تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

من التراث إلى الاجتهاد

زكي الميلاد

نقلة فكرية تمنع الإرهاب*

 

ـ 1 ـ
الإرهاب.. طبيعته وبنيته الثقافية

لأول مرة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث يظهر هذا المستوى الكمي والكيفي المتصاعد من العنف والإرهاب، وبهذا الاتساع الذي يكاد يمتد على طول الجغرافيا الإسلامية من المغرب غرباً إلى إندونيسيا شرقاً، ويتصاعد بطريقة تتجاوز حدود ومساحة هذه الجغرافيا ليصل إلى مناطق بعيدة ومتعددة في جغرافيا العالم. ويتحول إلى مصدر خطر يتأثر به المجتمع الإنساني برمته، وبشكل أصبح يخيف العالم، ويظهر العالم بوجه مخيف، بعد أن تحول الإرهاب إلى قوة ضاربة تصل إلى كل مكان من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم.

وأخطر ما في هذه الظاهرة هو ذلك الجانب اللامرئي فيها، وهو عالم الأفكار الذي منه ينسج خيال الحوافز، وتخلق المسوغات ويشرع لها، وتزود الإرادة بالطاقة والرغبة والإقدام على الفعل. وهذا يعني أن ظاهرة العنف والإرهاب ما تفشت في العالم الإسلامي إلا عندما تفشت الثقافة أو الإيديولوجية الحاضنة والمولِّدة لها، والمشجّعة عليها.

واللافت في الأمر هو كيف تفشت هذه الإيديولوجية بهذا المستوى من التجذر والامتداد، وبهذه القدرة على الفاعلية والتأثير، وكأنها الإيديولوجية الغالبة والمتفوقة على غيرها من المنظومات الثقافية الأخرى! أو كأنها الإيديولوجية التي كانت تنشط في غفلة عن تلك المنظومات الثقافية! أو كأن هذه المنظومات فقدت سحرها وبريقها، وتقلص نفوذها وتراجعت، تاركة الساحة لتلك الإيديولوجية تفعل فعلها في عقول الناس.

ومهما كانت التفسيرات ومعقوليتها أيضاً، يبقى أن الجميع أخذته الدهشة والحيرة، في أن يكون لمثل هذه الإيديولوجية العمياء كل هذا الحظ في التأثير والغلبة والانتشار. وبالشكل الذي جعلت فيه العالم الإسلامي يظهر في نظر العالم وكأنه مصدر ومنبع أفكار التطرف والعنف والكراهية، أو أنه تحول إلى مصدر خطر وتهديد على أمن وسلامة المجتمع الإنساني. ولن تتغير هذه الصورة في رؤية العالم الإسلامي إلى ذاته، أو في رؤية المجتمع الإنساني له، ما لم نتقدم باتجاه مكافحة هذه الظاهرة المرعبة، واجتثاثها من جذورها، وتجفيف منابعها الفكرية. وهذا يعني أن الإرهاب لم يعد مجرد ظاهرة عادية أو سطحية يمكن السكوت عليها أو التغاضي عنها، أو المرور بها دون التوقف عندها، والاهتمام بها. فقد أصبحت واحدة من أخطر الظواهر التي هي بحاجة إلى مجابهة، ومجابهة فكرية وثقافية بالذات، ذلك بعد أن تحول الإرهاب إلى نمط ذهني قابل للتعميم بين فئات الشباب خصوصاً.

ولم يعد الإرهاب أيضاً مجرد ظاهرة عابرة تتلاشى وتزول بنفسها، أو بانقضاء أجلها، وتنقطع كلياً بلا عودة أو انبعاث، ومن دون تدخل أو تأثير أو مواجهة.

كما أن الإرهاب لم يعد مجرد ظاهرة بسيطة تنحل وتضمحل بسهولة، فقد تحول إلى ظاهرة مركبة لا تخلو من تعقيد نتيجة تعدد وتداخل العناصر والأبعاد المؤثرة فيها، أو المتأثرة منها.

يضاف إلى ذلك أن الإرهاب ليس ظاهرة عدمية خالية من المعنى، حتى لو ظهر لنا فعل الإرهاب بصورة عدمية، وخالية من المعنى، أو نقيضاً في نظرنا لأي معنى له قيمة أخلاقية أو جمالية. فهذه الاستحالة لا تتناقض واعتبار أن هذه الظاهرة لها حقلها الدلالي، ومنطقها التأويلي، ولها بنيتها الثقافية، ومنابعها المرجعية. نقول هذا الكلام لكي نحيط بأبعاد هذه الظاهرة، ونصل إلى منطقها الداخلي، ونقبض على حقلها الدلالي.

وهذا يدعونا إلى تحويل الإرهاب إلى مقولة فكرية وثقافية، لكي نقوم بتشريح ثقافي لهذه المقولة. المهمة التي تتطلب الكشف عن جميع المعاني المتصلة بهذه الظاهرة، واستجلاء تمامية الحقل الدلالي لها، واستظهار منطقها التأويلي. من أجل الوصول إلى تلك النصوص والمقولات والتصورات التي تسوغ لفعل الإرهاب وتشرع له، وتحرض عليه. لنقدها وتفكيكها والإطاحة بها.

من هنا تتحدد الحاجة إلى التراث، من أجل الوصول إلى تلك النصوص والمقولات والتصورات، فالتراث هو مجالها وحقلها ومنبعها. والحاجة إلى الاجتهاد تتحدد لأجل نقد هذه النصوص والمقولات وتفكيكها، وتغيير صورتها المعرفية.

فالتراث يمثل المرجعية التمامية لمنظومة هذه النصوص والمقولات، وهذه المنظومة تحديداً هي من أكثر المنظومات الثقافية تراثية في النطاق الإسلامي، واستغراقاً في التراث، وتشبثاً به، بطريقة كما لو أنه في منزلة الدين، أو يتماهى مع الدين، وهذا هو جوهر المشكلة في هذه المنظومة. وعند تحليل هذه المشكلة في وجهتها العامة نجد أنها تتحدد في أمرين: الأول له طبيعة منهجية ويتصل بطريقة التعامل مع التراث، والثاني له طبيعة معرفية ويتصل بطريقة استنباط المعارف والأفكار.

إشكالية البعد المنهجي في هذه المنظومة تكمن في عدم وضوح المنهج، أو غيابه عند العودة إلى التراث والتعامل معه. والذي يحصل في مثل هذه الحالة هو الارتداد إلى عالم التراث بطريقة يصبح التراث هو العالم الكلي لأصحاب هذه المنظومة، وبالشكل الذي يجعل هؤلاء يعيشون القرن الحادي والعشرين، وكأنهم في القرن السابع أو الثامن الهجري، وبمنطق وذهنية ذلك العصر. أما هذا العصر فهو غائب عن الأذهان بإرادة أو دون إرادة، وهو العصر الذي يجهله أصحاب هذا المنطق ولا يعترفون به، ولا يريدون أن يمت لهم بصلة، لأنه عصر الجاهلية الحديثة حسب منطقهم وخطابهم.

ويتصل بهذه الإشكالية ويضاعف من حساسيتها إعطاء التراث صفة السلطة القاهرة التي تمثلت في جهتين: في جهة قوة حضور التراث، وشدة هيمنته على الأفكار والمعارف والمنهجيات، وفي جهة صعوبة التعامل معه أو الخروج عليه. نتيجة ما اكتسب من رهبة وهيبة كهيبة السلطة ورهبتها. إلى درجة لا يسمح حتى للنقد العلمي على شاكلة ما أشار إليه الدكتور طه جابر العلواني عندما أعد رسالته للدكتوراه عن فخر الدين الرازي وآرائه الأصولية، وتحقيق كتابه المحصول. وضمّن هذه الرسالة نقداً لبعض مواقف ابن تيمية تجاه فخر الدين الرازي، وحين رغبت إحدى الجامعات الإسلامية في دولة عربية في طباعة هذه الرسالة بقسميها الدراسي والتحقيقي، أحيلت كما يقول الدكتور العلواني إلى فاحصين، فاستبد بأحدهما الغضب، إلى درجة أنه أوصى الجامعة بإنهاء عقدها معه، وإخراجه من البلاد، لأنه لا مكان لمن ينتقد شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه البلاد مهما كانت دواعي ودوافع ذلك النقد([1]). وهذا نموذج من نماذج عديدة لسنا بصدد الإحاطة بها.

والتراث الذي لا يسمح بنقده تكون له منزلة الدين، برغبة أو دون رغبة، وتتقلص عندئذ الفروقات ما بين التراث والدين، ويكتسب التراث قداسة الدين الذي لا ينبغي أن يكتسبها على الإطلاق، حتى لا يحدث التماهي وتضيع الحدود بينهما، وهذا هو أخطر ما يمكن أن يحدث في العلاقة مع التراث.

وفي المنظور المعرفي يختلف التراث من حيث المعنى والطبيعة والمصدر والمجال عن الدين، فالتراث له صفة المنجز الفكري الإنساني، وهو من حيث الطبيعة له خاصية النسبي المتغير الذي يقبل الصواب والخطأ على مستوى النظر، وموافقة الحق والواقع أو مخالفتهما على مستوى العمل، ومصدره الإنسان، ومجاله الفكر.

أما الدين فهو ما كان مصدره الوحي كتاباً وسنةً، وصفته التنزيل الإلهي، ومن حيث الطبيعة له خاصية المطلق والثابت، الذي لا يقبل إلا الصواب وموافقة الحق والواقع.

هذا عن إشكالية البعد المنهجي في العلاقة مع التراث، أما إشكالية البعد المعرفي فتتحدد في جعل التراث المصدر الأساس إن لم يكن الوحيد في تكوين واستنباط المعارف والأفكار. حيث تصبح جميع المقولات والتصورات والبراهين والاستدلالات، وحتى الشخصيات والنماذج، منبعها ومصدرها هو التراث، وحسب الفهم الذي تحدد لها في تلك الأزمنة والعصور. وكأن المعرفة الإنسانية تظل ثابتة وجامدة دون حركة وتغير وتراكم. وهذا بخلاف منطق المعرفة وقوانينها، ومن أشد ما يناقضها. فالمعرفة لها حركة لا تهدأ ولا تتوقف، وتظل في حالة تراكم لا نهاية له، ولها خاصية العبور بين الأزمنة والأمكنة والعصور. فالمعرفة هي الأكثر عبوراً بين التاريخ، ولا يمكن حصرها وتحديدها، ولا حتى إيقافها في حقبة معينة من التاريخ، وهذا هو قوة المعرفة وسر عظمتها. فنحن اليوم ما نزال نتذكر تلك المعرفة التي وصلتنا من العصر اليوناني القديم، ونستعيد الحديث عنها بلا توقف، وهي المعرفة التي استطاعت أن تعبر كل هذا التاريخ الطويل، وتصل إلينا وكأنها جزء من معارفنا الراهنة، وسوف تصل لاحقاً إلى الأجيال من بعدنا.

فوجه الحاجة إذن إلى التراث يتحدد في أمرين:

الأول: من أجل الوصول إلى تلك النصوص والمقولات والتصورات، التي تشكل الإطار المرجعي لذهنية التطرف والعنف والإرهاب، وفحص ومراجعة ونقد تلك النصوص والمقولات والتصورات لتغيير منهج الفهم.

الثاني: من أجل نقد منهجية التعامل مع التراث، وطريقة استنباط المعارف والأفكار منه.

ـ 2 ـ
من منطق التراث إلى منطق الاجتهاد

في مقابل منطق التراث هناك منطق الاجتهاد، وهو منطق نقدي وتجاوزي للتراث. فالنظر إلى التراث حسب هذا المنطق ليس بقصد الاستغراق فيه، والانغلاق عليه، أو الاكتفاء به، والانقطاع عن العالم والعصر. وإنما الاستلهام منه وهضمه واستيعابه، والقدرة على تجاوزه أيضاً، لأنه تراث أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، كما جاء في قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}([2]).

والتجاوز ليس بمعنى إهمال التراث أو رفضه والانقطاع عنه، وإنما الإضافة إليه بالتطوير والتجديد، ومحاولة تقديم ما هو أرقى منه، وهذا هو منطق الاجتهاد([3]).

فالاجتهاد هو المفهوم الذي بإمكانه أن يقوم بالوظائف النقدية والمعرفية والتجديدية ذاتها التي يقوم بها مفهوم الحداثة في نطاق الفكر الغربي. وهذا يتوقف ويعتمد على طريقة فهمنا وتعاملنا مع مفهوم الاجتهاد، الذي هو بحاجة إلى إعادة اعتبار معرفي ومنهجي، وإلى إحياء من جديد ليكون في المستوى الذي يؤهله لأن ينهض بتلك الوظائف المعرفية والنقدية.

وفي نطاق هذه الوظائف المعرفية والنقدية تكمن فاعلية مفهوم الاجتهاد، في نقد وتفكيك وتفتيت بنية وذهنية التطرف والإرهاب، وتتجلى هذه الفاعلية في الأبعاد التالية:

أولاً: التحرر من الفهم الأحادي في تكوين المعرفة بالمفاهيم والمسائل والتصورات الدينية والشرعية والفكرية، والتعامل معها على أساس أنها تحتمل أكثر من معنى، وتتسع لأكثر من اجتهاد. وبالتالي عدم الانغلاق على فهم محدد، وعلى رؤية أحادية، وضرورة الانفتاح في المقابل على التصورات ووجهات النظر الأخرى. والتشدد والتعصب والتطرف إنما ينشأ ويتكوّن نتيجة الانغلاق على الفهم الأحادي، الذي يجعل العقل يضيق بهذا الأفق، ويتحول إلى عقل يصادم عقول الآخرين.

في حين أن منطق الاجتهاد يحفز العقل في تكوين المعرفة، على أساس الانفتاح والتواصل مع مختلف الثقافت وإن تعددت مصادرها ومنابعها.

ثانياً: التحرر من الفهم الجامد الذي لا يقبل التطور والتغير، أو التجدد والنقد. الفهم الذي يصطدم بتجددات الحياة، ومتغيرات العصر، وتحولات الزمن، ومقتضيات التقدم، وشرائط المستقبل. فالبقاء الجامد على فهم يرجع إلى القرون السالفة، دون ملاحظة قوانين الزمان والمكان والحال، وقوانين العقل والمعرفة، هو الذي يكون سبباً في خلق ذهنية تتصادم مع المدنية، وترفض التواصل مع العالم، والانفتاح على المعارف الإنسانية.

في حين أن منطق الاجتهاد يأبى على الإنسان أن يتمسك برأي أو فهم، يظل عليه دون فحص أو نقد، أو دون تعديل وتجديد. على طريقة ما يحدث في التعامل مع مفهوم الولاء والبراء، وهو أحد أكثر المفاهيم سبباً في خلق الصدام مع العالم، وفي رفض وكراهية الآخر المختلف. فهذا المفهوم يجري التعامل معه اليوم وكأننا ما زلنا في عصر الإسلام الأول، حين كان يشترط على الإنسان المسلم الذي يعتنق الإسلام، أن يظهر البراءة من المشركين علناً ويهجرهم، ويعلن الولاء للإسلام ويلتحق بمعسكره. والحال أننا في عصر يختلف كلياً عن ذلك العصر.

كما أن منطق الاجتهاد فيه مقاومة لعناصر الجمود، والتفكير السطحي، والنظر القشري، والاعوجاج والشلل الفكري. وهذه الحالات ما ظهرت وتفشت إلا في زمن التراجع الحضاري، الذي أصاب حركة الاجتهاد بالجمود والانغلاق، فتوقف ذلك التحريض المستمر والدؤوب في طلب العلم، وتحصيل المعرفة، ومضاعفة الجهد العلمي بلا توقف أو انقطاع([4]).

ثالثاً: إن الأصل في الاجتهاد هو الاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف، والإقرار بمبدأ التعدد والتنوع في الرأي، والرضا والتكيّف الإيجابي مع طبيعة هذا الواقع دون مصادمة أو ممانعة. وبالتالي لا يجوز حمل الناس على رأي واحد، وموقف واحد، ومنهج واحد، وسلوك واحد، وهذا من أشد ما يناقض ويصادم منطق الاجتهاد. فالحياة لا يمكن أن تستقيم بمنطق الرأي الواحد، بل هي عصية على هذا المنطق، ومن أشد من يعارض هذا المنطق هو المنطق نفسه.

والله سبحانه وتعالى حينما دعا الإنسان للنظر والتفكر في خلق السماوات والأرض، والسير والنظر في الأرض، من هذه المقاصد لكي يلتفت الإنسان إلى كل هذا التنوع والتعدد الموجود في كل شيء، في عالم السماوات، وعالم الأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الإنسان كذلك. وهذا هو قانون الكون، وسنة الحياة، وناموس الاجتماع الإنساني.

كما أن الاعتراف بحق الآخرين في الاختلاف يفترض أن يوجب ويشجع التواصل والانفتاح على أفكار الآخرين ووجهات نظرهم، وتكوين المعرفة بها. وهذا الذي يعطي قوة المعنى لحق الاختلاف، وإلا فلا معنى لحق الاختلاف دون التواصل والانفتاح مع من نختلف معهم. وهذا ما ترفضه ذهنية التطرف التي لا تعترف للآخرين بحق الاختلاف، لأنها لا ترى إلا ذاتها قابضة على الحق. وليس هناك ما هو أبلغ وأصدق في التعبير عن هذه الذهنية من أولئك الذين كانوا على مثل هذا النهج وتراجعوا عنه، وهم يتحدثون عن مظاهر الغلو في الدين، وفي مقدمة هذه المظاهر -حسب رأيهم- التعصب للرأي، وعدم الاعتراف بالرأي الآخر في الأمور الاجتهادية، والأمور المحتملة، وحين يشرحون هذا الأمر يقولون: «كثيراً ما يجعل الأمور الاجتهادية أموراً مقطوعة ويقينية، ليس فيها إلا قول واحد وهو قوله، ولا رأي إلا رأيه، فهو لا يسمع حجج الآخرين، ولا يفكر فيها، ولا يقارن كلامه بكلامهم، ويناظر حجته بحجتهم، ثم يأخذ ما يراه أنصع برهاناً وأرجح ميزاناً، والعجب أن منهم من يجيز لنفسه أن يجتهد في أغوص المسائل وأغمض القضايا، وهو غير أهل للاجتهاد، ولا يجيز لغيره من العلماء المتخصصين أن يجتهد كما اجتهد هو. فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل ما عداه، كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم، ومن واجبك أن تتبع، رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب، وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبداً!»([5]).

رابعاً: إن جوهر الاجتهاد هو إعمال العقل، فلا اجتهاد من دون إعمال للعقل. فالاجتهاد هو إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية باستفراغ الوسع، وبذل أقصى مستويات الجهد الفكري والعلمي والمنهجي، بالشكل الذي يحقق الاطمئنان النفسي والعلمي. ولهذا يؤجر المجتهد حتى لو لم يكن مصيباً، لكونه بذل جهداً مشكوراً من جهة، وحتى لا ينقطع عن الاجتهاد ويتوقف عندما لا يصيب من جهة أخرى.

ومن إعمال العقل الوصول إلى عقول الآخرين، على قاعدة أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله. ومتى ما حضر العقل غاب التعصب الذي هو منبت التطرف والإرهاب، ومتى ما حضر التعصب انغلق باب العقل. لأن التعصب لا يرى الحقيقة إلا في عقل صاحبه، ويخرج عقول الآخرين من دائرة الحقيقة. وهذا أخطر ما يصاب به العقل، وأكثر ما تصطدم به الحقيقة. الحقيقة التي تأبى أن تجتمع إلا في عقل واحد، فهذه ليست هي الحقيقة في منطق الحقيقة ذاتها. فالحقيقة هي تلك التي يتوزع نورها وإشعاعها على عقول الناس، ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة فعليه أن يصل إلى عقول الناس. وهذه هي الحكمة التي جُعلت ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

ولا شك أن من يصل إلى عقول الآخرين سوف يحترم هذه العقول حتى لو اختلف معها.

والتحجر والتعصب والتطرف إنما ينشأ ويتفشى في ظل تجميد العقل وإقفال بابه، أما الذي يُعمل عقله فإنه يأبى على نفسه أن يصاب بآفة التحجر أو التعصب أو التطرف، أو أن يوصف بالغلو والتكفير.

هذه هي فاعلية منطق الاجتهاد في نقد وتفكيك بنية الإرهاب التراثية، ومنظومته الذهنية.

ـ 3 ـ
نحو نقلة فكرية تمنع الإرهاب

لا شك أننا قد وصلنا إلى وضع فكري خطير للغاية، يستدعي من العالم العربي والإسلامي أن يطلق من داخله حركة تنوير واسعة وشاملة، تجابه وتحاصر ما تفشى في محيطه وبيئته من ظواهر التطرف والعنف والإرهاب. فأمام هذه الظاهرة المرعبة التي تتملّكها الرغبة في القتل بتمييز أو دون تمييز، وتحصد معها الكثير من الأرواح البريئة والمعصومة، ولا تستثنى منها الأطفال والنساء والشيوخ، وهم الفئات الضعيفة التي أمرتنا جميع الشرائع السماوية والمواثيق الإنسانية بمساعدتهم وحمايتهم، والإحسان إليهم، أمام هذه الظاهرة كان لابد من انبعاث حركة تنويرية تكون رداً شافياً على تلك الظاهرة المتحجرة، ومجابهةً وعلاجاً لها.

وكون هذه الظاهرة تنسب نفسها إلى الإسلام فهذا يستدعي من الفكر الإسلامي التنويري أن يتخذ استراتيجية جديدة تجعل من هذا العصر عصراً يخوض فيه الفكر الإسلامي تجربته النقدية. وهي المهمة التي تأخرنا كثيراً في إنجازها، ودفعنا ثمناً باهضاً بسبب هذا التأخر، وكنا نخشى ونتهيب من الإقدام على هذه المهمة، وعطلنا بسبب ذلك ملكة النقد، إلى أن وصلنا إلى مثل هذه الأوضاع التي تظهر وكأننا دخلنا عصر القرون الوسطى، التي جربتها أوروبا من قبل.

فقد أصبح العقل هو الغائب الأكبر في حياتنا، وهو أكثر ما ينبغي أن نفتش عنه اليوم، وذلك بعد أن أصبح التعصب والتطرف والعنف يتغلغل في صفوف أفضل وأثمن الطاقات في الأمة وهم الشباب، ويحولهم إلى عقول بلا أمل بالمستقبل، وبلا سعي أو تطلع نحو التقدم والتمدن، وهم الطاقات التي لا ترى الأمم الأمل بالمستقبل دونهم، ولا تنظر إلى التقدم إلا من خلالهم.

لهذا فإنه لم يعد بالإمكان مواجهة هذه الإيديولوجية، بعد كل هذا التضخم والتوسع والانتشار الذي وصلت إليه، إلا بأن يبدأ الفكر الإسلامي عصراً نقدياً، تكون مهمته تفكيك البنى المفاهيمية لهذه الإيديولوجية، وتقويض مرتكزاتها الذهنية، والإطاحة بكل منظومتها، والارتداد بها إلى الوراء دون عودة.

ولن تنجح هذه المهمة إلا إذا أطلقنا طاقة العقل، وأصبحنا من الذين لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فالعقل هو القوة الطاردة لتلك الإيديولوجية، والذي يزود الإنسان بحاسة الإبصار والتدبر والتفكر، والنظر في عواقب الأمور، في حين أن هذه الإيديولوجية تعمل على إقفال العقل، وتجميد الفكر، وفي ظل هذا المناخ تنشط، وتتمدد، لكنها تتراجع وتنكمش متى ما حضر العقل.

والمقصود بعصر النقد هو العصر الذي نطلق فيه طاقة العقل، ونجعل من النقد أداة لإعمال العقل، وهو العصر الذي يضع فيه الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ويشعرون بالشجاعة في إعمال العقل، ويعيبون على الذي ينتقص من عقله، ولا يبذل جهده في إعمال عقله. وهو العصر الذي يكون التواصل فيه بين الناس إعمالاً للعقل، ومصداقاً إلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

ولن ننجز بالتأكيد هذه المهمة سريعاً وعاجلاً، أو بين ليلة وضحاها، وإنما نحتاج إلى عصر بأكمله، بحيث نعطيه وصف عصر النقد، ونؤرخ له لاحقاً بهذا الوصف، ونميزه به، وذلك حتى يتحكم العقل في حياتنا، ويصبح الناس يتحاكمون إلى العقل، الذي هو عقال من الجهل. ولا ينبغي الخوف من العقل، فليس من العقل أن نخاف من العقل، فهو أعظم طاقة زود الله بها الإنسان، وبه أصبح الإنسان مكرماً، ومكلفاً بالأمانة التي أبت أن تحملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وما خلق الله خلقاً أعظم منه، ولا أطوع منه. وهو كما قال عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت في مفتتح كتابه (مقال عن المنهج): «أحسن الأشياء توزعاً بالتساوي بين الناس، إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية»([6]).

وما نريد إنجازه في هذا العصر النقدي، وفي إطار حركة التنوير التي نتطلع إليها، هو إحداث نقلة فكرية تجابه وتحاصر إيديولوجية العنف والتعصب والإرهاب، وتطيح بها. وتتحدد هذه النقلة الفكرية في الأبعاد التالية:

أولاً: إصلاح الرؤية إلى العالم من ذهنية القطيعة والصدام إلى ذهنية التواصل والانفتاح

هناك اختلال عميق في منظورات رؤية إيديولوجية التطرف إلى العالم، التي تحاول أن تصادمه، وتنقطع عنه، وترفض الاندماج فيه، باحثة عن عالم خاص بها، حتى تتكيف معه حسب نماذجها الفكرية وقواعدها السلوكية، بالعودة إلى الماضي بطريقة ارتدادية لتجعل منه مصدر استلهام لها.

والقاعدة الفكرية التي تنطلق منها هذه الإيديولوجية في تكوين رؤيتها إلى العالم، هي قاعدة تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام، أو تقسيم العالم إلى فسطاطين أو معسكرين متصادمين، وهذه أخطر رؤية في تشكيل الرؤية إلى العالم. وتكشف هذه الرؤية عن عجز علمي كبير في فهم العالم وتكوين المعرفة به، وتكشف أيضاً عن التباس خطير في طريقة التعامل معه.

ويناقض هذه الرؤية ويصادمها تلك الرؤية البديعة والخلاّقة التي جاءت على لسان الإمام علي (عليه السلام) في قوله: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، بهذا المنظور الذي تتجلى فيه النزعة الإنسانية، ينبغي أن نشكل رؤيتنا إلى العالم، إلى جانب ما دعا إليه القرآن الكريم في الدعوة إلى التعارف بين الناس كافة شعوباً وقبائل، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْْ}([7]).

ومن هذه الآية استنبطت مفهوماً اصطلحت عليه تعارف الحضارات، وهو المفهوم الذي وجدته معبراً عن الرؤية الإسلامية في مجال العلاقة بين الناس كافة، شعوباً وقبائل، جماعات ومجتمعات، صغيرة وكبيرة، وهذا المعنى يشمل اليوم الدول والمجتمعات وحتى الحضارات.

ثانياً: من التعصب إلى التسامح

لقد تراجع كثيراً مفهوم التسامح في المجال الإسلامي، وغاب عن الاهتمام لزمن طويل، وتقلصت الكتابات الإسلامية في الحديث عنه، وباتت معدودة جداً. وقد ارتبطت معظم هذه الكتابات على قلتها بدائرة المنافحة والمقارعة والسجال، ورد الاتهامات والشبهات الموجهة إلى الإسلام، وبالذات تلك الصادرة من المستشرقين الأوروبيين. وفي هذا النطاق يأتي كتاب الشيخ محمد الغزالي (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) إلى جانب كتابات أخرى.

وقد أشار الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) إلى تراجع مفهوم التسامح عند المسلمين، بمن فيهم العلماء المفكرون، وكيف تقلص وغاب عن الأذهان، وحسب قوله: «إن البحث عن تسامح الإسلام لمن أهم المباحث للناظر في حقائق هذا الدين القويم، فإن كثيراً من العلماء ومن المفكرين من المسلمين وغيرهم، لا يتصور معنى سماحة الإسلام حق تصورها، وربما اعتقدوا أنها غير موجودة في الإسلام، وربما اعتقد مثبتوها أحوالاً لها تزيد في حقيقتها أو تنقصها عما هي عليه. ولقد نجد بعض العذر لهؤلاء في هذا الخطأ المختلف. لأنهم قد يشاهدون من أحوال عامة المسلمين في كثير من عصور التاريخ ما يكوّن صورة يجعلونها حقيقة للتاريخ، فيخالفون بذلك صورة حقيقة مائلة في الخارج قائمة عليها شواهدها. على أن بعضاً من المسلمين قد حملهم على تناسي التسامح الإسلامي ما يلاقيهم به بعض أهل الملل الأخرى، من صلابة المعاملة وسوء الطوية وتبيُّن الشر وتربُّص الدوائر، واستغلال ما للمسلمين من تسامح لتحصيل فوائدهم، وإدخال الرزايا على المسلمين، مما يبعث المسلمين إلى أخذ الحذر والمعاملة بالمثل طيلة القرون، حتى أنساهم تسامحهم كما يقول المثل: الدَّرُّ يُذهبه جفاء الحالب. ولكن هذا له مجال آخر فلا يكون ذلك باعثاً على تحريف معنى التسامح، على أن هذه المعاملة قد لقيها المسلمون في كل العصور، في وقت ظهور الدين فلم يكن ذلك حائلاً بين المسلمين وبين تخلقهم بخلق التسامح واكتساب فضائله، مع العلم بما ينالهم من جرائه من متاعب الحذر، فإن محاسن الخلال لا يشينها ما قد يضيع بسببها من المنافع، وعلى المتخلق بالفضائل ألَّا ينبذها لذلك، ولكن أن يأخذ الحيطة لدفع مكارهها. لأجل هذا نرى حقاً علينا أن نفيض في بيان معنى التسامح الإسلامي، ومواقعه ونكثر من شواهده، وشواهد أضداده، حتى ينجلي واضحاً بيِّناً لا يقبل تحريفاً لمعناه ولا شك في مغزاه»([8]).

لهذا فنحن بحاجة إلى إحياء جديد لمفهوم التسامح، وتأكيد ربطه بالمجال الإسلامي، بعد أن كان مجاله الأساس يرتبط بالعلاقة مع المغاير والمختلف عن الدين الإسلامي. فالشيخ ابن عاشور يرى أن التسامح يتحدد في «إبداء السماحة للمخالفين للمسلمين بالدين، وهو لفظ اصطلح عليه العلماء الباحثون عن الأديان من المتأخرين من أواخر القرن الماضي الهجري، أخذاً بالحديث النبوي: بعثت بالحنيفية السمحة. فقد صار هذا اللفظ حقيقة عرفية في هذا المعنى. وربما عبّروا عن معناه سالفاً بلفظ تساهل، وهو مرادف له في اللغة. ولكن الاصطلاح الذي خصّ لفظ التسامح بمعنى السماحة الخاصة تلقاء المخالفين في الدين، كان حقيقاً بأن يترك مرادفه في أصل معناه. فلذلك هجروا لفظ التساهل، إذ كان يؤذن بقلة تمسك المسلم بدينه، فتعين لفظ التسامح للتعبير عن هذا المعنى، وهو لفظ رشيق الدلالة على المعنى المقصود، ولا ينبغي استبداله بغيره»([9]).

وإذا كان التسامح ينبعث في المجتمعات التي تُبتلى بالنزاعات الفكرية، وتظهر فيها الصدامات الدينية أو الحروب الدينية، فنحن مرّت علينا وما تزال تمر علينا مثل هذه النزاعات والصدامات الفكرية والمذهبية، فلماذا لم ينبعث التسامح فينا، مع ما في الإسلام من منابع غنية وثرية وخلاّقة في هذا الشأن، فالرحمة هي سمة الدين الإسلامي {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}([10]) والسماحة هي أكثر ما وصفت بها الشريعة الإسلامية، حيث عرفت بالشريعة السمحة، ومن يكتسب المعرفة بهذه الشريعة يطلق عليه صاحب السماحة. فأين ذهب كل هذا التسامح؟

ثالثاً: من إلغاء الآخر إلى اكتشافه

لعلنا اليوم بأمس الحاجة للنهوض بمراجعات جذرية وعميقة وجادة، تعيد لنا فهم الآخر والتعرف عليه، واكتشافه بصورة مختلفة، عن تلك الصورة النمطية المتوارثة والملتبسة.

فهناك تراث متراكم في الخطاب الثقافي والديني والتاريخي لا يرى في الآخر إلا كافراً ومشركاً، ضالاً ومبتدعاً، عدواً ومتآمراً، لا ينبغي التعامل معه إلا بمنطق الخصومة والقطيعة والصدام، وتطبيق قاعدة عقوبة هجر المبتدع. وقد تكرس بسبب هذا الخطاب كراهية الآخر، وإلغاؤه وإقصاؤه. في حين ينبغي أن نعلم أن الآخر ليس شراً محضاً، ونحن لسنا خيراً محضاً. بهذا المعيار ينبغي أن ننظر إلى الآخر ونتعامل معه، وننظر لأنفسنا ونتعامل معها. ولا يجوز أن نزكي أنفسنا وقد نهانا القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}([11]) لهذا ينبغي أن نتخلى عن الطريقة التي ننظر بها لأنفسنا حين نبالغ في تزكيتها، وفي الطريقة التي ننظر بها إلى الآخر حين نبالغ في تجريحه.

والآخر هنا يشمل كل من نختلف معه في نطاق الدائرة الإسلامية أو خارجها.

رابعاً: الدفاع عن المعنى الحضاري للإسلام

من أبرز المقولات التي دافع عنها رجالات عصر الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلادي، مقولة نفي التعارض بين الإسلام والمدنية، وبرهنوا كيف أن الدين يتناغم مع المدنية، وكيف أن المدنية تتناغم مع الدين. وقدموا في هذا المجال العديد من الأفكار والتصورات اللامعة والذكية، التي تُصور الفهم الحضاري للإسلام. وللدفاع عن هذه القضية خصص الشيخ محمد عبده كتاباً هو من أبدع مؤلفاته، واختار له عنواناً معبراً هو (الإسلام دين العلم والمدنية)، حيث اعتبر فيه «أن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبداً، لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله»([12]).

ومن قبل الشيخ محمد عبده نظر الشيخ رفاعة الطهطاوي في مفهوم التمدن، وخلص برأي قال عنه: «ويفهم مما قلناه أن للتمدن أصلين: معنوي وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، ويعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التي تسمى باسم دينها وجنسها للتمييز عن غيرها. والقسم الثاني تمدن مادي وهو التقدم في المنافع العمومية»([13]).

وتواصل هذا المنحى الحضاري في القرن العشرين مع مفكرين أمثال محمد إقبال في الهند، ومالك بن نبي في الجزائر، والسيد محمد باقر الصدر في العراق، إلى جانب آخرين أيضاً.

لهذا فإن انبعاث إيديولوجية التطرف والتعصب يمثل نكسة ثقافية وتراجعاً فكرياً خطيراً عن المنحى الحضاري في الإسلام. وهي الإيديولوجية التي تصور الدين وكأن مكانه القرى والأرياف والكهوف، وتقدمه بطريقة بدائية ومتخلفة ولا تخلو من وحشية. ولن تتراجع هذه الإيديولوجية إلا باستعادة الفهم الحضاري للإسلام، الذي يتناغم مع المدنية، ويتواصل مع العالم، وينفتح على المعرفة الإنسانية.

خامساً: تحرير مفهوم الجهاد

لقد وقع مفهوم الجهاد في لبس خطير، واختطف من قبل أولئك الذين أساؤوا لهذا المفهوم، وغاب عن الأذهان المفهوم الشامل للجهاد. فالمجاهدون بحسب هذا المفهوم الشامل، هم أولئك المعلمون في مدارسهم، والأساتذة في جامعاتهم، والمهنيون في معاهدهم، والفنيون في مصانعهم، والخبراء في معاملهم، هؤلاء هم المجاهدون الذين يبنون الإنسان، ويعمرون الأوطان. وكل أولئك الذين يدافعون عن الإنسان ويحمون الأوطان. والجهاد الذي نريده في هذا العصر هو في بناء مدارسنا، وتطوير جامعاتنا، وتحديث معاهدنا، والارتقاء بمصانعنا، وهو في معالجة الفقر والبطالة، ومكافحة الجهل والأمية، وفي حب المعرفة، وطلب العلم ولو بالصين، وهو في صناعة الإبرة والصاروخ، وفي تأمين الحياة الكريمة للإنسان، وهو في السير على طريق التقدم، وفي بناء المدنية، هذه هي معركة الإسلام الحقيقية.

سادساً: التأكيد على النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام

انطلاقاً من قاعدة أن الدين هو المعاملة، وأن الله يأمر بالعدل والإحسان، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق. ولتأكيد هذا المنحى ينبغي استعادة الحديث عن تلك الأصول التي تحدث عنها الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام دين العلم والمدنية) واعتبرها من أصول الإسلام، وهي:

الأصل الأول: النظر العقلي لتحصيل الإيمان. فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، وهو وسيلة الإيمان الصحيح.

الأصل الثاني: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، ويكون أمام النقل طريقان، طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.

الأصل الثالث: البعد عن التكفير. فلقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم، أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر.

الأصل الرابع: الاعتبار بسنن الله في الخلق. فإن لله في الأمم والأكوان سنناً لا تتبدل، والسنن هي الطرق الثابتة التي تجري عليها الشؤون، وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها بالقوانين.

الأصل الخامس: قلب السلطة الدينية. حيث هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها، ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه. وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر.

الأصل السادس: حماية الدعوة لمنع الفتنة. قالوا إن الدين الإسلامي دين جهادي شرع فيه القتال، ولم يكن شرع في الدين المسيحي، ففي طبيعة الدين روح الشدة على من يخالفه، وليس فيه ذلك الصبر والاحتمال اللذان تقضي بهما شريعة المسالمة. وليس القتال في طبيعة الإسلام بل في طبيعته العفو والمسامحة، ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله، إلى أن يأمن شرهم، ويضمن السلامة من غوائلهم، ولم يكن ذلك للإكراه على الدين، والانتقام من مخالفيه.

الأصل السابع: مودة المخالفين في العقيدة. أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية كانت أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعها.

الأصل الثامن: الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة. الحياة في الإسلام مقدمة على الدين، وأوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف العبد إلى ربه، وتملأ قلبه من رهبة، وتفعم أمله من رغبة، فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا تجشمه في ترك اللذات ما فوق العادة، وفرض الصوم على المؤمن لكن إذا خشي منه المرض، أو زيادته، أو زادت المشقة فيه، جاز تركه، بل قد يجب إذا غلب على الظن الضرر فيه([14]).

وقد أراد الشيخ محمد عبده أن يؤكد من خلال هذه الأصول على النزعة العقلانية والإنسانية للدين، وما يتصف به من تسامح مع المخالفين، ومع انسجامه مع الحياة، وتوافقه مع السنن والقوانين العامة، لكي يؤكد على العلاقة بين الدين والمدنية.

وبإنجاز هذه المهام نستطيع أن نحدث نقلة فكرية تمنع الإرهاب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

 

 


 



* ورقة مقدمة لندوة فكرية عن الإرهاب عقدت في العاصمة الأردنية عمان، في الفترة ما بين 25ـ 27 مارس 2006م.

([1]) طه جابر العلواني. ابن تيمية وإسلامية المعرفة، عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م، ص15.

([2]) سورة البقرة، الآية 134.

([3]) زكي الميلاد. من التراث إلى الاجتهاد.. الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004م، ص7.

([4]) زكي الميلاد. المصدر نفسه. ص285.

([5]) ناجح إبراهيم عبد الله وعلي محمد علي الشريف. حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 2002م، ص27. نقلاً عن كتاب: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، الشيخ يوسف القرضاوي.

([6]) رينيه ديكارت. مقال عن المنهج، ترجمة: محمود الخضيري، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م، ص69.

([7]) سورة الحجرات، الآية 13.

([8]) محمد الطاهر بن عاشور. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: الشركة التونسية، دون تاريخ، ص227.

([9]) محمد الطاهر بن عاشور. المصدر نفسه، ص227.

([10]) سورة الأنبياء. الآية 107.

([11]) سورة النجم. الآية 32.

([12]) الشيخ محمد عبده. الإسلام دين العلم والمدنية، تحقيق: عاطف العراقي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص181.

([13]) رفاعة الطهطاوي. مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية، ص6.

([14]) الشيخ محمد عبده. الإسلام دين العلم والمدنية، مصدر سابق، ص130.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة