تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

هاملتون جيب والاتجاهات الحديثة في الإسلام

زكي الميلاد

ـ 1 ـ

 الإسلاميات المعاصرة ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية

ما إن يُذكر هاملتون جيب (1895 - 1971م) إلا وتصاحبه أوصاف الثناء والتبجيل بصورة تلفت الانتباه بقوة لاسمه، ولطبيعة دوره المعرفي، وتميز هذا الدور في مجال الدراسات الإسلامية والمعارف الاستشراقية. والشهرة الفائقة التي اكتسبها جيب جعلت منه شخصية مؤثرة في العالم الإسلامي، ومهابة في العالم الغربي، ومحورية في حقل الدراسات الإسلامية هناك.

ومعظم الذين تطرقوا إليه أبرزوا مثل هذه الأوصاف، وما يفوقها أيضاً. فحين يتحدث الدكتور ميشال جحا عن الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، في كتابه الذي يحمل هذا العنوان، ويصل إلى هاملتون جيب، يقول عنه: لعله أبرز مستشرق بريطاني في القرن العشرين، ويعدّ من أعلام المستشرقين. ومن القلائل في نظر ميشال جحا الذين يتمتعون بشهرة واسعة في جميع أنحاء العالم، بسبب الأضواء التي سلطها على كل ناحية من نواحي الدراسات العربية والإسلامية، وخاصة في ميدان الأدب والدين والشريعة والتاريخ(1).

ويرى عبد المجيد القيسي مترجم كتابه (المجتمع الإسلامي والغرب) أنه أشهر مستشرق بريطاني ظهر حتى اليوم. وهذا الكتاب أصدره جيب بالاشتراك مع هارولد بوين.

وأما إدوارد سعيد، صاحب الخطاب النقدي الصارم للاستشراق، والذي أزعج المستشرقين بهذا الخطاب، وكره عليهم حمل هذه الصفة، يرى في كتابه الذائع الصيت (الاستشراق) أن جيب يمثل أعظم اسم في الدراسات الإسلامية في العالم الأنجلو - أمريكي.

وهذا يكشف عن مستوى التأثير الذي تركه جيب، ومستوى المعرفة التي وصل إليها، وعبّر من خلالها، وساهم في إنتاجها.

ويعد كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) أحد أشهر مؤلفاته، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق في مجاله. ويأتي هذا الكتاب في سياق اهتمامات جيب بدراسة وتحليل مسارات الفكر الإسلامي، وطبيعة اتجاهات التطور المنبعثة في داخله، وأثر الأفكار الغربية على هذه المسارات، وإلى أين يمضي وما هي مستقبلياته! ويتصل بهذا الاهتمام الكتاب الذي ساهم فيه، وأشرف على صدوره من قبل، وهو بعنوان (إلى أين يمضي الإسلام؟) وفي ترجمة أخرى (الإسلام إلى أين؟) وأُخذ هذا العنوان من المادة التي شارك بها جيب في تحرير هذا الكتاب الصادر عام 1932م.

وفي هذا النطاق أيضاً يأتي كتابه (المجتمع الإسلامي والغرب) الذي أصدره عام 1950م، بالتعاون مع هارولد بوين، حين عُهد إليهما بدراسة تأثير الأفكار الغربية على تركيا والبلدان العربية التابعة لها، منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وهكذا بعض مؤلفاته الأخرى المصنفة على مجال الدراسات الإسلامية، مثل كتاب (بنية الفكر الديني في الإسلام) الصادر عام 1948م، وكتاب (الإسلام مسح تاريخي) الصادر عام 1949م، إلى كتابه (دراسات حول الحضارة الإسلامية) الصادر عام 1962م.

وكتاب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) هو في الأصل المحاضرات التي ألقاها جيب في مؤسسة هاسكل لدراسة الأديان المقارنة، عام 1945م، في إطار برنامج المحاضرات الذي كان يقام في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية كل سنتين. ويخصص هذا البرنامج في العادة لدراسة أبعاد واتجاهات معينة في الديانات، وطبيعة العلاقات التي يمكن أن تحدث بين الديانات المختلفة. ولعل المحاضرات التي سبقت جيب في الحديث عن الإسلام، هي المحاضرات التي ألقاها المستشرق الأسكتلندي دانكان بلاك ماكدونالد عام 1906م، وهو الذي اعتبره المستشرق يوهان فوك في كتابه (تاريخ حركة الاستشراق) بأنه أول ممثل مهم للدراسات العربية والإسلامية في أمريكا.

وهذا ما حاول أن يذكّر به جيب وهو يقدم لمحاضراته، ويلفت النظر لأهمية تلك المحاضرات التي ألقاها ماكدونالد قبله، ونشرت فيما بعد في كتاب صدر عام 1909 بعنوان (الموقف الديني والحياة في الإسلام). والذي اعتبره جيب بأنه ما من كتاب آخر مثله استطاع أن يكشف بكل هذا الوضوح والتفهّم الديني العميق، وسعة الإدراك عن مصادر الحياة الروحية لدى الطائفة الإسلامية، وبما رافقتها من شعور بالأمور غير المنظورة، وحسها لما هو فوق الطبيعة، ولأنظمتها التقشفية، ورسالتها الغيبية، وهواجسها وطهارتها الأصيلة(2).

وقد أراد جيب من محاضراته أن تبدأ من حيث انتهى إليه ماكدونالد في محاضراته التي اختتمها مذكراً بالموضوعات ذات الفائدة الأكيدة حسب وصف ماكدونالد، والتي ينبغي أن يتوجه إليها في نظره اهتمام الدارسين الغربيين، ويطيلون في دراستها.

والموضوع الثالث من بين هذه الموضوعات، هو الذي استوقف انتباه جيب، ويتعلق بالمواقف الدينية وحركات الشعوب الإسلامية. فهذا الموضوع في نظر جيب هو الذي وقع عليه أقل قدر من الدراسة والاهتمام بعد أربعين سنة مضت على محاضرات ماكدونالد، ولم يسجل أي تقدم في هذا الاتجاه. وهذا من غير المعقول حسب رأي جيب، لأنه يحصل في الوقت الذي يكون فيه العالم الإسلامي على اتصال أكثر من أي وقت مضى بالبلدان الغربية.

ومع كثرة المؤلفات التي تصدر كل عام في أوروبا وأمريكا عن المجتمعات الإسلامية، إلا أن معظم هذه المؤلفات في نظر جيب، لا تلبي سوى القليل من حاجة أولئك الذين يدرسون في الغرب الأوجه الدينية الخاصة بالثقافة الإسلامية المعاصرة. وهذا الموضوع الثالث الذي شرح جيب أهميته، ومدى نقص التطور الحاصل في مجاله، هو الذي اختاره لمحاضراته، مقتفياً أثر ماكدونالد، وسائراً في ركبه، ومتمماً لأطروحاته واتجاهاته، وهي المحاضرات التي صدرت في كتاب عام 1947م بعنوان (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) وبعنوان أقل شهرة هو (دعوة تجديد الإسلام).

ومنذ البداية أشار جيب إلى قلة المعلومات وعدم استيفائها في الغرب حول المسائل الدينية الإسلامية المعاصرة، وأكثر هذه المعلومات استيفاء ظهرت في أعداد مجلة (العالم الإسلامي) الفصلية منذ عام 1910م، إلا أن وجهة النظر التبشيرية لهذه المجلة حسب رأي جيب، قللت من أهمية تلك المعلومات.

وأما المجلات الدورية غير الصادرة عن المبشرين والمخصصة للشرق، فليس لديها الكثير من المعلومات حول المسائل الدينية المعاصرة بشكل عام، ويستثني جيب من ذلك مجلة (العالم الإسلامي) التي صدرت في باريس من عام 1906م إلى عام 1926م، وكذلك مجلة الدراسات الإسلامية التي صدرت بعدها بإشراف لويس ماسينيون.

وأما الكتب المخصصة فعلاً لدراسة الحركات الهامة في الإسلام، فلم يصدر منها -حسب رأي جيب- طيلة الأعوام الخمسة والعشرين الماضية آنذاك سوى كتابين، الأول من تأليف شارل آدمز الأستاذ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والمنشور عام 1933م بعنوان (الإسلام والتجديد في مصر)، وفي ترجمة ثانية بعنوان (الإسلام والروح العصرية في مصر)، والثاني من تأليف الكندي ولفرد كنتول سميث، والمنشور عام 1943م بعنوان (الإسلام المعاصر في الهند).

ولتفادي هذا النقص كما يقول جيب، كان لابد من العودة إلى مؤلفات المسلمين أنفسهم في هذا المجال، والنظر في التفسيرات التي يطرحونها، والتعرف على طبيعة ثورتهم الثقافية التي كانوا يعيشونها، وفيما إذا كانت هذه الثورة قد فعلت فعلها في تفكيرهم حول المسائل الدينية.

والذي يشجع على مثل هذه العودة إلى مؤلفات المسلمين حسب رؤية جيب، كون الموضوع المعالج في هذا الكتاب يتعلق بأسس التفكير الإسلامي، والطريقة التي عبر بها المؤلفون المسلمون عن أفكارهم. ويعتقد جيب أنه لولا هذه المؤلفات لكانت مهمته هذه مستحيلة.

مع ذلك فإن جيب يشكك في قيمة هذه المؤلفات، ويقلل من أهميتها، ويعتبر أن من العبث ما سعى إليه الكثيرون حسب قوله، إلى إيجاد تحليلات منتظمة حول التيارات الفكرية السائدة في العالم الإسلامي؛ لأن جميع المؤلفات في نظره، التي كتبت عن الإسلام من وضع مؤلفين مسلمين باللغة الفرنسية والإنجليزية، كانت بمثابة دفاع عن الدين؛ لأن كتابها هدفوا إلى تعزيز الدين والبرهنة على ما يحسبونه منطبقاً على الفكر العصري.

والنتيجة التي يخلص إليها جيب أن من العسير وضع تصميم واضح لتطور التفكير الإسلامي المعاصر عن طريق الاعتماد على تلك المؤلفات. ويريد جيب أن يتوصل من هذه الملاحظة إلى ضرورة إضافة ما يسميه بتجربة الباحث نفسه التي تمتزج فيها كفاءاته الشخصية، بمنهجه في البحث. وكأن جيب من هذه الملاحظة يريد أن يلفت النظر إلى طبيعة تجربته الخاصة كباحث كان على تواصل واحتكاك وانخراط مع المسلمين وتجاربهم الفكرية، فهو قد ولد في الإسكندرية، وعاش بين المصريين، وعيّن عضواً في المجمع اللغوي بالقاهرة عام 1933م، وفي المجمع العلمي كذلك بدمشق، وقام بزيارات لعدد من الدول العربية مثل لبنان وسوريا وفلسطين ودول المغرب العربي.

وحتى لا يظهر جيب بمظهر المبالغ لتجربته فإنه يشير إلى أن هذه المحاولة لن تكون في مأمن من الأخطار والأخطاء المرتبطة بالتجربة المحدودة التي يرتكز عليها هذا التصميم.

ـ 2 ـ
الفكر الإسلامي والنزعة التجزيئية

من أكثر المفاهيم التي أثارت جدلاً في كتاب جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) مفهوم النزعة التجزيئية، أو نزعة التجزئة، أو النزعة إلى التجزئة، أو التفكير التجزيئي، أو النزعة الذرية، أو الطبيعة الذرية، أو الروح الذرية، أو الخيال الذري، على اختلاف التسميات التي استعملها جيب نفسه، أو غيره من الذين تطرقوا إلى هذا المفهوم في كتابه مثل الفرنسي برنار فرنييه، وهو يقدم الطبعة الفرنسية للكتاب.

ويشكل هذا المفهوم نموذجاً تفسيرياً ومحورياً في تحليلات جيب لأسس التفكير الإسلامي، وفي نقد بنية وتكوين العقل الإسلامي. وقد ظل جيب يرجع إلى هذا المفهوم، ويستند إليه باستمرار، مذكراً به تارة، وكاشفاً عنه تارة ثانية، ومبرهناً عليه تارة ثالثة.

وفي أول موضوع له، تحدث فيه جيب عن أسس التفكير الإسلامي، وهو من أكثر الموضوعات حساسية في كتابه، حاول تطبيق هذا المفهوم، وارتكز عليه بصورة رئيسية، في محاولة منه لتكوين رؤية كلية وعامة حول بنية التفكير الإسلامي.

فقد اعتبر جيب أن مصدر الحياة الذهنية لدى العرب، وكذلك لدى الشعوب الأخرى، ولعله يقصد الشعوب الإسلامية كما يفهم من سياق الكلام، هو الخيال الذي يعبر عنه بالإبداع الفني. ويرى جيب أن جميع الشعوب التي يتسع لديها زخم الخيال تحتاج لغرض أو اتجاه سهل الإدراك، ويقوم بهذه المهمة في نظره، واحدة من قوتين: الحدس الديني، أو التفكير العقلاني. وأنه لا يسمح لنفسه بالقول كما يدعي، بأن وجود هذا الجانب ينفي وجود الآخر، إلا أن التجربة تدل عنده أن الأشخاص أو المجتمعات تميل إلى أحد هذين الجانبين، وذلك بعد تجاوز بعض المواهب التي تخرج عن إطار المألوف. ومع أنه لا يهدف كما يقول، لفصل الدين عن التفكير العقلاني، إلا أن الحياة الحدسية إنما يقوم عليها في نظره، الدين، أو الحافز الشخصي البحت، أما بالنسبة للحياة العقلية فلا يشكل الدين سوى أحد أغراضها.

لقد كشف جيب ما يريد أن يقرره، وما يريد أن ينتهي إليه، فهذا الفرز والتحديد بين الحدس الديني والتفكير العقلاني، هو بقصد إظهار التباين والمفاضلة بين مجتمعات العالم الإسلامي المحكومة بالحدس الديني، ومجتمعات العالم الغربي المحكومة بالتفكير العقلاني، وتحديد وجهة هذه المجتمعات الإسلامية، وطبيعة القوى الذاتية المحركة لها.

وباعتبار أن التقريرات جاهزة سلفاً عند جيب، فليس له أن يتساءل كما يقول، عن أي قطب من هذين القطبين -الحدس الديني أو التفكير العقلاني- يجتذب العقلية العربية ويحركها تحريكاً أوليًّا؛ لأنه على علم بوعي هذه العقلية، للعالم غير المنظور، وكذلك تأثير القرآن الحافز إليها، فضلاً عن الطبيعة البسيطة الملموسة -كما يضيف جيب- للأفكار التي وردت في القرآن، والتي تنطبق في الحال على الطبيعة البسيطة المحسوسة للحياة العربية المأخوذة بالخيال.

وهنا يقترب جيب من مفهوم النزعة التجزيئية أو الذرية القائم على الحدس الديني وذهنية الخيال حين يقرر حكمه بالقول: (والذهنية العربية إن تطلعت إلى العالم الخارجي، أو العمليات الذهنية، فلا يمكنها أن تتحرر من هذا الميل إلى مواجهة الحوادث الملموسة، كلا منها على حدة بصورة فردية. وهذا في رأيي أحد العوامل الرئيسية لانعدام روح القانون لدى العرب، والذي اعتبره البروفسور ماكدونالد الطبيعة المميزة عند الشرقي)(3).

وهذا ما يفسر عنده نفور المسلمين من مناهج التفكير العقلاني، النفور الذي يصعب -حسب قوله- على المستشرقين الغربيين إدراكه. كما يعني عنده أن العرب والمسلمين عامة كانوا مكرهين على تجنب المفاهيم الشاملة المجردة أو المسلَّم بها قبل التجربة كقانون الطبيعة مثلاً، أو مبدأ العدالة المثلى.

وأمام هذا النص توقف إدوارد سعيد ووصفه في جملة معبرة ومحملة بالدلالات قائلاً: (هذا استشراق صافٍ) وهو كذلك فعلاً، ولعل هذه العبارة هي أبلغ ما يمكن قوله لمن يريد أن يمعن النظر فيها.

ويتجلى هذا الاستشراق الصافي حين يعمد جيب إلى تصوير النزاع الممتد بين المسلمين والأوروبيين منذ عهد المسلمين بالفلسفة الإغريقية حيث نشب النزاع لأول مرة حسب ادِّعاء جيب، إلى عصر اتصال المسلمين بالفكر الأوروبي الحديث، على أساس النزاع بين المذهب العقلي والتفكير الحدسي.

ولا شك أن النزاع الذي يمتد على أساس هذه المدة الطويلة للتاريخ، ليس وراءه قصد سوى تكريس الفروقات والتمايزات بين الشرق والغرب، على قاعدة تضاد الطبيعة بين العالمين. بمعنى إظهار الشرق على أنه عالم مختلف عن الغرب، وهذا هو الاستشراق الصافي. فرفض مناهج البحث العقلية الأوروبية، والأخلاق النفعية الحديثة، ليس مرده عند جيب إلى ما يسمى حسب قوله بتعمية الشعب عن الثقافة من جانب فقهاء الإسلام، بل إنه نتيجة لذرية الخيال العربي، والطريقة التي يواجه بها الأشياء منفصلة عن بعضها بعضاً.

ولم ينته جيب عند هذا الحد، فقد أسرف في تطبيق النزعة التجزيئية أو الذرية على ميادين متعددة في المجال الإسلامي. وهذا يصور مدى ثقته الشديدة بهذا المفهوم، وتمسكه به، واعتماده كنموذج تفسيري محوري في منهجيته، إلى درجة أن برنار فرنييه يرى أن هذا المفهوم يمثل تفكير جيب بالنسبة لأفكار المسلمين التي تتبع نهجاً كما يضيف، أقرب إلى أن يكون غير متلاحم، من أن يكون لحمة متلاحمة تتداخل فيه جميع أجزائه(4).

ففي ميدان الفقه يرى جيب أن مقدرة الخيال ذاتها تدخل في تكوين المذهب الفقهي، وفي تطبيقاته الاجتماعية، وفي ميدان العقيدة يرى أن الميل الفطري إلى العقلانية الحدسية فتح الطريق لنشوء ديانة صوفية من نوع خاص إلى جانب المبادئ السنية، وفي الميدان السياسي يرى أن موقف العلماء المأخوذ من ذرية التفكير الإسلامي حال دون تمكين مفكري الإسلام من وضع مذهب سياسي عملي ومنظم.

وحين يخرج جيب عن المجال الإسلامي الداخلي، ناظراً إلى تأثيرات تلك النزعة على المجال الخارجي، يرى أن بسبب تلك النزعة حصل تقارب وصفه بالشديد، مع التيارات الرومانطيقية التي عرفها التفكير الأوروبي. وهذا ما يفسر في نظره السرعة التي انتشرت فيها الاتجاهات الرومانطيقية في صفوف المثقفين المسلمين، وذلك انطلاقاً من قاعدة عامة حددها بقوله: تقتضي حين التقاء حضارتين أن يحدث بينهما تفاعل فكري، تنجذب فيه العناصر المتجولة في الحضارة الأولى بما يتفق في الحضارة الثانية، وطابع تفكيرها، في حين تهمل على العموم أو ترفض ما تجده عسير الفهم.

والخلاصة أن النزعة الذرية في تعريف جيب هي الافتقار إلى روح التركيب الموحد، والتي تقاوم الأبنية الفكرية، ورفض العقلانية.

وقد كشفت هذه النزعة وشدتها وقوتها الأثر الذي تركه ماكدونالد على جيب، الأثر الذي لم يخفه جيب نفسه حين أشار إلى اسم ماكدونالد في أول حديث له عن هذه النزعة، وهو من سبقه في الحديث عنها، وإليه رجع جيب في الحديث عنها كذلك.

وبذات الوضوح تحدث ماكدونالد عن هذه النزعة في كتابه (الموقف الديني والحياة في الإسلام) الكتاب الذي سبق أن عبّر جيب عن إعجابه به، واعتبره إدوارد سعيد الكتاب الأعمق تأثيراً، حيث خصّص ماكدونالد الفصل الأول بأكمله تقريباً لربط العقل الشرقي بتلك النزعة. فمنذ البداية يقول: (إنه لمن الواضح في اعتقادي، والمعترف به أن تصور اللامرئي أكثر فورية وحقيقية بالنسبة للشرقيين منه للغربيين... وأن الفرق الجوهري في العقل الشرقي ليس سذاجة التصديق للأشياء اللامرئية، بل عدم القدرة على بناء نظام يتعلق بالأشياء المرئية)(5). وبتحديد أكثر وضوحاً في الفرق بين الشرق والغرب، يقول ماكدونالد إن (انعدام القدرة إذن، على رؤية الحياة بثبات، ورؤيتها كلاًّ كاملاً، وعلى إدراك أن أي نظرية للحياة ينبغي أن تغطي الحقائق كلها، وكونهم عرضة لأن تجرفهم فكرة واحدة فردة، ويعموا عن كل شيء آخر، هنا في اعتقادي يكمن الفرق بين الشرق والغرب)(6).

وجيب الذي ظل يشكك في القيمة المعرفية لنتاجات المبشرين، تغافل عن هذا العنصر في شخصية ماكدونالد وعطاءاته، وهو العنصر الذي كشف عنه يوهان فوك في كتابه (تاريخ حركة الاستشراق) حيث أشار إلى طبيعة نشاطه التبشيري وقال عنه: إنه (درّس اللغات السامية في حلقة اللاهوت بمدينة هارتفورد منذ العام 1892، وذلك إلى جانب العبرية وتفسير التوراة، واللغة العربية بشكل أخص لأهميتها بالنسبة لعمله التبشيري المسيحي في الشرق. وقد شارك مشاركة نوعية في تأسيس مدرسة تبشيرية خاصة وهي مدرسة كندي للتبشير سنة 1911 في هارتفورد، كما أشرف على إدارة القسم الإسلامي سنين طويلة. ولأغراض التبشير ألّف كمدخل له كتابه (سمات الإسلام) عام 1911، و(كيفية تقديم المسيحية إلى المسلمين) عام 1916. كذلك فإنه عمل ناشراً في دورية (العالم الإسلامي) التي قام بتأسيسها صموئيل زويمر خلال (1867 - 1952). ولم يكن خلال عمله أحاديَّ العطاء ولا ملولاً، بل لقد وجد في محاولة تغيير الشعب الذي عاش بين ظهرانيه وفُرض عليه حبُّ نمط حياته، وجد ذلك تناقضاً في حياة المبشر)(7).

أما اتجاهات النقد لتلك النزعة التجزيئية التي أفرط جيب في الحديث عنها فيمكن الإشارة إلى ثلاثة مصادر نقدية، تنتمي إلى معارف وخبرات ومنهجيات متعددة ومختلفة. فهناك مصدر أشار إليه الفرنسي برنار فرنييه في تقديمه للطبعة الفرنسية لكتاب جيب، وينتمي هذا المصدر إلى فضاء المعارف والخبرات والمنهجيات الغربية. فبعد أن حاول فرنييه تحديد ما هو المقصود من مفهوم نزعة التجزئة، التي تتمثل عنده في عزل مفاهيم الفكر بعضها عن بعض، فضلاً عن العوامل الطبيعية، والأحداث التاريخية أيضاً، والتمتع بنوع من التنقيط المجزأ. بعد هذا التحديد يشير فرنييه إلى أن البعض يأخذ على السيد جيب، كما فعل م. ج. ليفي دلافيدا أنه شارف على الوقوع في تفسير عنصري، ومن قبل أبدى رينان وروفيه ملاحظات متشابهة عن منهج التفكير السامي(8).

وهناك مصدر آخر أشار إليه مالك بن نبي في مدخل كتابه (وجهة العالم الإسلامي) وينتمي هذا المصدر إلى فضاء المعارف والخبرات والمنهجيات الإسلامية. فإن ابن نبي لا يعتقد كما يقول بأن صفة الذرية هي خاصة فطرية من خواص الفكر العربي، على ما أكده المستشرق الإنجليزي المحترم، حسب عبارة ابن نبي، بل هي طراز من طرز العقل الإنساني عامة، عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من التطور والنضج، أو عندما يفوتها. وبعبارة أدق كما يقول ابن نبي يقع العقل المعمم في التطور التاريخي بين مرحلتين من مراحل الذرية. فالفكر غالباً ما يكون ذريًّا في خطواته الأولى، كما كانت الحال في أوروبا قبل ديكارت، وكما صارت إليه الحال بعد عصر ابن خلدون في العالم الإسلامي، عندما توقف كل جهد عقلي.

ويضيف ابن نبي أن التراث الثقافي الخطير على حد وصفه، الذي خلفته الحضارة الإسلامية للحضارة الحديثة، يظل شاهداً على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية، فلقد اتسم كفاحه في مجالاته كافة بالإحساس بالقانون، وهو يستلزم القدرة على التركيب، فوضعت النظريات القانونية وبناها الفقهاء على قواعد الأصول. وهكذا نجد التشريع الإسلامي يحمل للمرة الأولى في تاريخ التشريع طابع نظام فلسفي يقوم على مبادئ أساسية، بينما لا يعدو القانون الروماني أن يكون مجموعة من الملفقات القانونية العفوية، ليس بينها رباط عقلي. وما حققه العلامة ابن خلدون الذي يرجع إليه الفضل في استنباط قوانين التاريخ وعلاقاتها بأوجه نشاط المجتمعات، وهذا دليل على أن الفكر العربي كان يحمل حاسة القانون وذوقه(9).

وفي عام 1964م، أي بعد ما يزيد على عشر سنوات، عاد مالك بن نبي مرة أخرى لتلك الفكرة، لكن بطريقة مخففة من النقد، ومعدّلة بشكل يمكن توظيفها نقدياً في النطاق الإسلامي. فقد اعتبر ابن نبي أن هناك أساساً من الصحة للاتهام الذي وجهه الأستاذ جيب حين وصف الفكر الإسلامي بالذرية، ولكن مع احتراز معين، إذ يجب ألا توجه هذه التهمة في نظر ابن نبي ضد الفكر الإسلامي ذاته، ولكن ضد تفكير مسلم القرن العشرين، هذا في جانب النقد.

أما جانب التوظيف فيرى ابن نبي أن مع التمسك بذلك الاحتراز، فإن النزعة الذرية تمثل معياراً ذا قيمة من جهة الدراسة المتعلقة بعلم الاجتماع للبلدان الإسلامية الراهنة. فتلك النزعة في نظره تفسر عدداً من مشاكل هذه البلدان، وخاصة مشكلة التكديس، حيث نعتقد أننا نبني حين نقوم بالتكديس. فالذرية التي يعني بها ابن نبي صعوبة أو استحالة إقامة بنية عقلية، إنما تمثل في تصوره الانعكاس البسيط لافتقار عالمنا النفسي لبعد معين، هو بعد الفكرة(10).

أما المصدر الثالث في النقد فقد أشار إليه إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق)، وينتمي هذا المصدر إلى فضاء المعارف والخبرات والمنهجيات الإنسانية. فمن جهة يرى سعيد أن تلك النزعة الذرية تظل عاجزة عن أن تفسر الإنجازات الفائقة التي حققتها العلوم الإسلامية، التي بُني عليها قدر عظيم من العلوم الحديثة. ومن جهة أخرى يجرد سعيد تلك النزعة من إطارها العلمي والموضوعي، ويربطها بموقف الغرب المتحيز تجاه الشرق. كما يرى سعيد ألا شيء جديد حول تلك النزعة، فمن شليغل إلى رينان، ومن روبرتسن سميث إلى لورنس، وهذا النمط من الأفكار تكرر ويعاد إنتاجها؛ لأنها تمثل في نظر سعيد قراراً يتعلق بالشرق، لا حقيقة من حقائق الطبيعة بأي شكل. وكل إنسان مثل ماكدونالد وجيب دخل واعياً مهنة اسمها الاستشراق، فعل ذلك بناء على قرار متخذ مفاده أن الشرق هو الشرق، وأنه مختلف. ويضيف سعيد أن ليس ثمة مفارقة يمكن تلمسها في آراء ماكدونالد أو جيب حول كون الشرق عرضة للاجتياح من قبل فكرة واحدة فردة، إذ لا يبدو أي من الرجلين قادراً على إدراك كون الاستشراق عرضة للاجتياح من قبل الفكرة الوحيدة الفردة لتمايزية الشرق(11).

من الممكن جداً الاتفاق مع مصادر النقد المذكورة، كما أن من السهولة أيضاً مطارحة تلك النزعة والكشف عن تهافتها. فالإسلام أساساً قائم على نظام التركيب الذي يناقض تماماً النزعة الذرية، أو النزعة إلى التجزئة، فهو مركب من عقيدة ناظرة إلى عالم الكون، ومن شريعة ناظرة إلى عالم التشريع، ومن أخلاق ناظرة إلى عالم الإنسان. والأصل في الإسلام هو التوحيد، وهو أعظم حقيقة متجلية في هذا الكون، وأعظم فلسفة تعطي قوة المعنى لهذا الكون أيضاً. فهي الفلسفة التي جعلت كل ما في الكون من عوالم وكائنات ومخلوقات وحقائق، متصلة ومترابطة ومتناسقة فيما بينها، لأنها ترجع إلى أصل ومبدأ واحد هو الله سبحانه وتعالى، واجب الوجود، الخالق والمدبر والمهيمن على كل شيء. وليست هناك فلسفة لها قوة وعظمة التركيب مثل فلسفة التوحيد، وهي أكثر فلسفة اتصل بها وما زال العقل الإسلامي، وشكلت له المنظور التوحيدي إلى العالم، وجعلته ينظر لأول مرة إلى العالم بطريقة توحيدية مركبة.

كما أن الإسلام جاء لكي يخرج الإنسان من واقع الفوضى والانفلات والعبث واللامعنى، إلى واقع النظام والتناسق والحكمة والمعنى، ويؤسس له نظاماً معرفياً تتوحد فيه المعارف والعلوم والمنهجيات.

وفي القرآن الكريم نلمس كذلك منطق التركيب وروح المنهج التوحيدي في آياته الكريمة، حيث نجد في الآية الواحدة أنها تتحدث عن مثال يتصل بعالم الطبيعة، ومثال يتصل بعالم الإنسان، ومثال يتصل بعالم التشريع، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}(12) وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(13). ويرى السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان) أن جميع معارف القرآن على تعدد وتنوع موضوعاتها ومجالاتها ترجع إلى أصل واحد، هو التوحيد، فهذا الأصل على إجماله يرجع إليه حسب قوله: (جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها وشرائعها بالتحليل، وهو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب)(14).

يضاف إلى ذلك أن القرآن الكريم هو الذي اكتشف للفكر البشري وجود السنن والقوانين التاريخية والاجتماعية التي تحكم حركة التاريخ، وسير المجتمعات، وحياة المدنيات الإنسانية. وبهذا الاكتشاف يكون القرآن الكريم قدّم فتحاً عظيماً للإنسان لكي ينظم حياته، ويبني مدنيته، ويتطلع لمستقبله على أساس هذه السنن. وحين يستحضر الشيخ محمد عبده الآيات التي تحدثت عن السنن الإلهية يقول: (هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أُرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن الذي ختم به الأديان)(15).

وفي مجال المعارف تجلت روح العقلانية والتركيب في أبدع ما ابتكره الفكر الإسلامي وهو علم أصول الفقه، الذي يعد من ثمرة العقل الإسلامي الخالص، واعتبره ابن خلدون في مقدمته (من أعظم العلوم الشرعية، وأجلاها قدراً، وأكثرها فائدة) وقال عنه أبو حامد الغزالي في كتاب (المستصفى) بأنه العلم الذي أخذ من صفوة الشرع والعقل سواء السبيل. وهو العلم الذي يماثل علم المنطق عند اليونان في الحضارة القديمة، وفلسفة القانون عند الأوروبيين في الحضارة الحديثة. وفي هذا العلم التقت المعارف والخبرات والمنهجيات الإسلامية، على تنوع حقولها وميادينها، إلى جانب علوم اللغة العربية والمنطق والفلسفة، بالشكل الذي جاز وصف هذا العلم بأنه بمثابة فلسفة الإسلام.

وحينما انفتح المسلمون على علوم اليونان، أكثر ما انجذبوا إليه هو المنطق والفلسفة، وهما كما هو واضح من أكثر العلوم التي تتجلى فيها روح العقلانية والتركيب. فهل يمكن تفسير هذا الانجذاب بالقاعدة التي حددها جيب نفسه، والتي تقتضي حسب قوله: إنه حين التقاء حضارتين يحدث بينهما تفاعل فكري، تنجذب فيه العناصر المتجولة في الحضارة الأولى، بما يتفق في الحضارة الثانية وطابع تفكيرها، في حين تهمل على العموم أو ترفض ما تجده عسير الفهم. لعل هذا المثال يكتسب قوة المصداق في تطبيق القاعدة المذكورة، أكثر من المثال الذي أشار إليه جيب حين ربط انجذاب نزعة الخيال في الفكر العربي، إلى النزعة الرومانطيقية في الفكر الأوروبي.

هذه بعض الحقائق والنماذج التي أقل ما فيها أنها تشكك في مقولة جيب، إن لم تطح بها أو تكشف عن تهافتها وتحيزها، وعن المسبقات الذهنية الحاكمة عليها. والقدر الأكيد والثابت لدينا من هذه الحقائق والنماذج أنها تسلب صحة اعتبار أصالة النزعة التجزيئية أو الذرية في الفكر الإسلامي.

ـ 3 ـ
التجديد ومبادئ الروح العصرية

من اقتفاء أثر ماكدونالد بالعودة إلى كتابه (الموقف الديني والحياة في الإسلام) في الحديث عن أسس التفكير الإسلامي، إلى اقتفاء أثر شارل آدمز بالعودة إلى كتابه (الإسلام والتجديد في مصر) في الحديث عن التجديد الديني ومبادئ الروح العصرية. والحديث عن الميراث الفكري للشيخ محمد عبده هو الذي قاد جيب لأن يقتفي أثر آدمز الذي سبقه في الحديث وبعناية واهتمام لحركة وتعاليم الشيخ محمد عبده في كتابه المذكور. الحديث الذي وصفه جيب بالتحليل الدقيق والعظيم، بحيث لم يعد له على حد كلامه حق في العودة إلى الموضوع نفسه.

ولعل آدمز يعدّ من أسبق الباحثين غير المسلمين، الذي لفت أنظار الأوروبيين والغربيين بصورة عامة إلى أفكار وتعاليم الشيخ محمد عبده، والتي تجلّت فيها حسب نظرهم نزعة التجديد والروح العصرية، كما وجدوا فيها مدخلاً لإمكانية تشكيل مصالحة بين الأفكار الإسلامية والمدنية الأوروبية الحديثة، أو أنها تمثل أرضية لتقبل أفكار ونماذج ومبادئ المدنية الأوروبية، لكونها تتقبل الروح العصرية، ولكون هذه الأفكار دخلت في مواجهة شديدة مع النزعات المحافظة والتقليدية القابضة بقوة على المجتمعات العربية والإسلامية حسب نظر هؤلاء الغربيين والمستشرقين ومنهم جيب نفسه، الذي جعل من هذه القضية محور أطروحته في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام).

ومن جهته أولى جيب أيضاً أهمية متعاظمة لأفكار وتعاليم الشيخ محمد عبده التي أخذت حيزاً كبيراً في مخطط كتابه السالف الذكر، حيث استند إليها في تحليل نزعة التجديد ومبادئ الروح العصرية في الفكر الإسلامي.

وأفضل نص يمكن العودة إليه في شرح حيثيات اهتمام جيب بأفكار وتعاليم الشيخ عبده، هذا النص الذي يقول فيه: (وكان لنشاطه الفضل في فصل العقائد الدينية عن النزاع السياسي، بحيث لا يعود هذان العنصران رغم إمكانية اشتراكهما يتعلق أحدهما بالآخر، ويصبح بوسع كل منهما أن ينتشر بحرية تبعاً لمخططه الخاص. ولو استطاع الشيخ أن يجمع تأييداً أكبر لفكرته لاستطاع أن يقلب مفاهيم العالم الإسلامي وآفاقه، لكن هذه العقيدة لم تُقبل على علاتها من جانب الرأي العام الإسلامي، سواء من جانب المحافظين أو دعاة الإصلاح. فقد رفض أولئك العقيدة كما فعلوا تقريباً بالنسبة لجميع أفكار محمد عبده، فجميع أفكاره مرفوضة مسبقاً ومبدئياً. أما هؤلاء الذين ينتمون إلى الشيخ فلم يتفهموا أفكاره وعادوا إلى حركة جمال الدين. على أن الأثر الذي أحدثه محمد عبده فلا يزال حياً، يوالي إعطاء ثماره في إسلام اليوم، وإن النتيجة المباشرة لنشاطه ظهرت بظهور مدرسة أساسية جديدة، يطلق أصحابها على أنفسهم اسم السلفية أي المحافظون على سيرة الأسلاف من أرباب العقيدة الإسلامية)(16).

وقد حدّد جيب أربع قضايا اعتبرها تمثل المخطط أو البرنامج التجديدي والإصلاحي للشيخ محمد عبده، وهي القضايا التي حاول جيب مناقشتها، والكشف عن مدى تأثيرها وتقدمها في المجتمعات الإسلامية، لقياس مدى تقبل هذه المجتمعات للروح العصرية، إلى جانب معرفة طبيعة المواقف والاتجاهات تجاه تلك القضايا.

وهذه القضايا هي:

1ـ تطهير الإسلام من التأثيرات والعادات الفاسدة.

2ـ إصلاح التعليم العالي الإسلامي.

3ـ إعادة وضع وأسس العقيدة الإسلامية على ضوء الفكر الحديث.

4ـ الدفاع عن الإسلام ضد المؤثرات الأوروبية والتحديات المسيحية.

ويرى جيب أن هذه القضايا قد أحدثت أثرها في نفوس المسلمين، في جميع أنحاء العالم، تارة تحت تأثير مباشر أو غير مباشر للشيخ محمد عبده وتلامذته، وطوراً دون أي أثر لهم، وتبعاً لمسالك متباينة إلى حد ما. لذلك يعمد جيب إلى تتبع ذلك الأثر في محاولة منه لرسم وتحديد اتجاهات الفكر الإسلامي ومآلاته، وطبيعة التغيرات التي تأثر بها، وانعكست على مساراته ومسلكياته.

وبشأن القضية الأولى يقول جيب: إن مفهوم تطهير الإسلام في تفكير الشيخ محمد عبده كان واسع الأفق، ويتناول خطوطاً عديدة من خطوط التفكير والتطبيق المعاصرين، لكن النقطة التي لقي فيها الشيخ عبده تجاوباً سريعاً في نظر جيب، هي تلك التي سعى فيها الشيخ عبده لاستئصال العيوب والمبالغات التي فعلت فعلها في حياة الشعب الدينية.

كما تحدث جيب في نطاق هذه القضية عن طبيعة الانقسام والتباين في وجهات النظر حول الموقف من العلاقة بالأولياء وتقديسهم وكراماتهم، والنزاعات التي جرت في هذا الشأن بين الاتجاهات الصوفية والاتجاهات السلفية. وما تركته مجلة المنار من تأثيرات في تأجيج الموقف حسب رأي جيب حول هذه القضية، حين تبنت منهج تطهير الإسلام من العيوب والمبالغات التي أحدثتها الاتجاهات الصوفية.

وباهتمام أكبر تحدث جيب عن القضيتين الثانية والثالثة في برنامج الإصلاح والتجديد عند الشيخ عبده، متلمساً مبادئ الروح العصرية في اتجاهات الفكر الإسلامي. وهاتان القضيتان حسب رأيه هما التتمة الضرورية لحملة التطهير في الإسلام على صعيد الثقافة الدينية.

وفي هذا النطاق تحدث جيب عن محاولات الشيخ عبده في إصلاح تعليم الأزهر حين دعا وطالب بوجوب تعليم المعارف العصرية إلى جانب المناهج التقليدية في الفقه والعقيدة. وهي المحاولات التي باءت بالفشل في نظر جيب، لكن تأثيراتها بقيت حتى بعد وفاته، وأثمرت في وقت لاحق حين تقبل الأزهر اعتماد بعض المواد العلمية الحديثة، كمادة التاريخ والجغرافيا وبعض العلوم الطبيعة.

ومن هذه القضية تدرج جيب في الحديث عن مشكلة إصلاح التعليم الديني في العالم الإسلامي، وما أثارته هذه القضية من جدل في داخل الأوساط الدينية نفسها، وألقت بظلالها على الأوساط التي تنتمي إلى التعليم غير الديني. وما أفرزته من نتائج وصفها جيب بالخطيرة، والناجمة عن الفجوة التي حصلت بسبب ازدواجية التعليم، وأدت إلى حدوث تقسيم في المجتمع بين فئات تنتمي إلى نمط التعليم الديني، وفئات تنتمي إلى نمط التعليم غير الديني، والذي يصفه جيب بالتعليم العلماني. ويعتقد جيب أن وجود هذه الفجوة وضرورة معالجتها، هما اللذان برّرا ظهور النزعة التجديدية في الفكر العربي والإسلامي.

ومن الانقسام الحاصل بين التعليم الديني والتعليم العلماني، ينتقل جيب في الحديث عن قضية وضع العقيدة الإسلامية على ضوء الفكر الحديث. والإشارة التي يود جيب الانطلاق منها، هي تقديره أن طبيعة المواقف السنية في الإسلام متوازية مع طبيعة مواقف الأوروبيين في القرن الثامن عشر تجاه الديانة المسيحية، وأن انتشار العلمانية في البلدان الإسلامية طيلة المئة سنة الماضية قد جعل مثقفي المسلمين عرضة للتأثيرات نفسها التي زعزعت التفكير الغربي بالنسبة للمسائل الدينية. وبناء على ذلك عنده إذا اعتبرنا كما يقول أن نفس العلل تؤدي إلى نفس النتائج، فمن الواجب إذن أن ننتظر حدوث نوع من التحول المباشر في التفكير الإسلامي. وهذا ما يريد جيب تحليله، بالنظر إلى فئة العلماء التي تنتمي إلى التعليم الديني، وفئة المثقفين التي تنتمي إلى التعليم غير الديني أو العلماني.

وقد ظل جيب يوجه نقده لفئة العلماء ويصورهم بمعاداة الروح العصرية، وعدم استيعاب الفكر النقدي، والجهل بالحضارة الغربية، وليس مدعاة للدهشة كما يقول جيب أن تعتبر غالبية علماء المسلمين أن الغرب من أرباب المادية المحضة، لأنهم حسب رأيه يجهلون ما وراء المظاهر الخارجية للحضارة المادية في الغرب، ويحكمون عليها بالنسبة لأثرها في الحياة الإسلامية، وكتابات المسلمين آثار لا تمت بأية صلة للثقافة الغربية. ويبرهن جيب على ذلك بمثل لا يخلو من تهكم حين يقول: إن المعلومات الفلسفية والعلمية لدى الطلاب الأزهريين، رغم سطحيتها لا تفوق غالبية الطلاب من حملة الشهادات الثانوية، وكذلك الجمهور الذي يقرأ. ويتمم جيب نقده لهذه الفئة مشككاً في أمانتهم العلمية بقوله: إن الفقهاء يشوهون في مناقشاتهم آراء الذين لا يقفون في صفهم، ويغيرون مضمونها بغير أمانة.

وفي كل هذا النقد الذي وجهه جيب لفئة العلماء والفقهاء، كان يستثني منه الشيخ محمد عبده تمييزاً له عن غيره من الشريحة الدينية التي ينتمي إليها.

ومع أن جيب يميل بالطبع لأصحاب التعليم العلماني، مع ذلك فإنه يشكك في قدرة هؤلاء على إحداث تغييرات أساسية، وعلى نشر وتعميم الروح العصرية في نطاقات واسعة. وبدل أن يتخذ هؤلاء لأنفسهم كما يقول عنهم جيب تياراً فكرياً يرتكز على أسس سليمة وعقلية، راحوا لافتقارهم إلى مذهب ينتمون إليه، ينزلقون في متاهات فردية، ويغوصون في مخاطر خفية. ويستثني جيب من هؤلاء أولئك الذين أصبحوا علمانيين بصورة نهائية، ويرفضون على حد قوله جميع الموجبات الدينية في الإسلام، والذين يطلق عليهم القرآن كما يقول جيب اسم (الضالين) فهؤلاء لا يهمونه كثيراً. لذا يقترح جيب تحديد صفة المجددين وحصرها بأولئك الذين يهتمون بدينهم اهتماماً عميقاً في بعض الأحيان، ولكنهم غالباً ما يشعرون حسب كلام جيب بدرجات متفاوتة أنهم يواجهون تحدي العقيدة التقليدية، والتزمت الذي يتذرع به المحافظون لتثبيت المؤسسات الاجتماعية التقليدية في العالم الإسلامي.

والنتيجة التي يخلص إليها جيب أن نزعة المحافظة في المجتمعات الإسلامية هي أشد وأقوى من نزعة التجديد، وحسب قوله: (ففي البلاد العربية عدا مصر نرى الإسلام المحافظ يسيطر في كل مكان، فروح التجديد نادرة، عدا المدن الكبرى في سورية والعراق، أو بين مسلمي أفريقيا المغربية. حتى في مصر نرى العلماء يراقبون بحذر النشاطات التجديدية، مستعدين للإطباق عليها إذا ما تجاوزت قليلاً الحدود التي فتحها لها الشيخ محمد عبده)(17). لذلك لم يكن للثقافة العلمانية في نظر جيب أثر بعيد في زعزعة الأسس اللاهوتية في الإسلام.

ومن مصر والعالم العربي يتجه جيب إلى الهند التي يصفها بالمركز الحيوي للتفكير الإسلامي، متتبعاً حركة وانتشار الروح العصرية في اتجاهات الفكر الإسلامي هناك. ويرى جيب في الهند أنها أكثر قرباً للروح العصرية لأنها أكثر تأثراً بالأفكار الغربية من العالم العربي، فهو يلاحظ أن الفلسفة الغربية لم تدخل العالم العربي إلا قليلاً، بخلاف ما حصل في الهند. وفي ظن جيب أنه لا يوجد عربي واحد أو مصري يتمسك بقراءة كتب اللاهوت الغربي، وأن دراسة الفلسفة الغربية في الجامعات المصرية ليست شديدة الانتشار.

والذي جعل الهند تذهب في استقبال الروح العصرية إلى ما هو أبعد مما حصل في الشرق الأدنى، يرجع في نظر جيب إلى عدة أسباب، منها أن التعليم العالي على النمط الأوروبي كان يطبق في الهند قبل أن يعرفه الشرق الأدنى بوقت طويل، وكثيرون من المسلمين العلمانيين المثقفين هناك مدينون لهذا التعليم بثقافتهم، وأن هؤلاء يمثلون نسبة مئوية تزيد على نسبة الموجودين بين الطبقات المثقفة في الشرق الأدنى. كما أن عدد المسلمين المثقفين الذين يحتلون مراكز رفيعة في طوائفهم، كقادة وأساتذة هو أكبر في الهند أيضاً. بالإضافة إلى مناخ الحرية في الهند الذي يشجّع المثقفين هناك على التعبير عن أفكارهم الدينية الخالصة بحرية أكبر.

ومن الأسماء التي يشير إليها جيب في تتبعه لحركة الأفكار العصرية في الهند، محمد شبلي النعماني مؤسس ندوة العلماء في لكنو، والذي يرى فيه جيب المعادل الهندي الأقرب إلى الشيخ محمد عبده في مصر، والسيد أحمد خان مؤسس كلية عليكرة عام 1875 التي تحولت إلى الجامعة الإسلامية عام 1920م، والسيد أمير علي مؤلف كتاب (روح الإسلام)، ومحمد إقبال مؤلف كتاب (تجديد التفكير الديني في الإسلام) والميرزا غلام أحمد مؤسس الطائفة الأحمدية.

بقيت النقطة الرابعة في البرنامج التجديدي عند الشيخ محمد عبده، وهي الدفاع عن الإسلام ضد التأثيرات الأوروبية والتحديات المسيحية. ويبدو عند جيب أن أول هذين الأمرين غير معقول، لأن الروح العصرية في قسطها الأوفى حسب نظره هي نتيجة التأثير الأوروبي العميق الأثر في أكثر الأحيان.

وبعد هذا التتبع لعلاقة الأفكار الإسلامية بالروح العصرية، ينتقل جيب في الحديث إلى تتبع المواقف الاجتماعية الإسلامية وعلاقتها بالروح العصرية، حيث تطرق إلى قضايا المرأة في الأبعاد الأكثر جدلاً وسجالاً كالطلاق والإرث وتعدد الزوجات والمساواة والحجاب. ويرى جيب أن التيارات الفكرية الجديدة التي ناقشت هذه القضايا، تنطلق في اتجاهين: الاتجاه الأول ويصفه بالإصلاح، والثاني ويصفه بالتبرير. وهذا الاتجاه الثاني يقصد به جيب إعادة الإيمان بالإسلام بين صفوف المسلمين المشككين، مبينين لهم أصالة دينهم ومزاياهم. وأما الاتجاه الإصلاحي فهو الاتجاه العلماني الذي يسعى للفصل الجذري بين المؤسسات الاجتماعية للأخلاق، وبين القوانين الدينية.

ـ 4 ـ
مأزق الجمود ومنهج البحث التاريخي

يفهم من تحليلات جيب أن الاتجاهات الفكرية الحديثة لم تستطع أن تنتشر وتتقدم في المجتمعات الإسلامية، وتتفوق من هذه الناحية على تقدم وانتشار النزعة الإسلامية المحافظة، وهذا الذي أوصل العالم الإسلامي في نظر جيب إلى حالة الجمود.

وبسبب هذا الوضع فإن العالم الإسلامي والفكر الديني سيتعرضان إلى مجموعة من التحديات والمعضلات، التي ستؤثر بدورها على مستقبل الإسلام في العالم، ويرى جيب أن الإرث الديني الإسلامي ليس مهدداً من الخارج بقدر ما هو مهدد من الداخل.

ومن المعضلات التي سوف تعترض الفكر الديني تسرب التقدم التقني الغربي إلى المجتمعات الإسلامية، فقد تساءل جيب ماذا سيحدث حين يتسرب التقدم التقني الناجم عن الحضارة الغربية إلى المجتمع الإسلامي بصورة أعمق، وبنتائجه البعيدة الأثر؟ كما أن انتشار الروح العصرية هو في نظر جيب، إنذار بأن إعادة صياغة الإسلام ليست من الأمور التي يمكن تأجيلها إلى الأبد. لذلك فإن مستقبل الإسلام حسب تقدير جيب سوف يتعلق بالقدرة على حل التوترات الجديدة، والصمود في وجه قوى الانحلال والسيطرة عليها.

وقد اعترض جيب على اتهامات بعض النقاد من غربيين وشرقيين حين وصفوا الإسلام بأنه ديانة متحجرة، فهذه اتهامات باطلة في نظر جيب، فالإسلام حسب رأيه، دين حي وحيوي، وليس الإسلام هو الجامد، بل قوانينه التشريعية، ولاهوته النظامي، وتبريره الاجتماعي. وهنا يكمن في نظر جيب الخطر الرئيسي على مستقبل الإسلام، خصوصاً إذا طال التباين بين متطلباته تجاه الإرادة ونداءاته لذهنية معتنقيه. وإن الطريقة التي يمكن بواسطتها التوفيق بين السنية الإسلامية والحركة الفكرية الحديثة ليست كما يُظن حسب رأي جيب في تبني معاهدة مع فرضيات العلم الحديث.

أما العلاج الذي يقترحه جيب لمواجهة الجمود الذي أصاب الفكر الديني الإسلامي، هو في التنبه لأهمية منهج البحث التاريخي. باعتبار أن المذاهب التاريخية وحدها التي يمكن أن تعيد المرونة للتفكير، وتعلم الإنسان تجنب التعاظم اللاهوتي. ولا شيء يفسر سطحية أثر الغرب في الشعوب الإسلامية في رأي جيب أكثر من الثورة العميقة التي حدثت في التفكير التاريخي عند الغرب في القرن التاسع عشر، والتي لم تتسرب إلى العالم الإسلامي. ولا يريد جيب أن يُفهم من هذا القول أن سبيل التقدم بالمسلمين هو اعتناق المناهج التاريخية الغربية، فليس الأمر كذلك عنده كما يقول، وإنما على العالم الإسلامي أن يبحث أو يخلق من جديد، ويبنى على أسس خاصة ناتجة عن نقد تاريخي خاص لفجر الإسلام، عن طريق اللجوء إلى عناصر قد طبقت في المناهج الغربية، لا أن يعيش العالم الإسلامي من جديد مجمل التطور الذي صادف الفكر الغربي الحديث. فالمراحل الوئيدة التي طهر فيها الغرب طرائق تحليله من اعتباطات القرون الوسطى، ليحيا من جديد تحت لواء العلوم الطبيعية، هذه المراحل قد لا تكون في نظر جيب مطابقة للثقافة الإسلامية. لذا فإن على الفكر الإسلامي حسب قول جيب أن يسلك طريقاً موازياً يرسمها بنفسه وفقاً لطبائع تفكيره الأساسية.

والاعتراض الذي قد يطرح في هذا الشأن أشار إليه جيب بقوله: حين يقول لنا المدافعون المسلمون: إن روح الإسلام قد شجعت على متابعة البحث عن الحقيقة بلا وجل، وفي جميع الميادين، لكن من الإنصاف كما يقول جيب أن نسألهم من هو المسؤول عن خنق روح التحقيق التاريخي في عصور الإسلام الأخيرة. ولهؤلاء كما يضيف جيب كل الحق في الاعتزاز بابن خلدون، هذا العبقري الذي حاول في القرن الرابع عشر الميلادي أن يعيد بناء التاريخ على أسس علمية. لكن مثل ابن خلدون في نظر جيب يثبت القاعدة، ذلك لأن موقفه العلمي المخلص والخلاق بالنسبة لمسألة المنهج التاريخي لم يُقابل بأي اهتمام في الأوساط الإسلامية، حيث ظل مهملاً منسياً حتى انبعاث مؤلفه في القرن التاسع عشر.

ومن الأمور ذات الدلالة عند جيب وهو يختم كتابه أن يكون كبير المصلحين المسلمين ألا وهو الشيخ محمد عبده قد تأثر بعمق بتفكير ابن خلدون، في حين أن مفهوم التطور التاريخي يتجلى ببطء في تعليم تلامذته، ومتجاوزاً الحدود التي تضعها الإسلامية التقليدية.

ما يريد أن يعززه جيب من تأكيده على منهج البحث التاريخي هو دفع المسلمين للتعامل النقدي مع تاريخهم الفكري والديني، ومحاولة كشف هذا التاريخ لهم ليندفعوا نحو نقده وإصلاح مناهجهم الفكرية، وتكوين المعرفة بالخبرة النقدية للمنهج التاريخي لعلها تساهم حسب تقدير جيب في تطوير العقلانية التاريخية التي يمكن لها أن تنقذ التفكير الإسلامي من المخاطر اللاصقة بالرومانطيقية، كتطبيق الحدس والخيال وحدهما على مسائل الفكر والعقيدة، والتحرر من سيطرة اللاهوت، والتأثيرات اللاهوتية النابعة من العلوم الدينية.

والحاجة أيضاً إلى منهج البحث التاريخي باعتبار أن تاريخ بداية الإسلام في نظر جيب يحتمل جميع ميزات التأريخ ما قبل العلمي، من تركيب درامي، وأحكام مطلقة على الرجال، وانتقاء اعتباطي للمستندات. وقد تكرست هذه الطريقة في إعداد التاريخ بقانون ديني، إلى درجة أن موضوع الشك في أمرها أصبح من باب الهرطقة. لهذا كله وجد جيب في منهج البحث التاريخي علاجاً ممكناً للفكر الإسلامي حتى يتخلص من تلك الرواسب، ومن مأزق الجمود حسب رأيه.

ـ 5 ـ
جيب بين قراءتين

في مجال الدراسات الفكرية العربية المتخصصة، هناك قراءتان متعارضتان بشدة حول جيب وكتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، وهما قراءتان متباعدتان أيضاً، أي ليس بينهما تواصل أو احتكاك. قراءة تبجيلية أشار إليها مالك بن نبي في كتابه (وجهة العالم الإسلامي)، وقراءة نقدية ومفرطة في النقد أشار إليها إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق).

التباعد بين القراءتين منشؤه أن مالك بن نبي توفي عام 1973م، قبل صدور كتاب (الاستشراق) عام 1978. وأما من جهة إدوارد سعيد فإنه كان معنياً بالدرجة الأولى بالمؤلفات والكتابات الغربية والاستشراقية ذات الصلة بمشروع كتابه، ولم يكن معنياً بالمؤلفات والكتابات العربية.

فقد اعتبر مالك بن نبي أن هناك تشابهاً بين كتابه (وجهة العالم الإسلامي) وكتاب جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، وأن موقف جيب الذي وصفه ابن نبي بالمؤلف الكبير، يشبه في مواطن كثيرة موقفه هو الذي حاول أن يجلوه في كتابه هذا. فهل كان عليه كما يقول ابن نبي عن نفسه أن يراعي هذا التشابه، ويكتفي بإحالة القارئ إلى آراء أستاذ أكسفورد؟ لقد آثر ابن نبي حسب قوله أن يواصل طريقه في إنجاز مشروعه، متخذاً من جيب وكتابه سنداً يؤيد به رأيه، وهو سند عنده كما يقول له وزن كبير.

وعندما أشار ابن نبي إلى بعض مواطن الاختلاف بينه وبين جيب في كتابه السالف الذكر، حتى لا يعود إليها داخل الكتاب تجنباً للجدل، أشار إلى موطنين فقط، هما النزعة الذرية التي سبق الحديث عنها، والاتجاه الإنساني في الحركة الإسلامية الحديثة الذي عزاه جيب إلى تأثير الثقافة الأوروبية. وبعد هذه الإشارة إلى مواطن الاختلاف يعقب ابن نبي بقوله: (أيًّا كان الأمر فإن كتاب العالم الإنجليزي يستحق اهتمام كل مسلم يريد أن يختط بعض المعالم لأفكاره، وأن يقوّم موضوعياً، لا أقول القيم الإيجابية في نهضته فحسب، ولكن القيم السلبية التي تعدّ حالياً أساس الفوضى في العالم الإسلامي)(18).

ومن شدة إعجاب ابن نبي بكتاب جيب فإنه قبل أن يختم مدخل كتابه الذي خصصه أساساً للحديث عنه، والإشادة به، فإنه عاد ليكرر تقديره له، بقوله: (إن كتاب المستشرق الإنجليزي يعدّ مرشداً ثميناً لكتابي هذا في دراسة الأمراض في العالم الإسلامي، ولكم أتمنى أن يتأمل موضوعاته كثيرون من المسلمين، كما تأملتها، وأن يقرروا فيه نزاهته التي سمت على كل مركّب عقيدي أو سياسي)(19).

لاشك أن مالك بن نبي قد أمعن النظر في هذا الكلام قبل أن يتحدث به، فهو ليس من النوع الذي يقول الكلام جزافاً، أو دون تأمل، وهو الذي يدين للتأمل في كثير من أفكار ونظراته، حتى أصبحت كلمة التأمل جزء من قاموسه الفكري. مع ذلك فإني قد فوجئت في أن يصدر مثل هذا الكلام، ومثل هذا الانطباع من مالك بن نبي، وهو المسكون بنظرية الصراع الفكري، وهو الذي هندَّس لنا هذه النظرية، وأكثر من عرَّف بها، وظل يذكرنا بها من شدة حساسيته للاستعمار والدول المستعمِرة، ولديه كتاب شهير في هذا المجال بعنوان (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) ولعله الكتاب الوحيد حول هذا الموضوع في الكتابات العربية، كما أنه أول كتاب أصدره باللغة العربية بخط يده، بعد انتقاله من فرنسا إلى مصر عام 1956م.

يضاف إلى ذلك طبيعة موقفه وحساسيته من الاستشراق الغربي الذي لا يعزله ولا يفصله عن الصراع الفكري بين الدول المستعمرة والمجتمعات المستعمرة، كما شرح ذلك في محاضرة له بعنوان (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث). وفي هذه المحاضرة اعتبر ابن نبي كما تبين له حسب قوله (أن الإنتاج الاستشراقي بكلا نوعيه كان شراً على المجتمع الإسلامي، لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان، سواء في صورة المديح والإطراء التي حولت تأولاتنا عن واقعنا في الحاضر، وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، و في صورة التفنيد والإقلال من شأننا. بحيث صيرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار)(20).

وفي هذه المحاضرة اعتبر ابن نبي أيضاً أن اكتشاف أوروبا للفكر الإسلامي في المرحلة الحديثة لم يكن من أجل تعديل ثقافي، بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية، مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتفسير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية، لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها(21).

والذي لا شك فيه أن كتاب جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) هو كتاب استشراقي بامتياز، ويقدم معرفة استشراقية، نابعة من خبرة استشراقية، ويصدق عليه كل ما يصدق على المعرفة الاستشراقية من أحكام وتقديرات وانطباعات، فليس هناك تناسب بين موقف ابن نبي من الاستشراق، والذي اتصف بالتشكيك والرفض والممانعة، وموقفه من جيب وكتابه، إلا أن نقول: إن موقفه من جيب يعدّ سابقاً على موقفه من الاستشراق الذي جاء تالياً.

ولا أدري لماذا اعتبر ابن نبي تشابه موقفه، بموقف جيب في كتابه، مع ما بينهما من تباين واختلاف جوهري عميق من حيث الروح العامة التي حكمت طبيعة العملين، ومنطلقاتهما الذهنية، ووجهتهما العامة. فجيب كان محكوماً بذهنية الاستشراق، وتسري في داخله روح الاستشراق، بخلاف ابن نبي الذي هو ابن المستعمرات، وكان محكوماً بذهنية المفكر الذي يسعى لخلاص أمته من سيطرة المستعمر، وتسري في داخله روح المقاومة والممانعة.

وفي حين كان جيب ينطلق من عقل بارد، ليقدم معرفة باردة، كان ابن نبي ينطلق من عقل ساخن، ليقدم معرفة ساخنة، نابعة من واقع الأمة المرّ والملتهب.

مع ذلك فهذا لا يمنع بشكل مطلق حصول تشابه في بعض الأفكار، وبعض النتائج، مثل التوافق في تقدير محدودية تقدم وانتشار الحركات الفكرية الحديثة في المجتمعات الإسلامية.

ومع هذه الإشارة القوية واللافتة من مالك بن نبي تجاه جيب وكتابه، إلا أنها مع أهميتها وقيمتها المعرفية، لم يتوقف عندها الدارسون والباحثون لأفكار ابن نبي، مع أن العديد من هؤلاء هم من طبقة الأكاديميين الذين حضروا رسائل جامعية على مستوى الماجستير والدكتوراه حول أفكار ابن نبي وشخصيته، مع ذلك لا تجد إشارات أو تحليلات في دراسات هؤلاء تطرقت أو اقتربت إلى أوجه ذلك التشابه الذي أشار إليه ابن نبي، ومحاولة تحليل مثل هذه العلاقة وتقويمها. بل إن العديد من هذه الكتابات والدراسات لم ترجع إلى كتاب جيب، وتتعامل معه كمصدر ذي علاقة. وسوف نظل نستشعر الحاجة إلى مثل هذه العلاقة، وهذه المقاربة بين مالك بن نبي وكتابه (وجهة العالم الإسلامي) وبين هاملتون جيب وكتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، ويمكن القول إن هذه واحدة من القضايا المهملة في دراسة أفكار ابن نبي.

وبخلاف هذه القضية ما حصل من اهتمام غير قليل بمجرد إشارة عابرة تطرَّق إليها ابن نبي في كتابه (الفكرة الإفريقية الآسيوية) حول سيد قطب الذي استغنى عن كلمة حضاري في عنوان كتابه (نحو مجتمع إسلامي) بدلاً عن عنوان (نحو مجتمع إسلامي حضاري) على خلفية أن معنى الحضاري داخلة في معنى الإسلامي. هذه الإشارة العابرة تطرقت إليها العديد من الكتابات والدراسات التي اهتمت بإجراء مقارنات حول مفهوم وفكرة الحضارة عند مالك بن نبي وسيد قطب. مع العلم أن هذه الإشارة من ابن نبي لا تقارن في قوتها وشدتها من ناحية مساحة الاهتمام، بإشارة ابن نبي تجاه جيب وكتابه.

وبخلاف القراءة التي أشار إليها مالك بن نبي، جاءت قراءة إدوارد سعيد الذي حاكم هاملتون جيب وكتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) في إطار محاكمته الصارمة، ونقده الجذري للاستشراق المعرفة والمؤسسة والأشخاص، حيث اعتبر جيب من الأسماء البارزة واللامعة في حقل الدراسات الإسلامية الاستشراقية، وأنه كان يفضل أن يسمي نفسه مستشرقاً حسب رواية سعيد، على أن يسمي نفسه مستعرباً. ويرى فيه سعيد كذلك بأنه يمثل شخصية سلالية ضمن الإطار الجامعي للاستشراق البريطاني، ثم الأمريكي، وباحث جلا عمله بصورة واعية تماماً النزعات القومية لتراث جامعي، قائم داخل الجامعات والحكومات ومؤسسات الأبحاث.

والنقد الذي أشار إليه سعيد حول جيب يمكن تحديده وتصنيفه في ثلاث دوائر تكشف عن التوسع في مساحة النقد، والتوغل في تفكيك الخطاب الاستشراقي لجيب وفضحه، وهذه الدوائر، هي:

أولاً: دائرة الاستشراق الخاص. والذي يتعلق بجيب نفسه، وتقويم أفكاره ومعارفه واتجاهاته. وفي هذه الناحية لم يألُ سعيد جهداً في توجيه النقد وحتى الاتهام إلى جيب، فتارة يصفه بالتحيّز، الذي يجعل منه عقبة كأداء حسب قوله في وجه كل من يحاول أن يفهم الإسلام الحديث. وتارة يصفه بالعدائية، حيث يتعجب سعيد ويتساءل لماذا ينبغي أن يواجه الإسلام الحديث بكل هذه العدائية الجارفة التي يحملها جيب، وحين يريد سعيد تحديد منظومة جيب عن الإسلام يقول: (إذا كان في الإسلام خلل منذ البدء بحكم عاهاته الدائمة، فإن المستشرق سيجد نفسه يعارض أية محاولة إسلامية لإصلاح الإسلام، لأن الإصلاح في عرفه خيانة للإسلام، هذه هي بالضبط منظومة جيب)(22). ويحتوي كتاب (الاستشراق) على إشارات عديدة من هذا النوع تعبر عن طبيعة موقف سعيد من جيب وخطابه الاستشراقي.

ثانياً: دائرة الاستشراق البريطاني. فحين يريد سعيد أن يميز طبيعة المعرفة الاستشراقية البريطانية عن المعرفة الاستشراقية الفرنسية، فإنه يتخذ من جيب وكتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) نموذجاً لهذا التمييز. وفي هذا النطاق يرى سعيد أن المعرفة الاستشراقية البريطانية صاغت نفسها حول الإجماع والسنية والسلطة ذات السيادة، أما المعرفة الاستشراقية الفرنسية فقد شغلت نفسها بالخروج عن الإجماع والاهتمام بالوشائج الروحية. ويمثل سعيد على هذه المفارقة بالصنعتين الرئيستين في البحث خلال تلك المرحلة، بصنعة ومحاولة جيب الذي تحددت اهتماماته بمفهوم السنة أو المحافظة في الإسلام، كما تجلت في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام). وبصنعة ومحاولة لويس ماسينيون الذي وصفه سعيد بأنه قد يكون أعظم المستشرقين الفرنسيين شهرة وتأثيراً، حيث تحددت اهتماماته بالصوفية وبالحلاج بصورة خاصة، إذ شبهه بالسيد المسيح، وتجلّى هذا الاهتمام في كتابه الموسوعي الضخم (آلام الحلاج) الذي نشره أول مرة عام 1922م، ثم أعاد صياغته، وأصدره في صيف 1937م.

ويرى سعيد في جيب وماسينيون أنهما لم يكونا تلميذين للمجتمع، بقدر ما كانا تلميذين للحياة الدينية في المجتمع، وكلاهما كان دنيوياً بعمق، وأحد إنجازاتهما الأكثر عظمة في نظر سعيد هو وضع البحث التقليدي موضع الاستخدام في العالم السياسي الحديث، بيد أن مجال عملهما ومداه أو نسيجهما مختلف تقريباً اختلافاً ضخماً، حتى نأخذ بعين الاعتبار التباين الواضح في دراستهما وتربيتهما الدينية(23).

وقد اعتنى سعيد كثيراً بمثل هذه المقارنات بين جيب وماسينيون، وظل يرجع إليها، ويلفت النظر إليها باستمرار، تأكيداً لأهمية ومنزلة الرجلين في مؤسسة المعرفة الاستشراقية، ولكونهما يمثلان نماذج المفارقة بين مؤسسة الاستشراق البريطانية ومؤسسة الاستشراق الفرنسية.

ثالثاً: دائرة الاستشراق في صورته الإسلامية. سبقت الإشارة إلى أن سعيد يرى أن جيب يمثل أعظم اسم في الدراسات الإسلامية في العالم الأنجلو - أمريكي. كما يرى سعيد أن هناك فرقاً لافتاً بين الاستشراق في صورته الإسلامية وجميع فروع المعرفة الإنسانية الأخرى، وما يميز الاستشراق الإسلامي في نظره إلى يومه الحاضر هو موقعه التراجعي حين يقارن مع العلوم الإنسانية الأخرى، بل حتى مع فروع أخرى من الاستشراق، بالإضافة إلى تخلفه المنهجي والعقائدي العام، وعزلته النسبية عن التطورات في كل العلوم الإنسانية الأخرى. والمستشرقون المعنيون بالدراسات الإسلامية من جهتهم كما يقول سعيد لم يروا قط اغترابهم عن الإسلام بوصفه شيئاً محبذاً، أو موقفاً ذا تضمينات لها أثرها في تحقيق فهم أفضل لثقافتهم الخاصة. بل إن اغترابهم عن الإسلام زاد شعورهم بتفوق الثقافة الغربية، وسموها حدة وكثافة، حتى اتسع نطاق كرههم الغريزي ليشمل الشرق بأكمله، الذي اعتبر الإسلام ممثلاً منحطاً له(24).

وفي هذا النطاق يرى سعيد أن جيب يظهر في بعض الأحيان وكأنه يتحدث باسم الجماعة الإسلامية السنية، كما حصل حين صاغ معارضته لفكرة القومية، حيث تساءل سعيد: إلى أي درجة كان هذا الدفاع يعبر عن عودة إلى العادة الاستشراقية القديمة في التحدث باسم السكان الأصليين؟

وإذا كنا نعترف لسعيد بكفاءته العلمية في تحليل ونقد وتفكيك خطاب الاستشراق الغربي، المهمة التي أظهرته بالتفوق، وجلبت له شهرة واسعة، هو يستحقها بالتأكيد، إلا أنه ينبغي الحذر بعض الشيء من الوقوع تحت تأثيره، لسطوة خطابه المؤثر، وبسبب نقده الجذري الذي لا يكاد أن يذكر للاستشراق فضيلة على الإطلاق، وكأنه في مواجهة وصدام ثقافي معه، ويريد الإطاحة به.

ولعل سعيد كان بحاجة إلى هذه الطريقة الصارمة في النقد الجذري، أو كانت له مبرراته المقنعة، أو أنه كان محكوماً بمناخ نقدي وأكاديمي، وحتى سياسي يحرضه ويدفعه نحو اتِّباع هذه الطريقة، وهذا المنهج. لكننا لسنا معنيين بالضرورة في أن نسلك المنهج نفسه الذي سلكه سعيد، ونتبع الطريقة نفسها التي اتبعها، لا أقل بالنسبة إليّ.

أو يمكن القول: إن سعيد أنجز المهمة النقدية للاستشراق بحيث لم نعد بحاجة إلى مثل هذه المهمة، لكننا بحاجة إلى مهام أخرى، وأبعاد أخرى في النظر والتعامل مع الاستشراق.

كما أن وجود مثل قراءة مالك بن نبي النغايرة، تدفعنا إلى ألا نكتفي بالعودة إلى سعيد في قراءة الاستشراق، مع اعترافنا أن كل قراءة للاستشراق لابد من العودة فيها إلى قراءة سعيد. وفي مثل موضوعنا نحن بحاجة إلى كلا القراءتين، والعودة لهما يُفترض أن تدفعنا إلى البحث عن قراءة ثالثة تتقاطع مع تلك القراءتين، ولا تكتفي بهما.

ـ 6 ـ
ملاحظات ونقد

أولاً: هناك تشابه كبير من جهة موضوع البحث، وطبيعة القضايا والسياق الفكري، بين كتاب جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، وكتاب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام). ولعل كتاب إقبال في نطاق الدراسات الإسلامية هو الذي يعادل كتاب جيب في نطاق الدراسات الغربية. ويتيح لنا هذا التشابه بين الكتابين، توسيع دائرة النظر في نقد وتحليل الأفكار والمفاهيم التي عرضها جيب في كتابه.

ولم أجد بين الدارسين والباحثين في مثل هذه الموضوعات من التفت إلى مثل هذا التشابه، وتطرق إليه، وسلط عليه الأضواء. ولا أدري لماذا رأى مالك بن نبي تشابه موقفه في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) بموقف جيب في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، ولم يرَ تشابه موقفه بموقف محمد إقبال. واللافت أكثر أن مالك بن نبي أظهر قرباً وانحيازاً لجيب في كتابه السالف الذكر، بخلاف موقفه من إقبال الذي تعامل معه بطريقة نقدية، كما لو أنه كان متأثراً بموقف ورؤية جيب تجاه إقبال، فنادراً ما أظهر ابن نبي توافقاً مع إقبال، أو تأييداً لأفكاره. ولا يستبعد عدم اطلاع مالك بن نبي على كتاب إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام) حين تصنيفه لكتابه (وجهة العالم الإسلامي)، خصوصاً وأنه لم يأت على ذكر كتاب إقبال في كتابه، ومعظم الموارد التي أشار فيها ابن نبي إلى إقبال تتعلق ببعض أفكاره التي وردت في كتاب جيب أيضاً. كما أن الاهتمام الذي أعطاه جيب لكتاب إقبال في سياق نقده وتحليله لمحاضرات الكتاب الست، يفوق بكثير مقدار ما أشار إليه ابن نبي في كتابه المذكور.

والذي أراه وبعيداً عن التحيز أن كتاب إقبال يعدّ أكثر عمقاً ومتانةً وثراءً من كتاب جيب. أقول هذا الكلام بحكم تعاملي مع كلا الكتابين وتحليل نصوصهما، وتكوين المعرفة النقدية بهما. وأن ما حاول إقبال طرحه والاستدلال عليه يدحض في مرات عديدة ما طرحه جيب في كتابه، وهو يحاول التشكيك في أفكار وأطروحات إقبال.

ثانياً: لقد شرح جيب في كتابه مدى النقص الفادح في دراسات الأوروبيين والأمريكيين حول الإسلام والمسائل الدينية المعاصرة، خلال فترة تقديمه لمحاضراته عام 1945م، وإعداد هذه المحاضرات في كتاب عام 1947م. واعتبر جيب أن المؤلفات التي تتصل بموضوع بحثه لم يصدر منها سوى اثنين فقط طيلة الخمسة والعشرين عاماً الماضية.

وبعد أن استعرض جيب بشكل موجز وسريع المؤلفات التي وضعت عن الإسلام في عصره ظهر له كما يقول قلّتها وعدم استيفائها، إلى درجة يصبح من العسير حسب قوله وضع تصميم واضح لتطور التفكير الإسلامي المعاصر عن طريق تلك المؤلفات.

وحين يقارن الدكتور رضوان السيد بين المستوى الكمي لدراسات الغربيين عن الإسلام المعاصر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي صدر فيها كتاب جيب، والمستوى الكمي الذي وصلت إليه اليوم، يقول: (لم تكن كتابات الغربيين والمستشرقين من بينهم على الخصوص كثيرة في الإسلام المعاصر حتى السبعينات. وأبرز هذه الكتابات ما بعد الحرب الثانية كتابا هاملتون جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، وولفريد كانتول سميث (الإسلام في العالم المعاصر)، وكانت دراسة ميتشل عن الأخوان المسلمين بمصر أبرز ما صدر عنهم حتى اليوم. أما بعد العام 1978م فإن الدراسات والندوات والمؤتمرات عن الإسلام المعاصر، والحركات الإسلامية، والنهوض الإسلامي، والثورة الإسلامية، ومستقبل الإسلام، كل ذلك تكاد تستعصي على الحصر)(25). ويُعدّ الدكتور رضوان السيد من الدارسين والمتابعين لهذا النمط من الدراسات التي أشار إليها.

وإذا كان نقص الدراسات وضعفها في تلك الفترة، هو أكثر ما يضيف من مزايا لكتاب جيب، ويجعله من بين أكثر المؤلفات تميزاً في مجاله، فإن زيادة الدراسات اليوم وتوسعها، هي أكثر ما تسلب تلك المزايا عن كتاب جيب، حيث لم يعد يحتفظ بمنزلته المتفوقة التي كان عليها من قبل، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن تغيرت السياقات الفكرية والتاريخية بصورة جذرية في العالم العربي والإسلامي من جهة، وبعد أن توسعت الدراسات الغربية وتراكمت بصورة يصعب حصرها في مجال الإسلاميات المعاصرة.

لا نريد من هذا الكلام الادِّعاء بأن كتاب جيب فقد قيمته المعرفية، لكنه بالتأكيد لم يعد يحتفظ بسطوته وفرادته التي كان عليها في عصره، وهذا ليس عيباً على الإطلاق، بقدر ما هو أمر عادي وطبيعي في عصر تتسارع فيه المعارف وتتراكم فيه العلوم، وتتجدد فيه الأفكار، وتتنوع فيه المنهجيات.

ثالثاً: من الملاحظات اللافتة جداً في كتاب جيب، والمحيرة بعض الشيء أنه لم يأت قط على ذكر الاستعمار الأوروبي مع أنه يتحدث عن التاريخ الفكري للمسلمين، وبالذات في الفترة التي كان العالم الإسلامي واقعاً فيها تحت سيطرة وتأثير الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. مع ذلك لم يتطرق جيب لهذا العامل الذي يُعدّ من أخطر العوامل تأثيراً، وأشدها تحريضاً على حركية الفكر الإسلامي الحديث، ويكفي أن هذا العامل كان وراء انبعاث أعظم حركة إصلاحية ظهرت في العالم الإسلامي الحديث، وفي طليعتها حركة السيد جمال الدين الأفغاني.

ولا يعتقد على الإطلاق أن هذا العامل كان بعيداً عن إدراك جيب، أو أنه لم يلتفت إليه، أو أنه سقط سهواً، فمثل هذه التقديرات تصطدم بشدة والذكاء الذي يتصف به جيب. وأغلب الظن أن جيب تعمد إخفاء الحديث عن هذا العامل، وتقصّد إهماله في خطوة أقل ما يقال عنها إنها خطوة ليست ذكية من جيب. في المقابل تعمّد جيب أن يبرز عاملاً آخر، له صفة البديل أو هكذا يفهم عن ذلك العامل، هو عامل التحدي الديني المسيحي، الذي كرر الإشارة إليه، ولفت النظر إليه بطريقة سلبية ونقدية في أكثر الأحيان. وهذا ما يتضح حين يشير جيب إلى النقطة الرابعة في البرنامج التجديدي للشيخ محمد عبده، والتي حددها بقوله: الدفاع عن الإسلام ضد التأثيرات الأوروبية والهجمات المسيحية، واعتبر أن من غير المعقول تصوير التأثيرات الأوروبية بهذا الشكل الاتهامي؛ لأن الروح العصرية في العالم الإسلامي مدينة في قسطها الأوفى حسب رأيه لهذه التأثيرات الأوروبية، من دون أن يبرّئ التحديات الدينية المسيحية.

وقد التفت إلى هذه النقطة إدوارد سعيد، حيث أشار إلى أن جيب لا يتحدث في أي موضوع عن الاستعمار الأوروبي، ولا يخطر بباله أبداً -والكلام لسعيد- أن تاريخ الإسلام الحديث قد يكون أكثر قابلية للفهم لمقاومته السياسية وغير السياسية للاستعمار.

وكان يفترض أن يكون مالك بن نبي أقرب من يلتفت إلى مثل هذه الملاحظة لحساسيته الشديدة والمحقة من الاستعمار، كما كان يكفي لمثل هذه الملاحظة أن تقلب أو تغيّر بعض الشيء من انطباعات ابن نبي حول كتاب جيب.

رابعاً: تقوم أطروحة جيب في كتابه على دراسة تأثير الاتجاهات الفكرية الحديثة في مجال نظرة المسلمين إلى عقيدتهم الدينية، مقارنة بالتحول الذي حصل عند المسيحيين في مجال العقيدة الدينية، نتيجة التأثير الضخم الذي أحدثته الاتجاهات الفكرية الأوروبية الحديثة في المجتمعات الأوروبية المسيحية، وهل من الممكن أن يحصل عند المسلمين ما حصل عند المسيحيين في النظر إلى العقيدة الدينية؟

ويعتقد جيب أن مشكلة الفكر الإسلامي هي في البناء الديني والعقدي، والذي يصفه دوماً باللاهوتي، لتقريب هذه المشكلة من طبيعة المشكلة اللاهوتية التي واجهت الفكر المسيحي والعقيدة الدينية المسيحية. وهذه المشكلة في نظر جيب هي التي تعيق تقدم الفكر الإسلامي نحو تقمّص الروح العصرية.

وقد وجد جيب أن النزعة التجديدية مثلت اتجاهاً فكرياً جديداً داخل المجتمعات الإسلامية، يختلف عن مسلك الاتجاه العام المحافظ والسائد بقوة في المجتمعات الإسلامية. وما يخلص إليه جيب أن الاتجاه المحافظ أو التقليدي هو الأكثر قوة ورسوخاً في المجتمعات الإسلامية، في حين أن الاتجاهات الفكرية الحديثة لم تستطع أن تحدث أثراً عميقاً في هذه المجتمعات.

والأمر الغامض في هذه الأطروحة هو هل أن جيب كان في صف هذه الاتجاهات الفكرية الحديثة التي ظهرت في العالم الإسلامي، أم أنه كان يميل إلى موقف آخر، حيث ظل ينتقد هذه الاتجاهات، ويظهر عجزها وفشلها، ويكشف عن تناقضاتها واضطراباتها، بالشكل الذي أنشأ غموضاً في حقيقة موقفه من هذه الاتجاهات. ويعزز مثل هذا الموقف ما أشار إليه إدوارد سعيد حين صور ما أسماه عدائية جيب لتيارات التحديث في الإسلام، والتزامه العنيد حسب وصفه بالسنية الإسلامية. والغاية من ذلك في رؤية سعيد أن يظل الشرق عالماً مختلفاً ومغايراً، ولا يمت بصلة إلى عالم الغرب.

والخلاصة النهائية في خطاب جيب أن الاتجاهات الحديثة قد فشلت في الإسلام!

ونحن لا نسلم بهذه النتيجة قطعاً، فالإسلام مازال منبعاً صافياً لاتجاهات التجديد الإسلامي.

 

الهوامش:

(1) ميشال جحا. الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1982م، ص51.

(2) هاملتون جيب. الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت: دار مكتبة الحياة، 1966م، ص17.

(3) المصدر نفسه. ص32.

(4) المصدر نفسه. ص10.

(5) إدوارد سعيد. الاستشراق.. المعرفة - السلطة - الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2001م، ص278.

(6) المصدر نفسه، ص279.

(7) يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق.. الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، ترجمة: عمر لطفي العالم، دمشق: دار قتيبة، 1996م، ص310.

(8) هاملتون جيب. مصدر سابق، ص10.

(9) مالك بن نبي. وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص17 - 18.

(10) مالك بن نبي. القضايا الكبرى، دمشق: دار الفكر، 1991م، ص125 - 127.

(11) إدوارد سعيد. مصدر سابق، ص279.

(12) سورة الروم. آية 22.

(13) سورة فصلت. آية 53.

(14) السيد محمد حسين الطباطبائي. الميزان في تفسير القرآن، بيروت: مؤسسة الأعلمي، ج1، ص134.

(15) السيد محمد رشيد رضا. تفسير المنار، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999م، ج4، ص115.

(16) هاملتون جيب. مصدر سابق، ص56.

(17) المصدر نفسه. ص82.

(18) مالك بن نبي. وجهة العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص20.

(19) المصدر نفسه، ص21.

(20) مالك بن نبي. القضايا الكبرى، مصدر سابق، ص181.

(21) المصدر نفسه. ص169.

(22) إدوارد سعيد. مصدر سابق، ص129.

(23) المصدر نفسه. ص267.

(24) المصدر نفسه. ص264.

(25) رضوان السيد. الإسلام المعاصر: نظرات في الحاضر والمستقبل، بيروت: دار العلوم العربية، 1986م، ص209.

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة