تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

صدمة الحداثة، أو ميلاد إشكالية الحداثة في الخطاب العربي والإسلامي

إدريس هاني

يعد القرن التاسع عشر الحقبة التاريخية التي شهدت ما سمي بعد ذلك بـ”صدمة الحداثة”، التي تفجرت مع الاحتلال الفرنسي لمصر (1798 - 1805)، والتي كان لها الفضل في إيقاظ سؤال علاقة “الأنا” بالآخر، بوصفه متقدماً وحديثاً. وقد كانت مصر، هي الساحة العربية الإسلامية الأولى التي شهدت أولى إرهاصات التحدي، وأولى صدمات الغرب الحديث. وهي صدمة شهدت تفاصيل ويوميات مهولة في مصر أو في عموم العالم العربي والإسلامي، الذي بدا يتساقط بعد ذلك، الواحد تلو الآخر في قبضة الاستعمار. ما جعل كل قطر من أقطاره يعيش تجربة خاصة مع هذه الصدمة. الأمر الذي أدى إلى بروز أولى ملامح إشكالية العلاقة بين الموروث الثقافي والحداثة على خلفية الإشكالية نفسها التي دارت حول “الأنا والآخر”. وحتى وإن لم تبرح هذه الإشكالية إطارها البسيط يومها، بناء على العلاقة التضايفية بين التقدم والتأخر، إلى دائرة الاستعمال الإيديولوجي والنقد الإيديولوجي، فإنها حقبة خلفت لنا ما يؤكد على أنها إرهاص تاريخي لما هو عليه التداول المعاصر للإشكالية. ففي مصر والشام، أدى واقع هذه الصدمة إلى انقسام كبير في صفوف النخب العلمية والفكرية إلى جبهتين: جبهة التيار الإصلاحي، الذي مثله كل من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي قبل أن يتبلور في صورة نظيمة مذهبية مع السيد جمال الدين الأفغاني الأسد أبادي ومحمد عبده والكواكبي وشكيب أرسلان؛ وجبهة التيار التغريبي والليبرالي، يمثلها شرذمة من السلاك على درب القطيعة التامة مع الماضي. وهو موقف موسوم بالحالة العدمية والإنكارية الشديدة لكل مظاهر الثقافة العربية والإسلامية إلى حد الدعوة إلى فصل “مصر” عن المجال العربي والإسلامي كما ذهبت دعوة سلامة موسى ومن تأثر بدعوته بعد ذلك. وقد مثل هذا التيار، أشخاص من بلاد مصر والشام، أمثال فرح أنطون ولطفي السيد وسلامة موسى وغيرهم. لم يكن التيار الأول ليرفض الحداثة أو المعاصرة، بل لقد تبنى سؤالها وناضل نضالاً مستميتاً من أجل التحديث. لكنه رفض أن يكون شرط المعاصرة، تقويض التراث. لقد حاول هؤلاء أن ينسجوا علاقة مصالحة بين الموروث الثقافي المحلي والحداثة، على أساس ما يمكننا نعته بالإرهاصات الأولى للنقد المزدوج الذي ظهرت بوادره مع الأفغاني ومحمد عبده. وما يؤكد على أنه حتى ذلك الوقت لم يكن الجدل القائم بين دعاة الاعتراف بالتراث أو الأصالة، بشرط تحريره من مظاهر التخلف، وبين دعاة الالتحاق بالغرب كما هو وبلا شرط، قد أخذ البعد الإيديولوجي النقدي كما سيعاقره الفكر العربي المعاصر. فلقد جاءت كبرى الدعوات الإصلاحية والتحديثية، سواء على مستوى الفكر السياسي أو الإداري أو الاجتماعي والثقافي من قبل هؤلاء المصلحين. ما يؤكد على أن الحركة الإصلاحية، أدركت أهمية العامل الديني، ليس فقط في إعادة تصحيح الوعي الديني والنظام التربوي لتأهيل العقل المسلم للقبول بمنطق النهضة والتقدم في الداخل فحسب، بل وأيضاً للتخفيف من حدة التناقض بين منطق الحداثة ومبادئ الفكر الديني والتعاليم الإسلامية. وقد أكدت كتابات رواد الحركة الإصلاحية، السياسية والتربوية على رسوخ هذا الحس النهضوي في مسيرة مشروع الجامعة الإسلامية. وهو الأمر الذي يحيل إلى جانب كبير من النهضة الأوربية نفسها، أعني الدور الذي نهض به رجال الدين المفكرون والمتحررون في الدفع بعجلة الإصلاح الديني(1).

لقد مثلت تجربة رفاعة الطهطاوي، المثل الأسطع على هذه الصدمة التي انعكست بشكل سافر في أشهر كتاب له: “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. فظل كتابه الأخير بمثابة وثيقة كاشفة عن تفاصيل الحياة اليومية التي كانت محط إعجاب وإثارة ودهشة بالغة عند رفاعة الطهطاوي، الذي كان قد رافق البعثة المصرية إلى أوروبا، بوصفه إماماً لا طالباً(2). وهو الأمر الذي يؤكد على ما ذكرنا آنفا؛ كون علماء الدين في المجال العربي والإسلامي، لم يكونوا خارج هذا التأثير أو غير معنيين بسؤال العصر. بل كانوا أصحاب مبادرات ومشاريع كبرى. لقد أطنب الطهطاوي في كتابه الأخير، الذي ما أراد له أن يكون أدباً للرحلات، بل شاهداً على عمق الفجوة المدنية بين غرب متقدم حديث، وعالم عربي وإسلامي متخلف. مستعرضاً شواهد من المظاهر الاجتماعية المرئية والعادات المدنية المعاشة والسلوك الحضاري الممارس؛ إلى حد الانبهار، وأحياناً الشطط في الوصف(3). لكن الطهطاوي خرج بنتيجة أخرى، لعلها ما شكل أرضية الفكر النهضوي العربي والإسلامي فيما بعد، وهو كون النهضة والحداثة والمدنية، يمكن أن تقوم على أساس من المصالحة مع الأصالة. على أن الأصالة يجب من منظور الطهطاوي، أن تخضع لحد أدنى من الإصلاح والتجديد(4). إذن، نحن إزاء بوادر لما يمكن نعته بالإصلاح الديني العربي والإسلامي، الذي تفجر مع نخبة من العلماء والإصلاحيين، الذين كان رفاعة الطهطاوي في طليعتهم.

لقد حدث هذا الجدل الواسع حول موضوع التقدم والتأخر في مفهومه العام، أي “لابدية” التقدم وإدخال مظاهر المدنية إلى البلاد العربية، والسير على منحى الإفرنجة في التقدم، كما بدا واضحاً من كلام رفاعة الطهطاوي(5). ومع ذلك لم يكن هناك استيعاب كبير لميكانيزمات التقدم والتأخر الاجتماعيين. كانت الدعوة بسيطة تأتي بصيغة “اللابد” و”الواجب”، ولكنها لم تمتلك سؤال “الكيف”. وهذا ما يفسر تأجيل الأزمة إلى حين. الأمر نفسه ينطبق على التيار الليبرالي التقليدي، الذي وقع في العدمية حتى قال عنه الكواكبي: “وأما الناشئة المتفرنجة، فلا خير فيهم لأنفسهم فضلاً عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شيئاً وذلك لأنهم لا خلاف لهم، تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت، لا يتبعون مسلكا ولا يسيرون على ناموس مطرد”(6).

لقد ظهر من خطاباته المحكومة، كنظيراتها، بإسراف كبير في مستوى الدهشة والانبهار، التي انتهت إلى ردات الفعل العدمية المذكورة، وليست الدهشة التي يفترض أن تدفع بالفكر العربي والإسلامي المعاصر إلى مزيد من الاجتهاد في استيعاب أزمته وتدارك الحلول الناجعة.

إن أهم ما يلاحظ على هذا المسار من الاشتغال النظري على موضوع العلاقة بين القديم والحديث، هو التحول الذي بدأ يطرأ على مفهوم التحديث نفسه، الذي كان هو المفهوم الطاغي على جدول أعمال أهل الفكر والإصلاح في البلاد العربية والإسلامية، منذ محمد علي باشا، وحتى قبيل نكسة حزيران. فهل هذا التحول في المنظور من مفهوم “التحديث” إلى مفهوم “الحداثة”، هل كان بدافع التطور الطبيعي للمفهوم أم أن عوامل أخرى، هي ما كان وراء هذا التحول المفاجئ برسم إشكالية “الأنا والآخر” أو “التراث والحداثة”؟

لقد كان هذا في حد ذاته محلاً للنزاع بين أقطاب الفكر العربي والإسلامي المعاصر. على أن التحول من مفهوم التحديث إلى مفهوم الحداثة، هو تحول باتجاه النظرة الشمولية التي يحملها المفهوم الأخير، أي المفهوم الذي يحمل دلالة تطال حدود الفكر والثقافة وليس مجرد البنيات والهياكل التحتية. لكن هناك من رأى في هذا التحول أمراً آخر غير بريء. فلا هو بمسألة تاريخية موضوعية، ولا هو بمتطلب عام. إنه بمعنى آخر “خديعة كبرى” تبنتها نخب معينة. هكذا يعبر، صاحب “المرايا المقعرة” - د.عبد العزيز حمودة-: “نضيف هنا أن الربط بين “الحداثة” و”التحديث”، كان هو الخديعة الكبرى التي قام بها الحداثيون العرب عندما وجهوا الرغبة الشعبية الشاملة في التحديث، بعد الهزيمة العسكرية، في اتجاه تبني الحداثة دون أن يدركوا، إذا افترضنا حسن النية أو في تجاهل متعمد، إذا افترضنا سوء النية، أن التحديث لا يعني “الحداثة” بالضرورة”(7).

ومع ذلك نقول، بأن الإشكالية مدار حديثنا، تبدو ملحقة اليوم بما يمكن أن نسميه بالنقد الإيديولوجي. فيبقى السؤال الآني هو: كيف اقتحمت الإيديولوجيا سؤال الموروث الثقافي المحلي ودائرة سؤال الحداثة والتحديث... بل كيف أصبحت هذه العلاقة نفسها بين الطرفين المتضايفين، تعكس رؤية إيديولوجية معينة؟ ذلك لأن الإحساس بهذا الجدل نفسه، هو إحساس نابع من تصور مسبق وخلفية رؤيوية حديثة، لم تفعل “صدمة الحداثة” سوى أن فجرتها وأبرزتها في الواجهة. على أن أهم سؤال يطرح الآن: كيف أصبح التراث أو الحداثة، مداراً للإيديولوجيا العربية والإسلامية المعاصرة، وكيف أصبح التراث والحداثة في خدمة الإيديولوجيا، بعد أن كان من المفترض أن تكون هذه الأخيرة في خدمتهما؟!

إن الحداثة من جهة المفهوم العام، تستدعي مقابلها التاريخي، أي الموروث الثقافي المحلي. والعكس يصح أيضاً. فالحداثة والتراث بهذا المعنى يدلان على السبق واللحوق الزمنيين. وبهذا المعنى يصبح لكل أمة تراثها وحداثتها بالفعل، أيا كانت صورة هذا السبق واللحوق الزمنيين. وبهذا المعنى يصبح لكل أمة تراثها وحداثتها بالفعل، أيا كانت صورة هذا السبق الزمني أو ذاك اللحوق الزمني. فيلزم حينئذ أن نتحدث عن تراثات وحداثات في التاريخ العربي والإسلامي. فيكون بهذا المعنى، العصر العباسي يشكل الحداثة إزاء العصر الأموي وهلم جرا. وهذا المعنى في الحقيقة لا يمثل جوهر الإشكالية مدار كلامنا، حيث تضيع المعايير ولا تستحضر الإشكالية بمضامينها الحقيقية. إن إشكاليتنا قيد الدرس، هي خارجة تخصصاً عن مفهوم التضايف الزمني، بما أنها ذات صلة بتاريخ وبنية محددتين، وإن كان للبعد الزماني حقيقته فيما هو محل نزاع. حتى التاريخ هنا لا ينبغي أن يفهم بوصفه كرونولوجيا جوفاء، بل إن الأحداث التي تترك تحولات حقيقية وإنجازات كبرى، هي وحدها ما يشكل التاريخ. فالمجتمعات التي لا تشهد هذا النوع من التحولات والأحداث الكبرى، هي مجتمعات، بالأحرى، لا تاريخ لها، وإن تعاقب عليها الزمان برسم الكرونولوجيا. فليس كل تقدم زمني، في ضوء إشكاليتنا، هو حداثة بالضرورة، أو تقدم تاريخي حتماً. فالحداثة، وإن كانت مسألة تاريخية، هي ذات مدلول بنيوي ومعياري. حيث في الزمان الواحد والمجالات المتعاصرة في الحقب، يمكننا أن نتحدث عن أمة دخلت الحداثة وأخرى لم تدخلها بعد. وحينما نقول: إنها لم تدخل الحداثة بعد، تنهال علينا جملة من التساؤلات: فهل هي يا ترى تعيش في الماضي وفي التراث؟ حسب المفهوم العام الذي ينظر إلى التاريخ مجرد سبق ولحوق كرونولوجي، يكون هذا ضرباً من المستحيل. لكن حسب المفهوم المعياري للحداثة والمفهوم الاعتباري للتراث، يكون ذلك أمراً ممكناً. فليست الأمم هي من يذهب ليقيم في الماضي، بل هي من يستدعي ماضيها عبر هذا التراث الذي يحضر في حاضرها ويشكل لديها سلطة معيارية. إن التراث لا يموت بالتقادم، بل قد يمتد فينا، في وعينا وفي مؤسساتنا وهياكلنا. وقد يتحول إلى عائق للحداثة. كما أن الحداثة نفسها قد تصبح عائقاً ضد الحداثة، متى ما تحولت الحداثة إلى إيديولوجيا جوفاء كاذبة وإلى خطاب سياسوي مغرض يستهدف الاستئصال والاستئثار، ما يساعد على وضع عالمنا أمام خطر حروب أهلية لا تبقي ولا تذر. سيبقى السؤال مفتوحاً: هل أفاق العقل العربي والإسلامي من سبات صدمة الحداثة، أم أنه خرج من طور الانبهار الأعمى بمنجزاتها، إلى طور المزايدة السياسوية حول أمر لم ندخله بعد ولم نملكه، وإلى حالة من التعويض عن حالة الانبهار المرضي بالحداثة، بحالة الاستهانة والتعالي المرضي على الحداثة، كما يترجمها فعل النكران لمنجزاتها والتخريب لمشاريعها، دخولاً في عصر العماء، ذلك العماء الذي لا يعكس موقف التواسط والحكمة فيما يتعين أن يكون عليه الموقف. فما تدل عليه الوقائع هو أننا لم نخرج بعد من الصدمة أصحاء، بل خرجنا بموقف تعويضي ليس أقل مرضاً، يستدعي قيام وعي آخر، قوامه: الاعتراف بمكامن ضعفنا عسانا نتمكن يوماً ما من الخروج من صدمتنا بتصميم واعٍ واختيارات عقلانية تخدم مشروع حداثتنا العربية والإسلامية كما تخدم كرامتنا في عالم يبدو أن مستكبريه قد استرسلوا في استباحتنا بامتياز!

 

الهوامش:

(1) ثمة خطأ شائع، في قراءة عصر النهضة وظروف نشأتها في أوروبا. حيث اعتبرت النهضة الأوروبية ثورة ضد رجال الدين، في حين أن رجال الدين هم المساهم الأكبر في مسار النهضة الأوربية.وإن قراءة دقيقة تؤكد على أن أبرز رموز النهضة الأوروبية كانوا لاهوتيين.

(2) هذا مصداق لما ذكرناه قبل قليل. فرفاعة الطهطاوي هو عالم دين قبل كل شيء. وإنما كان دوره في البعثة بوصفه إماماً يؤم الصلاة ويرعى الشؤون الدينية للبعثة. يقول خير الدين الزركلي في موسوعة الإعلام: “رفاعة رافع بن بدوي بن علي الطهطاوي (1216-1290هـ/1801-1873م)، يتصل نسبة بالحسين السبط (...) وهو من أركان نهضة مصر العلمية في العصر الحديث [...] وأرسلته الحكومة المصرية إماماً للصلاة والوعظ مع بعثة من الشبان أوفدتهم إلى أوربة لتلقي العلوم الحديثة...”، علي أحمد كنعان، تقديم “الديوان النفيس في إيوان باريس” برفاعة الطهطاوي، ص 16 ط1-2002، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت.

(3) لقد شط الطهطاوي في وصفه لأحوال المدنية الفرنسية حتى أوقع نفسه في ضرب من التصنيف العنصري. وذلك حينما يقول مثلاً: “فأين هذه الأوض [جمع أوضة] بما احتوت عليه من اللطائف من أوضنا التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق الدخان من يد خادم في الغالب أسود اللون”. أقول: لا أجد للطهطاوي مبررا لهذا الخطأ، إذ لا مبرر لكل ما هو عنصري.

انظر: “تلخيص الإبريز في تلخيص باريز” ص131 المصدر السابق نفسه.

(4) وهذا ما يتضح من وصفه لأحوال المدنية والعمران الأوروبي، لا سيما الفرنسي منه. فهو يرى أن العرب أولى بهذه الآداب وتلك الفنون من هؤلاء. وهذا في حد ذاته جوهر دعوته الإصلاحية.

(5) لا سيما في الصنائع والفنون التي أعجب بها أيما إعجاب في بلاد الإفرنجة.

(6) عبد الرحمن الكواكبي، أم القرى، ص134، ط5-1996م دار الشرق العربي-حلب-سورية.

(7) د.عبد العزيز حمودة، المرايا المقعرة، ص29 سبق ذكر المصدر.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة