تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الامام شرف الدين وثقافة التسامح

حسن الصفار

 

بعد خمسين عاماً من رحيل الإمام شرف الدين لا زالت شخصيته حاضرة في وعي الأمة ووجدان أبنائها المخلصين، ولا زالت آراؤه ومواقفه مصدر إلهام ودافع انطلاق في ساحة الإصلاح الديني، والتغيير الاجتماعي.

ذلك لأن شخصيته العظيمة ارتبطت في تاريخ الأمة المعاصر برسالة هامة، وقضية خطيرة، لا زالت تفرض نفسها على الواقع الديني والسياسي للأمة، هي قضية العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، وخاصة بين السنة والشيعة.

هذه العلاقة المرتبكة المضطربة في أكثر فصول التاريخ، ولا زالت حتى اللحظة الراهنة مصدر بلاء وشقاء للأمة، بما تفرزه من حالات خصام واحتراب، تستنزف الجهود والطاقات، وتمزق وحدة المجتمعات والأوطان، وتعطي الفرصة للنفوذ الأجنبي.

لقد أدرك الإمام شرف الدين خطورة هذه القضية، ورأى قلة المبادرين للاهتمام بها من علماء الأمة، فتصدى لتحمل المسؤولية، وأمسك بهذا الملف الشائك، مستنفراً كل قدراته العلمية والأدبية، موظفاً مكانته الاجتماعية المرموقة، مسخراً حركته ونشاطه العملي من أجل نزع فتيل النزاع والصراع المذهبي، وتصحيح مسار العلاقة بين طوائف الأمة.

يقول رحمه الله في مقدمة كتابه (الفصول المهمة في تأليف الأمة): «لا تتسق أمور العمران، ولا تستتب أسباب الارتقاء، ولا تنبت روح المدنية، ولا تبزغ شموس الدعة من أبراج السعادة، ولا نرفع عن أعناقنا نير العبودية بيد الحرية، إلا باتفاق الكلمة، واجتماع الأفئدة، وترادف القلوب، واتحاد العزائم، والاجتماع على النهضة بنواميس الأمة، ورفع كيان الملة... أما إذا كانت الأمة أوزاعاً متباينة، وشيعاً متباغضة، لاهية بعبثها، غافلة عن رقيها، لتكونن حيث منابت الشيح، ومهافي الريح، أذل الأمم داراً، واجدبها قراراً... فحذار حذار من بقاء الفرقة، وتشتت الألفة، واختلاف الكلمة، وتنافر الأفئدة» انتهى كلامه رحمه الله.

وإذا كان النزاع والاحتراب الداخلي بين أبناء الأمة سيئاً ومقيتاً تحت أي عنوان حصل، فإن الأشد سوءاً ومقتاً ما كان منه بعنوان ديني، ومن منطلق خلاف مذهبي. ذلك أن الدافع الديني يشكل قوة هائلة في أعماق نفس الإنسان المسلم، فإذا وظفت هذه القوة في اتجاه الخصام والنزاع الداخلي فإنها تنتج أسوأ الصراعات، وأفظع حالات العنف والتدمير.

كما أن الاحتراب بين أهل الدين باسم الدين، وممارسة العنف المتبادل تحت ظل شعاراته وراياته، يقدم صورة شوهاء عن الدين أمام الرأي العام العالمي، ويُحدث ردة فعل خطيرة في أوساط أبناء الأمة وأجيالها الصاعدة.

وقد شهدت الساحة الإسلامية في السنوات الأخيرة تصعيداً خطيراً على مستوى العنف الطائفي، في أكثر من بلد إسلامي كباكستان وأفغانستان والعراق.

إن هذا التصعيد الطائفي الخطير، الذي يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة كلها، وينذر بتمزيق أوصال الأمة من جديد، لم يحدث من فراغ، ولم يحصل فجأة دون مقدمات، بل انبثق من أرضية خطاب مذهبي متطرف، واستند إلى ثقافة طائفية تحريضية شارك في صناعتها مختلف الأطراف، بنسب متفاوتة.

لقد أعادت سنوات الحرب العراقية الإيرانية إنتاج ثقافة التحريض على الكراهية بين السنة والشيعة، بعد أن كادت الأمة أن تتجاوز هذه العصبية البغيضة، بفعل جهود العلماء المصلحين من دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان للإمام شرف الدين موقع الصدارة من هذه الجهود، وبفضل عامل آخر هو انشغال العالم الإسلامي بمواجهة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي.

في سنوات الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988م) تبلور خطاب التطرف المذهبي، وضخّت في ساحة الأمة ثقافة طائفية مرعبة، حيث كان طلاب الجامعات الإسلامية في بعض دول المنطقة يتبارون في كتابة البحوث ذات الإثارة الطائفية، ليكسبوا بها ودّ أساتذتهم وعمادات كلياتهم، والجهات السياسية من ورائهم، ولينالوا عبرها الدرجات العلمية بيسر وسهولة.

وطبعت آلاف الكتب، وملايين التسجيلات الصوتية، وصدرت مختلف الفتاوى، واستخدمت بعض منابر الجمعة ووسائل الإعلام، في مجال التعبئة والتحريض الطائفي، وكان بعض أئمة الجمعة يدعو في ختام خطبته بالهلاك على أبناء الطائفة الإسلامية الأخرى إلى جانب دعائه على الكفار والمشركين.

لكن احتلال صدام للكويت، وتهديده لدول المنطقة، وما أعقب ذلك من تحرير الكويت بقيادة قوات التحالف، قلب الأوضاع والمعادلات رأساً على عقب، وترتب على ذلك تجميد مفاعيل الشحن الطائفي، دون إلغائها والتخلص منها، فقد تحسنت العلاقات بين دول المنطقة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهدأت أصوات المعارضة الشيعية في أكثر من بلد خليجي على إثر حوارات وانفراجات بينها وبين الأنظمة الحاكمة.

وانحسر خطاب التحريض الطائفي إلى حد كبير، عدا بعض الإثارات الجانبية والأصوات الشاذة من أوساط متشددة في هذا الطرف أو ذاك. وانتعشت آمال المصلحين ودعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية لدفع ساحة الأمة نحو الوحدة والوئام، ومواجهة تحديات التنمية والعولمة، وتجاوز الانشغال بالخلافات المذهبية التي أكل عليها الدهر وشرب.

حتى جاء الاحتلال الأمريكي للعراق ضمن مشروع الهيمنة على المنطقة، وإعادة تشكيل الأوضاع السياسية فيها، وتفجرت آثار السياسة الطائفية القمعية للنظام العراقي الزائل، فانزلقت الساحة العراقية نحو صراع واقتتال طائفي، فتح الباب من جديد أمام خطاب التحريض والتعبئة الطائفية في المنطقة كلها.

ويبدو أن الأمر حالياً أكثر خطورة من الماضي، حيث تتكئ مختلف الأطراف على تجربة سابقة في إدارة الصراع، وتمتلك مخزوناً من ثقافة التعبئة والتحريض، وموازين القوة طرأ عليها شيء من التعديل والتغيير يمنح كل جهة قدرة أكبر على المواجهة والصمود، والأخطر من كل ذلك دخول عنصر العنف والإرهاب في معادلة الصراع الطائفي، ووجود إرادات سياسية دولية وإقليمية لاستثماره في خدمة أغراضها وتوجهاتها.

وهنا يأتي دور الخطاب الديني في الدائرة المذهبية، فهو الذي يمكن أن يلعب دور الصاعق في تفجير الصراع الطائفي، حين يأخذ منحى التعبئة والتحريض، كما يستطيع أن يقوم بدور صمام الأمان ودرع الوقاية حين يبشّر بقيم الوحدة والتسامح، ويذكر الأمة بقضاياها الكبرى.

وهذا هو المفصل الحساس الذي أمسك به الإمام شرف الدين، حيث وجَّه الأنظار إلى أهمية ترشيد الخطاب المذهبي، وتخليصه من شوائب العصبية والانفعالية، ليرتقي بوعي الجمهور إلى أفق الانفتاح، والقبول بالتعددية المذهبية، والقراءة الموضوعية للآخر، واحترام حرية الرأي، والالتزام بحقوق الإنسان وحقوق الأخوة الإسلامية.

إن الجهات المنتجة للخطاب الديني من فقهاء وعلماء وخطباء، ضمن مختلف المذاهب، هي التي تتحمل بشكل رئيس مسؤولية واقع العلاقات المذهبية بين أبناء الأمة. باعتبارها مصدر الفتوى والتوجيه للجمهور.

صحيح أن هناك عاملاً سياسياً من الداخل والخارج يفرض تأثيره، لكن توظيف هذا العامل السياسي للحسّ المذهبي رهن بمدى استجابة الخطاب الديني ونوعية اهتماماته وتوجهاته.

ويمكننا أن نرصد ثلاثة اتجاهات لمواقف الجهات الدينية من إشكالية العلاقات المذهبية:

الاتجاه الأول: يتبنى موقف التشدد والتعبئة ضد الآخر المذهبي، حيث يرى نفسه مالكاً ناصية الحق والحقيقة، وأن الآخر خالٍ منها وبعيد عنها، وأنه مُكلَّف شرعاً بمواجهة الآخرين الحائدين عن الدين، المبتدعين فيه.

إن بعض هؤلاء المتشددين ينطلقون من فهم خاطئ لبعض النصوص والمفاهيم الدينية، ومن قراءة تعسفية للآخر المخالف.

وبعضهم ينطلق من موقع ردة الفعل لما يعتبره اعتداءً وإساءة من الآخر تجاه رموزه أو مصالح طائفته.

وقد يتحرك البعض في اتجاه التشدد المذهبي بغرض كسب الجمهور حيث يأخذ دور الدفاع عن العقيدة والمذهب، وحماية مصالح الطائفة.

ويتمظهر التشدد الطائفي عند السنة والشيعة في خطاب التعبئة ضد الآخر المذهبي، وتفنيد مقولاته وآرائه بأسلوب الإثارة والتهريج، وإلصاق مختلف التهم به، والنيل من رموزه ومقدساته.

وفي التركيز على مواقع الخلاف معه عقدياً وفقهياً وثقافياً، وتضخيم جزئيات ذلك الاختلاف على حساب كليات الاتفاق والأصول المشتركة، حتى ليصبح المستحب الخاص مذهبياً أكثر أهمية من الواجب المتفق عليه إسلامياً.

وينشغل هؤلاء المتشددون بقضايا الخلاف المذهبي، ويشغلون الساحة معهم، على حساب قضايا الأمة المصيرية، والتحديات الكبيرة التي تواجهها، ويصبح الأعداء المذهبيون في نظرهم أخطر من أعداء الدين والأمة.

وقد تصدى الإمام شرف الدين لمواجهة تيار التشدد والتعصب المذهبي، فألف كتابه القَيِّم (الفصول المهمة في تأليف الأمة) ورسالته في (أجوبة موسى جار الله) هذان الكتابان اللذان اعتبرهما الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله نموذجاً ريادياً لما أطلق عليه (فقه الوفاق). يقول شمس الدين:

«كرَّس الإمام شرف الدين قسطاً كبيراً من جهده العلمي لتأصيل هذا الفرع الفقهي الهام في الفقه السياسي الإسلامي، وهو ما سميناه فقه الوفاق.

إن هدف فقه الوفاق ليس إثبات صحة الموقف الكلامي لهذه المدرسة الكلامية التي ينتمي إليها مذهب الفقيه، وليس المقارنة بين موقف هذه المدرسة من مسألة كذا ومقارنته بموقف المدارس الأخرى، والوقوف عند المقارنة، أو تعديه إلى التصحيح والإبطال.

بل هدف فقه الوفاق هو إثبات عدم الملازمة بين الاختلاف في المسائل الكلامية ذات العلاقة بالأصول، وبين التكفير والقطيعة السياسية، وتجزئة الأمة الواحدة إلى شِيَع مختلفة.

لقد كشف الإمام شرف الدين عن أن هذه الخلافات في الإمامة والخلافة، وحول الصحابة وسنة الصحابي، وغير ذلك مما يتصل بالأصول، وكذلك الخلاف في الفروع الفقهية، لا تخرج المسلم المخالف عن كونه مسلماً يجب أن يكون كامل الحرمة، وكامل الإسلام عند المسلم الآخر، انطلاقاً من أصول عقدية كبرى في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة المسلمة.

لقد كان وعي الإمام شرف الدين لهذه القضية من جانبها العلمي الديني، ومن جانبها السياسي العملي، هو الحافز له على أن يبحث في (فقه الوفاق) الذي يكشف عن أن مسلمات الإسلام تلحظ التنوع في داخل الوحدة، ولا تعتبر التنوعات انشقاقاً وتفرقاً، بل تعتبر الانشقاق والتفرق جريمة في حق الأمة، وجريمة في حق الدين»([2]).

وفي جميع بحوثه المعنية بهذا الموضوع يؤكد الإمام شرف الدين على ضرورة القراءة الموضوعية للآخر، لمعرفة وجهة نظره على حقيقتها، ولفهم أدلته وبراهينه عليها، مما يقطع الطريق على الشائعات والاتهامات والنقولات المغرضة، ويعيد الاختلاف إلى إطاره العلمي.

يقول رحمه الله في مقدمة (المراجعات):

«ولو أن كلاً من الطائفتين نظرت في بينات الأخرى نظر المتفاهم لا نظر الساخط المخاصم، لحصحص الحق، وظهر الصبح لذي عينين».

وقد وجه رسالة (إلى المجمع العلمي العربي بدمشق) طبعت في كتاب مستقل، عتاباً على مجلة المجمع التي تحدثت على الشيعة وبعض آرائهم، بطريقة استفزازية تشويهية، مطالباً إياهم بالرجوع إلى مصادر الشيعة وعلمائهم عند الحديث عن آرائهم العقدية والفقهية، وليس الاعتماد على مصادر الخصوم ونقولات المستشرقين.

الاتجاه الثاني: يأخذ موقف الحياد تجاه الصراعات المذهبية ومراقبة ما يجري، إما لعدم امتلاكه رؤية معينة، أو لعدم ارتباطه بجهة معنية، أو لخشيته على نفسه ومصالحة من مضاعفات الاقتراب من هذه القضايا.

موقف الحياد هذا يعني الهروب من تحمل المسؤولية وتجاهل الأخطار التي تحيط بالإسلام والأمة. كما أن هذا الموقف يصب أخيراً في مصلحة خط التشدد الطائفي بما ينطوي عليه من إقرار ضمني.

الاتجاه الثالث: هو الدعوة إلى الانفتاح والحوار بين المذاهب الإسلامية، والتبشير بقيم الوحدة والتعاون في خدمة الإسلام والأمة، ومواجهة الأخطار المحدقة.

ويحتل الإمام شرف الدين دوراً ريادياً في طليعة هذا الاتجاه، بما أنجز من دراسات وبحوث تأصيلية، تؤكد العمق العلمي الشرعي لهذا المسار، وتتجاوز به إطار الشعار والاستجابة لدواعي الظروف السياسية.

إن علماء آخرين قد بذلوا جهوداً كبيرة على صعيد التقريب بين المذاهب الإسلامية، لكن الجهد التنظيري التأصيلي الذي قام به الإمام شرف الدين، يعتبر جهداً مميزاً.

لقد استخدم أدوات الاجتهاد الفقهي ببراعة فائقة ليقرر الرؤية الدينية والحكم الشرعي، للقبول بواقع التعددية المذهبية، وأن واجب الوحدة ولم شعث المسلمين لا يعني قسر أي طرف على التخلي عن قناعاته التي قاده الدليل إليها، (فذلك تكليف بغير المقدور) على حد تعبيره، إن فتح باب الاجتهاد ومشروعية النظر في الأدلة والبراهين، يعني الالتزام بنتائجه، وكما قال رحمه الله في المراجعة الرابعة من مراجعاته: «لَمّ شعث المسلمين ليس موقوفاً على عدول الشيعة عن مذهبهم، ولا على عدول السنة عن مذهبهم».

إن تعدد المذاهب من سنة وشيعة واقع قائم يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي، والمراهنة على الإلغاء والتجاهل مراهنة فاشلة، تقود إلى تجاوز الحدود الشرعية، وانتهاك الحقوق والحرمات، وتُبقي الأمة أسيرة لحال الصراع والنزاع. والطريق الصحيح هو الاعتراف والاحترام المتبادل.

يقول رحمه الله في المراجعة الرابعة: «نعم يُلمُّ الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت، واعتباركم إياه كأحد مذاهبكم، حتى يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية إلى شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كنظر بعضهم إلى بعض، وبهذا يجتمع شمل المسلمين، وينتظم عقد اجتماعهم».

كما قدَّم الإمام شرف الدين نموذجاً رائعاً للحوار المذهبي من خلال مراجعاته حول أساس موضوع الخلاف بين السنة والشيعة وهو موضوع الإمامة، حيث عرض الموقف الشيعي بدقة ووضوح، وقدَّم الأدلة والبراهين عليه من النصوص الشرعية الثابتة السند، مع التزام أدب الحوار، واحترام الطرف الآخر، بالتماس الأعذار له، وعدم التشكيك في نواياه، يقول رحمه الله: «إن تعبدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري، وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة، لم يكن لتحزب أو تعصب، ولا للريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب، ولا لعدم عدالتهم وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علماً وعملاً. لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذهب الأئمة من أهل بيت النبوة... ولو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد، أو تمكنا من تحصيل نية القربة لله سبحانه في مقام العمل على مذهب غيرهم، لقصصنا أثر الجمهور، وقفونا إثرهم، تأكيداً لعقد الولاء، وتوثيقاً لعرى الإخاء».

ومع تمسكه بثبوت النص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعرضه للعشرات من الأحاديث النبوية التي أثبت صحة إسنادها عند السنة والشيعة، كما أثبت دلالتها على ذلك، إلا أنه يرفض الإساءة إلى الخلفاء الثلاثة الذين تبوؤوا موقع الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يلتمس لهم التبرير والعذر، بأنهم كانوا يرون أن موضوع السلطة والحكم ليس شأناً دينياً يُتعبد فيه بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما هو شأن دنيوي تدبيري، يصح لهم أن يجتهدوا فيه برأيهم وأن يختاروا ما يجدون فيه حفظاً للمصلحة العامة، كما ذكر ذلك بالشواهد المفصلة في المراجعة رقم 84 و 85.

بل إنه وبموضوعية مثالية وأخلاقيه رائعة يلتمس العذر حتى للمسيئين لأهل مذهبه، باعتبارهم ضحايا التباس نقولات السابقين، يقول في الفصول المهمة: «وهناك أفاضل نحملهم على الصحة في سوء ظنهم بالشيعي، ونبزهم إياه بالرفض تارة، ونسبتهم الأباطيل إليه، حيث أَنِسُوا بناحية من تقدمهم ممن رأوه ينبز الشيعة ويلمزهم فنحوا نحوه، وتلوا في ذلك تلوه، إخلاداً إليه بثقتهم، واعتماداً عليه في كل ما يقول»([3]).

ويؤكد الإمام شرف الدين على جامعية الإسلام لكل أبنائه على اختلاف مذاهبهم العقدية والفقهية، رافضاً تكفير أحد من أهل القبلة، ممن نطق بالشهادتين وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وأقر بفرائض الإسلام وأركانه، مؤصلاً ذلك بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة وآراء فقهاء الأمة.

وأن من قال (لا إله إلا الله محمد رسول الله) محترم دمه وماله وعرضه، مسجلاً لطائفة من الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة الحاكمة بنجاة مطلق الموحدين، ليعلم حكمها بالجنة على كلٍّ من الشيعة والسنة، مفرداً فصلاً مستقلاً لتقرير رأي الشيعة (في الحكم بإسلام أهل السنة وأنهم كالشيعة في كل أثر يترتب على مطلق المسلمين) مستشهداً لذلك بالنصوص الثابتة في مصادر الشيعة عن أئمة أهل البيت A.

إن بحوث الإمام شرف الدين وآراءه القيمة تمثل مدرسة رائدة في ثقافة التسامح، وإرساء العلاقة الإيجابية بين أتباع المذاهب الإسلامية.

هذه الثقافة التي تشتد حاجتنا إليها خاصة في هذا الزمن الصعب، الذي تعالت فيه أصوات المتعصبين وأصبحت ساحة الأمة مسرحاً لقوى التطرف والإرهاب.

* آليات الوحدة والتقريب

إنه لا يوجد أمة تتحدث عن الوحدة في أدبياتها وعلى ألسنة قادتها الدينيين والسياسيين أكثر من الأمة الإسلامية، في الوقت ذاته ليس هناك أمة تعاني من التمزق والخصام مقدار ما تعاني الأمة الإسلامية.

في حين استكملت معظم الأمم بناء وحدتها الداخلية، وتجاوزتها منطلقة لإنشاء أحلاف وتكتلات إقليمية ودولية، كالاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي، يعجز أبناء الأمة الإسلامية عن تحقيق الحد الأدنى من الوحدة والتفاهم داخل أوطانهم، وضمن المذهب الواحد!

 

ترى ما هي أسباب هذه المفارقة؟

لعل من أبرز الأسباب في نظري: أننا ننشغل كثيراً بالكلام عن الوحدة مفهوماً وفكرةً عامةً، وعنواناً وشعاراً عريضاً، ولا نقترب من الحديث عن آليات وأدوات الحالة الوحدوية.

إننا لا نجتهد في وضع خارطة طريق توصلنا إلى الوحدة والتقارب، ولا نبحث في الخطوات العملية التي يجب اتخاذها لإنجاز الهدف المطلوب.

وبذلك تبقى الوحدة حلماً نتطلع إليه، وأملاً ننشده، دون أن نصل إلى تحقيقه أو نقترب منه.

إن افتقاد الآليات وخارطة السير، أبقى الساحة شاغرة أمام من يعلقون الوحدة والتقارب على حلول تعجيزيه، حيث يطرح بعضهم أن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بعودة دولة الخلافة الإسلامية، التي تلغي الحدود السياسية، وتسقط كيانات الأنظمة الحاكمة، وتقيم سلطة مركزية على رأسها خليفة، يعيد للعالم عصر الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية.

وهناك من يربط الوحدة بظهور إمام أو قائد واحد تجمع عليه الأمة، بمختلف بلدانها ومذاهبها.

بينما يرى البعض أن أخذ جميع المسلمين بمذهبه والتزامهم بمنهجه هو الطريق الوحيد لاجتماع الأمة ووحدتها.

وأمثال ذلك من الطروحات التعجيزية الأسطورية التي لا يمكن تحقيقها حسب معادلات الواقع، كما أن تجارب الشعوب والأمم الأخرى تكشف عن طرق وبرامج أكثر واقعية وأقرب للتحقيق، فأمم الأرض وشعوب العالم المعاصر لم تحقق وحدتها بمثل هذه الطروحات.

أعتقد أن من أهم الآليات التي ينبغي التفكير فيها، وإقامة المؤتمرات لبحثها، وتوجه العلماء في بحوثهم الفقهية والعقدية لمعالجتها، هي أربعة آليات، نلحظها من خلال تجارب سائر الأمم في تحقيق وحدتها، وهي على النحو التالي:

أولاً: تحقيق مفهوم المواطنة: التي تُساوي بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة، في ظل نظام سياسي واحد، وإن اختلفت أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم.

هذا المفهوم الجديد في هذا العصر لم يأخذ حقه من البحث في اهتماماتنا الفكرية والفقهية، وبقينا نتعامل مع الوطنية والمواطنة بوصفهما مفهوماً وافداً أجنبياً دخيلاً على حياتنا، وبالتالي لم نحدد مواقفنا تجاه تفصيلاته ومستلزماته.

لا نريد أن نستشهد بالمواطنة في الدول الكبرى الغربية كأمريكا ودول أوروبا التي تخوض معنا أو نخوض مع إداراتها صراعاً، وبيننا وبينها مساحات كبيرة فاصلة، ولكننا يمكن أن نستشهد ببلد آسيوي قريب منا هو الهند، الذي يزيد عدد سكانه على المليار نسمة، وفيه من تعدد الأعراق والأديان والقوميات والمذاهب واللغات ما يجعله حالة تكاد تكون مميزة في العالم، ففيه خمس عشرة لغة رسمية إلى جانب أربع وعشرين لغة محلية أخرى، وينتمي سكانه إلى حوالي عشر ديانات، والأغلبية هم الهندوس ويشكلون 82.6% ثم المسلمون 11.4% ثم المسيحيون 2.4% ثم السيخ 2%. إن رئيس جمهورية الهند الآن شخص مسلم هو (عبدالكلام) منذ سنة 2002م، ورئيس الوزراء من الأقلية السيخية هو (مانموهان سينغ) منذ عام 2004م، ورئيس البرلمان من الحزب الشيوعي هو (تشاتيرجي)، ويعيش الهنود على تنوعهم عرقياً ودينياً في ظل نظام يساوي بينهم في حقوق المواطنة، ولا يخلو واقعهم من حدوث بعض المشاكل بين الجماعات والأقوام كأي مجتمع بشري، لكن القانون العام لديهم قائم على أساس نظام المواطنة.

إنهم يديرون حياتهم ويشقون طريقهم نحو التقدم الصناعي والتكنولوجي، وقد قامت الهند بأول تفجير نووي عام 1974م، وفرضت نفسها عضواً في النادي النووي، وقبل مدة وجيزة وقعت مع أمريكا اتفاقية للتعاون النووي خلال زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للهند مطلع مارس 2006م.

ومثال آخر هو سنغافورة التي يتكون شعبها من أربع مجموعات عرقية: صينيين 75%، ماليزيين 15%، هنود - باكستانيين 7%، أوروبيين 2%. كما تتعدد فيها الديانات إلى ست ديانات هي: البوذية والطاوية والكونفوشية 54%، الإسلام 18%، المسيحية 13%، الهندوسية 4%، وتتعدد فيها الأحزاب السياسية حيث تصل إلى عشرين حزباً مسجلاً رسمياً.

ومع هذه التعددية تعيش سنغافورة استقراراً داخلياً، ووئاماً وانسجاماً بين هذه الأعراق والديانات، وينشط الجميع في صنع تجربتهم الوطنية المتقدمة وبناء واقعهم الاقتصادي المتطور.

والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تعيش هذه الأمم في ظل نظام المواطنة، الذي يحقق بينهم المساواة والمشاركة في الحقوق والواجبات، والتنمية والبناء، بينما يتعذر علينا في غالب بلداننا مثل ذلك؟

ونعيش صراعات عرقية ودينية ومذهبية وسياسية؟

إن بعض أوساطنا الدينية لا تزال تنظر بارتياب لواقع الأوطان والدول القائمة ضمن الحدود السياسية في العالم الإسلامي، وتعيش صراعاً بين المفهوم الديني للوطن والذي يتسع لكل شبر من الأراضي الإسلامية، وبين الواقع المعاش في ظل الدولة القومية.

كما أن التفاوت في بعض الحقوق والواجبات بين المسلم وغيره في الدولة الدينية الإسلامية الذي يطرحه الفقهاء ضمن أحكام أهل الذمة، لا يزال عائقاً نظرياً أمام فكرة المواطنة والمساواة.

والأسوأ من ذلك وجود حالات من التمييز الرسمي الطائفي بين المواطنين المسلمين في بعض البلدان الإسلامية، والذي يستمد تبريراته من فقه وثقافة مذهبية. وكذلك توجد حالات من التمييز العرقي والقومي بين المواطنين المسلمين في بعض الأوطان الإسلامية بسبب معادلة الأكثرية والأقلية.

إننا بحاجة لمقاربة هذه المشاكل الواقعية ومعالجتها نظرياً ضمن أبحاث العلماء والفقهاء، وطرح الرأي الشجاع الجريء الذي يمكّن الاجتماع الإسلامي من تجاوز حالة الفرقة والصراع، ويهيئ أرضية التقارب والوحدة.

أما الدعوة إلى التقارب ورفع شعارات الوحدة في ظل واقع يعاني فيه الناس من التمييز والتفاوت، وانعدام المساواة، فلن يحقق أي إنجاز أو نتيجة، ولن يُوقِف الخلافات والصراعات.

ثانياً: تبني قضية حقوق الإنسان، ومناقشة وثيقة حقوق الإنسان المعتمدة دولياً، والاتفاقيات الملحقة بها، وتسليط الأضواء عليها برؤية دينية إسلامية، وإذا كان هناك تحفظ على مادة أو مادتين مثلاً، فلا يصح تجاهل كل تلك الجهود، خاصة وأن مجتمعاتنا بحاجة ماسّة لتفعيل هذه القضية. إن إغفال الاهتمام بحقوق الإنسان هو الذي يفتح المجال لتيارات التطرف والتشدد، وللتوجهات التعصبية، التي تسيء فهم الدين، وتمارس العدوان على الحقوق المادية والمعنوية للمخالفين لها في الدين أو المذهب أو الاتجاه الفكري والسياسي. إن هذه الجهات لا تعترف ولا تلتزم بالحقوق الإنسانية لمخالفيها، وقد تهدر دماءهم أو تستبيح حرماتهم المادية والمعنوية.

إن فقهاءنا في الحوزات العلمية وفي رسائلهم العملية، يصرفون جهداً كبيراً في بحث مسائل الطهارة والنجاسة والعبادات، وهو جهد مطلوب يشكرون عليه، لكن قضايا حقوق الإنسان لم تنل من جهودهم واهتمامهم بمقدار ما تحتاجه في الساحة الداخلية وعلى المستوى العالمي.

وحين يكون هناك إقرار رسمي وديني واجتماعي بحقوق الإنسان فإن ذلك يكرّس حالة الاحترام المتبادل، ويساعد على الابتعاد عن حالات الإساءة والعدوان، وذلك هو ما يصنع أجواء التقارب والوحدة.

ثالثاً: إقرار التعددية الفكرية والسياسية، فمشكلة الأوساط الدينية أنها تخلط بين اعتقادها بأحقية معتقدها، وبين الإقرار بحق الآخرين في تبني معتقداتهم. إن اعتقاد أي جهة بأنها على الحق والصواب أمر طبيعي، لكنها يجب أن تعرف وتعترف بأن الآخرين ينظرون لأنفسهم كذلك، ويرون أنهم على الحق والصواب.

وإذا كان الله سبحانه لم يأذن لأنبيائه أن يفرضوا دينه ورسالته على الناس، وقصر مهمتهم على البلاغ والتذكير {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ المُبِينُ}، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}. بل دعاهم للاعتراف بحرية الآخرين في أديانهم ومعتقداتهم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

فكيف يحق لأي جهة أن تفرض رأيها أو وصايتها على الآخرين؟

أو تصادر حريتهم في الاعتقاد أو التعبير عن الرأي؟

إن القبول بالتعددية الفكرية مبدأ هام، نفتقده مع الآسف في أوساطنا الدينية ليس بين المذاهب فقط، وإنما حتى بين المدارس والتيارات داخل المذهب الواحد.

وكذلك الأمر بالنسبة للشأن السياسي، فلا زالت غالب أوطاننا تخضع لسياسة الرأي الواحد والحزب الواحد، ولا مجال للمعارضة ولا لتعدد الأحزاب والتوجهات السياسية.

إن القمع الفكري والسياسي لا يحقق الوحدة كما قد يتوهم البعض بل يؤسس للصراع والاحتراب، وما قد يظهر على السطح من وحدة قسرية، هو غطاء رقيق لبراكين وحمم غاضبة تستقر في أعماق المجتمع لا تلبث أن تنفجر عند أول فرصة سانحة.

بينما يوفر إقرار التعددية حالة من الاطمئنان والثقة بين الأطراف المختلفة، ويمكنها من صنع إطار جامع، تحافظ من خلاله على المصالح المشتركة. وهذه ليست فرضية علمية، ولا أطروحة نظرية، بل هي واقع قائم تعيشه سائر المجتمعات البشرية، التي يتنوع أبناؤها في أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم وأحزابهم.

إن إقرار التعددية الفكرية والسياسية يترتب عليه الاعتراف بحق مختلف الأطراف في التعبير عن آرائها وإعلان مواقفها، وممارسة شعائرها الدينية وأنشطتها السياسية، وإقامة مؤسساتها الاجتماعية، ضمن قانون يخضع له الجميع، دون هيمنة واستعلاء من أحد، أو تهميش وإقصاء لأحد.

رابعاً: تجريم التحريض على الكراهية والإساءة، بأن يُحاسِب القانون ويُعاقِب النظام على ذلك، إن من أهم أسباب الفتن والصراعات الداخلية، وجود دعاة دينيين يصدرون فتاوى وينتجون خطابات تعبوية تتضمن الإساءة لآخرين مخالفين لهم، وتبيح هدر حقوقهم، ويتم التغاضي عن هذه الجهات، بل ويحصل التشجيع لها في بعض الأحيان، بمبرر أنها تعكس رأياً شرعياً، أو كما يقول عنها أصحابها إنها تكليف شرعي.

ولكن ذلك يعني توفير أجواء الفتنة والاحتراب. إنه لا بد من تجريم التحريض على الكراهية، كتجريم من يحرّض على الإرهاب والسرقة والفساد.

إن البحث في مثل هذه الآليات، وتأصيلها من الناحية الشرعية، وتحويلها إلى صيغ قانونية نظامية، وتوعية جمهور الأمة بالبرامج العملية المنبثقة عنها. كل ذلك يرسم لنا خارطة طريق لتحقيق التقارب والوحدة، وينقلنا من حالة التطلع والأمل، إلى واقع الممارسة والتطبيق.

والحمد لله رب العالمين.

 



([1])* ورقة مقدمة إلى المؤتمر العالمي لتكريم الإمام شرف الدين الموسوي العاملي، المنعقد في 17 - 19 مايو 2006م في بيروت.

** عضو الهيئة الاستشارية للمجلة.

([2]) شمس الدين: محمد مهدي، بحث ضمن كتاب (الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين مصلحاً ومفكراً وأديباً) ص45، المستشارية الثقافية الإيرانية - دمشق.

([3]) الفصول المهمة ص 164 الطبعة الخامسة/ دار النعمان/ النجف.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة