تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تحديث أبنية الفكر الاسلامي

أحمد شهاب

مدخل

الورقة تتلمس بعض الجهود التي بُذلت في سبيل تحديث أبنية الفكر الإسلامي المعاصر سواء في بعده السياسي والاجتماعي أو الثقافي والفكري، فثمة محاولات حدثت وتحدث في كل الاتجاهات والمجالات تستهدف تحديث فلسفة قائمة أو استنباط فلسفة جديدة، في مسعى لإخراج العالم الإسلامي من المربع الأول الذي توقف فيه، ومواكبة التطورات والقفزات التي خطا العالم المتقدم نحوها.

ومنذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى هذه الساعة لوحظ ميل الخطاب الإسلامي إلى التمسك بإعادة الإنجازات الفكرية والعلمية الحديثة إلى جهود المسلمين الأوائل إذ «إن الإفرنج يعترفون لنا بأننا كنا أساتيذهم في سائر العلوم وبقدمنا عليهم»([1]). ووجد آخر أن «مخالطة الأوروباويين للأمة الإسلامية المتقدمة عليهم في التمدن والحضارة كان ابتداء التمدن عندهم»([2])، ويقول ثالث: «أتى على الفكر الأوروبي زمن تلقى فيه وحي النهضة عن العالم الإسلامي»([3]) وترتب على هذه المقولات قناعات فكرية بعجز العالم الإسلامي عن الخطو في موكب الحضارة دون الركون إلى التراث.

وظهرت مدارس دينية تتبنى رؤية تُقدس التُّراث وتتبنى جلبه إلى الحياة الراهنة، فتأصلت أبعاد سلفية في الفكر الإسلامي، وكان من النتائج الطبيعية لذلك التأصيل بروز العديد من صور التعارض والتناقض بل والصدام بين ما هو عصري وما هو حداثي، وبين ما هو جديد وما هو قديم، إذ من المفترض أن تسير العلاقة مع التراث في سياقها الطبيعي بصفته أحد الروافد الفكرية والروحية للأمة، وليس بصفته حاكماً على الحاضر والمستقبل([4]).

من جهة أخرى أدى ذلك الميل إلى خلق مناخ عام يتخذ مواقف معادية ومناوئة للإنجازات المعرفية التي لم يجدوا لها تأصيلاً في التراث الإسلامي، بما ساهم في خلق غربة نفسية عن العالم الحديث رغم اختلاطهم به وتماهيهم مع أكثر إنتاجاته وإنجازاته. فقد أصبح المسلم المعاصر يسكن في العصر الحديث والحضارة الجديدة ولا يعيشها، بل إن متابعة موضوعية لإنتاج العديد من المفكرين في العالم الاسلامي تُظهر لنا مدى التضارب الفكري عند الشخص الواحد حيث تتنازعه رغبتان: إحداهما تدعوه إلى التجديد الفكري وصعود موجاته بكل قوة، وأخرى تضغط عليه للعودة إلى الفكر التقليدي والتزام تحفظاته بكل حزم.

ولعل هذا ما يُحفزنا للتنقيب عن الجهود الفكرية التي تحاول أن تُحدِّث نظرتها إلى الإسلام، دون أن يدفعنا الإعجاب بجهود مفكِّر إلى التسليم بكل مقولاته ومجهوداته، إن الدعوة إلى التمييز والانتقال بالعلاقة من صيغها العاطفية إلى صيغها الموضوعية النقدية، هي حاجة منطقية تدعونا إليها الحاجة إلى استثمار المعرفة ضمن سياق تجديد الحياة، من أجل ألَّا يتم توظيف العلم في تبرير وتأصيل الأفكار والتقاليد والمعارف السائدة، فالعقل النقدي والمتميز عن أقرانه هو وحده الذي يستطيع أن ينجو من أسر المسلمات والبَدَهِيَّات متى ما اتضح له بطلانها.

تحديات الفكر في زمن جديد

إن طبيعة التحديات التي خالجت المجتمعات الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وما رافقها من ضعف ثم انهيار الخلافة العثمانية مع ما كانت تمثله من إطار إسلامي تقليدي له بُعد رمزي في الوجدان الإسلامي العام، وتوافد ثقافة غربية فرضت أمام المسلم المعاصر بمدارسه الدينية والعلمية المتنوعة أسئلة جديدة تسببت في إحداث هزة عنيفة ارتدت بصورة تيارات وخطوط فكرية برزت في المجتمع الإسلامي وعرضت استفهامات جديدة تُطرح لأول مرة أمام الباحث المسلم الذي حاول الإجابة عنها بطرق مختلفة، وانشغلت أغلب التيارات الإسلامية بمواجهة الاستعمار والتحديات الكبيرة التي فُرضت عليها، فأولت من جهتها عناية لكل ما هو جهادي وعملي وتنظيمي في محاولة لبعث الأمة من رقادها، في حين كان نصيب الجانب الفكري ضئيلاً مقارنة بالجوانب السياسية والاجتماعية.

ما يمكن استثناؤه من هذه القاعدة هو الفقه الفردي الذي حظي بتجديد مستمر عند كافة المذاهب الإسلامية، وبرز هذا الاهتمام بصورة لافتة عند الطائفة الشيعية بحكم ظروف انعزالها عن الشأن السياسي، فقد ظلت تؤكد حق الفقيه بالاجتهاد والتجديد واستمرار عملية استنباط الحكم الشرعي في قضاياها المستحدثة، رغم أن حركة التطوير الفقهي عند المذهبين السني والشيعي عانت من عقبات كثيرة، كان من أبرزها اعتمادها على مجموعة كتب دراسية تراثية وعدد من فقهاء وأسلاف كل طائفة، والتوقف عندهم والرهبة من تجاوز أستذة الماضين، وهو ما دفع عدد من العلماء النابهين للتصدي لهذه المعضلة وطرح معالجات جريئة ومناهج بديلة في مسعى جدي لتجاوز منهج التوقف عند أقوال بعض المجتهدين وأئمة العلم.

في حين لم يحظَ المعقول الإسلامي بالعناية والاهتمام الكافيين في أغلب الحواضر الإسلامية، ولم تلقَ المعارف العقلية النصيب الذي تستحقه، دون التنكر لبعض الإسهامات والمحاولات الجادة كآثار الفيلسوف محمد إقبال (1873 - 1938) في النصف الأول من القرن العشرين، وآثار السيد محمد حسين الطباطبائي (1892 - 1981) في النصف الثاني من القرن ذاته.

يُحسب لـ«محمد إقبال» جرأته على تبني الأطروحات الفلسفية الغربية المعاصرة في وقت مبكر من القرن المنصرم. فـ«الفكر الإسلامي مازال لدى كثير من ممثليه يتخذ موقفاً اندفاعياً وانفعالياً تجاه الفلسفة الغربية، فلم يحاول الفكر الإسلامي اتخاذ موقف من فلسفة كلّ من كانْت وهيجل وماركس ونيتشه وبرجسون إلا ابتداءً من محمد إقبال»([5]).

وأمام حملة التشكيك التي وضع الفكر الإسلامي فيها تحت مجهر الاختبار والتحدي، برز كتاب إقبال «تجديد التفكير الديني في الاسلام»([6]) ليثبت قدرة الفكر الإسلامي على مزاولة التجديد في مسعى جدي نحو بناء فلسفة إسلامية جديدة تأخذ المأثور من الفلسفة الإسلامية إلى جانب ما وصلت إليه تطورات المعرفة الإنسانية. وانتقد إقبال ملاحقة المسلمين للفلسفة اليونانية فهي وإن أدَّت إلى توسعة آفاق النظر العقلي عند المسلمين إلا أنها وضعت غشاوة على أعينهم حرمتهم من فهم القرآن الكريم.

يؤكد إقبال أن القرآن الكريم كتاب للعمل قبل أن يكون كتاب للنظريات والآراء، فقمة التوازن في الفلسفة الإسلامية عند إقبال هي عودتها إلى الفلسفة العملية التي دعا إليها القرآن في محكم آياته، وعليه فإن تقدم الإنسان المسلم إلى ساحة العمل والإنتاج وتلقي العلوم التطبيقية([7]) يُعتبر الأولوية التي ينبغي لمسلمين أن يولوها عنايتهم.

بالنسبة للمدارس الشيعية التقليدية فهي بصورة عامة لم تكن بعيدة عن مجال العلوم العقلية، وظلت علوم الفلسفة والحكمة والمنطق والكلام وغيرها تدرس في العديد من المدارس والحوزات العلمية، لكن «الدروس العقلية» وبالذات الفلسفة لم تخرج في تلك الفترة عن التلقين والترديد والشروح لما أقره ودوَّنه قدماء الفلاسفة، في ظاهرة اعتبرها بعض المهتمين نكوصاً عقلياً داخَل المسلمين آنذاك، ويمكن رد تلك الظاهرة لأسباب عديدة منها:

1- إن غالبية المسلمين اعتبرت العلوم العقلية وبالذات العلوم الفلسفية، علوماً غريبة عن البيئة الإسلامية.

2- إن اللغة الفلسفية لغة علمية دقيقة لا تشجع الطلبة على الانخراط في حلقاتها العلمية، إلا للقلة الراغبين في هذه النوعية من العلوم والمعارف.

3- سيادة تصور عام بأن الفلسفة والعلوم العقلية عبارة عن مفاهيم نظرية مجردة ومنفصلة عن الواقع.

وقد بذل السيد محمد حسين الطباطبائي من جهته جهوداً مشهودة في طريق تغيير هذه الحال، فمن جهة دشن منهج التجديد في «النظر الفلسفي» وتجاوز الدرس التقليدي للفلسفة ليربطه بوصفها علماً بالحياة المعاصرة، ومن جهة أخرى بذل جهداً واسعاً في صياغة الموقف النظري للإسلام حيال حاجات العصر المتجددة، وإعادة بناء العلوم الإسلامية، وسعى مع نخبة من معاصريه الى تجسير العلاقة بين النصوص المقدسة والحياة المعاصرة، وإعادة الاعتبار إلى الثقافة الإسلامية ككل، ليس بوصفه ثقافة هامشية وعناوين وشعارات وصيحات عامة كما هو السائد بل بوصفه ثقافة حية تعتمد الدقة والرصانة العلمية.

لعل أبرز ما يميز العلامة الطباطبائي من غيره من الفلاسفة قدرته الإبداعية، وقدرته الفائقة على تقديم أسس ومنطلقات منهجية لدراسة الفلسفة الإسلامية، فهو:

1- اعتمد البرهان أسلوباً في عملية الاستدلال وتجاوز الاعتماد على الشعر والعبارات العرفانية كما نلاحظه عند فلاسفة الإشراق.

2- اعتمد منهج البحث المقارن واعتنى بعرض مختلف المدارس الفلسفية الإسلامية ونقدها، كما اهتم بعرض ومقارنة الفلسفة الإسلامية بنظيرتها الأوروبية الحديثة.

3- استلهم الفلسفة الإلهية من الكتاب والسنة وبرز ذلك واضحاً في بحوثه الواردة في تفسيره المعروف بتفسير الميزان، وكذلك في محاوراته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان.

4- أعاد اكتشاف إبداع وريادة الفلسفة الإسلامية وبدد الشبهات التي كررها البعض بنفي شيء اسمه فلسفة إسلامية، وأن الموجود هو فلسفة يونانية مخطوطة بحروف عربية.

5- حرر البحث الفلسفي مما دثره من طبيعة كلاسيكية مفرطة، وربطه بالهموم المعرفية الراهنة.

وخطا خطوة جديرة بالاهتمام حين أنشأ أول حلقة نقاش فلسفي في البلاد الإسلامية على غرار حلقة بحث جامعة فينا الشهيرة في أوائل العشرينات من القرن المنصرم، وحلقة بحث فرانكفورت في أوائل الثلاثينات من القرن ذاته، وقد عدها أحد الباحثين([8]) من أهم الحلقات الفلسفية التي نشأت في العالم الإسلامي خلال المئة عام المنصرمة. وقد ضمت الحلقة الشيخ مرتضى مطهري، الدكتور محمد حسين البهشتي، الشيخ علي القدوسي، الدكتور مفتح، الشيخ محمد حسين منتظري، السيد موسى الصدر، وغيرهم ممن برزت مساعيهم الجادة في سوح التجديد الفكري والعمل الإصلاحي وتفعيل مفهوم الاجتهاد بصيغه المعاصرة، والتعاطي مع التنوع الفكري بعقل مستنير، وبروح الباحث عن الحقيقة، وما كان ليتم ذلك دون محاكاة المقولات الفلسفية بعقل مفتوح وتفعيل حركة نقد الفكر الفلسفي، وتنشيط الذهنية العلمية بصورة عامة.

إطلاله فكرية على الحاضر

في سياق مماثل تنبه الشيخ مرتضى مطهري (1918 - 1979) إلى أهمية تعميق نزعة التفكير الحر التي مارسها المسلمون الأوائل دون الخشية أو القلق من نقد المغايرين، معتبراً ممارسة النقد والقييم دليل صحة وعافية الجسد الإسلامي. إن ما يُميز مطهري الذي ينتمي رسمياً إلى سلك علماء الدين أطروحاته غير التقليدية للأفكار الإسلامية، وقدرته على خلق خطاب إسلامي جاذب يتجاوز الخطاب التقليدي لرجال الدين دون أن يسقط في فخ الالتقاطية والانتقائية، وذلك على خلاف تيار الإسلام التقليدي الذي ينظر بتوجس وريبة إلى الفكر المخالف، فيحاول جاهداً الحفاظ على الخطاب الإسلامي بصيغ جامدة تفتقر لروح التجديد والمواكبة.

وفي سياق دعم الحركة النقدية ومواجهة الفكر الآخر بعقل مفتوح، وبموضوعية شجاعة، دعا المطهري إلى ضرورة تدريس الماركسية في كلية الإلهيات شريطة ألَّا يقوم بذلك مسلم، وإنما أستاذ يتفهم الماركسية، ويؤمن بها حقًّا، ولا يؤمن بالله حقًّا، ثم يأتي دورنا كما يقول مطهري لنقول ما لدينا ونعرض منطقنا، ولا يُرغم أحد على قبول هذا المنطق.

إن هذا الطراز الفريد من المفكرين فقدته الحركة الإسلامية في لحظة كانت في أوج الحاجة إلى أمثاله، حتى تستمر مسيرتها السياسية والتنظيمية إلى جنب حركتها وانفتاحها الفكري دون تباين، ويمكننا هنا أن نسجل ملاحظة جديرة بالاهتمام تتعلق بالضعف الذي عانت منه الحركة الإسلامية في مراحل مختلفة من مسيرتها الحافلة بالنضال والكفاح على جميع الأصعدة، إذ إن الافتراق بين الفكر والحركة، أو بين المنظرين والمناضلين، أدى إلى تفشي نوع من الضعف والانخفاض في إمكانات الحركة الإسلامية، نالت من نوعية إنجازاتها.

طرح الشيخ مطهري مجموعة من المفاهيم المحركة للجماعات الإسلامية مثل مفهوم الجهاد والثورة والشهادة والإيمان والتوكل والنهضة وعرضها للنقاش والمعالجة بصيغ جديدة، بما يمكن عده مشروعاً لصناعة النضال والمناضل الإسلامي، ويذكر أن آخر إصدارات الشهيد مطهري هو كتاب «الحركات الإسلامية في القرن الأخير»([9]).

ركزت بحوث مطهري على «فريضة العلم» و «نظرة الإسلام حول العلم» كما تؤكد كتاباته على أهمية التفكير في القرآن الكريم ونهج البلاغة، وضرورة الابتعاد عن الخرافة وإن تدثرت باسم الدين أو التقاليد، كما دعا إلى التسلح بالعقل النقدي في مواجهة الأفكار على اختلافها.

يؤكد مطهري على أهمية ثقافة السؤال لأن السؤال أمر غريزي عند الإنسان وهو مفتاح العلم، ويضع طريقاً واحداً للتعامل مع الأسئلة المطروحة وهو تقديم الإجابات المقنعة لها، وعدم مواجهتها بالقوة والعنف، إذ إن إسكات الآخر ينتهي بالسائل إلى معسكر الخصم، ويمكن اعتبار هذا الأمر من مشاغل مطهري حتى أواخر أيامه.

لكن ما يمكن التوقف عنده هو رؤية مطهري بالتحفظ على بعض الأسئلة التي لا يمكن طرحها، وهي الأسئلة التي لا تكون مقدمة للدراسة والبحث أو العمل وإنما تطرح من باب كثرة السؤال، وأنه يمكن إقناع طارحيها بعدم طرحها.

ورغم موافقتنا بأن بعض الأسئلة لا يتوجب طرحها إلا أن التحفظ الذي نبديه بشأنها قد يكون مدخلاً للآخرين لتمديد المنع إلى مساحات أوسع، وهو على كل حال تحفظ لا يمكن أن يكون مدخلاً لحل المشكلة المتجذرة في العالم الإسلامي وهي «مسألة الحرية الفكرية»، والذي أراه أن جميع الأسئلة من جميع الجهات يجب أن يسمح لها بالطرح في المجتمع الإسلامي، ولا سيما في المجمعات الأكاديمية، ومجلات الدراسات، والأندية الثقافية، واستمرار الانطلاق من الثقة بالدين والفكر ورجالاته مهما تعددت الأسئلة ومهما بلغت الأطروحات المخالفة من شدة، حتى وإن كانت مقاصد تلك الأسئلة غير نبيلة، من أجل ألَّا يتحول التحفظ من الإجابة إلى قاعدة، والحذر إلى مشجب لقمع ثقافة السؤال.

يعالج الشيخ مطهري -نتيجة انفتاحه المبكر على النخب المثقفة، من خلال احتكاكه كأستاذ في جامعة طهران وانفتاحه على جيل الشباب المتعلم- جدلية العلاقة بين الإسلام ومتطلبات العصر، وفي سبيل تفكيك هذه الجدلية يؤكد على وجود ثوابت في الإسلام لا تقبل التغيير وهي سر خلود الرسالة السماوية، ومتغيرات تنقسم إلى صنفين: أحدهما صحيح وآخر غير صحيح، ويعتبر أن العقل هو المعيار في التمييز بين هذين النوعين من المتغيرات.

إذ إن العقل بذاته يدين الجمود ويدين التحجر، وينتصر لطريق الاعتدال وهو طريق الاجتهاد، ومنه يرى أن سن القوانين في إطار الاستفادة من الحق الذي يمنحه القانون الإلهي للإنسان أمر لا مانع منه، بخلاف رأي الكثير من الفقهاء الذين يعتبرون سن القوانين أمر غير جائز لأن المشرع هو الله وحده.

استفاد مطهري من حركة ترجمة المؤلفات الفلسفية الغربية، فدرسها بعمق لاسيما فلسفة ما قبل ديكارت دون أن يتراجع أمامها عن يقينياته، ودون أن يناله الخوف أو القلق من تقدم الغرب على المستوى الفسلفي، بل عمد إلى قراءتها قراءة معرفية وأعمل فيها آلة النقد والتفكيك، فنقد الكانتية والديالكتيك والهيجلي. وأخيراً توصل إلى استقلال الفلسفة الإسلامية عن نظيرتها اليونانية.

التحديث بالتواصل والتركيب

حالة العالم الاسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين في بعده السياسي والاجتماعي وُصفت بالآتي: سلطة تقف ضد المجتمع وتعمل على إضعاف بُنيانه وتماسكه الداخلي، ومجتمع أبدى خضوعاً وقابلية لمحاولات التهميش والإلغاء. سلطة تستند إلى منطق القوة والقهر ضمانة لاستمرار الحكم في يدها، ومجتمع يجد في ممارسة السلطة مبرراً للاستناد إلى ثقافة مصادرة حق أفراده في التعبير عن آرائهم، وهو الأمر الذي أنتج لنا دولة تفتقر لمشروع سياسي يكون محلاً للإجماع الوطني، حيث تحول مشروعها من تحقيق الرضا الجماعي إلى الدوران في هموم استمرار الدولة، ومجتمع يفتقر في قطاع كبير منه لروح المبادرة، وتسوده ثقافة الجمود، ويقف ضد مبادرات التجديد.

وقد تبلورت عدة اتجاهات في قراءة الأزمة القائمة وسبل تجاوزها. وسنجد تجلياتها في تبلور أربع مناهج للتغير: التغيير العسكري، والتغيير الثوري الجماهيري، والتغيير السياسي السلمي، وأخيراً: التغيير الثقافي الذي يتبنى إصلاح فكر الإنسان المسلم، ووضع مساعي الإصلاح في مسارها الطبيعي، وتبرز في هذا السياق جهود الدكتور علي شريعتي (1933 - 1977) الذي انطلق من تشخيص مفاده أن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة حضارية في الدرجة الأولى، وأن الحل لا يكمن في القفز على السلطة، بقدر ما يكون حلاً ثقافياً شاملاً، وإصلاحاً يطال بنية الوعي الديني - المذهبي بصورة عامة.

إن فهم شريعتي للإسلام يتعدى حدود الالتزام بالطقوس الدينية أو الانتماء الظاهري للإسلام، كما أنه يتجاوز الكثير من التقاليد والمفاهيم التي أخذت صفة القداسة دون مبرر، ويقدم الإسلام -عوضاً عن ذلك- بوصفه أسساً فكرية ومعرفية منفتحة على العصر وعلى الواقع، وقد دعا في أهم مشاريعه «العودة إلى الذات»([10]) إلى إعادة التفكير في الدين، وتقديم تفسير جديد يسابق النظرة التقليدية. وهو إذ يطالب بذلك، فإنه يقدم تصوره الخاص للإسلام، إذ يعتقد أن الإسلام هو إسلام النهضة والتجديد والحركة، وتحول من خلال ممارسات ومفاهيم خاطئة إلى إسلام محافظ وتقليدي وجامد.

دعوة شريعتي إلى «العودة إلى الذات» يمكن اجتهاداً أن نلخصها بالصورة التالية: العودة إلى الذات واكتشافها وهو ما يمكن تسميته «بمرحلة الاكتشاف»، وتأتي بعدها مرحلة إتمام النواقص وهو ما يمكن أن نسميه «بمرحلة التكميل»، وأخيراً مرحلة البناء وهو ما يسمى «بمرحلة الإبداع». وبظني أن هذه الدورة يمكن أن تحقق غايات دعاة الإصلاح ورعاة التغيير.

أما عن الصفات التي يلزم أن تتوافر في الإنسان المثقف حتى يتمكن من أداء دوره على أكمل وجه ممكن، فيعتبر شريعتي أن معرفة المثقف بالزمان الاجتماعي، ومعرفة المرحلة التاريخية التي يعيشها المجتمع تأتي على سلم الأولويات، فهو يعتبر المثقف «الحساسَ بالقضايا الاجتماعية». ويمكن إعادة ذلك إلى طبيعة دراسته لمقارنة الأديان وعلم الاجتماع.

يدقق شريعتي في معنى الدين، وينتقد الفهم السائد، وهو في هذا السياق يعرض ثلاث اتجاهات في فهم الإسلام:

الأول: «إسلام العامة» وهو الإسلام التقليدي الإيحائي العاطفي الذي يمارس بشكل لا شعوري.

الثاني: «إسلام العلماء» وهو الإسلام المتخصص الذي يقدم في مجموعة من العلوم الإسلامية التخصصية.

الثالث: « إسلام الوعي والعقيدة» وهو الإسلام بوصفة نظاماً فكرياً متكاملاً، وبرنامجاً اجتماعياً على طراز إسلام أبي ذر الغفاري.

وفي مرحلة لاحقة انتقل شريعتي من عرض وتقسيم الفكر الديني إلى تقديم صياغة جديدة وشاملة لكل جوانب هذا الفكر، وإعادة النظر في جميع المعارف الدينية والتسلح لإنجاز هذه المهمة بالمنهجية، والتضحية والإيمان. ويؤكد في هذا السياق على مسلك الاحتجاج لإيقاظ المجتمع الاسلامي وإنهاض الحالة الإسلامية لإخراجها من ركودها المزمن، ويقدم لنا مصلحين أمثال «مارتن لوثر» و «كالون» مثالاً للاحتجاج البروتستانتي، على أنه يؤكد أن ذلك لا يعني أبداً إعادة النظر في أصول الدين، بل يعني العودة إلى الإسلام الأصيل وتعزيز معرفة حقيقية لروح الإسلام الواقعي الأول.

لهذا تحرك بقوة نحو إيضاح الإسلام في جانبه السياسي والاجتماعي، وتصفية المنهل الذي يتكئ عليه الفكر الديني عبر إعادة منهجته، ودعا إلى معرفة الثقافة الغربية بشكل سليم، وإلى ضرورة الاعتماد على الثقافة الذاتية، وتقديم الرموز النموذجية، والجمع بين المشاعر العرفانية والالتزام الاجتماعي والسياسي وهو الأمر الذي لفت انتباه شريعتي إلى مفكر مثل محمد إقبال، ودعاه إلى إنجاز كتاب قيّم فيه تحت عنوان «إقبال مهندس التجديد في بناء الفكر الإسلامي» وهو نوع من التلاقح الفكري بين المنظرين المفيد في خلق تراكم معرفي تتواصل من خلاله حلقات الجهود الفكرية، وهو من جملة ما نفتقر إليه في الوقت الحاضر.

الاسلام كمشروع للتطبيق

يلاحظ المتتبع للكتابات -الصادرة في النصف الثاني من القرن العشرين التي ألمحنا لها في الأسطر القليلة الماضية- أن مستوى الإنتاج الفكري مال إلى الانخفاض مقارنة بالفترات السابقة التي تميزت بعمق وجدية الطرح، فيما تميزت الفترة التي تليها بالاهتمام بطرح العناوين والشعارات الإسلامية دون الغوص في التفاصيل، وهذا لا يؤدي بنا للتقليل من شأن مساهمات جادة استطاعت إثراء ومعالجة العديد من الأفكار بصورة دقيقة وتفصيلية، ومن هذه الجهود ما قدمه السيد محمد باقر الصدر، الذي مثَّلت كتاباته نقله نوعية في مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر.

أهم ما يلفت النظر في كتابات الصَّدر قدرتها على تجاوز الانشغال في العناوين والشعارات الإسلامية، وبعدها عن التبشير بالنصر القادم على أرضية الأحلام المأمولة المنفصلة عن حركة الواقع، إلى الحديث الجاد والتفصيلي في مضامين الفكرة الإسلامية، والالتزام بمنهجية علمية صارمة ربما كانت مفاجئة للكثيرين لا سيما وهي تمس حقول فكرية جديدة لم يتم التطرق إليها من قبل، أو لم تلاحظ بالعمق والشمول ذاتهما. فقدّم الإسلام إلى العالم كما في أطروحته «الإسلام يقود الحياة»([11]) بوصفه حلقة من حلقات مشروع حضاري متكامل.

استهدف المشروع الفكري للسيد الصدر إعادة تشكيل النظام المعرفي والذي دشنه في كتابه «فلسفتنا»([12]) وأتمه في «الأسس المنطقية للاستقراء»([13]) حيث تناول فيه فلسفة العلم والمنهج العلمي ومشكلاته الراهنة. وقد أبرز هذا المشروع منهجاً جديداً في ضرورة ارتباط العلم والإيمان بالمنطق الاستقرائي وعدم الفصل بينهما، وهو في طرحه العلمي هذا إنما يُساهم في إخراج الباحثين من تعارض الثنائيات بين الجديد والقديم، بين الأصالة والمعاصرة، بين العلم والإيمان، وبين الدين والدولة في جُهد فكري يهدف لتأسيس أرضيات صلبة لانطلاق المشروع الإسلامي في حركة حضارية جديدة تتجاوز مراحل التخلف والركود السالفة.

والمطلع على كتابات الصدر يتلمس مقدار الحاجة إلى إعادة قراءتها مجدداً بالصورة التي تليق بها، من أجل فهم أكثر تطوراً للدين وللتعاليم الإسلامية، وهي تعد بحق مساهمة متقدمة للخروج من مرحلة التدين البسيط والتقليدي إلى مرحلة التدين العميق، إن الإنجاز الأساسي في هذا الحقل تمثل في اكتشاف مذهب جديد في المعرفة اصطلح عليه السيد الصدر «بالمذهب الذاتي» والذي يختلف عن الاتجاهين التقليدين اللذين يتمثلان في المذهب العقلي والمذهب التجريبي.

أما في حقل «الاقتصاد» والذي برع فيه السيد الصدر، وقدم ثمرة جهوده الفكرية في كتابه «اقتصادنا»([14]) ثم في «البنك اللاربوي في الإسلام»، فأعتقد أننا نستطيع فهمه بصورة أعمق إذا وضعناه في سياق مشروع الصدر النظري؛ فالجهد الذي بذله هو جهد منهجي أكثر من كونه جهداً اقتصادياً محضاً. بمعنى أن الجهد تركز في تطبيق منهجية إسلامية معرفية لدراسة إشكاليات مختلفة تمس الواقع، والحقل الذي انتخبه الصدر لتطبيق هذه المنهجية هو الاقتصاد، وهو في جهده هذا نقل «الهم الاقتصادي» إلى مرحلة تساوق «الهم السياسي» وهما في كف واحد يمثلان إحدى مشكلات النظام الاجتماعي العام.

المجهود العلمي الذي قدّمه في اقتصادنا يتمثل أيضاً في قدرته على إبداع مجال علمي لم توجد له سابقة في الحوزة العلمية، ونادراً في التراث الإسلامي، تناوله بصورة عميقة وشاملة، وبلغة جديدة ليست لها علاقة بلغة الكتب الفقهية المتداولة، وعلى عكس الكتب التي تناولت معاملات الأموال في بعض أبواب الفقه بصيغة مع أو ضد الربا، فإن الصدر يقدم صيغة تطبيقية واقعية لطريقة عمل بنوك خالية من الربا، وهو بهذا ينتقل بالفقه من مستواه الفردي الذي تموضع فيه لسنوات طويلة إلى مستواه الاجتماعي. ويشخص في كتابه «الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد»([15]) هذا القصور في الفقه المتوارث بكونه أحد نتائج انكماش هدف الفقه وبالتالي الفقيه، واعتبر تركيز الاجتهاد على الجوانب الفقهية الأكثر اتصالاً بالجانب الفردي، وإهمال المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي «نتيجة لانكماش هدفه، واتجاه ذهن الفقيه حين الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه، بدلاً من الجماعة المسلمة وحاجاتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعية، وهذا الاتجاه الذهني لدى الفقيه لم يؤدِ فقط إلى انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، بل أدّى بالتدريج إلى تسرب الفردية إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها»([16]).

على أننا لا نبالغ إذا قلنا: إن حالة الركود الفكري العامة آنذاك لم تستطع استثمار هذا الجهد العلمي الذي قدمه السيد الصدر، وظلت الأدبيات الإسلامية الاقتصادية عاجزة عن تقديم حلول للإشكاليات المنهجية في معالجة الاقتصاد، والاكتفاء بتناول الإشكالات التي تعترض الإنسان المسلم في حياته اليومية، والناظر إلى المكتبة الإسلامية يلاحظ هذا البعد الذي لا يزال غائباً في الاقتصاد الإسلامي.

كما أنها لم تستثمر هذا الجهد العلمي في تطبيقات أخرى، فالسيد إنما انتخب الاقتصاد بصفته مجالاً حيوياً لتطبيق منهجية علمية، يُفترض أن تكون مدخلاً لتطبيقات جديدة ولمعالجة إشكاليات أخرى مطروحة أمام المسلم المعاصر، وتم التوقف عند ما أنتجه لا ما يجب أن يتم إنجازه بوصفه ضرورة لتواصل حركة التحديث في العالم الإسلامي.

المعاصرة بوصفها مدخلاً للمواكبة

في طور آخر نظر مفكر مغاربي إلى الفكر الإسلامي كحلقات مترابطة، فعمد إلى التواصل مع فكر الإصلاحية الإسلامية وضخ فيها أفكار جديدة تتلاءم مع متغيرات الواقع، وإذا عرفنا أن كل مفكر لا ينتج فكره من اجتهاد نظري محض، بل هو نتيجة لتفاعله مع الظروف والمؤثرات التي تحيط بالمفكر، فيمكن أن ندرك قيمة المساهمات الفكرية التي قدمها مالك بن نبي (1905 - 1973) في منتصف القرن العشرين.

ربما أبرز ما يلفت النظر إلى البيئة المغاربية التي نشأ فيها ابن نبي انتشار الطرق الصوفية والزوايا وقدرتها على توجيه الشارع الإسلامي، ويقدر المنشغلون بالشأن المغاربي أن الاستعمار ومن بعده سلطة ما بعد الاستعمار تمكنا من استغلال التوجهات الصوفية بصورة كبيرة ونافذة، من خلال دعم بعض الطرق الصوفية والزوايا ضد الحالة الإسلامية العامة، مما ساهم في تعميق التخلف الديني والاجتماعي.

لقد كان أمام المصلحين في ذلك الوقت عدة مهام تُؤرقهم فمن جهة «التقاليد» الحاكمة التي قيد المجتمع نفسه بها، بصورة لم يعد ممكناً التفريق بين العادات الاجتماعية السائدة وأحكام الدين الحنيف، ومن جهة ثانية سيادة «الفهم التقليدي للدين» الذي يميل إلى السكون والانشغال في القضايا الهامشية واعتبارها محور الشريعة المحمدية، ومن جهة ثالثة «الاستعمار» وممارساته المختلفة، وتأثيراته، كالتأثير الثقافي واللغوي والأخلاقي.

وقدم المهتمون من أصحاب الفكر تصورات عديدة اهتم بعضها بالجانب العقائدي، وبعضها الآخر بالجانب التربوي أو الإصلاح السياسي، وجاءت بعض الأطروحات أكثر توسعاً، فحاولت أن تجد ترابطاً منطقياً بين مجموعة من المؤثرات من أجل إحداث حركة فكرية وعملية نحو التغيير وإصلاح الواقع، أما ابن نبي فقد تميّز بتقديمه مجموعة متماسكة من الأفكار لمعالجة «مشكلة الحضارة الإسلامية المعاصرة» وتحليل عناصرها، والتثبت من العوامل التي تقود الحضارة إلى درب النهوض أو درب الانحطاط.

نظر ابن بني إلى مشكلة العالم الإسلامي على أنها مشكلة حضارة، واختار عنواناً عاماً لجميع كتبه هو «مشكلات الحضارة» حتى عُرف بـ«فيلسوف الحضارة»، ويرى ابن بني:

1- أن كل حضارة تبدأ ببزوغ فكرة دينية تقوم بتركيب عناصر الحضارة، وتبعث النشاط في الأفراد للخروج من هيمنة الغريزة والخضوع لهيمنة الروح، وعندها تصل «شبكة العلاقات الاجتماعية» إلى قمتها وتكون الأمة في وضع النهوض، وهي المرحلة النبوية وما بعدها.

2- أما المرحلة الثانية فهي مرحلة «منعطف للعقل» حيث تكف الروح عن السيطرة على الغرائز ويبدأ عهد العقل، وفي هذه المرحلة تبلغ الحضارة أوج قوتها وتزدهر العلوم والأعمال العقلية والفنون، ولكن يكون المرض قد بدأ ينخر في المجتمع، ويؤرخ «مالك بن نبي» بداية هذه المرحلة بعهد بني أمية حيث تحطيم التوازن بين المادة والروح.

3- ثم تبدأ المرحلة الثالثة وهي «مرحلة الانحطاط» وانحلال الحضارة القائمة، حيث تفكك «الغريزة» بُنى العلاقات الاجتماعية، ولا يعود هناك روابط بينها وتعود الجماعة الواحدة جماعات بل ذرات متناثرة، وتنتهي هنا الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية وتبدأ هذه المرحلة مع نهاية دولة الموحدين.

ومن نافلة القول أن هذا التقسيم سيفيد الباحثين لاحقاً في تشخيص المرحلة التي يعيشونها والبحث فيما إن كانت مرحلة انحلال الحضارة وانحطاطها لا تزال مستمرة أم دخلنا في مرحلة جديدة وما هي معالم هذه المرحلة؟ لا سيما وأن «الغريزة» لا تزال هي المتحكمة.

يعالج «مالك بن نبي» مسألة غاية في الأهمية، تتعلق بالموروث والمستحدث أو ما أطلق علية مؤخراً (إشكالية التراث والمعاصرة)، ويعد ابن نبي أول من تناول هذا المبحث بصورة منهجية، ومن منظور نقدي، وأسماها ظاهرة «الأفكار الميتة والأفكار القاتلة» والفكرة الميتة هي الفكرة الأصلية التي انحرفت عن نموذجها المثالي، والفكرة القاتلة هي الفكرة التي نقلت من الغرب دون النظر في ظروف نشأتها، ولكن هذا لا يعني رفضه للاقتباس من الثقافات الأخرى بل دعاه إلى طرح النموذج المطلوب للاقتباس السليم والذي يعود بالنفع والفائدة على الثقافة والحركة العلمية، فالفارابي نقل فلسفة «أرسطو» المادية ولكنه في الوقت نفسه كيَّفها إسلامياً، و «توماس أكوين» نزع المضمون الإسلامي عن فلسفة «أرسطو» ثم طرحها بما يتناسب ومجتمعه المسيحي، وهذا في نظر «مالك بن نبي» وضوح في الرؤية لا يكاد يتوافر عند الفئة المتغربة من العرب.

خاتمة

طبيعة التحديات التي واجهت العالم الإسلامي في مختلف بقاعه ألقت بظلالها على أولويات الفكر الإسلامي المعاصر، فكانت الأولوية التي التقى عندها رواد التحديث الإسلامي هي إثبات قدرة الفكر الإسلامي على الاستجابة لمتطلبات العصر، ولذا فرغم التمايز الذي يُلاحظ على إنتاج المفكرين والمصلحين بحسب انتماءاتهم الطائفية ومتطلبات واقعهم، إلا أن جهودهم تكاد تصب في قناة واحدة عنوانها العريض -إنتاج خطاب إسلامي عصري- يتجاوز الخطاب التقليدي الذي استمر ملازماً لمسيرة الفكر الإسلامي.

من الواضح أن هذه الجهود أنتجت ثماراً طيبة في الواقع الإسلامي، فالإنجاز الفكري الذي أنتجه رواد الفكر الإسلامي على جميع الأصعدة حقق مصالحة كانت غائبة مع الحياة المعاصرة. فلم تعد هناك مشكلة في العالم الإسلامي مع منجزات الحضارة الحديثة بالحجم السابق، وتوجهت الجهود بصورة كبيرة إلى البحث عن سُبل الاستفادة من تلك المنجزات المعرفية، وإن كان القلق لا يزال مستمراً في أوساط إسلامية عديدة خشية تأثير الأفكار الغربية على الفرد المسلم.

هذه الجهود قاربت من جهة أخرى بين المدارس الفكرية الإسلامية المختلفة، فأظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن مساحة الالتقاء بين المسلمين كبيرة مهما تعددت انتماءاتهم الطائفية والعرقية والمناطقية، وأن اللقاء والوحدة ممكنة بشرط أن ترتقي اهتمامات المسلمين نحو القضايا الحيوية وتبتعد عن القضايا الهامشية والطارئة التي تتحول بفعل الانسياق العاطفي للجمهور الإسلامي إلى توتر دائم، أضف إلى ذلك سوء توجيه تلك العاطفة من قبل المعنيين بشؤون التوجيه والإرشاد في العالم الإسلامي.

هذه الإنجازات لا تعني أن المهام الفكرية قد وصلت غاياتها القصوى بل لاتزال الكثير من المهام عالقة، لا سيما وأن ثمة فجوة هائلة بين التنظير والواقع، وهو ما يُحتم استمرار رفد المسيرة الاجتهادية بالمزيد من الحرية والقدرة على التحليق لإعادة صياغة الحياة الإسلامية بما يمد الفكر الإسلامي بمقومات التصدي للإجابة عن الأسئلة التي تطرحها الحياة المعاصرة بكل جدتها وتشعباتها، وهي مهمة تبدو أكثر صعوبة مع تحديات المرحلة الراهنة ومتطلبات الحداثة.

 



* كاتب - الكويت.

([1]) رفاعة الطهطاوي، انظر: كرم الحلو، الفكر العربي المعاصر بين أوهام التأصيل وثورة الحداثة (موقع كفاية- http://harakamasria.org).

([2]) خير الدين التونسي، انظر : كرم الحلو، مصدر سابق.

([3]) محمد إقبال، التفكير الديني في الإسلام: 13، ترجمة عباس محمود (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ط2 1968م).

([4]) لا أقف ضد الاعتداد بتأثر الأمم الغربية بعلوم المسلمين الأوائل، وإنما يجب ألَّا يشغلنا هذا الاعتداد عن حقيقة موقعنا الحضاري المتأخر، وضرورة التفكير الدائم بالطريق التي يلزم أن يسلكها الإنسان المسلم لاتخاذ مواقع جديدة ومتقدمة.

([5]) د. محمد عبداللاوي، معالم فلسفة جديدة في كتابات الصدر: 313 (مجلة الفكر الجديد - العدد 17، محرم الحرام 1419 نيسان 1998).

([6]) تجديد التفكير الديني في الإسلام. ترجمة: عباس محمود (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 2، القاهرة 1968 م).

([7]) محمد البهي، الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي : 335 (مكتبة وهبة - القاهرة 1991م).

([8]) انظر : عبدالجبار الرفاعي، تطور الدرس الفلسفي (دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت 2000م).

([9]) الحركات الإسلامية في القرن الأخير، ترجمه للعربية الأستاذ : صادق العبادي، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة (دار الهادي للطباعة والنشر - بيروت 2001م).

([10]) علي شريعتي، العودة الى الذات، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا (مكتبة الزهراء للإعلام العربي).

([11]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1990).

([12]) محمد باقر الصدر، فلسفتنا (دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 12، بيروت 1982).

([13]) محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، (دار التعارف للمطبوعات، ط4، بيروت 1982م).

([14]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا (دار التعارف، الطبعة 12، 1982 - بيروت).

([15]) محمد باقر الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، بحوث إسلامية ومواضيع أخرى (دار الزهراء، بيروت 1983م).

([16]) محمد باقر الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، مصدر سابق، ص 79 -80.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة