانتخابات ومنع التعددية الحزبية الديموقراطية، والحد من حرية التعبير؟ في حين أرى أنه من اللازم اتباع أسلوب ونوع آخر في التعبير، أسلوب يؤدي إلى حل هذه التناقضات، ثم وضعها جانباً.

* إن تاريخ البشرية، هو تاريخ متواصل لأجل البحث عن الاعتراف.. هكذا أكد هيغل، وهكذا تأكد في مقولتكم “النهاياتية”.. هل تقيدون النزوع إلى الكرامة، والاعتراف بختم الرجل الأخير؟.. ألا ترون في النزاعات التي تحدث اليوم في عالمنا، ضد الهجمة الإمبريالية الجديدة، برسم الحرية والديموقراطية المغشوشة، أو على الأقل المرهونة بالسباق الاستراتيجي، وهجاس “المولنة” الاقتصادية، أنها نزاع في اتجاه البحث عن الاعتراف؟.

حسناً، حقيقةً إن هذا مشكل كبير وعويص في المجتمعات الليبرالية، وهو كيف نحصل على الاعتراف ونقيمه في هذه المجتمعات بشكل حقيقي؟، لأنه وقبل كل شيء، هناك فقط نوع من الاعتراف الصوري والشكلي للبعض، ولأنك ككائن بشري في حاجة إلى حق، وإن كان صورياً، للمشاركة السياسية والتصويت والتعبير عن الذات، ولكن وبطريقة لينة - Softly -، فإن شكل المجتمعات المعاصرة، يحدده موقعها في التراتب، الذي يتحكم فيه السوق وعوامل أخرى كثيرة، ومن الطبيعي أن يوجد هناك بعض الناس الذين يتذمرون من مثل هذا الوضع، وأعتقد أن هذا ضروري في طريق الاعتراف.

الإشكالية الثانية، هي أن بعضاً من الناس، الآخيرين، لا يرغبون في المساواة في الاعتراف، يحبذون الاعتراف بمن له ثروة وتراكم أكبر، وهذا مؤثر آخر. الإشكالية الأخيرة للرجل الأخير، هو أنه سيحاول في المجتمع الليبرالي، تحقيق نمو ديموقراطي لكل أفراد وطبقات المجتمع، إن المساواة ثمن أيضاً، وفي ظروف معينة، لن تقبل ولن يتحقق الرضا عن هذا النوع من الاجتماع، فالناس سيشعرون بفراغ روحي، ولا شيء سيملأ هذا الفضاء.

* بين الإيديولوجيا “النهاياتية” الفوكويامية، والإيديولوجيا “الصداماتية” الهنتنغتونية، مسافة الشرخ المنظوري في الاستراتيجية الأمريكية، أو لنقل هما طرفا الشفاه الشرماء للأرنب البري الأسطوري، كما في تأويلية ستراوس؛ زهو الانتصار، والإحساس بالرهاب.. هل لنا أن نتعرف على طبيعة هذه المسافة؟

أرى الأمر أكثر بساطة وسهولة من هذا، لأن هنتنغتون لا يؤمن بوجود نوع من القيم الكونية، أو الثقافية، أو حتى المؤسساتية، في حين أنني أعتقد أن الرغبة في العيش في مجتمع حديث هي رغبة كونية.. وبالنتيجة العيش في حضارة كونية، الديموقراطية الليبرالية ليست محددة بثقافة معينة، ولا تقتصر على شعب دون آخر، رغم أنه من الجدير القول إن الديموقراطية تتطور اليوم في الغرب المسيحي، لكن أظن أن هناك مشاريع في آسيا، وفي بعض البلدان الإسلامية في أفريقيا، لأن الديموقراطية الليبرالية هي الشكل الأكثر ملاءمة مع الطبيعة البشرية، كنظام كوني مرغوب فيه، في حين أن هنتنغتون يقول بوجود حضارات متعددة ذات خصائص كاملة.

* إلى أي حد تبدو لكم إيديولوجيا نهاية الإيديولوجيات، اختراعاً ممهوراً بسكر الغلبة العسكرتارية والانبعاث الفيكتوري؟. هل ترون في الملحمة النيوليبرالية بزعامة الرئيس بوش، آلية لتحقيق هذه النهاية؟ أو بتعبير آخر، هل ترى بوش قريباً من مقولة نهاية التاريخ أم من مقولة صدام الحضارات؟.

لا أعتقد بوجود ارتباط مع أي من النظريتين، فالاستراتيجيا الأمريكية لا تؤمن بالتراتب. أكيد ومن الواضح أن بوش لديه تصور كوني يخص الرغبة والنزوع إلى الحرية، لكن إذا ما نظرت إلى السياسة الخارجية يصبح ذلك الحس تبسيطياً في مقارباته للقضايا والمشكلات في العالم، صحيح أن الرغبة في الحرية هي أمر كوني وعام، كما هو المجتمع الليبرالي، لكن ذلك يتطلب إنشاء مؤسسات، ويتطلب وقتاً، إنه مسلسل صعب، إن التقدم الاجتماعي ينتهي بوضع شبيه بتجربة الحياة في المجتمع الحديث، وأعتقد أن ذلك ليس أمراً يمكن تحقيقه بقوة السياسة الخارجية وبالسلطة، إنها تجربة تتطور عبر مراحل طبيعية، تاريخية، ولا يمكن فرضها بقوة.

ربما بوش، بسياسته الحالية، يثير نوعاً من القلق، والإحالة على نظريتي في نهاية التاريخ، كما يمكن له أن يثير نظرية صدام الحضارات لهنتنغتون، لا يقصد ذلك مباشرة بطبيعة الحال، لكن مثل: أن طريقة معالجة الإرهاب في العالم، ربما تزيد من دائرته وتغذيه. لهذا أعتقد أن ذلك خطير جداً، كما أظن أن الهدف النهائي جيد، لكن طرق تحقيقه ليست كذلك.

* ماذا بعد أكثر من عقد على مرور أول إعلان عن مقولة “نهاية التاريخ”؟.. هل لازلتم تتطلعون إلى هذه النهاية؟ أم أن كبوة الرجل الأخير، بدأت ترخي بظلال اليأس على كل التوقعات الأمريكية؟.. ما الذي تغير إذن؟

من الواضح أنني سأكون ذاتياً في قراءة النظرية، لكن يمكنني القول تجاوزاً: إن “الجهاد” - Jihadisme - ومفاهيمه هي التحدي الأساسي لليبرالية، لأنه نوع مغاير من الإيديولوجيا، وربما الأشرس، لكن أظن أنه في النهاية لن يكتب له النجاح، على الأقل سياسياً.

هذا على مستوى التحدي الإيديولوجي. هناك تحدٍّ من نوع آخر، وهو عدم قدرتنا على تحقيق نمو اقتصادي في عدة بلدان فقيرة، الغالبية منها في إفريقيا، وبدون نمو اقتصادي من الصعب إيجاد نظام ديموقراطي ليبرالي ومؤسسات.

أخيراً، أظن أنه لدينا مشكل مع الديموقراطية على المستوى العالمي. لدينا ديموقراطية على مستوى الدولة ـ الأمة، مثلاً: مؤسسات في بريطانيا أو الولايات المتحدة، لكن على مستوى العلاقة بين البلدان، ليست هناك آليات للتنسيق. وأظن أن هذا أحد أكبر المشاكل التي تواجه الولايات المتحدة والعالم، وكذلك المشاركة الديموقراطية.

كما أنني لازلت أومن بالتحديث، وبمسلسل المنافسة الذي يقود إلى الديموقراطية السياسية. وبالرجوع إلى السياسة التي تنهجها الإدارة الأمريكية، سواء في صيغتها القديمة أو الحالية، فإنها سياسة خاطئة بالكامل، لأنها تتخذ القوة سبيلاً لتشريع التقدم والتطور الاقتصادي، في حين أن هذا التطور يقوم على عوامل داخلية أولاً endogène، وإلا فستغرق في بحر من المشاكل.. لهذا يجب توخي الحذر الشديد قبل نهج مثل هذه السياسات.

ولدي انطباع، أننا أمام خطر، إذا لم نلغِ ردود الفعل المتبادلة، وأعتقد أن الولايات المتحدة، قد بالغت في ردة فعلها بعد أحداث سبتمبر، في حين يجب أن نكون أكثر عقلانية بالنظر إلى موقعنا في العالم اليوم، وبإمكاننا نهج سياسة جديدة الآن.

وأظن أن سؤالكم فيه الكثير من الصحة، لأنه بالفعل هناك العديد من العوامل المشتركة في الحضارات والثقافات المختلفة، والتي يمكن أن تقود إلى مسلسل التحديث. مثلاً هناك أدبيات مهمة مقارنة مع أسيا التي تأقلمت مع طبيعة العمل الرأسمالي. هناك أيضاً مشاكل ناتجة عن العولمة، والتي أدت إلى الانكفاء على القيم الخاصة للمجتمعات، لكن كل الدول التي نجحت في مسلسل التحديث هي الدول التي استطاعت تجاوز ثقافتها. وأتاتورك، كان له هذا المشروع الكبير، والطموح للحداثة الهندية - التركية، أظن أن هناك العديد من مصادر التحديث، لكنه مسلسل كوني.. وكما قلت: إن النزوع للعيش في المجتمع الحديث تتقاسمه جميع شعوب العالم، وإن كانت تسندها قيم خاصة ليست بالضرورة قيماً غربية، لأنتهي بالقول: إن هذا المسلسل ليس غربياً خالصاً، والخطأ الذي ارتكبته إدارة بوش، أنها لم تستطع استيعاب كون التحديث ينبع من الداخل، فأشاعت نوعاً من الكراهية ضد الولايات المتحدة في العالم.

وأظن أن التقرير الثالث حول التنمية البشرية في العالم العربي، أثار مواضيع الإصلاح السياسي ومختلف المشاريع في الشرق الأوسط، لكن أظن أن هناك صدمة خارجية هي التي أدت إلى تحريك الوضع. ولا أقصد هنا تبني نظرية الصدمة الخارجية، لكن يجب أن نعمل جميعاً من أجل حل مثل هذه المشاكل العالقة، وعلينا أن نتذكر أن دول جنوب شرق أسيا، قد مرت خلال مسيرتها التنموية بنظم شمولية ومتسلطة قبل أن تنفتح على النظم الإيديولوجية. ويجب التأكيد على أن هذه الحالة تقتصر على دول أسيا، لأن النظم الشمولية في الدول الأخرى، لم تستطع إبداع مشاريع للنهوض الاقتصادي، إذن ليس هناك لا نمو اقتصادي، ولا ديموقراطية في هذه الحالات.

 


الثقافة والمجتمع.. نظريات وأبعاد

زكي الميلاد

-1-
الثقافة والمجتمع وبناء المفاهيم

لعله ما كان بالإمكان التعرف على فكرة الثقافة، واكتشاف قيمة وفاعلية هذه الفكرة، وتطوير المعرفة بمكوناتها وأبعادها ووظائفها وعلائقها، بدون وجود المجتمع، وبعيداً عن مفهوم المجتمع، وقدرة المجتمع على البقاء والوجود والاستمرار.

 وما كان بالإمكان أيضاً التعرف على فكرة المجتمع كمعنى ومفهوم كلي ومركب بدون فكرة الثقافة. فالثقافة بدون المجتمع هي معنى بدون إطار، والمجتمع بدون الثقافة هو إطار بدون معنى. والمعنى بدون إطار هو معنى بدون صورة، وليس له تحقق وتمثل فعلي وإنساني، والإطار بدون معنى هو إطار بدون محتوى، وليست له هوية وشخصية ثابتة ومتماسكة.

وهذا يعني أن فكرة الثقافة لا تكتمل بدون المجتمع، والمجتمع ليس له معنى بدون الثقافة. لذلك كان من السهولة أن تتطور فكرة الثقافة باتجاه الارتباط بالمجتمع. التطور الذي دفعت به الثقافة من جهة دفعاً ذاتياً، ودفع به المجتمع أيضاً من جهة أخرى دفعاً موضوعياً. الثقافة دفعت به بحثاً عن الإطار، والمجتمع دفع به بحثاً عن المعنى. فهناك إذاً قابلية من الثقافة، وقابلية من المجتمع.

من هنا نشأ التلازم والتداخل بين الثقافة والمجتمع. التلازم الذي صورته وأكدت عليه معظم الدراسات والكتابات الثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية، القديمة والحديثة، ومازالت تعبر عنه وتؤكد عليه إلى اليوم. خصوصاً بعد أن تحول الاهتمام والنظر إلى الثقافة من البعد الفردي إلى البعد الاجتماعي، ومن فكرة التهذيب الذي يتصل بالفرد إلى فكرة التهذيب الذي يتصل بالمجتمع.

وهذا ما حاول تغليبه والكشف عنه توماس إليوت، وهو يبحث عن المعاني المتعددة لكلمة الثقافة، فارتباطات هذه الكلمة -كما يقول- تختلف بحسب ما نعنيه من صلة لها بنمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. لكن الأساس عنده هو ربط معنى الثقافة بالمجتمع. لأن ثقافة الفرد في تصوره تتوقف على ثقافة الفئة أو الطبقة، وثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. كما انتقد إليوت الذين ربطوا كلمة الثقافة بالمعنى الذي يتصل بالفرد دون وصله بالمعنى الذي يتصل بالمجتمع، وهو يعني بذلك ما ذهب إليه ماثيو أرنولد في كتابه (الثقافة والفوضى)، واعتبر هذا الربط ناشئاً من خلو الصورة عند أرنولد من الأساس الاجتماعي(1).

وفي نظر تيري إيجلتون أن الثقافة كان لابد لها أن تحتفظ ببعدها الاجتماعي، لكي يكون بإمكانها أن تمثل نقداً فاعلاً ومؤثراً، ولم يعد باستطاعتها أن تقفز عائدة إلى معناها الباكر حسب وصف إيجلتون، والخاص بالتهذيب الفردي(2).

ويعتبر لويس دوللو أن المرحلة الاجتماعية لمفهوم الثقافة بدأت مع تعريف تايلور للثقافة الذي عرفها بأنها ذلك الكل المركب الذي يشمل العقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.

وبهذا التعريف الذي عُرف بسطوته وقوة حضوره، يكون تايلور قد ساهم في تدعيم العلاقة وتوثيقها بين الثقافة والمجتمع. ومن بعد تايلور بدأت الثقافة تعرف وينظر لها عند الكثيرين في إطار علاقتها بالمجتمع، وباعتبارها مفهوماً اجتماعياً.

وهذا ما ظهر واضحاً في العديد من التعريفات اللاحقة للثقافة، كتعريف عالم الاجتماع روبرت بيرستد، التعريف الذي وصفه الدكتور الفاروق زكي يونس بأنه من أبسط تعريفات الثقافة، وأكثرها وضوحاً، حيث عرفها في أوائل ستينات القرن الماضي بقوله: “إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في مجتمع”(3)، أو في تعريف ورالف لينتون الذي يرى أن الثقافة هي التشكيل الخاص بالسلوك المكتسب، ونتائج السلوك الذي يشرك جميع أفراد مجتمع معين في عناصره المكونة ويتناقلونها. إلى غير ذلك من تعريفات ظهرت في أزمنة متعاقبة، ولسنا بحاجة إلى إحصائها وتتبعها.

ومن شدة التلازم والارتباط بين الثقافة والمجتمع، ظلت هذه العلاقة محور جدل لم ينتهِ عند المشتغلين في الدراسات الثقافية والاجتماعية، الجدل الذي ظل يفرض حضوره في مقدمة الحديث عن هذه العلاقة، وصورته تتحدد في: هل أن الثقافة هي التي تصنع المجتمع؟ أم المجتمع هو الذي يصنع الثقافة؟ وهل هناك مجتمع قبل الثقافة؟ أو ثقافة قبل المجتمع؟.

وأمام هذه الجدلية وجد الدارسون أن من الصعب، أو من المتعذر تحديد من الذي يتقدم ويسبق الآخر، ويكون هو الأصل. لذلك تركز الاهتمام على الأبعاد المشتركة بينهما. وعن هذه الجدلية وصورتها يقول أصحاب نظرية الثقافة: “يدور الجدل باستمرار بين العلماء الاجتماعيين حول ما إذا كانت الهياكل المؤسسية هي مصدر الثقافة، أم أن الثقافة هي السبب في البنية. وكما يبدو واضحاً من تعريفنا لأنماط الحياة، فإننا لا نرى سبباً للاختيار بين المؤسسات الاجتماعية والتحيزات الثقافية. فكلٌّ من القيم والعلاقات الاجتماعية يعتمد تبادلياً على الآخر ويقوّيه، فالمؤسسات تولّد مجموعات متميزة من التفضيلات، كما أن الالتصاق بقيم معينة يضفي المشروعية على الترتيبات المؤسسية المناسبة لها.

وإذا طرحنا التساؤل حول ما الذي يأتي أولاً، أو ما الذي يجب إعطاؤه أولوية سببية فهو متعذر”(4).

وبوضوح أكثر يقول الفاروق زكي يونس: “إن العلاقة وثيقة بين المفهومين -الثقافة والمجتمع- نظرياً وفي الواقع الاجتماعي كذلك، وحتى لو أمكن التفرقة النظرية بينهما، إلا أن الظواهر التي يعبران عنها لا ينفصل بعضها عن بعض في الحقيقة والواقع. فالثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع، ثم إن المجتمع لا يقوم ويبقى إلا بالثقافة. إن الثقافة طريق متميز لحياة الجماعة، ونمط متكامل لحياة أفرادها، ومن ثم تعتمد الثقافة على وجود المجتمع، ثم هي تمد المجتمع بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة فيه”(5).

وحين انتصر الدكتور كارل مانهايم لمفهوم الصفوة، وهو الفيلسوف الذي تستحق آراؤه عن فكرة الصفوة أقصى الاهتمام، لقيمتها في ذاتها، ولما لها من تأثير، فهو الذي رسم خطوط كلمة الصفوة في بريطانيا، هذا ما قاله عنه توماس إليوت قبل أن يناقشه في فكرته التي يقول فيها: “إن البحث الاجتماعي عن الثقافة في مجتمع حر، يجب أن يبدأ بحياة أولئك الذي يخلقون الثقافة، أي المثقفين ومكانهم في المجتمع ككل”، ويعقب إليوت على هذه الفكرة مخالفاً لها بقوله: إن “تصوري للثقافة هو أنها من خلق المجتمع ككل، إذ هي من وجهة أخرى ما يجعله مجتمعاً. إنها ليست من خلق أي جزء واحد من ذلك المجتمع”(6).

وحين اعتبر إليوت أن الثقافة هي من خلق المجتمع، سرعان ما تدارك واعتبر أيضاً أن ما يجعله -أي المجتمع- مجتمعاً هي الثقافة.

لذلك يمكن القول: إن الثقافة ساهمت من جهة في تطوير مفهوم المجتمع، كما ساهم المجتمع من جهة أخرى في تطوير مفهوم الثقافة.

-2-
الثقافة والمجتمع في رؤية رايموند وليامز

في المجال الثقافي والدراسات الثقافية، عرف رايموند وليامز (1780 - 1950م) بكتابه (الثقافة والمجتمع الصادر عام 1956م)، والذي قدّم فيه أوسع حديث حول هذه القضية. ولعل هذا الكتاب يعدّ في طليعة الأعمال الفكرية التي اقترنت فيها الثقافة بالمجتمع، في حين أن المؤلفات التي سبقته كانت تقرن الثقافة بموضوعات أخرى، ومن هذه المؤلفات المعروفة كتاب ماثيو أرنولد (الثقافة والفوضى)، أو كتاب ف. ر. ليفيس (الثقافة والبنية، الصادر عام 1933م)، والذي ألّفه بالاشتراك مع دينيس تومبسون،. وغير ذلك من مؤلفات أخرى.

وعلى هذا الأساس فإن محور فكرة وليامز عن الثقافة تدور في إطار علاقتها بالمجتمع، بما يمثل المجتمع من سياق تاريخي ممتد من الماضي إلى الحاضر، على صورة سيل لا يتوقف من التغيرات، المؤثرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية، والتي تؤثر بدورها في تطور فكرة الثقافة من جهة، وفي طرائق فهم المجتمع لفكرة الثقافة من جهة أخرى.

ولهذا يرى وليامز أن التطور الذي طرأ على لفظة ثقافة، يمثل سجلاً لعدد هام ومتواصل من ردود الأفعال، للتغيرات التي حصلت في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهذه الفكرة افتتح بها وليامز مقدمة كتابه واختتم بها أيضاً، حيث اعتبر أن تاريخ فكرة الثقافة هو سجل لردود أفعالنا فكرياً وشعورياً للظروف المتغيرة في حياتنا العامة. ويعيد وليامز التأكيد على هذه الفكرة بعبارة أخرى، من شدة قناعته بها بقوله: “وتاريخ فكرة الثقافة هو سجل لتعريفاتنا ومعانينا التي يجب ألاَّ تفهم إلا عبر سياق أفعالنا”(7).

وقد وجد وليامز أنه لكي يتعرف على تاريخ تطور فكرة الثقافة، وكيف تشكّلت وتعاقبت وتحددت، كان عليه أن يستحضر التاريخ الثقافي للمجتمع الإنجليزي، وتراثه الفني والنقدي كسياق لابد منه لتكوين مثل هذه المعرفة. وفي رأيه أن فكرة الثقافة قد مرّت بتاريخ من التطور والتحول تغير فيها منطق المعنى ومحدداته واتجاهاته، وهذا التطور كان يستجيب من جهة لتطور وتراكم المعرفة، ولطبيعة التطور الاجتماعي من جهة أخرى. والحدث الذي أبرز الاهتمام بفكرة الثقافة في نظره هو الثورة الصناعية في أوروبا، وهذا ما حاول وليامز الكشف عنه، والبحث عن تفسيرات له، فالمبدأ الذي قام عليه كتابه كما يقول هو “اكتشاف أن فكرة الثقافة، واللفظة ذاتها في استعمالاتها الحديثة والعامة، برزتا في التفكير الإنجليزي في الفترة التي نصفها عادة بالثورة الصناعية. وما يستهدفه هذا الكتاب هو تبيان كيف حدث هذا ولماذا حدث، ثم متابعة الفكرة وكيف وصلت إلينا” وبذلك يغدو الكتاب كما يضيف وليامز، “سرداً وتفسيراً لاستجاباتنا في مجال الشعور والتفكير، تجاه التغيرات التي حدثت في المجتمع الإنجليزي منذ أواخر القرن الثامن عشر”(8).

وما بين تلك الفترة إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، استخدمت لأول مرة في اللغة الإنجليزية المتداولة عدة ألفاظ، أصبحت فيما بعد ذات أهمية أساسية، حددها وليامز في خمسة ألفاظ هي: صناعة، ديموقراطية، طبقة، فن، ثقافة. والتغيير الذي حصل في تركيبة معاني هذه الألفاظ، يشهد -في نظر وليامز- على التغير الشامل الذي حصل في طرائق التفكير التي تتصل بالحياة العامة، وما يخص المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما يتعلق بالأغراض التي خصصت تلك المؤسسات لتجسدها.

وباقتضاب شديد، تتبع وليامز التغير الذي طرأ على تلك الألفاظ إلى أن وصل إلى لفظة ثقافة، فحدّد تعاقب المعاني التي مرّت بها في أطوارها التاريخية، فبعد أن كان معناها قبل تلك الفترة يدل على اتجاه النمو الطبيعي، أصبح فيما بعد يدل على تهذيب شيء ما في العادة. إلى أن تغير المعنى وأصبحت لفظة الثقافة تعني شيئاً مستقلاً في حد ذاته، وذلك في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فقد أصبح معناها أولاً -كما يقول وليامز- حالة أو عادة عقلية عامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة الكمال الإنساني، وغدت تعني ثانياً الحالة العامة للتطور الفكري في مجتمع بأسره، إلى جانب معنى ثالث هو الكيان العام للفنون. وإلى أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الثقافة تعني معنى رابعاً هو طريقة شاملة للحياة، مادية وعقلية وروحية(9).

وهذا المعنى الأخير للثقافة هو الذي ارتضاه وليامز، وظلّ يدافع عنه، ويغلّبه على غيره من المعاني الأخرى، لأنه الأكثر نضجاً ودلالةً واكتمالاً. كما ظل يرجع إليه باستمرار، وفي كل مرة يُقارنه بأحد المعاني يُظهر تحيُّزه له وتأكيد تفوقه.

هذه اللمحة الموجزة جداً عن مراحل تطور تاريخ فكرة الثقافة، لعلها من أهم الأفكار التي أشار إليها وليامز في كتابه. ولو تعقب وليامز هذه المراحل بمنهجية وتركيز، لكان الحديث أكثر ضبطاً وتقعيداً وفائدةً. بدل الإسهاب والإطناب الزائد، الذي أظهر الكتاب كما لو أنه توثيق لتجارب فكرية مختلفة، تنتمي لأزمنة متعددة ومتعاقبة، وتعبر عن اتجاهات ومسلكيات تحسب على أشخاصها. ومن هذه الناحية يعدّ الكتاب مملاً بعض الشيء، بسبب توسعه وإسهابه، وكونه يكتفي بالكُتّاب الإنجليز فقط.

وقد التفت وليامز نفسه إلى الملاحظة، وأراد أن يقدم تصويباً لها، وتوضيحاً لوجهة نظره، واعتبر أنه لم يختص في بحثه واستقصائه بتمييز المعاني المذكورة للثقافة فحسب، وإنما بارتباطها بمصادرها ومؤثراتها، ولا عن طريق اختبار سياق من القضايا المجردة كما يقول، بل بفحص سياق من الأقوال التي قدّمها الكتاب، ولئن كان إطار البحث عاماً حسب قوله، إلا أن المنهج في دقائقه هو دراسة الأقوال والمساهمات الفردية(10).

وما يؤكد مثل هذه الملاحظة، أن تيري إيجلتون، الذي اعتبر وليامز منظّر الثقافة الأكبر في بريطانيا ما بعد الحرب، لم يتحدث عنه في كتابه (فكرة الثقافة) إلا في حدود تلك الإشارة، التي عدّد فيها وليامز المعاني المتعددة والمتعاقبة للثقافة، مستشهداً عليها بتعقيد فكرة الثقافة. فقد وجد إيجلتون -كما يقول- أن تعقيد فكرة الثقافة لا يتضح جلياً في أي مكان، بقدر ما يتضح عند رايموند وليامز، الذي قدّم حولها عدداً من التعريفات، في مراحل مختلفة من عمله(11).

والملاحظة الأخرى، أن وليامز مع أنه يفضل المعنى الذي يصور الثقافة على أنها طريقة شاملة للحياة، ولعله يعلم أن أكثر من دعم هذا المعنى، ورسّخه في الدراسات الثقافية والأنثروبولوجية هو إدوارد تايلور، وعرف به أكثر من غيره، وتعرف عليه الآخرون من خلاله، مع ذلك لم يشمله وليامز من بين الكُتّاب والنقاد الإنجليز الذين تحدّث عن عدد غير قليل منهم، والكثير منهم ليسوا في منزلة وشهرة تايلور في مجال الثقافة، الإهمال الذي لم أجد تفسيراً علمياً مقنعاً له. ولا أظن أن هذا الإهمال جاء سهواً، أو كان بعيداً عن إدراك وليامز، أو غائباً عن ذكائه وفطنته.

وحينما خصص وليامز فصلاً في كتابه عن توماس إليوت، للحديث عن فكرته حول الثقافة كما عرضها في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، وجد أن مواضع الأهمية في هذا الكتاب التي تستحق الذكر والمناقشة -حسب رأيه- تتحدّد في فكرتين، الأولى: اعتباره الثقافة طريقة شاملة للحياة، وهي الفكرة التي أخذ وليامز يجادل فيها إليوت، توافقاً وتخالفاً من حيث تضميناتها وأبعادها. ومع أن إليوت أشار إلى تايلور عندما أخذ بهذا المعنى العام للثقافة، أو المعنى الأنثروبولوجي كما وصفه، مع ذلك بقي وليامز على موقفه الذي لعله تقصّد فيه ألاَّ يأتي على ذكر تايلور في كتابه. ومن النادر أن تجد كتاباً يتحدث عن الثقافة فكرة أو معنى أو تاريخاً يغيب فيه اسم تايلور. وما يتمم هذه الملاحظة أن وليامز توقف مليًّا أمام عام 1870م، وحين أراد أن يؤرخ للفترات التي يصفها بالأساسية، قسّم هذه الفترات إلى ثلاثة أقسام. تمتد الفترة الأولى من عام 1700 إلى عام 1870م، وتمتد الفترة الثانية من عام 1870 إلى عام 1914م. وفي مكان آخر يتوقف أيضاً أمام ذلك العام، ويرى أنه موضع ريبة بالغة باعتباره يمثل تاريخاً حاسماً. مع العلم أنه في عام 1871م أصدر تايلور كتابه الأكثر شهرة في مجاله (الثقافة البدائية) ويفترض لمثل هذا التزامن، أن يلفت الانتباه أكثر لشخصية تايلور وأفكاره، الأمر الذي لم يحصل.

أما الملاحظة الأكثر أهمية فهي أن وليامز لم يقدّم نظرية في العلاقة بين الثقافة والمجتمع، أو نظرية في الثقافة. مع أنه بذل جهداً واضحاً في استكشاف التاريخ الثقافي لمجتمعه، واستحضار تجارب الكُتّاب والنقاد المؤثرين، والذين ينتمون إلى ثلاثة عصور تمتد من عام 1780 إلى عام 1950م. ومن هذه الناحية يعدّ كتابه ثريًّا ومهمًّا في موضوعه ومجاله، وهو أشبه ما يكون بكتاب يؤرخ لتاريخ الثقافة في المجتمع البريطاني. وعملٌ بهذا المستوى يفترض فيه أن يكون مؤهلاً، أو له إمكانية بناء نظرية أو فكرة أو تصور في هذا الشأن. وإنجاز مثل هذه المهمة لا يتعارض واهتمام المؤلف بالسرد التاريخي، وتفسير الأقوال ونقد المقولات والأفكار، ولعله كان من المناسب أن يختم المؤلف كتابه بنظرية أو تصور حول موضوعه.

وعندما كان هذا الكتاب في المطبعة أدرك المؤلف الحاجة إلى نظرية جديدة عن الثقافة، تستفيد ممَّا أنجزه هو من تنقية التراث، وحسب قوله: “وبينما كان هذا الكتاب في المطبعة كنت أفكر في الاتجاهات التي ينبغي أن يسير عليها بشكل مثمر عمل آخر في نفس المجال.. ويلوح لي في البداية أننا في طريقنا إلى أن نصل من اتجاهات متباينة، إلى موضع ينبغي أن تنجز فيه بالفعل نظرية جديدة عامة عن الثقافة. ولقد نشرت في هذا الكتاب تنقية التراث، إلا أنه قد يصبح ممكناً الانطلاق من هذا إلى توضيح كامل للمبادئ، مع اعتبار نظرية الثقافة نظرية للعلاقات بين مكونات في طريقة شاملة للحياة”(12).

ولعله يفهم من كلام وليامز أنه يفصل بين مهمتين، مهمة الانشغال ببناء النظرية، ومهمة الانشغال بتنقية التراث. المهمة الأولى تحتاج إلى إمكانات البناء، والمهمة الثانية تحتاج إلى إمكانات النقد. وهذا الفصل ليس صائباً بالضرورة، لا من الناحية المعرفية، ولا من الناحية المنهجية. والأصوب هو الجمع بين المهمتين والتكامل بينهما. لأن الذي ينشغل ببناء النظرية، قد لا يكون عمله مقنعاً عند البعض إذا لم يستحضر معه التراث الثقافي، ويقوم بتنقيته والتأسيس عليه. لأن بناء النظرية ليس بحثاً في التجريد، ولا هو مجرد تأملات مكثقة ومنظمة، وكلما كانت هذه المهمة متصلة بالتجربة والتراث والتاريخ، كانت أكثر أهمية وقيمة وإقناعاً.

ومن الملاحظات الأخرى التي ينبغي أن تذكر، ما يذهب إليه البعض في تصنيف كتاب وليامز، من أنه يأتي في سياق النقد اليساري لطبقة التطور الرأسمالي والليبرالي، الذي حصل في بريطانيا بصورة متراكمة ومتلاحقة بعد الثورة الصناعية، التي كانت في زمنها أعظم حدث أثّر بعمق في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأدخل بريطانياً وأوروبا إلى عصر جديد. وهذه الملاحظة لا تخلو من صحة، ولها أساس واقعي في بنية وأطروحة الكتاب الذي يظهر عليه الاهتمام بالنقد الاشتراكي واليساري، وإظهار الخلاف مع اتجاهات التطور الرأسمالي، ومع النزعة الليبرالية.

هذه بعض الملاحظات، وهناك الكثير ممَّا يمكن مناقشته مع كتاب وليامز، لكننا لسنا بحاجة لمثل هذا التوسع.

-3-
نظرية القابلية الاجتماعية والثقافية للنمو

من النظريات الحديثة التي حاولت تأكيد العلاقة وتطويرها بين الثقافة والمجتمع، هي النظرية التي أطلق عليها أصحابها نظرية القابلية الاجتماعية والثقافية للنمو. ولأن هذا التعبير -في نظر أصحابها- غير لبق من حيث الأسلوب، ولا يستقطب الاعتراف الذي يسعون إليه كما يقولون، لذلك فإنهم يشيرون لهذه النظرية بتعبير مختصر، ويطلقون عليها نظرية الثقافة. وهو التعبير الذي حمل عنوان كتاب أصدره ثلاثة من الكُتّاب الأكاديميين، هم: ميشيل تومبسون مدير معهد وباحث في جامعة لندن، وريتشارد إليس أستاذ في علم السياسة، وآرون فيلدافسكي أستاذ علم السياسة في جامعة كاليفورنيا. وهذا الكتاب هو الأول في سلسلة من المؤلفات عن الثقافة السياسية صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية تسعينات القرن العشرين.

وترتكز هذه النظرية على ثلاثة مفاهيم أساسية، مترابطة بشدّة فيما بينها، هي كما اصطلح عليها أصحابها، التحيزات الثقافية، والعلاقات الاجتماعية، وأنماط الحياة. وحسب هذه النظرية، فإن التحيزات الثقافية تشير إلى القيم والمعتقدات المشتركة، وتعرَّف العلاقات الاجتماعية بأنها أنماط العلاقات الشخصية بين الأفراد، وأنماط الحياة هي حصيلة المركب الحي بين التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية، بدون إعطاء أولوية سببية لا للتحيزات الثقافية، ولا للعلاقات الاجتماعية، فبينهما علاقة تبادلية، وكل منهما تتفاعل مع الأخرى وتقويها. فالالتزام بأنماط معينة من العلاقات الاجتماعية يولد طريقة متميزة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً من العلاقات الاجتماعية. لذلك يكفي حسب هذه النظرية بيان أن كلاً من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية مسؤولة عن الأخرى، بدون الدخول في قضية من جاء أولاً(13).

وقد جاءت هذه النظرية لكي تستوعب الاتجاهات الرئيسية المتباينة في النظر إلى الثقافة من جهة، وتضع حدًّا للانقسام الحاصل بين الاتجاهات الثقافية والاتجاهات الاجتماعية والتقريب بينهما من جهة أخرى. فأمام التعريفات التي لا حصر لها للثقافة، والتي قد طرحت وجربت -كما يقول أصحاب هذه النظرية- دون أن يتحقق اتفاق حولها بين الباحثين، إلا أن هناك اتجاهين في تلك التعريفات يتنافسان على التفوق، أحدهما ينظر للثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات والرموز، وما شاكلها من المنتجات العقلية. أما الاتجاه الآخر فيرى أن الثقافة تشير إلى النمط الكلي لحياة شعب ما، وإلى العلاقات الشخصية بين الأفراد وطبيعة توجهاتهم.

وكما هو ملاحظ فإن الاتجاه الأول يربط الثقافة بالتحيزات الثقافية، والاتجاه الثاني يربط الثقافة بالعلاقات الاجتماعية وبنمط الحياة. وبدلاً من المجادلة لمصلحة تعريف دون آخر، حاولت هذه النظرية استيعاب كلا الاتجاهين في إطار مشترك، وتكوين نظرية على أساس الجمع والتكامل بينهما، هذا عن الجهة الأولى.

أما الجهة الثانية، فقد شهدت العلوم الاجتماعية في الحقب الأخيرة انفصالاً كما يقول أصحاب هذه النظرية، بين دراسات القيم والرموز والمعتقدات، وبين دراسات العلاقات الاجتماعية وأنماط التنظيم والمؤسسات. الانفصال الذي جعل من دراسات الثقافة كما لو كانت المنتجات العقلية تظهر في فراغ مؤسسي، في المقابل تجاهلت دراسات العلاقات الاجتماعية كيف يقوم الناس بتبرير طريقتهم في الحياة لأنفسهم وللغير. لذلك يعتقد أصحاب هذه النظرية أن أحد أهم إسهامات نظريتهم هو التقريب بين هذين الاتجاهين الثقافي والاجتماعي(14).

كما حاولت هذه النظرية أن تبرهن على عدم الحاجة إلى المفاضلة بين الثنائيات التي ظل العلم الاجتماعي غارقاً فيها، كثنائية الثقافة والبنية، الثابت والمتغير، الطوعية والجبرية، الموضوعية والذاتية، المادية والمثالية، العقلانية واللا عقلانية وغيرها. بالرغم من أن هذه الثنائيات مفيدة أحياناً -كما يقول أصحاب هذه النظرية- كتقسيمات تحليلية، إلا أنها غالباً ما تؤدي إلى نتيجة سيئة، وهي إخفاء مظاهر الاعتماد المتبادل بين الظواهر. ويضيف أصحاب هذه النظرية أنه كثيراً ما يفتعل العلماء الاجتماعيون إشكالات لا حاجة إليها بتمسكهم بجانب واحد من هذه الثنائيات، والادعاء بأنها الأكثر أهمية(15).

ولعل ما أشرنا إليه يعبر عن الفكرة الأساسية لهذه النظرية، وهناك أبعاد ومكونات أخرى في هذه النظرية لسنا بصدد الحديث عنها، ومتابعتها بكل تفاصيلها.

ومن الواضح على هذه النظرية أنها من نمط النظريات التوفيقية والتقريبية والاستيعابية، فقد جاءت للتوفيق بين اتجاهات ظهر بينها التباعد والانفصال، والتقريب بين ثنائيات يظهر عليها التباين والتعارض، ومحاولة استيعاب العديد من النظريات التي تنتمي لأزمنة مختلفة بحثاً عن الجذور، وانتظاماً في حركة الأفكار والمعارف وتطورها وتعاقبها التاريخي، وسعياً نحو تأكيد التفوق، وإظهار الإنجاز.

وهذا النمط من النظريات لا يروق للبعض، الذي يرى أنها تتصف بالمهادنة واللا حسم وإخماد الجدل، وأن لا ضرورة لهذه النزعة التوفيقية، التي لا تمثل في نظر هؤلاء مكسباً وإنجازاً، والوصول إليها لا يمثل فتحاً وإبداعاً، لأن من السهولة والبساطة الوصول لمثل هذه النتائج والحلول. وهذا بخلاف أصحاب هذه النظرية، الذين يتصورون أن محاولتهم هذه تأتي في سياق إخراج العلم الاجتماعي، من حالة الانسداد والمأزق الذي وصل إليه، والانتقال به من الحالة السلبية إلى الحالة الإيجابية، ومن الأحادية إلى التعددية، ومن التجزيئية إلى التركيبية، وأن السمة المميزة لنظرية الثقافة -كما يقول أصحابها- هي أنها نظرية للتوازنات المتعددة، فبدلاً من افتراض توازن مثالي، كما في حالة النظريات التي تجعل النجاة أو تعظيم المنفعة معياراً للاختيار الفردي، تصرّ نظرية الثقافة -حسب تصور هؤلاء- على أن هناك خمسة حلول مقبولة وعقلانية لكل مشكلة. ولهذا يعتبر هؤلاء أن هذه النظرية مرشحة كإطار تفسيري واعد على حد وصفهم.

ولاشك في أهمية وقيمة هذه النظرية، التي حركت من جديد مفهوم الثقافة ومفهوم المجتمع في إطار واحد، ووثقت الروابط والتشابكات بين المفهومين، وأكدت على الحاجة إلى كليهما، وليس تغليب أحدهما على الآخر، ولا تخلو هذه النظرية من تجديد ولمعان. والملاحظات العامة والكلية التي يمكن أن تسجل على هذه النظرية، من حسن الحظ أنها لم تكن غائبة عن إدراك المنظرين لهذه النظرية، ومن هذه الملاحظات:

أولاً: إن هذه النظرية تعكس بصورة أساسية المعرفة والخبرة الأوروبية والغربية عموماً، وتدور في فلكها، وتتأطر بها. والذي يلفت نظرنا نحن أن هذه النظرية لا تستحضر معها المعرفة والخبرة الإسلامية. والكتاب الذي عرض لهذه النظرية لم يأتِ على ذكر أي شيء له صلة بالمعرفة الإسلامية، أو المجتمعات الإسلامية، أو الديانة الإسلامية، أو الحضارة الإسلامية، لا على صورة حادثة أو واقعة، ولا على صورة نص أو مرجع أو غير ذلك. لذلك من الصعب إعطاء هذه النظرية وصف العالمية أو الإنسانية. والالتفاتة التي جاءت من أصحاب هذه النظرية حول هذا الأمر، لم تكن بقصد التشكيك في عالمية هذه النظرية، أو في قصورها أو عدم قدرتها، وإنما بقصد عدم المبالغة في تصوير عالمية هذه النظرية. فأمام الدور المهم -كما يقول منظرو هذه النظرية- الذي لعبته ظروف تاريخية محددة، ربما يبدد زعمنا بعالمية انطباق نظرية الثقافة، وكأنه غير جائز أو على الأقل مبالغ فيه(16).

ثانياً: يغلب على هذه النظرية الطابع النظري من حيث بنيتها وبناؤها وهندستها، ويقلّ فيها الجانب التجريبي. ولعل هذه الملاحظة ناشئة من طبيعة حداثة هذه النظرية، وبسبب كثافة التنظير الذي يطغى عليها. والنظريات بصورة عامة قبل مرحلة الاختبار والتجريب تكون لها صورة قابلة في العادة للتغير بعد مرحلة الاختبار والتجريب، وبعد هذه المرحلة تصبح النظريات أكثر نضجاً ووعياً، وأكثر حكمة، وأقل مثالية.

ويتأكد الاهتمام بالجانب التجريبي في النظريات التي تصنف على حقل العلم الاجتماعي، ويكون هذا الجانب معياراً في النظر لتلك النظريات، وفي نقدها وتقييمها. ولكون نظرية الثقافة هذه جديدة وحديثة، كان التقدير الاستراتيجي لأصحاب هذه النظرية -كما يقولون- يقضي بأولوية عرض النظرية في هذه المرحلة، على أمل أن يساعد النقد في تحسين العديد من التطبيقات الجارية، أو التي يُتوقع إجراؤها في المستقبل(17).

-4-
الثقافة والمجتمع.. وأبعاد العلاقة

قانون الحركة في العلاقة بين الثقافة والمجتمع يتغير ويختلف، بحسب تغاير واختلاف طبيعة الثقافات وتنوع المجتمعات. وعنصر العلاقة هو الجانب الثابت في هذه القضية، والجانب المتغير هو في أنماط هذه العلاقة. وهذا يعني أن أنماط العلاقة بين الثقافة والمجتمع ليست واحدة وثابتة في جميع الثقافات والمجتمعات، باعتبار أن الثقافات في التاريخ الإنساني ليست واحدة ومتحدة، وهكذا هو حال المجتمعات الإنسانية.

كما أن قانون الحركة في العلاقة بين الثقافة والمجتمع، يتطور ويتغير حتى في داخل الثقافة الواحدة والمجتمع الواحد. بمعنى أن هذه العلاقة لا تبقى على وتيرة واحدة متجمدة وثابتة على طول الخط، وفي نطاق نمط ثابت من العلاقات. وذلك باعتبار أن الثقافة لا تبقى على وتيرة واحدة في حركتها، وفي أنظمتها الذهنية والسلوكية، ولأن الثقافة من طبيعتها أنها لا تقبل السكون والثبات المطرد، وهكذا هو الحال في المجتمع أيضاً.

وكل تغير يحدث في الثقافة أو في المجتمع ينعكس على حركة وأنماط العلاقة بينهما، بغض النظر عن مصدر وطبيعة هذا التغير وكميته ونوعيته. والنماذج على ذلك كثيرة وعديدة، فمن الواضح جداً أن أنماط العلاقة وحركتها بين الثقافة والمجتمع تختلف في المجتمعات الإسلامية عن المجتمعات الأوروبية، وعلى صعيد آخر تختلف هذه المجتمعات الخليجية مثلاً ما قبل النفط وما بعده.. إلى غير ذلك من نماذج عديدة تنتمي إلى أزمنة وأطوار وبيئات وثقافات مختلفة ومتباينة.

لهذا يمكن القول بأن الثقافة هي عنصر تغيير في المجتمع، والمجتمع هو عنصر تغيير في الثقافة. بمعنى أن تغيير الثقافة سوف يتحول إلى عنصر تغيير في المجتمع، وتغيير المجتمع أيضاً يتحول إلى عنصر تغيير في الثقافة. وقد وجد علماء الاجتماع في هذه القضية وبالذات الذين لهم علاقة بعلم اجتماع الثقافة، مدخلاً لتطوير المعرفة بالعلاقة بين الثقافة والمجتمع، وعناصر التأثير المتبادل بينهما. فالتأثير ليس من عنصر دون آخر، فهناك تأثير من الثقافة على المجتمع، وهو على صورة التأثير من الذاتي على الموضوعي، وهناك تأثير من المجتمع على الثقافة، وهو على صورة التأثير من الموضوعي على الذاتي.

وهذا يدعونا لدراسة أبعاد هذه العلاقة، لمعرفة منزلة الثقافة وتأثيرها في المجتمع في نظر علماء اجتماع الثقافة، ومن هذه الأبعاد:

أولاً: مع مفهوم الثقافة أصبح بإمكان علماء الاجتماع تكوين نظرة كلية عن المجتمع، باعتبار أن الثقافة هي أوسع مفهوم، يضم ويستوعب مختلف عناصر ومناشط وعلائق المجتمع. وليس هناك مفهوم أكثر سعة وشمولية من مفهوم الثقافة يحقق هذه الغاية، أو ينازع الثقافة على هذا الدور. ومنذ التعرف على مفهوم الثقافة، أصبحت هناك نظرة جديدة إلى المجتمع، وإدراك جديد لمفهوم المجتمع. فالثقافة هي التي تجعل المجتمع متوافقاً ومتقارباً مع ذاته، وهي أيضاً مصدر الوعي في نظرة المجتمع إلى ذاته، وفي إعطاء المعنى لمفهوم الثقافة عند أفراده، وفي إنماء وتعميم هذا المعنى بصورة دائمة ومستمرة.

ثانياً: لقد وجد علماء الاجتماع في مفهوم الثقافة، أنه المفهوم الذي يمكن من خلاله الكشف والتعرف على ما يختلف به مجتمع عن آخر، وما يتميز به مجتمع عن آخر. كما أن الثقافة هي التي تفسر هذا الاختلاف والتمايز بين المجتمعات. والثقافة جاءت لكي تكون بديلاً عن مفاهيم اللون والعرق والبيئة الطبيعية في إنجاز هذا الدور، التحول الذي كان مهمًّا وضرورياً، لضعف تلك المفاهيم وقصورها وفشلها. ولا شك أن الثقافة هي أقدر من تلك المفاهيم وغيرها، في تحليل وتفسير الاختلاف والتمايز بين المجتمعات. وذلك باعتبار أن الثقافة تعرف بأنها طريقة الحياة الشاملة لكل مجتمع، أو أنها تعبر عن النمط الكلي لحياة شعب ما، وبتعبير الأستاذ مالك بن نبي هي أسلوب حياة، الأسلوب المشترك لمجتمع بأكمله من علمائه إلى فلاحيه. وهذا التعريف يراد منه تعريف الثقافة، ويراد منه أيضاً تحديد ما يختلف فيه مجتمع عن آخر.

ثالثاً: تعتبر الثقافة في نظر المشتغلين بهذا الحقل، هي التي تقوم بدور إدماج الفرد في المجتمع، وتهيئته نفسياً وذهنياً واجتماعياً، ليكون عضواً منسجماً مع المجتمع الذي ينتمي إليه، ومتكيفاً مع نسقه القيمي ومنظومته الجمالية والأخلاقية، وأنماطه السلوكية، ونظام رؤيته إلى العالم. ويبدأ تأثير الثقافة على الإنسان منذ ولادته، وكل المؤثرات التي يستقبلها من التنشئة والتربية والبيئة والتعليم والإعلام هي على علاقة بالثقافة، التي تقوم بتشكيل المناخ العام في المجتمع، وهو المناخ الذي لا يفارقه الفرد من المهد إلى اللحد. وهذا ما يفسر الميل الفطري عند الناس في كل مجتمع، بإظهار التشابه والتوافق فيما بينهم على مستوى النظام العام، والذي يتجلى في طريقة المخاطبة والكلام، وفي نوعية التفضيلات والتحسينات والتقبيحات، وفي نمط الأعراف والتقاليد، إلى نوعية الطعام وطريقة الناس في الأكل، وبصورة أعمق يتجلى في الفنون والمعتقدات والقوانين ونظم العلاقات والتعاملات.

رابعاً: يؤكد علماء الاجتماع أن الثقافة هي من أكثر العوامل تاثيراً على المجتمع، بحكم أن كل شيء في المجتمع يتأثر بالثقافة كمنظومة القيم، والفنون الجمالية، ونظام المعتقدات، ومناهج التفكير، وهندسة العلاقات الاجتماعية.. إلى غير ذلك. من هنا تتحدد حساسية الثقافة وخطورتها، وأصبح الاعتقاد أن الثقافة إذا تغيّرت تغيّر معها المجتمع، وكل تغيير يمس الثقافة مهما كانت كميته ونوعيته، يتأثر به المجتمع سلباً أو إيجاباً، تراجعاً أو تقدماً. ولهذا أيضاً فإنه ليس من السهولة التأثير في الثقافة، إذ يحتاج التأثير فيها إلى طاقة كبيرة وفاعلة ومستمرة. وهناك أكثر من طريقة للتأثير في الثقافة، فتارة يكون التأثير فيها عن طريق اللغة، وهذا ما سعى إليه الفرنسيون للتأثير في ثقافات المجتمعات التي استعمروها، وتارة يكون التاثير في الثقافة عن طريق التعليم ومناهج التعليم، وتارة عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال.. إلى غير ذلك. وفي تاريخ المجتمعات نجد أن أكثر الناس تأثيراً في الثقافة هم أعمق الناس تأثيراً في مجتمعاتهم.

هذه بعض أبعاد العلاقة بين الثقافة والمجتمع، وهناك بالتأكيد أبعاد أخرى. وبصورة عامة يمكن القول: أن ليس هناك نظريات جديدة في مجال العلاقة بين الثقافة والمجتمع في الدراسات الثقافية والاجتماعية منذ أن توازنت هذه العلاقة وبعد أن اكتسب مفهوم الثقافة قوة التحديد.

 

الهوامش:

(1) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، توماس إليوت، ص29.

(2) فكرة الثقافة، تيري إيجلتون، ص32.

(3) نظرية الثقافة، مجموعة من الكتاب، ص9.

(4) المصدر نفسه، ص59.

(5) المصدر نفسه، ص8.

(6) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ص52.

(7) الثقافة والمجتمع 1956م، رايموند وليامز، ترجمة: وجيه سمعان، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص326.

(8) المصدر نفسه، ص5.

(9) المصدر نفسه، ص10.

(10) المصدر نفسه، ص13.

(11) المصدر نفسه، ص83.

(12) الثقافة والمجتمع، ص6.

(13) نظرية الثقافة، ص31.

(14) المصدر نفسه، ص60.

(15) المصدر نفسه، ص59.

(16) المصدر نفسه، ص428.

(17) المصدر نفسه، ص429.

 


المرأة المسلمة ودورها في
التنمية الشاملة للمجتمعات الإسلامية*

الدكتورة مريم آيت أحمد علي**

* تمهيد

الكل يعلم أن قضية المرأة أصبحت من المواضيع الحيوية، التي تحظى باهتمام واقع الحياة المعاصرة، وليست مجرد قضية بحث فكري أو نظري، بل تعدّت في غزارة طرحها الآفاق، سواء بالمؤتمرات الدولية أو الإقليمية أو المحلية.

لا يستطيع أحد أن يجادل في أهمية دور المرأة المسلمة في المجتمع، فالمرأة التي تدرك حقيقة دورها، وتلتزم بواجباتها، وتحرص على ممارسة حقوقها، إنما تؤثر في حركة الحياة في وطنها تأثيراً بالغاً، يدفع به إلى مزيد من التقدم والرقي وملاحقة الركب الحضاري، على مستوى المجتمعات الإسلامية والعالم أجمع.

والنظرة السريعة إلى التطور التاريخي، لوضع المرأة في المجتمع الإنساني قبل الإسلام، تكشف عن أنها قد عانت قديماً معاناة كبيرة، حيث كان ينظر إليها على أنها أدنى من الرجل، وأنها تابعة له، ولذلك كانت تحرم من كثير من الحقوق، فكان يحظر عليها أن تتصرف في أموالها، أو أن تعبر عن إرادتها، حتى في أخص ما يخصها، وهو اختيار شريك حياتها.

ولقد عانت المرأة طويلاً من هذا الوضع الظالم، إلى أن بزغ نور الإسلام، وأقر من بين المبادئ السامية التي جاء بها، مبدأ المساواة بين الناس جميعاً، ومن ذلك المساواة بين المرأة والرجل فيما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية، والمساواة بينهما في التكاليف الدينية وفي الثواب والعقاب، وفي الالتزام بطلب العلم، وكذلك المساواة بينهما في الحقوق المدنية، فللمرأة ملكيتها الخاصة، لا يشاركها فيها الزوج، ولها حرية التصرف في أموالها دون أي قيد، وهي تحتفظ باسم أسرتها مدى الحياة، فلا تفقده بالزواج. هذه المساواة التي أقرها الإسلام في القرن السابع الميلادي، لم تظهر في أفق الدول الغربية إلا في العصر الحديث، وبعد كفاح مرير، حينما صدر غداة الثورة الفرنسية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فنص على أن الناس يولدون أحراراً، ويتساوون أمام القانون، وقد أقرت هذا الإعلان الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م، وأدرجته معظم الدساتير في نصوصها.

من الممكن توسيع هذه القضية الخاصة بالمرأة، ورسم تفصيلاتها، لإظهار مدى أهميتها، لأن قضية المرأة تشكل إحدى أكثر القضايا التي تم استغلالها واستثمارها، والكتابة حولها بأشكال مختلفة، نعم من هي المرأة المسلمة؟ وما هي أدوارها؟ وعن أي جانب من جوانب إسهاماتها في تنمية المجتمعات الإسلامية يمكننا أن نتناقش؟ عن أية امرأة مسلمة نود تسليط الضوء؟ هل عن تلك التي تقضي العديد من ساعات النهار في صالونات تصفيف الشعر؟، أم المرأة القروية التي تخرج من البيت مع بزوغ الفجر، وتعود إليه مع غروب الشمس؟. أيجب أن نناقش قضايا المرأة التي تسرع من حفلة رقص إلى حفلة رقص، ومن حفلة الرقص إلى عرض الأزياء، أم المرأة العاملة التي لا تستطيع حتى إرضاع أطفالها، وتقضي عمرها واقفة أمام مكتب العمل، سواء في مجال التدريس، أو التطبيب، أو الإدارة، أو الأعمال المهنية والحرة؟ نتناقش حول فعالية المرأة التي تريح الضمير بخداع الأنظار في جمعية الرفق بالحيوان، وجمعية حماية الأطفال الفقراء، وفي نادي ليوننس، أم تلك التي حياتها محددة بجدران البيوت غير المرخصة للبناء، وتعمل في تربية الأطفال والخدمة في بيوت ومزارع ومصانع الأغنياء، وترعى أيتام الحروب وضحايا الأسر؟ نعم عن أيهن نتحدث اليوم في أعمال هذا المؤتمر؟

لا نبالغ إذا قلنا: إن المرأة في وطننا العربي والإسلامي، هي من أكثر الطاقات المهمشة في عملية التنمية، فلا زالت حتى اليوم لا تتمتع -في معظم المجتمعات العربية- بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الرجل، وظلت النظرة الأكثر انتشاراً، هي تلك النظرة التي تنظر إلى المرأة بوصفها كائناً لا يصلح سوى لإنتاج الخام البشري، لكن ما يدعو إلى التفاؤل، أن هذه النظرة قد بدأت في التغير شيئاً فشيئاً، وسط ضغوط احتياجات العصر للمزيد من الموارد البشرية المدربة، والمؤهلة للتصدي لجميع التحديات التي يحملها العصر بين ثناياه، ويظل وطننا العربي بوضعه الحالي، أكثر حاجة لإشراك نسائه في خطط وعمليات التنمية، وإدماجهن في مشاريعها الرامية إلى تحسين نوعية الحياة، وتأسيس بيئة أفضل لنمو الجنس البشري، بحيث يمتلك التعليم والتدريب والتأهيل الملائم، لمجابهة تحديات العصر الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها.

ولا يتم ذلك من دون التعبئة العلمية والتخطيطية الشاملة والدائمة للموارد الإنسانية، التي هي هدف من أهداف السياسة الإنمائية، لذا كان لابد من التأكيد على أهمية الإفادة من جميع الموارد البشرية في جميع القطاعات، فعملية التنمية تحتاج إلى تسخير كل الطاقات المادية والبشرية، ولعل أهم عملية استثمارية تقوم بها أية دولة -نامية على الأخص-، هي تنمية مواردها البشرية، ولا شك أن المرأة في المجتمع -كما هو متعارف- تكوّن نصف الموارد البشرية، التي يعتمد عليها في تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى دور المرأة في تكوين شخصية أطفال المجتمع، أو بمعنى آخر في تنمية الموارد البشرية الصغيرة، ويقصد بالمشاركة التنموية، تلك الجهود والإسهامات التي تبذلها المرأة، سواء اتسمت بالطابع الاقتصادي، أو الاجتماعي، والتي تؤدي إلى إحداث التغيير الاجتماعي، وتسهم في تحقيق درجة ما من التقدم الاجتماعي.

وتؤكد العديد من الدراسات، على أن من بين مؤشرات تقدم المجتمع، مساهمة نسائه في النشاط الاجتماعي والاقتصادي، بل هناك آراء ترى أن أي خطة تنموية، لابد أن تعتمد في جهودها على مشاركة المرأة بجانب الرجل، بوصفها نصف القوى البشرية في المجتمع، لذلك فإن تخلف مجتمعنا العربي، يعزى بلا شك إلى اقتصاره في مجهوداته التنموية على قوى الرجل، مهمشاً لدور المرأة ومستبعداً لأهمية هذا الدور، فظلت المرأة في تخلفها، ولم تتمكن المجتمعات من تجاوز أزماتها الاقتصادية والاجتماعية لحقب طويلة من الزمان، إن عملية التنمية عملية متكاملة، تهدف للارتقاء بالعنصر البشري دون تمييز بين فئاته، ولذلك ينبغي أن تستوعب في خططها كل فئات المجتمع، فنسق القيم من شأنه محو صورة المرأة السلبية، المتخلفة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وإحلال صورة المرأة المثقفة الذكية الواعية الإيجابية، المشاركة في الحركات التنموية المختلفة محلها، كما أنه بالمزيد من الوعي المجتمعي، يتضح الإطار الاجتماعي للعمل والإنتاجية، والدور الاجتماعي للفرد، فيسهل بذلك تحقيق أهداف السياسات التنموية، دونما تفريق في توظيف القدرات البشرية لجميع فئات المجتمع.

هكذا فعندما تكون المرأة -التي تمثل نصف المجتمع المؤثر- واعية بأدوارها، ومتسلحة بالقدر الملائم من المعرفة والثقافة، والخبرات والقدرات والمهارات الفنية والحرفية وغيرها، فبذلك يقل خطر وسائل الإعلام في التأثير سلبياً على المحيط الاجتماعي، الذي تتفاعل في داخله هذه المرأة، وتعيش فيه عدداً من الصراعات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة.

* أسباب مشكلة ومعوقات التنمية في البلدان الإسلامية

إن أحد أهم أسباب مشكلة ومعوقات التنمية في البلدان العربية والإسلامية، يكمن بشكل عام في تهميش قضية المرأة ودورها في العملية التنموية.. هذه المشكلة لا تخص المرأة وحدها وإنما هي قضية مركزية في مسألة التطور والتنمية الحقيقية، ولذلك فهي قضية اجتماعية أساسية، تطرح مشاكل المجتمع من أساسه، ومن هنا تبرز ضرورة المشاركة ببحث مشكلاتها ودراستها وطرح الحلول لها.

والمعادلة الأساسية هي، كيف نحقق التنمية الشاملة لمجتمعاتنا الإسلامية، بمشاركة النساء والرجال من كل الأعمار، ومن كل الفئات، سواءً في الحضر أو الريف.. فالتنمية الإنسانية في الجوهر، هي نزوع دائم لترقية الحالة الإنسانية للبشر، جماعات وأفراداً، أكانوا رجالاً أم نساء، من أوضاع تعدّ غير مقبولة في سياق حضاري معين، إلى حالات أرقى من الوجود البشري، تؤدي بدورها إلى ارتقاء منظومة اكتساب المعرفة. وفي العصر الراهن من تطور البشرية يمكن القول: إن الحرية، والعدالة والكرامة الإنسانية هي الغايات الإنسانية والأخلاقية العليا التي تسعى البشرية إلى تحقيقها عن طريق المعرفة.

والتنمية في العالم الإسلامي، بارتباطها بالمعرفة تواجه مشكلة مزدوجة، بين الإطار المعرفي القائم على الثقافة التي تتغلب عليها الغيبيات من جهة، وبين الواقع الاجتماعي الذي يقف عائقاً في وجه البدء في مشروع تنموي نهضوي، يضع الواقع الاجتماعي - المادي الملموس كمعيار من جهة أخرى... بل إن واقع منظومة اكتساب المعرفة الحديثة والمحدثة، هو واقع متخلف غير مجدٍ وفاعل... وهذا ما ترجمه واقع تقرير التنمية العربية الصادر عام 2003م.

1ـ ماهية التنمية المجتمعية

المقصود بالتنمية المجتمعية التي نتحدث عنها “التنمية التي تستهدف المجتمع المحلي  (Community)، وتتم فيه، وتوظفه كأداة فاعلة في تحقيق أهدافها”، وبالتالي فهي تتضمن أنواعاً أخرى من التنمية، (من حيث موضوعها أو القطاع الذي تتم في إطاره)، كالتنمية الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، وتنمية المرأة والطفل والشباب …إلخ، وهي في الوقت ذاته جزء من عملية تنمية أكبر على مستوى المجتمع (Society)، أو البلد.

ويعتبر مفهوم التنمية المجتمعية، من أكثر المفاهيم المثيرة للجدل والتباين في وجهات النظر الخلافية، تتراوح النظرة إليها من اعتبارها أنصاف حقائق، وترهات غامضة لا معنى لها، إلى اعتبارها مفتاحاً للعصرنة في المجتمعات التقليدية، وما بينهما من موقف متوازن ينظر إليها نظرة تعترف بإمكاناتها من جهة، وبحدودها من جهة أخرى. ولعل لولادة هذا المفهوم علاقة كبيرة بهذه التباينات، فقد ولد المفهوم في المستعمرات، على يد المستعمرين الذين حاولوا مداراة سوءاتهم الأخلاقية الكبرى، بحديث عن مشاركة المجتمعات المحلية في عملية التنمية والتطور.

باعتقادي أن المهم، بل الأهم، في أي حديث عن التنمية المجتمعية، هو أن يتم وضع الأسس التي تفصّل هذا المبدأ البسيط، “تفعيل المجتمعات المحلية، واستثمار طاقاتها الكامنة، لتأخذ دورها في التنمية التي ستعود عليها بالنفع، محلياً وضمن موقعها من نسيج المجتمع الكبير، أو البلد الذي تشكل جزءاً منه”، وتحويله من مجرد تنظير يوظف البلاغة، إلى عملية تشتمل على برامج فاعلة، يتم تمويلها وتوجيه الموارد نحوها. ينبغي أن تخدم الأسس المطلوبة، والتفاصيل التي تليها، باتجاه جعله مقبولاً ممن يعنيهم الأمر، (أطراف هذه التنمية الأساسيين والشركاء)، وقابلاً للتنفيذ ضمن ما هو متسنى، وواعداً بنجاح ملموس، وبالتالي فإن الانشغال بدراسة عوامل النجاح، والعمل على توفير أكبر توليفة منها ضمن هذه الرؤية، يشكل المهمة الجدية المطروحة أمام مخططي التنمية المجتمعية، والعاملين في برامجها.

2- عناصر أساسية في التنمية المجتمعية المطلوبة

أ- جوهرها: تنمية تحترم حقوق الإنسان، وأسس المجتمع المدني، تحترمها بداية بالإقرار بها بشكل يتداخل مع بنية البرامج والأنشطة التي تتضمنها هذه التنمية، وتساهم مخرجاتها في ترسيخ هذه الحقوق والأسس، محولة إياها إلى واقع في حياة الناس، ويعبر عن ذلك عادة باعتماد هذه التنمية على مبدأي المشاركة والتمكين.

ب- طبيعتها المزدوجة: إذ ينظر إليها كعملية وكمخرجات ناتجة عن تحقيق أهداف برامجها، فالتنمية كعملية تهدف إلى توعية الناس، وحفزهم نحو العون الذاتي، وتطوير قيادة محلية مسؤولة، وترسخ القيم الديموقراطية بينهم، أما مخرجات برامجها فتمتد إلى جوانب حياة الناس المختلفة، وفي النواحي الأساسية التي ترتبط بحياة المجتمع المحلي المعني.

ج- التوازن ما بين الجزئية والكلية: يعاب أحياناً على التنمية المجتمعية بأنها محلية النزعة، تمنع امتداد تأثيرها كعملية إلى المستوى الوطني، أي تساهم بازدياد الفجوة بين الخدمة الاجتماعية، والتغير الاجتماعي. غير أن ذلك لا يعني بالطبع، أن الإمكانية غير واردة لإيجاد توازن بين هذين البعدين في التنمية المجتمعية، وذلك بالربط بين التنمية المجتمعية والتنمية الوطنية، لإحداث تغير اجتماعي بمعدل ملائم، وضمن زمن معقول، أخذاً بعين الاعتبار السياق الذي تحدث فيه التنمية المجتمعية.

د- المنظمة المجتمعية، أداة العمل الأساسية في التنمية المجتمعية: تشكل المنظمة المجتمعية إطاراً يوحد بين عملية التنظيم الاجتماعي للمشاركين، وما يشمله من علاقات داخلية وعلاقات خارجية، والبرامج التي سيقومون على تنفيذها. وحتى يقوم هذا الإطار بوظيفته المطلوبة كأداة فعّالة، ينبغي توفير مجموعة من ضمانات النجاح الأساسية، تتركز في شروط التأسيس، وينبغي أن يتمتع بصحة تنظيمية في أدائه لبرامجه، بالإضافة إلى توفير شروط الاستمرار.

* الفقر أكبر تحديات التنمية في البلدان الإسلامية

عرّف الباحثون الاقتصاديون مفهوم التنمية، بأنه عملية مجتمعية واعية ودائمة، موجهة وفق إرادة وطنية مستقلة، من أجل إيجاد تحولات هيكلية، وإحداث تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية تسمح بتحقيق مطرد لقدرات المجتمع المعني، وتحسين مستمر لنوعية الحياة فيه.

قضية التنمية مطروحة بشكل قوي، على أجندة الدول المتقدمة والنامية، منذ الحرب العالمية الثانية، وقد شكلت العلاقات بين دول الشمال والجنوب، وكذلك بين دول الشمال ذاتها، فالعلاقات السياسية بين أميركا وأوروبا الغربية خلال الخمسينات من القرن الماضي، حددتها وبصورة أساسية هذه القضية، فيما عرف بمشروع مارشال لتنمية أوروبا.

أما العلاقة بين الشمال والجنوب، فالتنمية هي القضية المحورية إلى يومنا هذا، وإن تم تغيير مسمياتها إلى ما أصبح يعرف بالتنمية المستدامة، القائمة على الإصلاح الهيكلي والتحول الديموقراطي والخصخصة، وعلى الرغم من الأهمية المركزية لقضية التنمية طوال ما يقارب نصف القرن، فإنها لم تحقق أهدافها في دول الجنوب (الدول النامية)، التي من ضمنها الدول العربية والإسلامية، التي مازالت تعاني من الأزمات نفسها، التي كانت تعاني منها منذ الاستقلال، ولم تحقق في معظمها أي نقلات نوعية يعتد بها، في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.

إن التنمية العربية تواجه تحديات كثيرة وخطيرة، يتوقع أن تشتد حدتها وتزداد انعكاساتها السلبية، على مجمل الحياة العربية خلال القرن الحالي، ومن التحديات الخطيرة التي تواجهها البلدان الإسلامية داخلياً، استفحال آفة البطالة والفقر.

ظاهرة الفقر

تعتبر ظاهرة الفقر واحدة من أهم المعضلات، التي واجهتها المجتمعات والحكومات والنظريات الاجتماعية منذ أقدم العصور. وفي القدم ارتبطت ظاهرة الفقر بفقدان الموارد، أو بالحروب التي تؤدي إلى القهر والاستعباد؛ ولذا فإن الأديان السماوية جميعها، أولت ظاهرة الفقر اهتماماً خاصاً، وقال *: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر”(1)، ويقول *: “كاد الفقر أن يكون كفراً”(2). ومن أشهر المقولات مقولة سيدنا على بن أبي طالب C: “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، وفي التراث الفلسفي يقول أرسطو: “الفقر مولد الثورات والجريمة”.

الفقر كمفهوم

والفقر من المفاهيم المجردة النسبية، فهو مفهوم يحاول وصف ظاهرة اجتماعية واقتصادية بالغة التعقيد. تدور معظم الأدبيات التي تتحدث عن ظاهرة الفقر، حول نوعين أساسيين من الفقر: الأول يسمى بالفقر المطلق، ويحدد الفقر بأنه عدم قدرة الفرد/ الأسرة على الوفاء باحتياجاتها الأساسية، الغذائية وغير الغذائية. وهناك الفقر النسبي، ويشير لعدم قدرة الفرد/ الأسرة على الوفاء بالمستوى المعيشي للمجتمع الذي تعيش فيه.

وتحدد الأمم المتحدة خط الفقر، أي الخط الذي يفصل بين الفقير وغير الفقير، أنه دولار واحد باليوم بالنسبة للفقر المطلق، وبطبيعة الحال فالفقر يختلف باختلاف المجتمعات، والأوقات والأحوال والأشخاص، وأساليب تعريفه وطرق قياسه ووسائل معالجته. ويمكن التأكد أن الفقر بمفهومه النسبي، الذي يرتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد، هو ظاهرة موجودة في بلدان الخليج، يبرز أكثر في صورة التفاوت في توزيع الدخل وليس في انتشار ظاهرة الفقر المطلق أو المدقع منه.

أ- أخطار الفقر على المرأة

تشكل النساء 70% من فقراء العالم، نصف سكان العالم، يحققن ثلثي ساعات العمل، يحصلن -فقط- على عشر الدخل العالمي، ويمتلكن 1% من ثروات العالم، ويشكلن 1% فقط من صانعي القرار في العالم، وهن 75% من اللاجئين والمهاجرين، بسبب الحروب والفقر وانتهاك حقوق الإنسان.

إن عبء المرأة كبير في مواجهة الفقر، فحينما تنسحب الدولة ولا تؤدي أدوارها، يصبح على الأم -في الغالب- أن تقوم بدور في التعليم والصحة، وبالنسبة لأسرتها فهي بذلك المترجم الأول لاحتياجات الأسر، والمجتمعات الفقيرة تطلب من الجميع الالتفات.

ب- خطر الفقر على الأخلاق والسلوك

إن البؤس والحرمان الذي يعيشه الفقير، خاصة إذا كان إلى جواره مترفون، قد يدفعه لسلوك غير سوي، وتشكيك منه بالقيم الأخلاقية والنظام العام للمجتمع، لهذا قالوا: “صوت المعدة أقوى من صوت الضمير”، ويقول (صلى الله عليه وسلم): “إن الرجل إذا غرم استدان، وحدّث فكذب، ووعد فأخلف”.

لقد أوضحت مجموعة من الدراسات، أن اغلب الفتيات الجانحات والنساء المرتكبات للجرائم، ينتمين إلى أسر فقيرة، بالإضافة إلى وجود أعداد كبيرة من الفتيات الجانحات، يتجهن إلى ممارسة التسول، ومن ثم الانحراف إلى طريق الجريمة، وكثير من نزيلات السجون هن من مرتكبات جرائم السرقة، كونهن بحاجة ضرورية للمال والأشياء اللازمة، واتضح أن 75% من نزيلات السجون ينتمين إلى أسر فقيرة، والكثير من مرتكبات جرائم السرقة والزنا منهن أرجعن أسباب ارتكابهن لتلك الجرائم إلى العوز والفقر، إلى جانب أن الفقر يحول بين متابعة الفتيات لدراستهن، لعدم امتلاك المال لدفع الرسوم الجامعية وشراء الأدوات والكتب والمستلزمات الدراسية، مما يقف مانعاً من حصولهن على تعليم جامعي أو تخصصي، وبالتالي عدم إمكانية الحصول على عمل يمكن أن يتكسبن منه، مما يوقعهن في حالة بطالة، خاصة في المدن، ويلجأن إلى ارتكاب الجريمة للحصول على المال غير المشروع، من خلال السرقة أو الزنا والدعارة والاحتيال وخيانة الأمانة.

جـ- خطر الفقر على الفكر الإنساني

إن أثر الفقر يمتد للجانب الفكري كما هو في الجانب الروحي والأخلاقي للإنسان، فروي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: “لا تستشر من ليس في بيته دقيق”، لأنه مشتت الفكر ومشغول البال، فلا يكون حكمه سديداً.

والفقر مانع رئيسي من موانع الزواج، وتكوين الأسرة والتناسل الإنساني، لما وراءه من أعباء ونفقة، لهذا أوصى القرآن غير القادرين على الزواج بالتعفف والصبر حتى تواتيهم القدرة الاقتصادية، بقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(3)، وللفقر كذلك أثر على استمرار الأسرة، فمن حق القاضي أن يفرق بين المرأة وزوجها لعجزه عن النفقة عليها، رفعاً للضرر عنها، وفقاً لقاعدة “لا ضرر ولا ضرار”.

بل قد يتعدى أثر الفقر إلى قتل النفس التي حرم الله، وهي حقيقة قرآنية ذكرها تعالى بقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}(4)، وتظهر في بعض الصحف أخبار تشير لبيع بعض الأسر لأولادها بسبب ضيق الحال، أو انتحار الأب أو الأم مع الأولاد بسبب الفقر.

روي عن أبي ذر أنه قال: “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!” فقد يصبر المرء على الفقر إن كان ناشئاً من قلة الموارد وكثرة الناس، أما إذا نشأ من سوء التوزيع للثروة والدخل، وبغي بعض الناس على بعض، وترف أقلية في المجتمع على حساب الأكثرية، فهذا هو الفقر الذي يثير النفوس، ويحدث الفتن والاضطراب، ويقوض أركان المحبة والإخاء بين الناس.

* الحروب وآثارها السلبية على تنمية المرأة المسلمة لمجتمعاتها

إن أكثر التأثيرات سلبية للنظام العالمي الجديد، سيكون على النساء، الفئة التي تعتبر الأكثر تضرراً، ففي فلسطين والعراق وأفغانستان، تدهورت أحوال النساء، وانخرطن مع حركة المقاومة لطرد الاستعمار الأمريكي - البريطاني - الصهيوني، ليصبحن استشهاديات، (انتحاريات أو إرهابيات) كما تشاء أمريكا تسميتهن.

وبهذا تتحمل المرأة في البلدان الإسلامية، عبئاً جديدًا يضاف إلى أعبائها الكثيرة في ظل الترمل والثكل، لتصبح المعيل الوحيد لأسرة يتفاوت تعدادها، في ظل ظروف تقف في الجانب الآخر تماماً من مصالحها وما أتيح لها، في مجتمعات تضطهدها أساساً قبل هذه الظروف المعقدة.

وبعيداً عن أجواء الحروب الصاخبة ووضعها الخاص، نتجه إلى نساء يعشن العولمة الحقيقية بكل أبعادها في المجتمعات الغربية، حيث تبقى نساء الشعوب الفقيرة في أفريقيا وآسيا والمنطقة العربية، في مجال تهديد خطر العولمة، سواء على المستوى العقدي والفكري والثقافي أو على المستوى الاقتصادي، فيرتفع صوت الشعوب الغربية احتجاجاً واستنكاراً، لأنهم عرفوا تماماً حقيقة الخطر وأبعاده. وقد لبست أشكال الحرب على المرأة أكثر من حلة، ووظفت على أكثر من جبهة:

الجبهة الأولى: تأثير ضخامة العولمة بطبيعتها الخاصة على المرأة عموماً، إذ لا يميز المظلوم المنخرط فيها ظلمه، ويغيب الظالم مع مكاسبه، ليظهر كمنقذ من الفقر والجوع والموت. وهي: الاتجار بالنساء.

وإذ يتزايد عدد النساء والطفلات من البلدان النامية، ومن بعض البلدان التي تمر اقتصادياتها بمرحلة انتقالية، اللواتي يجري الاتجار بهن، فينقلن إلى البلدان المتقدمة، وكذلك في داخل المناطق والدول وفيما بينها، لندرك فجأة أن الصبية هم أيضاً من ضحايا مشكلة الاتجار.

وتزداد أنشطة التنظيمات الإجرامية عبر الشركات المروجة لهذا النوع التجاري الرابح، والعابرة للقارات أيضاً، والتي تجني أرباحاً من الاتجار بالنساء والأطفال على الصعيد الدولي، دون مراعاة للظروف الخطيرة واللاإنسانية، وفي انتهاك صارخ للقوانين والمعايير سواء المحلية أو الدولية.

ويتزايد استخدام تكنولوجيات المعلومات الحديثة، بما في ذلك شبكة الإنترنت لأغراض البغاء والتصوير الإباحي للأطفال، والاتجار بالنساء في الزواج، والسياحة الجنسية.

أما الجبهة الثانية: فتتضح في تأثيرات العولمة على وضع المرأة العاملة، فقد عملت الدول الرأسمالية الكبرى، على فرض حالة انسياب في حركة البضائع والرأسمال بدعوى حريّة التجارة، وذلك في سبيل غزو أسواق بلدان الجنوب من ناحية، وتحقيق شروط ملائمة لنشاط رأس المال في هذه البلدان، من ناحية أخرى، حيث(5):

1- توفير يد عاملة كثيفة من ضمنها النساء.

2- توفير يد عاملة بخسة، والتي تمثلها اليد العاملة النسائية بشكل بارز.

3- الاستثمار في قطاعات وصناعات ملّوثة للبيئة، غير مقبول تواصلها في البلدان الرأسمالية الكبرى، فيقع تصدير هذه القطاعات إلى بلدان الجنوب.

ما يلاحظ في هذه القطاعات، هو أنها تقوم في جانب كبير على تشغيل النساء، ذلك أن اليد العاملة النسائية تستجيب لشروط الاستغلال القصوى، في ظل كل الظروف المحيطة بها.

وتتسم شروط عمل النساء بالنقاط الرئيسة التالية:

1- أجور متدنية، ما يميزها كونها أقل من الحدّ الأدنى الذي حددّته القوانين، على الرغم من أنّ القوانين تكرّس بطبعها الاستغلال، وتخدم مصالح الرأسمال الأجنبي.

2- غياب قوانين العمل التي تحمي النساء من كل أشكال الخروقات القانونية في العمل، إذ تتجاوز عادة الحدّ الأقصى المحددّ قانوناً -حتّى وتحت صيغ عديدة- يقع إجبار العاملات على العمل لمدة تتراوح بين 9 ساعات إلى 12 ساعة، كما يقع إجبارهن على العمل في العطل والأعياد، بدعوى ضرورات التصدير، دون موافقتهن من ناحية، ودون احتساب تلك الساعات كساعات إضافية، وفقاً للتحديد القانوني من ناحية أخرى(6).

وهذه التحديات، لا يمكن حصرها على المرأة في البلدان العربية والإسلامية فقط، واستثناء المرأة الغربية، ذلك أن برجوازية النظام الرأسمالي الغربي، التي ترى المرأة بضاعة تنتج بضاعة، ولا تركز إلا على الجانب الجنسي منها، لن تستطيع إبراز قدرات وذكاء وعقل وإبداع المرأة.

إن البرجوازية التي اتخذت من المرأة الغربية وسيلة دعائية، ووسيلة جذب للتحريض على الشراء عبر الإعلانات الدعائية، والتي حولتها إلى بضاعة للاستغلال الجنسي والانحراف، عبر الإعلام والتلفزيون والسينما والأدب وغيره، وجعلت من الحياة العائلية شركة، وأعطت الشرعية “للحرية الجنسية” و”للحريات الفردية” وكل أشكال الانحرافات، وتحويل الجنس إلى ممارسة حيوانية في حلقات تناول المخدرات، وبين مجموعات الجنس الجماعي لن تستطيع توفير المكانة الحقيقية للمرأة في المجتمع..

لذا ففي عالم مملوء بالبطالة والجوع والاستغلال والتعذيب، فإن نظرية الأنثوية للمساواة بين الجنسين، التي تضع أمامها فقط المشكلة الجنسية، والتي تدافع عن سيادة المرأة تحت اسم علاقات الرجل والمرأة، والتي تنشر العداء ضد الرجل، من أجل حرية المرأة، تلهي المرأة عن النضال الحقيقي من أجل التحرر، وتحرفها عن هدفها.

وتواجه مشاريع تنمية المجتمعات الإسلامية، تحديات أخرى تتمثل في تعزيز التكتلات الإقليمية، وتغيير شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية، واتساع دائرة اندماج الاقتصادات الوطنية تحت مظلة العولمة، التي بدأت تظهر تجلياتها وتحولاتها في حقول التجارة والاستثمارات، وانتقال رؤوس الأموال، والقوى العاملة والثقافة، وإن كانت العولمة تدفع نحو المزيد من توسيع الإفقار العام للمجتمع، كتعبير داخلي عن حالة الاستقطاب العالمي بين المركزة المتزايدة للثروة من ناحية، والتعتيم المتزايد للفقر من ناحية أخرى، فإن الأمر يتخذ أبعاداً أعمق وأوسع، وأكثر خطورة وبربرية بالنسبة للنساء، حيث يتعمّق الفقر والإملاق، ويظهر ذلك خاصة في الأثر التهميشي للعولمة تجاه النساء، فيتواصل هذا التهميش لبلدان الجنوب لصالح بلدان المتروبول الرأسمالي، وتهميش الأرياف لصالح المدن، وتهميش أحزمة الفقر بالضواحي لصالح العواصم ومراكزها. وهنا يغيب دور المرأة تماماً في المركز، ليظهر حضورها البارز في الهامش، كجندي وحيد ومنسي ومجهول، في معركة لا تخضع لمقاييس.

* موقع المرأة في المجتمعات الإسلامية

كثيرة تلك المعايير التي يعتمدها علم الاجتماع، في التعرف على الموقع الذي تحتله المرأة في أي من المجتمعات البشرية، ومن خلالها يمكن التعرف على واقع ومستوى تلك المجتمعات. ويمكن في هذا الصدد إيراد ثلاثة معايير جوهرية، تعتبر محطات مركزية لاختبار موقع المرأة ومكانتها في المجتمعات الإسلامية، وهي:

• طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في هذا البلد أو ذاك، ومستوى تطور القوى المنتجة -المادية منها والبشرية- فيه، بما في ذلك مستوى تطور التعليم والمهارة الفنية، وتطور العلوم والحياة الثقافية، أو ما يطلق عليه اليوم بالتطور البشري أو الإنساني.

• مستوى الحياة الديموقراطية، ومدى سيادة دستور ديموقراطي، وتمتع شعوب هذا البلد أو ذاك بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان.

• دور المرأة ومكانتها في المجتمع إلى جانب الرجل، ومكانتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومدى تمتعها بحريتها وحقوقها كاملة غير منقوصة.

وإذا حاولنا دراسة واقع المجتمع الإسلامي من خلال هذه المعايير، لوجدنا الحقائق التالية:

العلاقات العشائرية، التي تعود إلى حد ما إلى العلاقات الأبوية، التي تسبق العلاقات الإنتاجية الإقطاعية في الريف، ولكن تعكس تأثيرها وممارساتها البارزة على المدينة بشكل كبير، وبشكل خاص في المجمعات المهمشة من المجتمع، المنحدرة من أصل ريفي، ولم تدخل عالم الصناعة والعلاقات الإنتاجية الرأسمالية. وهي علاقات تحترم المرأة في داخل العائلة، ولكنها تحتقرها خارج إطار العائلة والمجتمع، وتعتبرها عاجزة عن التفكير والتصرف العقلاني، وهي دونية ينبغي الحذر منها(7).

* واقع المرأة المسلمة في العمل

للمرأة خصائص اجتماعية وبيولوجية، تؤهلها للقيام ببعض الوظائف، والتخصّص في بعض المجالات، التي تنتج بها وتؤدي فيها دوراً فعالاً؛ لذلك فإن عمالة المرأة تعتبر مهمة جداً لتحسين الإنتاج، وتسريع وتائر النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما أنه يزج في المجتمع طاقات كبيرة من الأيدي غير المنتجة.. ومع ذلك فإن نسبة قوة العمل النسائية من مجموع الإناث في البلدان العربية لا تزال ضعيفة، ولم تدخل المرأة بعدُ في مجال العمل الذي يلائم خصائصها وطاقاتها، وهذا التناسب بين الطاقات والخصائص من جهة، ونوع العمل من جهة أخرى ضروري جداً؛ إذ إن المطالبة بحق العمل دون النظر إلى إمكانياتها وأوضاعها الخاصة، مطالبة في غير محلها، وهذا لا يقف أبداً عائقاً في مساهمتها، فالطبيب لا يستطيع أن يقوم بعمل القاضي والعكس صحيح، فالتخصص وارد في جميع مجالات الحياة، إلا أن هذا التخصص يتطلب وضع سياسات حكيمة ومخططة، لدراسة واقع المرأة في العمل، وتطلعاتها ومجالات شيوعها أكثر ما يمكن.

وتتجلى أهمية مساهمة المرأة في البناء الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق التنمية في:

1- ازدياد الدخل الوطني؛ وبالتالي زيادة تراكم رأس المال الضروري لإنجاح برامج التنمية.

2- التقليل إلى حد كبير من نسبة السكان الذين يعيشون كمستهلكين فقط، أي عالة على المنتجين، وبذلك تزداد نسبة رأس المال الموجه إلى البناء، على حساب رأس المال المستهلك من الدخل القومي.

3- رفع إنتاجية العمل الاجتماعي؛ وهو الركن الأساسي لتحقيق التنمية.

وقد تنبهت إلى هذه الحقيقة جميع البلدان المتقدمة، وراحت تزج بالنساء في العمل، كما إن الدول النامية تسعى إلى زج الطاقة النسائية في العمل المنتج، ولكن يجب أن تدرك أن هذا الأمر يستلزم بيانات إحصائية دقيقة، للتعرف على الطاقات البشرية المتوفرة، لاستخدامها استخداماً صحيحاً وبصورة عقلانية، دون إحداث خلل أو عدم توازن في تركيب المجتمع؛ إذ لا نستطيع نقل المرأة من المنزل إلى العمل دون التخطيط لذلك من عدة جهات:

أـ تهيئة المرأة المسلمة علمياً: وذلك عبر فك العزلة عن عوالم الجهل التي تعيش فيها المرأة، والمراهنة على إيجاد أفضل الصيغ الملائمة لتحقيق مستوى من التعلم، يربطها بتعاقد تواصلي إيجابي مع كافة شرائح المجتمع. إن التجارب والدروس تؤكد أن مجال تربية وتعليم المرأة، متى تم ترشيده وتوجيهه كمجال استثماري، ومتى تم اعتباره النواة الصلبة للمشروع التنموي الشامل، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يعد أهم مصنع لإنتاج ثقافة التغيير الاجتماعي، والانتقال الديموقراطي إلى أزمنة التنمية الشاملة والحداثة والعولمة.. مراهنات تظل غير مجدية، إذا لم تعمل هذه المجتمعات على ترسيخ ثقافة مجتمعية شاملة للتغيير تركز على تعليم المرأة(8).

فأمية المرأة من أهم العوامل التي تحرمها من الاعتراف بما لها من دور هام في النمو الاقتصادي. وذلك عبر مساهمتها الفعلية والفاعلة في المجال الإنتاجي، سواء في الأوساط الحضرية أو القروية، إلا أن غياب تمتعها بالتعليم والتكوين، يعمل على تبخيس مساهمتها هذه رغم أهميتها ودورها الوازن، كما يساهم في تعميق تبعيتها وهامشيتها ودونيتها الاجتماعية.

ب- تهيئة المرأة عملياً وإعلامياً: فالعمل قبل كل شيء مسؤولية، فيجب على المرأة أن تعرف واجباتها وحقوقها الدينية، وتحرر المرأة من تبعيتها لكل ما هو تابع للموروث الثقافي الشعبي، و أيضاً لظواهر مدنية حديثة زائفة (السلوك الاستهلاكي غير الواعي، التقليد في اللباس والعادات.. الخ)، ويخلق (العمل) منها شخصية متكاملة منتجة متميزة، قادرة على تحدي مشاكل الحياة، مع الحفاظ على كرامتها وزيادة تمسكها بالعائلة والمنزل والأولاد، لاسيما وأنها تشعر أنها تشارك في عملية البناء هذه.

إن دخول المرأة معترك العمل بأسس علمية صحيحة، سوف يكون له أثر حضاري وثقافي، ينتقل من خلالها إلى الأجيال القادمة، التي هي عماد البلاد في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لأنها سوف تعلّم الأجيال القادمة أنماطاً جديدة للحياة.

إن مساهمة المرأة في العمل في معظم الدول العربية، شبه منخفضة مقارنة بالرجل، وإن هذه النسبة المنخفضة هي من سمات الدول النامية بصورة عامة، والعربية بصورة خاصة، مقارنة مع بقية دول العالم(9).

وإذا أردنا أن نحلل أسباب هذا التقصير في مواكبة التطور الطبيعي، نرى أن هنالك عوامل عديدة، تتحكم في موضوع مساهمة المرأة في الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فالبيئة المحافظة والأعراف التي تحيط بالمرأة، تجعلها أقل إقداماً على العمل في مجتمعنا، الذي لا تتوفر فيه الشروط الكافية، التي تخفف عن المرأة بعض الواجبات البيتية، مثل مراكز رعاية الأطفال، ودور الحضانة والخدمات المنزلية.

لهذه الأسباب نرى أن مساهمة المرأة تتأثر بعاملين رئيسين من جملة العوامل الأخرى، وهما الحالة الزوجية والحالة التعليمية.

إن تعلم المرأة يدفعها إلى ميدان العمل؛ فكلما ارتفعت درجة تعليمها، أدى ذلك إلى جعلها عنصراً فعالاً في المجتمع، نتيجة لزيادة وعيها.

لقد أثبتت دراسة اجتماعية ميدانية، أن نزول المرأة إلى معترك العمل، والمساهمة بالنشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعام، قد حقق مكسباً كبيراً في تكوين اتجاهات جديدة في تحرير نصف المجتمع من الجمود، ودفعه في طريق الإنتاج والمشاركة، لكن مجموعة كبيرة من المشكلات أخذت تدخل إلى معظم البيوت، من خلال إرهاق المرأة بعملين معاً، ولعدم توفر الخدمات التي تعتق المرأة من بعض مسؤولياتها من جهة، ولعدم قبول الأزواج بمساعدة زوجاتهن من جهة أخرى، إذ لم تتولد بعدُ قناعة لدى الجميع بأن الحياة أساسها المشاركة.

وقد حددت أغراض البحث بـ:

1- الكشف عن المشكلات الأسرية، وتحديد أبعادها وآثارها على حياة الأسرة واستقرارها، من خلال ما يعطيه البحث من معلومات وبيانات ومعطيات إحصائية.

2- الوصول إلى نتائج وإعلان مقترحات.

و إننا في الحقيقة نفتقر لمثل هذه الدراسات رغم أهميتها؛ إذ إنها تلقي أضواءً على مقومات جديدة لعمل المرأة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر المعطيات التالية:

- 68.57 % من الزوجات العاملات يقضين العطل في البيت للقيام بالأعمال المنزلية.

- 54.81 % من الأسر التي لديها أولاد، تغطي الزوجة غيابها عن العمل بسبب مرض طفلها بإجازات إدارية، و 10.04 % بإجازة بدون راتب.

- 29.82 % من العاملات التي جرت الدراسة عليهن، ينفردن بكافة الخدمات المنزلية داخل الأسرة، وهذا يعني أن ثلث الزوجات العاملات تقريباً، مسؤولات عن تأمين كافة الخدمات المنزلية بمفردهن دون أية مساعدة.

- 47.5 % من الأزواج يساعدون زوجاتهن العاملات، في الأعمال المنزلية التي تعتبر من اختصاص رب الأسرة (شراء الحاجيات، ومساعدة الأولاد في مسؤولياتهم المدرسية)(10).

النتائج الممكن استخلاصها من دراسة واقع المرأة في العمل تنحصر في النقاط التالية:

- إن مساهمة المرأة في العمل تبقى ضعيفةً رغم الجهود المبذولة، وإذا أردنا زيادة مساهمتها فيجب التخطيط من أجل تحقيق ذلك في ثلاثة اتجاهات:

1- زيادة تعليم المرأة.

2- تأمين فرص العمل التي تتناسب وإمكاناتها وظروفها.

3- العمل على تأمين الخدمات التي تحرر المرأة من أعبائها المتراكمة في المنزل.

* واقع المرأة الريفية

إن المعطيات الإحصائية، تظهر أهميتها خاصة في دراسة فئة لها أوضاعها الخاصة وظروفها الشاقة والصعبة، ولا سيما أن لها تأثيراً كبيراً على التنمية الاقتصادية، هذه الفئة هي عبارة عن فئة النساء الريفيات، إننا إذ نريد أن نظهر واقعها الذي هو بصورة عامة واقع أليم، فإننا نهدف من هذا، إلى التأكيد على أهمية دراسة أوضاعها بالأرقام، والتخطيط لتطويرها، وتنمية القطاع الزراعي، الذي يعتبر أهم من جميع القطاعات في الأقطار العربية(11):

أـ التركيب السكاني: 78% من النساء في الريف هن في أعمار تتراوح بين 15-59 سنة، بينما اللواتي تزيد أعمارهن عن 60% فلا يشكلن سوى 4%، وهذا معناه أن المرأة الريفية قوة بشرية فعالة، تسهم في العمل والإنتاج معاً.

ب- التركيب التعليمي: إن نسبة الأمية في الأوساط النسائية الريفية تبلغ 76% بشكل عام، وهي 61% في فئة السن 15-19 و91% في كل من فئات السن 30-34-35-39، ونؤكد على ما جاء في البحث، بأن هذه النسبة مؤشر خطر لأوضاع المرأة الريفية، وتظهر آثاره واضحة في جميع المجالات؛ الأمر الذي يدفع المسؤولين إلى الاهتمام الجدي بمحو أمية النساء الريفيات، عبر وضع برامج تنفيذية تتناسب والواقع، وتتفق مع الاحتياجات.

ج- المرأة الريفية والعمل: إن العمل الزراعي للمرأة الريفية  جزء لا يتجزأ من عملها اليومي كربة منزل، فـ 96.87% من نساء الريف مشتغلات بعملهن بالزراعة والرعي، ولكن قلما تستقل المرأة الريفية مادياً، إذ هنالك 82.19% من النساء الريفيات، ليس لديهن أي إطلاع على الوسائل الصحيحة للخدمات ووسائل الترفيه والتسلية(12).

النتائج الممكن أن نستخلصها عن وضع المرأة الريفية تتلخص في النقاط التالية:

1- إن المرأة الريفية تساهم في التنمية بشكل ملموس.

2- مردود مساهمة المرأة الريفية يبقى منخفضاً، نتيجة مستواها العلمي والعملي.

3- قلما تعمل المرأة الريفية بأجر، إلا إذا كانت تعمل في الوظائف الإدارية، كمعلمة أو غير ذلك، وفي بعض الأحيان لدى مزارع الدولة أو الجمعيات التعاونية، والتي لا تشكل -في الحقيقة- إلا نسبة ضئيلة من عموم العاملات.

وهكذا نجد أن المرأة المسلمة عامة، قد حققت في الوقت الراهن، وقياساً إلى أواسط القرن مثلاً، نوعاً من الاعتراف بعدد لا يستهان به من حقوقها، في ميادين التربية والثقافة، والشغل والحقوق السياسية والمدنية.. فاقتحمت بذلك مجالات اجتماعية وإنتاجية كثيرة، محاولة بذلك إثبات ذاتها وتأكيد نجاعة مساهمتها، كرأسمال بشري فاعل ومنتج، إلا أنها ما تزال تعاني من كثير من مظاهر الإقصاء والتهميش، والفقر، والقهر، وعدم تكافؤ الفرص التعليمية والمهنية والسياسية والاقتصادية، الأمر الذي يحد من مشاركتها واندماجها في عملية التنمية الشاملة(13).

وهكذا نجد أن وضع المرأة المسلمة في المدينة، لا يختلف كثيراً عن وضع المرأة في الريف، إلا من حيث كون المرأة في المدينة، تحصل على بعض الخدمات الإضافية، التي تحرم منها المرأة في الريف، وهي حبيسة البيت والمطبخ وتربية الأطفال، والحرمان من أغلب الحقوق والواجبات الحقيقية في المجتمع. وعندما تحرم النسبة العظمى من النساء من العمل، فهن لا يتمتعن بأي استقلال اقتصادي.

* سبل مواجهة التحديات التي تعيق
دور المرأة المسلمة في التنمية الشاملة

تتمثل سياسات القرارات والخطط والبرامج الرامية لمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والنهوض بالمرأة، في التركيز على تحقيق تضامن المرأة في مجتمعاتنا العربية، باعتباره ركناً أساسياً للتضامن العربي والإسلامي، وعلى تنسيق الجهود على المستوى الإقليمي والدولي، من خلال العمل المؤسساتي الفعال، وتبادل الخبرات في نطاق تحقيق التنمية المستدامة.

وتؤكد هذه السياسات أن تمكين المرأة داخل مجتمعها، يعد ركيزة أساسية لتقدم هذا المجتمع، وحركة الإنسان العربي وتمتعه بحقوقه، كما أن تطوير واقع المرأة المسلمة وتحرير طاقاتها، لا يمكن تحقيقه دون وجود منظومة من التشريعات القائمة على العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وإدماج قضايا المرأة في أوليات خطط وبرامج التنمية الشاملة، وفي إطار هذه السياسات لا بد من توعية المجتمع بقضايا المرأة، وقدراتها التي تخولها المشاركة في صنع القرار على مختلف المستويات، بما يعزز دورها الإيجابي في الأسرة والمجتمع.. ولتحقيق مثل هذه السياسات العامة، تلجأ منظمة المرأة العربية إلى وضع خطط وبرامج، تعتمد المنهجية القائمة على تحليل المواقف، وتحديد الأهداف والأوليات وآليات التنفيذ. ويأتي في إطار هذه الأوليات العمل على رفع قدرات المرأة العربية، وتمكينها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً في المجالات التالية:

- في مجال التربية والتعليم: حيث تعطى الأولوية في ذلك للقضاء على الأمية، من خلال اعتماد آليات تنفيذ تقوم على اتخاذ تدابير تضمن إلزامية التعليم، ودعم نظام تعليم الكبار عبر برامج خاصة تستخدم أساليب التعليم عن بعد.

- في مجال الصحة والبيئة: حيث تعطى الأولوية لتعزيز البرامج الوقائية، التي تحسن من صحة المرأة، وإدماج الصحة الانتخابية في البرامج التنموية للمجتمعات المحلية، وأيضاً زيادة وعي المرأة بالمخاطر البيئية، وانعكاساتها على صحة أفراد الأسرة.

- في مجال الإعلام، حيث تبدو الأولويات في ذلك:

أ- العمل على مكافحة الصورة السلبية للمرأة، واستبدال صور متوازنة تعزز بها دورها الإيجابي في المجتمع ومشاركتها في التنمية، على أن يتم ذلك عبر آليات تنفيذ تعتمد تشكيل مجموعات خبراء من الإعلاميين، تكون مسؤولة عن مراجعة ما ينشر حول المرأة في وسائل الإعلام، وتوفير المعلومات والردود أيضاً، وتخصيص جائزة باسم المنظمة لأفضل عمل إعلامي يبرز دور المرأة الإيجابي، إضافة إلى إقامة برامج تدريبية للإعلاميين، تحثهم على إعداد برامج لتوعية المرأة بحقوقها وواجباتها الشرعية والقانونية، وعلى عدم تقديم المرأة بصورة سلبية، والعمل أيضاً مع وزارات التربية في الدول العربية، على إعادة النظر بالمناهج المدرسية، لإظهار المرأة كشريكة متساوية في بناء الأسرة والمجتمع.

- وفي المجال الاجتماعي: اعتمدت المنظمة على أسلوب التخطيط للنوع الاجتماعي، وتبني مفهوم التخطيط بالمشاركة، والتأكيد على تماسك الأسرة العربية لحماية المرأة والأسرة من المشكلات الممكنة.

- وفي المجال الاقتصادي: تعتمد المنظمة إعطاء الأولوية لمشكلة الفقر، والعمل على خفض نسبة الفقر وتخفيض أثاره على المرأة، خاصة في القطاع الريفي، من خلال توفير فرص العمل والتدريب الملائمة للمرأة.. والتوسع في إقامة المشروعات الصغيرة والبرامج الأسرية المنتجة.

- وفي المجال السياسي: فإن أولويات المنظمة العربية هي دعم المشاركة السياسية للمرأة، من خلال زيادة نسبة تمثيلها في المجالس التشريعية ومواقع القرار، وأيضاً زيادة نسبة عضوية المرأة في الأحزاب والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني..

- أما في المجال القانوني: فإن أولويات المنظمة تعديل التشريعات التي تحول دون مشاركة المرأة العربية، وإزالة أشكال التمييز ضدها، وذلك عبر آليات تعتمد على إنشاء مجموعة قانونية عربية، تسعى لإزالة الفجوة بين النص القانوني والتطبيق الواقعي له.

* نجاح برامج التنمية وضمان استدامتها
رهن بمشاركة المرأة في التنمية

تؤكد الآراء الحديثة الواردة في أدبيات التنمية، على أن نجاح برامج التنمية وضمان استدامتها، وقدرة المجتمعات على مواجهة التغيرات العالمية، والتواؤم معها، مرهون بمشاركة العنصر البشري، وحسن إعداد الإنسان وطبيعة تأهيله. وتعتبر المرأة العربية المسلمة عنصراً مهماً في عملية التنمية. وإذا ما أريد لهذا العنصر أن يكون فعالاً فلا بد أن تتوافر للمرأة معطيات أساسية، تمكنها من المساهمة الإيجابية في حركة التنمية وتوجيهها، ويأتي في مقدمة هذه المعطيات الإنتاج الاقتصادي، الذي يضعها في موضع القوة ويجعلها قادرة على خدمة مجتمعها. ويعتبر عمل المرأة في المؤسسات الخيرية المتاحة تدعيماً لقدرتها الاقتصادية، كما يعطي مؤشراً واضحاً على تفهم المرأة لدورها في بناء المجتمع، وقدرتها على المشاركة الحقيقية في التنمية، خاصة إذا ما أدركنا أن دورها في هذه المؤسسات في تطور مستمر، نظراً لما وصلت إليه المرأة من قدرة على الأداء، وسوف يعرض هذا المحور للدور المتغير الذي تلعبه المرأة في المجتمعات الإسلامية:

أولاً: بالنسبة لمشاركتها في التنمية.

ثانياً: بالنسبة لمشاركتها في المنظمات غير الحكومية.

ثالثاً: بالنسبة لمشاركتها في العمل التطوعي، مشيرة إلى دورها في المؤسسات المَنَّاحة. مع العلم بأنه لا توجد دراسات سابقة بشأن مشاركة المرأة في مؤسسات الخير المَنَّاحة والمتلقية.

أولاً: بالنسبة لمشاركة المرأة في التنمية

يتصل مفهوم المشاركة بمفهومي التنمية والتمكين اتصالاً وثيقاً، فلقد أضحى من المسلم به أن تنمية حقيقية، يستحيل إنجازها على أي صعيد، دون مشاركة الناس بقطاعاتهم المختلفة، وفئاتهم وطبقاتهم وشرائحهم الاجتماعية، في صنعها من ناحية، وفي جني ثمارها من ناحية أخرى.

إن درجة المشاركة ونطاقها، تحدد إلى درجة كبيرة توزيع القوة power في المجتمع، بمعنى القدرة على إحداث تأثير في الآخر الذي قد يكون فرداً أو جماعة أو مجتمعاً بأكمله، إلى المدى الذي نستطيع أن نقول فيه: إن المشاركة والتمكين هما وجهان لعملة واحدة. أي أن المشاركة لا تستهدف فقط تنمية المجتمع وصنع مستقبله، بل تستهدف أيضاً تنمية الذات المشاركة وتطوير قدراتها وإمكاناتها، ووجودها الفاعل والمؤثر في الحياة الاجتماعية على أصعدتها المختلفة. ومن هنا فإن درجة مشاركة النساء في الجوانب المختلفة للواقع الاجتماعي، تقف كمؤشر أساسي على وضع المرأة ومشكلاتها، ومكانتها وقوتها وتمكنها في المجتمع.

ورغم حداثة مفهوم المشاركة النسائية، وارتباطه بتطورات حديثة في الحركة الاجتماعية بصورة عامة، والحركة النسائية بصفة خاصة، فإن ثمة أشكالاً من المشاركة التقليدية للنساء، وبصفة خاصة في مجتمعنا العربي لا ينبغي تجاهلها، بل إن أي دعوة لمشاركة المرأة العربية مرهونة في نجاحها، باستلهامها وارتباطها بأشكال المشاركة التقليدية المتجذرة في ثقافتنا، مع إفادتها في الوقت ذاته من المدلولات الحديثة لمفهوم المشاركة.

تكتسب “المشاركة” إذن أهميتها ودلالتها بالنسبة للمرأة وقضاياها من حيث كونها آلية أساسية لتنمية الذات (المرأة ذاتها)، وتنمية الموضوع (المجتمع والواقع الاجتماعي)، وهما بعدان يرتبطان ارتباطاً جدلياً، فالذات أو الشخصية المتفتحة، القوية، والمزدهرة، والفاعلة، هي القادرة على تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كما أن النمو الاجتماعي بدوره، يمكن أن يقاس بمدى الفرص التي يتيحها لتحقيق مشاركة القطاعات المختلفة، وتفتحها وازدهارها وفاعليتها(14).

حول مفهوم التمكين أو البحث على تحقيق القوة

تشترط عملية المشاركة بصفة عامة درجةً معينة من القوة أو التمكين، إذ إن المشارك في الحياة اليومية هو فاعل لديه القدرة على الفعل والاختيار، وتحقيق الأوضاع والأهداف التي يرغبها، ومن ثم فإن المشاركة الحقيقية تعني وتفترض درجة الفاعلية وشروط تحققها، وقدرة الإنسان (المرأة هنا) على تحقيق إرادتها وتطلعاتها على الصعيد الاجتماعي، على أساس أن السعي نحو القوة عنصر كامن في الفعل الاجتماعي، وهو مصدر أساسي لمقاومة التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية الضاغطة.

ويرتبط مفهوم التمكين في التحليلات السيسيولوجية الحديثة بمفهومين آخرين؛ تحقيق الذات أو حضور الذات، وهو المفهوم الذي يشير إلى الوعي والمعرفة والخبرة، أو القابلية لامتلاك تلك العناصر الضرورية للمشاركة، ومقاومة الضغوط الاجتماعية.

إن المشاركة بهذا المعنى، تشير إلى مدى القدرة على الفعل، وصنع الظروف، ومقاومة الضغوط، وصولاً إلى تحقيق الذات، وتحقيق القوة أو التمكن بإزاء الظروف ذاتها.

ونستطيع أن نقول في هذا الصدد: إن المرأة بعامة، والمرأة العربية بصفة خاصة، ما تزال تستشعر الكثير من الضغوط المؤسسية الاجتماعية، التي تعوق مشاركتها في صنع القرار، إن مفهوم التمكين هنا، يشير إلى كل ما من شأنه أن يطور مشاركة المرأة، وينمي من قدرتها ووعيها ومعرفتها، ومن ثم تحقيق ذاتها على مختلف الأصعدة: المادية والسيكولوجية والاجتماعية والسياسية، ويتيح لديها كافة القدرات والإمكانات، التي تجعلها قادرة على السيطرة على ظروفها ووضعها، ومن ثم الإسهام الحر والواعي في بناء المجتمع على كافة أصعدته.

ثانياً: مشاركة المرأة في التنظيمات غير الحكومية

المنظمات الأهلية غير الحكومية

من المسلَّم به أن دور المرأة ومشاركتها في التنظيمات الأهلية، لا ينفصل عن وضعها في المجتمع بصورة عامة، وهو الوضع الذي سيتحدد بدوره، بمدى تطور البني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وإن العلاقة بينهما علاقة جدلية وتفاعلية، فمن المستحيل أن تتطور أدوار المرأة وتتحرر وتصبح شريكاً كاملاً في المجتمع، إلا إذا سمحت مرحلة تطور البنى الاجتماعية والسياسية في هذا المجتمع بذلك، وهي بدورها تتأثر في تطورها بدرجة تحرر المرأة وتفاعلها مع حركة المجتمع(15).

ويتمثل النشاط الأهلي للنساء في أنماط متعددة، من أقدمها وأكثرها شيوعاً الجمعيات الخيرية النسائية، وهي الجمعيات التي ترتبط بالبر والإحسان، وتحاول بالتالي ترميم وإصلاح العيوب ومعالجة المشكلات من موقف إصلاحي، وهي أكثر أصناف الجمعيات رواجاً وعراقةً. وهي تارة جمعيات خيرية “مختلطة” تساهم فيها نساء، وتارةً أخرى جمعيات خيرية نسائية صرفة، لا تعمل فيها إلا نساء..

وهناك جمعيات واتحادات نسائية، مرتبطة بأحزاب في السلطة أو خارجها، فإن كانت هذه الأحزاب خارج السلطة، فإنها قد ترتبط بالحركة الوطنية، وتربط نظرتها للمرأة بموقفها الإيديولوجي، أما تلك المنظمات التابعة لأحزاب في السلطة، فهي تتحرك في إطار الحزب، وتتسم بدرجة عالية من البيروقراطية.

وتشير البيانات والإحصاءات المتوافرة على الصعيد العربي إلى ضعف المشاركة النسائية بصورة عامة، في التنظيمات والجمعيات الأهلية، فضلاً عن ضعفها في العمل النقابي، وتواجد المرأة أساساً على المستويات القاعدية دون القيادية، وبالتالي ابتعادها عن مواقع صنع القرار. كما تأتي هذه المشاركة في هذه التنظيمات، من فئات وطبقات اجتماعية معينة ممن يملكن الوقت والمال، وكذلك من فئات عمرية متأخرة نسبياً بعد سن الأربعين غالباً، حتى لا يكون هناك أطفال في حاجة إلى الرعاية، كما تتسم هذه التنظيمات في الغالب بالطابع الحضري، فتستوعب نساء الحضر، مما يعني تهميش قطاعات ومناطق وأجيال وطبقات اجتماعية، عن المشاركة في العمل الأهلي النسائي العربي، يؤدي ذلك حتماً إلى صياغة مضمون النشاط الأهلي، في إطار أنساق فكرية وثقافية وقيمية، لا تمثل الغالبية العظمى من النساء العربيات(16).

غياب الاستراتيجيات الإنمائية

إن غياب التخطيط والاستراتيجيات الإنمائية -التي يجب أن تضعها المنظمات غير الحكومية لتسيير وتنشيط عملها- يعتبر من أهم المعوقات لدور هذه المنظمات في التنمية المحلية. والجدير بالذكر أن دور المنظمات العربية غير الحكومية ما زال ضعيفاً وغير ملموس، والشراكة المطلوبة مع الحكومة ما تزال موضوع جدل، رغم تزايد عدد هذه المنظمات، وتنوع أنشطتها واتساع دائرة عملها جغرافياً، ومشاركتها في المؤتمرات العالمية التي عقدت في التسعينات، مما وسع أفقها وانفتاحها وزيادة وعيها بالقضايا ذات الأهمية الحاسمة المشتركة، التي ركزت عليها معظم توصيات تلك المؤتمرات لتحسين نوعية الحياة، ومنها قضايا الفقر، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومحو الأمية الأبجدية والقانونية، وتمكين المرأة، وقضايا النوع الاجتماعي، والمساواة بين المرأة والرجل، وقضايا البيئة والتنمية البشرية المستدامة، والعمل المنتج، وإدماج الفئات المهمشة في المجتمع، وقضايا السكان والصحة الإنجابية والتنمية المحلية، والعمل على بناء القدرات المؤسسية والبشرية.

ثالثاً: مشاركة المرأة في العمل التطوعي

ظهرت بدايات العمل التطوعي في العالم العربي في القرن التاسع عشر، واستمر بوتائر مختلفة حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل دولة من الدول العربية، وكان له إسهامات كبيرة في تقديم العون والمساعدات للفئات الاجتماعية المحرومة.

ويعتبر البعد الثقافي القيمي عاملاً مهماً في العمل التطوعي، لما للمنظومة الثقافية والقيمية من تأثير على الدوافع والأسباب التي يحملها الأفراد، ولا شك أن الموروث الثقافي العربي الإسلامي يحتوي على العديد من القيم الاجتماعية والثقافية الإيجابية، كالتعاون والتكافل والزكاة والبر والإحسان، وغيرها من القيم التي تحفز المواطن على التفاني من أجل الغير(17).

ويمكن للمتتبع للتاريخ الإسلامي، أن يلاحظ أثر الأعمال التطوعية في الحياة العامة للمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في العهد الأول، إذ لم ينهضا ويقوما بدورهما الحضاري الرائد إلا بفضل الأعمال التطوعية التي كان يبذلها أفراد المجتمع الإسلامي، بل إنها كانت وراء استمرار المجتمع الإسلامي والمحافظة على بقائه وديمومته إلى الآن.

ولو نظرنا إلى التعليم والتربية في المجتمع الإسلامي مثلاً، لوجدنا أنها ما كان من الممكن أن تحرز التقدم المذهل والانتشار الواسع النطاق، لولا نظام الوقف الخيري، الذي هو أحد الأعمال التطوعية، وعن طريقه يتم تمويل عملية التربية والتعليم على جميع المستويات، مدارس وطلبة علم وأساتذة تعليم، وكتابة ومكتبات عامة وغير ذلك(18).

كذلك الأمر بالنسبة للصحة، فقد لعب العمل التطوعي دوراً مهماً في القضاء على الأمراض والحيلولة دون انتشارها وتفاقمها، وذلك من خلال حركة بناء المستشفيات ودراسة الطب والإنفاق عليه من موارد الأوقاف الخيرية، ومن خلال التوعية والتثقيف الصحي(19).

من هنا تأتي أهمية العمل التطوعي، في كونه أحد السبل المثلى -بل أهمها- التي تُشارك في عملية تحسين الأحوال المعيشية، وإيجاد حياة أفضل لأفراد المجتمع.

فمن المعلوم أن من مجالات العمل الطوعي التي حث الدين الإسلامي على الاهتمام بها، الرعاية الاجتماعية للطبقات المحرومة والمعدومة، كالأيتام والفقراء والمساكين، وكذلك المرضى والمجانين، والعناية بالعجزة والأرامل والمطلقات، مضافاً إلى قضاء حوائج الناس، وإقامة المشاريع ذات النفع العام للمجتمع، كالأسبلة (مواضع استقاء الماء)، والحمامات العامة، والمستشفيات والمدارس والمكتبات، وسائر الأمور الأخرى التي ينتفع بها عموم الناس.

وتلعب النساء المسلمات دوراً بارزاً في مؤسسات العمل التطوعي، سواء في الجهات المَنَّاحة أو المستفيدة.

* المصادر الخارجية لتمويل العمل الطوعي

ونعني بالمصادر الخارجية، أن التمويل يتم جمعه من مصادر خارج المنظمة الطوعية، سواء كان من أفراد أم حكومات أم جماعات.

وتمثل هذه المصادر جزءاً كبيراً في تمويل العمل الطوعي، ويمكن للمرأة المشاركة في إدارة هذه الموارد خاصة وأنها تمتلك  المهارات الإدارية والقدرة على التخطيط، كما يمكن أن تلعب دوراً بارزاً في تطوير هذه الموارد، عن طريق تشغيل هذه الأموال واستثمارها، إذ إن التخطيط الإنمائي الفعال والتوجيه السليم للاستثمارات، لا يتحققان بغير المشاركة الكاملة لقطاع الأعمال مع القطاع الحكومي من قبل المرأة.

كما أن أداء هذه الأدوار من قبل المرأة في المؤسسات المناحة والمستفيدة، يعمق من خبرات النساء العاملات، ويطور قدراتهن الإبداعية والابتكارية، ويكسبهن العديد من المهارات، ويزيد من نطاق تفاعلهن، أي مشاركة للمرأة بالعمل في الجهات المانحة والمتلقية، سيساعد على حل بعض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، الناجمة عن التغيرات العالمية والمحلية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مشكلة البطالة والفقر، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى أنها ستكون قادرة على تفهم مشاكل العديد من النساء، مما سيتيح لها المساهمة في تحسين الخصائص المختلفة، لقطاع عريض من النساء في المجتمعات العربية، ومنها الخصائص التعليمية  والاقتصادية والأسرية والصحية.

وفي الحقيقة توجد عدة أسباب، تدعو إلى إشراك المرأة إشراكاً كاملاً في صنع القرار الاقتصادي في المؤسسات المانحة والمتلقية، لأن للمرأة الحقوق نفسها في ذلك الاشتراك، وينبغي أن تتساوى المرأة مع الرجل، في القدرة على الوصول إلى المهارات والمكاسب والوظائف، اللازمة لبلوغ مستويات اتخاذ القرار في المؤسسات والجهات المانحة والمتلقية.

كما أن للمرأة مهارات تناسب العمل التطوعي، وتتناسب بشكل خاص مع مبادئ الإدارة العصرية، إذ اكتسبت المرأة العديد من تلك المهارات من واقع خبرتها في إدارة مواردها الشحيحة ووقتها الضيق، وفي قيامها بمسؤولياتها المتعددة، وتوفير الرعاية والقيام بالعمل دون أجر داخل الأسرة، وهذه القدرة على القيام بعدة مهام في الوقت نفسه ثمينة جداً، يمكن استثمارها من خلال إشراك مساهمة المرأة في مؤسسات العمل التطوعي، كما يدفع ذلك إلى زيادة نسبة تمثيل المرأة في الهيئات المناحة والمتلقية لأعمال البر والخير، حيث سيتيح ذلك للمرأة القيام بدور حيوي، خاصة في إيصال العديد من الخدمات التي تلبي احتياجات المرأة، كما تقوم المنظمات النسائية بدور أساسي في تفعيل مشاركة المرأة مع هذه الجهات، خاصة من ناحية تأهيل وتدريب المرأة على المهارات المهنية والفنية، التي تتطلبها أنظمة العمل في هذه المؤسسات، وبإمكان هذه المنظمات أيضاً أن تأخذ في اعتبارها الدور الذي تقوم به المرأة في منظمة المشاريع، وتتضمن البرامج الناجحة في دعم النساء منظمات المشاريع، خاصة بالنسبة للتمويل والمساعدة التقنية والمعلومات والتدريب وإسداء المشورة. وبناءً على ذلك يمكن توصيف الدور التنموي للمرأة العاملة في الجهات المانحة والمستفيدة بأنه:

- دور قيادي يتمثل في تأسيس عديد من المشروعات الإنتاجية والمشاركة مع القطاع الخاص في تنفيذ العديد من المشروعات لدعم الاقتصاد وتحقيق التنمية الاجتماعية.

ـ دور تفصيلي لأدوار المرأة، يتمثل في التدريب وحل المشكلات وإقامة المشروعات، وإيجاد فرص عمل متزايدة لقطاع عريض من النساء في القطاعات الريفية والحضرية.

ـ دور تنشيطي لبرامج التنمية للارتقاء بخصائص المرأة، من خلال التمويل لعديد من البرامج وتأسيس مشروعات خدمية، للارتقاء بالخصائص الاجتماعية والاقتصادية للمرأة. علماً بأن درجة مساهمة المرأة في هذه المؤسسات يختلف من مجتمع لآخر حسب حجم وخصائص ودور المؤسسة، وطبيعة التسهيلات التي تمنحها من أجل استقطاب ومشاركة المرأة للعمل بها، كما تتأثر هذه المساهمة أيضاً بنوعية المشروعات والمجالات والاحتياجات التي تقدمها هذه المؤسسة لكافة النساء المستفيدات.

وحتى تتعزز مشاركة المرأة في مؤسسات الخير المنّاحة والمتلقية، يجب أن تتوفر للمرأة عدة متطلبات أهمها:

- توفير الوقت الكافي واللازم، للإشراف والإدارة على الأعمال والمشروعات ومتابعة طرق الأداء بها وتنسيق خدماتها.

- القدرة على الإبداع والابتكار في مجال العمل الخيري، وتحقيق القدرة المالية للمؤسسات الخيرية، عن طريق بلورة أفكار لبرامج ومشروعات استثمارية، خاصة بالنسبة للمنظمات النسائية المتلقية لهذه المساعدات، مما يساعد على تطوير الموارد الذاتية، أو المساعدات المقدمة من مصادر خارجية.

* استشراف مستقبل تفعيل
دور المرأة التنموي في البلدان الإسلامية

مما تقدم يمكن القول: إن المرأة المسلمة قد أُطِّرت داخل سياق يتحدد مضمونه فيما يلي:

“ضعف العلاقة التبادلية بينها وبين المجتمع. حيث همش دورها العام المستغَّل داخل المنزل، كما هُمش واستغل مجال عملها خارج المنزل في الزراعة، والرعي، وقطاع الخدمات فيما بعد”.

وهو أمر طبيعي في ظل تبعية اقتصادنا، المبني على تصنيع يعتمد تكثيف رأس المال بدل العمالة في قطاعات محدودة، ويتسم باستهلاك متعاظم لمنتجات أجنبية، وتراجع في الزراعة، وقصور نسبي في الخدمات، وما ينتج عن ذلك من تزايد في أعداد العاطلين عن العمل، وتفاقم البطالة المُقَنَّعة، والأعمال الهامشية التي يكون للمرأة فيها النصيب الأكبر(20).

وإذا أضفنا لذلك غياب الوعي الاجتماعي المتكامل لأهمية دور المرأة في التنمية، وفقاً للمفهوم الشامل الذي يتخطى المواضيع الكمية والأعمال القياسية، فقد تتضح الصورة بشكل أكبر:

فإن ما تقوم به المرأة كزوجة أو كَرَبَّة منزل أو كأم طوعاً، له من غير شك قيمة اقتصادية فعلية، وليس هو من تحصيل الحاصل. والدليل على ذلك أن ما تقوم به المرأة في الأرياف، ومناطق البداوة الزراعية حتى الآن، هو في أساس اقتصاد هذه المناطق.

أما في المدن والمناطق الحضرية، فيتخذ شكلاً أكثر تأكيداً على قيمة عمل المرأة المنزلي اقتصادياً، بسبب استعانة العديد من الأسر بالخدم المأجورين، أو ببعض مؤسسات الخدمات الاجتماعية المساعدة، (مطاعم، وجبات جاهزة، محال تنظيف وكي،... إلخ)، لتقديم بعض الخدمات مقابل أموال تدفع لهم. وهو دليل على أن ما تؤديه المرأة له أضعاف قيمة أي جزئية يستعان بالغير لتقديمها، وبالتالي فعمل المرأة المنزلي يحقق نتائج ذات عائدية أساسية على الاقتصاد(21)، وعليه فقد اعتمدت منظمة العمل الدولية في مؤتمر بِكِّين الشعار التالي: “كل امرأة هي امرأة عاملة”.

وهو ما ينقلنا إلى المرأة ذاتها، التي لم تبحث في مسألتها الأساسية، ضمن رؤية لنفسها على أنها مورد إنساني وطني، تتوزع طاقاته وقدراته في مختلف المجالات والفروع، بل استغرقت في نضالها المطلبي، وانساقت وراء جزئيات متفرقة: تحررها من اضطهاد الرجل، أو المساواة به في جميع الميادين، أو تعديل التشريعات والنصوص، أو الخروج من مملكة المنزل إلى مملكة العمل بصرف النظر عن نوعه ومردوده، أو التحول إلى ربة منزل عصرية بالمفهومين التقليدي والاستهلاكي معاً، أو... إلخ.

أي أنها -وعلى رغم أهمية ما سعت إلى توجيهه وضرورته وفقاً لرؤية حيادية منطقية تتوافق مع المنطق والعقل، ولا تتنافى مع الأديان والشرائع- أغفلت إلى حد ما التركيز على القضية الأصل، أو المرتكز الأساس في كل هذا وهي:

“توفير القاعدة الاقتصادية المستقلة، القائمة على نشاطات إنتاجية تعتمد تشغيل كل القوى الاجتماعية القادرة على العمل، والتي تعد المرأة إنساناً ومواطنة عاملةً إنتاجية تسهم في الاقتصاد وفق قيمة مقاسة، سواءً أكانت تعمل داخل المنزل أو خارجه، وذلك وفقاً لما تحققه من نتائج”.

فإذا تم الاتفاق على مشروعية محور المورد الإنساني والعمل الإنساني، على أنه بديل لرأس المال، والقروض الخارجية، والتقانة المستوردة والعمالة الوافدة في حالة الاقتصاد، دون اليسر بدلاً من قول العسر، وإذا ما تم التسليم تالياً بأن المورد الإنساني هو عطاء يشمل المرأة والرجل في آن واحد، وليس من منطلق مجرد أو اقتراب أو مساواة لوضع الرجل، بل على قاعدة وضع قضية المرأة في قلب عملية التنمية ومعاناتها، وممارساتها. يصبح واجباً التوقف عند مؤشرات رئيسة، تطال الممارسة قبل تحقيق الوعي، وتتكلم عن الموقع الراهن والمرتقب للمرأة في الصيرورة التنموية(22).

هذه المؤشرات تشكل في مجموعها إذا ما أحسن استغلالها بنية تحتية، وحافزاً إيجابياً يدفع المرأة المسلمة إلى احتلال موقعها المنشود. وممارسة دورها في صنع حياتها وحياة بلادها، من خلال ما يسمى في الأدبيات الدولية “تمكين المرأة”، أي تسليحها بمقومات وعوامل تحقيق فاعليتها في العملية الاقتصادية التنموية، وشغل دورها الأساسي في المجتمع وفق مقولة النصف الثاني.

وعليه فقد نستطيع القول: إن مشكلة رئيسة لها انعكاساتها السلبية على تمكين المرأة من الأداء الفعّال في النشاطات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، تقف حائلاً دون المساهمة الفعلية في مسيرة التنمية.

فقصور تعليم المرأة، تتجلى أول آثاره الممتدة عبر حلقات متسلسلة على الجيل الثاني، وربما على الجيل الذي يليه، من حيث التمكين للدخول بكفاءة في ميدان الأعمال الإنتاجية غير المباشرة في المنزل، عند:

- قيامها بتنشئة أطفالها، وترسيخ مكارم الأخلاق والقيم في نفوسهم، وتنمية الشعور بالمسؤولية داخلهم.

- السهر على راحة أفراد أسرتها، بشكل يزيد من نشاطهم الاقتصادي وإنتاجيتهم.

- إدارتها لشؤون المنزل من حيث نمط الاستهلاك العائلي (ترشيد الاستهلاك)، نمط الإنفاق في ميزانية الأسرة.

وتتجلى أهم آثاره في النشاط الاقتصادي المباشر من خلال:

- التعداد الكمي للمتعلمات داخل سوق العمل، وازدياد فرص وصولهن إلى الأعمال المناسبة.

- شرائح الأعمال الإنتاجية والخدمية المباشرة وغير المباشرة التي تنتسب إليها المتعلمات.

- مستوى وعي المرأة بحقوقها، وكيفية الحصول على هذه الحقوق.

- فرص مشاركتها في الحياة السياسية ومراكز صنع القرار واتخاذه.

هذا عدا عن الافتراض بأن تعليم المرأة، وعملها الذي قد ينتج عنه، سيؤدي إلى تحملها أعباء ومسؤوليات تفوق قدرتها وإمكانياتها، وتخرج عن إطار واجباتها، وهو ما قد ينعكس على سيادة قيم الاتكال والتراخي في نفوس الرجال، وزيادة الضغط النفسي والتوتر في حياة المرأة.

إضافة إلى الاعتقاد، بأن التعليم يُفقِد المرأة فرصة الزواج المبكر، أو لا يُتيح لها الحصول على الزوج الذي يتحمل مسؤولية تكريمها واحترامها، بمنع تعرضها لمساوئ العمل خارج المنزل.

إضافة إلى ضعف الارتباط بين مستويات التعليم وفرص العمل والمردود الاقتصادي، حيث إن العمل لدى القطاع العام، وأجهزة الإدارة العامة، والذي يستوعب غالبية العمل النسائي، قد انطلق من حق إتاحة العمل للجميع، في وظائف وأعمال لا تشترط مستويات تعليمية معينة، ولا تختلف معدلات أجورها بنسب كبيرة عن غيرها من المستويات عالية التعليم، وقد أدى هذا مع غيره من العوامل، إلى ترسيخ القناعة بانتفاء الحاجة إلى متابعة تعليم الأنثى.

وما يتبع ذلك من تفسير خاطئ للنص الديني في القوامة والأهلية، ومن كيانات وبنى تقليدية في أجزاء الريف، تتمتع بقوة تتجاوز حرمة النصوص الدينية، وفعالية النصوص الوضعية، ومن افتقار المناهج التعليمية لتصوير المرأة كمورد بشري ذي طاقة إنتاجية تسهم في النمو الاقتصادي، ومن انخفاض مستويات الدخول، والاضطرار لاستبعاد المرأة من التعليم توفيراً لنفقاته، أو إدخالها في سوق العمل مبكراً للمساهمة في دخل الأسرة...

* توصيات ومقترحات البحث

1- تفعيل قدرات المرأة المسلمة الذاتية ودعم مهاراتها

وتتمثل أهم الوسائل والأدوات في التعليم والتدريب، من حيث التوجه نحو الكم والنوع في آن واحد، ومراعاة العوامل المسببة للفجوات الحاصلة فيها، من حيث: الموروث الاجتماعي، تكلفة فرصة التعليم ونفقاته، التوازن ما بين التعليم والعمل، مضمون مناهج التعليم ومعلوماته. وذلك من خلال:

ـ وضع وتنفيذ خطة ثقافية تنموية، هدفها توضيح الفهم الديني الصحيح لدور المرأة المسلمة، وأهمية تعليمها ومشاركتها، وشرح وإثبات نتائج تعليمها وعملها على الأسرة والمجتمع. وذلك بالاستعانة بمختلف الأطراف الاجتماعية من رجال دين، زعماء أحياء، مراكز استقطاب، رؤساء منظمات، قادة غير رسميين، رجال أحزاب، الإعلام.. إلخ.

- توفير المجانية الفعلية للتعليم العام والفني، من حيث (مستلزمات الدراسة، قرطاسية، ملابس، مواصلات، دروس تقوية، هبات مالية لمتابعة الدراسة..)، وذلك بعد تعديل مناهجه وتطويرها، لتخرج عن الإطار التقليدي لتوزيع أدوار المرأة، وتكرس أهمية العلم والمعرفة، وتتحول إلى مدخلات تنتج مخرجات يمتصها سوق العمل ويسعى إليها. ورفد كل ذلك باشتراط خصائص تعليمية ومهارات فنية معينة أثناء التوظيف في القطاعات المختلفة، أو أثناء الترخيص بإقامة مشاريع خاصة.

2- مساعدة المرأة في تحقيق التوازن بين دوريها الأسري والإنتاجي

من خلال توفير مجموعة الخدمات الاجتماعية: رياض الأطفال، مطاعم الوجبات السريعة، مؤسسات الخدمات المنزلية.. إلخ، وقد أثبتت الدراسات أنه في المناطق الفقيرة، أسهم توفير تسهيلات عامة من قبل الدولة، في زيادة فرص المرأة في العمل لكل الوقت ونصف الوقت.

3- مواجهة آثار الإصلاح وإعادة الهيكلة على المرأة

بمراعاة تفاوت حيازة كل من الرجل والمرأة للموارد الاقتصادية، وتفاوت الأنشطة التي يعمل بها كل من الجنسين، والعمل على استهداف المرأة من خلال مشروعات تعمل على زيادة دخلها، نظراً لأن ناتج هذا الدخل يتم توجيهه بشكل كبير لخدمة الأسرة ورفع مستواها.

4 - الإلزام والقسر على تعيين المرأة وترقيتها في بعض مواقع اتخاذ القرار وصنعه

لذا ينبغي العمل على تخليص المرأة من قيود العادات والتقاليد والموروثات الشعبية المتخلفة، المضروبة حولها والمعيقة لمشاركتها في تنمية مهاراتها وقدراتها، ومن ثم تنمية المجتمع ككل، ولعل جهود تنمية المرأة ينبغي أن تبدأ بالتعليم، ثم تمتد لتشمل التدريب الفني والتأهيل والتثقيف، الذي يتواكب ومستجدات العصر من علوم وتكنولوجيا ومعلومات.

وقد أشارت العديد من الدراسات، إلى أن ضعف القاعدة البشرية يتمثل بشكل أساسي في انتشار الأمية، وبخاصة بين الإناث، وضعف التعليم الجامعي، ونقص التدريب الفني، وتواضع مستوى التنمية البشرية، وبخاصة في البلدان العربية غير النفطية وقد يؤدي ذلك إلى تدني دافعية الجماهير العربية وخصائصها الفنية، وقدرتها على المشاركة بفاعلية في جهود التنمية، فينبغي لذلك الالتفات إلى هذه الناحية المهمة أولاً كخطوة أساسية للإقدام على أي برنامج يهدف إلى تحقيق التنمية البشرية العربية.

 

الهوامش:

* قدم هذا البحث لأعمال “مؤتمر مشكلة الفقر في العالم الإسلامي، الأسباب والحلول”، نظمه المعهد العالمي لوحدة المسلمين، الجامعة الإسلامية العالمية بكوالالامبور ماليزيا، بتاريخ 2-3 ذي القعدة 1425هـ، الموافق لـ 14-15 ديسمبر 2004م.

** أستاذة العقائد والأديان المقارنة بجامعة ابن طفيل - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - القنيطرة - المملكة المغربية.

(1) رواه أبو داوود.

(2) رواه أبو تميم في الحلية عن أنس وسنده ضعيف.

(3) سورة النور 33.

(4) سورة الأنعام 151.

(5) العرب وتحديات الهيمنة والعولمة، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية الرباط الكتاب الثقافي السنوي 2/ 1997م.

(6) الحوار المتمدن - العدد: 767 - 8/3/ 2004 م.

(7) عمر محمد التومي الشيباني- ديموقراطية التعليم في الوطن العربي 1986م ص 55.

(8) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت ط 1/1996م.

(9) مصطفى محسن، قضية المرأة وتحديات التعليم والتنمية البشرية سلسلة المعارف للجميع، ص 76.

(10) الإحصاء الاقتصادي، قاسم حسن.

(11) المرأة والمجتمع، د. سلوى الخماش.

(12) مسؤولية المرأة، حسن الصفّار.

(13) واقع المرأة وواقع المجتمع، مجلة الوحدة، المركز القومي للثقافة العربية س /1 ع/ 9 ص 3.

(14) محمد عودة، لجنة أوضاع المرأة 1995م، ص 10-11.

(15) لجنة أوضاع المرأة 1993م، ص10 .

(16) اللجنة الاقتصادية والاجتماعية 2000م، ص22.

(17) محمد عبد الحق، الإعلام والعمل التطوعي،2001م، ص1.

(18) محمد عودة، ص34.

(19) عبد الرحمن أحمد عثمان، العمل التطوعي، ص 94.

(20) د. الضرير: موسى، زكريا: خضر، السكان والتنمية، جامعة دمشق، صندوق الأمم المتحدة - 1997م، دمشق، ص 99 - 110.

(21) بركات: محمد، العمل التطوعي والخدمات الاقتصادية غير المدفوعة الأجر التي تؤديها المرأة لصالح الأسرة والمجتمع، منتدى المرأة العربية والاقتصادية، الكويت، نيسان 2002م.

(22) البزري: دلال، المرأة في العمل الأهلي العربي، مجلة المستقبل، مركز دراسات الوحدة العربية - لبنان، العدد 135 - 1990م، ص 67.

 


فقه السلم والسلام.. عند الإمام الشيرازي

حسن آل حمادة

الكتاب: السلم والسلام.

الكاتب: السيد محمد الشيرازي.

الناشر: دار العلوم، بيروت.

سنة النشر: ط1، 1426هـ.

الصفحات: 816 صفحة، قطع كبير.

* تمهيد

يُعد المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)[1928-2001م]، مرجعية متميزة بكل المقاييس؛ إذ صدر له في مجال التأليف ما يربو على (1260) كتاباً، ومن ضمنها موسوعته الفقهية التي جاءت في حدود (160) مجلداً، وهي أكبر موسوعة فقهية أُلفت في تاريخ الإسلام، وبجهد فردي!! لذا لم يكن الدكتور (أسعد علي) مبالغاً عندما وصفه بسلطان المؤلفين، في الكلمة التي ألقاها بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله، وهو -أي الإمام الشيرازي- إضافة لمؤلفاته التي جعلته في مقدمة الركب؛ كان راعياً لمئات المؤسسات الإسلامية المنتشرة في مختلف أنحاء المعمورة، وعُرِف كأستاذٍ من أساتذة الحوزة العلمية؛ إذ تخرج على يديه العديد من الفقهاء والعلماء وأصحاب الفكر، الذين ساروا على نهجه وأصبحوا أعلاماً يُشار إليهم بالبنان.

ولعلَّ المتتبع للإصدارات المتتالية لسماحته، يلحظ عنايته الفائقة وتحسسه المستمرين للمشاكل والأزمات التي تواجه الأمة الإسلامية، فقبل أن تنتشر الصحون الفضائية في الدول العربية والإسلامية انتشار النار في الهشيم؛ بادر الإمام الشيرازي بكتابة كرَّاسه المُتعقل: (الأفلام المفسدة في الأقمار الصناعية: وقايةً وعلاجاً)، وعندما وقع بعض العرب اتفاقية الصلح بينهم وبين الكيان الصهيوني الغاصب في يوم: 20 جمادى الأولى سنة 1415هـ، بادر سماحته في اليوم نفسه بكتابة كرَّاسه المعنون بـ(هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل؟)، وهو تبعاً لذلك راح يسطر الكتاب تلو الكتاب، والكرَّاس تلو الكرَّاس؛ ليسهم بكتاباته المتنوعة والغزيرة؛ في العمل على إنقاذ المسلمين من واقع البؤس والشقاء؛ وليقدِّم من خلال أطروحاته الواعية، العلاج الملائم للمشاكل التي تعصف بالمجتمع الإسلامي.

وضمن الجهاد الفكري المتدفق للإمام الشيرازي، أبصرت النور بعد رحيله مجموعة من الكتب الفقهية ضمن موسوعته الشهيرة، ومنها كتاب: (فقه العولمة.. دراسة إسلامية معاصرة)، وكتاب: (الفقه.. فلسفة التاريخ)، وكتاب: (الفقه.. الآداب الطبية)، كما صدر له مؤخراً كتاب قيِّم حمل عنوان: (السلم والسلام)، وفي هذه الورقة عرض لبعض أفكاره فيما يخص فقه السلم والسلام(1).

ومن يتصفَّح الكتاب الماثل بين أيدينا، يلحظ أن الإمام الشيرازي تميز عند تأسيسه لنظريته في السلم والسلام، أنه ذهب بها لتشمل مختلف جوانب الحياة، وبمعنى ثانٍ؛ فإن الإمام الشيراز ي لم يُقصِر تنظيره حول فقه السلم والسلام، في المعنى بما يقابل الحرب، وإنما هو معنى واسع متشعب الأطراف، من مصاديقه (اللاعنف)(2) وفي مختلف الميادين السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والعائلية والعسكرية وغيرها(ص30).

* السلام في الإسلام

يؤكد الإمام الشيرازي في تمهيده على أن كلمتي السلم والسلام في الإسلام؛ استعملتا- كتاباً وسنة- في موارد كثيرة، كما أن (السلام) من أسماء الله الحسنى، “لأن الله -عزَّ وجلَّ- خالق السلم والسلام، ويضمن ذلك للناس بما شرعه من مبادئ، وبما رسمه من خطط ومناهج، وبمن بعثهم من أنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام)، وبما أنزله من كتاب، فهو تعالى مصدر السلم والسلام، والخير والفضيلة... وخاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو حامل راية السلم والسلام، لأنه يحمل إلى البشرية الهدى والنور، والخير والرشاد، والرحمة والرأفة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].

وبعد أن يستشهد الإمام الشيرازي ببعض الآيات والروايات في شأن السلم والسلام، يلفت أنظارنا بقوله: وكثرة تكرار لفظ السلام على هذا النحو، مع إحاطته بالجو الديني النفسي، من شأنه أن يوقظ الحواس جميعها، ويوجه الأفكار والأنظار إلى المبدأ السلمي العظيم(ص27). فالصلاة تنتهي بالسلام، كما أن الجنة دار السلام، إذ{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا، إِلاَّ سَلاَمًا}[مريم: 62].

* دعوة الإسلام للسلام والمقارنة بين الديانات والحضارات

يشير الإمام الشيرازي إلى أن الهدف الذي يتوخاه الإسلام ويسعى إليه، هو تهذيب الإنسان، وتمكينه من العيش في الدنيا والآخرة بأمن وسلام، وقد تحقق ذلك فترة حكومة القوانين الإسلامية، التي طبقها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في حين “يتسم -حسب المؤلف- تاريخ الكثير من المبادئ وتعاليمها بالعنف والإرهاب. ولم تستطع تلك المبادئ بل والأديان السابقة من إنجاز هدف الإنسان وتهذيبه وتحقيق الأمن والسلام له، وذلك بسبب التحريف المقصود الذي طرأ على الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل”(ص34).

وللتدليل على كلامه فقد نقل الإمام الشيرازي بعض النصوص المُحرَّفة في الديانتين: اليهودية والمسيحية، أكتفي بواحدٍ من الأولى وآخر من الثانية، يقول الشيرازي فيما نقله عن (الكتاب المقدس): “كان داود يغزو البلاد فلا يبقي على رجل ولا امرأة، ويأخذ الغنم والبقر والحمير والجمال والثياب”. وينقل ما ورد في: (بشارة متى) المتداول بين أيدي المسيحيين بعد أن طرأت عليه التحريفات المقصودة، وفيه: “لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئت لأحمل سلاماً، بل سيفاً...” (ص35-36).

ومقابل هذه النصوص المُتخمة بالعنف، نجد أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يهتف قائلاً: “إن الله بعثني هدى ورحمة للعالمين”(ص26). لذا “لم يعرف عن الإسلام أنه أعلن الحرب في العالم وهو في ذروة دعوته وانتشاره في أزهي عصور سيادته، إلا ما شرعه دفاعاً لدرء الخطر والذود عن النفس والعرض والمال والوطن، عند الاعتداء على أحدها من قبل المولعين بالعدوان من أعداء الإسلام، أو حروب الدفاع عن المستضعفين الذين يرضخون تحت الظلم والعدوان، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}[النساء: 75]... وهذا ما صرح به وبنزاهته حتى بعض علماء الغرب الذين يتحرون الحقيقة ويقولونها”(ص 56-57).

ونختم هذا المحور بذكر خلاصة -لما يطرحه الإمام الشيرازي- للعلاقة التي تربط بين المسلمين وغيرهم من المذاهب والملل في البلاد الإسلامية:

أولاً: عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه، أو إكراهه على عقيدة معينة، يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256].

ثانياً: من حق أهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم: فلا تهدم لهم كنسية، ولا يكسر لهم صليب، وقد ورد عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام): “من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم”، بل من حق زوجة المسلم (اليهودية أو النصرانية) أن تذهب إلى الكنيسة أو إلى المعبد، حالها حال الزوجة المسلمة في ذهابها إلى المسجد.

ثالثاً: ترك لهم الإسلام ما أباحه لهم دينهم من الطعام وغيره، ما دام ذلك جائزاً عندهم، ولم يتظاهروا به في المجتمع الإسلامي.

رابعاً: لهم الحرية في قضايا الزواج والطلاق والنفقة حسب دينهم، ولهم أن يتصرفوا كما يشاؤون فيها، دون أن توضع لهم قيود أو حدود، إلا ما حدده الشرع الإسلامي، مثلاً: إذا حصل تزاوج بين المسلمين وأهل الكتاب.

خامساً: حمى الإسلام كرامتهم، وصان حقوقهم، وجعل لهم الحرية في الجدل والمناقشة في حدود العقل والمنطق، مع التزام الأدب والبعد عن الخشونة والعنف.

سادساً: ساوى بينهم وبين المسلمين في القوانين العامة في البلاد.

سابعاً: حكم الإسلام بطهارة أهل الكتاب، وأحل طعامهم، والتزوج بنسائهم، وجواز التعامل معهم.

ثامناً: يحبذ الإسلام زيارتهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الهدايا لهم، وقضاء حوائجهم، ويسمح بمبادلتهم البيع والشراء ونحو ذلك من المعاملات.

تاسعاً: يحرض الإسلام على السعي لهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن دون أي إكراه.

عاشراً: منحهم الإسلام حرية الحوار والنقاش والمحاجة مع علماء المسلمين.

* السلم والسلام في السياسة والحكم

بعبارة واضحة يقول الإمام الشيرازي: ظاهرة العنف والإرهاب محرمة شرعاً، ومن مصاديقها القتل والغدر والاختطاف والتفجير والتخريب وما أشبه... وعن دلالات مصطلح الإرهاب يقول: وردت مادة (رهب) في القرآن الكريم، وأريد بها ما يكون سبباً للردع عن العنف والإرهاب لا مشجعاً له... فقالت الآية: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال: 60]. “ومعنى {تُرْهِبُونَ} هنا، هو ردع العدو بتلك القوة التي هُيِّئت، كي يمتنع عن اتخاذ أي قرار في المهاجمة، وهذه وقاية لكيلا تقع الحروب ولا تنجر البشرية إلى العنف والإرهاب... ثم إن وسائل استخدام الردع كثيرة، ومن أهمها القوة السياسية والإعلامية والدولية والدبلوماسية...”، ويرى الإمام الشيرازي أن مصطلح الإرهاب، الذي وضع للصد عن التعدي وهدر الحقوق، حُرِّف إلى ما يعني العنف، فكثرة استخدام هذا المصطلح في وسائل الإعلام الغربية، جعله وكأنه من وضع الغرب ومصطلحاته التي وضعها في قاموسه السياسي والعسكري... ويذكر أن هناك بعض الغموض في مصطلح الإرهاب اليوم، فكل يتهم الطرف الآخر بكونه إرهابياً، ويتساءل الإمام الشيرازي قائلاً: هل حركات التحرر من الأجنبي سواء كانت إسلامية أو وطنية أو غيرها تعتبر إرهابية؟ وهل جهاد الشعوب ضد الحكام الطغاة المستبدين أيضاً إرهاب؟... ويقول بمنتهى الصراحة: نعم قد تكون بعض الحركات والرجالات تسير في طريق العنف والإرهاب بالمعنى المصطلح، وهؤلاء لا يمثلون الإسلام وهو بريء منهم، لأنهم خارجون عن سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيرة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وما نزل به القرآن الحكيم...(ص119-123).

وفيما يتعلق بأنواع الإرهاب، فقد تطرق الإمام الشيرازي لثلاثة منها على النحو الآتي:

1- إرهاب الدولة والأفراد.

2- الإرهاب السياسي.

3- الإرهاب الاستعماري.

أما عن العلاج، فقد ذكر الإمام وبشكلٍ مختصر، رأي النظرية الإسلامية في زوال بعض أنواع الإرهاب وإحلال السلام محلها. فمن أجل زوال الإرهاب المدني مثلاً: أشار إلى وصايا إرشادية وأخلاقية، ودعا لإقامة القصاص والحدود من أجل إحلال السلام، مع ملاحظة أن تطبيق العقوبات في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت أقل من القليل!(ص 125-145). وأما مواجهة الإرهاب الاستعماري الاحتلالي، فتكون -حسب المؤلف- في إحدى حالتين:

الأولى: إزالته بالطرق السلمية، ومن أمثلته الحاضرة ما استعمله حزب المؤتمر الهندي من طرق السلم والسلام في مقابل المستعمرين.

والثانية: مواجهة الإرهاب الاستعماري بالقوة... ولا تكون إلا في أقصى حالات الضرورة، على ما هو مذكور في كتاب الجهاد. “أما المواجهة الإرهابية بالاغتيال والغدر والخطف وسائر مصاديق العنف، فهذا مما لا يجوز، ويوجب تشويه سمعة الإسلام والمسلمين والبعد عن الهدف. ومن هنا لا يصح دعم الجماعات الإرهابية بحجة التخلص من إرهاب الدولة أو إرهاب المستعمرين، بل يلزم اتخاذ الطرق السلمية على ما هو مقرر شرعاً”(ص149).

وفي نهاية هذا الفصل، طرح الإمام الشيرازي جملة من المسائل الشرعية في السلم والسلام السياسي، نلمح لبعضها:

- سلم مع المعارضة: يلزم على الحكومة مراعاة السلم مع المعارضة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم دينية، فلا يجوز مصادرة حرياتها من الإعلام والصحف والتجمعات وما أشبه.

- مع الأقليات: يلزم على الحكومة الإسلامية مراعاة قانون السلم والسلام مع الأقليات الدينية الموجودة في البلد.

- جماعات إرهابية: يحرم على الدولة الإسلامية تشجيع جماعات العنف والإرهاب ودعمها.

- تعدد الأحزاب: من مصاديق السلم واللاعنف، فتح المجال أمام الأحزاب الأخرى، أي تعدد الأحزاب، وكذلك الجمعيات والمنظمات.

- مظاهر العنف: يلزم على الحكومة ترك مظاهر العنف حتى في الشعار، كالموت للدولة الكذائية! وما أشبه.

- مع المرتد الفطري والملي: ينبغي مراعاة السلم والسلام مع المرتد الفطري والملي.

وعليه، فلن نتمكن من احتواء حالات التطرف والإرهاب، فضلاً عن استئصالهما؛ إلاّ إذا عملنا على توفير أجواء تنعم فيها مجتمعاتنا بحالات من الديموقراطية الحقيقة، التي تؤمِّن الحريات، وتحتضن مختلف ألوان الطيف، مع توفيرها فرص الحياة الكريمة لجميع أبناء الوطن، ليغدو الجميع سواسية كأسنان المشط، ولن يتأتَّى لنا ذلك إلاّ بعمل جادٍّ، نغربل فيه مناهجنا التعليمية، ووسائل إعلامنا المتعددة، من العفن والشوائب التي علقت بها من كل حدب وصوب، وإلاَّ فأمامنا الطوفان.

ولا يخفى أن الدول -وفي الكثير من الأحيان- هي التي تبدأ بغرس بذور العنف، لذا نراها أول من يتغذى من هذه الثمار، ففي ظل استبدادها بالسلطة، واتباعها لسياسة الإقصاء، وانشغالها بإلغاء الآخر؛ فإنها تهيئ الأجواء لتراكم السحب السوداء المليئة، بما من شأن هذا الفساد أن يهلك الحرث والنسل. وبطبيعة الحال، فإن لم تصغِ الحكومات لمطالب شعوبها المقهورة؛ فإن ولوجها في طريق السلم سيصبح أمراً متعسراً بعيد النوال.

“وعلى هذا -والتعبير للمؤلف- فالغالب أن إرهاب الضعفاء يكون رد فعل على إرهاب الأقوياء، وكثير من الإرهاب هو نتيجة الظلم والطغيان، ومن هنا ينبغي حل مشكلة الإرهاب والعنف حلاً جذرياً، وذلك بتطبيق قوانين الإسلام من الحرية والتعددية والشورى والأخوة وما أشبه”(ص125).

* السلم والسلام في الاقتصاد

رغم أن المواضيع التي تبحث في مجال الاقتصاد واضحة، مثل الأمور المتعلقة بالعمل والإنتاج والتوزيع وغيرها؛ إلا أننا نجد أن الإمام الشيرازي يخصص فصلاً مطولاً ليناقش فيه موضوع: (السلم والسلام الاقتصادي)، ويتساءل في مقدمته: هل هناك تطرف وإرهاب اقتصادي؟.

ويؤكد في مكان آخر، أن الارهاب الاقتصادي يمثله الغرب، والدول الاستعمارية ضد دول العالم، وخصوصاً الإسلامية منها، ومن مصاديقه التي يطرحها المؤلف: التجسس الذي تقوم به الدول الاستعمارية على ثروات الشعوب المسلمة، من أجل نهبها واستغلالها واحتكارها والسيطرة عليها، وعلى معاملاتها التجارية، وذلك من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت وغيره من الوسائل المتطورة.

ومنها: القيام بالأعمال السياسية التي يراد بها الإرهاب الاقتصادي، كحصار الشعوب المستضعفة، والتحكم في ثرواتها، ومنعها من استثمار خيرات بلادها، وكالقضاء على الشركات الكبيرة والمنع من تأسيسها أو استمرارها، وتخريب البنية التحتية للبلاد، والبرمجة الدقيقة لهجرة رأس المال إلى الغرب، وما أشبه ذلك من هذه الأمور.

ومنها: ما عرف بمنظمة التجارة العالمية، وهي مؤسسة وضعت من أجل خدمة الاستعمار الغربي والأمريكي، وذلك لأجل السيطرة على الاقتصاد العالمي وجعله مسيراً من قبل دول محدودة، وهذه الأعمال وغيرها من النهب والسلب واحتكار الثروة -كما يرى الشيرازي- هي التي كانت سبباً في إيجاد أكثر من ألف مليون جائع في عالم اليوم، وموت مليون طفل في كل عام، بسبب عدم العناية الصحية، وكذلك هي السبب في بث الرعب والقلق والخوف في النفوس (ص 161-166).

وفي ظل هذه الأزمة، يتغيا الإمام الشيرازي مقابلة هذا الارهاب والوقوف بوجهه، ولكن ليس بإرهاب اقتصادي مضاد، وإنما عبر مواجهته بالطرق السلمية، وعبر الرجوع إلى القوانين الفطرية، التي وضعها الإسلام في المجال الاقتصادي.

وبتواضع الباحث الجاد يقول المؤلف: ولهذا اصطلح على موضوعات هذا الفصل بهذا العنوان: (السلم والسلام الاقتصادي)، ولعله لم يستخدم -هذا المصطلح- كثيراً، وهو يتحدث عن بعض جوانب النظرية الاقتصادية بالمعنى الأعم في الإسلام، التي تؤدي إلى السلام الاقتصادي(ص 166).

وأما المواضيع التي ناقشها المؤلف في هذا الفصل فهي أربعة:

1- دور التكافل الاجتماعي في تكامل السلام الاقتصادي.

2- ذم التطرف في جمع الأموال والثروة.

3- السلام والعدالة في حقوق الملكية الفردية.

4- نظرة الإسلام الاقتصادية في القضاء على الفقر.

فعندما يدَّعي الإمام الشيرازي -مثلاً- بأن التكافل بين الفرد وأسرته، هو من أسس السلم والسلام في نواة المجتمع، فإنه يبرر ذلك بقوله: “إن المجتمع يتكون من عشرات الأسر ومئاتها وآلافها، وكل أسرة نواة في هذا المجتمع، فإذا صلح حال التكافل الاجتماعي في الأسر، صلح المجتمع، وإذا تدهورت الأسرة اقتصادياً وغيره ولم يصلح حال التكافل بينها تسقط قيمة تلك الأسرة، وبسقوطها تسقط قيمة المجتمع، فإن المجتمع المتكون من الأسر، حاله حال البناء المتكون من الأحجار، فإذا لم توضع الأحجار بالشكل الصحيح، لا يعقل أن يكون البناء صحيحاً”(ص180).

ومن يتسنَ له تصفح الكتاب ستتضح له أهمية معالجة مسألة السلم والسلام الاقتصادي، بالكيفية التي سار عليها المؤلف، بعد أن يطَّلع على الطرح الجميل الذي قدمه الإمام الشيرازي من خلال طرحه المقارن بين قوانين الإسلام والقوانين الغربية والوضعية في الجنبة الاقتصادية. وكذا مزجه الرائع بين الآيات القرآنية والسنة الشريفة، التي تتجلى في السيرة العملية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، واستدلالاته التي بيَّن من خلالها أساليبهم في تحقيق السلم والسلام الاقتصادي.

وقد كشف الإمام الشيرازي في هذا الفصل بصورة تحليلية، عن دور مهم مارسه بعض الصحابة الكرام، الذين وقفوا بثبات لمحاربة كل أشكال الفقر والحرمان، ومختلف ألوان الطبقية، التي ساهمت في تعزيز عملية التوزيع المجحف لثروات الدولة الإسلامية، والتي أراد البعض صرفها لتصب في جيوب بعض القوم، ويُحرم منها آخرون!!.

يقول الإمام الشيرازي: “أما في عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فلم تختلف سيرته عن نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا هو واقع نظرية المساواة والعدالة في الإسلام، فقد قرر المساواة بين أفراد البشر أمام القانون، ولولاها لأنهار السلم والسلام، لأن الإنسان يطلب المساواة مع غيره أمام القانون، فإذا لم يعط ذلك اتخذ أسلوب العنف لتحصيله، فالمساواة هي القاعدة العامة إذا كان العدل قائماً”(ص187).

فالإمام الشيرازي يذُّم التطرف في جمع الأموال والثروة، كما يرى حرمة “أكل أموال الناس بالباطل، فإنه من مصاديق العنف”(ص148)، ولا يجيز “مصادرة أموال أحد فإنه من مصاديق العنف”، ولا يجيز “وضع القوانين التي تمنع أو تحدّ من حريات الناس، كقانون الضرائب على الأعمال وعلى البناء وعلى السفر وعلى حيازة المباحات”، ويرى لزوم “نشر وبيان الأسلوب السلمي الاقتصادي في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)”(ص274).

* السلم والسلام في باب الجهاد

يرى الإمام الشيرازي -وبعبارة مكثفة- أن القاعدة الأولية في الإسلام هي السلم والسلام، والأصل هو اللاعنف، أما القتال والحرب فهي الاستثناء، ولا مسوغ للحرب في نظر الإسلام مهما كانت الظروف، وهو -أي الإسلام- لم يأذن بالحرب إلا دفعاً للعدوان، وحماية للدعوة والمستضعفين، ومنعاً لاضطهادهم، وكفالة لحرية الدين، وهي من الحريات المشروعة لكل إنسان، فالحرب حينئذ تكون فريضة من فرائض الدين، وواجباً من واجباته المقدسة، ويطلق عليها اسم (الجهاد)، مشروطة بشروط كثيرة، والتي منها فتوى شورى المراجع، يقول تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}[النحل: 126](ص 293-294).

فالإسلام -بتعبيره- كما أنه يؤكد على ضرورة السلم والسلام، يرى ضرورة أن يكون المسلم قوياً غير ضعيف، حتى لا يطمع فيه الأعداء، فتحقيق السلام لا بد له من وجود قوة كافية للحفاظ عليه، لأنه لو لم يكن الحق مدعماً بالقوة، لما انتصر على القوى التي تدعم الباطل(ص 254).

ومن نافلة القول، أن الإمام الشيرازي -كما قررنا في دراسة سابقة- عندما يدعو لانتهاج سياسة السلم واللاعنف؛ فإنه في الوقت نفسه يُحذِّر من الوقوع تحت مظلة الخنوع، هذه المظلة التي عملت على تشويه فكرة السلم، وجعلتها قريبة من منطق الاستسلام؛ فالسلم واللاعنف استراتيجية تتخذ من موقع القوة، لا الضعف، كما يتصور البعض؛ فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) -كمثال يحتذى- استخدم أسلوب السلم قبل الهجرة وبعدها.. وجميعنا نردد مقولته الخالدة -عندما فتح مكة- وشعاره المذهل: “اذهبوا فأنتم الطلقاء!!”.

وفي لفتة رائعة يقول: ثم هناك أمر هو من جملة المسائل التي تذكر في التربية الجهادية، بأن يعلم المقاتل أن قتاله الدفاعي، لا بد وأن يكون في سبيل الله -عز وجل- ومن أجل إعلاء كلمته ولتثبيت دعائم دينه وأركانه، وفي هذا تكمن سائر الأسباب المشروعة.

لأن هناك قتالاً يأباه الإسلام، وهو القتال الذي يكون سببه المشاعر القومية والعرقية وما أشبه، أي يقاتل من أجل قوميته أو عشيرته أو أمته، كما قال قائلهم:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت       غويت وإن ترشد غزية أرشـد

(ص 282).

ولكيلا يكون حديثنا عن الجهاد في الإسلام حديثاً نظرياً، أقتبس لكم هذه الصورة التطبيقية من جهاد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما يصورها الإمام الشيرازي لنا، إذ يقول: “والحديث عن قصة الخوارج وكيفية تعامل أمير المؤمنين (عليه السلام) معهم، هو حديث السلم والسلام بأجلى صوره، فرغم خلافهم مع علي (عليه السلام) في صفين لم يقاتلهم في الكوفة، بل قال لهم: لكم ما للمسلمين من الفيء، فأخذ يعطيهم حقوقهم، ويقسم لهم من بيت المال كسائر المسلمين، وفسح لهم المجال في ممارسة شعائرهم الدينية والعقائدية والسياسية بكل حرية، ولكنهم لما ارتكبوا جرائم القتل وشهروا السيف بوجه الناس، قاتلهم في النهروان(ص 293).

فالشواهد على حرص الإسلام على حقن الدماء في هذا المجال كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي، ويكفي أن نعلم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يوصيهم فيقول: “سيروا باسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تغلّوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرة، إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار له حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا بالله”(ص 273).

وفي ظل هذه الظروف الحرجة، التي يُتهم فيها الإسلام بأنه دين العنف والإرهاب، نظل بحاجة لنشر تعاليمه الداعية إلى السلم والسلام، كما أننا بحاجة لتبيين حقيقة مهمة، قد يغفل عنها بعض المسلمين، هذه الحقيقة -كما أتصور- تتجلى في فضح الممارسات القمعية والعنفية التي أُرتُكِبت في فترة من فترات التاريخ الإسلامي باسم الإسلام، وهو بريء منها، براءة الذئب من دم يوسف؛ لئلا نؤخذ بما فعل السفهاء منا!

فهل يعي حملة ألوية الجهاد هذه المعاني، لئلا يغرسوا في ذاكرة الآخر صورة سيئة ومشوهة عن الجهاد في الإسلام، كما هو حاصل الآن، في أكثر من مكان؟.

* السلم والسلام في العلاقات الإنسانية والروحية..
السلام الاجتماعي

في هذا الفصل من الكتاب عالج الإمام الشيرازي ثلاثة محاور على النحو الآتي:

1- البعد الإنساني لمفهوم المساواة في الإسلام، وفيه: المساواة بين الجنس البشري، والمساواة بين الرجل والمرأة في الشرع الإسلامي، ونماذج من قانون المساواة في المجتمع الإسلامي، وموارد الاستثناء في قانون المساواة، كما ناقش بعض الشبهات ورد عليها فيما يرتبط بموضوع المساواة في الإسلام.

2- جملة من مصاديق السلام الاجتماعي، وفيه: التحية في الإسلام، والأخوة الإسلامية، وصلة الرحم، وحسن الصحبة والمعاشرة.

3- خصائص العلاقات الإنسانية في المجتمع الإسلامي، وفيه: صفات العلاقات الإنسانية في الإسلام، وأثر الأخلاق الإسلامية في دعم الروابط الاجتماعية، ومبادئ حقوق الإنسان في الإسلام.

وفيما يرتبط بفكرة المساواة، يؤكد الإمام الشيرازي على أن الإسلام ميز الإنسان على سائر الخلق، ولكن بالنسبة إلى بني آدم فقد جعلهم سواسية، وأنه لا تمييز عند الله إلا بالتقوى، أما التمييز العنصري فهو مرفوض في الإسلام، على عكس ما نراه اليوم وما كان في الجاهلية الأولى(ص 300)، “فالإسلام -بتعبير المؤلف- يدعو إلى السلم والسلام، حتى يكون هناك إخاء حقيقي بين الأبيض والأسود، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والشريف والوضيع، وحتى لا يكون هناك عدوان على الأرض، سواء من طائفة على طائفة، أو جنس على جنس، أو قطر على قطر، أو لون على لون، أو لغة على لغة، أو منطقة على منطقة” (ص 320).

وعندما يتطرق الإمام الشيرازي لـ(جملة من مصاديق السلم والسلام الاجتماعيين)، يلمح إلى أن عملية التعارف بين الإنسان وأخيه الإنسان قد ابتدأت بالتحية وهي أول كلام يحصل في اللقاء، وقد أراد الإسلام أن تكون نقطة الابتداء عنواناً للسلم والسلام، فكانت التحية: (السلام عليكم)... فلما خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق جعلهم أمماً وشعوباً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13]. فالخلق -والكلام للمؤلف- مأمورون بالتعارف فيما بينهم، ومن حكمة تصنيف البشرية إلى هذا التقسيم هو حصول التعارف بينهم وهو أمر غير عسير، فيبتدئ من الخلية الصغيرة وهي الأسرة، ثم ينتقل إلى دائرة أوسع وهي القبيلة، ثم إلى محيط جامع وهو المجتمع وهكذا، وبهذا تسهل عملية التعارف بين الأسر والقبائل والشعوب فيما بينها، ويستدل بالآية على لزوم تعارف الأمم والشعوب والقبائل كي يحصل التعاون والتواصل فيما بينها”(ص 345).

وفي تقسيم رائع لـ(مفهوم الأخوة في القرآن)، يقول الإمام الشيرازي إنه يمكن أن يشتمل ثلاثة أصناف، وهي:

الأول: الأخوة في العقيدة.

الثاني: الأخوة في النسب.

الثالث: الأخوة الإنسانية.

وقصد المؤلف بالثالثة: أي الأخوة العامة، وهو الذي عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر: “أو نظير لك في الخلق”(3)، أي أن الذي تجتمع معه في الإنسانية والخلق يعتبر أخاً لك، وربما يكون من هذا أيضاً، ما جاء في بعض الآيات القرآنية التي سمت الكفار أخوة الأنبياء (عليهم السلام)، والأنبياء أخوة الكفار، كما سمى الله سبحانه النبي هوداً (عليه السلام) أخا قومه عاد: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ}[الأحقاف: 21]، و{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}[الأعراف: 65]، و{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}[الشعراء: 142]... وهذا الإخاء الوارد في هذا الصنف، معناه لزوم العمل بمصاديق الأخوة العامة، فالإنسان أخ لبني نوعه، مهما كان الفرق بينهما في الدين واللغة والعرق واللون والوطن(364-365).

* السلم والسلام الإداري

وفي هذا الفصل، يضع الإمام الشيرازي جملة من المقومات والشروط، التي من شأنها تحقيق السلم والسلام الإداري في كل مصاديقه، بدءاً من إدارة العباد والبلاد (أي الحكومة)، وانتهاء بإدارة مؤسسة صغيرة، أو أسرة لا تتجاوز الزوجين. إذ يرى المؤلف أن الحب والاحترام المتبادل بين المدير والمدار، والمسؤول والمسؤول عليه، وبين الحاكم وشعبه، هو من أسس السلم والسلام الإداري، فينبغي لكل مدير أن يقوم بما يوجب تثبيت هذه المحبة بينه وبين من يرتبط به في إدارته.

ومن المقومات التي يضعها الإمام الشيرازي، النقاط الآتية:

المعاملة الحسنة والحسنى، الاهتمام بالآخرين، التواضع الإداري، القول اللين، إعانة الغير، التبسم للناس، رفع المعنويات، العفو عن الخطيئة، الحزم بعيداً عن العنف، النقد البناء، السؤال عن الفرد ومتاعبه، تفهم المسيء، عدم التدخل في صلاحيات الآخرين، لست على الحق دائماً، ضع نفسك مكانهم، لا تلق بأخطائك على الآخرين، تقسيم الأعمال، مكافأة الأفراد، تقبل النصح، لا تعاقب وأنت غاضب، لا تتبجح، لا للاستبداد، الحياد وعدم الانحياز، الاعتراف بالخطأ.

* مباحث أخرى في الكتاب

ولإيمان الإمام الشيرازي العميق، بلزوم السعي في نشر مفهوم آيات السلم والسلام بين المجتمع وتطبيقها، وكذا الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال، فقد خصص لهما فصلين مستقلين في كتابه. كما خصص فصلاً مطولاً، طرح فيه خمسين مصداقاً من: (مصاديق السلم واللاعنف)، بالمعنى الأعم، ومما جاء فيه: إكرام المرأة، الألفة، الرفق بالحيوان، حسن الجوار، حسن التعامل مع الأقليات، حب الآخرين...إلخ ( ص541-687). وفعل الأمر نفسه فيما يتعلق بفصل: (مصاديق العنف)، إذ تناول فيه خمسين مصداقاً، ومنها: أكل مال اليتيم، إيذاء الجار، الاستبداد، التعذيب، الغلظة والفظاظة، عقوق الوالدين، إيذاء الحيوان، العدوان...إلخ ( ص688-814).

* بمثابة خاتمة

وأختتم هذه الإطلالة السريعة بين صفحات الكتاب، للتأكيد على أن الإمام الشيرازي تجاوز في عمله هذا الكثير من الكتابات السطحية، التي تناولت موضوع السلم بطريقة ساذجة، بعيدة عن التصور القرآني والديني للمسألة.

فالإمام الشيرازي -وكما اتضح لنا- لم ينطلق حين تأسيسه لنظريته في السلم والسلام من الفراغ، بل لم يشأ أن يستنسخ تجارب الآخرين من غير تعقلٍ، إنما أصَّل لأطروحته شرعاً وعقلاً، مستلهماً ذلك من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيرة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين)، إضافةً لقراءاته العميقة للتجارب التاريخية والمعاصرة.

ومما يميز كتابات الإمام الشيرازي في هذا المبحث، ويضفي عليها قيمة معرفية عالية؛ أنه دمجها ضمن مبحث (الفقه).

فالأصل في الإسلام السلم واللاعنف.. وهذا هو الطريق الذي انتهجه الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهي الرؤية التي تبناها الإمام الشيرازي منذ فترة مبكرة، ضمن مشروعه النهضوي والجهادي، وعمل جاهداً من أجل بثها وترسيخها عبر العديد من كتاباته ومحاضراته العامة والخاصة؛ ليؤسس بذلك مدرسة رائدة في السلم والسلام.

 

 

 

الهوامش:

(1) في العدد (34) من مجلة الكلمة، السنة التاسعة، شتاء 2002م/1422هـ، ص146-161، وفقني الله لنشر دراسة بعنوان: (السلم واللاعنف في فكر السيد الشيرازي)، ولا أخفي على القارئ بأنني تجولت في عددٍ من المصادر المتاحة لدي، باحثاً عن خيوط أنسج من خلالها رؤيته حول هذه النظرية، وكنت أتساءل: لماذا لم يكتب السيد كتاباً مخصصاً حولها ويريحنا من عناء البحث؟ لذا كنت في غاية الفرح والسرور عندما سمعت بصدور هذا السفر القيم: (السلم والسلام). 

(2) صدر للإمام الشيرازي بعد رحيله أيضاً، كتابان عن اللاعنف، هما: اللاعنف في الإسلام، ط1، (بيروت: دار العلوم، 1423هـ)، في 207 صفحة، قطع كبير، واللاعنف منهج وسلوك، ط1، (بيروت: مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر، 1423هـ)، في 96 صفحة، قطع وسط.

(3) قال الإمام علي (عليه السلام)، موصياً مالك الأشتر عندما ولاّه مصر: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”.

 


مؤتمر: “هم الدين وإشكالية المنهج”

نحو منهج موحد لفهم الدين

محمد تهامي دكير

“ينبغي الحذر من حمل الخلق على قراءة واحدة للدين، فإن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، عباراتنا شتى وحسنك واحد..”.

الشيخ حسين كوراني

 

هل يمتلك الدين منهجاً خاصاً به؟ وهل اكتشف المسلمون هذا المنهج، أم لايزال البحث مستمراً؟ الاختلاف المنهجي والاختلاف حول الحقائق الدينية يؤكد عدم وجود منهج متفق عليه، هل قدَّم الدين منهجاً خاصاً به لفهم واستنطاق نصوصه؟ أين هو؟ وهل تم تجاهله أو التغاضي عنه؟ وإلى أي حد استطاعت المناهج التي ابتكرها المسلمون في الماضي أن تقدم فهماً متكاملاً للدين؟

هل يواجه الدين اليوم مأزقاً منهجياً؟ وما هي نتائج الاجتهادات المنهجية المعاصرة؟ هل استطاعت أن تقدم شيئاً جديداً ومفيداً، أم أنها عمَّقت التخبط المنهجي الذي تعاني منه الدراسات الدينية؟ وإلى أي حد يمكن الاستفادة من المناهج الوضعية لقراءة النصوص الدينية وفهمها واستنباط الأحكام والقيم منها؟

وهل هناك إمكانية للتأسيس لمنهج موحد لفهم الدين؟ وهل سيمكّن هذا المنهج المنشود من تقليص هوة الاختلاف في فهم الدين؟ أم انه سيُصلِّب الفكر ويجمد الإبداع، ويقود إلى تعصب منهجي واستبداد فكري واحتكار للفهم والوعي من طرف المتبنين لهذا المنهج الموحد؟ ولماذا نحن مسكونون بالوحدة والتوحد حتى على المستوى المعرفي والعلمي، ونسعى لإيجاد منهج موحد لإنتاج المعرفة وتوحيد الفهم الديني؟

هذه الأسئلة وغيرها أجابت عنها وعالجتها وناقشتها الدراسات والبحوث المقدمة في المؤتمر التخصصي الأول الذي نظمه معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية في بيروت بالتعاون مع معهد الدراسات العليا للثقافة والفكر الإسلامي في إيران، تحت عنوان: “إشكالية المنهج وفهم الدين” وذلك بين 1-2 تشرين أول 2004م الموافق 15-16 شعبان 1425، وقد شارك فيه عدد من المفكرين والباحثين من لبنان والعالم العربي وإيران.

* أعمال اليوم الأول

افتتحت أعمال المؤتمر بكلمة مدير معهد المعارف الحكمية الشيخ شفيق جرادة الذي رحب بالضيوف وتحدث عن أهمية البحث في الموضوع الإشكالي الذي سيبحثه المؤتمر والمتعلق بمناهج البحث في الدراسات الدينية وإمكانية إنجاز منهج موحد لفهم الدين، متمنياً على المشاركين إغناء الموضوع بمشاركاتهم ومداخلاتهم..

انطلقت أعمال الجلسة الأولى بورقة الشيخ علي أكبر رشاد (مدير معهد الفكر والثقافة الإسلامية في إيران) تحت عنوان: “مقدمة منطق فهم الدين” في بداية الورقة تساءل الشيخ رشاد: هل فهم الدين ممكن؟ وإذا كان كذلك، فما هو منطق فهم الدين؟ وما هي قواعد فهم الدين؟ وما سبب تنوع المعرفة الدينية وتطورها؟

هذه الأسئلة أجاب عنها القدماء وما هذا التراث المعرفي الديني إلَّا نتاج وأثر لهذه الأجوبة، فقد دعمت الحركة الإصولية والاجتهادية التفكير العقلي وشجعت النقد العلمي فكان من ثمارها:

1- الكشف عن منهج استنباط الأحكام الدينية.

2- رفض الجمود والتقليد ومسايرة الأحكام لمتطلبات كل عصر.

3- التصحيح الدائم للأحكام.

4- العقلانية.

5- نشر المعرفة الدينية وتعميقها.

6- تكامل المعرفة الإسلامية عن طريق كشف المفاهيم المتجددة في المدارك الدينية (أي المصادر).

لكن بالرغم من هذا الثراء الذي كشفت عنه المنهجية الأصولية في دراستها للنصوص والتفقُّه فيها إلا أن البحث الديني -في نظر الشيخ رشاد- لم يبلغ إلى اليوم حدّ الكمال والكفاية في تلبية الضرورات وقضاء الحاجات، من هنا يقول: نحتاج في ميدان منطق الفهم الديني ومعرفة الأسلوب الكاشف عن المنافذ والتعاليم الدينية إلى علم أو فرع علمي يتصف بما يلي:

أ- شامل لأقسام الدين والمعرفة الدينية أي: العقائد، الأخلاق، الأحكام، التربية ومعارف الدين العلمية.

ب- شامل لأطراف ظاهرة الفهم كلها مثل: الشارع، المدرك والمحتوى والمفسر ومنطق الإدراك وأسلوبه.

وبعد أن تعرض لبعض الإشكالات النقدية على علم الأصول، شرع الشيخ رشاد في استعراض هيكل منطق فهم الدين منطلقاً من المبادئ والكليات العامة المتعلقة بتعريف منطق فهم الدين، وموضوعه وغايته وفائدته ومنهجه، حيث عرف منطق الدين بأنه: “علم الكشف والاهتداء الجامع”. ثم شرع في الحديث بشكل مفصل عن هذا المنطق وآلياته والإشكالات المعرفية التي ترد عليه. ليخلص إلى أن فهم الدين يجب أن يكون ممنهجاً، وهذا المنهج يجب أن يكون جامعاً شاملاً ومراعياً لمجموعة من العناصر الضرورية هي: فهم الدين ومصدره الله سبحانه وتعالى وهو العلي الحكيم، خصوصية الدين الذي يجمع بين الدنيا والآخرة، خصائص المخاطب بالدين أي المكلف، الاهتمام بالمصادر والمدارك التي نرجع إليها لفهم الدين، وأخيراً القواعد العامة للإدراك وتجنب السقوط في المغالطات..

كما تعرضت الورقة وتلخيصها الذي قدمه إلى عدد من الإشكاليات كانت محل جدل ونقد بعد انتهاء كلمته وتعقيب الشيخ حسن بدران عليه وانطلاق المداخلات، فقد تساءل د. حسن حنفي عن منهج تفسير القرآن بالقرآن وهل يلغي دور العقل؟ كما انتقد عدم الإشارة إلى الحس والمعرفة التاريخية باعتبارهما من مصادر المعرفة، وقد رد الشيخ رشاد بأن الدين يأتي من عالم آخر خارج الحس، لذلك فالحس ليس مصدراً للمعرفة الدينية لكن يمكن الاستفادة منه لمعرفة صحة بعض القضايا المشار إليها في الدين، مثل تشخيص مواضيع الأحكام. أما التاريخ فإن القرآن أكد عليه لكن ليس كمصدر ولكن أشار لبعض وقائعه للعبرة. كما أن تفسير القرآن بالقرآن لا يلغي دور العقل لأننا نفهم القرآن بالعقل، كذلك كانت مداخلات أخرى للشيخ حسين كوراني عن الحس وكونه مصدراً للمعرفة، وتحدث الأب مشير عون عن مفهوم الدين وقضية التكليف، وهل يحول التكليف الدين إلى إيديولوجيا أم أن هناك قضايا خارج قدرة الإنسان؟؟

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها الباحث المغربي الأستاذ إدريس هاني تحت عنوان: “الظاهرة الدينية وإشكالية تعدد المناهج: من الإسلاميات الكلاسيكية إلى الإسلاميات التطبيقية”، في البداية أشار الباحث إلى أهمية مسألة المنهج في دراسة الظاهرة الدينية، مؤكداً أن إشكالية تعدد المناهج التي سيناقشها من خلال نموذج الإسلاميات التطبيقية -كما هي عند الدكتور محمد أركون- تطرح مشكلتين، الأولى أن القول بتعدد منهجي لفهم الدين يثير إشكالية نسبية الوسيلة إلى معرفة الدين، ما قد يؤدي -حسب قوله- إلى التعدي بالنسبي إلى صميم البنية الاعتقادية القائمة على أساس اليقين، ثانياً أن القول بتعدد القراءات يرج قاعدة الإلزام، وهذا من شأنه الإيقاع في إشكالية تساوي الأدلة، وبالتالي الدخول في ضرب من العمائية الدينية..

ثم انتقل بعد ذلك لمعالجة مقاربة المفكر الجزائري محمد أركون (الإسلاميات التطبيقية) لكونها قد اختارت استراتيجية تعدد المناهج، في محاول منه لفتح آفاق السؤال حول طبيعتها والإشارة إلى المأزق المنهجي الذي وقعت فيه.

بعد الإشارة إلى جذور هذه المقاربة الأركونية التي اعتبرها الباحث مقايسة على الأنثروبولوجيا التطبيقية لروجر باستيد الرافض للنمط الديكارتي -هذا النمط الذي حكم الإسلاميات الكلاسيكية- أكد الباحث أن: الإسلاميات التطبيقية جاءت للإجابة على جملة من الشروط التي يفرضها الوضع العلمي إزاء مجال لم يدرس بالصورة المطلوبة، تلك الشروط التي لم تتوفر ولم تتحقق في الإسلاميات الكلاسيكية، حيث سيطر على الاستشراق الكلاسيكي مذهبان لا يكفيان لإنجاز الدراسة الشمولية في نظر أركون، وهما التاريخانية والفيلولوجيا... لذلك انخرط أركون -كما يرى الباحث- في حقل الإسلاميات التطبيقية من أجل الوصول بها إلى قلب الفكر المعاصر وإلحاقها بمجمل الإنجازات التي حققتها اللأنثروبولوجيا الدينية.. في محاولة استدراكية قصوى منه، لإخضاع الإسلام إلى نوع من التأويلية المعاصرة، والمقاربة متعددة المناهج، كتلك التي خضعت لها الديانتان اليهودية والمسيحية في الغرب... بالإضافة إلى بلوغ اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي..

وبعد أن استعرض الأهمالات التي طبعت الأسلاميات الكلاسيكية والتي انطلق منها أركون لتبرير مشروعية الأسلاميات التطبيقية، وجملة التناقضات الحادة التي تعكس -يقول الباحث- تعددية المنظورات المنهاجية التي جعل منها أركون مداخل أساسية لفهم التراثات العربية الإسلامية وتحريرها من هيمنة التراث الواحد، أكد الباحث هاني أن أركون في مشروعه يبدو وكأنه بصدد وصل الفكر الإسلامي بلحظة القلق المعرفي الذي شهدته المرحلة الموسومة بالإبداع.

وأخيراً خلص الباحث إلى أن المغامرة الأركونية استطاعت أن تقدم أفكاراً لافتة ومقايسات مثيرة، لكن الأسئلة التي تظل في نظره مطروحة وتحتاج إلى إجابات: هل كانت أفكار أركون لافتة لأنها غير مألوفة ومتجرئة على اللامفكر فيه، أم لأنها قدمت قراءة للتراث من خلال تطبيق المناهج الاجتماعية عليه؟ وإلى أي حد استطاع أركون تحقيق حلمه الكبير في مشروع الإسلاميات التطبيقية؟ وأي آفاق يسمح بها هذا المشروع لتحقيق حد أدنى من الإبداع في مجال المناهج والمفاهيم؟ وما مدى جدية المطلب الأركوني في دعوته إلى تعددية المناهج في مقاربة التراث العربي الإسلامي؟ وهل وفِّق في تطبيق تلك المناهج في حقل الإسلاميات؟ وغيرها من الأسئلة التي ختم بها الباحث ورقته..

لقد أثارت هذه الورقة كسابقتها مجموعة من الردود انطلقت مع تعقيب د. حسين رحال الذي إشار إلى مجموعة من القضايا ذات العلاقة بالمشروع الأركوني مما أغنى وأثرى البحث حول الموضوع، ثم تعاقبت المداخلات من طرف المشاركين، فالأستاذ علي أبو الخير تساءل: لماذا لم يشر الباحث في العنوان إلى الدكتور محمد أركون ما دام البحث يتناول تجربته المنهجية، كما تمنى د. حسن حنفي لو كان د. أركون موجوداً ليستمع لما ورد في هذه الورقة ويبدي رأيه فيها، كذلك تحدث كل من د. علي فياض ود. أحد قراملكي، وقد كانت لدينا مداخلة صغناها على شكل تساؤل نعيد طرحه هنا مرة أخرى، لقد أكد الباحث أن أركون قام بعملية فصل ووصل في محاولة منه لوصل الفكر الإسلامي بما أسماه لحظة القلق المعرفي المعاصر، لكن لم يكشف أو يشير إلى أي حد استطاع أن يحقق هذا الهدف، بالإضافة إلى عدم الإشارة إلى هذا الوصل نفسه وأين تجسد وما هي مظاهره أو بعض تطبيقاته؟؟

الورق الثالثة في هذه الجلسة كانت للدكتور خنجر حمية تحت عنوان: “التأويل المعرفي الوجودي للعبادة: منهج ونموذج تطبيقي” أشار فيها في البداية إلى الفرق بين نظر كل من الفقيه والعارف للعبادات الإسلامية، ففي الوقت الذي يهتم فيه الفقيه بالدلالات الظاهرية واللغوية للأحكام الإلهية، والاعتناء بوقوعها من طرف المكلف على وجه الصحة بالتزام شروطها الشرعية المنصوص عليها، فإن العارف لا تغريه كثيراً العبارة ودلالتها الظاهرة -وإن كان يلتزم بها باعتبارها رموزاً لها دلالتها الباطنية- وإنما يهمه النفاذ إلى باطن هذه الأحكام والعبادات للكشف عما يحتجب وراءها من أسرار ومعانٍ وآفاق روحية، لأن الذي يعني العارف من العبادة كما يقول الباحث: هو هذا الجانب بالدرجة الأولى، وهو كما يتعامل مع النص كجملة رموز وإشارات تكشف عن معانٍ تختفي وراء حجاب اللفظ، فإنه يتعامل كذلك مع العبادة في شكلها وصورتها كجملة رموز وإشارات تختفي وراءها..

والعبادة بهذا المعنى لا تقود إلى مجرد الامتثال والطاعة كغاية وحيدة وأخيرة ونهائية، وإنما إلى ما هو أتم وأكمل وأرفع وأعلى، أعني إلى بلوغ تطهر داخلي نفسي، وتجرد أخلاقي وترقٍ في مدارج الكمال.. وبالتالي فالعارف لا يهمل الجانب الشكلي للعبادة ولا يتساهل في الممارسة الطقسية للعبادة..

غاية الأمر أن ما يقصده منها شيء يقع وراء الجانب الشكلي الطقسي، وأن ما يبغيه ويهدف إليه ليس من سنخ الحركة المادية الحسية وجنسها، إنه شيء وراء ذلك كله، لكنه لا يبلغ ذلك ولا ينتهي إليه ولا ينجزه إلا بطقس شعائري، وبحركة وأوضاع تكون آلة وطريقاً ووسيلة تقوده إلى مقصوده.. والخلاصة: فالتعليل العرفاني لتشريع العبادة -يقول الباحث- يستند في جوهره إلى فهم للنبوة يفترضها آلية خلاص للنفوس، ووسيلة إصلاح للأرواح والقلوب، ومدخلاً إلى تنوير الباطن بحقائق عالم الألوهية وأسرار عالمي الملكوت والجبروت..

ثم قدم الباحث تأويل الزكاة كنموذج للتأويل المعرفي الوجودي للعبادة، فبناء على المنهج العرفاني، فإن فريضة الزكاة تتجاوز الالتزام بشروطها وهيئتها كما هي مطلوبة من المكلف وكما ذكرها الفقهاء، إذ الزكاة لدى العرفاء -بعد القيام بما يقتضيه الشرع ويوجبه من الأوضاع والشروط- تطهير الباطن من رذيلة البخل وتنزيه النفس عن قذارة الشح الذي أشار إليه القرآن وإلى ضرورة التنزه عنه بقوله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1). ليتحقق بذلك للعارف ما لا يحصى من الأوصاف الحميدة والخصال، وليزول عنه ما يقابلها من الأوصاف الرديئة.. وهكذا زكاة الأعضاء، فلكل عضو من أعضاء الإنسان زكاته الخاصة به التي تنزهه عن الفعل القبيح وتزكيه، وبالتالي تدفع الإنسان باتجاه الكمال الروحي والمعنوي..

أثارت هذه الورقة الكثير من الردود، فبالإضافة إلى تعقيب الشيخ محمد شقير، كانت هناك عدة مداخلات لكل من الشيخ أكبر رشاد والأستاذ إدريس هاني ود. حسين رحال، والسيد خضر الموسوي ود. مشير عون.. وقد تركزت جميعها على إشكالية المنهج في العرفان، وهل يرفض الدلالة اللغوية الظاهرية، وكذلك الحكمة من وجود الإشارات والرموز..

انطلقت أعمال الجلسة المسائية بورقة د. حسن حنفي (أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية) تحت عنوان: “هل هناك منهج موحد لفهم الدين؟” مجيباً بالنفي ففي نظره لا يوجد منهج موحد لفهم الدين ولا ينبغي أن يوجد، أولاً لأن الدين -في نظره- ظاهرة اجتماعية متعددة الجوانب، (النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والقانونية واللغوية والتاريخية) وهذا التعدد يفرض تعدداً منهجياً لدراستها وهذا التعدد المناهجي هو الطريق لتكامل المعرفة والدراسات الدينية..

أما بخصوص عيوب المنهج الموحد في فهم الدين، فقد ذكر د. حنفي سبعة عيوب هي:

1- المنهج الموحد لفهم الدين هو تبرير لوجود السلطة الدينية التي تحتكر التفسير والفهم.

2- نظراً لتداخل السلطتين الدينية والسياسية فإن من مصالح السلطة السياسية أيضاً فرض فهم موحد للدين لمنع المعارضة السياسية.

3- سلطة التراث الذي تكلس وخرج من المجتمع والتاريخ والزمان والمكان إلى مطلق خارج التاريخ، وقد أصبح صالحاً لكل مجتمع في كل زمان ومكان.

4- تحول التراث القديم كمصدر سلطة إلى تقاليد وممارسات شعبية وأمثال عامية تحدد للناس تصوراتهم للعالم وتعطيهم قيمهم للسلوك واختلطت قيم الدين مع قيم التراث والعادات..

5- فهم العقائد بطريقة واحدة..

6- فهم النص الديني بمنهج نصي حرفي بدعوى المحافظة على معنى النص..

7- المنهج الموحد في فهم الدين يبعث -في نظر د.حنفي- على الخوف، ويعطي الإحساس بالدونية وبأن الإنسان العادي غير قادر على فهم الدين إلا باستشارة أهل الفتوى وأهل العلم.

هذا من حيث العيوب، أما لماذا لا يوجد منهج موحد لفهم الدين؟ فقد ذكر د.حنفي مجموعة من الأسباب تنطلق من قناعته بأن الدين ظاهرة متطورة، واختلاف العصور والأزمان واللغات والعقول ودرجات الفهم بين بني البشر، وكذلك اختلاف الميول والأهواء والمصالح الطبقية. لكن نفي وجود منهج موحد لفهم الدين لا يعني أنه لا توجد ثوابت يتم الفهم طبقاً لها، وإلا تم الوقوع في النسبية والشك واللاإرادية، بل والعدمية المطلقة...

من هذه الثوابت: روح العقيدة وروح الشريعة ومقاصدها وقيم حقوق الإنسان، وتحديات كل عصر ومتطلباته.

عقب على هذه الورقة د.حبيب فياض، ثم انطلقت المداخلات التي شارك فيها كل من الشيخ علي أكبر رشاد والشيخ شفيق جرادة، والأب مشير عون وتركزت المناقشة على مفهوم كون الدين ظاهرة اجتماعية متطورة، كما نوقشت بعض الآراء والأفكار الواردة في الورقة بخصوص التخوف من منهج موحد لفهم الدين..

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها د. أديب صعب (لبنان) تحت عنوان: “نحو منهج موحد لفهم الدين” يرى الباحث أن لكل من المسيحية والإسلام نموذجهما التقليدي لفهم الدين، يمكن اعتبار كل منهما نموذجاً لمنهج موحد من أجل فهم الدين، يطلق على النموذج الأول (المنهج الإلغائي) وعلى النموذج الثاني (المنهج التكاملي) أو (المنهج الإلغائي التكاملي). ومبرر التسميتين -في نظره- واضح جداً، وهو أن المسيحية لا تعترف بما عداها إطلاقاً، فيما يقتصر عدم الاعتراف الإسلامي على الأديان غير السماوية، وإن عد الإسلام نفسه أكمل الأديان السماوية..

أما المنهج الموحد المنشود لفهم الدين فيجب في نظر الباحث أن يطبق على كل الأديان من غير أن يقضي على المفهوم الديني المحوري، وهو مفهوم الألوهية، باسم نظرة أخلاقية أو اجتماعية أو سواها، ومن غير أن يُخضع ديناً لدين آخر، كما يجيب على أسئلة أساسية تتعلق بالدين مثل: ما هو الدين؟ لماذا الدين؟ ما الفرق بين لغة الدين ولغة العلم؟

هذا المنهج الذي يقترحه الباحث هو منهج وصفي موضوعي، ينتمي إلى الدراسات الدينية الموضوعية، ومنها فلسفة الدين... لأن هدفه دراسة الدين وإلقاء الضوء على جوانبه المختلفة..

أثارت هذه الورقة بدورها الكثير من الردود بعد التعقيب الذي قدمه الأستاذ حسن عجمي، فقد تساءل د. حبيب فياض عن المنهج المتبع في الدراسة، كما داخل د. حسن حنفي، واتجهت المداخلات لمناقشة فكرة وحدة الأديان وعلاقة التثليث في المسيحية بالتوحيد، وعناصر التلاقي بين الأديان.....

الورقة الأخيرة في هذه الجلسة قدمها الباحث أبو القاسم علي دوست (إيران) بعنوان: “أمهات المناهج التقليدية في مجال الدراسات الدينية” تحدث فيها عن أهمية المنهج في إنتاج المعرفة، ثم استعرض المناهج القديمة المطروحة خارج دائرة الدين، ومناهج المعرفة المعتمدة من قبل علماء الإسلام، وأسباب الاختلاف بينها أهمها اختلاف الترتيب بين مصادر المعرفة وكيفية التعامل معها..

أما بخصوص الوصول إلى منهج فقهي واحد علمي ومتقن فقد طالب الباحث بضرورة مراعاة مجموعة من الأمور منها: الاهتمام بالعقل وتحديد دائرة الاستفادة منه، تحليل الأعراف والعادات لمعرفة ما كان منها ناشئاً من العقل للأخذ به، الاهتمام الخاص بمقاصد الشريعة الكلية..

وقد عقّب على هذه الورقة كل من الشيخ أكرم بركات والأب سميح عون ود. حسن حنفي، الذي تساءل عن عدم إشارة الورقة للمناهج التجديدية واكتفى بعرض المناهج القديمة فقط...

* أعمال اليوم الثاني

في الجلسة الأولى من أعمال اليوم الثاني، تحدث في البداية د. علي فياض (لبنان) عن: “مدخل منهجي إلى دراسة الأطر النظرية للسوسيولوجيا الإسلامية” فإشار في البداية إلى الفقر النظري الذي يميز الإنتاج السوسيولوجي العربي، أما الإشكالية المهمة التي تؤرق كل متعاطٍ لعلم الاجتماع فهي الكم الهائل من المناهج، وكيف ينتج المفكر الإسلامي منهجاً عقلانياً - دينياً في العلاقة مع الواقع، أصيل من الناحية النظرية وقادر في الآن نفسه على أن يشكل إطاراً للنهوض الاجتماعي من الناحية العلمية؟

للإجابة عن هذا السؤال تحدث الباحث مطولاً وبشكل نقدي عن الإطار السوسيولوجي لعلاقة الفكر بالواقع داخل الاتجاهات المنهجية الغربية، لينتقل بعدها للكشف عن العقلانية الدينية على قاعدة التفكير السنني من خلال آراء كل من مطهري والشهيد الصدر، ليخلص إلى التأكيد على مجموعة من المفاهيم التي تشكل أدوات نظرية، تساعد على تحليل أكثر عمقاً للأفكار والظواهر، وهي في حال دمجها وتوليفها تشكل إطاراً منهجياً أطلق عليه الباحث اسم: التعددية المنهجية أو المنهج التكاملي.. وهذا المنهج سيساعد في نظره على تجنب المأزق المعرفي المزدوج، بين التعالي بالأفكار على قاعدة عزلها عن الواقع وتحويلها إلى دوغما سكونية.. وبين إنزال هذا الفكر وإحالته إلى مجرد نتاج مطلق للبنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. كما أن الاستناد إلى التعددية المنهجية، يجعلنا -يقول الباحث- أكثر انسجاماً مع النزعة السائدة في مناهج السوسيولوجيا المعاصرة، كما يضفي على هذا المنهج طابعاً حداثوياً...

الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للشيخ حسين كوراني (لبنان) تحت عنوان: “الدين، العلم، المنهج، إشكالية المصطلح” الذي تساءل: هل يواجه الدين مأزقاً منهجياً؟ ومدى التقابل بين الدين والعلم؟ وإشكالية التعدد والوحدة في المنهج؟ حيث أكد في معرض إجابته عن هذه الأسئلة على أن الجذور النظرية لمشكلة المنهج تنحصر في دائرة نظرية المعرفة ومصادر تكوينها والتي ترجع جميع الآراء فيها إلى رأيين مركزيين:

الأول يقول بمرجعية العقل والثاني يقول بمرجعية الحس والتجربة، وبعد مناقشة الرأيين معاً خلص إلى تأكيد حقيقة أن الدين لا يواجه مأزقاً منهجياً، أو انسداد باب العلم به.. كما أن الإسلام ليس نقيضاً للعلم، وبما أن المنهجية العلمية السليمة تقتضي مقاربة كل وحدة موضوعية داخل كل حقل معرفي بالمنهج المناسب لها، فمن البدهي -يقول الباحث- أن تكون مقاربة كل موضوع في الدين الواحد وفق الأدوات والوسائل المنهجية المناسبة.. وفي الأخير حذّر من حمل الخَلْق على قراءة واحدة للدين الواحد، لأن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، عباراتنا شتى وحسنك واحد..

وقد عقب على هذه الورقة الشيخ علي خازم، ثم توالت المداخلات من طرف كل من الأستاذ إدريس هاني ود. حسن حنفي، ود. محمد الحبش ود. أحد قراملكي والأب سميح رعد والسيد خضر الموسوي ود. علي فياض والأستاذ محمد دكير..

الورقة الثالثة في هذه الجلسة قدمها د. محمد الحبش (سورية) بعنوان: “نحو فهم موحد للدين” رأى فيها أن الحديث عن فهم مشترك للدين لا يمكن إلا بعد تقرير الوجه المناسب لفهم الإسلام فهماً تنويرياً تجديدياً. أما تحقيق مشروع فهم موحد للدين فهو في نظره يتطلب جهوزية في عدد من القضايا أجملها في أربعة قضايا هي:

1- اعتماد المقاصد الكبرى.

2- إقرار قاعدة الثوابت على أساس أنه ما لم يخالف فيه إمام محترم.

3- ترسيخ منطق إعذار المخالف.

4- تقرير الأسباب العملية لاختلاف الفقهاء وحكمة هذا الاختلاف.

وقد تحدث بالتفصيل عن هذه القضايا. ثم بعد ذلك انطلقت المداخلات على الورقة.

وأخيراً قدم السيد حسين مير معزي (إيران) ورقة بعنوان: “منهج استكشاف هوية الاقتصاد الإسلامي” تحدث فيها عن ماهية الاقتصاد الإسلامي، وكيفية الكشف عن المذهب الاقتصادي الإسلامي من خلال النصوص الدينية...

الجلسة المسائية انطلقت بورقة للدكتور خليل أحمد خليل (أستاذ بالجامعة اللبنانية) بعنوان: “طرائقية علم الاجتماع المعاصر” قرأها نيابة عنه الشيخ شفيق جرادة، في ورقته يرى د. خليل أن في المجال الطرائقي، علم المنهجيات والتقنيات، فإن مرجعيات الباحث الاجتماعي هي التي تحدد توجهه النظري والمنهجي، وتجعله يتحرى دوره العلمي استناداً إلى موقعه المرجعي، لكنه يواجه عقبة معرفية كأداء في مجاله المدروس، عنوانها: الاعتقاد في بعض المجتمعات الدينية.. وبعد تأكيده على أن طرائقية العلوم الاجتماعية تضع الباحث أمام تحري الدقة البيانية والوثوقية أو الصدقية البحثية، انتقد بشدة الوضع المتخلف للبحث العلمي في العالم العربي.. كما تساءل: إذا كان الفرنسي لا تكفيه فرنسيته فيلجأ إلى الإنجليزية حتى في حقل بحثه الخاص، فكيف لنا في العالم الإسلامي أن لغاتنا وخصوصاً لغتنا العربية تكفينا وتعفينا من التثاقف العلمي مع الأمم والمجتمعات التي تفوقنا بتقدمها العلمي.. إنها المساءلة السوسيولوجية التي تؤسس لطرائقية لا تقف عند عتبة (مقدسة) لعلم اجتماع ديني.. وقد عقب على هذه الورقة الشيخ محمد زراقط..

الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للأستاذ علي أبو الخير (مدير مركز الفارابي للإعلام - القاهرة) تحت عنوان: “نحو منهج موحد لفهم الدين: من فقه الاختلاف إلى فكر الائتلاف”، تحدث فيها عن أهمية وضرورة الفهم الموحد للدين من خلال ثلاثة محاور، المحور الأول عرض فيه مقاربة لأمهات المناهج التقليدية والمعاصرة لفهم الدين، المحور الثاني، تحدث فيه عن مقارنة ونقد الفكر الديني بين المناهج الوضعية والمناهج الدينية.

ثم قدم في المحور الثالث محاولة تأسيس منهج موحد لفهم الدين، تحدث فيها عن بعض الحقائق مثل العودة إلى سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعدم الاختلاف على التوحيد الخالص كما عرضته الآيات القرآنية، وإعادة النظر في مسألة الخلافة أو الإمامة التي شكلت أهم عنصر خلافي بين المسلمين امتدت آثاره وتداعياته إلى مجالات علمية أخرى... كما أشار إلى بعض الأحداث التي ساهمت بشكل كبير في التقريب بين المسلمين في العصر الحاضر..

وقد عقب على هذه الورقة الدكتور طلال عتريسي، كما قدم الأستاذ إدريس هاني مداخلة أشار فيها إلى بعض ما تناولته الورقة من آراء ومقترحات.

المشاركة الأخيرة كانت للدكتور الإيراني أحد قراملكي الذي لم يلتزم بقراءة ورقته التي كانت بعنوان: “المنهج المعرفي في دراسة الكلام الجديد عند الأستاذ مطهري” واكتفى بتلخيص حديثه عن المنهج الذي يقترحه والذي بإمكانه حل أزمة المنهج، وقد أسماه بالمنهج البيتخصصي أو عبر مناهجي، مستفيداً من محاولة الفيلسوف الإيراني ملا صدرا الذي حاول الجمع بين مناهح المتكلمين والعرفاء والفلاسفة في كتابه (الحكمة المتعالية). وقد أثارت كلمته الكثير من الردود بعد تعقيب الدكتور علي فياض، حيث تساءل د. حنفي لماذا اختار الباحث ما بعد الحداثة ليطرح في زمنها منهجه البيتخصصي، كما تساءل د. حسين رحال عن تطبيق هذا المنهج وهل جرى تطبيقه في أي محاولة، أما الأستاذ محمود حيدر والأستاذ إدريس هاني فقد كانت مداخلاتهما عن مفهوم ما بعد الحداثة ومساربها ومآزقها...

* مقترحات وتوصيات

بعد انتهاء فعاليات المؤتمر اتفق المشاركون على ضرورة متابعة البحث والنقاش حول موضوعة العلاقة بين المنهج والدين في مناسبات أخرى، وخاصة ضمن المحاور التالية:

1- العمل على إيجاد إطار واسع يشمل كل الرؤى المختلفة والتي دار حولها النقاش بحيث تشتمل على الثوابت في الفهم المنهجي للدين، والتي هي محط التقاء كافة المسلمين.

2- العمل من قبل القائلين بالمنهج الموحد لفهم الدين على إبراز ماهية هذا المنهج وخصوصياته ومقوماته مع تناول نماذج تطبيقية لميادين عمله ونتائجه.

3- دراسة مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية على ضوء إشكالية العلاقة بين المنهج وفهم الدين.

4- العمل على توسيع دائرة الاهتمام بإشكالية (المنهج وفهم الدين) في أوساط أكبر قدر ممكن من المحافل العلمية والتخصصية بهدف مراكمة النتاجات المعرفية في هذا المجال على نحو يساهم في إنضاج وبلورة هذه الاشكالية.

5- العمل على دراسة وتقييم مقولة منطق فهم الدين وتفعيل معطياته ومكوناتها في خدمة طرائق الفهم والتفكير المنتجة للمعرفة الدينية.

6- العمل على دراسة العلاقة بين المنهج والمعرفة الدينية، والنظر فيما إذا كانت العلاقة بينهما علاقة تكامل أم هي علاقة تفاعل جدلي...

7- النظر في مدى مقدرة المنهج على بلورة استراتيجية إسلامية موحدة ناتجة عن حوار إسلامي داخلي وتشكل أرضية مشتركة للدخول في حوار مع الآخر خارج الدائرة الإسلامية...

 

الهوامش:

(1) سورة الحشر، الآية 9.

 


فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي

- ولاية الفقيه نموذجاً -

الشيخ محمد علي شقير*

- فلسفة الدولة في الفكر السياسي

  الشيعي - ولاية الفقيه نموذجاً

- رسالة دكتوراه

-  إعداد الباحث: الشيخ محمد علي شقير

- تحت إشراف: د. رضوان السيد

- الموسم الجامعي: 2004-2005م

- الجامعـــة اللبنـانيــة - كليــــة
  الآداب والعـلـــوم الإنســانيــة

 

إنّ لبحث فلسفة الدولة في الفكر السياسي الشيعي أهميّته الخاصّة، لأنّه يعنى ببيان حقيقة الدولة وأهدافها ووظائفها بحسب رؤية المدرسة الفكريّة لأهل البيت.

ويزيد البحثَ أهميّةً، أنّ الدولة ـ والفعل السياسي عامّة ـ تدخل ضمن دائرة التشريع الديني والمعرفة الدينيّة، والتي تذهب ـ في النطاق الإسلامي الشيعي ـ إلى كون تلك الدولة في عصر الغيبة الكبرى (أي غيبة الإمام المهديّ)، معنيّة بجملة من الوظائف المتعلّقة بالإمام المعصوم، أي أنّ دولة الوليّ الفقيه تشكّل نوع امتداد لدولة الوليّ المعصوم.

كما أنّ دولة المعصوم قد أخذت مكانها في التاريخ الإسلامي سواءً من قبل الرسول الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو من قبل الإمام عليّ، ولاشكّ أنّها ـ أي دولة المعصوم في جنبتها التاريخيّة ـ تشكّل حقلاً خصباً لفهم الدولة في الإسلام.

إنّ دولة الوليّ الفقيه ليست مفصولة في مبانيها عن دولة الوليّ الإمام، وهي بدورها ليست مفصولة عن دولة الولي الرسول، وهذه الدولة أيضاً ليست مفصولة عن منتوج الوحي ومعطياته، وهذا المنتوج بدوره ليس مفصولاً عن الأُسس المعرفيّة، وأيضاً عن الأُسس الكلاميّة، التي تبدأ من وجود الخالق إلى غايات الخلق إلى فلسفة النبوّة، ولا بدّ أن نصل في نهاية المطاف إلى البحث في فلسفة الإمامة ووظائف الإمام.

إنّ جميع ما تقدّم يجعل من الأهميّة بمكان، أن نبحث حقيقة الدولة وفلسفتها، ومبانيها الكلاميّة وأُسسها الفكريّة، وجميع الموضوعات التي ترتبط ببيان حقيقتها وطبيعتها الوجوديّة.

إنّ فلسفة الدولة تتمحور بشكل أساسي، حول أدائها لتلك الوظيفة المناطة بالاجتماع السياسي، على مستوى قيادة الاجتماع البشري إلى أهدافه الواقعيّة ومصالحه الحقيقيّة، لما للدولة من تأثير كبير في حركة ذلك الاجتماع وتوجّهاته.

ولا يخفى ذلك الارتباط الجذري والعميق، ما بين فلسفة الدولة وجنبتها الوظائفيّة، إذ إنّ حقيقة الدولة أكثر ما تظهر في قائمة الوظائف التي تتصدّى لها وتتولّاها، وفي أولويّاتها الوظيفيّة، وفي طبيعة اهتماماتها وأدائها على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.. وفي الغايات الوجوديّة التي ترى ضرورة العمل على إيصال الإنسان إليها، وأهميّة السعي في توظيف إمكانيّاتها وطاقاتها لإيجاد البيئة المناسبة لبلوغ الإنسان كمالاته وأهدافه؛ ومن هنا فقد عقدنا ذلك التجسير الجذري، ما بين فلسفة الدولة من جهة وجنبتها الوظيفيّة من جهة أخرى.

أمّا فيما يتعلّق بتلك الغايات والأهداف، التي هي أساس وظائفيّة الدولة، فهي ترتبط ارتباطاً جوهريّاً بفكرة محوريّة الإنسان، من حيث علاقته بالله تعالى، إذ إنّ أيّ تحديد لتلك الغايات والأهداف ـ التي أشرنا إليها ـ لا يرتكز على أساس محوريّة الإنسان، ومحوريّة مصالحه الحقيقيّة، هو تحديد قد ضلّ فلسفة الوجود الإنساني، كما أنّ أيّ بناء على محوريّة الإنسان بشكل مجرّد عن علاقته بالله تعالى، هو بناء لن يصل بالإنسان إلى مصالحه الحقيقيّة وسعادته الأبديّة.

وبالعودة منّا إلى فلسفة الخلق ومبرّرات الوجود (وجود الكون)، سنجد أنّ هذه الفلسفة ترتبط ارتباطاً جوهريّاً بالإنسان، كما أنّ خلق هذا الكون قد كان من أجل الإنسان، وبالتالي فإنّ جميع الوجودات الكونيّة لابدّ أن ترتبط فلسفتها بالإنسانيّة، وحتّى تلك المظاهر الاجتماعية والسياسيّة فإنّها ليست بعيدة عن هذا البيان الذي قدّمناه، وهو يعني أنّ الدولة يجب أن تكون في خدمة الإنسان وغاياته وأهدافه.

لكن هنا عندما نتحدّث عن الإنسان فإنّ ما نعنيه هو الإنسان بجميع أبعاده، وجميع حاجاته الواقعيّة ومصالحه الحقيقيّة، وليس فقط الإنسان بأبعاده الماديّة وحاجاته الغرائزيّة ومصالحه الدنيويّة، لأنّ في هذا اختزالاً للإنسان في جنبته الحيوانيّة، وإقصاء لجنبته الإنسانيّة وإعداماً لها، وأيضاً الإنسان في جنبته المعنويّة وحاجاته الكماليّة ومصالحه الأُخرويّة.

وهذا يعني أنّ الدولة في وظائفيّتها، يجب أن تعتني بجملة من الوظائف المعنويّة والعباديّة، فضلاً عن الوظائف الماديّة والدنيويّة، بل لربّما تكون الأولويّة للوظائفيّة المعنويّة، تبعاً لأولويّة الأهداف الأخرويّة على الأهداف الدنيويّّة.

ومن الواضح أنّ هذه الرؤية تنسجم مع أطروحة ولاية الفقيه، في مبانيها الفكريّة والكلاميّة، والتي تذهب إلى استمداد المشروعيّة السياسيّة للفقيه العادل من الله لا من الشعب.

ويرتكز هذا البيان الذي قدّمناه، على جملة من الأُسس الفلسفيّة والمعرفيّة التي لابدّ من إيضاحها:

1ـ إنّ الوجود ذو شقّين، مادّي وغير مادّي، أي أنّ الوجود لا يمكن اختزاله بالوجود المادّي، بل إنّ المادّة تشكّل إحدى تجلّيات الوجود، لكنّها ليست التجلّيات الوحيدة للوجود، الذي يتعدّى حدود المادّة إلى أفق وجودي أرحب وأوسع.

إنّ جملة من الوجودات تملك صفة الموجوديّة، لكنّها ليست موجودات ماديّة، من قبيل وجود الله تعالى، والملائكة، والنفس الإنسانيّة، وجملة من الموجودات التي تسبح في عالم الغيب، أي العالم الغائب عن الإدراكات الاعتياديّة للإنسان.

إنّ وجود الله تعالى هو محور الوجود، وكلّ الوجود يرجع إليه كما هو صادر منه، وأيضاً مرتبط به ومفتقر في وجوده إليه.

ولا يخفى أنّ البيان الذي ذكرنا يرتكز على هذه المقدّمة، من باب أنّ القول بأداتية الدولة لبلوغ الإنسان غاياته الوجوديّة وأهدافه الكماليّة، التي تتجاوز عالم المادّة، يبتني على القول بوجود الله تعالى، ويحتاج إلى تثبيت كون الوجود أعم من الوجود المادّي، أي يشمل أيضاً الوجود المجرّد عن المادّة.

أمّا الاتجاه الآخر ـ الذي لا يمتلك تلك النظرة الأداتيّة للدولة ـ فإنّ موقفه الفكري من هذا الموضوع ليس من الضروري أن يكون مختلفاً، فقد يؤمن بوجود الله تعالى، لكنّه لا يرى ضرورة توظيف الدولة من أجل أخذ الإنسان إلى غاياته الكماليّة.

2ـ لا فصل بين الوجودين: أي بين الوجود المادّي والوجود اللامادّي، وكما أنّ عدم الفصل متحقّق بمعناه الوجودي والفلسفي، من باب أنّ كلّ الوجود يستمد وجوده بشكل دائمي من الله تعالى، فهو متحقق بمعناه التكويني (أي ولاية الله تعالى الشاملة والدائمة على الكون)، كما هو متحقق بمعناه التشريعي، أي أن الولاية التشريعية لله تعالى، هذه الولاية التي تتجلى الهداية الإلهية من خلالها، أي هداية الإنسان إلى غاياته الوجودية وأهدافه الكمالية؛ كما هو متحقّق بمعناه الأولوي، أي أنّ الولاية في المجتمع البشري هي لله تعالى.

وهذا يعني أنّ يد الله تعالى ليست مغلولة عن أي من آفاق الوجود، وأن هداية الله تعالى للإنسان إلى غاياته الوجوديّة قد أخذت بجميع أسبابها، ابتداءً من الوجود الكوني إلى الوجود المجتمعي، حيث إنّ رحمة الله تعالى تقتضي إيجاد البيئة المناسبة لهداية الإنسان.

لكن يبقى أنّ كلّ ذلك ـ فعل الهداية وتجلّياتها ـ مشروط بالمحافظة على اختيار الإنسان الحرّ والواعي، وعلى عدم إلغائه أو سلبه ذلك الاختيار، بل إنّ حقيقة الهداية الإلهيّة، إنّما تتمثّل بأخذها بيد الإرادة الإنسانيّة البعيدة عن أي إكراه أو إجبار أو إلجاء، إذ إنّ سير الإنسان إلى غاياته الكماليّة مرتبط بجوهر إنسانيّته القائم على قدرته على تبنّي اختياره الحرّ والواعي.

وفي هذه النقطة، فإنّ الاتجاه الآخر ـ الذي أشرنا إليه سابقاً ـ يفترق عن الاتجاه الذي يرى تلك الأداتيّة للدولة، أي أنّه لا يرى ذلك الارتباط ما بين ولاية الله تعالى والاجتماع البشري، فإنّ عدم كون الدولة أداة بذاك المعنى، لن يحتاج إلى ولاية تشريعيّة لله تعالى، ولا إلى ولاية تصرّف وتدبير، بل إنّ كلّ تلك الأُمور سوف تكون بيد الإنسان، الذي حدّد أهدافاً وغايات أُخرى للدولة، لا تستلزم تلك النتائج المبتنية على تلك الرؤية الأداتيّة للدولة.

3ـ ارتباط غائيّة الكون بغائيّة الإنسان: بمعنى أنّ وجود الإنسان وجود غائي، وكذلك وجود الكون فإنّه أيضاً وجود غائي؛ وإذا كان وجود الإنسان من أجل أن يسير إلى كماله الحقيقي والواقعي، فإنّ وجود الكون من أجل أن يكون المسرح الذي يتحرّك فيه الإنسان من أجل أن يصل إلى ذلك الكمال.

وكذلك الأمر عندما نأتي إلى كلّ التشكيلات الاجتماعية والسياسيّة، التي تأخذ محلّها على ذلك المسرح الكوني، فإنّ غاياتها القصوى يجب أن ترتبط بالإنسان وغاياته الكماليّة، ولذلك فإنّ تلك الولايات (ولاية التشريع وولاية التصرّف) المستمدّة من الله تعالى، هي من أجل أن تخدم مسيرة التكامل لدى الإنسان.

أي أنّنا نصل في النتيجة، إلى أنّه يوجد لدينا إنسان يسعى إلى غاياته وأهداف خلقه، وبالتالي فإنّ كلّ ذلك المحيط الذي يتحرّك فيه ذلك الإنسان، يجب أن يكون تابعاً لتلك الأهداف والغايات.

أمّا الاتجاه الآخر فإنّه لا يرى ضرورة توظيف المحيط الاجتماعي والسياسي للإنسان، لأنّه أساساً لا يتبنّى تلك الرؤية الغائيّة للإنسان.

4ـ الوحي والكمال الإنساني: وعلى ما تقدّم فإنّنا نحتاج إلى فعل هدايتي يوصل الإنسان إلى غاياته وأهدافه، باعتبار أنّ الإنسان لا يستطيع أن ينهج لنفسه ذلك الطريق الذي يوصله إلى تلك الأهداف والغايات، ومن هنا فقد اقتضت الحكمة الإلهيّة، إمداد الإنسان بالوحي، ليساعده على بلوغ أهدافه، وعلى الوصول إلى مصالحه الواقعيّة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

وبالتالي فإنّ الوحي يشكّل مصدراً معرفيّاً محوريّاً وضروريّاً، من أجل الأخذ بيد الإنسان وهدايته، سواءً على المستوى التشريعي أو المعنوي، أو فيما يرتبط بقضايا الاجتماع السياسي، وموضوع الدولة.

أي أنّ الوحي قد أتى من أجل أن ينظّم ويوجّه جميع مجالات الحياة البشريّة، ذات العلاقة بفعل الهداية، بما يخدم هداية الإنسان، وإيصاله إلى سعادته الحقيقيّة.

وفي المقابل، فإنّ الاتجاه الآخر إذا ما أعطى دوراً للوحي، فإنّه يحصر دوره في الإطار المعنوي والأخلاقي، ولا يسمح له بتعدّي هذا الإطار إلى مجال أوسع وأرحب.

5ـ العقل وهداية الإنسان: يلعب العقل دوراً أساسيّاً في هداية الإنسان، فإنّ الوصول إلى الوحي وجميع نتاجاته، إنّما يتوقّف على مبادرة العقل وقناعته بصدقية الوحي، وإلا فمن دون العقل، لا يستطيع الإنسان الوصول إلى الوحي والاستفادة منه، ولذا فقد جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن أوّل خلق خلقه الله عزّ وجلّ العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منكَ، بك آخذ، وبك أعطي، وبكَ أُثيب، وبك أُعاقب».

وفضلاً عن دوره الأساسي ذاك، فإنّه -فيما يرتبط بفعل الهداية- يشكل مصدراً معرفيّاً، سواءً من خلال نتاجه القطعي والمستقلات المعرفيّة التي يستقل بإدراكها، أومن خلال الدور الخبروي، الذي يمكن أن يكون رديفاً ومكمّلاً لدور النصّ الديني.

وفي المقابل فإنّ الاتجاه الآخر، لا يرى أنّ فعل العقل يوصل إلى تبنّي جميع معطيات الوحي، باعتبار كون الإنسان ملزماً بالأخذ به، بل هو يتعامل تعاملاً انتقائيّاً مع معطيات الوحي، فيأخذ منها ما يراه موافقاً لتوجّهاته ورؤيته، ويرفض ما لا ينسجم معها.

لكن في مقابل هذه الرؤية التي ترتكز على محوريّة الإنسان بجميع أبعاده، من حيث ارتباطه بالله تعالى، وتوظيف جميع الطاقات الاجتماعية والسياسيّة لإشباع جميع حاجات الإنسان، وبالخصوص حاجاته المعنويّة وتكامله المعنوي؛ تقف الرؤية الأُخرى التي ترى محوريّة الإنسان، مجرّداً عن ذاك الارتباط الكامل بالله تعالى، إذ إنّها تعطي للمعرفيّة الدينيّة دوراً بما ينسجم مع الرؤى الوضعيّة، أمّا مرجعيّة الاختيار والتشريع في جميع الشؤون، فهي بيد البشر أنفسهم، أي أنّ ملاك المشروعيّة هو اختيار البشر، وحتّى إن وقع الاختيار البشري على الدور الإلهيّ الكامل والشامل، فإنّ مشروعيّة هذا الدور لا تنبثق من مبانيه وأُسسه، بل من طبيعة الاختيار البشري الذي منح المشروعيّة لذاك الدور.

ولابدّ من الإشارة إلى أن رؤية حكومة الشعب -باعتبار كونه مصدر المشروعيّة بذاك المستوى- ترتكز على جملة من المباني نوضّحها باختصار:

1ـ مصير الإنسان بيده: أي أنّ الإنسان مسلّط على مصيره، وأنّه هو المعني بتحديد طبيعة ذلك المصير، ولا يحقّ لأحد أن يتحكّم بمصيره ويتسلّط عليه.

وفي مقام النقاش نقول: إنّه صحيح أنّ الإنسان هو الذي يحدّد مصيره، لكن السؤال الأساسي هو: أيّ مصير يجب المسير إليه، وينبغي اختياره؟ وما هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى ذاك المصير؟ وأساساً ما هي المعايير التي ينبغي أن تحسم الخيارات على أساسها؟.

2ـ الإرادة الحرّة للإنسان: أي أنّ الإنسان كائن حر، بل من طبيعة كينونته أن يكون حرّاً، في اعتقاده وفي تفكيره وفي آرائه، وفي ممارسته لقناعاته، وبالتالي فإنّ اختياره المبني على إرادته الحرّة، هو الذي يجب أن يشقّ طريقه في الاجتماع السياسي وقضيّة السلطة.

وفي مقام النقد لهذه الفكرة نقول: إنّ الإنسان يمتلك إرادته الحرّة، لكن ما يمتلك أصالته على مستوى الوجود الإنساني، ليس مجرّد الإرادة الحرّة، بل هو إرادة الإنسان الحرّة والواعية، إذ إن جنبة العقل، والميل إلى الخير والكمال والدوافع المعنويّة والروحيّة، هي أيضاً متأصّلة في الشخصيّة الإنسانيّة، وبالتالي فإنّ تلك الإرادة إذا كان منطلقها الجنبة الغرائزيّة، والميول الشهوانيّة في الإنسان، فإنّ هذه الإرادة لا تعبّر عندها عن أصالة الإنسان، وعمق شخصيّته الإنسانيّة، بل هي تعبّر عن الجانب الحيواني في وجوده النوعي، بل إنّ فلسفة الحرية، تتخطى هذا المعنى الظاهري، لتتجلّى في موطن النفس الإنسانيّة، تحرّراً من قيود الشهوة وأغلال الغريزة، وكلّ دوافع الأنا في الباطن الإنساني؛ وأمّا إذا كان منطلق تلك الإرادة الجنبة الواعية والمتحرّرة في عمق الوجود الإنساني، عندها تكون هذه الإرادة، هي المعبّر عن أصالة الإنسان، بل عن حريته الحقيقيّة.

3ـ قدرة الإنسان على حسم خياراته: أي أنّ الإنسان يمتلك الأدوات الإدراكيّة ـ كالعقل ـ التي تمنحه المقدرة على حسم خياراته، وبالتالي فإنّ الإنسان قادر لوحده على أن يصل إلى مصالحه الواقعيّة وسعادته الحقيقيّة، وعلى أنّ يحدّد مصيره وسبل الوصول إليه، وعلى بناء الأُطر القانونيّة والتشريعيّة الكفيلة بذلك.

وفي مقام النقد لهذا الطرح، لابدّ من بيان جملة نقاط أساسيّة، الأولى أنّه كيف نطمئن إلى قدرة العقل على ما تقدّم، وهل يستطيع العقل تقديم أدلّته على ذلك، أم يبقى الأمر مجرّد دعوى لا دليل عليها ولا برهان؟، والثانية أنّه لو كان باستطاعة العقل ذلك، لما وصلنا إلى مذاهب متشتّتة على مستوى الرؤى الإنسانيّة، لأنّه لو صحّت تلك الدعوى لوجب أن يكون منتوج العقل واحداً لا متعدّداً، والثالثة أنه لو كان باستطاعة العقل القيام بتلك الوظيفة لما كان من حاجة إلى الوحي، مع أنّ العقل نفسه يقرّ بحاجته إلى الوحي وعدم استغنائه عنه، والرابعة أنّ فلسفة مجيء الوحي تختزن تلك النتيجة، وهي أنّ العقل غير قادر لوحده على إيصال الإنسان إلى كماله الحقيقي، والخامسة أنّ الوحي يختزن أعلى مراتب العقل، وبالتالي فإنّ الأخذ بالوحي ليس خارجاً عن آليات العقل، التي تقود بنفسها إلى ضرورة الأخذ بالوحي.

وعلى ما تقدّم نستطيع القول: إنّ العقل يمتلك دوراً أساسيّاً، لكنّه لا يستطيع لوحده أن يقود الإنسان إلى غاياته الكماليّة، بل يحتاج إلى الوحي، لأنّ مرسل الوحي هو العالِم بحقيقة الإنسان وما يضرّه وما ينفعه، وما يوصله إلى كماله وسعادته.

والنتيجة التي نصل إليها هي أن البيان الذي قدّمناه، والذي يرتكز على مقولة الكمال الإنساني وضرورة الوحي، هو البيان الذي يحترم الشخصيّة الإنسانيّة، ويوقّر الجوانب المعنويّة والكماليّة الكامنة في الوجود الإنساني، ويجلُّ طاقة العقل في الإنسان وجنبته الواعية، وإرادته الحرّة المتعالية على البعد الحيواني المرتكز فيه، كما أنّه يدعو في جوهره إلى استثمار جميع الطاقات الإنسانيّة الكامنة في الإنسان، وعدم إهمال بعده الأشرف، وعدم اختزاله في بعده الحيواني؛ وإلّا فسيعني ذلك وضع الإنسان في أخسّ مراتبه، وإهدار طاقاته وتضييع أهدافه وغاياته الكماليّة، التي تعنى بصنع حقيقة إنسانيته، وتنمية الجوانب الإنسانيّة في شخصيّته؛ ومن هنا عقدنا هذا الارتباط الجوهري بين فلسفة الدولة، وبين الإنسان من حيث ارتباطه بالله تعالى.

وعلى هذا الأساس أيضاً، نجد أنه من الضروري أن نفصل بين منهجين اثنين في موضوع الدولة، على مستوى التعامل مع الإنسان؛ بين منهج استرضائي ومنهج إرشادي، بين منهج يعمل على محاكاة ميول الناس ومراودة غرائزهم، وبين منهج يعمل على محاكاة عقولهم ومراودة فطرتهم.

إنّ المنهج الاسترضائي، هو المنهج الذي يعمل على استرضاء الناس، وتحريك عواطفهم وإجابة رغباتهم، أي أنّ جميع الخيارات السياسيّة في قضايا الاجتماع السياسي إنّما تُحسم بناءً على توجّهات الناس وقناعاتهم، حتّى لو كان منشأ هذه التوجهات الجنبة الغريزيّة في الوجود الإنساني، والميول الشهوانيّة في الشخصيّة الإنسانيّة، بل لعلّ أغلب الخيارات التي تحسم على أساس شعبي، إنّما تحصل بناءً على رؤية المنفعة الماديّة لدى كلّ شخص، وأغراضه الشخصيّة وانفعالاته النفسيّة.

أمّا المنهج الإرشادي، فهو المنهج الذي يهدف إلى إرشاد الناس وهدايتهم إلى منافعهم بمعناها الواسع، الذي يشمل البعد الأُخروي والمعنوي، والذي يعمل على مراودة العقل، واستثمار الكوامن المعنويّة والروحيّة في وجود الإنسان، وعلى تنمية الجنبة الواعية في شخصيته، وعلى فكّ عقاله من أسر الشهوة وتحريره من أغلال الغريزة، وعلى تزكيته وتربية نفسه على قيم الخير والرحمة.

ولذلك يمكن اختصار الفرق بين هذين المنهجين في هذه النقاط:

الأولى: ما ذكرناه من أن المنهج الاسترضائي يراود رغبات الناس ويهدف رضاهم، بينما المنهج الإرشادي يراود عقولهم ويهدف إلى هدايتهم.

الثانية: إنّ الخيارات السياسيّة في المنهج الاسترضائي، غالباً ما تحسم على أساس الجنبة اللاواعية (الميول والأهواء) في الوجود البشري؛ بينما تحسم في المنهج الإرشادي على أساس الجنبة الواعية في شخصيّته الإنسانيّة، أي على أساس المدارك العقليّة والقيم المعنويّة.

الثالثة: لو توصّل الاسترضائيون إلى أنّ خياراً سياسيّاً يوافق رغبة الشعب، لكنّه يخالف مصلحته الواقعيّة، فإنّ مقتضى المنهج الاسترضائي الانسياق مع تلك الرغبة، وخصوصاً إذا ما كانت الاستجابة لتلك الرغبات والميول تحفظ للاسترضائيين منافعهم ومكتسباتهم؛ أمّا بناءً على المنهج الإرشادي فلابدّ من السعي لتحقيق المصالح الواقعيّة للإنسان، حتّى لو اضطر الأمر إلى الاصطدام مع الرغبات الغرائزيّة والميول الشهوانيّة لأفراد المجتمع، بل وخسارة جملة من المصالح الخاصّة لأتباع المنهج الإرشادي.

وبناءً على ما تقدّم، فقد كانت هذه الأُطروحة محاولة لتقديم فهم شامل لفلسفة الدولة، أي لماذا الدولة؟ ما هي أهدافها وغاياتها، وما هو دورها في الاجتماع السياسي، وما هي المبرّرات الفلسفيّة والدينيّة لتلك الأهداف والغايات؟ ولذلك كان من المطلوب السعي لتقديم الإجابات المقنعة عن تلك الأسئلة، وبحث جملة من المواضيع التي ترتبط بقضيّة الدولة وبيان حقيقتها، وذلك بناءً على رؤية الفكر السياسي الشيعي لموضوع الدولة، وما تختزنه من أبحاث تحتاج إلى تحديد الموقف الفكري منها.

ومن هنا فقد عمدنا إلى تقسيم الأُطروحة إلى مقدّمة وفصول سبعة وخاتمة، وتحدّثنا في كلّ فصل عن جملة من القضايا التي تساعد على الوصول إلى الهدف المتوخّى من تلك الأُطروحة، والتي تبيِّن بإجمال أو تفصيل، جملة من المباحث التي نحتاجها في تعميق فهمنا لأُطروحة الدولة.

أمّا الفصل الأوّل، فقد بحثنا فيه ملاك دينيّة الدولة، أي تلك المبرّرات التي تبيح وصف دولة ما بكونها دينيّة أم لا؟ وطرحنا الاحتمالات الواردة في هذا المقام، وناقشناها، وهو ما قادنا إلى بحث قضيّة هل إنّ الإسلام يختزن الدولة أم لا، وتعرّضنا لجملة من الإجابات عن هذا السؤال.

وقد قادنا البحث إلى طرح قضيّة التغيّر والثبات في القوانين الإسلاميّة، وفلسفة التغيّر والثبات في التشريع، والآليات التي اعتمدها الإسلام لمواكبة حركة التطوّر الاجتماعي.

وقد وجدنا من الضروري، أن نطرح ذلك البحث المرتبط بالفراغ التشريعي، والمؤشّرات التي يستخدمها وليّ الأمر في أحكامه الولائيّة، فضلاً عن جملة من المباحث الأُخرى التي تعرّضنا لها.

أمّا في الفصل الثاني، فقد بحثنا الخطوط العامّة التي تبتني عليها نظريّات الدولة في الفكر الشيعي، أي نظريّتا: ولاية الفقيه وولاية الأُمّة، ثمّ تطرّقنا إلى مفهوم الولاية في اللغة والاصطلاح ومفهوم ولاية الفقيه.

وقد وجدنا من المفيد، أن نبحث الأُسس النظريّة والكلاميّة لنظريّة ولاية الفقيه المطلقة سواءً في قضيّة السلطة أو في قضيّة التشريع، باعتبار أنّ حاكميّة الفقيه هي في الواقع حاكميّة الفقه أي التشريع.

أما في الفصل الثالث فقد طرحنا جملة من الأدلّة على نظريّة ولاية الفقيه، وقسّمناها إلى أدلّة كلاميّة وأدلة فقهيّة، وتناولنا في الأدلّة الكلاميّة دليل اللطف وشرحنا مضمونه، كما تعرّضنا لدليل النظام الاجتماعي ومقدّماته.

وأمّا الأدلّة الفقهيّة، فقد قسّمناها إلى أدلّة مباشرة، وهي التي تدلّ بشكل مباشر على ولاية الفقيه، وتعرّضنا لنصّ التوقيع الشريف؛ وإلى أدلّة غير مباشرة، سواءً كانت عقليّة، أو مركّبة من العقل والنقل، حيث تعرّضنا لدليل الحسبة وجملة من الآراء فيه، ولدليل الأولويّة، وأيضاً لدليل الملازمة.

أمّا الفصل الرابع، فقد عقدناه لبيان كيفيّة تعيين الولي الفقيه، فبدأنا بنظريّة النصب وشرحنا مضمونها؛ وعلى إثر ذلك فقد طرحنا نظريّة الانتخاب، وتطرّقنا إلى أهم الإشكاليّات المطروحة عليها، وعلى أُسسها المرتكزة في نظريّة ولاية الأُمّة.

ثمّ كان من الأهميّة بمكان أن ندخل إلى مبحث البيعة وفلسفتها، وطبيعة علاقتها بالمشروعيّة، وتحدّثنا عن مبرّراتها وفوائدها السياسيّة إذا لم تكن مصدراً للمشروعيّة.

أمّا الفصل الخامس فقد بحثنا فيه مناصب الوليّ الفقيه، حيث بدأنا بالحديث عن منصب الإفتاء، فتعرّضنا لمفهومه، وما يميّزه عن الحكم، ولفلسفة الإفتاء، وبحثنا أُسسه الكلاميّة وعلاقته بولاية الأمر ودوره في موضوع الدولة، حيث قدّمنا فيه تحديداً إجماليّاً لوظائفيّة الدولة الإسلامية، ثمّ تطرّقنا إلى منصب القضاء، فتناولنا مفهومه وعلاقته بالإفتاء، وبولاية الأمر، وبحثنا استقلاليّة القضاء، ومشروعيّته، والموقف القضائي للدولة الإسلاميّة من الأقليّات الدينيّة، ودور القضاء في التنمية السياسيّة وبناء الدولة والمجتمع، ووصلنا أخيراً إلى منصب الولاية.

أمّا الفصل السادس، فقد جعلناه لبحث صلاحيّات الولي الفقيه، حيث عرضنا لجملة من الرؤى في موضوع تلك الصلاحيات؛ وتلك الرؤى هي رؤية حصر الصلاحيات، وتعرّضنا لها بشيء من الاختصار، ورؤية توزيع الصلاحيات، حيث بحثنا ما تتميّز به من نقاط قوّة أو ضعف، وطبيعة العلاقة بينها وبين نظريّة الانتخاب، وعرضنا رؤية نقديّة فيما يرتبط برأي نظرية الانتخاب في الصلاحيات.

وتطرّقنا إلى رؤية مركزة الصلاحيات، سواءً ما كان منها دون ضوابط تضبط فعل تلك الصلاحيات، أو مع تلك الضوابط، وسواءً كانت هذه الضوابط بنيويّة أو ذاتيّة، حيث سجّلنا جملة من الملاحظات على الضوابط البنيويّة، وبحثنا أيضاً (مأسسة) صلاحيات ولي الأمر.

وقد بحثنا في الأثناء، جملة من القضايا المعاصرة، التي ترتبط بموضوع الصلاحيات، وهي صلاحيات وليّ الأمر خارج حدود الدولة الإسلاميّة، وعلاقتها بالقانون والدستور.

أمّا الفصل السابع فقد عنوناه بعنوان: فلسفة السياسة الدينيّة وتديين الفلسفة السياسيّة، حيث بحثنا فيه اتجاهات العلاقة في دائرة السلطة، وهي علاقة السلطة بالله تعالى، سواءً على مستوى الاستمداد التشريعي، أو على مستوى علاقة السلطة بالصفات الإلهيّة، وهو ما يقود إلى جملة من البحوث في العرفان السياسي، والتأسيس النظري لتلك المقولة، وفي الكلام السياسي، وتأسيس المعرفة السياسيّة على المباني الكلاميّة، وفي الأخلاق السياسيّة وأهميّتها.

والاتجاه الثاني هو علاقة السلطة بالاجتماع السياسي، حيث تحدّثنا عن الحقوق السياسيّة للسلطة، وعن واجباتها السياسيّة، في بيان تفصيلي تناول وظائف السلطة في جميع الميادين.

كما تطرّقنا إلى جملة من المباحث الأُخرى، وهي مفهوم المواطنة ومعاييرها، ومفهوم الوطن الإسلامي وحدوده السياسيّة، وفلسفة الدولة، ثمّ إلى طبيعة العلاقة بين الفلسفة والسياسة، وأيضاً إلى البُعد الإنساني في الدولة، ثمّ ختمنا البحث بالحديث عن إمكانيّة التوفيق بين معطيات المعرفة الدينيّة ومنتوج الفلسفة السياسيّة.

 

الهوامش:

* كاتب وباحث لبناني.

 


أزمنة الحداثة الفائقة

الإصلاح - الإرهاب - الشراكة

الكاتب: علي حرب

الناشر: المركز الثقافي العربي - بيروت

الصفحات: 254 صفحة من القطع الكبير

سنة النشر: ط1 -2005م

ما يشهده المسرح الكوني من أحداث متسارعة وانفجارات متلاحقة، يحول الكوكب إلى بؤر للتوتر والفوضى، بقدر ما يحيل نظام الحياة إلى ما يشبه حالة الطوارئ، بانتظار البرابرة أو الكارثة، والكل -في نظر المؤلف- مسؤولون بقدر ما هم متورطون، لاسيما أصحاب المشاريع والاستراتيجيات لإنقاذ البشر وقيادة العالم... وإذا كان المشهد العربي يبدو أكثر تأزماً، ومطالب الإصلاح أكثر إلحاحاً، فإن العالم بأسره يحتاج إلى الإصلاح، ولن ينجز هذا الإصلاح بعقل أحادي تحكمي انفرادي، بل بعقل وسطي تعددي تداولي.

هذه العقلية الوسطية المؤمنة بالتعدد والتداول، هي في نظر المؤلف، الصيغة التركيبية أو الإيديولوجية المستقبلية، القادرة على مقاربة الإصلاح في العالم وحل معضلاته. انطلاقاً من هذه الصيغة والتركيبة تقدم مقالات هذا الكتاب مقاربات تهتم بتراكيب الفهم وأدوات المعرفة، كما تهتم بعقلانية الخطاب ومنهج التفكير، بهدف تحفيز العقل العربي للانخراط في صناعة الحياة والمصائر، والانفتاح على الحوار والمداولة والشراكة والتضامن.

ليس في الكتاب فصول أو أبواب، وإنما عناوين كبرى تعتبر محاور أساسية، ناقش المؤلف من خلالها مجموعة من القضايا والمسائل، تصب في إنضاج وإغناء مشروعه حول (العقل التداولي). فتحت عنوان التغيير وأزماته، تحدث عن رهانات التغيير، وتحولات العناوين والمفاهيم، ونقد الإصلاح أو ما بعد الحداثة. وتحت عنوان الإصلاح ورهاناته، تحدث عن استراتيجية عقلية جديدة، والحاجة إلى ثقافة مضادة، وتساءل عن المشروع التحديثي ومصائره: التحديات والرهانات.

وتحت عنوان الإرهاب وتداعياته، تحدث عن الظاهرة الأصولية والعمليات الإرهابية، والخديعة المزدوجة: أيلول الأمريكي العربي العالمي، ثم قدم قراءة في المشهد العربي وكوارثه، ومصادر الخلل في المجتمعات العربية، ومصير النظام العربي بين الوهم العراقي والفخ الأمريكي. وأخيراً تحدث تحت عنوان المشهد العالمي وتحولاته، عن رهانات العقل التداولي: التركيب والتجاوز، والحداثة الفائقة: عولمة بديلة أم عقلانية مختلفة؟ المحافظون الجدد والزمن الإمبراطوري...

التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان

الكاتب: أ. محمد تهامي دكير

الناشر: دار اقرأ - بيروت

الصفحات: 619 من القطع الكبير

سنة النشر: ط1-2005م

وجهت للشريعة الإسلامية -بل للإسلام ككل- انتقادات قاسية بسبب تشريعها الجنائي، الذي ينص على العقوبات البدنية والنفسية، حيث اتهم البعض -ممن تأثر بالمفاهيم الحقوقية الغربية المعاصرة ونصوص إعلاناتها الحقوقية- العقوبات الإسلامية بالقسوة والوحشية، واعتبرها انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وكرامته، وذهب البعض الآخر إلى أن هذه العقوبات قد شرعت لأزمنة غابرة، ولم تعد تصلح للمجتمعات المعاصرة، لأنها لا تنسجم مع المفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان.

هذا الكتاب يتصدى للرد على هذه الادعاءات، بالكشف عن حكمة تشريع هذه العقوبات وأهدافها، التي تكمن أولاً في صداها المعنوي الذي يحقق الردع العام والخاص، كما يؤكد أهمية الحق المعتدى عليه، وجسامة الجرائم التي تستحق هذه العقوبات البدنية، لأنها في نظر الشريعة الإسلامية اعتداء على ما يراه الإسلام ضرورات أو أساسات يقوم عليها بنيان المجتمع الإسلامي، وهي: الدين، النفس، النسل، العرض، المال.

الكتاب مقسم إلى ثلاثة أقسام، في كل قسم فصول ومباحث ومقاصد، بالإضافة إلى مدخل تمهيدي وخاتمة.

في التمهيد تحدث عن أهمية الدراسات المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية. وفي القسم الأول وتحت عنوان: العقوبة: مفهومها وأساسها وأهدافها وتطورها في القوانين الوضعية، خصص الفصل الأول منه للحديث عن تطور مفهوم العقوبة عبر العصور وفي القوانين الوضعية. أما الفصل الثاني من هذا القسم فقد خصصه للحديث عن السياسات العقابية الحديثة.

القسم الثاني من هذا الكتاب خصصه للحديث عن نظرية العقاب في الشريعة الإسلامية، وقسمه إلى فصلين وسبعة مباحث، تحدث في الفصل الأول، عن مفهوم العقوبة وأساسها ومعيار تعيين العقاب في الشريعة الإسلامية. الفصل الثاني من هذا القسم تناول فيه خصائص العقوبة وأهدافها في الشريعة. أما القسم الثالث من الكتاب فتناول فيه بالتحليل والدراسة جرائم الحدود والقصاص وعقوباتها في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، وذلك من خلال فصلين: في الفصل الأول تحدث عن جرائم: الزنا، القذف، شرب الخمر والمسكرات، السرقة، الحرابة، البغي، الردة. أما الفصل الثاني فقد خصصه للحديث عن عقوبة القصاص من خلال مبحثين ومجموعة من المقاصد. وعرض في الخاتمة أهم الخلاصات والاستنتاجات التي توصل إليها من خلال المقارنات الكثيرة التي أجراها بين الشريعة والقوانين الوضعية.

عبقرية مبكرة لأطفالنا

الكاتب: توفيق بو خضر

الناشر: دار المحجة البيضاء - بيروت

الصفحات: 262 من القطع الكبير

سنة النشر: ط1-2005م

الأطفال هم زينة الحياة الدنيا، والولد الصالح قرة عين لأبويه في الدنيا والآخرة، لكن ليتحقق هذا الصلاح لابد من منهج تربوي صالح وهادف، ينسجم مع الفطرة ويتناغم مع مبادئ الدين الحنيف، منهج يعتني بالطفل جنيناً وقبل أن يولد، ويتابع عنايته به إلى أن يصبح كهلاً. هذا المنهج المطلوب والمنشود، هو ما يحاول هذا الكتاب أن يكتشفه، ويسلط الضوء عليه، من خلال القرآن و السنة وروايات أهل بيت النبوة عليهم السلام.

الكتاب مقسم إلى بابين ومجموعة من الفصول، في الفصل الأول والثاني، تحدث الكتاب عن مرحلة ما قبل الحمل، أي المرحلة التي يختار فيها كل إنسان شريكه الذي سيتزاوج معه، وقد أكدت الأحاديث أهمية اختيار الرحم، والنطفة الخالية من الشوائب والانحرافات الروحية والعضوية، لما لذلك من تأثير على المولود ومستقبله. ثم تأتي بعد ذلك مجموعة من التعاليم والأدبيات، تتعلق بالزواج والعلاقة الحميمية بين الزوجين، لأن لكل ذلك مدخلية مهمة ومؤثرة في المولود. ثم تحدث في الفصل الثالث عن مرحلة الولادة، وما تتطلب من أعمال وحقوق للطفل من منظور إسلامي، الفصل الرابع خصصه للحديث عن الرضاعة، ثم تحدث في الفصل الخامس عن آداب اليوم السابع والتسمية والختان والعقيقة.

ثم انتقل في الباب الثاني للحديث من خلال عشرة فصول، عن مصادر ثقافة الطفل، والتعليم في سن مبكر، وطريقة توجيه الخطاب إلى الطفل، والطريقة المثلى للتفكير، وكيف يقي الأهل أبناءهم من الشذوذ الجنسي، وأهم المؤثرات على شخصية الطفل، والمناهج التربوية والتعليمية التي تصنع طفولة مبدعة وخلاقة، وسليمة من العيوب الخلقية والخلقية، الروحية والجسدية.

السنة بين الأصول والتاريخ

الكاتب: حمادي ذويب

الناشر: المؤسسة العربية للتحديث والمركز الثقافي العربي -بيروت

الصفحات: 352 من القطع الكبير

سنة النشر:ط1 -2005م

يرى المؤلف أن المفكرين المشتغلين بمسائل الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً، أدركوا أهمية التراث الإسلامي أو النص ووظيفته التجييشية، التي يمكن أن تستفيد منها أية سلطة لتوجيه الرأي العام الإسلامي، والتأثير على سلوكه بما يخدم مصالحها.

وهذه الوظيفة، لم يكن التراث ليحققها لولا اكتساب نصوصه سلطة رمزية، تحولت إلى قوة مادية ضاغطة، لا يسهل على المسلم العادي الانفكاك منها، من هنا أصبح لابد
-في نظر المؤلف- من القيام بمواجهة لمسلمات وبديهات هذا التراث، لذلك فقد اختار في هذا الكتاب دراسة إحدى أهم مسلماته، أي السنة. محدداً المجال الزمني لدراسته بنهاية القرن الخامس الهجري، كما اشتغل على تحليل آليات عمل الخطاب الأصولي -أصول الفقه-، ونقد المرتكزات النظرية التي تسيره، لعلاقته بالسنة.

يحتضن الكتاب بين دفتيه ثلاثة أبواب، ناقش من خلالها مجموعة كبيرة من المواضيع والإشكاليات، ففي الباب الأول وتحت عنوان: تاريخية مفهوم السنة، تحدث عن تشكل مفهوم السنة في اللغة، ومفهوم السنة في المدارس الفقهية القديمة، ومدلول مصطلح السنة عند الأصوليين. في الباب الثاني وتحت عنوان: حجية السنة في التاريخ، عالج مجموعة من القضايا المتعلقة بحجية السنة والأخبار، والمتواتر وإشكالية العلم، وخبر الآحاد بين النفي والإثبات، وعدالة الرواة والصحابة، وانتهى ببحث الخبر في ضوء النقد التاريخي.

الباب الثالث، تحدث فيه عن السنة والقرآن، من خلال معالجته لمسائل: تخصيص السنة عموم القرآن، إشكالية النسخ بين القرآن والسنة، التأويل: نماذج من تأويلات الأصوليين، تحليل ونقد...

تقنية الفهم التتابعي

قراءة جديدة للتحولات البنائية للرمز
والمصطلح عند: ابن عربي والبسطامي

الكاتبة: خديجة صفا

الناشر: معهد المعارف الحكمية - بيروت

الصفحات:222 من القطع الكبير

سنة النشر: ط1-2005م

يقدم هذا الكتاب محاولة تأسيسية، لتجاوز إشكالية الفهم، الناتجة عن التوحد لدى المتصوفة بين الذاتية والغيرية، بغية الخروج بالنص الصوفي من الاعتباريات إلى الأنطولوجيا، وبهدف الوصول إلى علاقة فهم عمومية بين المرسل والمتلقي، انطلاقاً من الرمزية القابلة للتعميم والسيلان، والخروج من كثافة الرمز وانغلاقه، إلى رحابة المعنى والدلالة والتلقي.

يحتوي الكتاب على أربعة فصول وخاتمة، في الفصل الأول وتحت عنوان: تعريف الزهد والتصوف، قدمت الكاتبة معالجة لغوية واصطلاحية للزهد والتصوف، كما عرضت مفهومها الخاص حول تسمية: تصوف - صوفية، ثم رصدت الزهد الصوفي تاريخياً عبر الميثولوجيا.. في الفصل الثاني وتحت عنوان: وظيفة الرمز والمصطلح، عرفت الكاتبة كلًّا من الرمز والمصطلح لغة واصطلاحاً، لتدخل إلى تعريف الزهد وما يتبعه من اصطلاحات رمزية، متعلقة بالمعرفة الصوفية الوقفية..

في الفصل الثالث وتحت عنوان: بنائية الرمز والمصطلح في النص الصوفي، اهتمت الكاتبة بتصوير الواقع المادي - الفيزيائي، والواقع الروحي - الميتافيزيقي، والواقع الواحد للواقعين عبر المصطلح والرمز، المستعملين من قبل الزاهد - الصوفي ونصه.. أما في الفصل الرابع وتحت عنوان: فاعلية الزمان والمكان والناس، في الحركة الكاشفة للهوية، فخصصته للبحث في تقنية الفهم التتابعي من خلال تقسيمه إلى أربعة مفاصل تخص: الزمان والمكان والناس والحركة، وتعريف كل منها لغة واصطلاحاً.. وفي الخاتمة عرضت نتائج البحث من خلال خصوصية النظرية النقدية الجديدة في باب الفهم، المسماة بتقنية الفهم التتابعي...

آداب التعليم في الإسلام

الكاتب: عبد العظيم المشيخص

الناشر: دار الهادي - بيروت

الصفحات: 135 من القطع الكبير

سنة النشر: ط1- 2005م

تعتبر المناهج من أهم مقومات العملية التربوية والتعليمية، بالإضافة إلى المعلم والمجتمع التربوي، وتعكس هذه المناهج إرادة واضعيها وفلسفتهم التربوية، وأهدافهم المتوخاة من هذه العملية التربوية والتعليمية، لذلك فبقدر انسجام هذه المناهج مع هذه المنطلقات، تكون النتائج التربوية مرضية لواضعيها، والمشرفين عليها، بالإضافة طبعاً إلى الظروف الموضوعية الأخرى، المساعدة على نجاح أي خطة أو مشروع تربوي، أو في مجالات أخرى.. من هذه القواعد ينطلق هذا الكتاب ليقدم برنامجاً متكاملاً للمعلم والمتعلم، وفق المنهجية الإسلامية وآدابها في التعليم والتعلم، كما يناقش ويعالج مجموعة من القضايا الإشكالية، التي تعاني منها المؤسسات التربوية ومناهجها، مستنداً إلى أهداف التربية الإسلامية ومنطلقاتها، وتجربتها التاريخية المليئة بالعبر والنماذج الناجحة، والتي استطاعت أن تقدم للعالم الإسلامي وللعالم ككل، حضارة ارتكزت على حب العلم والمعرفة، والدعوة إلى التحصيل العلمي من المهد إلى اللحد.

افتتح المؤلف كتابه بالحديث عن الروافد التعليمية العائلية، ودور المدرسة في العملية التربوية، وبعد أن قدم بعض الحلول السريعة لمشكلات التعليم والتعلم، انتقل للحديث عن أهمية المدرس ومنزلة المعلم في الإسلام، مقدماً مجموعة من الشواهد التاريخية، التي تكشف المكانة المتميزة التي كانت للعلماء في الحضارة الإسلامية، بالإضافة إلى استعراضه آداب المعلم مع نفسه ومع تلامذته.

ثم انتقل للحديث عن آداب الطالب كذلك، في نفسه ومع أساتذته، وأهمية اختيار الأستاذ وأصدقاء العلم، وآداب الطالب في حلقة الدرس، والأخلاقيات النفسية التي يجب عليه أن يتحلى بها. كما عالج بعض الأمراض التي تصيب أهل العلم من الطلبة، مثل التكبر والرياء وحب الظهور.. وختم المؤلف كتابه بالحديث عن المناهج العلمية وأهميتها في تحقيق أهداف العملية التربوية..

قلق الغرب

قراءة نقدية لنظرية صدام الحضارات

الكاتب: غالب كجك

الناشر: دار الهادي - بيروت

الصفحات: 367 صفحة من القطع الكبير

سنة النشر: ط1-2005م

أثارت نظرية صدام الحضارات للأمريكي هنتنغتون، الكثير من ردود الفعل الناقدة، خصوصاً من طرف الكتاب والمفكرين العرب والمسلمين، لأنها تحرض الغرب الرأسمالي على معاداة الإسلام وحضارته، وتنتخبه كعدو مستقبلي للغرب بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. في إطار هذه الردود النقدية لهذه النظرية يندرج هذا الكتاب، الذي لا يكتفي بنقد هذه النظرية وتفنيد مرتكزاتها، ولكن يكشف صلتها بالتفكير الغربي والأمريكي خصوصاً، والذي ينزع للصراع والاستكبار، بغية تحقيق مطامعه التوسعية والاستعمارية. بالإضافة إلى محاولة المؤلف استكشاف عالم الغرب وحضارته الإثنية من هذه النظرية.

يحتوي الكتاب على مقدمة وخمسة فصول، تحدث في المقدمة عن الفكر الفلسفي، والقضايا الفكرية والمعاصرة، ومرتكزات الفكر الغربي عموماً، وخصائص العقل الأمريكي، وموقع نظرية صدام الحضارات في منظومة الفكر المعاصر. وتحت عنوان صدام الحضارات المفهوم والرؤية، تحدث المؤلف في الفصل الأول عن مفهوم الحضارة عند هنتنغتون، من خلال العناصر المشكلة لها، ودوافع النزاع بين الحضارات، ورؤيته لصراع الحضارات وآفاقه.

في الفصل الثاني وتحت عنوان: المرتكزات النظرية لصدام الحضارات، تحدث عن المرتكزات الإيديولوجية والاقتصادية والفلسفية والفكرية لصدام الحضارات. أما الفصل الثالث فخصصه للحديث عن ردود الفعل على هذه النظرية، لينتقل إلى الحديث في الفصل الرابع عن حوار الحضارات وأبعاده، وتحت عنوان: تحليل ومعاينة، ناقش في الفصل الخامس والأخير: دلالات المشهد الأمريكي، الإمبريالية العالمية تعلن عن نفسها، دموية أمريكا والغرب أم الحدود الدموية للإسلام، الخيار الحضاري والمخاطر المحدقة...

السوبر حداثة

علم الأفكار الممكنة

الكاتب: حسن عجمي

الناشر: بيسان للنشر والتوزيع - بيروت

الصفحات: 255 صفحة من القطع الوسط

سنة النشر: ط1-2005م

يعرف الكاتب السوبر حداثة، بأنها المذهب الذي يستخدم مفاهيم ومناهج ما بعد الحداثة، من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي للحداثة، ألا وهو المعرفة، أما علم الأفكار فهو في نظره جزء أساسي من السوبر حداثة، لأنه يدرس الأفكار الممكنة وتطبيقها في ميادين مختلفة، أي موضوعه هو دراسة المذاهب الفكرية كافة، الفلسفية والعلمية والاجتماعية، شرط أن تكون هذه المذاهب لم تنشأ بعد.

انطلاقاً من هذه المفاهيم والتعريفات، والمرتكزات النظرية، ينطلق الكاتب في بحوثه ليناقش ويعالج مجموعة من القضايا، لها علاقة بما يسميه السوبر حداثة وعلم الأفكار الممكنة، متسائلاً في البداية عن الفائدة من وراء هذا العلم وما وظيفته؟ ثم وتحت عنوان: من النص إلى المعرفة، تحدث عن اللامحدد في النص، واللامحدد في العلوم، واللامحدد والواقع، واللامحدد في المعنى.. وتحت عنوان: من البيولوجيا والدين إلى الظواهر الاجتماعية والعقل الجماعي، تحدث عن الصفة اللامحددة في البيولوجيا والدين، قوانين المجتمع والفرد، الوعي والظواهر الاجتماعية. كما عالج مجموعة من القضايا الأخرى تحت عنوان: من الديموقراطية والأخلاق إلى الدولة والفرد، من الهوية والحرية إلى الوعي والكون، التفسير اللغوي والمشاكل الفكرية، الفلسفة الافتراضية والنصوص الممكنة، السوبر حداثة وتحليلاتها المختلفة...

تحديات الإصلاح والتنمية

النظام الدولي والشرق الأوسط الكبير

الكاتب: د. طراد حمادة

الناشر: دار المحجة البيضاء - بيروت

الصفحات: 414 من القطع الكبير

سنة النشر: ط1-2005م

يشارك هذا الكتاب المكون من قسمين، في السجال الدائر اليوم حول النظام الدولي الجديد، وعلاقته بالنظام العربي، ودعواته للإصلاح والتغيير والتنمية، بعدما شعر الغرب وعلى رأسه الولايات الأمريكية المتحدة، أن أمنها أصبح مرهوناً بالإصلاح الجدي، وتحقيق التنمية والديموقراطية في دول العالم الثالث، أو السائرة في طريق النمو، وخصوصاً دول العالمين العربي والإسلامي، حيث نمت وترعرع ما يطلق عليه الغرب الأصولية الإسلامية.

تناول المؤلف في القسم الأول موضوعات النظام الدولي، والنظام العربي، والنظام الشرق أوسطي، كما عرض التصورات الأمريكية والأوروبية والعربية للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، وتطورات الاستراتيجية الدولية، ومقاصدها من إقامة هذا النظام. كما أشار إلى محورية الصراع العربي - الصهيوني، وتأثيره على العلاقة بين العالم العربي والغرب، وكيف تحولت الاستراتيجية الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.

في القسم الثاني، ومن خلال خمسة فصول، عالج الكاتب إشكالية الإصلاح والتنمية في العالم العربي، والتحديات التي تطرحها المشاريع الإصلاحية والعوائق التي تحول دون تحقيق هذه المشاريع، وإشكاليات إصلاح النظام الدولي، وعلاقة ورشة الإصلاح هذه بالهيمنة السياسية الغربية. ثم قدم محصلة عامة أكد فيها ضرورة إصلاح النظام الدولي ورهانات المستقبل...

فساد العلاقات الزوجية

ولاية الحاكم الشرعي على الطلاق

الكاتب: الشيخ محمد مهدي شمس الدين

الناشر: المؤسسة الدولية - بيروت

الصفحات: 208 من القطع الوسط

سنة النشر: ط1- 2005م

يرى المؤلف أن الخلاف حول حدود ولاية الزوج على الطلاق، تضييقاً وتوسيعاً، إنما يعود إلى تباين الفقهاء في فهم النصوص التشريعية والروايات التأسيسية (القرآن والسنة) من جهة، كما يعود إلى الحالة الثقافية - الاجتماعية، وتطورها في الزمان والمكان من جهة ثانية. ولا يخفى ما لهذين البعدين من تأثير متبادل، كما لا يخفى تأثيرهما على وضعية المرأة في إطار العلاقة الزوجية، لجهة حقها في طلب الطلاق والحصول عليه.

يحتوي الكتاب على مقدمات، وأربعة أبواب، المقدمات هي: الزواج في الإسلام عقد مقدس، المعيار الحاكم في الحقوق الزوجية، قاعدتان تشريعيتان عامتان، تحرير المسألة، الحاكم الشرعي ولي الممتنع. في الباب الأول وتحت عنوان: مقومات العلاقة الزوجية، تحدث المؤلف عن دلالات الآيات والروايات المتعلقة بموضوع الزوجية. وفي الباب الثاني وتحت عنوان حدود الله، تحدث عن حدود الله في العلاقات الزوجية، وما يترتب من آثار على المكلف عندما يتجاوز هذه الحدود، كما استعرض آيات الحدود وفسرها.

الباب الثالث، وتحت عنوان اتخاذ آيات الله هزواً، شرح معنى الهزو في اللغة، وحقق الحال في معنى الهزو.. في الباب الرابع شرع في الحديث عن موضوع فساد العلاقة الزوجية، وولاية الحاكم الشرعي، من خلال مجموعة من المباحث، أشار فيها إلى تفاصيل الموضوع، مثل نشوز الرجل وفساد الحياة الزوجية، وحالة عدم الإنفاق، كما استعرض القواعد الكلية العامة لجميع حالات فساد الحياة الزوجية من قبل الزوج، مبدياً رأيه الاجتهادي والتجديدي في هذه القضايا المبتلى بها على الصعيد الواقعي الاجتماعي...

 

 


ندوة:
“الاعلام في العصر الرقمي”

لمواكبة تأثير التطور التقني على وسائل الاعلام، ولدراسة الإشكاليات التي يعاني منها الإعلام العربي وسط عولمة إعلامية وثورة تكنولوجية هائلة، نظم نادي الصحافة وجمعية متخرجي كلية الإعلام والتوثيق في لبنان بالتعاون مع مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية ووزارة الإعلام والبنك اللبناني الكندي ندوة تحت عنوان: “الإعلام في العصر الرقمي” وذلك في بيروت في 8 شباط (فبراير) 2005م.

في كلمة الافتتاح أكد ممثل وزير الإعلام حسان فلحة أن “الدولة المتقدمة هي التي تستطيع أن تقوم دوماً بتنمية قدراتها في مجال التقدم التكنولوجي ومواكبة مسارات التطور التقني الخاص به.. لاسيما في مجال الإعلام، وأضاف: إن الجهة أو الطرف الذي يتحكم أو يسيطر على هذه العناصر يستطيع أن يرتقي إلى مستوى السيادة العلمية واستقلالية التحكم في القرار المعلوماتي..” وختم فلحة كلمته بالتأكيد على أهمية عمليات تمويل المشاريع التكنولوجية التي لا تقل أهمية عن أي مشروع آخر وإلا نعتبرها ترفاً فكرياً فحسب...

في الجلسة الأولى تحدث رئيس وحدة التعاون الفني في وزارة التنمية الإدارية الدكتور ريمون خوري عن أهمية المعلوماتية في التنمية، ثم تحدث بعده الدكتور يوسف منصف أستاذ المعلوماتية في الجامعة اللبنانية الذي أشار في البداية إلى الواقع الذي تعيشه الجامعات ودورها في ظل العولمة والثورة المعلوماتية التي أثّرت في سوق العمل. وتساءل عن مدى استخدام الجامعات اللبنانية للمعلوماتية وتكنولوجيا الإعلام قائلاً: مع زيادة التنافس بين الجامعات في لبنان وخارجه من الضروري أن تعتمد هذه الجامعات استراتيجيات واضحة لاستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واستغلال الدراسات عن الواقع الحالي التي تعدها مختلف الوزارات وإعادة هندسة برامجها التعليمية بطريقة تتناسب مع سوق العمل.. أما ممثل شركة netways يوسف زين فتحدث عن أهمية تكنولوجيا المعلومات وتأثيرها على صناعة الخبر وسرعة ترويجه وما توفره من قدرة على الوصول الى مواقع الخبر في الزمن المناسب، وهذا ما يساعد على اتخاذ القرارات في الوقت المناسب كذلك، بالإضافة إلى التقليل من التكاليف الذي بدأ يظهر مع استخدام الإنترنت، كما تحدث زين عن نشاط الشركة ومساعدتها في إيجاد الحلول التقنية في الشرق الأوسط وتقديمها للخدمات لعدد من الأبناك ووسائل الإعلام اللبنانية والعربية ومطار بيروت.

في الجلسة الثانية تحدثت في البداية الإعلامية غادة بلوط زيتون من الـnbn عن أهمية أن يستمر الإعلامي في أداء مهمته مع غياب الإشراف الحكومي، وتساءلت عن دور وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام في تطوير الإعلام، كما طالبت وسائل الإعلام بعدم التركيز على الغرائز والترفيه والاهتمام بما يفيد الناس. أما ممثل الصحافة المكتوبة ناجي تويني من جريدة النهار فتحدث مطولاً عن حجم استفادة جريدة النهار من تقنية المعلوماتية، وخصوصاً مركز النهار للأبحاث والمعلومات الذي نقل الجريدة من نظام التوثيق اليدوي الى نظام التوثيق الإلكتروني، وإطلاق نسخة عبر الإنترنت وطبعة دولية على شبكة presspoint الموزعة على أهم المطارات والفنادق في العالم، كما أشار إلى ما تقدمه الصحيفة من خدمات سريعة عن طريق خدمات المجيب السريع على الرقم 1433 الذي يقدم العناوين وأخبار السينما والمسارح والمتاحف والطقس. كما تحدث عن الصعوبات التي واجهتها الصحيفة لإنجاز ما أنجزته وخصوصاً صعوبة تعامل بعض البرامج مع اللغة العربية، بالإضافة الى مشاكل التمويل في هذه المجالات، وتكلفة تأهيل الموارد البشرية.

وتحت عنوان: الإعلام في العصر الرقمي، تحدث ممثل جريدة السفير عن تنوع وسائل نشر المعلومات وسرعة التواصل في العصر الحالي بفضل التطور التقني، وهذا ما جعل وسائل الإعلام تدخل في منافسة شديدة لأنها أصبحت تقدم خدمات متنوعة. ثم تناول الكلمة رئيس قسم الإنترنت في وزارة الإعلام روجيه سمعان فتحدث عن الوكالة الوطنية للإعلام وما قامت به من إنجاز تمثل في نشرتين يوميتين وملحق ليليّ ونشرة صوتية، كما باشرت خدماتها عبر الأقمار الاصطناعية، كل ذلك من أجل تقديم خدمة معلوماتية سريعة ومتميزة. وفي الأخير تحدث المخرج الإعلامي في إذاعة صوت لبنان عن أهمية الوعي المعلوماتي وكيف أن غيابه في العالم الثالث يقلص من استخدام الوسائل التقنية المتطورة. ثم تليت التوصيات..

ندوة:
“ظاهرة العنف: بين الإيديولوجيا والدين”

للبحث في أسباب ظاهرة العنف التي تجتاح عدداً من المناطق في العالمين العربي والإسلامي، والملابسات السياسية والواقعية التي تغذي هذه الظاهرة، ولدراسة سبل مواجهتها ومعالجة أسبابها، نظّم معهد المعارف الحكمية للدراسات الإسلامية والفلسفية في بيروت حلقة بحثية بين 28-31 آذار (مارس) 2005م. تحت عنوان: “ظاهرة العنف: بين الإيديولوجيا والدين”، شارك فيها عدد من المفكرين والباحثين، وقد توزعت البحوث المقدمة على أربعة محاور هي:

المحور الأول: ظاهرة العنف: المفهوم والملابسات التاريخية.

المحور الثاني: العنف بين التربية والاجتماع.

المحور الثالث: العنف بين الإيديولوجيا والدين.

المحور الرابع: المسلمون والعنف.

في المحور الأول تحدث الشيخ شفيق جرادة مدير معهد المعارف الحكمية عن “العنف: المفهوم والملابسات التاريخية” فأشار في البداية إلى الصراع الذي نشب مبكراً بين آدم وإبليس ثم الصراع بين ابني آدم والذي نجم عنه أول استخدام للعنف وسفك للدم البشري، ثم بداية تشكل العصبيات والحدود الجغرافية والسياسية التي جعلت بعض التجمعات الإنسانية تتقوقع داخل خصوصياتها وتفكر في معاداة الآخر الغريب وإلغائه، ومن ثم برز العنف كآلية تستخدم لتحقيق رؤية خاصة أو فرض إرادة معينة. كما أشار إلى أن الصراع قد يحمل عناوين متعددة مثل: التدافع، الفتنة، الابتلاء. مؤكداً على كون العنف أمراً نفسياً يتأثر بالخارج. أما بخصوص رؤية القرآن لظاهرة العنف فقد أكد الشيخ شفيق جرادة أن القرآن اعترف بالعنف كقيمة يمكن أن نحكم عليها بالسلبية والإيجابية، لكنه ربطها بأمور خارجية عنها منها: الدفاع عن المظلومية والعمل على رد جميع أصناف الظلم، وحفظ الهوية الدينية في إطار التدافع لتثبيث هوية التوحيد، إعلان الولاء المطلق لأرادة وأمر الله سبحانه وتعالى. أما الوجوه السلبية فتتمثل في كل أمر صادر عن بغي وتجنٍّ وظلم أو التزام بمثال حياتي منخفض يفرق بين الناس ويوقع بينهم الفتنة والعداوة والبغضاء..

المحور الثاني وتحت عنوان: “العنف بين التربية والاجتماع” قدم د. طلال عتريسيي (مدير معهد العلوم الاجتماعية) ورقة بعنوان: “العنف: منظور اجتماعي وتربوي”، فأشار إلى أن الرغبة في القضاء على ظاهرة العنف وتجفيف منابعها قد تحولت اليوم إلى مشاريع واستراتيجيات عسكرية وتنموية واتفاقات بين دول كبرى بدأت تتحكم في تغيير أنظمة سياسية وتربوية ودينية، ترى أنها تقف وراء تنامي هذه الظاهرة. أما بخصوص ظاهرة العنف فقد أشار الباحث إلى التفسيرات التقليدية التي تتحدث عن ثلاثة مصادر للعنف هي: أصالته في الطبيعة الإنسانية، التربية الأسرية والحياة العائلية التي نعيشها في رحلة أساسية من أعمارنا، والمحيط الاجتماعي بمكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. كما أكد صعوبة دراسة ظاهرة العنف في العصر الحالي لوجود أسباب جديدة للعنف فالمجتمعات الحديثة تعاني من عنف العزلة والانقطاع الإنساني وعنف السيطرة والتضليل أو حتى خدش الحياء الذي تمارسه وسائل الإعلام من دون انقطاع، وعنف تهميش الآخر الإرادي أو اللاإرادي، بالإضافة إلى العنف المباشر الذي يزداد اتساعاً وتنوعاً وتمارسه دول كبرى بتقنيات حديثة شديدة التطور لا تستطيع الدول الصغرى إنتاجها أو الحصول عليها، وخلص الباحث إلى أن العنف الذي يتبرأ منه الجميع موجود في كل مكان..

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها البروفسور عدنان حب الله رئيس المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية عن: “العنف من الفردي إلى الجماعي” فتساءل في البداية هل كلما تطور الإنسان المادي بدا أكثر عنفاً من ذي قبل؟ أم الدوافع لقتل الإنسان بقيت كما هي ولكن الوسائل التي يستعملها أصبحت أكثر دماراً وشمولية..؟ وفي رده على سؤال: لماذا العنف؟ استعرض البروفسور حب الله مجموعة من النظريات التي تفسر هذه الظاهرة عند الإنسان، منها ما يفسرها بتمازج ما بين الفكري والغريزي، ومنهم من يبرز العامل الجيني بأن جنوح الإنسان الهائل إلى التدمير موجود أساساً في تركيبته البيوسوسيولوجية. أما بعض السوسيولوجيين، فإنهم يرفضون هذه المقولات ويعتبرون أن العنف ناجم عن سوء التربية وتهذيب النفس عن طريق الترويض، كما تحدث مطولاً عن نظرية فرويد في تفسير أسباب العنف لدى الإنسان. أما فيما يخص علاقة العنف مع السلطة فيرى الباحث أن التحليل النفسي يكشف عدم وجود علاقة لها مع ما يسمى حيواني أو بيولوجي، كما لا علاقة لها مع التربية والأجواء البيئية، فهي تقوم وتنبع من ذاتية تأخذ منحى المزيد من المتعة توفرها السلطة في أشكال متنوعة...

وتحت عنوان المحور الثالث: “العنف بين الإيديولوجيا والدين”، تحدث الشيخ فيصل مولوي أمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان عن “الإسلام والعنف” فعرف في البداية العنف وأنواعه، ثم شرع في الحديث عن موقف الإسلام من العنف من خلال فهم مجموعة من الأحكام الشرعية التي قد يساء فهمها، من هذه الأحكام: العنف الابتدائي وهو مرفوض في الإسلام سواء كان تجاه مسلم أو غير مسلم، لأنه يتعارض مع القيم الإنسانية والدينية التي تحث على التعارف والتعايش والتآخي. العنف المقابل: وهو رد فعل على عنف سابق وهو مشروع دون زيادة، لكن العفو أفضل. ومن أنواعه عنف الدولة ضد رعاياها عن طريق نظام العقوبات، وهذا العنف مشروع من حيث المبدأ أما حين يتحول العنف إلى استبداد ومصادرة حقوق الناس وقمع الحريات فهذا العنف يكون محرماً وغير شرعي. وهناك العنف الأسري وبعضه مبرر في حدود شرعية ضيقة جداً، وكذلك العنف بسبب النهي عن المنكر وهذا القسم من ممارسة العنف له ضوابطه الشرعية كذلك، وقد تحدث عنها الباحث بالتفصيل، كما تحدث عن شروط المعارضة السياسية المسلحة وهل يعتبر الخروج على الحاكم الظالم أو المرتد جهاداً في سبيل الله، ثم انتقل إلى الحديث عن العنف في الجهاد وشروطه، حيث خلص إلى أن القتال المشروع في الإسلام لا يكون إلا ضد العدو الخارجي، أما القتال داخل المجتمع الإسلامي من باب النهي عن المنكر، فإن الباحث يؤيد الرأي الذي يمنع هذا النوع من القتال...

ثم تحدث بعده الدكتور عبد الله حلاق عن: “المسلمون بين عنف الأنظمة وعنف الاستكبار” فأشار في البداية إلى حجم التحريض الإعلامي الغربي ضد الصحوة الإسلامية مما أوجد مناخاً متوتراً بين الأنظمة السياسية في العالمين العربي والإسلامي وتيارات الصحوة ورجالاتها، دفع البعض منهم إلى استخدام العنف في مقابل العنف الذي تعرضوا له، وهذا الواقع المتوتر والمغذي للعنف لا يستفيد منه إلا الغرب الاستعماري الذي يعمل على إبقاء حالة التشرذم التي تعيشها الأمة لاستمرار حالة الهيمنة الاستعمارية..

المحور الرابع والأخير تحدث فيه د. وليد جرادي عن “المسلمون والعنف” فأشار في البداية إلى وضع المسلمين بين عنف الأنظمة وعنف الاستكبار، فالأنظمة السياسية تنظر إلى الحركات الإسلامية باعتبارها عدوها رقم واحد، لذلك اتجهت لقمعها ومنعها من ممارسة الكثير من الأنشطة، أما عنف الاستكبار العالمي فيتمثل في اتهام الإسلام السياسي بالإرهاب وشن الحملات الأمنية على أعضائها عبر العالم ومحاصرتهم. من أسباب العنف كذلك الغلو المتمثل في التكفير، وقد عالج الباحث هذه الظاهرة وأسبابها وموقف الإسلام منها، ووضع المسلمين بين التطرف العنفي الذي يمارس عليهم والعنف الذي يلجؤون إليه في إطار الدفاع عن النفس، وخلص في الأخير إلى أن العنف غير المبرر هو العنف الذي يكون في صلب عقيدة الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي تعتمد العنف السياسي سبيلاً وحيداً لتسلم السلطة وتؤمن بحتمية الصدام مع الأنظمة السياسية.

الورقة الأخيرة قدمها د. غسان طه الذي تحدث عن العنف والإرهاب والتطرف والعلاقة بين هذه المفاهيم، فأكد أن من الناحية الحقوقية يمكن للعنف أن يكون له جنبتان: إحداهما تحضى بمشروعية قانونية، وأخرى تفتقدها. غير أن الإرهاب بما هو عنف ليس له مقبولية تشرعن استخدامه. أما فيما يخص العنف أو استخدام السلاح للدفاع عن النفس وتحرير الأرض من الاحتلال، فهذا الاستخدام تبرره جميع القوانين والتشريعات لأنه من حقوق الأفراد والشعوب...

ندوة:
“تكنولوجيا المعلومات
في خدمة التنمية”

بمناسبة إطلاق موقعها الجديد على الإنترنت وبرعاية وزارة الإعلام، نظمت جمعية المبرات الخيرية في بيروت ندوة تحت عنوان “تكنولوجيا المعلومات في خدمة التنمية” حضرها عدد من الشخصيات الوزارية وعدد من عمداء الجامعة اللبنانية وأعضاء من نقابة المعلمين ورؤساء جمعيات أهلية ومدراء مؤسسات تربوية ومصرفية وفاعلين في حقلي التنمية والمعلوماتية.

افتتحت الندوة بكلمة مديرة قسم الإنترنت في جمعية المبرات السيدة آيات نور الدين التي أكدت أنه: إذا كانت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر قد قسمت العالم إلى دول متطورة وأخرى نامية، فإن الثورة التكنولوجية في نهاية القرن الماضي أحدثت فجوة وصفت بالأكثر خطورة بين شمال العالم وجنوبه، باعتبارها فجوة رقمية بين دول مشبعة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبين أخرى ليس في مقدورها حتى اليوم الوصول إلى تلك التكنولوجيا..

ثم قدمت لمحة عن القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي عقدت في جينيف في كانون الأول 2003م بهدف تجسير الهوة الرقمية القائمة بين البلدان الغنية المتمكنة من تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والبلدان النامية المفتقرة لها.. متسائلة: مع اقتراب موعد جولة تونس من القمة العالمية لمجتمع المعلومات المزمع عقدها في تشرين الثاني 2005م، هل هناك رؤية تشتمل على مشاريع وخطط عمل لتحويل لبنان إلى مجتمع معلومات؟ وأين تكمن المعوقات التي تعترض تقدم لبنان على هذا الصعيد؟ هل في الاستراتيجيات والسياسات والتشريعات والقوانين؟ أم في الاستثمارات التي يحتاجها هذا القطاع والتي تحتاج بدورها لإجراءات محفزة؟ أم تكمن في نقص الكوادر والخبرات البشرية الذي تساهم فيه هجرة الأدمغة؟

ثم قدم بعدها الوزير قرداحي ورقة بعنوان “أين لبنان من مجتمع المعلومات؟” عرّف فيها في البداية المقصود من مجتمع المعلومات، ثم عرض للخيارين اللذين يقفان أمام مصير لبنان على صعيد تكنولوجيا المعلومات والمتمثلين في: إما تبني مسار الاقتصاد الرقمي بكل ما يتطلبه من توظيف وتخطيط وفق أطر زمنية محددة، وإما تجاهل المتغيرات الجارية والامتناع عن الانخراط في مجتمع المعلومات والاقتصاد الرقمي، وبالتالي مواجهة تراجع موقع لبنان ودوره لعدة أجيال قادمة. وأكد الوزير: أن لبنان اختار أن يسلك المسار الأول لذا بات عليه إيجاد السبل والوسائل التي تمكنه من تحقيق هذا الهدف.. ثم استعرض بعض الاحصائيات التي تؤكد أن لبنان هو الثالث بين الدول العربية في معدل انتشار الإنترنت الذي يبلغ 12%..

أما على صعيد بناء القدرات فأشار إلى أنه يجري في القطاع العام تدريب دائم للموظفين، مشيراً إلى التطور المهم من حيث تضمين المناهج التعليمية للمعارف المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات، وأضاف: إن الجامعات في لبنان تخرج سنوياً حوالي 400 متخصص في علوم التكنولوجيا والاتصالات. كما أن الشراكة بين بعض الجامعات والشركات العالمية أدت إلى إنشاء مختبرات متخصصة لا تخدم لبنان فقط بل المنطقة العربية.. وبعد أن عرض المراحل التي ستلحظها القمة العالمية لمجتمع المعلومات للوصول إلى مجتمع المعلومات، أشار إلى أن لبنان هو الآن في المرحلتين الثانية والثالثة، ثم استعرض الخطوات التي بدأت بها وزارة الاتصالات لتعزيز دور هذا المجتمع وتنميته، أهمها:

1- بذل الجهود لردم الفجوة الرقمية ونشر المعرفة خاصة في المناطق النائية.

2- توفير النفاذ الشامل من خلال تخفيض كلفة خدمات الاتصالات وإيجاد خدمات حديثة مثل adsl.

3- إيجاد عقدة إنترنت وطنية وتوسيع خطوط الاتصال الدولي مما يساهم في تخفيض كلفة الإنترنت.

4- تخفيض الأسعار المتعلقة بخدمات الإنترنت، وخطوط الاتصال الدولية.

5- إيجاد القوانين المناسبة التي تشكل العنصر الأساسي في تطوير مجتمع المعلومات وتنظيمه.

ثم تحدث الدكتور طوني عيسى رئيس جمعية إنماء المعلوماتية القانونية (نيابة عن الوزير السابق الدكتور ناصر السعيدي) عن: “جهوزية لبنان الإلكترونية ومدى توظيفها في قضايا التنمية” حيث أشار الدكتور السعيدي إلى ضرورة تضافر جهود القطاعين العام والخاص من أجل تحقيق نمو متوازن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بين كافة شرائح المجتمع بهدف تقليص حالات انعدام المساواة فيما بينهم في الوصول إلى المعرفة ضمن الفضاء الرقمي الجديد، وأضاف: على الرغم من العديد من المبادرات الإيجابية تبقى النتائج لغاية اليوم غير مرضية.. أما بخصوص جهوزية لبنان الإلكترونية فقد عرض مجموعة من الإنجازات التي قامت بها وزارة الاتصالات مثل بناء شبكة اتصال حديثة ومكتملة بخطوط التخابر الثابت والمتنقل، داعياً إلى: ضرورة تخصيص المزيد من الأموال والموارد ومضاعفة الجهد من قبل القطاعين العام والخاص، لردم الفجوة الرقمية.. مشير إلى أن ما يعيق تحقيق نتائج ملموسة على صعيد جهوزية لبنان الإلكترونية يكمن في عدم وجود استراتيجية الكترونية وطنية تتصدى للمسائل المطروحة..

ثم عرض منسق برامج الأمم المتحدة للاستراتيجية الإلكترونية الوطنية الأستاذ زياد حدادة بعض ما تضمنه المشروع الوطني للإصلاح الإداري الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة للتنمية الإنمائية بالتعاون مع مكتب وزير الدولة للإصلاح الإداري.. كذلك عرض مدير مشروع بوابة لبنان للتنمية الأستاذ عمر طرابلسي لمشروع “بوابة لبنان للتنمية” الذي أطلقته مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي مع بداية العام 2004م. وأخيراً عرضت مديرة قسم الإنترنت في جمعية المبرات الخيرية موقع الجمعية على الإنترنت وهو عبارة عن شبكة من مواقع لمؤسسات الجمعية التربوية والتعليمية والدينية والرعائية..

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة