تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

إشكاليات القطيعة والتصادم بين الاسلاميين ومستقبل العلاقة

زكي الميلاد

ما أظهره الإسلاميون من نشاط سلوكي, خلال الفترة التي سجل لهم فيها الحضور السياسي والاجتماعي الواسع, والذي أخذ وتيرة متصاعدة وسريعة مع بداية عقد الثمانينات من القرن الأخير, الحضور الذي كان هو الأبرز من بين كل التيارات والنخب السياسية والفكرية الأخرى المغايرة, بعد زمن من الغياب العلني والظهور العام. هذا النشاط السلوكي في المنظور النقدي الراهن بحاجة إلى مزيد من التأمل والمراجعة, بعد أن برزت من الظواهر والمواقف والأحداث والأفكار ما هو خطير,وينذر بخطر شديد, كما أن هذا السلوك العام بات من الممكن توصيفه وتناوله بأدوات التحليل لدراسة عناصره ومكوناته ووضعه في إطار معايير التفسير والقياس, لشدة ظهوره العيني, بعد أن كان من الظواهر التي يصعب توصيفها والإحاطة الكافية بها, مع الوضع الذي كان عليه الإسلاميون في السابق مع أجواء السرية والتكتم وتجنب الظهور في الشأن السياسي مما جعل توفر القرائن الحسية غير كافية آنذاك. وبصورة عامة نحن أمام مرحلة بحاجة أن نتوقف عندها, بعد عقدين من الزمن برز فيها الإسلاميون بنشاط كبير, وأصبح وضعهم مختلفاً تماماً عما كانوا عليه قبل ذلك لأن ما شهدته الحركة الاسلامية خلال هذين العقدين من تحولات وتغيرات, ذاتية وموضوعية, محلية وإقليمية, / سياسية واجتماعية, فرض عليها أن تنتقل بأوضاعها بصورة نوعية وسريعة, كما ان حجم وكثافة ونوعية هذه التحولات والتغيرات لم تجتمع في فترة زمنية محددة كهذه الفترة, مما ضاعف الاهتمام بضرورة إعادة النظر في برامج الإسلاميين وخططهم ومشاريعهم, وفي نظرتهم للواقع الموضوعي المحيط بهم, وفي رؤيتهم للمستقبل الذي يتطلعون إليه.
فالظروف السياسية كانت تحركها رياح ساخنة, والواقع الاجتماعي كان يشهد اهتزازات حادة, والأوضاع الاقتصادية الخانقة تولدت عنها انفجارات غاضبة.. في ظل هذه الظروف والأوضاع نشط الإسلاميون بشكل ملفت للأنظار, النشاط الذي اعترض بعض جوانبه النقد الشديد, خصوصاً في مجال علاقات الإسلاميين فيما بينهم, وعلاقتهم بالآخر المختلف في الفكر أو المنهج أو البرنامج.. وهذا ما نلمسه من خلال ظواهر كثيرة تنامت في هذه الفترة بالشكل الذي يستوقف الانتباه لخطورة تداعياتها على حاضرنا ومستقبلياتنا..
هذا ما تحاول الورقة هذه الاقتراب منه, وتسليط الضوء عليه أو على بعض جوانبه.. فهناك من الاختلافات في الساحة الاسلامية وصل إلى وضع لا يطاق, ومن يقترب من هذه الساحات يصطدم بواقع لا يكاد يحتمل, بعد أن تجاوزت هذه الاختلافات حدودها المعقولة, وأخذ الجميع يستشعر ضررها, وهناك من يتمزق منها. ولعل الساحة الاسلامية من أجل الساحات التي تتعدد فيها عناوين الخلاف, وأكثرها خصوبة وحدية بالوضع الذي هي عليه.
وقد أثبت الإسلاميون عجزهم وفشلهم في التعامل مع الاختلاف فيما بينهم, مع كل الأصوات التي تتعالى في كل الساحات والمجتمعات متذمرة من هذه الاختلافات المستعصية, والتي مضى عليها زمن طويل من غير أن يحصل فيها ‎أي تراجع أو ركود. وغالباً ما كان يصاحب هذه الاختلافات حالة من القطيعة بين الإسلاميين تسلب منهم القدرة على إمكانية التعاون والتوافق والتنسيق وإن على المستوى الأدنى, وفي القضايا الحرجة والحساسة.
ولا يقف الوضع عند هذا الحد, بل له قابلية التطور ويكون خصباً لتبادل الاتهامات والتجريح والقدح, وقد يصل إلى ما هو أسوأ من ذلك, وأبعد ما يكون متوقعاً كالاقتتال والتراشق بالسلاح والأدوات العنيفة كالذي حصل في أفغانستان ولبنان والجزائر وشمال العراق, ومرشح لأن يحصل في أكثر من ساحة أخرى.
كيف نفسر ما يحدث في أفغانستان؟
الانتصار الذي تحول إلى هزيمة, والدين الذي تحول إلى قبيلة, والبلد الذي كان بأمسّ الحاجة إلى الإنماء والاعمار تحول إلى خرائب ومتاريس للقتال.
وكيف نفسر ما حدث في لبنان؟
ففي الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تحتل أرضه في الجنوب وتحولها إلى شريط أمني لحمايتها, كان يحصل الاقتتال العنيف جداً بين جماعات إلى وقت قريب كان الكثير منهم في جماعة واحدة, والبعض منهم. أيضاً. من عوائل واحدة.
أو كيف نفسر الذي يحدث في الجزائر؟
بلد الجهاد والشهداء, مع هذه الجرائم المروعة, التي يتحمل مسؤوليتها الجميع حتى يثبت الطرف المسؤول عنها حقاً. أو التصفيات الجسدية التي حصلت في تداخل بعض الجماعات هناك, لشخصيات مسؤولة, تحت مبررات لا يقبل بها عقل ولا منطق ولا ضمير ولا قانون.
وهكذا الوضع يتكرر في ساحات أخرى, حتى أصبحت مجتمعاتنا مهددة بخطر الاحتراب الداخلي والاقتتال والحروب الأهلية, التي لا تعطي أي اعتبار لحقن الدماء, أو الحفاظ على أرواح الأبرياء, وتهديد الأمن والسلم الأهلي, وتغلق على الناس أبواب الرزق, وتزرع في نفوسهم الخوف والهلع..
وهذا يؤكد على أن كل من حمل السلاح من اسلاميين وغيرهم, ليس هناك من رادع يمنعهم من استعماله في غير مكانه, أو أن لا يصوب على الأبرياء, وان الذين ينشرون خطاب الحرب والقتال, قد يحصدون حرباً وقتالاً بين الناس.
من هنا ينبغي اعادة النظر في رؤية الاسلاميين للعنف, وان الأصل في العمل الاسلامي هو السلم وليس العنف, كما أن العنف قد لا تسلم منه الجماعة التي تؤمن به. كما نلحظ في علاقات الاسلاميين حالات من الإقصاء والإلغاء فيما بينهم, والتعامل بمنطق الاستقواء والتعايش, وقد تصل إلى ممارسات من الهدم إلى غير ذلك.
فالاسلاميون لم يستطيعوا أن يقدموا أنفسهم إلى الساحة والناس والعالم بالصورة التي بعبروا عنها في خطابهم الثقافي والسياسي والأخلاقي, مع كل ما يتعرضون له من تشويه وإسقاط, مع ذلك فإننا لا نستطيع أن نتغاضى عن بعض الظواهر التي تكشف عن استبداد وانتهاك لحقوق الانسان يقع فيها بعض الاسلاميين, فالصفة الاسلامية التي يحملونها ويعبرون عن أنفسهم بها, لا تعطيهم حصانة من أن يوجه لهم النقد.
إن الحديث عن الاسلاميين بهذا الوضع ينبغي أن لا يفسر على أنه تحامل أو هجوم, أو أن يقابل على غير نوايا صادقة, فالحرص على الحالة الاسلامية مع الوضع الذي وصلت إليه, ليس بالصمت, أو التستر على الأخطاء, وليس بالتبجيل أو المدح أو الثناء الكاذب, فالنقد, أو بتعبير أدق ليس كل نقد هو تجريم أو تشهير, ولا يفهم إلا على أنه كشف للعيوب, كما لا يصلح أن نتعامل مع كل نقد بتنكر وعدم إكتراث, ونضيق به ذرعاً, ونفتح عليه معركة بأي صورة كانت هذه المعركة, لأننا بهذه الطريقة نكون قد مارسنا شكلاً من أشكال الاستبداد في الوقت الذي نكون نحن من ضحاياه, وأكثر من تضرر منه.
وإذا كان من دور ينتظر منا فهو أن نوقف الانحدار ونمنع الكارثة من أن تتكرر فالوضع الاسلامي العام أصابه الانكسار فكيف نحافظ على تماسكه من التفتت؟ وكيف نتعامل مع إشكاليات التصادم بين الاسلاميين؟
فالخوف بات حقيقياً على الحالة الاسلامية ومستقبلياتها, هذا الخوف الذي يجاهر به البعض صراحة, ويتكتم عليه البعض الآخر. في سنة 1989م كتب الشيخ «محمد الغزالي» يقول: «نريد للصحوة الاسلامية المعاصرة أمرين: أولهما: البعد عن الأخطاء التي انحرفت بالأمة وأذهبت ريحها وأطمعت فيها عدوها.. والآخر: اعطاء صورة عملية للاسلام تعجب الرائين, وتمحو الشبهات القديمة, وتنصف الوحي الالهي.. ويؤسفني أن بعض المنسوبين إلى هذه الصحورة فشل في تحقيق الأمرين جميعاً, بل ربما نجح في إخافة الناس من الاسلام, ومكن خصومه من بسط ألسنتهم فيه» (1) .
وفي سنة 1990 كتب الشيخ «يوسف القرضاوي» يقول: «لا يزعجني أن يكون للصحوة الاسلامية المعاصرة أعداء من خارجها يتربصون بها, ويكيدون لها, فهذا أمر منطقي اقتضته سنة التدافع بين الحق والباطل.. إنما الذي يزعجني ويؤرقني ويذيب قلبي حسرات, أن تعادي الصحوة نفسها وأن يكون عدوها من داخلها, كأن يضرب بعضها بعضاً, ويكيد بعضها لبعض, وأن يكون بأسها بينها.
ولا يزعجني أن يكون في الصحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الاسلام, والعمل على التمكين له في الأرض... ولكن الذي يدمي القلب حقاً أن يوجد بين الدعاة والعاملين من لا يقدر هذا الأمر حق قدره, وأن يبذر بذور الفرقة أينما حل, وأن يبحث عن كل ما يوقد نيران الخلاف, ويورث العداوة والبغضاء, وتركيزه دائماً على مواضع الاختلاف, لا نقاط الاتفاق, وهو دائماً معجب برأيه, مُزَكٍّ لنفسه وجماعته, متهم لغيره» (2) .
هذا الكلام الذي تحدث به كل من الشيخ «الغزالي» و«الشيخ القرضاوي» قد تفاقم اليوم بصورة أسوأ عما كان عليه في ذلك الوقت, وهو آخذ في التفاقم ما لم يوضع له حد, والأصوات في تزايد التي أخذت تحذر من المخاطر الداخلية التي يتهدد منها مستقبل الاسلاميين, ومن مغبة تردي الواقع الاسلامي, وهذا الانحدار الخطير في علاقات الاسلاميين فيما بينهم.

كيف نضع تفسيراً لاشكاليات القطيعة والتصادم بين الاسلاميين وماذا عن المستقبل؟
أولاً: ضعف القدرة على تحليل الواقع والتعاطي الذي يفتقد الخبرة
انتقالات سريعة ومتغيرة مر بها الاسلاميون منذ حقبة الثمانينات, مع التحولات الشديدة التغير على الصعيد السياسي والاجتماعي والحركي, انتقلت بأوضاعهم العامة إلى أوضاع أخرى مغايرة ومختلفة, فالكسب الذاتي المحدود تحول إلى كسب اجتماعي مقياسه الكمي العددي, والانشغال الثقافي تحول إلى انشغالات سياسية, والوضع الذي كان تحكمه قوانين السرية تحول إلى وضع علني مغاير لذلك التشدد, ومخاطبة الاتباع تحول إلى مخاطبة الأمة, والتبشير بالحل الاسلامي تحول إلى التبشير بالدولة الاسلامية, هذه الانتقالات السريعة كانت لها انعكاساتها في طريقة التعاطي مع الواقع وتحليل عناصره ومكوناته المتغيرة.
الإسلاميون الذين كانوا لزمن طويل يطلون على الواقع من خلال قوانين السرية, وما يشبه الاستشعار عن بعد, وتجنب الظهور المباشر, وعدم التداخل والتقاطع مع النخب والتيارات الأخرى في قضايا الشأن العام, والشأن السياسي بشكل خاص, هذا الوضع كان يفرض على الإسلاميين طريقة معينة من التعاطي مع الواقع الموضوعي, الذي لا يكاد يلامس هذا الواقع عن قرب, وبأدوات لا تستطيع أن يتكشف لها الواقع بجلاء واضح, وبعدسة ضيقة هي عدسة السرية التي لا تتمكن من أن تكبر هذا الواقع.
وما أن تغير هذا الواقع الذي كان ساكناً فأصبح متحركاً, والذي كان بارداً فأصبح ساخناً, والذي كان بطيئاً فأصبح سريعاً, وإذا بالاسلاميين يجدون أنفسهم أمام أوضاع كانت خارج توقعاتهم, ومفاجئة لهم إلى حد كبير, ولم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لمثل هذه الأوضاع, التي دفعتهم إلى انتقالات سريعة, واستجابات عاجلة, قلبت معها موازين الرؤية في التعامل مع الواقع, الرؤية التي غلب عليها التسرع والانفعال والأخذ بالحماس والشعارات اللامعة, ومع أواخر حقبة الثمانينات انكشف للإسلاميين أو لبعضهم محدودية الخبرة في التعاطي مع الواقع بتعقيداته وتشابكاته, وضعف القدرة على تحليل عناصره ومكوناته وصياغة الاستجابة السليمة, فتركت أثرها عليهم بإرباكات واضطرابات سياسية وحركية لازالت آثارها باقية إلى هذا الوقت عند بعض الجماعات.
الاسلاميون في ظل الأوضاع السابقة لم تتح لهم ظروف السرية وما يحيط بهم من ملابسات, القدرة الكافية على تفهم الواقع بشكل دقيق, ومعرفته عن قرب وعن معايشة واقعية, وفي ظل الأوضاع التي تلتها, بالتسرع الذي كانوا عليه, لم يأخذوا فرصتهم من دراسة الواقع وعناصره ومكوناته, وهم اليوم يتفقون تقريباً على أن الواقع الموضوعي يتشابك فيه المحلي والاقليمي, والاسلامي والعالمي ليس بتلك السطحية كما كان يظن, وليس بذلك الانكشاف الظاهري, بل بحاجة إلى التعمق في دراسته وتقليب أبعاده وتشخيص مكوناته, واستحضار التاريخ المتصل به.
وهذا المنظور الذي كان يشكل رؤية الاسلاميين إلى الواقع كان من مضاعفاته التصادمات التي حصلت بين الاسلاميين مع المنافسات الحادة التي حصلت بينهم, والتسابق على إثبات الوجود, فكل جماعة تحاول أن تظهر نفسها على أنها الأقوى والأبرز, وأنها الأصلح لتمثيل الناس, أو أنها الأقدم, أو الأكبر حجماً وعدداً إلى غير ذلك, العناوين التي فقدت كل اعتبار اليوم في نظر من تعامل معها بالأمس.

ثانياً: تكريس مفاهيم المفاضلة والتميز:
إن كل جماعة تحاول أن تكرس في داخلها مفاهيم الحركة القيادية والطليقية والريادية إلى جانب التميز, هذه المفاهيم مع مرور الوقت تختلط بالبنية النفسية والشعورية داخل كل جماعة, وعلى أساسها تتبلور بعض الأنماط السلوكية في التعامل مع الواقع الخارجي, وفي التعامل مع الفئات والجماعات الأخرى. فإذا كانت كل جماعة تنظر إلى نفسها على أنها القيادية, أو الطليعية, أو الريادية, بالقوة أو بالفعل, كطموح أو كواقع, وجود هذه النظرة إلى الذات تستدعي عدم ضرورة الحاجة إلى الآخرين في التعاون معهم, أو في التوافق على أنشطة مشتركة, ويكرس هذه الحالة أكثر مفهوم التميز الذي يتحول إلى نوع من المفاضلة عن الآخرين, ومع ابسط مشكلة, تتعقد هذه العلاقات, على افتراض وجودها, وقد تتفكك.
وأما إذا نظرت كل جماعة إلى نفسها كما يقول الدكتور «القرضاوي» على أنها جماعة المسلمين لا جماعة من المسلمين, وأن معها الحق كله, وليس بعدها‎إلا الضلال, وأن دخول الجنة والنجاة من النار حكر على من اتبعها, وأنها وحدها «الفرقة الناجية» ومن عداها من الهالكين (3) .
وهذا من أخطر ما يصيب الجماعات إذا هي تعاملت مع نفسها بهذه الرؤية, التي تنفي معها حق وجود الآخرين من الأساس, وليس هناك مكان للحديث عن الانفتاح والتواصل أو العلاقات مع الجماعات الأخرى..
فليست هناك بيئة لها من الخصوبة والحيوية والحوافز, ما يمكن لها, أن تؤسس لعلاقات متطورة بين الاسلاميين مع وجود هذه النظرات إلى الذات والآخر.

ثالثاً: القطيعة الفكرية:
من الثغرات الموجودة في علاقات الاسلاميين, القطيعة الفكرية فيما بينهم, وانغلاق كل جماعة على منظومة ثقافية خاصة بها, والاختفاظ بثقافة خاصة لحماية انتماء الأفراد وولائهم, والخوف عليهم من فكر الآخرين وثقافتهم, وما يترتب على هذا الخوف من وصاية فكرية وثقافية, تصل عند البعض إلى درجة الحظر الثقافي ومنع تسلل ثقافات الآخرين وبالذات الجماعات المنافسة في داخل الساحة الواحدة.
ويصور السيد «محمد حسين فضل الله» ما يدور حول هذه القضية من جدل إذ يقول: «هناك حديث يدور الجدل حوله, في داخل الحركة الاسلامية, حول الثقافة الملتزمة, التي تقدمها الحركة للملتزمين بخطها الفكري والعملي, ليطرح السؤال التالي: هل من الضروري, أو من المناسب, أن تكون هناك ثقافة خاصة في الرؤية الاسلامية للمفاهيم العامة, وللمناهج والأساليب الحركية في الدعوة والحركة, بحيث تفرض على أتباعها, أن يلتزموا الدقة في ذلك, على أساس أن للحركة فكراً إسلامياً خاصاً, يحدد للانسان شرعية الانتماء, من خلال التزامه بمفردات هذا الفكر, ليكون الشخص الذي يبتعد عن الخطوط العامة أو التفصيلية, بعيداً عن خط الاستقالة والإخلاص للحركة؟ أو أن المسألة تفرض إعطاء المنتمين, حرية الانفتاح على الثقافة الاسلامية من بابها الواسع, الذي ينطلق فيه الانسان المسلم, ليطّلع على كل ما يستطيع الوصول إليه, من النتاج العلمي للفكر الاسلامي, في قواعده ومتفرعاته ومناهجه العلمية, ليختار لنفسه ما يقتنع به من ذلك, وليصنع شخصيته الاسلامية على هذا الأساس, حتى يكون انتماؤه للحركة, منطلقاً من خلال رؤيته الثقافية لأبعادها وأوضاعها وقيادتها, من دون تقيّد بالأفكار التي يلتزمها القائمون عليها, لأنهم لا يمثلون أية سلطةٍ, على فرض التزاماتهم الفكرية على الناس من حولهم» (4) .
لا نريد أن نمنع على هذه الجماعة في أن تحتفظ كل واحدة منها بنظام ثقافي أو مشروع ثقافي خاص بها, والنقد إنما يتوجه إلى ما يحصل من قطيعة ثقافية, وانغلاق فكري, الذي قد يغلق معه مساحات التواصل والتفاعل والتلاقي. إلى جانب ما يترتب على ذلك من أن تصاب هذه الجماعات بضعف النمو العام والتطور المستدام الذي قد ينتهي إلى أن تتعرض هذه الجماعات إلى الجمود والعجز والتوقف, لأن أي ضعف في النمو الثقافي ينعكس بصورة واضحة على خلل النمو الكلي العام. وليس هناك جماعة ناضجة تدعي لنفسها أنها لا تحتاج إلى ثقافات الآخرين (5) .
والقرآن الكريم يرشدنا للانفتاح على قاعدة {والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} (6) .

رابعاً: التكوين الحزبي والتواصل الاجتماعي:
من الملاحظ كما يقول الدكتور «عبد الله النفيسي» الذي أتفق مع رأيه هذا تماماً: أن مناهج التكوين الايديولوجي والتربوي في معظم تنظيمات الحركة الاسلامية لا تعنى بالتربية الاجتماعية قدر عنايتها بالتربية الحزبية. نقصد أن المناهج التربوية في معظم تنظيمات الحركة الاسلامية تركز على تربية وتنشئة العنصر الحزبي المنتمي والمطيع والمنفذ والموالي ولاءً مطلقاً لقيادته الحزبية والحركية, ولا تهتم مقابل ذلك بتنشئة ذات العنصر على التواصل الفكري والنفسي والثقافي مع المحيط الحركي الذي يمثله المجتمع الأوسع. ويضيف «النفيسي» فالمنتمي الاسلامي يتعامل مع المجتمع الأوسع بمنطق التنظيم, مزيج من التوظيف السياسي للعلاقة وشيء من الاستعلاء الشعوري والنفسي,.. يأخذ من المحيط ما يفيد التنظيم,.. ولا يتفاعل مع القضية العامة إلا ما كان له صلة لصيقة ومباشرة بفضاءات المناشط التي يمارسها التنظيم (7) .
فالحركات الاسلامية لا تشكل نفسها على استعدادات حيوية للتواصل مع الجماعات والنخب الأخرى, ولا تشجع قواعدها البشرية على هذا التواصل, وليست هناك مسالك طبيعية واعتيادية للتواصل بين الجماعات المختلفة, فالعلاقات بينهم بحاجة إلى من يؤسس لها..

خامساً: مشكلات التعايش مع واقع التعددية:
مشكلات عدم القدرة على التعايش مع واقع التعددية الحزبية والحركية, واختلاف الرؤية في مشاريع العمل ومناهج التغيير. الواقع الذي قد يكون خصباً لتفجر النزاعات والخصومات والتصادمات, ويتحول معه المجتمع إلى مصدر لتجاذب هذه الجماعات, وقد يتعقد الواقع الاجتماعي والسياسي مع تشابكات خطوط التماس بين هذه الجماعات خصوصاً مع التصنيفات التي تحصل مع تقسيم المدن والمناطق والأحياء والمؤسسات والأنشطة إلى دوائر نفوذ, وكل جماعة لا تسمح لغيرها باختراق دوائر نفوذها, أو التماس معها..
وعلى مستوى الأدبيات الاسلامية الحركية المعاصرة, يمكن أن نلحظ رأيين متعاكسين تماماً في النظر إلى مسألة التعددية, بين الرأي الذي يطرحه الدكتور «فتحي يكن» في نقد التعددية بصورة قاسية وحادة, ويبرزها وكأنها شبح من الفتنة, ويبالغ في آثارها السلبية, ومضاعفاتها على الواقع الحركي والاسلامي وحتى الدولي, وذلك في سياق دعوته إلى حركة اسلامية عالمية واحدة (8) .
وبين رأي الدكتور «يوسف القرضاوي» الذي يرى: «ان من أسباب الفرقة أحياناً الحرص البالغ على الوحدة, وحدة العاملين للإسلام, أو ما يسمى بـ«حركة اسلامية عالمية واحدة» فمن أداه اجتهاده إلى أسلوب مغاير في العمل, أو الحركة, أتهم بالانشقاق أو الخروج على الصف, أو تمزيق الوحدة, أو غير ذلك من التهم التي لا يترتب عليها إلا المزيد من الفرقة في الصفوف, وتباعد القلوب, وبهذا تكون المبالغة في الحرص على الوحدة سبباً للفرقة.. وأولى من ذلك كما يضيف الدكتور «القرضاوي» الاعتراف بعدد الاجتهادات, وتنوع الأساليب, بناء على تعدد زوايا الرؤية, والاختلاف في ترتيب الأهداف وفاعلية الوسائل, وتقدير الأولوليات, ومدى المعينات والعوائق» (9) .

سادساً: مفاعيل خطوط الانقسام:
لم يسلم الاسلاميون من مفاعيل خطوط الانقسام في الساحة الاسلامية, الساخنة منها أو الباردة, حيث تركت أثرها على تكوين رؤيتهم, ومنهجهم في التحرك. في الوقت الذي كان يتفرض منهم أن يتعالوا على هذه الخطوط ويتجاوزوها, لا أن يتأطروا بها ويأخذوا بمكوناتها, وذلك لما تعبر عنه الحركة الاسلامية من دعوة اصلاحية, ومشروع للتغيير والنهوض والاحياء..
خطوط الانقسام نقصد بها الخطوط التي تقسم الساحة تحت عناوين حادة وتجزيئية كعناوين الأديان والمذاهب, المراجع والعلماء, المناطق والمدن, الطبقات والعائلات.. إلى غير ذلك من عناوين تتزايد أو تتناقص من مجتمع لآخر, وتتفاوت في تأثيرها من زمن لزمن آخر.
وقد وقع الاسلاميون في منزلق هذه الخطوط الانقسامية, وصنفوا أنفسهم على هذه العناوين, وتعاملوا بها كواقع فيما بينهم, فجماعة تتبع هذا المرجع أو هذا العالم لا تلتقي مع جماعة تتبع مرجع آخر أو عالم آخر, أو أن يجري التصنيف حسب المناطق والمدن, فهؤلاء جماعة هذه المدينة أو المنطقة, وتلك جماعة مدينة أخرى أو منطقة أخرى, وهكذا يجري سحب كل تلك العناوين, التي يصرح بها وتكون ظاهرة, وبين العناوين التي يصرح بها وتكون ذات تأثير خفي.
ويحصل أن يعطى لهذه العناوين مضامين وخلفيات وأبعاد بحيث تتضخم, ويكبر حجمها, ويتزايد تأثيرها, ويجري التعامل بها بأهمية وحساسية, خصوصاً في المجتمعات التي تعاني ضحالة في الثقافة, وضمور في الوعي, وانخفاض في مستوى التعليم والتعليم العالي..
والساحة الاسلامية بهذه العناوين أصبحت خصبة للانقسامات والتصادمات وإذ يقع الاسلاميون في هذا المنزلق, فهذا من أسوأ المنزلقات وأشدها بؤساً.

سابعاً: التعثر في إدارة الحوار:
ليس خفياً الحديث عن تعثر الاسلاميين في إدارة الحوار فيما بينهم, لإزالة كل ما يعكر صفو العلاقات, ويتسبب في القطيعة والتباعد والتوتر, أو لرفع مستوى التقارب, وبناء توافقات مشتركة, أو غير ذلك.
وكأن الحوار بين الاسلاميين أنفسهم هو الأصعب من بين كل الحوارات الأخرى مع النخب والجماعات المغايرة, وهذا ما يبعث على الدهشة والتعجب!.
ومن إشكالية الحوار بين الاسلاميين, أن يكون حوار الطرف الواحد الذي يتقدم بهذا الحوار لا أن يشترك كل الأطراف في صنعه, وهذا بالتأكيد لا يحقق الغرض من الحوار, ولا يتقدم به, ولا يرسخه مسلكياً كمبدأ وفضيلة.
أو أن يقف الحوار عند حدود الحوار من غير أن يتقدم إلى ما هو أبعد من ذلك, وكأن الحوار هو للحوار..
أو أن يتقدم الحوار مع الطرف البعيد ويكون سالكاً, في الوقت الذي يتعثر الحوار مع الطرف القريب وقد يكون غائباً.
إلى جانب إشكاليات أخرى, وعن هذا الواقع يقول الاستاذ «راشد الغنوشي» وهو يتحدث عن مستقبل التيار الاسلامي: «إنه من الملفت للنظر أن يجري الحوار بين غير المسلمين فيتحقق التعاون, ويتوحد الصف, بينما يصبح الحوار بين جماعات المؤمنين أكثر صعوبة, وأقل جدوى, وذلك مظهر من مظاهر التخلف, ومن معانيه وسننه ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة, وعدم احترام الآخر في فكره ومعتقده, وانصراف الأنظار عند الاختلاف إلى ما يفرق لا إلى ما يجمع» (10) .
وبين الاسلاميين أنفسهم إحساس متعاظم بصعوبة إدارة الحوار فيما بينهم وتعثره, وما يتعرض له من توقف وجمود وقطيعة وتباعد قد يبقى على هذا الحال فترات طويلة من الزمن.
هذه بعض الإشكاليات التي تتسبب في القطيعة والتصادم بين الاسلاميين.

كيف الانتقال من هذا الواقع, إلى واقع آخر؟
لقد بات من الضروري التفكير في الخروج من هذا الواقع المأزوم, وإعادة النظر في علاقات الاسلاميين فيما بينهم, والعمل على تجاوز الإشكاليات المستعصية, ورواسب الماضي, وتجديد هذه العلاقات بعيداً عن عقلية الإلغاء والإقصاء والكراهية, وعن منطق الاستعلاء والاستقواء والاستبعاد, وعن الذهنية العصبية والطائفية والحزبية, وأقصى ما يمكن الاستفادة منه هو ما وصلنا إليه من خلال تجاربنا فيما تركه لنا الخلاف والصدام والقطيعة من استنزاف وإنهاك وتعب, وتضييع للجهود, وتبديد للطاقات, وصرف الاهتمام عن القضايا الكبرى والمصيرية, وكيف أن الساحة لا تحتمل الرأي والاجتهاد الواحد, وتحتمل كل الآراء, وأن مشكلات الساحة ومتطلباتها لا يمكن أن تنهض بها جماعة واحدة مهما أوتيت من قوة وقدرة, وأن التلاقي بين الاسلاميين هو ضرورة, ويعبر عن حاجة حقيقية هي حاجة الجميع, فالتقارب والتوافق ينبغي أن يكون جزءاً من المستقبل الذي ينتطلع إليه. وكل هذا يتطلب عملية انتقال وتحول في التفكير وفي النظرة إلى الذات والآخر, والتقدم بخطوات في هذا الاتجاه يتطلب الأمور التالية:

أولاً: المراجعة.. وضرورة الانتقال والتغيير:
من المفترض أن الاسلاميين يشعرون في هذا الوقت, أكثر من أي وقت مضى, بضرورة أن تكون في داخلهم مراجعات ذاتية, وتقويم لتجاربهم, خصوصاً مع تصاعد الأصوات الناقدة, وحالات عدم الرضا, والملاحظات المتكاثرة على الأوضاع التي وصل إليها الاسلاميون بعد عقدين من الزمن.
وتتأكد هذه المراجعة في التغيير المفترض في علاقات الاسلاميين فيما بينهم, وفي إدارة حواراتهم, وفي النظر إلى بعضهم, والانتقال من القطيعة إلى التواصل, ومن التباعد إلى التقارب, ومن التصادم إلى التصالح, ومن الافتراق إلى الاجتماع, ومن القسوة إلى التراحم, مع ضرورة التعالي والترفع على الأنماط السلوكية السابقة والنظر لها بنقد ورفض شديدين, واعتبار العلاقات بين الاسلاميين خطاً أحمراً لا يجوز العبث والتفريط به تحت أي سبب كان.
وفي سياق هذه المراجعات الداخلية تأتي أهمية الاستفادة من الكتابات النقدية التي جاءت هذه المرة من داخل الاسلاميين, بعد أن كان هذا النمط من الكتابات يعد غائباً وغير مألوف, وعادة ما يقابل بالاعتراض.
وقد اتصفت هذه الكتابات بالجدية والحرص والقرب الشديد من الوضع الاسلامي الحركي وتلمس هواجسه وشؤونه وقضاياه (11) .
إلى جانب الاستفادة من الكتابات التي حاولت أن تقدم تنظيرات وافكار ومفاهيم تتطلع إلى تجديد وتطوير الحركة الاسلامية في بنيتها التحتية, ونظامها الإداري والثقافي وأطروحتها الحركية.
ولا داعي من أن يتحسس البعض من كل دعوة تطالب بالمراجعة والنقد والنقد الذاتي, ويضعها في سياق يتخوف من تنائجها, فهذا الهاجس لا ينبغي أن يغير من رؤيتنا للحاجة إلى المراجعات الذاتية.

ثانياً: تأسيس قاعدة الاجماع العام:
فلسفة الاجماع في المنطق الاجتماعي السياسي هي تأسيس موافقات عامة بين الناس في قضايا لا تحتمل الخلاف, الذي قد يكون ضاراً في مثل هذه القضايا, وأن من الأولى فيها الاتفاق, وهذا لا يتحقق إلا في القضايا الأساسية والكبرى والمصيرية التي يتوقف عليها حفظ النظام الاجتماعي العام. لأن المجتمع وأي مجتمع انساني بغض النظر عن مستواه الحضاري, لا يستطيع أن يختلف في كل شيء وعلى كل شيء, ومجتمع بهذا الوضع لا يصدق عليه مفهوم المجتمع الاصطلاحي والمعرفي, ولا يمكن له أن يتكون بهذه الوضعية, فالمجتمع إنما سمي مجتمعاً لأن هناك ما يجتمع الناس عليه من أمور ترتبط بوجود نظام عام يحفظ للناس بقاء هذا الاجتماع واستمراريته وحيويته ومكتسباته..
وكما أن المجتمع لا يستطيع أن يختلف في كل شيء كذلك لا يستطيع أن يتوافق على كل شيء, فوجود الاختلاف لا يلغي الموافقات, ووجود الموافقات لا يلغي الاختلاف. فالمجتمع هو مركب من التوافق والاختلاف, التوافق لحفظ النظام والحقوق والعدالة والعيش المشترك, والاختلاف لحفظ الحرية والتعدد والتنوع.. والقاعدة أن كل ما يحتاج إلى نظام ودستور يحتاج إلى إجماع وتوافقات عامة. والاجماع إما أن يكون متوارثاً, أو يكون مستحدثاً, وإما منقولاً أو محصلاً..
في نطاق عمل الاسلاميين هناك حاجة ملحة لتأسيس إجماع عام يأخذ بالاعتبار المصالح العليا للأمة التي من الضروري أن يتوحد عليها الاسلاميون كثوابت أساسية لا يجوز الخروج عليها, والتفريط بها, والتنكر لها تحت أي ظرف كان, وأي مبرر أو أي ضغط من الضغوط.
والإجماع الذي نريده في هذا النطاق ليس متوارثاً ولا مستحدثاً, ولا هو خارج التصور, وإنما بحاجة إلى صياغة وتأسيس لإعطائه صفة الإجماع العام..
ومن مكونات هذا الاجماع:
1 ـ الدفاع عن مقدسات الاسلام وحماية العقيدة والقيم والأخلاق.
2 ـ الدفاع عن حقوق الانسان, وحقوق المسلمين, وحقوق الأقليات في العالم.
3 ـ رفض كل أشكال التجزئة وعوامل التقسيم في الأمة كالعصبية والعرقية والطائفية والعنصرية وغيرها.
4 ـ رفض كل أنماط التبعية, وعلاقات السيطرة والمعاملات غير المتكافئة, وكل ما ينقض الاستقلال والسيادة الكاملة.
5 ـ الدفاع عن قضية فلسطين والقدس الشريف كقضية مركزية في حياة المسلمين والمطالبة بتحرير كل الأراضي العربية والاسلامية المحتلة.
6 ـ الدفاع عن قضايا العدالة والحريات والمساواة وكل القضايا الاسلامية الكبرى عند الإنسانية كافة.
7 ـ النهوض بالعالم الاسلامي لبناء حضارته وسيادتها على كل البلاد الاسلامية لما في ذلك من قوة للمسلمين ووحدتهم.
8 ـ توظيف ثروات العالم الاسلامي الطبيعية والزراعية والمعدنية والعلمية والمهنية لمصلحة البلاد الاسلامية في إطار خطط تنموية بعيدة المدى تهدف إلى إزالة كل أشكال الفوارق بين الشعوب الاسلامية.
9 ـ الوقوف والتصدي في وجه المؤامرات ومخططات القوى الكبرى المعادية للاسلام والعالم الاسلامي وقضايا العدالة والحرية والسيادة والاستقلال لكل شعوب العالم.
يضاف إلى ذلك ضرورة إزالة كل أنماط الخلاف والقطيعة والصدام بين الاسلاميين, وفتح أوسع الأبواب لمبادرات التقريب والتصالح والتضامن. وإذا جاز لهم الاختلاف وهو جائز في الفروع أو الجزئيات أو الخصوصيات, فلا يجوز لهم في هذه الكليات والمطلقات والثوابت (12) .

ثالثاً: تأصيل ثلاث منظومات من المفاهيم:
أولاً: منظومة مفاهيم تؤسس لوجود الآخر والاعتراف بوجوده, كمفاهيم الحرية والتعددية وحق الاختلاف والاجتهاد.
ثانياً: منظومة مفاهيم تؤسس للعلاقة مع الآخر والتواصل معه, كمفاهيم التعارف والتعايش والتسامح.
ثالثاً: منظومة مفاهيم تؤسس للتلاقي مع الآخر والشراكة معه, كمفاهيم العدالة والشورى والحريات العامة وحقوق الانسان والإنماء والتقدم.
هذه المنظومات من المفاهيم تؤسس لثلاثة أنماط سلوكية من العلاقات, تتفاوت في مستوياتها ودرجاتها, وتختلف في مفاعيلها ومكاسبها, بين أن تكون هذه العلاقات في حدودها الأدنى, وبين أن تكون في مرحلة أو مرتبة أعلى من هذه الحدود.
لكنها في كل هذه الحالات تحفظ العلاقات من أن تخرج عن توازنها ووضعيتها السليمة إلى ما يعرضها للتفكك والتصادم

المنظومة الأولى:
الحرية: يقرر الفقهاء في أبحاثهم حقيقة فطرية أن الأصل في الانسان الحرية في قبال الانسان الآخر, ولا يجوز في أي حال من الأحوال سلب هذه الحرية من الانسان إلا في ما يقيدها في ضوابطها العامة على أساس التشريع وأصول النظام العام, مع شرط أن لا تتعدى حرية الانسان حريات الآخرين.
فالحرية التي تمنحها الجماعة في أن تشكل لنفسها وجوداً أو كياناً اجتماعياً وقانونياً بكل ما لهذا الوجود من حقوق وهوية وخصائص ومكونات, هذه الحرية هي من حق الآخرين أيضاً. فالمبررات التي تعطيها الجماعة لنفسها هي ذات المبررات التي ينبغي أن تعطى للآخرين من غير تفضل أو إحسان..
وهناك من الاسلاميين من يذهب إلى «أن حل إشكالية الحرية في الحركة الاسلامية على مستوى الفكر والممارسة وتأصيلها خطوة ضرورية لتأمين مسيرة الحركة نفسها والحؤول دون تفجرها من الداخل, أو عزلتها مع الخارج» (13) .

التعددية: التعددية من منظور فلسفي هي حقيقة فكرية, وسنّة كونية, وقانون حياتي, ونعمة إلهية.. والقرآن الكريم يقرن في آياته بين التنوع والتعدد في عالم الكون والطبيعة وعالم الأحياء من حيوان ونبات, وبين التنوع والتعددية في حياة البشر. الاقتران الذي نستفيد منه أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يلفت نظر الانسان إلى حقيقة التنوع والتعددية كحقيقة كونية وسنّة اجتماعية, وأن تنتظم حياته وحياة الأمة والمجتمع الانساني على هذا الأساس. من هذه الآيات قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود, ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} (14) .
وقوله تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (15) .
التعددية في إطار الجماعات بأنماطها المختلفة, هي واقع قائم اعترفنا به أم لم نعترف, ولا أحد يمتلك القدرة على إلغاء هذا الواقع, وليس من الحكمة رفض التعامل معه والاصطدام به.
وعلى صعيد الاسلاميين فإنهم لا يستطيعون أن يجمعوا أنفسهم في جماعة واحدة حتى على مستوى المجتمع الواحد, مع كل ما يطرحونه من تنظيرات وتصوراته لوحدة الحركة الاسلامية أو لحركة اسلامية عالمية واحدة.
كما أن الجماعات الموجودة على كثرتها وتنوعها واختلافها, لا أحد منهم يستطيع أن يقنع الناس بأنه هو الأفضل, وهو الذي ينبغي أن ينفرد بقيادة الساحة وتلبية كل حاجاتها ومتطلباتها.. لهذه الحقائق وغيرها كانت ضرورة التعددية التي ينبغي أن تتحول إلى مصدر إثراء وتكامل وتراحم وتكافل وتضامن.
والذي ألاحظه بصورة عامة في الأدبيات الاسلامية المعاصرة أنها تشهد تحولات مفهومية في جدلية العلاقة بين الوحدة والتعددية, ورفع ما بينهما من تعارض أو تصادم كما كان يظن سابقاً, والاقتراب من مفهوم التعددية على مستوى الفكر والثقافة, الاقتراب الذي بحاجة إلى أن يتعمق في الممارسة والتجريب.

حق الاختلاف والاجتهاد: الاختلاف والاجتهاد في الفكر والعمل من مقتضيات العقل والتشريع, وحكمة من الله سبحانه وتعالى. ليكون الناس شركاء في حياتهم, ويتحفزون نحو الاجتماع والتوطن في صورة جماعة وأمم {ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} (16) .
وجود العقل معناه وجود الاختلاف, لأن الانسان مطالب بأن يُعمل عقله, في أن يفكر, وأن يخطط, وأن يختار, وأن يعتقد, وأن يعمل. لا أن يجمد عقله بتأثير من ذاته, أو تحت تاثير عقول الآخرين, ولا أن يكون هناك قلة من الناس هم الذي يفكرون ويعملون عقولهم أما أكثرية الناس والأمة فمجرد أتباع لا رأي لهم ولا مشورة ولا اختيار, فليس من حق الانسان أن يعطل عقله وهو أعظم كنز وأشرف خلق وهبه الله. جل وعلا. للانسان.
ومن حكمة القرآن الكريم انه استعمل العقل في كل أفعاله, ولم يستعمله ولا مرة بصيغة الاسم (17) , كدلالة على أن العقل وجوده في أن يُعمل.
أما فلسفة الاجتهاد في التشريع الاسلامي فمعناه:
أولاً: أن الشريعة الاسلامية تحتمل الاختلاف, وقد خصص هذا الاختلاف في مجال الفروع, وبعض الأصول, غير الأصول الثلاثة الكلية وهي: التوحيد والنبوة والمعاد.
ثانياً: أن يجتهد الناس أو فئة من الناس في معرفة الشريعة ودراستها بقدر وسعهم بعد استفراغ الجهد, ومن غير حرج أو عسر في معاشهم وحفظ نظامهم العام.
ثالثاً: أن لا تصاب الشريعة بالجمود والسكون والتوقف.
رابعاً: في تطبيق الشريعة على الأوضاع المتغيرة والأزمنة المختلفة.
وما يعارض الاجتهاد وحكمته وفلسفته أن يحتكر البعض تفسير الشريعة, عن نفسه كما لو أنه المتحدث باسمها, وإلى جانبه الحق المطلق, وأن ما يحق لنفسه لا يحق لغيره {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (18) .
وقد تعرضت هذه الظاهرة لنقد شديد, وصفها البعض بالطائفية الجديدة, وأنها من أخطر الاصابات التي يتعرض لها الاسلاميون اليوم على الإطلاق, كما يذهب إلى ذلك الاستاذ «عمر عبيد حسنة» حيث يقول:
«قد تكون أخطر الاصابات اليوم على الاطلاق: انقلاب بعض الجماعات والحركات الاسلامية, إلى طوائف منفصلة عن جسم الأمة, وأهدافها, وشعورها بتميزها, واستعلائها, وأنها الناطق باسم الاسلام, والممثل الشرعي والوحيد له, مما جعلها تنظر للآخرين بنوع من الارتياب, والإدانة, والاتهام, الأمر الذي أخرجها من مهمتها في الهداية, والترشيد, وإلحاق الرحمة بالناس, إلى نطاق المواجهة, والصراع, والحكم بالتجريم, والتأثيم.. وقد أحسن خصومها توظيف بعض المواقف, والتصرفات, لمصلحتهم, وإغراء الأمة بعداوتها, ومحاصرتها, حتى وصل الأمر إلى استنكار أصل وجودها, والتشكيك بأهدافها في مجتمعات المسلمين. فإذا كنا جميعاً مسلمين, فما بال هذه التشكيلات المتميزة, التي تدّعي أنها هي التي تمثل الاسلام دون سواها؟!
وما لم تدرك الجماعات, والحركات الاسلامية, هذه الاصابة, وتسعى لتمزيق الأسوار التي تُضرب حولها, بين حين وآخر, وتحسن العودة إلى الأمة, والاندماج فيها, وتوسيع دائرة المشاركة, وفتح القنوات جميعاً, وتشكيل جبهات عريضة, للتواصل والاتصال, وتبرهن على أن مهمتها. كمراكز متقدمة. أن تحمل هموم الأمة, وتعمل في سبيل تحقيق أهدافها, والأخذ بيدها إلى الخير, وأنها جزء من الأمة, متصل وملتصق بها, فسوف تُحاصر نفسها, قبل أن يحاصرها أعداؤها, وتعيش كطائفية منفصلة خارج مجرى الحياة الفاعلة» (19) .
وفي منظومة المفاهيم هذه [الحرية, التعددية, حق الاختلاف والاجتهاد] بتوجه النقد إلى الاسلاميين في تعاملهم معها على صعيد الفكر والممارسة, ومن جملة هذا النقد ما تعرض إليه الشيخ «محمد مهدي شمس الدين» إذ يقول: «حرية الرأي والتعددية في الإطار الاسلامي هذه إحدى عيوب الاسلاميين, فالاسلاميون بصراحة يطالبون بأن يكون لهم تجاه الآخرين حق وحرية التعبير وحرية التنوع أو التعدد ولكنهم في داخل التكوينات والأحزاب السياسية لا يمارسون هذا الذي يطالبون به, وفيما بين الحركات الاسلامية كذلك. فالحركات الاسلامية في داخلها نجد أنها مبنية على مفهوم الأمر والطاعة بحيث أن الكادر ليس له الحق أن يناقش أو يراجع وهذا أمر ليس من الشرع في شيء وليس من الفقه في شيء ونجد أن علاقة الحركات الاسلامية بعضها مع بعض في بعض الحالات تصل إلى حد العداء وإلى حد التقاتل المادي. وبكل أسف وحزن ألاحظ المثل الأفغاني كما توجد أمثلة مرت علينا في لبنان, والآن المثال الفضيحة هو المثل الأفغاني.. في الجزائر حيث الأطروحة الصحيحة العادلة في أن الحركة الاسلامية لم يعترف لها بحقها, ترى هل هي تعترف بحق الآخرين أيضاً؟ هل هي تعترف بحرية الاسلاميين في التعدد والمناقشة والمسائلة؟ هذه هي إحدى الثغرات والعيوب في تكوين الحركات الاسلامية؟ أصر على أن يكون هناك حرية في التعبير وحرية في التنوع داخل كل حركة وفيما بين الحركات الاسلامية نفسها فالتعددية مثلاً: إذا جاز أن تنشأ حركتان إسلاميتان فيجوز أن تنشأ ثلاث حركات, وإذا جاز للحركة الاسلامية أن تُسائل حركة أخرى أو تُسائل الآخر فلأي كادر داخل الحركة أن يوجه المسائلة, هؤلاء ليسوا أفضل من الخلفاء الراشدين وقد كانوا يتعرضون للمسائلة, هؤلاء ليسوا أفضل من مراجع الدين وقادة الاسلام العظام من الفقهاء وقد كانوا يسائلون ويراجعون, هذه الناحية خاصة في بناء أكثر الحركات الاسلامية, أقول أكثرهم أما بعضهم فيتصرف بحكمة وفقه وورع, والظاهرة العامة أن البناء التنظيمي في هذه الحركات ينبني إلى مفهوم الولايات والأمر والطاعة وما إلى ذلك وهذا الأمر ليس له أساس في الفقه الاسلامي» (20) .

المنظومة الثانية:
التي تؤسس للعلاقة مع الآخر والتواصل معه من خلال مفاهيم:
التعارف: لا يكفي أن يعترف الاسلاميون بوجود بعضهم لبعض, بل هم بحاجة إلى أن يتطور هذا الاعتراف إلى تعارف, فالله. سبحانه وتعالى, خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا, ولم يقل ليتوحدوا, أو ليتفرقوا, كما لم يقل ليتعاونوا, لأن من غير أن يتعارفوا لن يتحقق التعاون أو التوحد. قال الله عز وجل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (21) وهذا يعني أن التنوع والتعدد في حياة البشر والجماعات ينبغي أن يكون محكوماً بالتعارف, وما يستتبعه هذا التعارف من انفتاح وتواصل وتحاور وتفاعل وتراحم, المكونات التي لا تتحقق ما لم يكن هناك تعارف. لأن المقصود من التعارف هو المعنى الأشمل والأعم والذي يتضمن أن تعرف كل جماعة ظروف الجماعة الأخرى وإمكاناتها ومنجزاتها وعطاءاتها وبرامجها وحاجاتها ومشاكلها إلى غير ذلك.
والتعارف بهذا المعنى يعد منقوصاً في علاقات الاسلاميين المعاصرين فيما بينهم, لأنه لا يرتقِ إلى هذا المستوى من المضامين, في الوقت الذي بحاجة إلى أن يتحول التعارف إلى أن ينجز معه هذه المكتسبات, والاسلاميون لازالوا بحاجة إلى أن يتعارفوا.

التعايش: التعايش بين الجماعات ينبغي أن لا يكون عن اضطرار كما هو حال البعض, بل ينبغي أن يكون عن اختيار, الاختيار الذي من المفترض أن يشترك الجميع في تأسيس مقوماته ومكوناته الضرورية. ومن العيب والنقصان أن لا تستطيع بعض الجماعات التعايش مع غيرها من الجماعات الأخرى, اتفقت معها أو اختلفت. وإذا كان التنوع والتعدد هو حقيقة واقعية في الاجتماع الانساني, فإن التعايش يصبح شرطاً لسلامة وأمن هذا الاجتماع. ومن المفترض أن يكون التعايش هو مطلب يتوافق عليه الجميع, لا أن يتحول إلى إشكالية نختلف عليها, ونتجاذب الحديث حولها, وأمامنا المجتمعات التي كان فيها التنوع الديني والمذهبي, القومي والعرقي, اللغوي واللساني, التي تحطم فيها التعايش السلمي المشترك, كيف تحولت إلى مجتمعات مفتتة ومتناحرة, وممزقة, وتوقفت فيها كل خطط الإنماء والتنمية والعمران, كالذي حصل في البوسنة والهرسك في يوغسلافيا السابقة, أو في لبنان, والصومال, وأفغانستان وغيرها.
على الإسلاميين أن يتعالوا في أن يظهروا أنفسهم بعدم القدرة على التعايش فيما بينهم, أو مع الآخرين المختلفين معهم, مهما كان نوع هذا الاختلاف..

التسامح: التسامح فضيلة أخلاقية سامية, هي أولى بالانسان الذي يتصدى لقضايا الاصلاح والتغيير الاجتماعي, لأخذ الناس بالعفو والصفح واللين والعطف. والحياة الاجتماعية لا يمكن أن تطاق من غير تسامح, ولا يأتلف الناس من غير تسامح. فالأخطاء والعثرات تقع من الجميع, المشاكل والصعوبات يتعرض لها الجميع, والتسامح هو المبدأ الذي ينبغي أن يتعامل به الجميع, لا أن يأخذ الناس بعضهم بالقسوة والإكراه والكراهية عند كل خطأ, وعند كل مشكلة.
وكان يفترض أن يكون الاسلاميون بوجه خاص هم الأكثر تبليغاً وتبشيراً وتعاملاً بمبدأ التسامح, بعد أن كان هذا الوصف الأكثر تلازماً مع الشريعة التي تنعت بالشريعة السمحة, وكما قال رسال الله «ص» «لقد جئتكم بالشريعة السمحة». وقد قال الله سبحانه وتعالى يصف رسوله «ص» في القرآن الكريم {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} (22) .
لكن هل أن الاسلاميين فعلاً هم الأكثر تسامحاً مع بعضهم أو مع غيرهم؟ لا أجزم بذلك, فهناك من ينشرون الكراهية, وهناك من يتعاملون بالقسوة وهناك من يمارسون الاستبداد لمجرد الاختلاف في الرأي, في الوقت الذي يكون فيه الدين هو المشرع لهذا الاختلاف, ولو على قاعدة ما حكم به العقل حكم به الشرع, وقد حكم العقل بالاختلاف.
والتسامح ضرورة لأن الاختلاف ضرورة.

المنظومة الثالثة:
من المفاهيم التي يفترض أن تجتمع ويُجمع عليها الاسلاميون, ويلتقون عليها في أنشطتهم كافة, الثقافية والاجتماعية والسياسية..
العدالة: لقد حرمت الشرائع السماوية كل أشكال الظلم على الإنسان, ومنعت الانسان أن يتعرض للظلم ويسكت عنه, بل فرضت عليه أن يقاوم الظلم ولا يركن إليه {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (23) والظلم بكل مبرراته وأشكاله مرفوض, من أي جهة كانت, وعلى أي جهة يقع. والعدالة حق لكل انسان بغض النظر عن الدين والمذهب والعرق واللغة والقوم. والانسان مطالب بأن يقف مع العدل وأن يكافح الظلم, مع أي انسان, ومع أي أمّة, في أي مكان, وفي كل زمان, أو يتضامن كل البشر على رفع الظلم وسيادة العدل على كل العالم..
والاسلاميون مطالبون في أن يقدموا أنفسهم للناس والعالم على أنهم دعاة عدل لكل الناس, لا أن يقع الظلم منهم, أو يرضوا عن ظلم الآخرين, أو يسكتوا لأن الظلم وقع على الذين يختلفون معهم في الرأي, أنى كان هذا الاختلاف.

الشورى: الحكمة من الشورى هو أن يرجع الناس بعضهم لبعض في الاستفادة من عقول وعلوم وخبرة وتجارب بعضهم لبعض, وأن يكونوا شركاء في حياتهم بمسؤولية وتناصح وتعاون وتضامن وتكافل وتكامل, لا أن يستبد بعضهم ببعض, ولا أن يتحكم البعض بقدرات الآخرين المعنوية والمادية.
والشورى سلوك حضاري ترتقي إليه المجتمعات التي قطعت شوطاً متقدماً في البناء الحضاري.
والقرآن الكريم جاء بقانون {وأمرهم شورى بينهم} (24) {وشاورهم في الأمر} (25) وبدل أن ينشغل المسلمون منذ وقت مبكر بتطبيق الشورى في نظامهم الاجتماعي العام, انشغل أهل السنّة من المسلمين في إشكالية أن الشورى ملزمة أم معلمة؟ وانشغل أهل الشيعة من المسلمين في إشكالية الشورى والنص, وظلت الشورى معلقة, وإلى هذا اليوم ونحن ننشغل بهذه الإشكاليات, والاستبداد من حولنا يحاصرنا ويمنعنا من أن ننهض بأنفسنا, ونتقدم خطوات نحو الأمام.
والاسلام أراد من الانسان أن يكون مسؤولاً في هذه الحياة وفاعلاً ومتعاوناً مع غيره, وهذا يعني أن كل انسان هو شريك في هذه الحياة, وفي المجتمع الذي ينتمي إليه, وبالتالي فإن له الحق في أن يُشاور وأن يتشاور معه.
والشورى بهذا المفهوم من أكثر العوامل حيوية في صنع التقدم والتطور الحضاري, لأن بالشورى يشعر الانسان بأنه شريك في المجتمع الذي ينتمي إليه, وفي التطور والتقدم الذي يسهم في إنجازه..
والاسلاميون معنيون في أن يؤسسوا عملهم على أساس الشورى, وأن يتعاملوا مع الآخرين على هذا الأساس.

الحريات العامة وحقوق الانسان: «يعتبر مبحث الحريات العامة من أهم مباحث القانون الدستوري, الذي يعد بدوره أبا القوانين. ويهتم مبحث الحريات العامة بالحريات الأساسية التي يخولها الدستور للمواطن, ويصونها لها ضد التجاوزات ومختلف ضروب التعسف التي يتعرض لها, سواء من قبل الأفراد أو السلطة, كما تشير الحريات العامة إلى مجموع الحقوق الأساسية والفردية والجماعية للانسان والمواطن في الدولة» (26) .
إن الحريات العامة وحقوق الانسان هي من أبرز القضايا التي ينبغي أن يدافع عنها الاسلاميون كحق ومطلب للجميع, للأفراد والجماعات كافة, ولكل الأمم والشعوب, لأنها حق للانسان وضرورة له, ولكل البشر على الكواكب. والانسان ينبغي أن يتعلم ويتربى ويناضل للدفاع عن حرياته وحقوقه, ويحفظها من السلب والتعسف والانتهاك, وأن لا يخضع تحت أي ظرف كان تتأثر فيه حرياته وحقوقه بالسلب والانتهاك.
والاسلاميون الذين تأخر اهتمامهم بهذه القضية وإبرازها كعنوان لقضية أساسية في مشروعهم الثقافي والسياسي, هم من جهة أخرى معنيون بتحسين صورتهم بالاعتراف والمحافظة على حقوق الانسان, بعد أن ظهر في بعض الحالات ما تثبت فيها الانتهاك لهذه الحقوق, والذي لا ينبغي أن يبرر بأي وجه كان.
وهذا الانتهاك من الاسلاميين أو من بعضهم, بغض النظر عن مستوى هذا الانتهاك ونوعيته وتحت أي ظرف كان, هو أسوأ ما يكون حينما يصدر من الاسلاميين, بعد كل ما تعرض إليه هؤلاء من تعسف وقمع واستبداد من جهات مغايرة لهم, ومع ما أكد عليه الاسلام من إعلاء لقيمة الانسان واحترام كرامته, وصون حرياته وحقوقه.
مع ملاحظة أن هذه الانتهاكات قد تحصل من دول وحكومات, وقد تحصل من أفراد وجماعات.
&الانماء والتقدم:^ المساحة التي كان يتفرض أن تحتلها مكانة الإنماء والتقدم في مشروع الاسلاميين هي أن تكون أساسية, وعلى مستوى المجتمع الأهلي بصورة رئيسية من غير إغفال مستوى الدولة. وهذا يستدعي أن ينتقل المشروع الاسلامي من غلبة الشعارات والأفكار العامة والمطلقة, إلى غلبة البرامج والخطط المجدولة والمبرمجة والمدروسة بطريقة علمية وموضوعية, بالاستفادة من الكفاءات العلمية المتقدمة, مع الاهتمام الجاد برفع مستوى التعليم والتعليم العالي للقواعد البشرية في داخل الجماعات الاسلامية, وضرورة أن ترجع هذه الجماعات في أنشطتها وفعالياتها إلى مراكز للدراسات والأبحاث لفرض تطوير الأفكار وبلورة البرامج ودراستها موضوعياً, وإعداد التصورات المستقبلية ورفع مستوى العطاء الإنمائي.
خصوصاً وأن المشكلات التي تتعرض لها المجتمعات الاسلامية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية, على درجة كبيرة من التعقيد والصعوبة, لبقائها على هذا الحال لزمن طويل, مع تعثر المعالجات وأدوات الحل المطروحة. الواقع الذي يفرض على الاسلاميين التعامل مع هذه المشكلات بمنهجية الخبير والعارف.. وبدل أن ينشغل الاسلاميون بأنفسهم وفي ميادين الهدم, أو في المعارك الجانبية, وهي المعارك التي يخسر فيها الجميع, من الأفضل لهم أن ينشغلوا بإنماء المجتمع الأهلي في ميادين البناء, وفي معارك العمران والتقدم, وهي المعارك التي يربح فيها الجميع.
إن البنية التحتية للجماعات الاسلامية بحاجة إلى أن تتحول إلى بنية حيوية ونشطة في صنع الإنماء والتقدم, كي يحققوا نجاحات في هذا المجال, وأن يكتشفهم الناس والعالم بهذه النجاحات, لا أن تصدق عليهم المقولة التي يطرحها البعض ومفادها أن الاسلاميين قد ينجحون في الثورة, لكنهم يفشلون في بناء الدولة, يربحون في معارك المواجهة والصدام ويخسرون في معارك الإنماء والبناء. هذه المقولة بحاجة إلى أن تتغير, وحتى تتغير لابد أن يرتقي الاسلاميون بأنفسهم حضارياً.

رابعاً: الارتقاء بمستويات النمو الحضاري:
الحضارة تعبر عن نفسها بصورة واضحة في أنماط العلاقات السلوكية التي تنشأ بين الأمم, وبهذه الأنماط من العلاقات تنهض الأمم باتجاه الحضارة. كعلاقات التعاون, والفاعلية, والعمل الجمعي, والشراكة في قضايا البناء والإنماء, والتعامل مع الاختلاف, وتعارض الآراء, وتعدد الجماعات, وتنوع الأفكار والمناهج, بطريقة تتصف بالحضارية التي تستوعب كل طاقة فاعلة ومنتجة, وتنهض بكل القدرات, ويجري التعامل مع الجميع على أساس التكامل, فالاختلاف حقيقة واقعة لابد من التعامل معه بمنطق العقل, والتنوع يلبي حاجة موضوعية وهو مصدر إثراء, والتعدد هو ثروة بحاجة إلى من يحسن الاستفادة منه.
كما أن القيم التي تدفع بالحضارة تخلق معها هذه الأنماط من العلاقات وتضفي عليها الايجابية والانفتاح والاحترام المتبادل والسعي نحو التقدم والاعتراف بالحقوق المشتركة والعيش في ظل سيادة القانون والقضاء العادل..
هذه القيم وهذه الأنماط السلوكية بهذا الشكل تنقلب وتختلف كلياً مع وضعية التخلف, الوضعية التي تتفكك فيها العلاقات, ويغلب عليها الفردية, ويسود معها الاحباط والجمود وضعف القدرة على الشراكة والعمل الجمعي, والاختلاف قد يتحول إلى تصادمات, والتعدد قد يتحول إلى بيئة من التناقضات يتولد معها كل عوامل الانقسام والنزاع والتفتت.
والحديث النبوي الشريف «الدين معاملة» فإنه يعبر أصدق تعبير على أن المعاملة هي الوعاء التي ينعكس عليها الدين كله بقيمه وشرائعه وعقائده وأحكامه, وأن الدين في الانسان إنما يظهر نفسه في المعاملة ونوعية العلاقات مع الناس.
وما أظهره الاسلاميون من علاقات فيما بينهم كشف عن ضعف الحالة الحضارية بالشكل الذي كانت عليه التصادمات فيما بينهم وحجمها ونوعيتها, والمسببات التي تقف وراءها, والزمن الذي تأخذه وتبقى عليه, والطريقة التي يجري التعامل بها مع الاختلاف, والتعثرات التي تحصل في إدارة الحوار, وفشل العديد من محاولات التعاون والتنسيق والتوافق على قضايا مشتركة, وتفعيل ما يتفق عليه.
هذه الظواهر والأعراض لا يمكن الحد منها, وتطوير ما يقابلها إلا بعد الارتقاء إلى مستويات من النمو الحضاري يؤهل هذه الجماعات إلى تجاوز هذا المستوى وهذا الشكل من العلاقات التي هم عليها.
وبصورة عامة فإن الاسلاميين بحاجة إلى أن يكونوا أكثر قناعة بضرورة النمو الحضاري لتحسين مستوى الأداء العام, وتطوير القدرة الإدارية, ورفع مستوى العطاء الاجتماعي.

ماذا عن المستقبل؟
المستقبل قبل حقبة الثمانينات لم يكن بذلك الوضوح عند الاسلاميين, أو عند كثيرين منهم, ويكاد أن يكون غائباً ومجهولاً, إلا في بعض الأدبيات الثقافية التي تحدثت عن المستقبل بعمومية وإطلاق (27) . وبعد حقبة الثمانينات تشكل المستقبل في منظور الاسلاميين بتفاؤل كبير وبصورة سريعة, كما لو أنه على الأبواب. وأما اليوم فإن الصورة مختلفة تماماً لمنظور الاسلاميين للمستقبل, فقد وجد هؤلاء أو من التفت منهم, ثغرات كبيرة في تكوين رؤيتهم للمستقبل, التي غلب عليها التسرع والانفعال والتفاؤل المفرط, الأعراض والأوصاف التي تكاد أن تتحول اليوم إلى ما يعاكسها إلى درجة تصل عند البعض إلى نوع من الإحباط, وعند بعض آخر انعدم التفكير بالمستقبل بعد ما اصابهم التفتت والتحطم, وبصورة عامة فإن هناك اختلال في رؤية الاسلاميين للمستقبل, الاختلال الذي يفترض أن يكون في وعي الجميع, والذي يتطلب اعادة النظر وتجديد الرؤية, وكل المبررات الذاتية والموضوعية تؤكد على ضرورة التفكير من جديد, واعادة صياغة النظر إلى المستقبل بمزيد من الدراسة والبحث, الذي ما بات سهلاً أو قريب المنال, كما كان متصوراً سابقاً, بل تحوم حوله صعوبات جمة ويكاد يكون بعيداً, ويحتاج إلى زمن طويل, وإمكانات غير قليلة, وتحضيرات واسعة, فقد تضاعفت المشكلات, وتعقدت الظروف, وتشابكت التحديات, إلى جانب ما أصاب الاسلاميين أو بعضهم من إنهاك وتعب وتفتتات داخلية, وإحساس بالتراجعات, وانسداد في أبواب العمل. كل هذا يحدث والعالم شارف على دخول القرن الحادي والعشرين, الذي أخذت أجراسه تدق بقوة معلنة عن عصر تتسارع فيه التحولات والتغيرات مع النمو المتعاظم للمعرفة, وفي ظل ثورة المعلومات, والاتصالات الدولية, وتحديات العولمة, الواقع الذي يشعرنا عن البعد الواسع الذي يفصلنا عن ركب الحضارة والتقدم الحضاري في العالم فالاسلاميون ينتظرهم مستقبل صعب بحاجة إلى تطوير في البناء, ونوعية من الكفاءات, ونظام من المؤسسات, مع الايمان الكامل على أن المستقبل إنما يصنعه الجميع, وبمشاركة الجميع, وأن يكون لصالح الجميع.
فلا خيار أمام الاسلاميين مع هذا المستقبل القادم إلا أن يتعارفوا ويتعاونوا بتضامن وتكافل.

(*) رئيس تحرير مجلة الكلمة ـ المملكة العربية السعودية
(**) ورقة مقدمة لندوة "مستقبل الإسلاميين بين التسامح والإستبداد" نظمها المنبر الدولي للحوار الإسلامي بلندن، ما بين 13-14 ايلول /سبتمبر 1997م.

الهوامش
(1) ـ السنّة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث. الشيخ محمد الغزالي, القاهرة: دار الشروق, ط الثامنة, 1990م, ص 44‏.
(2) ـ الصحوة الاسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم. الشيخ يوسف القرضاوي, بيروت مؤسسة الرسالة, ط 1 , 1990م , ص 5 .
(3) ـ أين الخلل. الشيخ يوسف القرضاوي, تونس: مكتبة الجديد, 1988م, ص 37 .
(4) ـ الحركة الاسلامية هموم وقضايا, السيد محمد حسين فضل الله, بيروت: دار الملاك, ط 1 , 1990م, ص 214 .
(5) ـ انظر كتاب الحركة الاسلامية وآفاق العمل الفكري, زكي الميلاد, بيروت: دار البيان العربي, ط 1 , 1993م.
(6) ـ القرآن الكريم, سورة الزمر, آية 18 .
(7) ـ الحركة الاسلامية ثغرات في الطريق. د. عبد الله النفيسي, الكويت: الناشر المؤلف, ط 1 , 1992 ص 81 - 83 .
(8) ـ أنظر كتاب أبجديات التصور الحركي للعمل الاسلامي. د. فتحي يكن, بيروت: مؤسسة الرسالة, 1981م. وعن نقد هذا الرأي أنظر كتاب الوحدة والتعددية والحوار في الخطاب الاسلامي المعاصر. زكي الميلاد, بيروت: دار الصفوة, 1994م.
(9) ـ أين الخلل, مصدر سابق, ص 38 - 39 .
(10) ـ الانسان. فرنسا, السنة الأولى, العدد الثاني, أغسطس 1990م, مستقبل التيار الاسلامي, راشد الغنوشي, ص 19 .
(11) ـ من هذه الكتابات, كتاب «الحركة الاسلامية رؤية مستقبلية, أوراق في النقد الذاتي» تحرير وتقديم: د. عبد النفيسي, القاهرة: مكتبة مدبولي, 1989, يحتوي الكتاب على أربعة عشر ورقة قدمها مفكرون وقياديون وكتّاب من الوسط الاسلامي.
(12) ـ لمزيد من الإطلاع حول هذا الموضوع أنظر كتاب «الوحدة والتعددية والحوار في الخطاب الإسلامي المعاصر» مصدر سابق.
(13) ـ الحركة الاسلامية ثغرات في الطريق, مصدر سابق, ص 105 .
(14) ـ القرآن الكريم. سورة فاطر, آية 27 - 28 .
(15) ـ سورة الروم. آية 22 .
(16) ـ سورة الزخرف. آية 32 .
(17) ـ انظر كتاب مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنّة. د. محمد علي الجوزو, بيروت: دار العلم للملايين, 1980م.
(18) ـ سورة يونس آية32 .
(19) ـ مراجعات في الفكر والدعوة والحركة. عمر عبيد حسنة, واشنطن: المعهد العالمي للفكر الاسلامي, 1994م, ص 126 .
(20) ـ الكلمة. بيروت, السنة الأولى, العدد الخامس, خريف 1994م, حوار مع سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين, ص 131 .
(21) ـ سورة الحجرات. آية 13 .
(22) ـ سورة آل عمران. آية 159 .
(23) ـ سورة هود. آية 113 .
(24) ـ سورة الشورى. آية 38 .
(25) ـ سورة آل عمران. آية 159 .
(26) ـ الحريات العامة في الدولة الاسلامية. الشيخ راشد الغنوشي, بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 1993م, ص 23 .
(27) ـ حول المستقبل في الأدبيات الإسلامية المعاصرة‎ أنظر الكلمة, بيروت, السنة الرابعة, العدد الخامس, ربيع 1997م, الإسلام, العالم الاسلامي والمستقبل. زكي ميلاد.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة