تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مؤتمر: "التنمية الإنسانية: أبعادها الدينية والاجتماعية والمعرفية"

محمد تهامي دكير

بيروت بين 1-3 كانون الأول (ديسمبر) 2005م

"اذا كانت مرجعية الحياة ستصبح هي الماضي، فماذا سيفعل المسلمون في الحاضر، وما هي رؤية العالم التي سيمارسون حياتهم في ضوئها، وخصوصاً ونحن نعيش في عصر العولمة، حيث لا تغني المقاطعة الثقافية، ولا العزلة الدولية..؟!".

د. السيد يسين

 

مأزق التنمية في العالم العربي: الفريضة الغائبة

سواء تعلق الأمر بتقارير التنمية الصادرة عن الأمم المتحدة أو التقارير التي أصدرتها بعض مراكز الأبحاث في العالم العربي، وكذلك الدراسات المستقلة التي ينجزها بعض المهتمين بموضوع التنمية، فإن الكل يؤكد حقيقة واحدة وهي: المأزق الخطير والكارثي الذي تتخبط فيه التنمية الإنسانية في العالم العربي.

ومن خلال قراءة سريعة في هذه التقارير والدراسات نلاحظ أن أهم عوائق التنمية الإنسانية هي التالي:

أولاً العوائق الخارجية: وتتمثل في سعي الدول الغربية المتقدمة إلى الحيلولة دون تقدم دول العالم الثالث، وتحقيقها أي تنمية حقيقية، وذلك لإبقاء دوله سوقاً استهلاكية، وخصوصاً دول العالم العربي. يظهر ذلك بوضوح في المخططات والوصفات التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية لإصلاح هذه الاقتصادات المحلية.

فقد أكدت نتائجها حجم الكارثة التي أصيبت بها الاقتصادات التي اتبعت هذه المخططات الإصلاحية، فالمطالبة بتعديل هيكلية القطاعات المنتجة وتحويلها إلى القطاع الخاص وربطه باقتصاد السوق دون استعداد أو إمكانية لتحقيق مساواة تنافسية، تعني القضاء النهائي على اقتصاديات هذه الدول. بالإضافة إلى تعميق مستوى الاستتباع للسوق الرأسمالية العالمية الجشعة والتي تتحكم فيها شركات عملاقة عابرة للقارات وللدول.

أما العوائق الداخلية فهي كثيرة، أهمها:

- ضعف الحكومات العربية وعجزها عن التخطيط الاستراتيجي لتحقيق تنمية مستديمة، بدل الخضوع والاستسلام لنصائح صندوق النقد الدولي.

- الاستبداد السياسي، فهو -حسب جميع التقارير التنموية العربية- أهم عائق للتنمية في العالم العربي، لأنه المسؤول أولاً عن الهدر والفساد المالي والتخطيطي، ثانياً مسؤوليته المباشرة عن انتهاك حقوق الإنسان والحد من الحريات وخوفه الدائم والعميق من الإبداع والابتكار والانتاج والاستقلال.

أما مظاهر أزمة التنمية الإنسانية في العالم العربي فتظهر بوضوح في نسبة الأمية المرتفعة والمتفشية، وتردي نوعية التعليم وتواضع مخرجاته، وضعف الاهتمام بالبحث العلمي، فحسب تقرير التنمية لسنة 2003م لا تتجاوز مخصصات البحث العلمي 2% وجلها تدفع كرواتب. كما أن عدد العلماء والمهندسين والعاملين في حقول البحث العلمي والتطوير في البلدان العربية لا يزيد على 371 لكل مليون نسمة. وكذلك ضعف الإبداع بشكل عام، فلم يتجاوز عدد الكتب المنتجة في العالم العربي 1,1% من الإنتاج العلمي، وعدم الاهتمام بالترجمة فقد ذكرت التقارير أن معدلات الترجمة لا تتجاوز الكتاب الواحد في السنة لكل مليون نسمة مقابل مثلاً 519 كتاباً في المجر و920 كتاباً في أسبانيا لكل مليون نسمة.

إن المعرفة التي هي أساس التنمية الإنسانية والقاعدة الصلبة التي تنطلق وتتكئ عليها أي تنمية هي كما جاء في تقرير 2003م "تكاد تكون الفريضة الغائبة في أمة العرب الآن.." لذلك يضيف التقرير: من أراد العزة لأمة العرب في العصر الآتي، فليساهم مخلصاً ومجتهداً في إقامة مجتمع المعرفة في ربوع الوطن كافة.

لن نكون مجانبين للصواب أو متسرعين في التقويم إذا ما قلنا: إن الأوراق والدراسات والمداخلات التي قدمت في مؤتمر "كلمة سواء" العاشر الذي نظمه مركز الإمام الصدر للدراسات والأبحاث في بيروت بين 1-3 كانون الأول (ديسمبر) 2005م لم تأتِ بجديد -لا من حيث توصيف أزمة التنمية الإنسانية في العالم العربي وأسبابها، ولا من حيث المقترحات المقدمة لعلاجها أو الخروج منها- لم يرد في هذه التقارير.

فيما يلي قراءة سريعة في أوراق هذا المؤتمر:

الجلسة الافتتاحية

انطلقت أعمال المؤتمر بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم النشيد الوطني، وبعدها ألقى عريف الاحتفال الشاعر المهندس حسين حمادة قصيدة موجهة إلى الإمام المغيب موسى الصدر، ثم تناول الكلمة نجل الإمام السيد صدر الدين الصدر الذي ألقى كلمة مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات، رحّب فيها في البداية بضيوف المؤتمر وعلى رأسهم الرئيس السيد محمد خاتمي، ثم أشار إلى المؤتمر الصحفي الذي كان الإمام السيد موسى الصدر قد عقده في آب 1966م، وتعرّض فيه لقضايا الحرمان والمحرومين في لبنان والكشف عن مطالبهم وآمالهم وآلامهم، محمِّلاً الدولة مسؤولية ذلك الحرمان والإهمال، وفي ذلك الجو من الإهمال والدونية يقول الإمام الصدر: تنامت إرادة البحث عن وطن حقيقي تتساوى فيه الطوائف والمناطق، إن البنية الطائفية للدولة هي المسؤولة -في نظر الإمام- عن الحرمان وإعاقة التنمية الشاملة؛ لذلك وقف الإمام ضد هذا النظام الطائفي وطالب بإلغاء الطائفية السياسية، أما الغاية النهائية من التصدي للحرمان أو التنمية -حسب الإمام الصدر- فهي الاستثمار في الإنسان، أي تأمين المناخ للإنسان لتفجير كفاءاته. وذلك عبر تمكينه من امتلاك المعارف والمهارات والأدوات المناسبة والفرصة التي تمكنه من تحقيق ذاته وخدمة مجتمعه في عملية متواصلة حدودها استنفاد العناصر المكونة لإنسانيته وخلافته في الأرض...

وبعد أن أوضح السيد صدر الدين الصدر مفهوم التنمية وغاياتها عند الإمام المغيّب، أشار إلى ما قام به الإمام من أعمال على الأرض لتحقيق التنمية على المستوى التوعوي والتثقيفي وصولاً إلى العمل على إنشاء الجمعيات والأندية والمدارس المهنية والمؤسسات ذات الطابع الديني والاجتماعي، ومشاركته في إيقاظ وبثّ روح العمل في المحرومين وإيجاد الوعي الضروري لديهم للمطالبة بحقوقهم.

وفي الأخير أشار السيد صدر الدين الصدر إلى عدد من عوائق التنمية في العالم العربي وعلى رأسها الاستبداد السياسي وتحديات العولمة.

كذلك ألقى الدكتور جورج الزعني صاحب فكرة "معرض موسى الصدر الرؤيوي" كلمة أشار فيها إلى أهم محطة استوقفته خلال تجربته، وهي حقبة فكرية إنسانية حيث تجسد الفكر والواقع قولاً وفعلاً ليشمل كافة أطياف الحياة، أساسه حب الله وحب الوطن، داعياً لتذكر الأمانة التي بدأها السيد موسى الصدر وحملنا إياها منذ تغييبه وحتى اللحظة، لنحمل معه همّ الوطن والمواطن وهمّ المحرومين، ثم أشار إلى أن معرضه اليوم ما هو إلا مرآة صغيرة تعكس شعاعاً من أشعة شمس أرادوا لها أن تغيب، ولكنها ستبقى مشرقة طالما أن هناك فكراً حراً وقلباً يرى. مؤكداً على كونه -أي المعرض- عربون وفاء لصديق أحبه وهو متأكد من محبته له. لأن محبته وسعت الجميع وهي التي جمعت الحضور اليوم.

بعده ألقى الشيخ القاضي دالي بلطة كلمة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد قباني، الذي أكد في البداية أهمية موضوع المؤتمر كونه من أكثر الموضوعات حيوية في هذا العصر، مشيراً إلى القواعد والأسس الإسلامية للتنمية، وأن خلافة الأرض تتطلب العمل على استعمار الأرض وتحمل مسؤولية التطور والتقدم. وفي نظره لا يقوم بهذه المسؤولية سوى الصفوة من بني البشر في مختلف الميادين. هذه النخبة التي تفكر وتسهر وتجود بكل ما يخدم البشرية ويفيدها. وقد كان الإمام الجليل السيد موسى الصدر من هؤلاء الصفوة، فقد ناضل في حياته من أجل التنمية والأخذ بيد الصغير والكبير نحو المستقبل الأفضل، لكن وبكل أسف أين هذا الفكر المتنور والحركة الدؤوبة الهادفة التي تجسدت في حضوره وخطاباته وحواراته. متسائلاً أيضاً عن الأيادي الآثمة التي أسكتت صوته وصوت شخصيات أخرى. في إشارة إلى رئيس الوزراء رفيق الحريري. فقد أطلت هي كذلك من باب التنمية الإنسانية. معتبراً هذه الأفعال الغرض منها الإساءة إلى الأمة لحرمانها من عناصر القوة والتقدم، وإبقائها أمة مستهلكة وسوقاً تجارية لبضائعهم وسلعهم، من أجل سلب خيراتها ونهب ثرواتها واستعمارها سياسياً واقتصادياً. وهذه الحالة تستدعي مواجهة شاملة على مستوى الأمة للخروج مما نحن فيه من حالة العجز.

تناول الكلمة بعد ذلك المطران بولس مطر الذي ألقى كلمة للكاردينال مار نصر الله بطرس صفير بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق. حيَّا فيها فخامة رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق السيد محمد خاتمي لمشاركته في هذا المؤتمر، ومشيداً بأهمية اختيار موضوع التنمية الإنسانية في هذه السنة بعد اختيار موضوع الحرية في السنة الماضية، مؤكداً على العلاقة المهمة بين الحرية والتنمية الشبيهة بعلاقة الروح بالجسد، إذ لا حرية مبدعة وخلاقة في جسم يفتقر إلى القوة والحيل، ولعل في هذه المقاربة -يقول الكاردينال صفير- بين التنمية والحرية ما يشير فعلاً إلى أهمية البعد الديني في إدراك المفهوم الصحيح للتنمية وفي تحقيقها على أرض الواقع، فنحن عندما نبقي تنمية الإنسان في إنسانيته إنما نتعاطى مع اكتمال هذا الإنسان في دعوته الأساسية مع توفير الظروف المادية والمعنوية الملائمة لتحقيق هذه الدعوة. وقد انتقد الآراء الفكرية التي انتشرت في أوروبا والتي روجت لفكرة التناقض بين الدين والتنمية.

كما أشار في كلمته إلى خطاب للإمام موسى الصدر بمناسبة عيد الأضحى سنة 1974م، في صور قال فيه: "إن تجاهل آلام الناس وحاجتهم نوع من الكفر وصور أخرى عن الإلحاد". ليؤكد أن حقيقة الدين هو سند للتنمية وينبوع لها في الأفكار وفي القلوب...

وقد حذّر صفير من خطر ضياع التنمية ما لم تقترن بروح دينية توجه مسيرتها نحو الغايات التي يجب أن تُرسم لها. منتقداً بشدة العولمة وقواها المادية الغاشمة التي تضمن مصالح الأغنياء على حساب المستضعفين والفقراء. فمن يقوّم الاعوجاج -يضيف- وما تكسر حلقته الجهنمية من كوكبة القيم السامية التي تدعو إلى العدل في الأرض وإلى التضامن الحق وإلى كبت جماح الأهواء على أنواعها. لهذا قيل: إن القرن الحادي والعشرين إما أن يكون متديناً وإما ألَّا يكون. فلا تنمية خارج الدين ولا سبيل إلى تحقيقها إذا فقدت بُعدها الديني لأنها تفقد إذَّاك جوهرها الإنساني برمته...

ثم ألقى بعده الشيخ عبد الأمير قبلان نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي كلمة حيَّا فيها في البداية الحضور وعلى رأسهم الرئيس خاتمي، ثم أمَّل أن تتمكن هذه الأمة من استرداد دورها الثقافي والحضاري الذي يعاني الآن من تراجع خطير في ظل استشراء الأمية والجهل، وتعاظم الاستبداد السياسي الذي يتنهك بشراسة حق الإنسان في التعبير عن رأيه وممارسة دوره كإنسان إراده الله أن يكون حراً.

وبعد أن أكد أهمية العلم من خلال الآيات الكريمة والروايات الشريفة، دعا إلى ضرورة التركيز على التنمية الإنسانية وإعطائها من الاهتمام ما يؤدي إلى انطلاقتها انطلاقة علمية توفر لإنساننا مقومات التعلم والمعرفة. وأن يتحول الشباب من ناقل للمعرفة إلى صانع لها، ومن مستورد إلى مستثمر، وهذا يتطلب جهوداً جبارة يجب أن تبذل؛ لأن الذي يطلع على تقارير التنمية الإنسانية في عالمنا العربي والإسلامي يجد كم هو مقلق واقعنا، وكم هي مخيفة الأرقام التي تتحدث عن نسبة الأمية، ويدرك الأهمية التي تحتلها المعرفة في تنمية الشعوب وتقدمها، وهي لا تتعارض أبداً مع واقع عقيدتنا الإسلامية.

وفي الأخير أكد الشيخ قبلان أن الإمام الصدر كان يعي ماذا يريد، ويعرف تماماً مكامن الضعف في الأمة؛ ولهذا كان تركيزه دائماً على بناء المؤسسات، وعلى دورها في عمليات الإصلاح، وبناء المجتمع على قاعدة يكون فيها الإنسان هو المحور، وتنميته هي الغاية والهدف.

وفي ختام هذه الجلسة ألقى الرئيس السيد محمد خاتمي، كلمة تحت عنوان: "الدين في عصرنا الراهن" أشار فيها إلى الدور المحوري للدين في تحرير الإنسان من الجهل والعنف والظلم، وهو الهدف الذي لعبه الدين في نشوء الحضارات والثقافات، ومن بينها الحضارة الحديثة، فهي كذلك مدينة للثقافة الدينية، لكن الإشكالية تكمن في وجود تيارات معادية للدين سواء من موقف ديني أو من موقف علماني، والسؤال الذي طرح هو: هل صحيح ما يزعمه المناهضون للدين بشأن زوال عهد الدين؟

الجواب كما يرى السيد خاتمي، في الواقع القائم، فالعلم لم يتمكن لحد الآن من إيجاد الحلول للكثير من المعضلات، فالخوف والقلق من انعدام الأمن، وحال التذمر لم يكن في أي حقبة من التاريخ مكشوفاً ورهيباً مثلما هو عليه الآن. وقد قدم مثالاً على ما هو قائم في الغرب الآن من خلال شهادة الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه الذي صور حقيقة العالم المتطور وكيف استلب من إيمانه بالله، حيث أضحت اللاألوهية فيه روح الحضارة الجديدة، وربما كان أبناء الحضارة مؤمنين على المستوى الفردي إلا أن وهج الإيمان بالغيب قد خفَّ وخبا في خضم الحضارة الحديثة.

أما العلاج الذي اقترحه نيتشه فهو استبدال الإحباط الناتج عن عالم يخلو من الألوهية بإرادة القوة، أي على الإنسان أن يصبح جباراً (سوبرمان) بإيلائه الأهمية للحياة وتعزيز إرادة القوة، وهذه الفلسفة هي التي أنتجت النازية التي دمرت أوروبا وما تبعها من حروب واستعمار ودمار...

وما يخلص إليه السيد خاتمي هو أن ما حصل كان نتيجة للإعراض عن الله سبحانه وتعالى، فحين يغيب الله عن البال والحسبان، يزول الحب وتتلاشى العدالة، وللخلاص من هذه المحنة ليس للبشرية سوى العودة إلى الله، وإذكاء نور الإيمان في القلوب في صميم مجتمعاتها، لكن هذا لا يعني الدعوة للعودة إلى الماضي وإحياء الأساليب والنظم اللاإنسانية تحت ستار الدين.

إن البشرية في نظر خاتمي بحاجة إلى الدين لأن رسالته هي هداية الإنسان، والدين لم يحلّ أبداً بديلاً عن العقل البشري في تصريف شؤون الحياة، بل يؤكد على أهمية التدبر والتعقل وينشد الحرية والحكمة والعزة للإنسان... وأضاف: فالإيمان الذي أقصده هو ذلك الإيمان الذي من شأنه أن يحرر الإنسان من رهبة الارتماء في خضم الوجود اللامتناهي ويزيل عنه آفة الحزن والهلع الفتاكة...

الجلسة الأولى

نوقش في الجلسة الأولى محور: التنمية عربياً. وانطلقت أعمالها بكلمة النائب في البرلمان اللبناني السيدة بهية الحريري التي ألقتها نيابة عنها السيدة سلوى بعاصيري السنيورة، الحريري أشارت في كلمتها إلى المأزق التنموي الذي يعيشه العالم العربي، فـ 16,8% من العرب فقراء، و21% من الشباب عاطلين عن العمل، ونصف النساء أميات، ونشاط المرأة الاقتصادي هو الأدنى في العالم ولا يتجاوز 29% من قوى النساء في سوق العمل، اما معدل شراكة المرأة في المعترك السياسي فهو كذلك الأدنى في العالم، وبشكل عام فالصورة التنموية العربية قاتمة.

أما أسباب الفروقات الشاسعة التي تفصل الواقع العربي عن التقدم فقد عزتها الحريري إلى غياب المناخ المؤاتي والمتجلي في مجتمع مدني مستنير وفاعل، وسلطة قانون عادل، وديموقراطية منفتحة، تحدُّ من الفوارق في الوصول إلى موارد الرأسمال البشري والمؤسساتي. وفي الأخير أشارت الحريري إلى مفاهيم التنمية الواردة في تقارير الأمم المتحدة، والمعايير المتحركة والأهداف المتجددة للتنمية على غرار أهداف التنمية للألفية الثالثة التي ارتكزت على ستة أهداف رئيسة بغرض تحقيقها بحلول عام 2015م، وهي: الحد من الفقر، تعميم التعليم الأساسي للجميع، تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، خفض معدلات وفيات الرضع والأطفال ووفيات الأمهات، وتوفير الخدمات الصحية والحفاظ على البيئة.

الورقة الأولى في هذه الجلسة قدمها السيد يسين (أستاذ الاجتماع السياسي من مصر) تحت عنوان: "الوجوه الثلاثة للثقافة العربية". أشار فيها في البداية إلى الأسئلة المحورية التي واجهت الثقافة العربية خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن. فمن سؤال: لماذا تقدموا وتخلفنا، وكيف نتقدم؟ مروراً بسؤال: أي نموذج نظام سياسي نطبق؟ وصولاً إلى عصر العولمة والأسئلة المتعددة التي طرحتها الثقافة العربية على نفسها وأهمها: كيف يمكن الحفاظ على الخصوصية الثقافية في عصر العولمة؟

وقبل أن يجيب عن هذه الأسئلة، طرح نظريته لتفسير التغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالمي، من خلال معالجة عناوين ثلاثة:

أولاً: تغيير العالم؛ لأنه لا يمكن تحديد أثر المتغيرات العامة المعاصرة على مستقبل الوطن العربي، بغير قراءة تحليلية ونقدية لهذه المتغيرات عبر المنهج التاريخي النقدي المقارن.

ثانياً: التقييم لما جرى.

ثالثاً: الوجوه الثلاثة للثقافة العربية المعاصرة..

الوجه الأول في نظر الباحث هو وجه الماضي، وأهم خصائصه إعادة اختراع التقاليد المدعومة بموجة عارمة من التدين، وانتشار الفكر الخرافي وشيوع الفكر المتطرف الذي يلوي عنق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تعبيراً عن رؤية مغلقة للعالم تقوم على أساس التحريم والتكفير. وقد انتقد بشدة من أسماهم >من يقومون بالإفتاء< لأنهم في نظره لا يعيشون عصرهم، بل إنهم -وهذا هو الأخطر- لا يفهمون المقاصد العليا للإسلام حق الفهم، ويتزمتون حيث لا مجال للتزمت، ويحرمون حيث لا مجال للتحريم، ويقدِّمون على الإجمال صورة كئيبة للحياة التي ينبغي أن يمارسها المسلمون -في زعمهم- حتى يكتسبوا مرضاة الله.

والخلاصة، فالمجتمع العربي لا يمكن أن يتقدم إذا تحكمت فيه هذه الرؤية الماضوية المصممة -في نظره- أن يحكم الموتى الأحياء.

الوجه الثاني هو الوجه الحاضر، وعنوانه: العرب في مواجهة العاصفة، والسؤال المحوري الذي يطرح على الثقافة العربية فيه هو: كيف ستتفاعل مع العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية؟ وهنا نجد الباحث يتحدث بتفاؤل عما ستكشف عنه العولمة عندما أكد أن العولمة ستتجاوز شروط نشأتها الرأسمالية لتصبح عملية عالمية واسعة المدى وستنقل الإنسانية إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي، وستحدث آثاراً إيجابية لم تكن متصورة لدى من هندسوا عملياتها. لذلك لا جدوى -في نظره- من محاربتها كما يدعو البعض، وإنما لابد من البحث عن منهج صحيح للتعامل معها يحدد طبيعة المعركة ومجالها وخصوصاً إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم. وكذلك فرض ثقافة كونية مناقضة لخصوصيات الشعوب.

الوجه الثالث وجه المستقبل، وأهم ما يميزه هو غياب الاستراتيجية العربية التي تنطلق من مفهوم التنمية المستديمة القائمة على دعائم ثلاثة هي: الحرية السياسية والعدل الاجتماعي والانفتاح الثقافي على العالم.

وفي الأخير يقترح الباحث استراتيجية عربية تقوم على عناصر أربعة:

أولاً: ضرورة رسم خرائط معرفية للاتجاهات الإيديولوجية في الوطن العربي.

ثانياً: تبنّي موقف رشيد من ثلاثية: الماضي والحاضر والمستقبل.

ثالثاً: حصر مشكلات التواصل الثقافي مع الغرب.

رابعاً: الدعوة للإسهام العربي في مناقشة المشكلات الإنسانية العالمية.

الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها د. كلوفيس مقصود نيابة عن المجلس الاستشاري لتقرير التنمية الإنسانية العربية (لبنان) عن: "التنمية العربية بين الإصلاح من الداخل والضغوط من الخارج" حيث أشار إلى أهمية التقارير الأربعة التي أنجزت تحت إشراف المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأنها صرخة للحوار ومبادرة جادة لانفتاح متبادل بين صانعي الرأي وصانعي القرار، وكونها انطوت على معلومات واقتراحات أثبتت كونها بمجملها محاولة جريئة في تجسير آليات الدولة مع مؤسسات المجتمع المدني، كما حاولت الكشف عن جذور تخلف مسيرة التنمية ودراستها بموضوعية فائقة.

وقد أكد د. مقصود على أهمية الترابط بين التنمية والمشروع القومي وأن أحدهما يرفد الآخر، وأن ما يسعى إليه العرب بالفطرة لتكامل بلدانهم تستوجبه متطلبات العولمة التي تسارع خطا اندماج العالم بعضه في بعض، بينما نرى بلدانا لا يجمعها ما يجمع العرب ويفرقها ما لا يفرق العرب، تبذل كل طاقاتها وتعمل كل ما في وسعها لأن تكون كياناً واحداً.

أما بخصوص حال مجتمع المعرفة في الوطن العربي، فقد أشار الباحث إلى مجموعة من المعطيات، فالتعليم في العالم العربي يعاني من تردي النوعية، والإعلام لايزال دون المستوى العالمي، إذ ينخفض عدد الصحف إلى أقل من 53 لكل 1000 شخص، مقارنة مع 285 صحيفة لكل 1000 شخص في الدول المتقدمة. كذلك في مجال استخدام التقنية الحديثة فعدد أجهزة الحاسوب تنخفض إلى أقل من 18 لكل 1000 شخص مقارنة مع المتوسط العالمي وهو 78,3 جهاز لكل 1000 شخص، كما يقتصر عدد مستخدمي الإنترنت على 1,5% فقط من سكان الوطن العربي ككل.

وفي معرض حديثه عن رؤية استراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية، أشار إلى أن تقرير التنمية الإنسانية العربية أكد على أهمية إطلاق حريات الرأي والتعبير من خلال إنهاء الرقابة وسطوة أجهزة الأمن على إنتاج المعرفة ونشرها، وإصلاح التعليم وترقية جودته في جميع مراحله. كما اقترح تأسيس نموذج معرفي عربي أهم أركانه النهوض باللغة العربية، والعودة إلى صحيح الدين وحفز الاجتهاد، وإثراء التنوع الثقافي داخل الأمة مع الانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى. كما تطرق التقرير الثالث إلى النقص في الحرية والحكم الصالح في العالم العربي، متصدياً لقضية الحرية ما بين الاستبداد في الداخل والاستباحة من الخارج. كما أن الحريات في جميع البلدان العربية تبقى مستهدفة من سلطة الأنظمة غير الديموقراطية وسلطة التقليد والقبيلة المستترة بالدين.

الورقة الأخيرة في هذه الجلسة كانت للدكتور أحمد بعلبكي تحت عنوان: "حول التنمية والمشاركة في مجتمع لا يحكم سوقه"، في البداية أشار الباحث إلى الأنماط الثلاثة التي عرفتها الرأسمالية، الأول عدواني استعماري والثاني تميز بالقدرة الإدارية على هندسة تبعية البلدان المستقلة، أما النمط الثالث من الرأسمالية فقد قام مع مطلع الثمانينات بفعل القفزة المحققة في تكنولوجيا المعلومات. ويقوم هذا النمط على عقيدة توصف بالنيوليبرالية ولا تؤمن بالمساواتية أو بمجتمع الرعاية والتكافل والتوازن الاجتماعي، بل تقوم على عدالة المنافسة في اقتصاد السوق. وهذا النمط من الرأسمالية بدأ يمارس عدوانية لا تقل خطورتها عن الرأسمالية الاستعمارية، لأنه يفرض على حكومات العالم الثالث أن تتكيف مع شراكات غير متكافئة، وأن تفتح أسواقها وهي لم تهيئ نفسها للمنافسة.

وفي رده على سؤال مدى حدود الشراكة المتاحة لمجتمعاتنا العربية في الأسواق المتعولمة؟ أكد الباحث أن لبنان ليس بحاجة إلى توصيات من مراكز القرار المالي الدولية لتعديل الهيكلية القطعية لاقتصاده، لأنه يعتمد ليبرالية مفرطة بحيث لا تتجاوز حصة القطاع العام في ناتجه المحلي القائم أكثر من 6%، وإنما كان بحاجة إلى إصلاحات مالية وإدارية. وقد أبدى د. البعلبكي -على مستوى المشاركة الاقتصادية-شكه في جدوائية القروض الصغيرة التي تتحول في غياب شروط الدعم الحقيقي الحاضر إلى مجرد دعم إغاثي، أما أمكانية المشاركة السياسية فهي الأخرى تظل رهينة زبائنية طائفية، المستفيد الأكبر منها الزعيم السياسي للطائفة أو الحزب. متسائلاً في الأخير: هل يمكن أن يكون دور المرجعيات الدينية أكثر التزاماً بمعاش الناس في طوائفهم وأقل ارتباطاً بسياسات زعمائها..؟

الجلسة الثانية

بعد المداخلات التي قدمت على الأوراق والاستراحة، انطلقت أعمال الجلسة الثانية لمناقشة المحور الثاني: البعد الديني للتنمية الإنسانية. وقد ترأسها القاضي الشيخ أحمد الزين الذي أكد في مداخلته على أهمية أن تبدأ التنمية الإنسانية من الإيمان بالله سبحانه وتعالى واحترام القيم والتشريعات الدينية، لأنها تحترم كرامة الإنسان، وتراعي العدالة والمساواة، لذلك فمشروع التنمية في الدين وما يتضمن من قيم هو مشروع للتقدم والنهوض بالمجتمع. وأضاف الشيخ الزين: إن البعد الديني للتنمية الإنسانية يحتم علينا أن ننظر للمستقبل وأن نضع المشروع الذي ينهض بالوطن والمجتمع في جميع القطاعات سواء كان ذلك في الاقتصاد أو في التربية أو في النواحي الاجتماعية وسائر النشاطات. ودراسة الواقع دراسة علمية مستفيدين من تراثنا الحضاري والثقافي والديني.

الورقة الأولى في هذه الجلسة قدمها المطران جورج خضر تحت عنوان: "موقع الدين في عملية التنمية" حيث تساءل في البداية عن علاقة المعتقد الديني بالتنمية، مؤكداً على حقيقة مفادها أن التجارب البشرية أثبتت أن التنمية قد تتكون من عناصر دينية وقد تخلو من الدين، بالإضافة إلى أهمية طبيعة كل دين، هل هو سماوي أو وضعي، وفاعليته وموقعيته في اللحظة التاريخية فقد يكون سبباً للتطور والتغيير والتقدم، وقد يصبح في لحظة تاريخية معينة عائقاً وداعماً للركود والتخلف.

لكن مما لاشك فيه بالنسبة للمطران خضر أن الأديان وخصوصاً السماوية لم تكن بعيدة عن أي تطور أو تغيير عرفته البشرية، فالثورة الفرنسية وإن كانت مستندة مباشرة لأفكار مونتيسكيو وروسو وغيرهما من الفلاسفة، إلا أنها استندت كذلك إلى المسيحية، لأن شعار: الحرية والمساواة والأخوة، له جذور مسيحية واضحة، كما أن الحضارة اليونانية -يقول خضر- التي استندت إليها أوروبا جزئياً ليس فيها أي أساس للحرية والمساواة والأخوة وكذلك روما. هناك شعور مسيحي احتجب بسبب مخاصمة الثوار للكنيسة الكاثوليكية، ولكن الثورة ضمت المعاني المسيحية إليها ولم تعترف بالمصدر المسيحي بسببٍ من الدم المراق والتمرد على الكنيسة كمؤسسة أو كقيادة اكليروسية. وكذلك الأمر بالنسبة لشرعة حقوق الإنسان والفنون فجذورها دينية.

إذن لا يمكن -حسب المطران خضر- إغفال دور الدين، ولكن هناك ما وصفه بالمفارقة، فروح التكفير وروح الحرية آتيان معاً من المسيحية التاريخية. وكذلك تأتي الحماسة الدينية سبيلاً للعطاء أو تأتي سبيلاً للقتل والإبادة. ولكن بالنسبة له، هذا لا يعني أن يوظف الدين توظيفاً اجتماعياً، ولكن الواقع يدل على أن الله هو في وسط الشعوب ويحركها، ويبقى الواجب: كيف يلتقي أهل الأديان لتنمية الإنسان؟

الدكتور جلول صديقي (مدير معهد الدراسات الإسلامية وتكوين الأمة في باريس) قدّم ورقة بعنوان: "الوعي وحركة التاريخ" أشار فيها إلى عدد من السنن والقوانين الإلهية الحاكمة للتاريخ، مؤكداً أن الخروج من دوائر الهزيمة والضعف لا يأتي عرضاً وإنما لابد من أن يتلازم مع حالة من الوعي تكون كافية لمراجعة ما حدث بعين فاحصة. أما بخصوص الإسلام فرأى د. صديقي أنه لم تقم أية شريعة في التاريخ الإنساني تنظم وتهيمن على حياة الإنسان وسلوكه وتفكيره كالشريعة التي أقامها القرآن الكريم، هذا الكتاب المقدس الذي يخاطب العقل والقلب معاً ويستجيب للعواطف الإنسانية السامية والصادقة.

وفي معرض حديثه عن أهمية العدالة والعدل في الإسلام رأى الباحث أن العدالة في القرآن الكريم تبدو كنتيجة للعدالة الكونية، لأن الكون في الرؤية الإسلامية قائم على أساس العدل والحق، وهذا ما أشار اليه الإمام السيد موسى الصدر في كلمة له بمناسبة انعقاد الملتقى التاسع للفكر الإسلامي سنة 1975م عندما قال: إن العدالة في الإسلام في كافة المجالات والحقل الاجتماعي والاقتصادي بوجه خاص، تعتمد على الإيديولوجية الإسلامية، بل هي ركن من أركانها، وذات تأثير كبير على الأركان الأخرى.

والخلاصة التي يتوصل إليها الباحث هي: أن العدالة الكونية هي رؤية إسلامية وهي أيضاً نتيجة الإيمان بعدالة الخالق، هذه العدالة الكونية تضع القاعدة الثابتة للعدالة في حياة الإنسان الفرد والجماعة، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وبالتالي فلا يمكن أن نفصل بين التنمية والعدالة، أما منهج الوصول إلى تحقيق العدالة وبالتالي التنمية فهو إعمال العقل والتفكير وحسن الاستفادة من تعاليم الإسلام، وهذا ما أكدته التجربة الإسلامية في الماضي.

الشيخ محمد زراقط (لبنان) تحدّث عن "التنمية الإنسانية: رؤية للتكامل على ضوء القرآن" فأشار في البداية إلى مركزية مفهوم التنمية في العقل الإنساني المعاصر، وأن مصطلح التنمية في علم الاقتصاد ظهر لأول مرة في كتابات المفكر الاقتصادي البريطاني آدم سميث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ولكنه لم يتحول إلى مفهوم مركزي يكثر تداوله إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وكان يقصد به عند بداية استخدامه >عملية إحداث مجموعة من التغييرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده". وقد اكتسب هذا المفهوم مشروعية معرفية بل سلطة معرفية ربما تتجاوز حدود المعرفة إلى السياسة بعد تبنيه من قبل الأمم المتحدة.

كما أشار الشيخ زراقط إلى أن مفهوم التنمية يشتمل على تركيب من مفاهيم أهمها:

1-  تكوين القدرات البشرية مثل تحسين الصحة وتطوير المعرفة والمهارات.

2- استخدام البشر لهذه القدرات في الاستمتاع أو الإنتاج.

3- مستوى الرفاه البشري المحقق.

أما بخصوص العلاقة بين الدين والتنمية فقد أشار الشيخ زراقط إلى وجود عدة نظريات، بعضها يرى في الدين المنطلق الأول لأي عملية تنموية، فيما يرى آخرون أن الدين بنظرياته الجامدة الموحاة لا يترك للعقل الإنساني مجالاً للحركة وبالتالي فهو أول معيق للتنمية، ويرى فريق ثالث أن المشكلة في الخطاب الديني المتشدد. إلا أن الباحث يعترض على اعتبار الدين عائقاً وكذلك الخطاب الديني الموصوف بالتشدد، لأن هذا الخطاب لا يتحمل منفرداً مسؤولية التخلف في المجتمع العربي المعاصر، بل ليس له حتى النصيب الأوفر، لأن الدين ليس في موقع القرار. أما بخصوص وجهة نظر الدين في التنمية فقد استعرضها من خلال أهم محطاتها الثلاثة، فالمنطلقات القرآنية للتنمية تنطلق من واقع الإيمان بقدرة الإنسان على تطوير ذاته والرقي بها نحو الأفضل وهذا ما أشارت إليه أكثر من آية كريمة، وأما مجالات التنمية فهي لا تنحصر بالنسبة للدين الإسلامي في الدنيا بل تشمل الآخرة، المادة والروح، يقول سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} القصص 77.

أما عن أدوات تحقيق التنمية فذكّر الشيخ زراقط بالقاعدة الفقهية التي تقول: إذا وجب الشيء وجبت مقدماته، وبالرجوع إلى القرآن والأحاديث الشريفة نجد الاهتمام الكبير بالعقل وضرورة استخدامه والحث على التفكر والتدبر، لأن خلافة الله في الأرض لا يمكن أن تنجز دون الاستفادة من العقل واستخدامه. وبخصوص الأهداف، فرحاب الدين أوسع لأنها تتجاوز البعد المادي إلى الأبعاد الأخلاقية وتنفتح على البعد الكمالي غير المحدود. وفي الأخير يؤكد الباحث أن الإنسان المعاصر الذي هو مبدأ التنمية وموضوعها يعاني من حالة ضياع لأنه "استقل الحافلة الخطأ" فقد صار الهدف أداة وشيئاً في خدمة السيد الجديد والمعولم أي رأس المال الجشع. والذي يعيق التنمية في عدد من دول العالم.

أما السيد بيتر دولا منسق برامج اللجنة المركزية للمنونايت في العراق فقد تحدث عن: "الدين والتاريخ والجمعيات غير الحكومية" في البداية أكد دولا أن التاريخ والتنمية اتجها نحو الأمام ومن أجل تحقيق الأفضل. مشيراً إلى المفهوم الأوروبي الجديد للتاريخ والذي يرى أن أوروبا تعني (الآن) أو اللحظة الآنية وأن كل ما هو ليس أوروبي يعني (ليس بعد) ودلالات هذا المفهوم تمتد بوضوح في مفاهيم مثل: الحداثة والتقليدية، العقلانية والخرافة، التقدم والتخلف.

أما عن دور الجمعيات غير الحكومية فقد إشار إلى أهميتها ودورها الإيجابي في الكشف عن المشاكل التي يعاني منها الناس والعمل على مساعدتهم في حلها، لأنها لا يمكن أن تدّعي أنها تملك الحلول والإجابات عن كل الأسئلة، وقد حذر دولا من سلبيات أن تعمل الجمعيات الوطنية وتتدرب كيف أن تكون غربية، مطالباً باحترامها لخصوصيتها المحلية إن على مستوى تشخيص المشاكل أو على مستوى إيجاد الخطط والحلول.

الجلسة الثالثة

في المساء انطلقت أعمال الجلسة الأخيرة لمناقشة المحور الثالث: التنمية الإنسانية في فكر الإمام الصدر وتجربته. وقد ترأسها القاضي الدكتور عباس الحلبي. وتحدث فيها في البداية الدكتور ياسين عساف عن: "التنمية الأخلاقية في فكر الإمام الصدر" فأشار في البداية إلى إشكالية البحث في مصدر الأخلاق إشكالية مطروحة منذ القدم، فإذا كان الفلاسفة يؤسسون الأخلاق على الفلسفة أو ينفون الأصل الغيبي للأخلاق فإن الإمام الصدر من القائلين بأن مصدر الإخلاق ديني وأن المقتضى الأخلاقي هو أمر رباني إطلاقي، والهدف منه تنمية الجانب الروحي في حياة الفرد والمجتمع. وهذا التأسيس استقاه الإمام الصدر من القرآن والسيرة النبوية ونهج الإمام علي واستشهاد الإمام الحسين ومفهوم الجهادين الأكبر والأصغر. وبالتالي فالنص الديني هو الأصل الوحيد للمبدأ الأخلاقي. هو النص التأسيسي للأخلاق.

اما الأخلاقيات الواجب تنميتها في فكر الإمام الصدر فهي الكرامة الشخصية وحرية الإرادة والضمير، لأن الإنسان قيمة في ذاته وهو بحاجة إلى التنمية المادية والروحية والعقلية. وأساس هذه التنمية إشعاره بكرامته الشخصية وحرية إرادته وضميره، وتأكيداً لذلك يقول الإمام الصدر: الخطوة الأولى في طريق تربية الإنسان ورفع مستواه في جميع حقول التكامل هي في جعله يشعر بكرامته. وبخصوص العدالة والمساواة وعدم التسامح مع الظلم الاجتماعي فإن الباحث يرى أن العدالة قيمة أخلاقية متصلة بماهية الإنسان وحقوقه وواجباته، وبالتالي فالعدالة التامة في رأي الإمام الصدر هي الاحترام لحقوق المواطنين في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتنمية. وقد تتبع الباحث أبعاد التنمية الأخلاقية في فكر الإمام وأهدافها، ليؤكد أن من أهدافها الارتقاء بالثقافة الروحية لأن التنمية الأخلاقية بمضمونها الروحي ترسي في قلب الإنسان الطمأنينة المطلقة، وترتقي به إلى أسمى حالات النفس البشرية المتحررة من الانفعالات والأهواء والقيود المادية.

وفي الأخير خلص الباحث إلى أن التنمية الأخلاقية في تعاليم الإمام الصدر ترسخ علاقات إنسانية على أسس العدالة والتضامن والتكافل والتعاون والتسامح ونبذ التعصب والتفاني والتضحية والفداء والثقة والصدق والأمانة. وتبقى المحبة المبدأ الأساس في الأخلاقيات اللاهوتية.

الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للدكتور غسان طه تحت عنوان: "المعرفة والتنمية عند الامام الصدر" أكد فيها في البداية وجود علاقة جدلية بين مفهوم المعرفة والتنمية، لأن التنمية لابد وأن ترتكز على قاعدة معرفية توفر إمكانية الارتقاء بالواقع الإنساني لبلوغ غاياته السامية. وهذ الثنائية في نظر الباحث برزت لدى الإمام الصدر على نحو من الخصوصية والفرادة، لكونها بدت متمايزة عمن تقدم من رجالات الدين إن لجهة الدور الذي يضطلع به رجل الدين، أو لجهة الأسلوب لبلوغ الغايات والأهداف، لكن هذه الثنائية كانت منفقحة على مداها الإنساني الأوسع ولم تحتجب أو تلتبس بالتباسات الحاضر وأبعاده المصلحية التي تحيل إلى كل ما يضج به هذا الواقع من غوغاء الإيديولوجيا وإقصائها في آن معاً.

وقد سلط الباحث الضوء على الواقع الذي انطلق منه السيد الصدر والمتمثل في الغبن الذي كانت تعاني منه الطائفة الشيعية في لبنان بسب الطائفية السياسية، بل حتى مع حصولها على بعض الحقوق فإن المطالب الإنمائية ظلت معلقة تتقاذفها المصالح السياسية لبعض العائلات المهيمنة على القرار السياسي للطائفة، وهذا ما دفع الإمام الصدر إلى انتهاج أسلوب جديد أثار اعتراض حتى بعض رجال الدين ضده، من أولئك الذين لم يتعودوا من رجل الدين الخوض في غمار العمل السياسي والاجتماعي وقيادة جماهير المحرومين واستنهاضها للمطالبة بحقها ومواجهة السلطة. لكن الإمام الصدر لم يعبأ بهذه الاعتراضات بل تابع أعماله وجهوده على جميع المستويات الاجتماعية والخدماتية والتربوية، واستقطاب المثقفين ورجال الدين لخدمة مشروعه التنموي الذي تجاوز الطائفة للمطالبة بحقوق جميع المحرومين في لبنان. من هنا يقول الباحث: برز السيد الصدر كقائد ديني يسعى إلى فهم قضايا الناس وحاجاتهم. منطلقاً في عمله نحو تربية الإنسان المؤمن بدينه ووطنه، ثم بناء المؤسسات التي جعلت الطائفة الشيعية تتميز بموقع في التركيبة اللبنانية.

الورقة الأخيرة في هذه الجلسة قدمها الأستاذ رائد شرف الدين بعنوان: "نموذج التنمية الشاملة في تجربة الإمام الصدر" أشار فيها إلى المفاصل الأساسية لمشروع الإمام التنموي فالقضية المحورية فيه مواجهة الاستبداد الذي يسلب الحريات ويحطم الطاقات، والحل يتمثل في:

- صيغة المجتمع تتقدم على صيغة النظام.

- تلاحم الكرامة الشخصية والكرامة الوطنية.

- لا وحدة وطنية بغياب العدالة الاجتماعية.

- لا تناقض بين اللبنانية والعروبة والإسلام في الأفق الإنساني الرحب.

أما أسس التنمية الشاملة فتتمثل في تحصيل الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية، والانفتاح والحوار والاعتراف بالتعددية والاختلاف. أما الترجمة العملية لتحقيق التنمية فلابد من: تحويل الجامع إلى جامعة، اجتياز بين التيارات والطوائف، إنشاء المجالس والأطر المؤسسية، تأسيس المدارس والمعاهد وإطلاق المبادرات التنموية المحلية.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة