تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المنطق في الثقافة العربية والاسلامية:جدل التطور والاعاقة

إدريس هاني

ردود ابن تيمية على المنطقيين نموذجاً*

 

مدخل: هل المنطق في أزمة؟

لعل سؤالاً كهذا من شأنه إرباك ذلك الادِّعاء التقليدي الذي رأى المنطق ميزاناً لقياس الصواب والخطأ في الفكر([1]). وبذلك تبوأ مكانة العلم الأشمل من بين العلوم قاطبة([2]). وبناءً على مبادئ المنطق الأرسطي التقليدي تكون دعوى تعريف المنطق بالأورغانون أو الآلة العاصمة أو الصائنة للفكر عن الخطأ، غاية في المفارقة. ولن يستقيم سؤال كالذي ذكر أعلاه، إلا على أساس من الدور المنطقي. فأن يكون ميزان العلم مما يقبل هو الآخر بطرو التحول والانقلاب في مبادئه وقواعده، فهذا يعني أنه أصبح غير عاصم لموزونه، لا بل مساوقاً له في هذا الافتقار إلى ما يعصمه من الخطأ، فيتحول ويتلون بأطواره. كذلك، سيصار إلى القول بأن ما كان من شأنه أن يكون علم لزوم غدا موضوعاً لزومياً. فيدور الأمر ويتسلسل، فإذا بالميزان يحتاج إلى ميزان وهكذا دواليك. ولا غرابة حينئذ بأن يكون التقدم الفكري والعلمي قد انتهيا إلى إرساء نوع من اللغة الواصفة للمنطق نفسه، تمثل في نهاية المطاف منطق «المنطق». فليست اللغة الواصفة إلا منطق المنطق بالنتيجة. هكذا بات المنطق يتقدم ويتطور بالنقد، ويتعدد بمجالات العلوم التي يحتلها أو المطارح التي ينتقل منها وإليها. فإذا بنا نشاهد بروز ظاهرة النقد المنطقي الجواني، وبروز منطقيات تتميز باستقلالها العلمي والنموذجي. لم يعد في وارد المنطقيات الحديثة أن تعصم الذهن عن الخطأ، بعد أن سُلب منها الشمول والإطلاق، وبعد أن أصبح مفهوم «الصدق» أمراً إشكالياً، لاسيما في زمن النسبية والتوصيف بالحد الأدنى أو الأكثر قرباً من الحقيقة والصدق، في زحمة ظهور الأنساق والنماذج المعرفية. فقد أصبح المنطق هو نفسه خاضعاً للعبة النمذجة وليس متعالياً عليها؛ فأنى له اليوم القول: إنه صائن للذهن عن الخطأ؟! فقبل الحديث عن الصدق يجدر بنا أن نتساءل: كيف نعرف الصدق؟! ليس ثمة مفهوم نهائي وشمولي للصدق والحقيقة. بل هناك فقط مفهوم نسقي يغتدي على مسلمات نسق ما أو نظرية ما أو نموذج معرفي ما.

إذن أي منطق يا ترى هو معيار العلم، كما يصفه أبو حامد الغزالي جرياً على المشهور من كلام القدامى. فهل الأمر يتعلق بمنطق واحد شامل وأبدي، تتمتع مبادئه وقواعده بالثبات والحقيقة المطلقة، أم أن الأمر يتعلق اليوم بـ«منطقيات» أو «مناطق»، تخص كل علم بنحو منفصل -فتفقد شمولها وجامعيتها-، تقاس بالعلوم الخاصة بها وتوزن بها، بشكل يصار فيه إلى القول بأن علاقة الموازنة والمعايرة بين المنطق والعلم هي علاقة جدلية متداخلة، حيث أصبح المنطق الخاص في حاجة إلى علمه. فهو بقدر ما يصون الفكر في نطاق العلم الخاص، من الوقوع في الخطأ، فأيضاً، يصون العلم الخاص منطقه من الوقوع في الخطأ -فيفقد معياريته وموزونيته الطولية، ليصبح ميزاناً وموزوناً في آن واحد، على نحو تجادلي-.

سوف يكون كلامنا من وجهة نظر التطور الطارئ على هذه الصنعة، مع الثورة الرياضية الحديثة وتراكم النظريات والأنساق المعرفية، المنطقية والرياضية بمثابة تحصيل حاصل. ويكفي إشارةً إلى ذلك أن المناطقة الحدثاء لم يعد في مكنتهم الحديث عن «منطق» بصيغة المفرد، طالما أن تعبيراً كهذا انقرض أو كاد ينقرض في المتداول بين أهل الصناعة. إن التعبير الأكثر دقة واحتراماً وتواضعاً هو ذلك الذي يأتي في صيغة الجمع، أي الـ«منطقيات» -les logiques-. لكن ما نقصده في ورقتنا لا يدخل في حكم تحصيل حاصل، أعني ما يتصل برصد التطور المنطقي وكيفية هذا التطور ومظاهره في الفكر العربي والإسلامي قديماً وحديثاً. فلا يخفى أن هذه الحقبة التاريخية، أعني القرون الوسطى في المجال العربي والإسلامي، لم تُعطَ حقها في تاريخ المعرفة الحديث الذي يرصد تحولات الفكر الإنساني من عصوره القديمة حتى يومنا هذا. وإذا كان مثل هذا النسيان والاختزال قد طال أكثر العلوم تقدماً في زمانها في المجال العربي والإسلامي، فكيف تراه يقبل التسليم بأنماط التطور التي شهدتها صناعة المنطق في المجال العربي والإسلامي؟!

القول المنطقي في الفكر العربي والإسلامي

لقد ساد الاعتقاد عند طائفة من أهل النظر وشرذمة من المناطقة الحدثاء أن المنطق لم يشهد تطوراً حقيقياً، ولم تتحقق ثوراته وقطائعه، إلا في العصر الحديث. فقد شهد خلال القرن 18 و19 ثورات كان من شأنها تقويض أكثر قواعده ومبادئه، كما دحضت كبرى ادِّعاءاته، بعد أن خدشت في استقلاليته وشموليته، أو بتعبير أدق، بعد أن قوَّضت تعاليه([3]). فبعد أن كان المنطق هو الآلة العاصمة بلا منازع، غدا متعدداً بعدد الصنعات التي تستدعيه، وتستنجد به ويستنجد بها أيضاً. فقد أصبح مقيداً بأنماط العلوم وضرورات النماذج المعرفية، لاسيما بعد أن أصبح يستنجد بالرياضيات التي ظلت حتى حين تستنجد به([4]).

لم يعد الأمر يتعلق «بالأرغانون» المتعالي الشامل المستقل عن العلوم في علاقته الطولية بمبادئها، ما جعله يتبوأ مقعد العلة الأولى في سلسلة المعرفة، ولا عاد الأمر يتعلق بالأرغانون الجديد، مع فرنسيس بايكون، الذي نجح إلى حد ما في نزع الاستدامة والتمامية عن المنطق الأرسطي، مع احتفاظه بالتعالي والشمول والاستقلالية عن العلوم في العلاقة الطولية([5])؛ بل إن الأمر اليوم يتعلق بعلم للمنطق، علم فقط، لا هو بالمتعالي ولا هو بالأشمل ولا بالمستقل في العلاقة الطولية. بمعنى آخر، لم يعد «أورغانوناً»!([6]).

لقد بات المنطق أقل صرامة بعد أن فرضت عليه الأنساق الصورية الأكثر تعقيداً مزيداً من الليونة. فبات أكثر عدداً -مناطق أو منطقيات- بعد أن فرض عليه واقع تشعب العلوم مزيداً من التخصص والتقيد مضاعفين([7]).

أجل، كل هذا واقع لا غبار عليه. وهو نتيجة حتمية لثورات علمية شملت كافة قطاعات علوم الإنسان والمجتمع، كما شملت علوم الطبيعة والرياضيات. لكن كل هذا لا يحجب عنا تلك الثورات الأولى التي حدثت في العالم الإسلامي، حيث لن يكون من الموضوعية في شيء، القول بأننا استلمنا المنطق الأرسطي عبر الترجمة، ثم سلمناه إلى غيرنا من دون إضافة علمية في مبادئه وقواعده وفلسفته مهما قلَّ شأنها([8]). فالذي لا يخفى أن رجالاً أمثال ابن سينا أو ابن رشد أو الخواجة نصير الدين الطوسي كانوا هم سادة المنطق ورواده في زمانهم. لم يكن ينازعهم في مكانتهم تلك نظير في كل حضارات الإنسان المعاصرة لهم. فهل مر المنطق، يا ترى، جامداً صامتاً، لم يتلبس بخروم واستدخالات ونقود عربية وإسلامية؟!

وبما أن مدار هذه الورقة سيكون حول هذه المسألة فلا بد من تحديد ثلاث صور من النقد:

- النقد الجواني

- النقد البراني

- الثورة التخصصية

1- النقد الجواني

إن البحث في هذا الوجه يستدعي وجوهاً فرعية أخرى، يتعين الوقوف عندها استكمالاً لكافة اللحاظات واستجماعاً لكامل الحيثيات. فنقسم النقد الجواني إلى قسمين:

أحدهما: ما كان من فري القدامى. ومثالنا على ذلك المرسي والمهذب الأكبر لهذه الصناعة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، ألا وهو الشيخ الرئيس ابن سينا.

ثانيهما: ما كان من فري المحدثين والمعاصرين، ومثالنا الأبرز على ذلك العالم الجليل والمفكر القدير الشهيد السيد محمد باقر الصدر.

فالجامع بين الشخصين كونهما ينتميان معا للمدرسة العقلانية والمنطقية. فليسا خصمين للصناعة.

لقد قاما بنقد منطقي من داخل الصناعة قصد تطوير بعض الآراء المنطقية في محلها، سواء بصورة غير شاملة وغير جذرية -ابن سينا مثالاً- أو بصورة جذرية تستهدف الاستقلال بنسق منطقي مختلف -السيد باقر الصدر مثالاً-. وكل ذلك حدث من داخل الصناعة لا من خارجها، قصد تعضيدها لا بغية تخريبها. ويجمع بينهما كون القدامى من خصوم المنطق لم يلتفتوا إلى بعض من آراء ابن سينا النقدية للمنطق، مثلما تجاهل قطاع كبير من المناطقة الحدثاء تلك الآراء الجديدة في المنطق، كما أرسى مبادئها السيد باقرالصدر. وهو ما نسميه بنزعة التنكر ومنطق «الهدر» الذي يجعل جهوداً وطاقات كبرى يهدر حقها في مجالنا العربي والإسلامي، إذ تمر آثارهم بصمت، فلا تجد من أهل النظر من يقف أو يعترف بالقيمة المضافة التي جاءت بها آراء من ذاك القبيل.

1- في النقد الجواني قديماً: الشيخ الرئيس مثالاً

لم يتلق الشيخ الرئيس ابن سينا منقوله المنطقي كما هو، من دون إضافة رأي وإعمال نظر. وهي الدعوة التي اتهم بها قديماً من قبل خصومه -كابن تيمية- أو ما كان من آراء بعض المستشرقين الذين لم يروا في ذلك سوى إرثاً أرسطياً خالصاً([9]). فأما أنه كان ناقلاً للأرغانون الأرسطي أو شارحاً له فلا خدش في مسعى كهذا، إن كان الأمر يتعلق بصناعة قائمة بذاتها، يتعين الأنس بها قبل تحصيل ملكة نقدها. وهي قبل ذلك كله جديدة جدة كاملة على المجال الذي دخلته، مجالاً لم يكن النظم شأناً له حينئذ كما كان بادياً في الحضارات والمدنيات الأخرى. ولا حاجة للإطناب فيما كان عليه الوضع العربي قبل ورود هؤلاء الشراح. فكل ما ينبغي قوله، أن اللحظة السينوية بهذا المعنى هي لحظة تاريخية تأسيسية مهمة، جعلت المجال العربي والإسلامي يستدخل إحدى أهم فروع المعرفة والوصول بها إلى أعلى مستويات الاستيعاب. ولا يخفى ألَّا نقد مستغنٍ عن الاستيعاب. وما كان لنقاد المنطق الذين وردوا بعد ذلك أن يقولوا ما قالوه في حق هذه الصنعة لولا أنهم أنصتوا للدرس الأرسطي مقدماً من قبل كبير شراحه المنطقيين وأوائلهم. غير أن الأمر لا ينتهي إلى هنا. إن للشيخ الرئيس توضيحات ونظرات ونكات ومخالفات في طي مقالاته التي قد تبدو للبعض مجرد شروح مكرورة للمتن الأرسطي. مخالفات تميّز بها الشارح عن الماتن، إما تغييراً للمعنى أو تعميقاً له وإبرازاً لما لم يبرز من حيثياته ووجوهه. وقد ظهر بها مهذب المنطق صاحب موهبة ومقدرة نادرة على حسن التبليغ والاستشكال، ما جعل المنطق في نسخته السينوية أكثر نصاعة وكمالاً.

ولم يكن من المعقول أن يطلب من ابن سينا إحداث نقلة في المنطق جذرية، مادام أن مجال الاستقبال لم تكتمل لديه شرائط استيعاب وتقبل نقلة من هذا القبيل، دون أن ترسخ الصنعة في المجال وتستدمج في خارطة المتداول من صنائع العمران. وما كان لأمر كهذا أن يحدث بهذه السرعة والتمامية حتى العصر الحديث، بل وقروناً بعد أن تمكن المنطق من إحراز استقلاله عن الفلسفة، واستقلال الرياضيات. أي، بعد أن أصبح أي تطور جذري وجادٍّ في المنطق لا يجدي شيئاً، بما أنه لم يعد يتحكم بالنسق على النحو التام كما مضى، ولا أثر لذلك -إن حدث- على مجمل البناء الفلسفي الذي يؤطره. وبالتالي، فإن تطوراً كهذا لن يجدي علوم الإنسان، فضلاً عن أنه لا يعدو كونه تطوراً مغشوشاً، مادام لم يتجاوز حد تشعيب وتفريع المسائل ومراكمة الاستشكالات والفرضيات بصورة لا تجعل التقدم هو جملة الحلول المتراكمة، بقدر ما أصبح تطوراً ينبني على مراكمة إشكاليات وفرضيات نظرية، بلا حلول حاسمة. لقد غدا عنوان أي تطور ممكن يتميز بعدد الاستشكالات النظرية المطروحة وبالقدرة على جعل عملية الحسم هي الأبعد من الوارد في ذهن المنطقي.

إن الحلول المعلقة أمارة على تطور المنطق. مثل هذا التطور النظري، الذي وسّع من مفهوم الصدق، إلى حد إيصاله إلى مستوى تساوي الأدلة ونسبية الحقائق، هو مسامحة أكثر مما هو حقيقة حاكية عن واقع ما يجري في الخارج. الواقع أن كل تطور مزعوم من هذا القبيل هو بمثابة متاهة أخرى مضافة إلى المنطق. بل ومأزق جديد ينضاف إلى سلسلة مآزقه. سنتحدث إذن عن بروز أنساق متغايرة، أشبه ما تكون إلى مدن محروسة ومحاطة بأسوار منيعة، وليس تطوراً طولياً ناسخاً لما قبله. فهذا ممكن وقد حصل بالفعل. لكنها تظل جميعها أنساقاً زادت في تتويه المنطق لصالح أنساق منطقية مغايرة. يظل كل نسق معتوراً في قبال ما هو أعلى منه. تطور المنطق هو تراكم أنساق منطقية واتساع مداركها عرضاً لا طولاً. إن أهم إنجاز قدمته الثورات المنطقية الحديثة أنها جعلت المنطق أبعد من أن يكون ميزاناً خارج النسق المحدد للنمط المعرفي. ما جعل الأمر في المحصلة مجرد كاشف عن وضعية جديدة للمنطق، يتنزل بموجبها منزلة موضوع ميتا-لغة -META-LUANGUAGE-، كاشفاً بدوره عن مآزقه ضمن هذا الحطام من الأنساق الممكنة، وليس ضمن النسق الواحد المغلق. وبوصفها أنساقاً تتطلب لغة واصفة توزن بها، وتبرز من خلالها، قبل أن تكون هي نفسها موازين للعلوم. فالأمر في نهاية المطاف هو أقرب إلى تكافؤ الحجج، وتساويها. وهذا ما ستظهره نظرية «الصدق» ومفهوم «التشارطية» عند تارسكي([10])، وسيعضده بشكل من الأشكال كارل بوبر([11]). تلك كانت قصة التطور الحديث في المنطق، الذي ظل همه منحصراً في عملية الالتفاف على اليقين أكثر من أي وقت مضى. لكن العصر الذي وجد فيه الشيخ الرئيس لم يكن مؤهلاً لاستقبال أي ثورة على الأرغانون الأرسطي. وذلك لأسباب يمكننا سرد بعض منها، مما هو قريب من لحاظنا:

1- الدعوة إلى إحداث انقلاب في المنطق قبل رسوخ الصنعة، هي من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

2- إن موقعية المنطق في معمار المعرفة كانت من الشدة والتماسك بحيث إن أدنى خرم في مبادئ المنطق كان من شأنه رج البنى رأساً، مما لم يكن في وسع الاجتماع المعرفي تحمله عصرئذ. ليس ذلك لشمولية حكومة المنطق على باقي المعرفة، بل لرسوخ الاعتقاد بأن العقلي إذا انكشف فلا يضاده ما كان معقولاً عرفاً في الواقع الخارجي قبل ذاك الانكشاف، إلا عناداً. وهذا هو سر قوة البرهان المنطقي حينئذ في موارد الحجاج. لقد ساد الاعتقاد بأن سبيل المعرفة هو البناء المنطقي والعقلي، وليس ثمة طريق آخر غير التوسل بالعلم الحضوري. بل حتى في دائرة العرفان، كان الاحتجاج على صدق دعوى معارفه تتم بالبيان وبالبرهان، كما فعل ابن عربي، وكما ادَّعى صدر المتألهين الشيرازي. فلئن تراءى لهذا النفر من الإشراقيين جرأة على تجاوز مبادئ المنطق أو وعدم التقيد بالسير المنطقي لتحصيل العلم بالمجهولات، فإنهم لم يجرؤوا الجرأة نفسها على تقديم ما توصلوا إليه من غير طريق البرهان إلا بالبرهان. فتحصل أن النمط المعرفي السائد قصاراه أن يتجاوز المنطق في جهة الوصول لا في جهة الإثبات والاستدلال.

3- إن المعرفة كانت جادة في انبنائها على الأسس المنطقية يومئذ. وإن أي تغير فجائي وجذري من شأنه خلق اهتزازات كبيرة لا تطاق، تتطلب إعادة البناء بصورة جذرية. أي سيتعدى تداعي المنطق إلى باقي الصناعات الأخرى تباعاً. لا، بل إلى باقي العمران القائم على هذا النمط من النظم الأشمل للعلوم والصناعات، وليس الأمر مماثلاً للعصر الحديث، حيث أي رجة في أسس المنطق لن تحدث أضراراً كبيرة وكارثية على المعرفة، من حيث إن المنطق أصبح مهمشاً ولا يشكل معياراً للعلوم كما كان شأنه سابقاً.

4- إن تداعي المنطق يومئذ كان من شأنه التأثير على النمط برمته فكان الأمر على عكس ما هو عليه الأمر في أيامنا، يتطلب حسماً في النتائج البديلة. فالنمط المهيمن يومئذ لا يسمح بأن تفجر إشكالية المنطق لصالح ضرب من العمائية المتسيبة التي يتحملها النمط المعاصر، الذي يقوم على معايير وقواعد في الفكر قاطعة مع المنطق ولا تتأثر به.

ومع ذلك لا ننسى أن الشيخ الرئيس كان قد تبنى منتهى ما بلغه عصره في هذه الصنعة، حتى وإن ظهر طول المدة الفاصلة بين واضع الأرغانون وعصر ابن سينا، إذا ما قيس بالفاصل الزمني الذي قطعته الثورات المنطقية في العصر الحديث.

إن عمق الثورات المعرفية الحديثة ليس راجعاً إلى ثورات في مسائل العلوم وفروع الصنائع -فمثل هذا حدث دائماً منذ فجر التاريخ، وإن ببطء لا يلحظ- بل إنما عمق هذه الثورات راجع إلى التحولات والانقلابات الحاصلة في النمط المعرفي أو النموذج المعرفي الكلي. إن المناطقة وخصومهم كانوا جميعاً محكومين بنمط معرفي واحد، مهما تنازعوا حول آراء معينة أو فروع محددة. وبما أن النمط المعرفي السائد زمان الشيخ الرئيس لم يكن مورد انقلاب في النموذج المعرفي، فإنه لا جدوى من ترقب ثورة جذرية كبرى على الأرغانون الأرسطي، الذي لم يكن قد وطد أركانه بعد في التربة المعرفية العربية الممتنعة عن النظم. فثورة من هذا القبيل لو أنها حدثت فعلاً فسيكون ذلك عنواناً لموقف رفضوي غير حضاري ولا ينطلق من مناخ تقدم العمران. وهذا ما حدث مع خصوم المنطق الذين ثاروا في وجهه ولم يثوروا من داخله، وهو ما كان حقيق بمن يروم التقدم بالصنعة لا تقويضها كما سنرى. إن النمط المعرفي السائد حينئذ، والأرغانون الأرسطي نفسه، كان أكثر توافقاً مع عموم المبنى الفلسفي. بل إن الحضارة العربية والإسلامية كانت متقدمة بالجملة على غيرها، منتجة لا تحس بإعاقة ولا باستنفاذ المنطق لأغراضه. نعم، إن ابن تيمية مثلاً كان قد أشار إلى أن العلوم البحتة لم تكن في حاجة إلى منطق، كالطب. وذلك في إشارة تدل على نوع من الاستقلالية المبكرة لهذه العلوم عن المنطق. مثل هذا يصح من جانب، لكنه مغالط من جوانب أخرى.

فأما الوجه الذي منه يصح فكون هذه الدعوى تلتقي مع مزاعم الكثير من المعاصرين، بل هي دعوى العصر بلا جدال. هذا التناظر السطحي في تصويب هذا الموقف التيمي، والذي تنهض به قراءة شرذمة من الحدثاء بأثر رجعي، هو بلا شك نزعة تأويلية تستبعد التاريخ وتعالج النصوص والشخوص خارج أطرها المعرفية والتاريخية. لقد أدرج ابن تيمية الرياضيات في مثاله ذاك مع أن صلة المنطق بالرياضيات والفلسفة كانت على توافق بالغ.

ثم إن ابن تيمية تناسى بأن ابن سينا نفسه كان طبيباً تجريبياً بارعاً، ولم يجد حرجاً في مزاوجته بين الطب والمنطق والفلسفة. بل لعله وجد من التوافق العجيب في ذلك ما جعله يعنون موسوعته الطبية بما يشد الأنظار إلى المنطق كما عنون إلى موسوعته المنطقية بما يشد الأنظار إلى الطب. فسمى كتابه المنطقي بالشفا، وسما كتابه الطبي بالقانون. وهذا إن دل فإنما يدل -مع فرض حصول ذهول وغفلة في المقام نستبعدهما- على أن الشيخ الرئيس كان يعيش هذا التداخل الكبير بين العلوم. لم يكن المنطق الأرسطي محل تهوين حقيقي كما حصل بعد ذلك بقرون عديدة، بل إن هذا النسق ظل مهيمناً حتى العصر الحديث، أي أن النهضة الأوروبية لم تتخذ موقفاً جذرياً من المنطق في ثوبه القديم. بل إن دعوة فرنسيس بيكون الرائدة في الأورغانون الجديد أعطت فرصة أكبر لتطبيق الاستقراء، بعد أن كان أرسطو قد استبعده في منطقة الصوري. وذلك قبل أن تثور ثائرة خصوم المنطق في نسخته الأرسطية الصورية أو في نسخته البيكونية الجديدية، للنيل من الاستقراء نفسه والتشكيك في حجيته. وأما موقفهم من صوريته، كما وضع اليد على مأزقها ديكارت ونظراؤه، فذلك مما أدركه ابن سينا وغيره من المناطقة المسلمين، لما أدركوا أن وظيفته هي في المادة والصورة المجردين، وليست في إنتاج المعرفة. لا سيما وقد كانوا تجريبيين إلى حد ما، لأنهم كانو أطباء أيضاً.

علينا أن نؤكد تباعاً أن الثورات المنطقية الحديثة، وإن كانت تجاري المتحول البنيوي للنمط المعرفي، إضافة إلى عدم جدواها، ما دامت أنها أصبحت على هامش المعمار المعرفي الذي بات العلم والتجربة هما مناط تقلباته وتحولاته، ما جعلنا نؤكد بعد ذلك على كون التعبير بالتطور فيه مسامحة. أجل، بالإضافة إلى ذلك، فقد حان الوقت للتأكيد على مسامحة أخرى؛ ألا وهي أنه ليس بمقدورنا هدم النسق الأرسطي -الذي بدت أطيافه مخيمة على عصور معرفية مختلفة، ولايزال أرسطو حاضراً في عصرنا بشكل من الأشكال، أكثر من بعض المذاهب الحديثة التي سرعان ما انقرضت. إن حضور أطياف أرسطو في عالم المعرفة المعاصرة أقوى من أطياف ماركس ونظرائه، ممن كان لهم أثر على الفكر الحديث: إنها حقًّا مفارقة!- وذلك لكمال مطالبه في الجملة. بل إنها ثورات لم تفعل أكثر من فتح المجال لانبثاق منطقيات جديدة. ومن هنا بات لزاماً أن نقول: إن الثورات المنطقية الحديثة ليست ثورات على المنطق الأرسطي، بل هي ثورات خارج النسق الأرسطي: صيحات على الهامش. فلا وجود لثورات على المنطق أو أنساقه الممكنة، بل قصارى ما هنالك إنتاج واكتشاف أنساق جديدة. إن أرسطو لم يمت، بل كل ما هنالك أن مناطقة جدد زاحموه الوجود، وما فتئوا يطالبونه بالشراكة وتوزيع السلط المعرفية. إننا نعيش عصر «بلقنة» النماذج المعرفية. بهذا، وبعد أن أدركنا سر هذه المسامحات الثلاث: التقدم - الاستقلال - الثورة، لنا إذَّاك، أن نقرر اللاءات الثلاث التالية:

- لا تقدم حقيقيًّا في المنطق ما دامت صورة هذا التقدم استشكالية بحتة. فمقياس التقدم يتجلى فيما يحرزه التقدم من حلول حاسمة. وقد ظهر أن الفرار من الحلول الحاسمة غدا قاعدة التطور والتقدم في المنطق الحديث.

- لا استقلال حقيقيًّا للمنطق، بل إن العلوم هي التي استقلت عن مشموليته وتعاليه، بعد أن حاصرته تشعبات العلوم وتطورها ضمن سلسلة من القيود.

- لا ثورة حقيقية على المنطق، بل ثمة فقط صيحات خارج النسق طلباً لأنساق جديدة.

في ضوء هذا المعطى، يتعين فهم أهمية الموروث المنطقي السينوي، وفي ضوئه تصبح تلك الآراء النقدية السينوية لها أهميتها مهما بدت للباحث ضئيلة أو محصورة أو ملتبسة. لقد ألف ابن سينا ثلاثة من أهم المصنفات المنطقية. وهناك من اعتبر كتاب الشفا مكمِّلاً لمنطق المشرقيين، وكذا النجاة مكمِّلاً لهذا الأخير. وإذا كان ابن سينا يحكي عن اتِّباعه لأرسطو ويمنحه كثيراً من التبجيل والمدح، فذلك نابع من إعجابه وتواضعه، الذي لم يمنعه من إمعان النظر في مطالب المنطق، إلى الحد الذي خالف فيه الأوائل بمن فيهم أرسطو نفسه. إذا كان أرسطو قد سمى منطقه الأرغانون، أي الآلة، فإن ابن سينا وصفه بالنهج([12]). ويكفي بعض الآراء السينوية دليلاً على حضور ذلك الحس النقدي الذي جعله ينفرد بكثير من الآراء، كما نلاحظ من قوله: «ولا تلتفت إلى ما يقال من أن البرهانية واجبة والجدلية ممكنة أكثرية والخطابية ممكنة ومساوية، لا ميل فيها وندرة، والشعرية كاذبة ممتنعة. فليس الاعتبار بذلك، ولا أشار إليه صاحب المنطق»([13]). ومثل هذا قوله: «والقوم الذين سبقونا لا يمكنهم في أمثلتهم واستعمالاتهم أن يصالحونا على هذا وبيان هذا فيه طول»([14]).

ومثاله أيضاً قوله: «ولا تلتفت إلى ما قاله صاحب إيساغوجي في باب الجنس بالنوع»([15]).

فمن تتبع آراء ابن سينا المنطقية يقف على عينات كثيرة من موارد مخالفته للأوائل ولصاحب المنطق تحديداً، ما يؤكد على أن ابن سينا لم يكن مقلداً كما تراءى لبعض خصومه، بل كان على بصيرة مما استدمجه من آراء منطقية، ماحضاً إياها بالتأمل والنظر. فلعله إذَّاك من الأهمية بمكان لو بحثنا في مواقع هذا الخلاف والتفرد بآراء ابن سينا. وهو مما لا يتسع له المقام. فتكفي في ذلك الإشارة!

1 ـ 2: النقد الجواني الحديث؛ السيد محمد باقر الصدر مثالاً

لا ينبغي ها هنا الإطناب في عرض تفاصيل القيمة المضافة التي شهدها الدرس المنطقي الحديث على يد أحد أبرز رجالاته المعاصرين؛ الشهيد الصدر. فهي مدرسة قائمة تتطلب وقفة خاصة لا يتسع لها المقام. إلا أنه لا يخفى أن نظرية الشهيد الصدر المنطقية كانت قد دخلت النقد المنطقي من أكثر أبوابه استشكالاً وتعقيداً، أقصد: الاستقراء!

استدمج السيد الصدر كل المآزق المزمنة التي عانى منها النسق المنطقي الأرسطي. وقد بدا ذلك واضحاً من جملة النتائج التي توصل إليها في نهاية المطاف. إن الحديث عن النسق هنا له ما يبرره. فالسيد الصدر كان قد أدرك أهمية ما أشرنا إليه سابقاً، أي أن نقداً حقيقياً للمنطق الصوري لا يمكن أن يكون إلا عبر الانتقال رأساً إلى نسق منطقي مختلف، يعاد بناء أسسه من جديد. لقد دخل السيد الصدر مغامرة النقد المنطقي من أعلى مستوى، جعله في مقام كبار مناطقة عصرنا الحديث عن جدارة واستحقاق، وذلك لما سنختصره في النقاط التالية:

1ـ إن السيد الصدر يدَّعي قولاً وفعلاً أنه سوف يعالج ما لم يعالجه المناطقة منذ صاحبه أرسطو([16]).

2ـ وبالفعل، لقد أتى بنتائج تفترق عن الأرسطية الجامحة في صوريتها وإطلاقها، وعن المنطق الحديث الجامح في تسيباته العمائية ونكران اليقين.

3ـ عملياً استند السيد الصدر إلى علم إسلامي محض، هو علم أصول الفقه. فقد أبرز المعاني العظمى التي تقف وراء العلم الإجمالي ومفهوم القطع والظن كما انتهت إليهما مدرسة الشيخ مرتضى الأنصاري في علم أصول الفقه. محيِّناً ذلك النقاش، باعثاً فيه روحاً جديدة أثبتت قيمته وجدواه، بعد أن ساد الظن بأن ذلك لم يعد يمثل سوى مجرد تراث. ما يعني أن قوة النظرية الصدرية تستند إلى هذا العقل التركيبي الكبير، وأيضاً على قدرة هائلة في استنزاف كل معطيات التفكير العقلاني الذي بناه العرب والمسلمون عبر قرون من الزمان.

4ـ عالج السيد الصدر مشكلة الاستقراء بعد أن أتعبت كبار المناطقة والرياضيين الحدثاء. منازلاً كبراءهم، نظير برتراند راسل، وجون ستيوارت ميل([17]).

5ـ خرج السيد الصدر بنظرية في اليقين لا تنفيه مطلقاً لصالح القول بتكافؤ الأدلة، ولا تؤكده تأكيداً حصرياً ثابتاً لصالح القول باليقين الأتم. بل لقد انتهى إلى إقرار صورة لليقين، لا هي باليقين المنطقي، ولا باليقين الموضوعي، بل هي شكل آخر من اليقين قابل للتفاوت اشتداداً وتضعفاً: اليقين الذاتي الذي يقابل الشك([18]). فعدَّ من اليقين ما كان من جنس الاحتمال الشديد. وبناء على مدرك المتداول في المعاقلات العرفية، أن الاحتمال قد يشتد إلى درجة تبدو النسبة الضئيلة المتبقية مهملة، فلا يصبح هناك أي حرج في الإغضاء عنها أو إسقاطها. إن النظرة المثالية للمعرفة من شأنها أن تتحدث عن اليقين المطلق المنطقي أو الموضوعي الذي لن تبقى معه ذرة احتمال مهما قلَّ شأنه. وهذه النظرة هي نفسها أزمة المنطق الصوري الذي لم يدخل في الاعتبار سوى التوالد الموضوعي للمعرفة، غير آبه بالمرحلة الثانية المقيدة بشرائط وخصوصيات التوالد الذاتي للمعرفة. غير أن النظرية الصدرية هي بحق حقيق، نظرية واقعية من حيث هي ذاتية وسيكولوجية. من هنا جاء حديثه عن اليقين الموضوعي واليقين الذاتي. فالمذهب الذاتي للمعرفة لم ينهض هنا على مقايسات الذاتية الكَانْتِيَّة الجاحدة بالنومين والمتعالي، ولا هي باركلية نافية للموضوع الخارجي أصلاً. بل، لقد جاءت نظرية تعادلية، بناءً على ما توصل إليه العقل الأصولي -أصول الفقه- العملي، وتحديداً مع مذهب شيخنا الأستاذ الأنصاري في مفهوم الظن والقطع والعلم الإجمالي، كما ذكرنا. ما جعلها أكثر واقعية وعملية، لا تنزلق إلى حدود استحالة العلم أو عدم إدراك الشيء في ذاته أو عدم العلم بالمتعالي. لقد جعل السيد الصدر نظريته مقدمة لاثبات التعالي عبر دليل الاستقراء، وبالتأكيد، في ضوء مذهبه الذاتي في المعرفة.

ومع ذلك -ومما يدعو للأسف- فإن أطروحة الصدر المنطقية لم تجد في المجال العربي والإسلامي من يمنحها العناية ويفتح حولها أوراش عمل تخصصي - وليس مجرد أوراش دعائية أو احتفالية، وعرضها على الفكر الإنساني. مثل هذا لم يحدث للأسف الشديد. وإذا حدث فهو لا يبرح الدوائر المقربة من العارفين بالتراث العلمي الصدري([19]).

لقد قام هذا الأخير بإنشاء نسق جديد، يتمتع بنزعة عملية ومرونة عالية. فكان أكثر قدرة على حل مشكلة المعرفة والاستقراء. بل لقد جاءت محاولته منسجمة مع روح العصر الذي انتهى إلى جعل أي تقدم في المنطق لا معنى له إلا بإنشاء نسق خاص -وقد فعل ذلك من خلال المذهب الذاتي للمعرفة-، وأيضاً التخفيف من حدة وصورية المنطق في منزعه الأرسطي وإكسابه مرونة أكبر، تحقق معها بعدان، بهما تتقوم وجهة الفكر المعاصر؛ أعني البراغماتية والتسامح. فأما البعد الأول فمن حيث ما يرمز إليه من مبدأ الفعل والمنفعة، فإن الأخذ باليقين الذاتي هو أكثر تحريراً للعمل وأكثر واقعية من الانهمام باليقين الموضوعي أو المنطقي المستحيلين في مقام الإجمال. وأما البعد الثاني فإن من شأن المرونة في مفهوم الاحتمال أو الظن أو اليقين أن تحول دون وضع سقوف نهائية للمعرفة أو الاكتفاء بالرأي الواحد. إن المراتب التي تتحرك فيها الظنون تجعل الفكر نفسه يجدد علاقته بنتائجه، متى ما حدث تطور في مراتب الظن. ثم إن الحديث عن اليقين بحسب هذا المذاهب الذاتي في المعرفة من شأنه أن يخرم اليقين الواحد الأوحد، فثمة درجات من اليقين بعدد أنفس الموقنين.

النقد البراني

لقد كان من المفترض تفريع الحديث في هذا الجانب أيضاً إلى وجهين: نقد براني قديم وآخر حديث على طريقتنا فيما سبق. لكننا لم نجد من نقاد المنطق من غير المنطقيين، من أتى بما لم يأت به الأقدمون. وإذا أتى به جاء تقليداً ساذجاً بمهارة دنيا. من هنا سوف نكتفي بوجه واحد في محل حديثنا عن النقد البراني للمنطق. لكن يجدر بنا ضرب أمثلة عن هذا النوع من النقود الموجهة للمنطق من خارجه، والتي قد تصدر عن مواقع متعددة، إما عن أهل عرفان وكلام أو أهل فقه وحديث. وقبل ذلك لا بد من توطئة:

نقصد بالنقد البراني مجمل الآراء المناهضة للمنطق، الواقعة خارج الصناعة وأهلها. كالآراء التي نجدها في متون بعض الأخبارية والفقهاء. ولعله من الأهمية بمكان التوقف عند هذه الآراء والمرجعيات الإيديولوجية والأسباب الاجتماعية أو النفسية أو الثقافية أو المعرفية التي قامت على خلفيتها ظاهرة نقض المنطق في التراث العربي والإسلامي. على هذا الاعتبار يتعين التمييز بين نقض وآخر: دوافعه، آلياته، غاياته...

كما نقصد بالمرجعيات الإيديولوجية تلك الآراء والأطر المذهبية، التي تحيط نفسها بأسيجة من الأفكار التي من شأنها صد أي صنعة منظومة وأي أداة تمكن صاحبها من دربة الحجاج وتضع بين يديه أدوات لإحراز الصدق وصيانة الفكر من ضروب الخطأ. إنها أطر تتوفر على عدد من البداهات المغشوشة القائمة على طرائق وسلط معرفية، ليست شاملة أو عامة. بحيث تشمل ما دون المجال الخاص، ولا تقبل بالنقاش الحر. وقد شهد التاريخ الإسلامي أشكالاً من الظواهر الرفضوية، الصادرة عن خصوم المنطق، لأنها ترفض أصل السؤال والتساؤل. وأما الموانع الاجتماعية فإن المنطق كان دائماً في هذه العصور صنعة للخاصة لا للعامة. بسبب ما يتطلبه أمر تحصيله من تفرغ وانقطاع ومتابعة لا يشوبها إهمال. وأما الثقافي فإن خصوم المنطق كانوا في الأغلب ينحدرون من ثقافات بعيدة عن ثقافة النظم ومذاق الصناع وتقاليد التدوين. هكذا نفهم الفارق بين ابن تيمية الحراني العربي الذي رفض المنطق ضمن ما رفضه من صناعات أخرى، وبين الغزالي الذي نقض على الفلاسفة دون أن يتعدى إلى المنطق الذي أشاد به كصنعة علمية اعتبرها معيار العلم، وصنّف فيها ما كان به من أهل الصناعة المنطقية. وأما النفسية فراجعة إلى التركيب الذهني والنفسي للمتلقي، ولها صلة بوضعه الاجتماعي وطبيعته المزاجية والبيئة والمحيط والتربية وما دون ذلك، مما يعرفه خبراء النفس والاجتماع.

إذا تبيّن وجه هذه الدوافع المختلفة التي كانت وراء الهجوم الشرس والحملات الشديدة على المنطق والمنطقيين في التراث الإسلامي، أمكننا التوقف عند ثلاثة أمثلة جامعة مانعة للقسمة المذكورة: مثال أول هو ابن الصلاح، وثاني هو ابن عربي، وثالث وهو بيت القصيد: ابن تيمية. فالأول حاكٍ عن الدافع النفسي والثاني حاكٍ عن المعرفي والثالث حاكٍ عن جملة دوافع اجتماعية وثقافية ونفسية وفيسيولوجية([20]).

ـ حكاية ابن الصلاح

هو أبو عمر تقي الدين الشهرزوري المعروف بابن الصلاح الذي عاصر القرن السابع الهجري، من أكثر الناقمين على المنطق صناعة وصنَّاعاً. وقد اشتهر بموقفه ذاك وبما سمي بفتوى ابن الصلاح، القاضية بتحريم تعاطي هذه الصناعة وتعليمها. يقول ابن الصلاح: «وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر»([21]).

ولم يقف الأمر عند مجرد دحض هذه الصناعة التي وجدت لها من العلماء المسلمين أنصاراً، بمن فيهم خصوم الفلسفة، كالغزالي، حيث ناله من ابن الصلاح هجاء كثير بهذا الخصوص، بل تعداه إلى التحريض ضد أهله ومضايقتهم في معايشهم وقطع أرزاقهم بموجب ما عرف بفتيا ابن الصلاح. على أن هذا الأخير قدم نموذجاً آخر لخصم عنيد للمنطق والمناطقة في الثقافة العربية، أي الخصم الذي يتحرك بخلفية الموقف النفسي والشخصي، على ما سيظهره نص لابن السبكي في طبقات الشافعية، يكشف فيها عن سبب هذا التحامل العنيف على المنطقيين، حيث قيل: إن ابن الصلاح «كان قد رحل سرًّا إلى الموصل ليتعلم فيها المنطق على محدثها كمال بن يونس الموصلي المعاصر لابن خلكان، لكنه -أي ابن الصلاح- لم يقدر على استيعاب المنطق، فنصحه أستاذه أن ينصرف عن دراسة هذا الفن، فانصرف معلناً خصومته لابن يونس بحجة الدفاع عن الدين»([22]).

فإن ثبتت هذه الحكاية فستكون مثالاً عن الموقف التعسفي المرتكز على وضعية نفسية وكراهية ذاتية لفاشل في الدرس المنطقي كما أفادت رواية ابن السبكي.

ـ مجاوزات ابن عربي

لم يكن ابن عربي رجل منطق، وما كان ينبغي له ذلك كعارف مأخوذ إلى عالم الحقيقة الصوفية بتجلياتها وأسرارها، حيث أنى للمنطق حصرها، وهو معد فقط للبراهين ووسائطها ومقدماتها وليس للحدوس والكشوف والإشراق. لكن هذا لا يخفي ما ظهر في آرائه من نكات، يخالف فيها مشهور المناطقة، رادًّا بعض مبادئ المنطق أو رافعاً لها لخصوصية المجال ولمقام السالبة بانتفاء الموضوع، كما رفض الاستقراء في مجال التجلي مثلاً. فقد تناول موضوعات كثيرة نظير المعرفة والعلم والألفاظ والقياس؛ موضوعات منطقية توحي بأن عرفان ابن عربي ينزل نفسه منزلة أعلى مما يتيحه المنطق الأرسطي نفسه. غير أن مثل هذا الموقف يعلل باختيارات معرفية وبضرورات منهجية وخصوصيات يفرضها النموذج المعرفي العرفاني ومفهوم الحقيقة عند أهل الإشراق والتصوف، ما يجعل آراء هؤلاء بمثابة انتهاك فعلي لمبادئ المنطق الأرسطي، انطلاقاً من تباين مجال الاشتغال، وانطلاقاً من اختلاف الوسيلة لبلوغ المعرفة. إن المنطق هو بمعناه الأرسطي آلة عاصمة للذهن أو الفكر عن الخطأ. فهكذا كان وهكذا دخل وتم قبوله في التراث العربي والإسلامي. غير أن العارف والإشراقي المستند في إدراكه إلى الكشف لا مانع لديه عند الاقتضاء أن يعرض حقائقه المكشوفة كشفاً بوسائل البحث والبرهان كما فعل ذلك ابن عربي بيانياً أو ما كان من ادّعاء ملا صدرا برهانياً، لما قال بتوافق البحث والبرهان. على أن ملا صدرا لم يقف عند اتحاد الطريقتين في جهة البيان، بل ادعى ذلك في جهة الوصول([23]). وهو ما جعله يرى في الكشف طيًّا للبحث واختزالاً، وفي البرهان والبحث تظهيراً لمختزل ومستبطن. فهي في الأصل طريق واحدة. إن ابن عربي كباقي العرفانيين لا يرى، وما ينبغي له، في المنطق آلة عاصمة للفكر عن الخطأ، مادام، وكما أكد إخوان الصفا وأهل المعرفة والإشراق: أن العقل حجاب. وأن طرائق الوصول إلى الحقيقة أوسع من طرائق البرهان. فكلما قصرت المسافة بين المحمول والموضوع، وتلطفت الواسطة أو اختفت، كان الأمر أقرب إلى العصمة من باقي الأقيسة والاحتكاك بالوسائط. فهذا هو الحد الفاصل بين المعرفة في منظور المنطقي، والحقيقة في منظور الصوفي. لقد نهض التصوف على جملة من الخرقات والانتهاكات لما كان يعد بداهات منطقية أو مسلمات عند المتكلمين -الذين هم بدورهم قاموا بانتهاكات بمستوى من المستويات لتلك البدهات-([24]). على أن انتهاكات ابن عربي وأضرابه لمبادئ الصناعة مما لا ينتهك الصنعة برمتها. إنهم يستدلون بقواعد المنطق نفسه على استحالة خضوع عالم الحقيقة العرفانية لهذا النوع من القواعد.

إنه موقف حاكٍ عن اختلاف وتغاير في مديات الاشتغال. ما يجعل موقف الصوفي لا يقضي ببطلان تام للصناعات إلى حد إخراج أهلها من الملة. يؤكد ابن عربي على ذلك في حديثه عن العلم النبوي والعلم النظري، قائلاً: «ولا يحجبنك، أيها الناظر في هذا الصنف من العلم الذي هو العلم النبوي الموروث منهم -صلوات الله عليهم- فتقول في هذا القائل الذي هو الصوفي المحقق: إنه فيلسوف، لكون الفيلسوف ذكر تلك المسألة وقال بها واعتقدها، وإنه نقلها منهم، أو إنه لا دين له، فإنه الفيلسوف قد قال بها و لا دين له. فلا تفعل، يا أخي! فهذا القول قول من لا تحصيل له. إذ الفيلسوف ليس كل عمله باطلاً. فعسى أن تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق»([25]).

ويؤكد على هذا المعنى مرة أخرى بما هو أوضح في التسامح مع الخصوم، تحريًّا للحقيقة: «وأما قولك: إن الفيلسوف لا دين له، فلا يدل على أن كل ما عنده باطل. وهذا مدرك بأول العقل عند كل عاقل»([26]).

إن في نصوص ابن عربي حكاية عن رؤية للمنطق ومسالك الأدلة، تروم بها التوسع إلى ما فوق فضاء العقل المجرد. وذلك بإدخال مديات جديدة في حيز اشتغاله، وأيضاً بجعل العقل قوة من قوى الإنسان التابعة له المهتدية بما يفوق مقامها في القوة والسداد. من هنا قوله: «فانظر -يا أخي- ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئاً مما ذكرناه إلا بواسطة هذه القوى، وفيها من العلل ما فيها (...) فما أجهل هذا العقل بقدر ربه: كيف قلد فكره، وجرح ربه»([27]).

وهذا على مبنى ابن عربي في تعريف العقل وبيان حدود قدرته ومداه كما هو مستفاد من تعاليم الإسلام. أي في قبال العقل المؤلَّه. فالعقل حسب ابن عربي يصيب ويخطئ. فهذا «من أعجب الأمور عندنا: أن يكون الإنسان يقلد فكره ونظره وهو محدث مثله، وقوة من قوى الإنسان التي خلقها الله فيه، وجعل تلك القوى خديمة العقل، ويقلدها العقل فيما تعطيه هذه القوة، ويعلم أنها لا تتعدى مرتبتها، وأنها تعجز في نفسها عن أن يكون لها حكم قوة أخرى (...) فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط»([28])!

قيمة هذه الرؤية للمدى العقلي، وتحجيمه إلى حد اعتباره قوة داخلة في نسيج القوى المسندة للإنسان، تتجلى في جملة الانتهاكات التي ستطال بعض الآراء المنطقية والفلسفية. على أن هذا الانتهاك ينهض على مبررات تشرعنه من داخل القواعد المنطقية نفسها. إن ابن عربي مثلاً يؤكد على أن الاستقراء مثلاً قد يكون صحيحاً وقد لا يكون كذلك. وطبعاً، تراه يحدد لهذا التغاير مجالاً آخر مختلفاً. وقد ضرب مثالاً عن صحته في الإلهيات في مورد استقراء مكارم الأخلاق وإثباتها في حق البارئ تعالى بناءً على قياس الأولوية، كما ضرب مثالاً عن سقمه في العقائد لجنبة وجود إفادتها من الأدلة الواضحة. كما أثبت سقمه في التجليات مقرراً أنه لا يفيد العلم. وإنما إثبات صحته في مكارم الأخلاق إنما هو من باب الإثبات الشرعي والعرفي وليس من باب الإثبات العقلي([29]). وقد أكد ابن عربي على موقفة السلبي من الاستقراء برسم الإثبات العقلي، حيث نفى صحته في العقائد والمعاملات. فيقول: «فلا تعول على الاستقراء في شيء من الأشياء: لا في الأحوال، ولا في المنازل، ولا في المنازلات»([30]).

تحصل مما ذكرنا أن مطلب توسيع مدارك المعرفة عند ابن عربي هي أقوى مما ادُّعي في حق ابن تيمية كما سنرى لاحقاً. وهذا التوسيع يستند إلى قواعد منطقية، بها سيتم تبرير منطق التوسيع المذكور. إن ابن عربي يبرهن على جدوى الانتقال من حدود العقل المجرد إلى مديات المعرفة بكامل أبعادها وممكناتها، التي هي أوسع من مديات العقل. فكيف إذا تعلق الأمر بمعرفة المقيد للمطلق على المبنى العقلي المحصور. فأنى «للمقيد بمعرفة المطلق، وذاته لا تقتضيه، وكيف يمكن أن يصل الممكن إلى معرفة الواجب بالذات وما من وجه للممكن إلا ويجوز عليه العدم والدثور والافتقار؟»([31]).

ولعل من أهم التجاوزات المنهجية لقواعد التفكير المنطقي الأرسطي، كما نقف عليها في آراء ابن عربي، تصوره للعلم والإدراك. وبخلاف المنطقي الذي يرى العلم حضوراً للمعلوم في الذهن، يرى ابن عربي، بأن العلم ليس تصوراً للمعلوم. ومستنده في ذلك هو التمييز بين المدرك المالك لقوة التخيل، والمدرك الذي لا يملك تلك القوة. فهناك مدرك يعلم فقط، وهناك مدرك يعلم المعلوم بصورته. ليس كل معلوم متصور في نظر ابن عربي. ولذا يقول: «والصورة للمعلوم أن تكون على حالة يمسكها الخيال. وثم معلومات لا يمسكها خيال أصلاً. فثبت أنها لا صورة لها»([32]).

ولا ينتهي التجاوز لقواعد المنطق عند ابن عربي إلى هذا الحد. بل ثمة رج واضح لأكثر الآراء بداهة بحسب المتداول. فإذا كان المناطقة يقسمون العلم التصوري إلى مدرك بالبديهة وآخر مدرك بالنظر، أي العلم الضروري والعلم النظري الذي هو مرادف المكتسب، فإن ابن عربي، لا يرى شيئاً من العلم التصوري مكتسباً بالنظر الفكري. ومستنده في ذلك ما عبر عنه قائلاً: «فالعلوم المكتسبة ليست إلا نسبة معلوم تصوري إلى معلوم تصوري. والنسبة المطلقة، أيضاً، من العلم التصوري.فإذا نسبت الاكتساب إلى العلم التصوري فليس ذلك إلا من كونك تسمع لفظاً قد اصطلحت عليه طائفة ما لمعنى ما، يعرفه كل أحد (...) فلا بد أن تكون المعاني كلها مركوزة في النفس، ثم تنكشف مع الآنات، حالاً بعد حال»([33]).

على هذا الممشى تدلنا طريقة ابن عربي على أن ثمة مواقف من المنطق غير المواقف التعسفية سابقة الذكر، يقدحها موقف معرفي خالص، وتتأطر بمجال اشتغال ناظر إلى ما فوق حدود العقل المجرد. وهي طريقة وإن تموقعت خارج المنطق، فهي من شأنها أن تُغنيه إغناءً، هو بلا شك، أولى من طرائق مَنْ أكثر من تكفير المناطقة. حاكماً عليهم بالزندقة استغراقاً وبالجملة -أقصد ابن تيمية- مع أنه لم يأت بجديد لم يذكر في متون هؤلاء الرواد، مع بعض التحريف، والإغضاء عن ذكر المصادر كما سنرى.

مع ابن تيمية في ردوده على المنطقيين

لعله من الصعوبة بمكان اختزال الحكم على الموقف التيمي من عموم المنطق، استناداً إلى الخلفية الإيديولوجية لهذا الأخير، التي هي خلفية ظاهرية كما هو مذهب ظاهرية أهل الحديث. تزداد هذه الصعوبة متى ما أدركنا أن الطريقة التي أدار بها ابن تيمية خلافه مع المنطقين، وإن جاءت حادّةً، قاسيةً كما هو المعتاد من هجاء المصنف، كانت تمتزج بمهارات تكشف عن أننا هذه المرة أمام ناقد على قدر من الاطلاع، مدركاً لأهم الاستشكلات التي تحيط بهذا الفن. من هنا، فإن موقفه من المنطقيين لم يكن مشابهاً لموقف ابن الصلاح، من حيث جهل هذا الأخير بالصنعة لما سبق من حادثة خلافه مع الموصلي، بل إن موقف ابن تيمية كان خلافاً حادًّا، فيه من بجاحة الشعور بالتفنن في صنعة الخصم، ما يجعل التوقف عند الرد التيمي على المناطقة أمراً ذا خصوصية.

أجل، لم يكن الموقف من المنطق ناتجاً دائماً عن استيعاب حقيقي لقواعده، أو مهارة فائقة في امتثال صنعته لدى الخصوم. فمثل هذا لو حدث لكان ثورة من داخل المنطق وفي صالح الصنعة. بل إنه في العادة مصداق للموقف العام من كل الصناعات ومحاولات النظم التي لازمت العمران العربي والإسلامي. إنه عنوان صدمة حضارية، جعلت خصوم النظم والتدوين والصنعات في وضع أكثر تردداً وتشنجاً أحياناً. إن الموقف السلبي الشامل من الصنعات، لا يعلل ببعض ما كان يكتنف الصنائع في العادة من عوار أو كان يخالطها في الأعم الأغلب أو لماماً من نقائص وثغرات. فهو موقف إيديولوجي ونفسي واجتماعي وطبعي.

ومع أن ابن تيمية قد بذل الوسع لإقناع أتباعه، بأن نقضه على المنطقيين نابع من إحاطة واستيعاب لمطالب هذه الصنعة المغشوشة، لم يكن نقضه هذا نابعاً من ضرورة الوقوف عند خلل ما في قواعد المنطق، هو الذي اعترف بأن بعضاً منه قد يكون نافعاً، لكنه نفع دنيوي، فهو يرفض هذه الصنعة المخالفة لفطرة العامة وعلم الأنبياء. غير أن ما كان يورده من نقوض على مطالبها، وكيفية معالجتها واستشكالاته، جعل بعض المتأخرين يرون فيه واحداً من المناطقة الذين قدموا نقداً جذرياً للمنطق. فأدخلوه من حيث أعلن براءته في مفارقة تاريخية غريبة. وهنا، نحب أن نميز بين مهمتين: الأولى تتعلق بنقض الصنعة، والثانية تتعلق بنقض مباحثها. فالأولى، يقدحها موقف شمولي معلل بالمرتكز الإيديولوجي والنفسي والاجتماعي والطبعي، وليس مرتكزه معرفياً خالصاً. إن كشف الخلل ونقض المبحث وتكثيف الاستشكال، ليس مبرراً لنسف الصنعة برمتها. فمثل هذا النقد وأكثر منه قام به مناطقة منذ أقدم العصور حتى اليوم. إن نقض جزء من الأجزاء، ليس نقضاً للكل دائماً.

لم تكن غاية ناقض المنطق تحرير محل النزاع فيما كان مورد خلاف بين المناطقة، ولا هدم وترصيف لما ثبت من عوار في صميم مقولهم. بل لقد كانت غايته الهدم المحض لأصل الصنعة والدحض الشامل لمشروعيته كميزان للصدق ومعيار للعلم. وهو إذ يفعل ذلك يفتح الحقائق والعلوم على متاهة المعرفة الفطرية كما سماها -مع خلط كبير في معانيها المختلفة- وهو ما كان في الأصل سبباً لنشأة المنطق كعلم به يقوى الناظر على التمييز بين الحقائق وإحراز أوجه الاشتراك بينها. وعليه، فنقض هذا الأخير على المناطقة لم يكن بأي حال من الأحوال هادفاً إلى النهوض بالمنطق وتطوير قواعده، وكذا توسيع مسالك الأدلة كما حاول آحادهم فعل ذلك مبرراً نهجه التقويضي -إسقاطاً لا تحقيقاً-، ولا كان من شأنه فتح آفاق أو اجتراح طرائق منطقية جديدة، للتخفيف من حصره وتمامية قواعده. لقد كان هدفه تخريب الصنعة رأساً، واستبدالها بتيار عمائي للجهل المركب الذي يجد معياره في فهم خاطئ للفطرة في إيراد مغالط لها، لا يقيم اعتباراً للمعنى المختار في لجة هذا الاشتراك اللفظي للفطرة، هل معناها فطرة الله المتحدث عنها قرآنياً وشرعياً، أم المعنى العام المقصود منه الجهل بالقراءة والكتابة، وهو ما يضارع مفهوم الأمية([34]).

سلك ابن تيمية برده على المنطقيين مسلك الغزالي في رده على الفلاسفة. بل قاس مذهبه في تقويض المنطق على مذهب الغزالي في تقويض الفلسفة. لقد كان ابن تيمية على اطِّلاع على التجربة الغزالية في هذا المجال، ولعله اقتفى طريق الغزالي في أن تكون المناظرة مع أهل الصناعات نابعة من استحضار دقيق لمطالبها وإتقان لفنونها، مثلما حصل من أمر الغزالي الذي أحاط بمقالات الفلاسفة قبل أن يخرج عليهم بكتابه الموسوم بـ«تهافت الفلاسفة». التمثل التيمي للطريقة الغزالية يمكن ضبطه بعملية استقرائية للأشباه والنظائر في المتنين، حيث واحدة منها هي أولى التهم التي بنى عليها كلاهما نقضهما للفلسفة، بالنسبة للأول، والمنطق والفلسفة بالنسبة للثاني؛ تهمة الآصرة الواحدة بين هذه الصنعات الإغريقة -الفلسفة بالنسبة للغزالي والمنطق والفلسفة بالنسبة لابن تيمية- بإلهيات الأغارقة.

تبدأ المقايسة المذكورة من حيث اتصال القول الفلسفي الإغريقي بإلهيات الإغريق. غير أن هذه المقايسة سرعان ما سيتعدى بها ابن تيمية إلى المنطق. ولو أن ابن تيمية أدرك مذهب الغزالي في رده على الفلاسفة لكانت بداية نقضه من الفلسفة لشدة ارتباطها بتلك الإلهيات، هذا دون أن يفوتنا ما شهدته الفلسفة الإسلامية من عمليات استدماج وتهذيب، جعلتها أكبر خادم للإلهيات الإسلامية في العصور الإسلامية المتأخرة. إن الغزالي الذي نقض على الفلاسفة هو من أكبر المولعين بالمنطق، المعترفين له بالاستقلال عن الفلسفة. ومع ذلك، فإن الغزالي المنطقي والأصولي والصوفي، لم يكن نقضه يلتقي في مقاصده مع النقد التيمي الذي كان يبغي نسف الصنعات برمتها. إن ابن تيمية في نقوله وتمثلاته وتبنيه للآراء لا يشير إلى مصادرها، حيث مؤدى ذلك فضيحة كبرى، لما ندرك أن بعضاً من تلك المصادر هم خصومه أنفسهم أو الصنعات التي ينقضها نفسها. مثل هذا التمثل الخفي، من دون إشارة إلى المصدر، يمكن التعرف عليه بإجراء مقارنات بين المتن التيمي وآراء الغزالي أو ابن سينا، أو حتى الفقهاء المخالفين له والذين اتهمهم بالزندقة والجهل والنجس([35]). لقد اختلفت المقاصد بين الاثنين. فبينما أراد الغزالي تقويض آراء الفلاسفة في حدود مقيد الصنعة وليس مطلق الصنعة، كان هدف الثاني يرمي إلى تقويض أصل الصنعة مطلقاً؛ الصنعة هنا مرفوضة بما أنها دخيلة وافدة على المجال، مبتدعة تخالف طرائق أهل الفطرة في بلوغ المعارف. إن غاية «نقد المنطق» أو «الرد على المنطقيين»، تقويض كل وافد دخيل أو مبتدع، حتى لو كان تظهيراً ونظماً لطرائق أهل الفطرة أنفسهم. وآية هذا الاختلاف في المقاصد، تظهر في موقف الغزالي من المنطق، حيث ظهر أن موقفه من الفلسفة خاص يتحدد بآراء الفلاسفة، ولا يتعدى إلى المنطق. في حين أن موقف ابن تيمية من المنطق يتعدى إلى كل صنعة يونانية أو غير يونانية، مبتدعة ودخيلة. لقد اعتبر الغزالي المنطق معياراً للعلم، لا يستقيم علم إلا به، في حين اعتبر ابن تيمية المنطق علماً عقيماً ومضلاً.

وإذا كان الغزالي قد وجد يومها من الفلاسفة مَنْ رَدَّ على نقائضه، كابن رشد الذي ألف ردًّا على كتاب «تهافت الفلاسفة» بكتاب أسماه: «تهافت التهافت»، فإننا لم نجد من المناطقة المعاصرين له أو الحدثاء مَنْ رَدَّ على كتاب «الرد على المنطقيين» لابن تيمية. الأمر الذي جعل أكثر المعجبين بطريقته يعتقدون بقوته وبكونه فضيحة للمناطقة. ولست أدري حقيقة الأسباب التي جعلت أهل هذه الصناعة لا يلتفتون إلى هذا المصنف. فهل مرد ذلك لأهمال مشهور منهم في الرد على أعمال ابن تيمية ذات الصبغة الحجاجية والخطابية، في كل مصنفاته الفقهية والكلامية الأخرى، أم أن مرد ذلك لأسباب أخرى فوق هذه الاعتبارات المذكورة. وفي تقديري إن النقد التيمي للمنطق يحتل منزلة خاصة عند أتباعه المعجبين بطريقته. فتعين أن يكون الرد على كتابه الأخيرة من باب رفع الالتباس والحيل الخطابية والسوفسطائية لناقض المنطق، حيث لعل واحدة من أهم الحيل، إشراكه المتلقي العامي في مناقشة الصنعة. ففي كل مسألة من مسائل الخلاف كان ابن تيمية يلجأ إلى عنصر التشويه والتضليل والتكفير للمنطقيين، معبئاً ومجيشاً عواطف المتلقي العامي المفترض ضد الصنعة وأهلها. وهذا الإشراك للمتلقي العامي، وتسطيح لغة النظر إلى حدود التلقين الظاهري للمفاهيم الصناعية، غايته تعبئة العامة وليس منازلة الخاصة. فأولى المهام في نقد الموقف التيمي هي القيام بعملية استقرائية لمواقع تجلي النزعة السوفسطائية والخطابية التي لم تفارق نقضه على مخالفيه من أهل النظر لحظة واحدة. ونعتقد أيضاً، أن النقض التيمي للمنطق من الأهمية التي لا تقبل إغضاءً من طرف مخالفيه، لحضور قدر من الاستيعاب لإشكاليات هذا الفن، بخلاف ابن الصلاح وأضرابه ممن كان تحاملهم عن جهل بهذا الفن. غير أن هذا القدر من الاستيعاب لا ينبغي أن يخدعنا إلى آخر المشوار، حيث هو استيعاب لبعض مبادئ المنطق لا المنطق برمته، وإحصاء لأهم اشكالياته كما تحدث عنها أهل الصناعة أنفسهم، وليس اكتشافاً تيمياً، إذ لا وجود لفرادة تيمية في المقام. وأيضاً يتعين على ناقد ابن تيمية أن يتوقف تباعاً عند بعض المحطات التي يبدو فيها ابن تيمية جاهلاً بهذه المبادئ مستنداً إلى حجج خطابية وأحياناً مستنداً إلى أنواع من الالتواءات والرطانات في تحريف المفاهيم والمعاني. ثم لا يخفى أن النقد التيمي للمنطق كانت تتخلله بعض النكات، وتخامره بعض اللفتات التي تصلح أن تكون مورد استشكال على بعض قواعده ومبادئه. غير أن هذا لا يحجب عنا حقيقة أخرى، يتعين على ناقد ابن تيمية أن يرصدها بواسطة الاستقراء ونهج المقارنة بين أهم استشكالاته على المنطقيين. فلعل الناقد لابن تيمية قد يدرك بعد ذلك أن ابن تيمية تبنى كل الاستشكالات التي فجرها المناطقة أنفسهم بما في ذلك ابن سينا الذي نال من السباب والشتيمة من قبل ناقض المنطق ما لم ينله من أي ناقد آخر([36]).

ابن تيمية في نظر الحدثاء!

لا يتسع المقام لإجراء مناقشة لما ذهب إليه ابن تيمية فصلاً فصلاً. فمثل هذا ممكن في ضوء ما سنشير إليه تباعاً. غير أن الوقوف مجملاً على بعض آرائه وتحاملاته العنيفة على المناطقة يظل أمراً ضرورياً لإسناد ما ذهبنا إليه من أحكام آنفاً. وقد يكون أفضل مدخل للرد على ابن تيمية هو مدخل القراءات الحديثة، التي رأت في الطريقة التيمية ثورة في المنطق، كما رأت في ردوده على المنطقيين بأعنف العنف ما هو قابل للتبرير بمجرد إسقاط بعض نتائج الثورة المنطقية الحديثة. فكان أن تبوأ ابن تيمية في نظر هؤلاء الحدثاء منزلة نابغة المنطق السابق لزمانه. بل ربما تراءى للبعض أن العصر العربي الإسلامي أصبح أمام حقيقة أشبه ما تكون بنكتة الإطلاق الدولوزية، أي أن العصر إما أن يكون تيمياً أو لا يكون([37]).

موقف التهوين التيمي

قلَّ من المفكرين المعاصرين من لم يبد هذا الإعجاب بالآثار التيمية، سواء في دفاعه عن أهل الحديث والأخبار ضد المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة بما يرقى به إلى مستوى رائد النهضة العربية الأولى في مجال العقائد -أبو يعرب المرزوقي-، أم في آرائه السياسية بما يرقى به إلى مستوى رائد السياسة الشرعية -محمد عابد الجابري-، أم في ردوده على المنطقيين بما يرقى به إلى مستوى رائد التجديد المنطقي -طه عبد الرحمن-. غير أنه قلما استطعنا الوقوف على وجهات نظر موحدة حتى بالنسبة لهؤلاء المفكرين الذين جمعهم الإعجاب بآثار هذا الأخير. فالخصومة الإيديولوجية بين هؤلاء الثلاثة لا يرقى إليها أي خلاف شدة وتوتراً([38]). وإذا استثنينا عبدالله العروي الذي وقف موقفاً سلبياً واضحاً من ابن تيمية فإن غيره من أهل المشاريع الفكرية لم يخفوا هذا الإعجاب. لا، بل لم يترددوا في الدعوة الصريحة لتبني طريقة ابن تيمية أيضاً. لكنهم اختلفوا طرائق قدداً في حيثيات وموارد هذا الإعجاب. فبينما أعلا الجابري من ذكر ابن رشد وابن تيمية -المكفر للفلاسفة والمنطقيين: وتلك هي المفارقة-، وأنزل الغزالي منزلة المخرب للعقل العربي، المتمم والمكرس للتراث السينوي في الثقافة العربية، نجد طه عبدالرحمن يهون من ابن رشد -الفيلسوف المنطقي- ويرفع من منزلة الغزالي -المنطقي والصوفي- مهولاً آراء ابن تيمية -المناهض للفلسفة والمنطق والتصوف-. ورغم وحدة الإعجاب بابن تيمية نستطيع تفهم موقف الجابري المقيد بالسياسة الشرعية دون التعدي بذلك إلى نقض المنطق، مادام أن الجابري يرى في الفلسفة اليونانية والمنطق ما يمثل العقل البرهاني في الثقافة العربية والإسلامية. فلو أنه أثار قضية المنطق وموقعه من هذا العقل البرهاني لكان مضطراً إلى تقريب الغزالي، باعتباره من أبرز المصنفين فيه، على عكس ابن تيمية البياني المناهض للبرهان. وفي هذا يكون الجابري قد تبنى ابن تيمية السياسي مع الإغضاء عن موقفه من العلوم والصناعات البرهانية. أما بالنسبة للدكتور طه عبد الرحمن فإنه وقع فيما هو أدهى من الأول مفارقة، حيث أشاد بالغزالي وطريقته في الذود عن المنطقيين، كما أشاد بابن تيمية وردوده على المنطقيين. فطه عبد الرحمن يجعل قرَّاءه في حيرة من أمرهم؛ هل من مفاخر الغزالي أن صنف في الميزان ومعيار العلم، أم من مفاخر ابن تيمية أن صنف نقضاً لاذعاً ضد أهل الميزان والمنطق. وحده المتن الطهائي يتسع لهذه المفارقة، بين البلوغ بالمنطق حد معيار العلم، والشامل لشتى المعارف، بنزعة غزالية واضحة، وبين البلوغ بالمنطق حد الطرائق العقيمة، والمحصورة بنزعة تيمية واضحة أيضاً.

نقد آفة التهوين

لقد اعتبر د. طه عبد الرحمن النقد التيمي -نسبة إلى ابن تيمية- للمنطق واقعاً في سياق نقد المنقول المنطقي، وفق آليات من شأنها إسناد المعرفة بالإعمال -أي السند العملي الخاص- وتقوم المحاولة التيمية -حسب الباحث المذكور- بمد المعرفة والمنطق تحديداً بثلاثة عناصر أساسية بمقتضى ما كان أسماه الباحث بالتقريب التداولي، وهي: «توسيع الاستدلال المنطقي» و«التأسيس الشرعي للمنطق» و«التأسيس العملي للمنطق»([39]).

يتحدد الموقف الطهائي من النقد التيمي بتوجيه من الأول، مقتضاه أن ما بدا من حملة تكفيرية وتضليلية ومن أدوات جدل سوفسطائي عند هذا الأخير، بمثابة التموقع في أقصى الموقف، الموسوم بالتهوين من الصنعة رأساً، لا خصوص بعض مباحثها أو قواعدها أو آراء صناعها. فالإشادة بمسلك التهوين هي شهادة من الباحث على أن ناقض المنطق سقط في الأقصى السلبي، بينما الموضوعية قاضية بأن يكون النقد الإيجابي الموضوعي -فكل نقد موضوعي لا يمكن إلا أن يكون نقداً إيجابياً- تواسطياً بين التهوين والتهويل. وفي إشادة طه عبدالرحمن بالتهوين التيمي للمنطق دليل على إعجابه بطريقته ولا موضوعيته، على أن الباحث يرى في النقد التيمي ما يسند المعرفة والمجال التداولي، في حين أنه أغضى عن حقيقة كون المجال التداولي الذي يتبناه وطريقة التقريب التداولي كما تراءت له هي في نهاية المطاف وجهة نظر من داخل هذا المجال الذي هو في حقيقته مجالات تداولية بعدد اختلاف اتجاهاته وآراء المختلفين. أي أنها ليست إلا وجهة النظر الظاهرية، ما يجعلها قواعد خاصة وليست عامة، وهو ما ينقل الإشكال إلى صلب إيديولوجيا التقريب التداولي للمنقول التي تتعدد في الواقع بعدد المواقف من المنقول في التراث العربي والإسلامي.

في نقد دعوى التوسيع

يورد طه عبد الرحمن نصًّا لابن تيمية أراد له أن يقوم مقام المدرك لدعوى التوسيع المزعوم للاستدلال المنطقي، من ناحيتيه؛ أي التوسيع في صورة ومادة الاستدلال. يقول ابن تيمية:

«إذا ضاقت العقول والتصورات بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان كما يصيب أهل المنطق اليوناني، تجدهم من أضيق الناس علماً وبياناً، وأعجزهم تصوراً وتعبيراً»([40]).

وما كان ينبغي للباحث أن ينتقل رأساً إلى الحكم من دون وجود علقة عِليَّة واضحة من هذا الإنشاء التيمي، مرتكزاً على خلفية خصم سوفسطائي غير مدرك لمقوله، سوى الاستقواء بتحشيد التهم والحجج ضد الخصم. فإن حصول هذا الاتفاق هو إسقاط بأثر رجعي من باحث معاصر، حيث نظير هذه التهم رائج ومما جرت به العادة عند ابن تيمية. فهو يتهم بها كافة العلماء من غير أهل الحديث، ما يجعل الانتقال مما هو معتاد في لغة خصم المنطق إلى خصوص النقد الموسع، اتفاقاً متخيلاً بوهم الإسقاط بأثر رجعي كما ذكرنا آنفاً. ومع ذلك نقول: إن مثل هذا النص دال على رفض لعموم المنقول وليس لخصوص المنقول. فكيف، وأن طه عبد الرحمن إنما أسقط فكرة التوسيع مما أفاده من المنقول الوارد في المنطق الحديث. إن ابن تيمية إذ يتهم أهل اليونان بضيق العلم والبيان والعجز عن التصور والتعبير يثبت أن منزعه في بناء الأحكام من قبيل الجهل المركب. وذلك نظراً لجهله بالتراث اليوناني وعلومه ولغته وثقافته كما لا يخفى. وثانياً، لأن اليونان أنتجوا من الأساطير وكذا العلوم وضروب النظم ما يناقض هذا المدعى. إننا أمام حالة من الإسقاط الذي وقع فيه معجبون حدثاء، راموا استدراك ما اتفق من آراء ابن تيمية مع آراء مناطقة حدثاء، إنما سندهم في المقارنة تناظرات سطحية، هي في الأصل لغوية، كما لو تعلق الأمر بوجود عبارة «أضيق» في المقام، يتعدى بها المعجبون الحدثاء إلى صلب المضمون الذي لا دليل على حصول الاتفاق حوله.

لم يكن ابن تيمية هنا بصدد التوسيع لصورة الدليل أو مادته، بل كان قاصداً نزع القيمة عن الاستدلال المنطقي رأساً. بهذا كان هدفه فتح المتاهة أمام الدليل، بمعنى آخر، إنه هو من يعمد إلى حصر الدليل في طريق ما أسماه بالفطرة، وهو رد طرق الاستدلال إلى طريق قياس التمثيل.

لقد قصد ابن تيمية إلى أمرين:

1- إخراج المنطق من دائرة ما تحتاجه العلوم والصناعات والاستغناء عنه، بخلاف من ادَّعى ذهابه للتوسيع.

2- إنه جعل من الفطرة معيار العلم، كما جعل من قياس التمثيل آلة هذه الفطرة في إنتاج المعرفة.

وكلاهما يتطلبان بعض التأمل.

في هجاء المنطق وإخراجه مما تحتاجه الصنائع

التردد الذي بدا من ابن تيمية في مختلف اشتغالاته، كما بدا للمتأخرين المعجبين، راجع إلى أسباب موضوعية، نظراً لضغط النظم المعاصرة ومحاربتها إياه، وإلى المطاردة والسجون وما إليها من أسباب تعرض لها المدافعون عنه المبررون لقسوة نقوضه ونهجه التكفيري. إلا أن التردد الذي يصل إلى حد نفي الإيمان عن علماء عرفوا بصلاحهم وعلمهم وورعهم، هو أمر غير قابل للتبرير، سوى أن نثبت أن طبعاً ما كان متحكماً بذهن الناقض على المنطق، موسوم بالتشدد ونزعة الغلو في محاكمة المخالف. لذا نجده يؤسس مقدمة في نقضه ذاك، حيث لم يدخل موضوعه مباشرة، بقدر ما مهَّد له بمقدمة تعبوية تأجيجية تربط بين المشتغلين على الفلسفة والمنطق من نفس ملته، متهماً إياهم بالزندقة والانتساب إلى إلهيات الإغريق والجهل بآراء السلف والمأثور. بذلك نقل الموقف من مجرد موقف من المنطق إلى موقف مذهبي وطائفي. مع العلم أن من أهل السنة والحديث من لم ينظر إليه النظرة نفسها. فها هو الغزالي، أحد رواد علم أصول الفقه من أهل السنة، كان منطقياً وله آراء في الفلسفة والعرفان، هي أقرب ما تكون لخصومه الفلاسفة، دون أن يخرجه ذلك من الملة.

يقول ابن تيمية: «ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام المعتقدين لمضمونهما هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتِّباعه من هؤلاء. هذا أمر محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيراً من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه»([41]).

مع أنه غير خفي أن أكثر الناقمين على الصنائع في ديار الإسلام كانوا دائماً من أهل الجهل المركب بها. وما راموا جبهة الحشو إلا ابتغاء السهل المتاح، من حيث لم يشغلوا أنفسهم بالدراية والإتقان لما به يجود التفريع ويتسع الاستنباط. وقد كان ابن تيمية معاصراً للإمام الحلي العالم والمتكلم الفيلسوف، مع أنه كان فقيهاً بارعاً. وآخرون مثل الخواجة نصير الدين الطوسي. فمن هؤلاء من ألَّف في التفسير وشرح الحديث، مثلما فعل صدر المتألهين الشيرازي من المتأخرين. إن تهمة كبرى كتلك التي شاء ابن تيمية التأسيس عليها في صياغة موقفه الرفضوي من المنطق، دونها -إذن- خرط القتاد. وإن حاول عبثاً جعل الموقف من المنطق والفلسفة مساوقاً أو متفرعاً عن الموقف المذهبي والطائفي، وليس موقفاً معرفياً وعلمياً كما هو المطلوب. لذا تراه يحشد من التهم وفحش القول ما لم يثبت له أصل، وما هو خارج الموضوع بالتخصص، إذ يقول: «ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقاً زنديقاً، وهو عبد الله بن سبأ، فإنه إذا قدح في السابقين الأولين فقد قدح في نقل الرسالة، أو في فهمها أو في اتباعها. فالرافضة تقدح تارة في علمهم بها، وتارة في اتباعهم لها، وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود»([42]).

الأحكام المطلقة في عدم جدوى المنطق

ثمة ما لم يلتفت إليه معظم المعجبين بطريقة ابن تيمية في رده على المنطقيين، كما هو الأمر تحديداً مع مناطقة حدثاء، مثل طه عبد الرحمن، الذي رأى في طريقة ابن تيمية توسيع الاستدلال. فيما الظاهر من كلام ابن تيمية يروم نسفاً جذرياً للصنعة. فإذا سلمنا بأنه حقًّا رام التوسيع من مسالك الدليل، فإن مقتضى ذلك أن يضيف إلى المنطق طرائق جديدة أو لا أقل يعترف له ببعض المزايا التي بها كان المنطق علماً استطاع حفظ أهميته وجدواه، وإنْ بنحو منقوص، إلى جانب العلوم الأخرى. فالنفي التمامي لأي جدوى من علم المنطق تهريج سفسطائي، لا يستحق به قائله صفة ناقد المنطق، ولا يستحق به المعجبون المبالغون صفة المجددين في قراءة التراث. فقد سلك ابن تيمية طرقاً من الجدل، بأساليب سفسطائية بادية، كأن ربط بين أنصار الصنعة والمخالفين. أو بينهم والخروج والزندقة، وما إليها من أوصاف يبغي بها الناقم على المنطق التعبئة والتحريض واستثمار ما في هذه الألفاظ من معاني خاصة في وجدان العامة. الموقف الرفضوي التمامي للصنعة يظهر في أشد صوره توتراً، كقوله مثلاً: «فإن صدقتم لم يوافقكم المنطق، وإن كذبتم لم يوافقكم المنطق، وإن ارتبتم لم ينفعكم المنطق»([43]). أو قوله: «وإنما المقصود هنا بيان أن هذه الصناعة قليلة المنفعة عظيمة الحشو»([44]).

ليس للمنطق أي فائدة في نظر ابن تيمية. بل إن كان ثمة بعض الفائدة فيه فهي لأهل الكفر والضلال: «نعم لا ينكر أن في المنطق ما قد يستفيد ببعضه من كان في كفر وضلال وتقليد، ممن نشأ بينهم من الجهالة، كعوام النصارى واليهود والرافضة ونحوهم»([45]).

ومن مبالغات ابن تيمية في المقام، بل من آثار هذا النهج السوفسطائي الحاجب للحقائق، الملتف حولها بأساليب خطابية، إن لم نقل الجهل بالمطلوب، أن ادَّعى ناقد المنطق أن أهل الدنيا لم يعتمدوا المنطق ولا احتاجوا إليه في كافة صناعاتهم: «وأيضاً لا تجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم وصار إماماً فيه مستعيناً بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحسّاب والكتّاب ونحوهم يحققون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق. وقد صنف في الإسلام علوم النحو واللغة والعروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك. وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرّب هذا المنطق اليوناني»([46]).

ولا نظن أنه خفي على ناقد المنطق الراد على أهله أن علوماً كاللغة والفقه وأصوله والكلام مما قام على هذا المنطق، لاسيما في موارد الأقيسة والمباني العقلانية. فلا ينكر ذلك إلا جاهل بهذه الصناعات أو معاند كبير.

هجاء المنطق بدعوى التمسك بالفطرة

لم ينزل ابن تيمية الفطرة منزلة الأمية في الاعتبار فحسب، بل إنه رأى أن الفطرة هي الأمية بعينها. ولم يتروَ هذا الأخير أو يلتفت إلى أي معنى كان مقصوده من الأمية. فهل هو معناها العام الذي يفيد الجهل بالقراءة والكتابة والتداول الشفهي غير المكتوب للأفكار -الثقافة الأمية بوصفها ثقافة شفهية- أم تلك الملكة التي تجعل المتلقي يدرك الحقائق بصفاء بالغ ويتلقى الوحي بنقاوة وصدق أصليين. فالفطرة بالمعنى الأول معطى سوسيو-تاريخي للعرب بلا شك. لكن للفطرة بالمعنى الثاني، معنى خاصاً، دعي العرب إليه وكلفوا بأن يرقوا إليه([47]). بهذا المعنى يكون أمراً مكتسباً. لم يميز ابن تيمية بين عدد المعاني التي تحملها كلمة «أمي». وإذا كانت أمية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نفسها واقعة في هذا الاشتراك اللفظي فإن مدح «الفطرة» التي فطر الناس عليها، إذا اعتبرنا فيها الجهل بالقراءة والكتابة والصناعة، ستكون مناقضةً لهدي الرسالة في مدح العلم والتعلم والتفكير والتفكر والنهي عن التعرب والحث على التفقه. إذا كانت الفطرة التي تدرك بارئها من دون واسطة في الإثبات أو الثبوت هي منتهى العلم والوجدان، فمثل هذه الفطرة لا تكفر؛ في حين قد كفر أكثر أميي العرب الجاهليين.

هذا الخلط الكبير بين البديهة بمعناها المنطقي والفطرة بمعناها اللغوي ومعناها الشرعي تجده بادياً في المتن التيمي غير الآبه بالمفاهيم والاصطلاحات. يقول: «وأما زعمهم أن البديهة والفطرة قد تحكم بما يتبين لها بالقياس فساده فهذا غلط؛ لأن القياس لابد له من مقدمات بديهية فطرية [...] فإن جوز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطاً [...]»([48]).

نعم، إن المناطقة، وإن أطلقوا صفة الفطري على البديهي فإنهم لم يقصدوا بالفطرة هنا ذلك المعنى الشرعي، كما فهموه وبحثوه في محله. وهو بخلاف ما توهم ابن تيمية الذي ما فتئ يذكر بالفطرة مقابل الصنائع التي تراءت له تكلفاً لا ضرورة من ضرورات العمران كما أكد على ذلك ابن خلدون. فالتحامل على المنطق هو شذوذ لم يعهده علماء الإسلام، بمن فيهم الناقمين على الفلسفة والفلاسفة، نظير أبي حامد الغزالي وابن خلدون. وإذ يتحدث ابن تيمية عن الفطرة والبديهة ولا يعلمنا أي معنى خاص يقصده من الفطرة، بوصفها مشتركاً لفظياً، يكون قد وقع في تعريف خاطئ، لأنه عرف البديهة والطبيعة بالمشترك اللفظي وهو أسوأ التعريفات وأضلها. فما خفي على ناقد المنطق أن موقف بني إسرائيل: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} كان أكثر الأشياء بداهة، وهو مباشرة الوجود. غير أن القول باستحالة الرؤية تطلب تحليلاً نظرياً قائماً على الجملة الشرطية، أي على استقرار الجبل الذي لم يستقر. وهو استناد على المفهوم. ولا شك أن المفهوم أخفى من المنطوق. فانظر تجد أن ما بدا أول الأمر فطرياً -بديهيا، تجوزاً- كان وهماً محضاً. وما بدا تحليلياً كان حقيقياً. يقول: «وأما زعمهم أن البديهة والفطرة قد تحكم بما تبين لها بالقياس فساده فهذا غلط، لأن القياس لابد له من مقدمات بديهية فطرية. فإن جُوّز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطاً من غير تبيين غلطها إلا بالقياس لكانت المقدمات الفطرية قد تعارضت بنفسها. ومقتضى القياس الذي مقدماته فطرية...»([49]).

وهنا، يبلغ التلبيس مداه، مادام مفهوم الفطرة وبالتالي البديهة المعطوفة عليها على نحو الترادف في استعمالات ابن تيمية له معنى مخالف لمذهب المنطقي، من أن البديهي ما استغنى تعريفه عن الواسطة، أو ما أدرك ضرورة لا بالنظر. إن معنى المنطقي من مناشئ إخطاء الفطرة للحقيقة في نظر القياس، هي الأوهام والشبهات التي تلف الموضوع أو الاشتباه في الأحكام. فكأن ابن تيمية يريد القول هنا، بأن الفطرة معصومة([50]). نعم، ولكن أي فطرة؟! إن ابن تيمية يرى أن كل قياس يحتاج إلى مقدمة بديهية، وبالتالي فهو يخلط بين البديهي وبين الفطري. ففي الفطري الذي معناه العام ما يقابل الصناعي، والمقصود به هنا اللغة الطبيعية، يوجد البديهي وغير البديهي.

ثم لا يخفى أن الحديث هنا عن البديهة لا يعني المقدمات البديهية. فهذه الأخيرة تقع في منزلة المقابل للنظري. أي ما كانت شديدة الوضوح إلى درجة اندكاك الواسطة في الإثبات. لكن البديهة كما تفهم من سياق المتن التيمي هي بمعناها اللغوي؛ أي سرعة البديهة، أو الفهم السريع للحقائق، ليشترط فيه أن تكون القضايا جنس النظري أو البديهي. فهي حالة في المتلقي وليست صفة للقضية. ولذا فالمتوصل إليه بديهة ليس دائماً صحيحاً؛ لأنه ربما غفل صاحبه عن إحدى المقدمات أو الاعتبارات أو الحيثيات. فهو هنا مساوق للغفلة، وليس مساوقاً للفطرة حتى في معناها اللغوي. دون أن يخفى أن ما كان بديهياً برسم المنطق هو بديهي بداهة عقلية. بينما البديهي بالمعنى السوسيولوجي والثقافي ليس بالضرورة بديهياً بداهة عقلية. فثمة فارق بين العقلي والعقلائي. فهذا الأخير مرتهن لتشارط العنايات العرفية والنمط الاجتماعي؛ فلا يصار إليه إلا عند فقد البداهة العقلية. أي أن البداهة برسم المبنى العقلي مقدمة على البداهة برسم المبنى العقلائي.

في نقد الحدود والقياس

حاول ابن تيمية، بناءً على مبناه القائم على مفهوم الفطرة، تقويض قياس الشمول لصالح قياس التمثيل، بوصف هذا الأخير طريق عامة الخلق. أي طريق الفطرة في إحراز المعرفة الحقة. ولا يخفى على ناظر متروٍ في إشكالية الأقيسة أن موقفاً كهذا بالغ الخطأ، وإن كان من شأنه أن يخدع بعض المتمنطقة الحدثاء أو بعض خصوم المنطق من أنصار الهيرمينوتيكا، الذين يرون في قياس التمثيل أنجح الطرق لتحصيل المعرفة. على أن وجود قاسم مشترك بين مؤدى ناقض المنطق وباقي الدعوات الأخرى، إن قديماً أو حديثاً بشأن قياس التمثيل، لن تحجب عنا حقيقة «التجري» في موقف ناقض المنطق. مع أن طريقته لم تخرج دائماً عن مقتضى هذه الأقيسة والحدود متى أدت عند الناقض وظيفة هدم الصناعات والتجديف في حق الخصوم([51]). يضاف إلى ذلك أن ما أثاره الناقض هو مما ثبت صراحاً أو بوضوح أقل من المعتاد في مصنفات من نقض على آرائهم. فلم يكن فارداً فيما ذهب إليه، إلى الحد الذي يتراءى إلى محيي رسومه في التفكير والتجديف، رائداً في النقد المنطقي؛ فثمة مناطقة وأصوليون وعرفانيون ممن تحدثوا في موضوع قياس التمثيل سلباً وإيجاباً، ليس ها هنا مندوحة لتفصيله.

يقول ابن تيمية دفاعاً عن قياس التمثيل: «والتحقيق أن قياس التمثيل أبلغ في إفادة العلم واليقين من قياس الشمول، وإن كان علم قياس الشمول أكثر فذاك أكبر، فقياس التمثيل في القياس العقلي كالبصر في العلم الحسي، وقياس الشمول: كالسمع في العلم الحسي. ولا ريب أن البصر أعظم وأكمل، والسمع أوسع وأشمل، فقياس التمثيل: بمنزلة البصر»([52]) ثم يقول: «فأما دعواهم: أن هذا لا يفيد العلم فهو غلط محض محسوس، بل عامة علوم بني آدم المحضة من قياس التمثيل»([53]).

واضح إذن طريقة استدلال ابن تيمية ضد المناطقة. فبعد أن تحدث عن قياس الشمول وقياس العلة الذي هو من أنواعه، سوى أن امتياز هذا الأخير يكمن في أن الحد الوسط فيه هو بمثابة علة الحكم؛ لا يقبل ما ذهب إليه القائلون بعدم إفادة قياس التمثيل للعلم. ومستند الناقض في دفعه مدعى المنطقي أن عامة علوم بني آدم العقلية المحضة هي من قياس التمثيل. وقد أظهر هذا الاستدلال أن ناقد المنطق وقع في مأزقين:

أما الأول فمحاولته الاستدلال عبر القياس اللغوي أو التشبيه في مقارنة الشمول والتمثيل بالسمع والبصر. فهذا التشبيه هو نفسه محل إشكال قياس التمثيل. إنها مسامحة اللغة ومجازاتها تتنزل هنا منزلة صرامة المنطق، وتنتهك غايته في إحراز الحقيقة وهيئة الانتقال من المقدمات إلى النتائج. فكون الناقض يحتج على مفهوم منطقي بمجازات لغوية، فضلاً عن أنه خلط كبير بين علمين ومقتضيين، فهو دور منطقي مرفوض، من حيث هو استدلال على صدق قياس التمثيل بتمثيل لغوي.

وأما الثاني فهو الاستناد إلى مدرك مغشوش في مقام الحجية. أعني دعوى جملة عموم علوم بني آدم. وذلك لأن إطلاق العموم هنا لا وجه ينهض به في مقام الدليلية. إذ بين أيدي الناس ما هو حاصل بنحو قياس الشمول أو قياس التمثيل أو قياس العلة وما شابه. فالحكم بانحصار عامة علوم بني آدم بالتمثيل دعوى مرفوضة ومزيفة. ذلك لأنه إن كان قصد الناقض أن عموم أو معظم علوم بني آدم أو أغلب الطرق المتاحة لهم هو قياس التمثيل فإن هذا أمر عجاب أن يصدر من مدعي التمسك بالنص الشرعي ودعوى الأنبياء، الذين جاؤوا ليثيروا للناس دفائن العقول، بعد أن راق الأكثرية الغالبة البقاء على ما وجدت عليه آباءها، فكان أكثرهم لا يعقلون، وما آمن به إلا قليل.

ففي عموم علم بني آدم معارف صحيحة وأخرى خاطئة. ووظيفة المنطق إذاك إحراز الصدق ومنع طرو الخطأ على عملية التفكير. وتلك هي غاية المنطق، من حيث هو منهج بتعبير ابن سينا أو معيار العلم حسب الغزالي، لا من حيث هو طريق لتحصيل المعارف والازدياد منها. إن الاستدلال على خطأ مدعى القائلين بعدم إفادة التمثيل للعلم بناء على عموم علم بني آدم المتحصلة منه حجة باطلة ومستند واضح البطلان.

لقد اعتبر ابن تيمية قياس التمثيل أحرز من قياس الشمول في إثبات المطلوب. واعتبر التمثيل هو طريق الفطرة، ومذهب عامة الخلق في تحصيل العلم. ومع أن ابن تيمية يعطي أهمية للشرع في مقام احتجاجه ضد المنطق، بوصف الأخير علماً مضللاً وغير نافع، يكون قد ناقض نفسه، لما اعتبر طريق التمثيل (الفطري) -حيث للفطرة طريق واحدة- فإذا كان قياس التمثيل أكثر أحرازاً للمطلوب من قياس الشمول الذي يفترض وجود القضية الكلية، وهو -أي التمثيل- طريق الفطرة، تعيَّن أن يكون هو طريق الفطرة من باب الأولوية، في تحصيل العلم الشرعي وإحراز الأحكام في مقام الاستنباط والفتيا. ولا أخال ابن تيمية يرفض هذا الالتزام، إذا اعتبرنا أن الأصل في اعتبار مدرك الفطرة ما كان قد وضح في مقالات بعض المحدثين والفقهاء.

ولا نحسب أن أحداً من المشتغلين على المنطق والفلسفة والكلام والفقه يختلف على ذلك، سوى أن تكون الفطرة بهذا المعنى سقفاً يحد نظر المتلقي وما تضمنه حقيقة الأسفار العقلية والروحية، وما به يتميز حال المتلقي المكلف ما بين عالم وعامي، وما بين واصل ومريد.. فكلها مقامات لا اعتبار لها في المنظور التيمي بناء على هذا التعدي بمفهوم الفطرة من الحد الأدنى في الاعتبار الشرعي، حيث يلاحظ في المقام العلم الشرعي لا مطلق المعلوم، كما تحدده آية الاستواء([54]) وآية الاستطاعة([55]).

ولا يمكن أن ينكر ابن تيمية التزامه بقياس التمثيل في المجال الشرعي، ما دام بوأه طريقاً ملكياً للفطرة ووسيلة عموم بني آدم في تحصيل المعرفة، ومن ثم تلقي الرسالة والاستنباط الشرعي. وهذا إن حصل، وعلى الرغم من تناقض الموقف الظاهري القاضي بترجيح التمثيل في الاستدلال المنطقي ورفض القياس وهجائه كما لا يخفى من موقف عموم الظاهرية وأهل الحديث. غير أن في هذا التبني التيمي للتمثيل، الذي كان بمثابة مصيدة لناقض المنطق، يوجد إشكالان:

1- في حصر علوم بني آدم في قياس التمثيل يكون ابن تيمية قد خالف مدعى المعجبين الحدثاء، من أنه، وكما رآه طه عبد الرحمن، موسعاً للأدلة المنطقية. ولا يخفى أن طريق الشمول وطريق قياس العلة وارد أيضاً في اللغة الطبيعية، وهو أيضاً طريق الفطرة. فابن تيمية ها هنا يخطئ الفطرة في بعض مسالكها، فيكون مضيقاً لمسالك الأدلة، ومناقضاً لمدعى حجية المدرك الفطري. ألم تستدل الأعرابية على ثبوت واجب الوجود بالبعرة وأثر المسير. ومثل قياس الشمول والعلة كثير في احتجاجات القرآن والسنة. فأين هو ابن تيمية من ذلك؟!

2- إن ابن تيمية، إذ يقدم قياس التمثيل على غيره، خفي عليه أن طريق التمثيل على اعتباره وأهميته هو أكثر إضلالاً في موارد الاستنباط الشرعي. ولذا فالنزاع ليس في التمثيل بقدر ما هو في ضبط حيثيات التمثيل من جهة الوظيفة لا من جهة التناظر الظاهري الخادع. فلو سلمنا أن في صلب قياس الشمول يوجد التمثيل فإن وظيفة المنطق أن يحول دون السقوط في أشكال التمثيل الخادع وأوهامه.وإنما تعود مناشئ الإضلال التمثيلي في موارد الاستنباط إلى أسباب منها:

أ - لأنه لا يحرز واقعاً. و إلا لكان حجة سابقة على الأدلة والأصول الأخرى، بما فيها الإجماع. فلو تحقق أن قياس التمثيل مما يحرز الواقع مطلقاً ترتب على ذلك الاكتفاء بالقرآن وقياس التمثيل؛ بأن يقاس المقيس على المقيس عليه في المنصوص فيحرز الحكم الواقعي.

ب- إن قياس التمثيل مضلل، لأنه يخفي المائز الحقيقي والوظيفي بين المتماثلين. وهو ما كان استشكله ابن تيمية نفسه على المناطقة بخصوص إخفائهم للتمايز بين الحيوانية (الجنس القريب) في حد الإنسان وبين حيوانية البهائم. إن أمرين على تمام التماثل لا ثبوت لهما البتة ولا دليل عليهما. وطبعاً حكايتناً تتجه إلى القيود الاحترازية للحيثية الوظيفية خلف مظاهر التشابه السطحي بين ظاهرتين. إننا لا نعتبر الظواهر والأحكام ثابتة حتى لا نقيم اعتباراً لتقلباتها المحتملة. كما لا نعتقد أن قيد الاشتراك متجه إلى ما هو ذاتي، حتى لا نحتاط في سبر العلة وتنقيح المناط. فقيد الإشتراك متجه إلى العرضي والوظيفي، فلا عبرة بالتناظر السطحي بين ظاهرتين أو موضوعين أو متعلقين في لجة فوضى التمثيل، وأخذ ما بالعرض مكان ما بالذات. هذا فيما يتصل بمتعلق التماثل بين جهتين وهو مقصود كلامنا. وأما من حيث التمثيل المطلق، من دون تعيين متعلق التمثيل ووجه الاشتراك الوظيفي، فلا حاجة للتذكير بأنه من حيث الثبوت لا وجود البتة لشيئين على تمام التماثل يستدعي القول بتكرار الذات أو وجود الشيء مرتين. فهذا فضلاً عن عدم ثبوته فيه إثبات العبث للصانع الباري تعالى. وأما من جهة الدليل فلا بد من القياس لإثبات ذلك. فإن قلنا: إن الحاجة ناجزة للتمثيل وباعتبار مدعى ابن تيمية كونه الأحرز في المقام، كان مؤداه التسلسل. وإن كانت الحاجة قاضية باستعمال قياس الشمول، ثبتت أحرزيته، فيتقدم على التمثيل.

والحال كما لا يخفى أن التماثل التام لا يمكن وقوعه إلا مسامحة. والعقل مدرك لذلك بداهة. فتساوي شيئين من كافة الوجوه مستحيل؛ فيكفي السبق واللحوق الزمنيين والتمايز في الحيز مكانياً دحضاً لتساويهما من كل الجهات. ولذا فالمتماثلين ليسا كذلك إلا من وجه، وذلك هو أدنى مراتب التماثل. أو ما دون التمام، وذلك أعلاه. وغير خافٍ أن الشرع لاحظ هذه الحيثيات التي بها يقوم الاشتراك والاختلاف بين المثلين. فقياس العلة الذي منحه ابن تيمية مقاماً أبعد عن المفاد العلمي من قياس التمثيل، هو الأحرز والأكثر نجاعة في مجال الاستنباط الشرعي. فجهة تشريع الحكم في المقيس عليه تظل محتملة لا يجوز التعدي بالحكم إياه إلى المقيس، لاحتمال تغير الحكم لجهة ما يطرأ على وجوه الاشتراك. وعلى هذا المذهب في قياس التمثيل قياس إبليس، وليس طريق الفطرة كما لا يخفى.

إن قياس التمثيل نفسه لا يستغني عن قياس الشمول للنكتة التي سندرجها في المقام:

فالناظر إلى جزأين متعينين في الخارج لا يسعه الحكم عليهما بتمام التماثل من كل الجهات وإلا كان ذلك حكماً بغير علم، لتعدد الجهات، وهذا ذكرناه. وأيضاً -وهذا هو المهم- لتعدد حيثيات وجود وتركب وزمانية ومكانية الجهات المشتركة نفسها. فإذا سلّم الناقد بذلك سقطنا إذن في الاستقراء فيكون الآخذ بالتمثيل آخذاً به بعد إثبات الاستقراء في مقدماته. فيكون التمثيل مستنداً على مقدمات كلية، ما يجعله منطوياً على قياس الشمول. ذلك لأن طريق الاستقراء هو طريق الفطرة كما لا يخفى، خلافاً لما ذهب إليه ابن تيمية. وهو ما نجد آثاره بادية في مجازات اللغة الطبيعية. وما غلبة التمثيل هنا إلا لجهة استناده إلى أسس استقرائية.

إن التشابه والتماثل هو في وجه أو وجوه محصورة من الجزأين الخارجيين، ما يعني بقاء وجوه أخرى متباينة طي الخفاء. وحتى ما يبدو تشابهاً، في مقام التشابه، لم تراع فيه حيثيات أخرى محتملة. فلا ندري إن كان الاشتراك نفسه هو من كل الحيثيات أم في حيثيات محصورة. نعم، وكما أكدنا، أن ابن تيمية كان قد أثار استشكالاً قريباً من هذا على خصومه في جنس الحيوانية في حد الإنسان. وعليه، نقول: إن التشابه بين جزأين في الخارج إذا ما كان تشابهاً حقيقياً تاماً فهو عبث. وإذن، باطل ما ذهب إليه ابن تيمية من أن التمثيل أسلك مسالك الفطرة وأضبطها. بل هو كغيره من الاعتبارات المقدرة في الذهن، حيث الذهن يعتبر المتشابهين من وجه أو من وجوه معينة متشابهين من كل الجهات. ولذا فهو في مقام الاستنباط يتعدى بالحكم أيضاً إلى النظير للشبهة المذكورة. فهو ينعقد انعقاد الكلي في الذهن.

تحصل مما سبق أن قياس التمثيل وإن اعتبره ابن تيمية مسلك الفطرة في تحصيل المطلوب فهو ليس كذلك، مادام هو أضل الطرق في مقام الاستنباط الشرعي. فتعدية الحكم لمقام القياس الأصولي الذي هو قياس التمثيل منزوع الحجية ويحتاج إلى حجة كما في منصوص العلة. فهذا دليل على عدم فطريته؛ الفطرة التي خص بها البارئ تعالى أنبياءه وكرّم بها خلقه. فمصداق هذه الفطرة هي النظر بنور الله حيث مصداقه تمييز الوظائف التي هي مناط التناظر ومنشأ التعدية بالأحكام من المقيس عليه إلى المقيس. وقد ظهر أن احتجاج إبليس على البارئ تعالى اعتمد على قياس التمثيل، مع عدم لحاظ الحيثيات الأخرى التي بها كان آدم مقدماً على الخلائق.

في نقد الحد

استجمع ابن تيمية عدة استشكالات على التعريف المنطقي، لعلها الأقوى في مجمل نقضه على المنطق. وإذا ما تجنبنا القراءة بأثر رجعي لهذه النقوض بناءً على بعض آراء المناطقة الحدثاء كما فعل د. طه عبد الرحمن وقبله آخرون، فإنه لا يخفى أن إشكالية التعريف هي مما أثاره مناطقة كبار على رأسهم ابن سينا نفسه، كما فعل في النجاة ومنطق المشرقيين. إن ابن تيمية لا يقف عند مشكلة الحدود بوصفها مشكلة محصورة في بعض صور الحد كما هو رأي المناطقة أنفسهم منذ ابن سينا، بل إنه يقف من الحدود موقفاً رفضوياً سلبياً، ما يجعل نقده نقضاً ونسفاً لأصل الحد المنطقي يقول:

«فأما الحدود المتكلفة فليس فيها فائدة لا في العقل ولا في الحس ولا في السمع إلا ما هو كالأسماء مع التطويل، أو ما هو كالتمييز كسائر الصفات»([56]).

وقد خلط ابن تيمية مرة أخرى بين الحد باللفظ والحد الحقيقي، وإن قلّ ونذر باعتراف المناطقة.

ففي كل مورد من موارد رده على مذهب المناطقة في الحد كان يتشبث بالتعريف اللفظي، باعتباره طريق الفطرة أيضاً. هذا مع أن هذا الضرب من التعريف هو مسامحة لا تحرز واقعاً، لأنه لا يمكن أن ينقل مجهولاً، معلوماً عند الحاد، إلى ذهن المتلقي الجاهل به. تبدو تلك الشبهة في الوجه الأول من نقض ابن تيمية على مذهب المناطقة في الحد قائلاً:

«قولهم: «إن التصور الذي ليس ببديهي لا ينال إلا بالحد» باطل لأن الحد هو قول الحاد. فإن الحد هنا هو القول الدال على ماهية المحدود. فالمعرفة بالحد لا تكون إلا بعد الحد. فإن الحاد الذي ذكر الحد إن كان عرف المحدود بغير حد بطل قولهم: «لا يعرف إلا بالحد» وإن كان عرفه بحد آخر فالقول فيه كالقول في الأول. فإن كان هذا الحاد عرفه بعد الحد الأول لزم الدور. وإن كان تأخر لزم التسلسل»([57]).

ومع أن ابن تيمية استند إلى لعبة الحجاج المنطقي لرد تلك الدعوى، مما يؤكد على تهافت الطريقة التي أدار بها نقضه على المنطق؛ إذ هي طريقة المنطق ذاتها في الاحتكام إلى أصالة التناقض ومفهوم الدور والتسلسل المنطقيين؛ إلا أن شبهة ما لا زالت تحيط بمدى استيعاب الناقد لإشكالية الحد المنطقي وكذا مفهوم البداهة المنطقي. إن المدعى الذي أورده الناقد هنا يغفل حيثية مهمة في المقام. فالتصور البديهي ليس بديهياً مطلقاً. ربّ بديهي عند هذا هو نظري عند ذاك. فالمدار في عنواني البديهي والنظري إنما هو الحاجة إلى وسائط الإثبات والحجج المنطقية. فما كان نظرياً لا ينال إلا بالحد، بحسب الحالات والظروف. وهنا نجد ابن تيمية لا يميز بين المخاطب -بكسر الطاء- والمخاطب -بفتحها- في الحد. لذا يرى أن الحد هو القول الدال على ماهية المحدود، ومن ثمة تأتي المعرفة بالحد بعد المحدود. هذا بالنسبة إلى الحاد، ولا إشكال في ذلك. لكن بالنسبة إلى المخاطب -بفتح الطاء- بالحد هو في مقام الجاهل بالمحدود الطالب معرفته عبر واسطة الحد. فإذا كان الحد فرع تصور الحاد لمحدوده بالنسبة للمخاطب -بكسر الطاء- بالحد، بلا نزاع، فإن تصور المحدود هو فرع تصور الحد بالنسبة للمخاطب -بفتح الطاء- بالحد. فلا مجال بعد ذلك للحديث عن الدور والتسلسل مادام المخاطب -بفتح الطاء- قد تعرّف على محدوده بحد، هو في المحصلة فرع تصور الحاد، الذي تعرف على محدوده قبل تحديده ببداهة. فهو بديهي عند الحاد نظري عند «المحدود له». فلا إشكال بناءً على اختلاف الاعتبارين.

وبناء على تلك الشبهة المذكورة في عدم إدراك نسبية البديهي والنظري يقع في مأزق آخر، حيث يقول: «فالمقصود أن الحقيقة إنْ تصوَّرها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولي، وإن لم يتصوَّر حقيقتها بالحد القولي. وهذا أمر محسوس يجده الإنسان من نفسه. فإن من عرف المحسوسات المذوقة -مثلاً- كالعسل لم يفده الحد تصورها. و من لم يذق ذلك، كمن أخبر عن السكر -وهو لم يذقه- لم يمكن أن يتصور حقيقته بالكلام والحد، بل يمثل له ويقرب إليه، ويقال له: طعمه يشبه كذا وكذا، وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذي يدَّعونه. وكذلك المحسوسات الباطنة، مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ونحو ذلك، من وجدها فقد تصورها. ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد، ولهذا لا يتصور الأكمه الألوان بالحد، ولا العنين القاع بالحد. فإذن القائل بأن الحدود هي التي تفيد تصور الحقائق قائل للباطل المعلوم بالحس الباطن والظاهر»([58]).

منشأ الغلط في هذا الاستشكال المغشوش عدم التمييز بين ما تحصَّل العلم به بواسطة العلم الحضوري، وما كان مكتسباً بواسطة العلم الحصولي. ولذا نجد ابن تيمية يقدم أمثلة بالألم والغضب وغيرها من الحالات الشعورية التي موردها العلم الحضوري. فالحد بما أنه يحتاج إلى الحمل غير وارد هاهنا، لجهة استحالة تصور المخاطب -بالفتح- للموضوع. وهذا شرط في الحمل لا يقوم الحد دونه. وافتقاد واحدة من الحواس المعنية بهذا الإحساس ليست نافية لأصل الحد، بل هي شرط من شروطه، من حيث هي شرط من شروط التفكير، الذي ليس في وسعه بلوغ المجهول إلا انطلاقاً من المعلوم. ومن شأن افتقاد حاسة من الحواس المعنية بإحساس ما أن تؤثر على المعلوم الأول. بل حتى الذين تصوروا هذه المحسوسات يمكنهم الغلط في تحديدها. فلو كان الحد هنا من باب التذكير فقط، وإحكام المعرفة ومنع الغفلة وتسرب الخطأ لكفى. وما وظيفة المنطق إلا حراسة التفكير من الخطأ كما لا يخفى. فكيف يقال: إنه لا فائدة من الحدود؟

لقد اختزل ابن تيمية الحد في الألفاظ. وبذلك لم يميز مرة أخرى بين الحد باللفظ والحد الحقيقي، وبين ما يرومه، وهو أنه لا بد للحد من جملة تحمله إلى ذهن المتلقي. فعلى المعنى الثاني هذا واضح. وأما على المعنى الأول فمردود لإمكان قيام الحد على كل حال، وإن تعذر في بعض الأحوال. ولا معنى للدور هنا، مادام في كل خطابنا وحجاجنا وكلامنا الطبيعي نتلقى حدوداً وننقل حدوداً ونتعرف على الأشياء من خلال اللغة وفيها وبها.

يستشكل ابن تيمية على المناطقة فيما هو ليس مورد نزاع عندهم. حيث من باب تحصيل الحاصل أن يكون التعريف بما هو متصور ومحسوس كالوجود الواضح البيِّن، الذي أقر الفلاسفة والمناطقة بأن تعريفه بالثابت العين هو من باب التعريف باللفظ. وأن التعريف يصبح مستحيلاً، متى أصبح المعرف -بفتح الراء مع التشديد- بديهياً. إنما التعريف يكون لغير الظاهر المعطى، ويقصد به المعرفة الذهنية بالأشياء الغائبة في الذهن أو غير الحاضرة في الخارج للمخاطب -بالفتح- بالحد. فالاشتراك الذي يتحدث عنه ابن تيمية هو في الذهن حاصل بالتجريد. و إلا، فهو في الخارج متلبس بالمائز، فلا إشكال. وقد خفي على ناقض المنطق وهو يورد إشكال التعريف «بالحيوانية»، بأن ما تُعنى به الفلسفة والمنطق بالتبع هو الوجود المطلق من حيث هو الوجود، وحقائق الأمور دون قيد الموجودية. وعلى هذا تكون «الحيوانية» الواردة في حد الإنسان بلحاظ القيود، غير مشتركة. فلو سلمنا بذلك القدر من التمايز في الحيوانية التي هي في نهاية المطاف قابلة للتعريف بالجسم النامي الحساس المتصرف بالإرادة، فلن يقف التمايز بين حيوانية البهيمة وحيوانية الإنسان، بل حتى إنسانية زيد بقيد الموجودية لن تكون على اشتراك مع إنسانية عمرو بقيودها وحيثيات موجوديتها. فالإنسان هو أنواع أيضاً بلحاظ قيود وحيثيات موجوديته؛ من العلم والسلوك والبيئة و... و...

ومع أن ابن تيمية أثبت بلا منازع جهله بمذهب المناطقة في الأجناس والأنواع، ما جعله يثير إشكالاً كالذي رأيناه في تعريف الإنسان؛ فهو لم يفعل أكثر من إعادة استدماج ما كان قد أثاره ابن سينا، من أن كل جنس قد يكون فصلاً بحذاء ما هو أعلى منه، ما يؤكد على نسبية هذه التراتبية الأجناسية والأنواعية في سلم الاعتبارات. إن ابن تيمية إذن يرى إلى الأجناس بعين ثابتة لعدم استيعابه لنسبيتها المذكورة، كما يخلط بين الذاتي والعرضي. وهو لا يميز بين الحقيقي والاعتباري. فتكون كافة الأمور لديه -من قبيل الذاتي والعرضي، الحقيقي والاعتباري- من تحكم الحادّ. وهذا بخلاف الحكمة.

ولا يخفى على متتبع متأمل في ردود ابن تيمية على المنطقيين أن الأصل في تلك الردود هو هجاء الصناعة رأساً، وتكفير الصنّاع. وأما ما ظهر منه حنكة في ردّ مقالات المناطقة في الحدود والأقيسة فلم يكن بدعاً في ذلك؛ بل لم يكن سوى ناقل لمضامين ومعانٍ تضمنتها مقالات المنطقيين أنفسهم أو بعض ممن هم في حكم خصومه من المتصوفة. وليس هذا خافياً على من تتبع طريقة ابن تيمية في ازدواجية تعاطيه مع خصومه، حيث بمقدار ما يبالغ في مهاجمتهم يتبنى بعض آرائهم من دون إحالة عليهم. ولعل السبب في ذلك أن إظهار مصادر معلوماته وآرائه من شأنه إبراز تناقضه. فهو في معرض هجوه خصومه لا يترك لهم مأثرة ويحرض العامة على مقاطعتهم، معتبراً كافة علومهم زندقة وكفراً و إضلالاً. لكن هذا لا يمنع أن قسماً من نقوده على الفلاسفة، مثل صعوبة الحد بالجنس والفصل، هي من أفكار منطقيين أمثال ابن سينا في النجاة وغيره، والغزالي في معياره، وآخرين أمثال السهروردي أو ابن عربي في الفتوحات([59]).

وقد كان فخر الدين الرازي ممن ينكرون الحد على المبنى الأرسطي. ومستنده في ذلك أن الحد يتألف من جنس وفصل. وأن الجنس من الكليات التي ينكرها أصلاً، معتبراً إياها مجرد أسماء. وهو مذهب قديم ومستحدث. يبدأ من الرواقيين وينتهي إلى دافيد هيوم، وهو مذهب الاسميين. وإذا كان ابن تيمية قد كفّر الفلاسفة والمناطقة لأنهم تبنوا طريقة الإغريق المتصلة بإلهياتهم، فإنه هنا لم يفعل سوى أن تبنى طريقة بعض الإغريق أنفسهم في إنكار الحدود. وليس ثمة فارق بينه وبين المشائية سوى أن المشائيين بما أنهم أثبتوا الكلي، استقام قولهم بإمكان الحد. بينما منشأ رفض الحد عند الرواقيين وأتباعهم بمن فيهم ابن تيمية -من دون أن يعلم بهذا الاتِّباع- هو رفضهم للكلي. على أن تهمة الاتِّباع التي قذف بها ابن تيمية المناطقة إن هي حقًّا ثبتت في حقهم، فهي والحالة هذه، أعظم فيمن سلك مسلك الرواقيين من الأغارقة دون أن يعلم بمنشأ ذلك. فالاتِّباع عن علم -على فرض ثبوته في حق أولئك وتقديره- أولى من الاتِّباع عن جهل. بل في اعتبار طريقته في رد الحدود -وهي طريق الرواقيين قديماً وحديثاً- طريقاً أصيلاً غير متحيز، وسبيلَ غير الأغارقة الوثنيين، جهلٌ مركب.

وإذا تأملنا مليًّا في جملة الردود التيمية بشأن الحدود والعلم والفطرة فسنجد أن بعضاً من تلك الآراء لها نظائر في مقالات ابن عربي كما مر معنا. وبهذا يكون ابن تيمية قد استند إلى خصومه من المناطقة والصوفية في ردوده على المنطقيين وغير المنطقين([60]).

بناءً على ما سبق تُرفع الدعاوى الطاهائية الثلاث: دعوى التوسيع في الاستدلال المنطقي ودعوى الإسناد العملي للمنطق ودعوى التأسيس الشرعي للمنطق. فكما وضح وانكشف، ترفع الأولى لما أدركنا أن مؤدى ردود ابن تيمية قاضية بعكس المدعى، أي تضييق الاستدلال وحصره في مسلك الرواقية الاسمي، ومنحى الظاهرية، مع إصرار كبير على نسف كل صنعة جديدة برمتها، والقول بالاكتفاء باستدلال أهل الفطرة. كما ترفع الثانية، لما ندرك ألَّا مخرج من النسق الصوري إلا باجتراح نسق مختلف، وقد حدث ذلك قبل ورود ابن تيمية، على يد علماء أصول الفقه. فعملية الإسناد بالإعمال لا تتم إلا بالخروج من النسق ابتغاء نسق خاص. وفي دعوى إمكان تحصل الإعمال بانحفاظ النسق الصوري جهل مركب بالبعد البنيوي للنسق المنطقي الصوري. كما ترفع الثالثة متى ما أدركنا أن التأسيس الشرعي للمنطق قصاراه ما كان من أمر أصول الفقه كما ذكرنا وكما سيأتي. مع أننا أشرنا إلى أن ابن تيمية بتقديمه قياس التمثيل على قياس العلة في المقام خروج عن مقتضى التأسيس الشرعي المزعوم.

الثورة التخصصية: علم أصول الفقه مثالاً

ليس في وسعنا الوقوف عند أهمية علم الأصول والمكانة التي يحتلها في التراث العربي والإسلامي، كعلم إسلامي محض. فهذا مما لا نزاع فيه، حيث لم يشذ عن هذه الحقيقة أحد. لكن لا يخفى أيضاً -وخلافاً لما ذهب إليه ابن تيمية- أن علم الأصول هو العلم الذي أمكنه الإفادة القصوى من المنطق. هي الإفادة التي مكنته لأن يحتل بدوره منزلة منطق الاستنباط الفقهي، كما شهدت على ذلك أطواره وتقلباته في مختلف المدارس الإسلامية. وآية ذلك أن كبار الأصوليين كانوا مناطقة أو مشتغلين بالمنطق. لقد أفاد الشافعي من المنطق الأرسطي كما أفاد الغزالي بالقدر ذاته من هذه الصناعة التي أتقنها وألف فيها. وفي المدرسة الإمامية تحضر أسماء كثيرة، لاسيما من المتأخرين كالشيخ الأنصاري الذي ارتقى بالمدرسة الأصولية إلى أوجها. فكانت مرحلته موسومة بهذا الاستدخال المتقن والكبير، والتطوير الفريد لصناعة الأصول، كما سيظهر بشكل أكثر تمنطقاً مع خلفه الآخوند الخرساني، تلميذاً له وتلميذاً للسبزواري صاحب أبرز منظومة فلسفية ومنطقية.

لقد جسد علم أصول الفقه أهم وأبرز ثورة في طول وعرض المنطق. بل لو أننا أمعنا النظر في الثورات المنطقية الحديثة لألفينا أنفسنا أمام تجددات منطقية، حقق فيها الأصوليون سبقاً بارزاً. تجلت هذه الثورة المعرفية في ثلاثة جوانب، سيكون حولها مدار كلامنا:

- جانب التخصص، في قبال الشمول.

- جانب التطبيق، في قبال التجريد.

- جانب التوسيع، في قبال الحصر.

ولا يخفى على الناظر في تاريخ المنطق أن هذه الجوانب الثلاثة هي أهم ما اعترض المنطق من آفات، منذ أرسطو حتى العصر الحديث. أعني آفة التعميم التي مقتضاها القول باستقلال المنطق عن العلوم وانطباقه عليها انطباق العلم الكلي على أفراده. أي أن تكون العلوم إزاءه بمثابة الجزئي الإضافي. كما أعني آفة التجريد التي جعلت المنطق غير معني أحياناً بالمادة مقابل الهيئة، أي آفة الصورية. كما نعني ثالثاً آفة التضييق والحصر، التي تستبعد عالم الإمكان والاحتمال، وتقصر مدرك التصديق على النسبة الواقعية في الجملة الخبرية فيما توسع من مدرك التصور كي يشمل متعلقاته الأربعة، حيث تشمل الجملة الخبرية نفسها مع انضمام الوهم والشك إليها([61]). من هنا غدا المنطق أكثر عمومية وأكثر صورية وأكثر حصراً. و إذا كانت الآفات الثلاث قد شكلت مدار الأبحاث والنقود المنطقية خلال كل الحقب، لاسيما القرون الثلاثة الأخيرة، فإن علم الأصول كان قد استحضر هذه الإشكالات باحثاً في سبل تجاوزها كما سنرى. إلا أنه لابد قبل تفصيل الكلام في ذلك من توضيح أي صناعة أصولية تكون تلك التي أمكنها التقدم أشواطاً إلى الأمام.

1- في مواجهة آفة الشمول

لما وضع أرسطو أورغانونه كان قاصداً إلى وضع ما سيسميه المشائية الإسلاميون بعد ذلك بالميزان، أو معيار العلم. فكانت الغاية المتوخاة، فضلاً عن تمييز المعقول عن آثار المراتب الدنيا من الإدراك، كالوهم وما دونه، هي أن يكون المنطق آلة لوزن العلوم كافة. فهي، وإن اختلفت وتنوعت من موضوعاتها، تظل خاضعة للكيفية نفسها، وللطرائق ذاتها في ترتيب المقدمات والوسائط، والعبور من المعلومات إلى المجهولات. فبهذا المعنى كان المنطق هو آلة العلوم جميعاً. سوف يستمر هذا الإحساس حتى العصر الحديث بعد أن حلت الرياضيات محله في الفلسفة الديكارتية.

لم يحضر المنطق المجرد، كما هو، في صناعة الفقه، بل لقد اجترح العلماء آليات لعملية الاستنباط، بما يشبه منطقاً خاصاً للفقه، تماماً مثلما استطاعوا إنشاء منطق للغة، هو النحو؛ من حيث هو مجموع القواعد التي يُهتدى بها في عملية الاستنباط، والعاصمة للفقيه من الخطأ في مقام الاستنباط والفتيا. ومثل هذا التخصيص إنما هو كاشف عن أن الأصولي قد ردّ عموم المنطق وشموليته، مقيداً إياه بخصوصيات المجال، وخصوصية الموضوعات والغايات والمادة المحددة لمدارك العملية الاستنباطية. ما يعني أن الأصولي كان مهيَّأً للقول بتعدد المناطق بدل القول بالمنطق الواحد. بهذا المعنى كان العرب والمسلمون قد مارسوا المعرفة برسم منطقيات متعددة وتطبيقية، دون أن يسموها. كالنحو المنزل منزلة منطق اللغة، أو أصول الفقه المنزل منزلة منطق الاستنباط وما شابه ذلك.

2ـ في مواجهة آفة التجريد

علم أصول الفقه هو العلم الذي استطاع الجمع بين مقتضى النظر ومقتضى العمل. فهو الصنعة التي يلتقي عندها منزع الكشف عن الواقع ومطلب إنشاء الوظيفة العملية. هذا أمر فرضه كونه ناظراً في أدلة الأحكام، وأصول الاستنباط عند فقد الدليل. أي لحظ الوظيفة عند فقد الحكم الواقعي. يتنزل المتوقع هنا منزلة الواقع في الأصول العملية، قاصداً رفع العنت والحرج عن المكلف بما ييسر له الوظيفة العملية ويرفع عنه سقف الانسداد. وآية تجاوزه لآفة التجريد قوله بالاعتبار متى ما تعلق الأمر «بالمصلحة السلوكية»، فيقضي بتنزيل ما ليس واقعاً منزلة ما هو واقع، لاستحالة إحرازه أو امتناع انكشافه عند الانسداد. وهو تنزل يلاحظ المصلحة العملية بوصفها إنشاءً لواقع جديد ومعاوضة ترمي إلى ردم الفراغ. إن الاشتغال هنا هو بمثابة واقع جديد يحول بين المكلف وتعليق الحكم رأساً أو الاحتياط فيه كلاًّ، جرياً وراء الحكم الواقعي المتعذر. فالاشتغال بالوظيفة العملية هو البديل العملي والحد الأدنى من الواقع. ما يعني أن «العمل» هو غاية الأصول. فقد يقال: إن ما يميز علم أصول الفقه عن عموم المنطق أن الأول ألصق بالعمل غاية، وإن التقى مع عموم قواعد الثاني في إحراز المقدمات العقلية والصورية. إن قيمة التصور في علم الأصول تكمن في تيسير إنشاء الوظيفة العملية، وليس مجرد التصور لهيئة المعقول في صقع الذهن دونما هتاف إلى العمل. وهذا ما سيتضح بصورة أجلى فيما سيأتي.

3- في مواجهة آفة الحصر

لقد استطاع الأصوليون خرق هذا الحصر في مجال التصديق مثلاً. فجعلوا إدراكه أوسع من مجرد إدراك النسبة الواقعية في الجملة الخبرية. وهذا ما يتضح بجلاء في موضوع القطع، وهو اعتقاد جازم يعوض الواقع في الاعتبار. فالقاطع يأخذ بقطعه كما لو كان واقعاً بالفعل، مع إمكان عدم تحققه في الخارج. وفي هذا، حتما، لن يكون الجهل المركب من أقسام الجهل كما ذهب بعض المناطقة -وإن خالفهم البعض الآخر-، ذلك لأن المأخوذ في تعريف القطع، المعتبر والحجة، هو الجزم، أيًّا كانت طريقيته. فلا وجود لقيد المطابقة، التي لا تدرج في تعريف الأصولي للقطع، مادام أن ضم الواقع إلى تعريف القطع لن يجدي نفعاً، إن لم يكن أشبه بتحصيل حاصل. فالقاطع هاهنا يرى إلى مقطوعه واقعاً. فلو لم يكن جزمه كذلك، ولو تطرق إليه أدنى احتمال، فلن يكون قطعاً. وذلك كله متحصل من مقاصد الأصول الناظرة إلى المصلحة السلوكية في مقام العمل. مرتكز ذلك على أن مفهوم العلم ذاته في المنظور التشريعي والديني لا يقتصر على التصور بوجهيه: التصور المحض المجرد والتصور التصديقي، بل العلم هنا هو بمعنى العمل الكاشف عن حقيقة الجزم. وليس الجزم فقط الباعث على العمل. ولذا اعتبر العلم المحصور في التصور غير المتحقق بالعمل جهلاً.

إن ما يميز علم الأصول عن المنطق هو في خصوصية اشتغاله على موضوعاته الخاصة وفي مقدار لحاظه للواقع العملي، حيث العمل مقدم، ليس على التصور فحسب، بل هو مقدم على الواقع نفسه، متى ما دار الأمر بين تحصيل العلم بالواقع وإنجاز العمل. ففي علم أصول الفقه يكون للعمل اعتبار مستقل عن الفكر وعن الواقع. فهو بحق منطق الفعل بامتياز. سوف نجد مصداق هذا الافتراق الناشئ عن اشتغال أصول الفقه على العمل في مفهوم «القطع» كما عالجه كبير الأصوليين المحدثين الشيخ الأنصاري ومن سار على مذهبه في القول بالمصلحة السلوكية للأحكام الظاهرية. وعليه يكون علم أصول الفقه أجدر بأن يكون المعني بدعوى إسناد المنطق بالإعمال، لا بل هو منطق الإعمال بامتياز.

خاتمة

بناءً على ما سبق نذكِّر بأن المراد من إيرادنا لهذه النماذج هو تبيان طبيعة الجدل الذي دار حول المنطق وحجية طرائقه ما بين الأنصار والخصوم في الثقافة العربية والإسلامية. على أن ذلك أمارة على أن صناعة المنطق لم تبق على هيئتها الأرسطية كما دخلت أول مرة إلى المجال العربي والإسلامي، بل لقد شهدت تجدداً، من داخل الصناعة ومن خارجها. و قد كان للعلوم الأخرى بما فيها العلوم الإسلامية المحضة، مثل علم أصول الفقه، أثّر على تطور النظرة الاستدلالية وتطور مفهوم الصدق والقطع أو الجزم والحجة. بل إننا نرمق ذلك التطور الكبير في صناعة المنطق في جملة العلوم المتفرعة عنه، أي المنطقيات الخاصة التي تجسدت في علوم هي بالأحرى نماذج منطقية خاصة، كعلم أصول الفقه في مثالنا السابق. ولعل هذا ما جعل نظرية الشهيد السيد محمد باقر الصدر في مذهبه الذاتي للمعرفة تحرز مكانتها الحقيقة، كواحدة من أهم المحاولات الإسلامية المعاصرة في النقد المنطقي؛ كون السيد الصدر هو في الوقت نفسه رائداً من رواد علم أصول الفقه كما دلت على ذلك «حلقاته». فالدعوة قائمة إلى جعل تلك المحاولة منطلقاً جديداً في مشوار النقد المنطقي. أم هل إن مشروعاً كهذا سيدفع ثمن انوجاده في قلب عالم تتآكله مظاهر التخلف والانحطاط. وما هذا الصمت المطبق والظلام الدامس كالليل الأليل حول ذاك المشروع سوى فرع لذلك الانحطاط.



* ورقة مقدمة لحلقة بحثية متخصصة، تحت عنوان: المنطق الأرسطي وتأثيراته في المعرفتين الفلسفية والدينية، نظّمه معهد المعارف الحكمية ببيروت، الأربعاء 26/11/2005 الموافق لـ 15 ذي القعدة 1425هـ.

 يتحدث أبو حامد الغزالي عن سبب وضعه لكتاب معيار العلم في فن المنطق، قائلاً: «إن الباعث على تحرير هذا الكتاب الملقب بمعيار العلم غرضان مهمان: أحدهما تفهيم طرق الفكر والنظر وتنوير مسالك الأقيسة والعبر؛ فإن العلوم النظرية لَمَّا لم تكن بالفطرة والغريزة مبذولة وموهوبة، كانت لا محالة مستحصلة مطلوبة. (...) رتبنا هذا الكتاب معياراً للنظر والاعتبار، وميزاناً للبحث والافتكار، وصيقلاً للذهن، ومشحذاً لقوة الفكر والعقل». أبو حامد الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 26 - 27، دار الأندلس، بيروت / بلا تاريخ.

([2]) وهذا مفاد حكاية أبي حامد الغزالي في المعيار، بأن كل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعاير بهذا المعيار فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار. وقد حكى في المورد نفسه عن الباعث الثاني من تأليفه المذكور، وهو شمول المنطق لباقي العلوم، على تفصيل ذكره في المقام، جاء فيه: «وأما كونه أعم فمن حيث يشمل جدواه جميع العلوم النظرية». المصدر السابق ص 27 ـ 28.

([3]) لا يخفى أن دعوى كهذه لم تعد مستساغة في أيامنا هذه التي شهدت انبثاق أكثر الأنسقة المنطقية والرياضية تجاوزاً للحصرية المنطقية التقليدية. بل إن دعوى شمول وتعميم دقة الرياضيات وصرامتها بعد أن حلت محل الرياضيات، لم يعد يمثل أكثر من مبالغة ديكارتية، لا سيما بعد أن أصاب الرياضيات ما أصابها من عدوى الحصرية المنطقية التي أفضت بها إلى المصير نفسه، أي رياضيات وليس رياضة مفردة، مثلما صار المنطق منطقيات. إن الثورة النسقية هي مصداق هذا الفقد للتعالي. فالمنطق والرياضيات هي أنساق مغلقة على منظومة مبادئها وقواعدها وليست حاكمة على العلوم قاطبة.

([4]) لا يخفى أن الرياضيات كانت في حاجة دائمة للمنطق، لجهة الشمول المذكور. وقد تتبع مؤرخو المنطق من أمثال روبير بلانشي منعطفات ومراحل هذا الانفصال الذي لم ينجز إلا حديثاً وبصورة غير تامة، لا سيما بعد أن ظهر جبر المنطق مع جورج بوول (1815 ـ 1864 ) واللوجيستيك مع جوتلوب فريج (1848 ـ 1925). إن جبر المنطق هو مصداق لاستنجاد المنطق بالرياضيات، وربما لهذا السبب تحديداً اعتبر منطقاً للرياضيات.

([5]) لم يكن هذا النزع جذرياً، فتعين قبول كلامنا على وجه المسامحة. فقيمة الأورغانون الجديد هو في نزعته الأداتية التي تجد مسوغها الغائي في إرادة السيطرة على الطبيعة بالعلم الذي يتعين على المنهج الجديد مجاراته في هذا الرهان. ومن هنا إعادة الاعتبار للاستقراء الذي لم يحض بالأهمية نفسها عند أرسطو. وما عدا ذلك، يمكننا القول بأن بيكون لم يكن إلا واحداً ممن خرجوا من معطف أرسطو. وثمة على كل حال من فلاسفة العلم والمنطق من لهم رأي في بيكون لا يخلو من قسوة وتهوين. وقد تحدث إميل بيرهييه عن هذه النزعة التقليدية: «إن بيكون لم يعرف قط من عقل آخر غير ذلك العقل المجرد والتصنيفي، المتوارث عن أرسطو والعرب والقديس توما الأكويني. وكان يجهل العقل الذي ألفاه ديكارت قيد العمل في الاختراع الرياضي». ومثل هذا تكرر مع روبير بلانشي واصفاً منطق بيكون بالتقليد الذي يظهر في التبني الحرفي للأرغانون وعدم اجتراح جديد منطقي غير أرسطي سوى تبني المنهج نفسه مقلوباً. بل إن التهوين يبلغ نهايته مع كارل بوبر الذي اتهمه بالغرور والادِّعاء والتناقض وما شابه. ومع ذلك كان له تأثير بارز في ميدان العلم الأوروبي. وهي الحقيقة التي اعترف بها حتى نقاده القساة، وفي طليعتهم كارل بوبر من المعاصرين.

قلنا: إن بيكون استطاع نزع تمامية واستمرارية الأرغانون الأرسطي كما هو، بإدخال بعدين، أحدهما ربط المنطق بالتصور الحديث للعلم في نزعته للسيطرة على الطبيعة، من هنا البعد العملي والأداتي للمنطق البيكوني، ثانياً توسيع العمل بالاستقراء على خلاف ما كان عليه المنطق الأرسطي. غير أن ذلك لم يغير من شموله وهيمنته على العلوم، وهو ما عابه عليه البعض، «فلقد أخذ كلمة أورغانون بحرفيتها معتبراً المنهج أداةً يمكن انتقالها من يد إلى يد، ويمكن لاستعمالها أن يجعل كافة العقول شبه متساوية مثلما يسمح البيكار الجيد لإنسان غير ماهر أن يرسم دائرة أصح من دائرة يرسمها بيده فنان ماهر»، انظر روبير بلانشي: المنطق وتاريخه، تـ: د. خليل أحمد خليل، ص 236، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع/ لبنان/ بلا تاريخ. انظر كذلك كارل بوبر: أسطورة الإطار، تحرير مارك أ. نوترنو، تـ: أ. د. يمنى طريف الخولي ص226، عالم المعرفة، أبريل/ مايو 2003 عدد 292، الكويت. انظر كذلك إميل برهييه: تاريخ الفلسفة، القرن السابع عشر، ص36 تـ: جورج طرابيشي، ط1 ـ 1983، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.

([6]) ثمة خلاف حول مدى صحة ترتيب الرسائل المنطقية الأرسطية، هل الصحيح ما كان قد حصل في القرن الأول قبل الميلاد مع التلميذ الحادي عشر لأرسطو اندرونيكوس الرودسي أم في القرن الرابع على حد قول دي روس. وقد أكدت رسالة فورفوريوس عام 270 على أن هناك من لا يرون صحة الترتيب الموجود ما بين المقولات والتوبيقا. وكيفما كان الأمر فإن ثمة من وضع الترتيب وأيضاً العنوان، أورغانون، وهو هنا يعني الوسيلة. انظر روبير بلانشي، المصدر السابق ص 37.

([7]) لقد ظهرت أنساق مرتبطة بمنطق اللغة والرياضيات، بحيث لم يعد الحديث عن الصدق أو التناقض مطلقاً، بقدر ما أصبح مقيداً بشروط تداولية ونسقية. فهي أحكام نسبية تستند إلى قواعد النسق المرسوم. لم يعد التناقض مشكلة في المنطق الذي تعرف واعتاد على أشكال عديدة من المفارقات، بل الأمر يتعلق اليوم بأنساق تتعرف بكونها غير قابلة للاستدلال بالشيء ونقيضه.

([8]) مثل هذه الأحكام التعسفية شكلت قاعدة ما جادت به قريحة الاستشراق، حيث ما ورد من إنصاف المنصفين منهم لم يمثل سوى الاستثناء. وقد بدا أن مراد المستشرق الكلاسيكي أن يقلل من أهمية الإضافات العلمية العربية والإسلامية في الفلسفة والمنطق، حتى بدا لبعضهم أن العقل العربي قصاراه أن فهم أرسطو.. وهي عبارة لصاحب الكوميديا الإلهية تحكي عن أن روح التهوين من الإضافات العربية والإسلامية لعلوم الانسان وللمعرفة الإنسانية تقوم على فرية أن ما أبدعناه ما هو إلا محض تقليد للعقل الأرسطي، الذي هو بالنتيجة عقل أوروبا. فهي بضاعتنا ردت إلينا. وما ابن رشد سوى ذلك العراب الذي انتقلت به تلك العلوم نفسها إلى الغرب. قيمة ابن رشد هنا في كونه الشارح الأكبر لأرسطو وليس الفيلسوف العربي والمسلم. وكان من الممكن جداً الإشارة إلى أن دانتي أبان عن روح عناد كبيرة في استهانته بالعقل العربي والإسلامي. فيكفيه وهو الرائد الكبير من رواد النهضة الأوروبية أن رائعته التي بها اشتهر وبها اشتهرت النهضة الأدبية والفلسفية الإيطالية والأوروبية، الكوميديا الإلهية، إن هي إلا تقليد لما جادت به قريحة الشاعر والفيلسوف العربي أبي العلاء المعري، في رائعة: رسالة الغفران. فهل يقال، إن قصارى ما بلغه العقل الأوروبي أن فهم أبي العلاء المعري؟

([9]) هذه أحكام اختزالية، لا تقدم الصورة الحقيقية عن تاريخ تطور المعرفة العربية والإنسانية. أحكام تحاول إنكار كل هذا الجهد الحضاري للفلاسفة المسلمين. فلقد ظل شبح ابن سينا مخيماً على أوروبا السكولاستيكية فلسفياً، وعلى أوروبا القرن السابع عشر طبياً.

([10]) تجاوز تارسكي التصور الأرسطي للصدق، فقيّد إطلاقه بجملة من الشروط المفروض تصورها حتى تكون قضية ما صادقة بالفعل. وهو ما سمي بنموذج الصدق، يرمز إليه بـ: (ص). وتصاغ على الشكل التالي: (ص) «با» إذا وفقط إذا ب». الصورة التشارطية أعلاه مكنت تارسكي من الاحتراز بالتشارط النسبي عن مفهوم المطابقة العام. فليس القصد هنا البحث في المطابقة، بل البحث يتجه إلى ضمان الحكم بالصدق على نحو محدد.

([11]) انظر، كارل بوبر: أسطورة الإطار، تـ: د. يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة 292 أبريل 2003/ الكويت.

([12]) وكان ابن سينا قد سمى أبواب المنطق من إشاراته بالنهج بينما سمى أبواب الطبيعيات والرياضيات من المصنف نفسه بالنمط. وقد علل الخواجة الطوسي في الشرح هذا الاختيار انطلاقاً من معنى النهج الذي يفيد الطريق الواضح، والنمط الذي يفيد معنى البسط، حسب الفاضل الشارح، كما أحال عليه الطوسي. ثم يشرح ذلك قائلاً: «وإنما وسم أبواب المنطق بالنهج، وأبواب هذين العلمين بالنمط، لأن المنطق علم يتوصل منه إلى سائر العلوم فكانت أبوابه نهجاً»، الإشارات والتنبيهات، ج2 ص2 نشر البلاغة، ط1/ قم.

([13]) المصدر نفسه، ج1، ص286.

([14]) المصدر نفسه،ج1، ص191.

([15]) المصدر نفسه، ج1، ص111.

([16]) معالجة السيد الصدر لمشكلة الاستقراء تبدأ من أرسطو حتى برتراند راسل.. وقد بدا أن السيد الصدر لم يقتنع بكل المعالجات السابقة في تفسير الدليل الاستقرائي، ما أدى به إلى اجتراح أسس جديدة للمعرفة، بها يتقوم مذهبه الجديد الموسوم بالمذهب الذاتي في المعرفة. وهذا حاصل إثباته قولاً وفعلاً فرادة معالجته للدليل الاستقرائي.

([17]) يقول بوانكريه، وهو أحد الرياضيين وفلاسفة العلم الحدثاء: «لا أريد أن أبحث في أسس الاستقراء، فأنا أعرف جيداً أنني لن أنجح في هذا، وأن صعوبة تعليل هذا المبدأ لا توازيها إلا صعوبة التخلي عنه». هنري بوانكري: قيمة العلم، ص156، تالميلودي شغموم ـ ط1 ـ 1982، دار التنوير/ بيروت.

([18]) يعرفه السيد الصدر: «وهكذا نعرف: أن اليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقل عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الانسان أو ذاك فعلاً. وأما اليقين الذاتي فهو يمثل الجانب السيكولوجي من المعرفة»، السيد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، ص326 ط 1990 دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

([19]) من المؤسف جداً أن يكون الاحتفاء بالأطروحة الصدرية في المعرفة يأخذ طابعاً احتفالياً بين أتباعه ومريديه. والحق أن الأفق الرحب لهذه الأطروحة يتعدى إلى الدورة العالمية، ما يؤكد على أن المطلوب هو فتح أوراش علمية تخصصية، لمواصلة المعالجة الصدرية لمسألة المعرفة، وأيضاً فتح المجال لمزيد من التجاوز وفتح آفاق جديدة أمام الفكر العربي والإسلامي والانساني عموماً.

([20]) ذكّر الحكماء مثل صدر المتألهين بجملة من الخطوات المفروض اتباعها مع ناكر أصل التناقض، بأن يعلم مقدمات الحكمة كالطبيعيات والهندسة والرياضيات، فإن واصل نكرانه عرضوه لشيء من الحرق والضرب كي يميز بين الضرب واللاضرب والحرق واللاحرق، فإن واصل عناده عرض على الطبيب، لعل ذلك ناتج من غلبة المرة، وتعكر المزاج، وإلا كان معانداً لا يرجى منه خير. والشاهد هاهنا أن بعض أسباب العناد قد تكون مزاجية فسيولوجية كما لا يخفى.

([21]) فتاوى ابن الصلاح، عن حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص906، ط6 ـ 1988، دار الفارابي/ بيروت.

([22]) المصدر نفسه ص 60.

([23]) لم يقف مدّعى صدر المتألهين أنه قادر على عرض ما توصل إليه كشفاً بوسائل البحث والبرهان كما هو ديدن كل العرفاء في معرض البيان، كما هو حاصل بالفعل عند صاحب الفتوح. فكل الحقائق التي استعرضها محيي الدين بن عربي في الفتوح وغيرها من رسائله عرضت على سبيل البيان والبحث؛ بل إن مدّعى صدر المتألهين هو الوصول بالنظر البحثي إلى كل ما توصل إليه بالكشف، وهو ما لم يدّعيه إشراقي.

([24]) ولا أدل على ذلك من قولهم بالمنزلة بين المنزلتين، أو قولهم بالحال المتوسط بين المعدوم والموجود، أو قولهم بالكلام النفسي، أو القول بالأمر بين الأمرين، وما إليها من أفكار وآراء تنزع إلى إثبات الثالث المرفوع. أي القول بالثالث المثبت le tiere inclus.

([25]) الفتوحات المكية، ص 145 ج 1؛ تحقيق د. عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1970م/ 1390هـ، القاهرة.

([26]) المصدر نفسه، ص146 ج1.

([27]) المصدر نفسه، ص 319 ج 4.

([28]) المصدر نفسه، ص317 ج 4.

([29]) المصدر نفسه، ص 296 ج4.

([30]) المصدر نفسه، ص300 ج 4.

([31]) المصدر نفسه، ص177، ج4.

([32]) المصدر نفسه، ص 192 ج 1.

([33]) المصدر نفسه، ص 197 ج 1.

([34]) يستعمل القرآن الكريم الفطرة بمعنى الخلقة والسجية والجبلة، كما يستعملها بمعنى الإسلام.وكما يبدو أنها بالمعنى الثاني مكتسبة لا معطاة. وابن تيمية يعني بالفطرة التي كان عليها معاش العرب قبل التدوين، هي الأمية والجهل بالفنون والصنائع. ولذا وضعها في قبال المنطق والنظر.وقد رد ابن سينا على مثل هذه الشبهات قبل ورود ابن تيمية، حينما قال: «والفطرة الإنسانية في الأكثر غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف، ولولا ذلك لما وقع بين العقلاء اختلاف ولا وقع لواحد في رأيه تناقض»، وقوله أيضاً: «وليس شيء من الفطرة الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بإعداد هذه الآلة إلا أن يكون إنساناً مؤيداً من عند الله تعالى».. وقد أطنب الغزالي في دحض مدعى الاكتفاء بالفطرة في المقام وعدم الشعور بالحاجة لهذه الصناعة: «...النفس في أول الفطرة أشد إذعاناً وانقياداً للقبول من الحاكم الحسي والوهمي، لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالاحتكام عليها، فألفت احتكامهما وأنست بهما قبل أن يدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام عن مألوفها والانقياد لما هو كالغريب من مناسبات جبلتها، فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما إلى أن تضبط بالحيلة التي سنشرحها في الكتاب»، أقول: إن ابن تيمية أغضى عن هذه الردود التي واجه بها أهل الصناعة أهل الشبهات والوساوس، لكنه لم يفد منها ولا عرضها كما هي، بل اقتصر على انتقاء مقالاتهم وتجنب آرائهم في الفطرة نفسها. انظر ابن سينا: كتاب النجاة ص20، مؤسسة انتشارات وجاب دانشكاه تهران، انظر أبا حامد الغزالي: معيار العلم، ص30، دار الأندلس/ بيروت.

([35]) وكان ابن تيمية يقصد بذلك ابن مطهر الحلي صاحب كتاب نهج الكرامة.

([36]) حينما يفند ابن تيمية مدعى المناطقة بأن المنطق آلة لجميع العلوم لم يكن قد جاء بجديد، لا بل إن مثل هذا الادعاء أول من رده المناطقة أنفسهم، ومثل هذا الكلام وارد عند الخواجة نصير الدين الطوسي، حيث يبين ذلك في شرحه على الاشارات: «والقول بأنه آلة للعلوم فلا يكون علماً من جملتها، ليس بشيء لأنه ليس بآلة لجميعها حتى الأوليات بل بعضها، وكثير من العلوم آلة لغيرها كالنحو للغة والهندسة للهيئة...» وقد بيَّن الخواجة أن بعضاً من العلوم كالهندسة غير محتاجة للمنطق، وقد نقل ابن تيمية بشكل حرفي مثل هذه الآراء دون أن ينسبها لأصحابها فظن البعض أنه بدعاً في إيراد مثل هذه الفرادات والفضائح على المناطقة، بعد أن نقلها عنهم بالجملة.انظر الإشارات ص9 - 10ج1.

([37]) مثلما تراءى لدولوز بأن القرن العشرين إما أن يكون فوكونياً أو لا يكون، فثمة من أراد للمستقبل العربي والاسلامي إما أن يكون تيمياً أو لا يكون. يظهر ذلك في حجم الاهتمام المبالغ فيه بالتراث التيمي، حيث بلغ بأحدهم أن اعتبره رائداً للنهضة العربية الأولى، ويصح أن يصبح رائدها اليوم.

([38]) رغم الاحتفاء الشديد بآراء ابن تيمية من قبل الثلاثة إلا أن الخصومة حد القطيعة بينهم مما سارت به الركبان. ولم أجد خصوماً أكثر إسرافاً وأكثر استئصالاً بين هؤلاء. فلقد سعى طه عبدالرحمن إلى تقويض مشروع الجابري، وليس مجرد نقده، كما فعل الأمر ذاته أبو يعرب المرزوقي.. وقد بدت الطريقة التيمية في خطابهما النقدي الاستئصالي مما لا مجال للإطناب فيه.

([39]) عبد الرحمن، طه: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص350، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت/ بلا تاريخ.

([40]) المصدر السابق، ص 351. أقول: ولا يخفى أن حكماً كهذا هو من الجهل المركب، يتضح ذلك متى ما أدركنا جهل ابن تيمية بلغة اليونانيين وثقافتهم.

([41]) ابن تيمية: نقض المنطق، ص81، تحقيق محمد بن عبد الرزاق حمزة وسليمان بن عبد الرحمن الصنيع، المكتبة العلمية/ بيروت/ بلا تاريخ.

([42]) المصدر نفسه، ص86 - 87.

([43]) المصدر نفسه، ص163.

([44]) المصدر نفسه، ص171.

([45]) المصدر نفسه، ص 169.

([46]) المصدر نفسه، ص 168، 169.

([47]) لا يخفى أن ذكر الفطرة في الذكر الحكيم جاء في سياق يوحي بكمال الاستعداد لتلقي التعاليم، أي القضاء على الحجب المانعة من الوصول إلى الحقيقة. وهي تأتي في سياقات دالة على أنها منتهى ما يطلبه المرء من الكمال، أي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومصداقها الأعظم تزويد الإنسان بالعقل على قدر سواء. وبه تُقام الحجة على العباد. وهذا الكمال الذي هو الفطرة التي ران عليها من أسباب الغفلة وتلبست بالحجب الظلمانية الحائلة دون وضوح الرؤية هو أمر يصار إليه بفعل التذكير وجهد النفس وتدريب العقل على التخلص من ضروب الوهم والنسيان، هو أمر مطلوب من الإنسان إحرازه وبلوغ منزلته. فتصبح هذه الفطرة بعد أن ألهم الإنسان استعدادها كالأمر المكتسب بعد أن ران على القلوب ما من شأنه جلب الغفلة والنسيان. وأما الفطرة بالمعنى السوسيو-تاريخي، التي هي معطى للعرب فلا يحتاج إلى كثير إطناب. ويكفي التذكير بأن العرب كانوا أمة أمية، بمعنى أنها لم تؤتَ كتاباً قبل البعثة، فإذا اعتبرنا الفطرة والأمية سيان بهذا المعنى سيكون للفطرة معنى يقابل أهل الكتاب، وأحياناً يقابل كل صنعة بدءاً بصناعة الكتاب وانتهاءً بما يلزم عنها في صيرورة العمران من مظاهر مدنية.

([48]) المصدر، ص160.

([49]) المصدر، ص160.

([50]) وكان على ابن تيمية أن يناقش رأي المناطقة في هذا الرأي، لأنهم سبق وأجابوا على الشبهة المغالطة. وإن كان ابن تيمية يوردها كما لو لم يتطرق إليها جمهور المنطقيين. ويكفي ما أورده الغزالي في هذا المعنى، من قوله: «لعلك تقول أيها المنخدع بما عندك من العلوم الذهنية المستهتر بما يسوق إليه البراهين العقلية، ما هذا التفخيم والتعظيم، وأي حاجة بالعاقل إلى معيار وميزان، فالعقل هو القسطاس المستقيم والمعيار القويم، فلا يحتاج العاقل بعد كمال عقله إلى تسديد وتقويم، ولتتحقق قبل كل شيء أن فيك حاكماً حسيًّا وحاكماً وهميًّا وحاكماً عقلياً، والمصيب من الحكام هو الحاكم العقلي، والنفس في أول الفطرة أشد إذعاناً وانقياداً للقبول من الحاكم الحسي والوهمي، لأنهما سبقا في أول الفطرة إلى النفس وفاتحاها بالاحتكام عليها، فألفت احتكامهما وأنست بهما قبل أن أدركها الحاكم العقلي، فاشتد عليها الفطام عن مألوفها والانقياد لما هو كالغريب من مناسبة جبلتها، فلا تزال تخالف حاكم العقل وتكذبه وتوافق حاكم الحس والوهم وتصدقهما إلى أن تضبط بالحيلة» أبو حامد الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 29 ـ 30، دار الأندلس، بيروت/ بلا تاريخ.

([51]) فلا عجب إن رأيته في محل آخر يبدِّع من قسّم الدين إلى أصول وفروع، وقد علمت أن ذلك مقتضى الصناعة. انظر كتاب فصول في أصول الفقه ص373 ط3 ـ 1999، المكتبة الإسلامية/ القاهرة.

([52]) نقض المنطق، ص166.

([53]) المصدر نفسه، ص166.

([54]) قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}.

([55]) قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}.

([56]) نقض المنطق، ص194.

([57]) المصدر نفسه ص184.

([58]) المصدر نفسه ص 186.

([59]) إن ابن تيمية يستغفل قارئه، حيث لا يستحضر الوجه الآخر لمقالات من خاصمهم واتهمهم بالمروق والزندقة، مع أنه اقتبس منهم طريقتهم في نقد الكثير من مآزق المنطق. إنه لم يستحضر نقد السهروردي للمنطق وكذا بعض آراء ابن سينا والغزالي والطوسي، مع أنه رد عليهم بما سبقوه إليه.. وهي كما لا يخفى على من تتبع طريقة ابن تيمية في انتقاء وتحريف مقالات من نقض عليهم، طريقة غير بريئة، بمعنى غير موضوعية البتة.

([60]) إن استناد ابن تيمية إلى آراء خصومه لا يخفى على مطلع لبيب. ومثل هذا رأيناه حتى في موارد خلافه مع الفقهاء. حيث قال برأي من عاصرهم من فقهاء الإمامية كالإمام الحلي، في شأن الطلاق البدعي والطلاق بالثلاث. وقد خالف ابن تيمية المذاهب الأربعة في ذلك، دون أن يكشف عن ميله لآراء خصومه الفقهية. وقد حاول د. محمد البهي -من المعاصرين- أن يستغل ذلك لتبرير موقف ابن تيمية من التشيع وعلمائه، بأن مثل ذلك لم «يقلل من اعتباره للاتجاه الشيعي المعتدل، بل لا يحول دون استحسانه لبعض تخريجاتهم الفقهية، واتِّباعهم فيها، كما في مسألة الطلاق البدعي أو الطلاق المعلق. فالطلاق البدعي (...) فإنه لا يقع عند فقهاء الشيعة وأخذ به ابن تيمية».

وقد لا تخفى أهمية هذا الاعتراف من قبل محمد البهي. فلا أقل يجزئ ما صدر عنه من اعتراف ظل طي التجاهل حول ما قد أفاده ابن تيمية من فقه الإمامية. على أنه تبرير حاكٍ عن عواطف نبيلة من كاتب ومصلح معاصر. والواقع أن موقف ابن تيمية من خصومه وغلظة هجوه لهم مما يصعب جبره. فهم في نظره سيان، روافض وزنادقة بالجملة لا يفرق بين معتدل منهم أو غالٍ. فلا ننسى أن فقيهاً إمامياً بارزاً من المعاصرين لابن تيمية ولعله هو من نقل عنه تخريجته الفقهية المذكورة، أعني ابن المطهر، المعروف بالإمام الحلي. وقد كال له ابن تيمية أعتى اللعنات والتهم، فسماه بـ«ابن المنجس». على أن مثل ذلك الرأي الفقهي الذي أفاده ابن تيمية من فقه ابن المطهر نفسه، في أمر الطلاق البدعي، ليس من جنس التخريجات الفقهية كما وصفها «البهي»؛ فذلك من الأحكام الواقعية المستندة إلى مدركها الروائي في الفقه الإمامي.

([61]) للتصديق موارد أربعة، حسب ما ذهب إليه المناطقة، هي الاسم والفعل والحرف يشملها جميعاً مورد المفرد، والنسبة الخبرية عند الشك والتوهم، النسبة في الجملة الإنشائية والمركب الناقص، نظير الصفة والموصوف، المضاف والمضاف إليه وكذا طرفا الجملة الشرطية كلٌّ على حدة. وليس للتصديق بحسب هذا المذهب المنطقي سوى النسبة في الجملة الخبرية دون أن يتخللها شك أو وهم. ولا يخفى أن تصوراً كهذا لموارد جريان الصدق فيه تأمل بلحاظ التطور الكبير الذي شهدته نظرية الصدق كما في تشارطية تارسكي.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة