تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الظاهرة الدينية وإشكالية تعدد المناهج

إدريس هاني

الظاهرة الدينية وإشكالية تعدد المناهج

من الإسلاميات الكلاسيكية إلى الإسلاميات التطبيقية(([1]))

 

* مقدمة

تحتل مسألة المنهج في دراسة الظاهرة الدينية مكانة مميزة، حيث لن يكون من المبالغة في شيء إذا ما اعتبرنا قصة الإيمان الديني ناشئة بمعية المنهج الذي تعتمده الجماعة المؤمنة في سياق تقاسم الحقيقة الدينية والإيمانية مع مكوناتها في الداخل أو مع عموم الآخر المختلف الواقع خارج حدودها السوسيولوجية والثقافية. قصة الدين ولدت بمعية الدعوة والتبليغ، أي مع ضرورة نقل تلك الحقائق الدينية أو الأحاسيس الإيمانية إلى الآخر بشكل عام. وقد كان لظاهرة الجحود تأثير بالغ أدى إلى انبثاق إشكالية التبليغ وتقنيته بين فلول البشر الذين يولدون اجتماعياً وثقافياً على أساس كبير من الاختلاف في الأذواق ومستويات النضوج وتنوع الخبرات.ولعل الناظر في مجمل ما أُلِّف في قراءة أو نقد الظاهرة الدينية يدرك مدى حساسية الموضوع وأهميته في آن واحد. وذلك لسبب بسيط، هو أن الدين ضرورة ما انفكت عن الاجتماع البشري على امتداد قرون من الزمن. إن ثمة إيديولوجيات تنشأ وأخرى تأفل. لكن يظل الدين هو الظاهرة الإنسانية والحضارية السوسيو-ثقافية الأبرز التي ولدت مع الإنسان وستظل راسخة الحضور في اجتماعه، لم تملك أي قوة استئصالها، أو نفي مشروعية السؤال حولها. وهذا كافٍ لفهم مدى أهميتها وبالتالي تجذرها في الاجتماع الإنساني. لكن تظل مسألة المنهج واردة هاهنا. وحدة المناهج أو تعددها. فبين ديكتاتورية المنهج الوحيد في فهم الدين وعمائية تعددها تضيع الحلقة الوسطى.إن تعدد المناهج التي ستكون محور هذه الورقة في مثال الإسلاميات التطبيقية تطرح مشكلتين:

من جهة يبدو القول بتعدد المناهج في فهم الدين، على إغرائية هذه الدعوة، مثار إشكالية نسبية الوسيلة إلى معرفة الدين، ما قد يؤدي إلى التعدي بالنسبي إلى صميم البنية الاعتقادية، بوصفها أكثر الظواهر المعرفية قياماً على أساس اليقين.

ثم إن القول بتعدد القراءات يرج قاعدة الإلزام، وهذا من شأنه الإيقاع في إشكالية تساوي الأدلة، وبالتالي الدخول في ضرب من العمائية الدينية.

إن ورقتنا تقدم نموذجاً عن مقاربة منهجية للظاهرة الدينية اختارت استراتيجياً تعدد المناهج للمفكر العربي محمد أركون التي أسماها الإسلاميات التطبيقية. مقاربين إياها ومسائليها ومستشكلين عليها في محاولة أولية من شأنها فتح آفاق السؤال حول طبيعة الإسلاميات التطبيقية وجدلية الإغراء والتمأزق المنهاجي الذي تنهض عليه هذه الأخيرة واستراتيجياً تعدد المناهج في دراسة المسألة الدينية. على أننا نُنَبِّه المتلقي إلى أن البحث في الظاهرة الدينية هو في طول البحث في التراث عند أركون. فحيثما استعملت كلمة تراث -بالتاء الصغيرة- فهي تحيل إلى هذا الكل الذي يشمل التراث العقائدي والإيماني والديني. فالظاهرة الدينية بحسب هذا المنهج تدرس في قلب التراث، بالتاء الصغيرة كما هو مختار أركون -التاء الصغيرة كما تفهم في العبارة الفرنسية، ويرمز إليها بـ t- الحرف الأول من من كلمة tradition.

* الإسلاميات التطبيقية

إذا أردنا الوقوف على أصل مشروع: الإسلاميات التطبيقية - Islamologie appliquée، فما علينا إلا أن نقرأ النص التالي حيث يقول:

«إن الروابط ما بين العلم والتطبيق -أو على الأقل التصور الذي نكونه عن هذه الراوبط- كانت قد عدلت بشكل عميق (وجذري) منذ النموذج الذي قدمه ديكارت في كتابه «مقال في المنهج»، وحتى النموذج الذي أعطاه كارل ماركس. ينبغي علينا إذن أن نبتدئ بتحديد موضع الإنثربولوجيا التطبيقية في مكان ما بين هذين النموذجين المتضادين»([2]).

هذا النص الذي يقف عنده أركون بقوة ويدعو إلى تأمله هو مقطع من كتاب لروجر باستيد تحت عنوان: «الإنثربولوجيا التطبيقية» - Anthropologie Appliquée -. واضح إذن أن الإسلاميات أو الإسلامولوجيا التطبيقية هي مقايسة على الإنثربولوجيا التطبيقية لروجر باستيد بكل ما يحمل هذا المشروع من ثورة على ذلك النمط المعرفي الديكارتي، الذي جعل المعرفة طريقاً للسيطرة. وهو النمط الذي حكم «الإسلاميات الكلاسيكية»، التي ازدهرت إبان المرحلة الاستعمارية. إن أركون يصر على أن يضع اسم إسلاميات أو إسلامولوجيا بدلاً عن الاستشراق، وتلك هي عادته في تغيير الألفاظ ووضع أسماء بديلة تحمل مضامين مختلفة. بهدف نزع الصورة النمطية عن المفهوم وأثر المعنى الذي يحمله، مثل الاستشراق في مثالنا هذا، أو تبديله اسم «القرآن» بالخطاب النبوي أو «النص» وهلم جرَّا. فالإسلاميات التطبيقية جاءت للإجابة عن جملة من الشروط التي يفرضها الوضع العلمي إزاء مجال لم يدرس بالصورة المطلوبة. تلك الشروط التي لم تتوفر لا في داخل العالم الإسلامي، حيث لا أحد يجرؤ على ذلك، لأسباب كثيراً ما كرر ذكرها الناقد. وأيضاً لم تتحقق في الإسلاميات الكلاسيكية، حيث سيطر على الاستشراق الكلاسيكي مذهبان لا يكفيان لإنجاز الدراسة الشمولية في نظر أركون؛ وهما التاريخانية والفيلولوجيا. إن استرداد الإسلام لحيويته في المجتمعات العربية والإسلامية يفرض هذا الانخراط في حقل الإسلاميات. ولابد أن ندرك أن غاية أركون من الإسلاميات التطبيقية الوصول بها إلى قلب الفكر المعاصر، وإلحاقها بمجمل الإنجازات التي حققتها الإنثروبولوجيا الدينية. فالإسلاميات الأركونية بهذا المعنى هي محاولة استدراك قصوى، لإخضاع الإسلام إلى نوع من التأويلية المعاصرة، والمقاربة متعددة المناهج، كتلك التي خضعت لها الديانتان المسيحية واليهودية في الغرب. إن الإسلام بهذا المعنى هو وحده من نجا من مثل هذه المقاربة. وذلك هو الأمر الذي يسعى إلى تحقيقه أركون ويدعو إليه باستمرار. ولذا فإن «الإسلاميات التطبيقية هي ممارسة علمية متعددة الاختصاصات. وهذا ناتج عن اهتماماتها المعاصرة «فهي تريد أن تكون متضامنة مع نجاحات الفكر المعاصر ومخاطره»([3]).

ولهذا السبب تحديداً يشترط أركون على عالم الإسلاميات شروطاً في تحصيله العلمي، ربما تفوق ما يتطلبه أي تخصص في أي ميدان من الميادين. إنه يشترط عليه إلماماً بمناهج وعلوم شتى، رأى أنها تمثل مداخل أساسية لفهم أعمق للظاهرة الإسلامية، فعالم الإسلاميات بناءً عليه مطلوب فيه تحقيق مهارات في علوم اجتماعية متنوعة، مثل الإنثروبولوجيا والإتنولوجيا والإتنوغرافيا والإنثروبولوجيا التاريخية وعلم النفس التاريخي واللسانيات، هذا بالإضافة إلى الإلمام بكل ما كتب حول الإسلاميات في شتى اللغات الحية. إنه لا يطلب مجرد اطلاع ومعرفة سطحية وعابرة بكل هذه الاختصاصات التي قلَّ ما يتاح للمختص أن يلم بها جميعاً مع الإتقان والتفنن، بل هو يطالبه بالإلمام الكامل بهذه العلوم. فمثلاً، عندما يتحدث عن اللسانيات وأهميتها، يقول: «وهذا يعني أنه ينبغي على عالم الإسلاميات أن يكون مختصاً بالألسنيات بشكل كامل، وليس فقط متطفلاً على أحد أنواعها»([4]).

كما أن الإسلاميات التطبيقية تهدف إلى بلوغ اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي. ثم لا ننسى أن أهم العقبات التي يتعين على الإسلاميات التطبيقية تذليلها؛ هو تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة النزعة التيولوجية المتعالية (Le transcendantalisme théologique)([5]).

إن الإسلاميات التطبيقية الأركونية تنعى على الاستشراق الكلاسيكي التواطؤ بشكل غير واعٍ مع ما هو سائد في كبريات النصوص الإسلامية، والذي يمثل وجهة النظر الإسلامية المغلبة. وهذا ما يؤدي -حسب أركون- إلى جملة من الإهمالات التي طبعت الإسلاميات الكلاسيكية. وقد أجمل أركون هذه الإهمالات في النقاط التالية:

1- إهمال الممارسة أو التعبير الشفهي للإسلام عند شعوب لم تعرف الكتابة كالأفارقة والبربر وعموم الجماهير الشعبية.

2- إهمال ما هو معاش دون أن تتم كتابته حتى في المجال الذي يعرف الكتابة. إهمال ما هو معاش غير مكتوب ولكنه محكي.

3- إهمال الكتابات المتعلقة بالإسلام من جنس ما هو غير مرغوب فيه من قبل إسلام الأغلبية، «هكذا تستمر الكثرة الساحقة من علماء الإسلاميات بالاهتمام فقط، وحتى هذه السنين الأخيرة، بإسلام الأغلبية المدعو (أرثوذكسي - سني)، الذي هو في الحقيقة ليس إلا تنظيراً دوغمائياً، جاء فيما بعد، لسلسلة من الأعمال المنجزة تاريخياً. إن الإسلام السني مرتبط بشدة بالإيديولوجيا الرمزية للسلطات التي كانت قد فرضت نفسها بدءاً من عام 661 (بدء بالعهد الأموي)»([6]).

4- إهمال الأنظمة السيميائية غير اللغوية التي تشكل الحقل الديني أو المرتبطة به: ميثولوجيات، شعائر، تنظيم المدن، فن العمارة، الديكور... فالمشكلة الضخمة «للتفاعل المتبادل (أو التحكم المتبادل) ما بين الإسلام كظاهرة دينية وبين كل المستويات الأخرى للوجود الإنساني (اقتصاد، سياسة، علاقات اجتماعية... إلخ) لم تدرس حتى الآن إلا بطريقة استثنائية وسريعة»([7]).

إن هذه الإهمالات هي ما يسوغ مشروعية الإسلاميات التطبيقية، التي جاءت لتسد هذا النقص. حيث كان لهذه الإهمالات نتائج مضاعفة بفعل ما عانت منه الإسلاميات نفسها من إهمال في المجال الغربي. فأركون يعقد مقارنة بين وضع الإسلاميات الكلاسيكية، وبين الآثار المزلزلة التي أحدثتها أعمال كلود ليفي ستراوس. وهو ما نفهم منه أن حلماً كان ولا يزال يراود صاحب الإسلاميات التطبيقية بأن يصبح مشروعه هذا من النفوذ داخل الثقافة الغربية بحجم نفوذ الإنثروبولوجيا التطبيقية نفسها أو النفوذ الذي حققته إنثروبولوجيا ليفي ستراوس في انقلابها التاريخي على الإنثروبولوجيا الكلاسيكية. إنها لحظة من لحظات المقايسة الأركونية التي تتوسل بالعلم الغربي أن يحرر الإسلاميات مما ران عليها، ليس بوصفها، أي الإسلاميات الكلاسيكية، هي إسلاميات مشحونة بالعجرفة التاريخانية وجمود المنهج الفيلولوجي فحسب، كما يصفها دوماً أركون، بل لأن هذه الإسلاميات الكلاسيكية، إضافة إلى تمركزها العرقي المزمن، تتواطأ مع التيولوجيا الإسلامية المهيمنة في المجال الإسلامي نفسه. إن المتهم الأول والأخير، بالنتيجة هو الإسلام التاريخي نفسه بوصفه لم ينخرط في دورة العلم والفكر المعاصرين.

* في مفهوم التراث

ربما قد ينتاب الباحث للوهلة الأولى من اطلاعه على مشروع الإسلاميات التطبيقية، إحساس ما، بأنه أمام جملة من التناقضات الحادة التي تعكس تعددية المنظورات المنهاجية التي جعل منها أركون مداخل أساسية لفهم التراث العربي الإسلامي. لا سيما وأننا أمام ناقد بقدر ما ينهض مشروعه على ما يفيد التهوين من أمر هذا التراث الممارس من قبل أرثذكسياته، واصفاً إياه بالتحجر والاغتراب والقمع وكل الصفات التي تشكلت أساساً في سياق الاستشراق الكلاسيكي الذي واجه نقداً لاذعاً من قبل أركون لهذا السبب تحديداً. ولكننا أيضاً أمام ناقد سعى إلى تحرير التراث من سلطتين معرفيتين: إحداهما تتعلق بالاستشراق الكلاسيكي الذي اعتبره الوارث الشرعي للنزعة الوضعية العلموية المتطرفة والتاريخانية وتتعلق بتسلط الأرثوذكسية الإسلامية التغلبية التي أقصت أشكال التعبيرات الأخرى عن الإسلام. إنه بقدر ما يدعو إلى إيجاد مسافة نقدية بين المسلم وإسلامه -وهي الدعوة التي يصر عليها وأحياناً بالتوسل وإبداء النية الحسنة-([8]) ما يراه هو أمراً مستحيلاً، فهو من ناحية أخرى يخوض نضالاً كبيراً في فرنسا لأجل إدخال التعليم الديني إلى الجامعة ونقده الشديد للنمط اللائكي - العلماني المغلق - في فرنسا. كل هذا لا يمكن فهمه ببراءة. وبمنأى عن الأهداف التي تضطلع بها الإسلاميات التطبيقية.

بتعبير آخر، إن أركون -وبغض النظر عن الموقف الممكن اتخاذه من مشروعه الفكري هذا- يفرض على قارئه إطلاعاً واسعاً وحدًّا أدنى -على الأقل- من الإتقان لأكثر من أربع مائة سنة من التاريخ الفكري والعلمي للغرب. وأيضاً إلماماً معمقاً بالأجهزة المفاهيمية التي يستند إليها في كل مقارباته، معرِّفاً بها في حقولها العلمية التي تشكلت داخلها، وأيضاً القيمة المضافة التي يضفيها الاستعمال الأركوني عليها بحسب السياقات التي تفرضها الإسلاميات التطبيقية. وهذا ما قد نقف عليه في مسألة التراث وموقعه من الإسلاميات التطبيقية. إن لفظ «تراث» لا يحضر مجرداً أو مطلقاً في المتن الأركوني. إنه يعبر به عمَّا هو خاص أحياناً وعمَّا هو عام، وعمَّا هو خاص داخل الخاص (خاصة الخاص). لذلك نجده في أعماله -حيث هي كلها في الأصل مؤلفة بالفرنسية- يتردد بين استعمال لفظ تراث «tradition» بحرف «T» كبير وتارة بحرف «t» صغير. إن السياقات التي يفرضها تعدد المنظورات المنهاجية عند أركون وتنوع مستويات التحليل، هي من يكشف عن المعنى الراجح آنياً للتراث عند أركون([9]).

إن التراث هنا قد يأخذ معنى الإسلام المثالي الذي تقدمه كل جماعة على حدة. فهو هنا يأخذ معنى المذاهب التي تنغلق على نفسها، وترى أن طريقها هو السنة الصحيحة المعبرة عن الإسلام الحقيقي؛ وهو ما يصطلح عليه بالأرثوذكسية. فالتراث بهذا المعنى يتنزل منزلة المذهب. فنكون والحال هذه، أمام تراثات وليس تراثاً واحداً. وكذلك قد يأخذ التراث في السياقات الأركونية معنى آخر عن الأول، أي التراث كما يميزه أركون بـ«التاء» -«t»- الصغيرة في اللغة الفرنسية «tradition». مشيراً إلى المعنى العام للتراث الإسلامي «الكلي» دون حذف أو بتر أو ما يسميه بـ«السنة الإسلامية الشاملة» أيضاً. إنه يسعى من خلال هذا المفهوم الثالث الذي جعل منه غاية للإسلاميات التطبيقية، إلى اختراق النزعة الأرثوذكسية المهيمنة على التراث وعلى الإسلام، والتي تقدم تأويلها للإسلام، بوصفه التأويل الوحيد والحقيقة المطلقة فيما تعمل على إقصاء التأويل الآخر. إن فتح المجال أمام الأشكال الأخرى من التعبير في التراث العربي الإسلامي، وأيضاً نظراً للتأطر داخل الإنثربولوجيا الجديدة والتطبيقية، سيدفع بأركون إلى تبني مفهوم «اللامفكر فيه» -L’impensé-. ومن هنا فالبحث عن اللامفكر فيه داخل هذا التراث هو مهمة استدراكية تزعم الإسلاميات التطبيقية أنها تنهض بها. فإذا تبين بأن اللامفكر فيه هنا هو ثمرة لتراكم ما كان مستحيلاً التفكير فيه في مراحل من التاريخ، أي أن اللامفكر فيه -L’impensé- ما هو إلا نتيجة حتمية لـ«ما يستحيل التفكير فيه» -L’impensable-، لأسباب يرجعها الناقد إلى الرقابة الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، فهذا يعني -كما يؤكد مترجم أعماله د. هشام صالح- «أن محمد أركون يفكر اليوم بكل ما لم يفكر فيه الفكر العربي - الإسلامي طيلة أربعة عشر قرناً من الزمن وبكل ما فكر فيه أيضاً لكي يدرسه وينقده من الداخل»([10]).

البحث في اللامفكر فيه التراثي مهمة خطرة، لأنها تخرق الأسيجة الدوغمائية بحسب وصف أركون لها. أي تلك النزاعات التي فرضت تأويلها للإسلام ورأت في إخضاع التراث للفكر العلمي الحديث خطراً على «المقدس» الذي خلعته على التراث إلى درجة مزجها بين التاريخي والأسطوري، الذي يفرضه العقل الأرثوذكسي بكثافة تبلغ حد التمثل الجسدي -incorporé- في ممارساته الطقوسية، حيث يقمع انبثاق حقيقة البنية الدينية بوصفها بنية مفتوحة ومنغلقة على نفسها في الوقت نفسه. إن هذا الواقع التراكمي لما يستحيل التفكير فيه يجعل المهمة صعبة من دون التوسل باستراتيجية تفكيكية لزحزحة هذه الترسبات الجيولوجية لما يستحيل التفكير فيه -impensable-. إنها استراتيجية لتحرير المكبوت، بالمعنى «التحليل النفسي» psychanalytique» للكلمة. ويجد أركون في مفهوم الزحزحة -le deplacement- والتفكيك -la déconstruction- ضالته في تحقيق هدفه الكبير، ألا وهو اختراق العقل الأرثوذكسي والقبض على اللامفكر فيه([11]).

إن واقع هذا التراكم المزمن لـ«المستحيل التفكير فيه»، لا يفترض فقط استراتيجية للزحزحة تتوسل بالآلية التفكيكية وسيلة لتفكيك طبقات التراث، لنقف على هذا التشظي التراثي مفصولاً عن بعضه بعضاً. بل إن التفكيك هنا لا يحمل المدلول العمائي الذي تبناه دعاة التيه والتفكيك اللامسؤول، بل إن التفكيك هنا، حتى مع ناحته الأول: جاك دريدا، لا يعني أكثر من كونه إجراءً تحليلياً لاكتشاف وفهم البنية تماماً كما في التحليل النفسي للمركبات النفسية. إن أركون يهدف إلى مهمة عملية لا تلتقي مع المذاهب العمائية للتفكيك. بل إنه يحمل عالم الإسلاميات مسؤولية إيجاد تفسير لكل ما كان خارج محاولته ودعوته لتحديد تيولوجيا جديدة للتراث. إن التفكيك هنا يتحول إلى مشروع حفر بالمعنى الأركيولوجي كما في «أركيولوجيا المعرفة» عند ميشيل فوكو... ولكن الحفر الأركوني كالحفر الفوكوني، ليس انتشاء في أعماق التراث المعرفي المترسب أو تاريخ الأفكار، بل هو ممارسة فكرية تهدف إلى كيفية تشكل وانبناء الأفكار وظهورها وغيابها. فيكون التفكيك طريقاً للبناء. والبناء هنا في حقل الإسلاميات التطبيقية يرمي إلى محاولة إيجاد تيولوجيا جديدة للتراث. وهذا أمر في غاية الصعوبة نظراً لوجود معوقات كثيرة، عدا العائق الرئيس الذي يمثله العقل الأوثوذكسي -على حد تعبير أركون-، حيث نجد شيوع النمط المعرفي «القروسطوي» -Medievale-. إن الفكر الإسلامي ما يزال يتأطر بهذا النمط المعرفي. إننا إذا أردنا «تأويل التراث إيجابياً، أقصد جعله قادراً عن طريق النقد البناء على ملأ وظائف جديدة والقيام بها داخل سياق اجتماعي وتاريخي كان قد تبدل جذرياً منذ ثلاثين عاماً ليس هناك أي داعٍ بالطبع للقلق على مصير التراث، فهو يستمر في البقاء مهما يكن النقد [...] وسوف يستمر في الوجود بعد حصول الثورات الأكثر عنفاً [...] للقيام بذلك، لا يمكننا الانطلاق من تحديد تيولوجي أو الاستناد عليه، لأن الفكر الإسلامي كما رأينا قد غلب سريعاً جداً أطر المماحكة الجدالية على مسألة المحافظة على الفكر الجاد والتأمل المهتم كليًّا بتعميق الإيمان. من الضروري أن نخلق هنا شروط إمكانية وجود تيولوجيا جديدة للتراث»([12]).

إن مهمة كهذه لا تقطع مع التراث، بل تقطع مع عقله الأرثوذكسي المتسلط، ومع تقنيات العلوم الكلاسيكية التي قدّم من خلالها التراث، وهي علوم تنتمي إلى النمط المعرفي «القروسطوي»، هي بالأحرى -ومادام التراث هو في النهائية متصلاً بالنص- ما يدعو الناقد إلى إفراد أهمية خاصة للمقاربة السيميائية أو التحليل السيميائي. لقد «أصبح مؤكداً اليوم أن التحليل السيميائي يجبر الدارس على ممارسة تمرين من التقشف والنقاء العقلي والفكري لابد منه. يمثل ذلك فضيلة ثمينة جداً وخصوصاً أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت وشكلت طيلة أجيال عديدة الحساسية والمخيال الجماعيين والفرديين. وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية تجاه النصوص أو بيننا وبين النصوص «المقدسة» دون إطلاق أي حكم من هذه الأحكام التيولوجية أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين فوراً...»([13]).

وليست المقاربة السيميائية وحدها على أهميتها تكفي للقيام بمهمة تأويل التراث تأويلاً إيجابياً. فهناك تفرض الضرورة العلمية فتح المجال أمام المقاربة الاجتماعية بشتى فروعها واختصاصاتها، حيث «عندئذ سوف نجد أنفسنا مضطرين لسلوك الطرق والمناهج الراهنة للمعرفة التي افتتحتها علوم الإنسان والمجتمع»([14]).

ليس التراث الإسلامي عند أركون تراثاً واحداً، بل هو تراثات. ومهمة الإسلاميات التطبيقية تكمن إذن، بالدرجة الأولى، في تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة التراث الواحد؛ ذلك التراث الذي يعيد إنتاج نفسه. ثمة مطلب ناجز لبلورة فهم جديد للتراث أكثر حيوية وخصوبة، تراثاً كلياً وشاملاً: سنة إسلامية شاملة (Exhaustive)([15]).

ليست تلك هي المشكلة الوحيدة في معالجة التراث، فهناك إضافة إلى المقاربات التجزيئية والتقطيعية التي تتواطأ مع النظرة الواحدية للتراث التكراري كما كرستها الهيمنة الأرثوذكسية على التراث، والتي تجلت بشكل واضح في الكتابات الإسلامية المعاصرة، تلك التي يكتبها عرب ومسلمون، أو تلك التي تكرست في الاستشراق الكلاسيكي؛ هناك أيضاً مشكلة التجزيء في التراث نفسه. أي النظر إليه بوصفه مجالاً قابلاً لإجراء مقاربات مجتزئة تخص فعالية من فعالياته فقط، وإهمال الجوانب الأخرى منه. إن أركون يرفض التعاطي مع التراث كما لو كان مجرد أفكار. وهذه النظرة الشمولية للتراث، هي في الحقيقة رؤية مقتبسة من «إيف كونغار» -Yves Congar-([16]) تلك التي ترى في التراث تراثات، وأيضاً ترى فيه تجسيداً لحياة كاملة تشمل الفكر والعواطف والعقائد والممارسات...([17])

وهكذا تستطيع الإسلاميات التطبيقية الخروج من مأزق القطيعة التاريخية -Rupture Historique- التي تكرست في الإسلاميات الكلاسيكية؛ أي انقطاع الفكر الإسلامي المعاصر عن مرحلة امتدت من القرن الثاني حتى القرن الخامس الهجري؛ المرحلة الموسومة بالإبداع. ومن هنا يبدو أركون بصدد وصل الفكر الإسلامي بلحظة القلق المعرفي الذي شهدته هذه المرحلة، في محاولة لتجاوز ما بعدها، أي اللحظة «السكولاستيكية» الموسومة بالجمود والتكرار. فمهمة أركون هنا هي الفصل والوصل؛ تقويض قطيعة من أجل التأسيس لقطيعة أخرى. فصل عن المرحلة السكولاستيكية وإعادة الوصل بلحظة الإبداع. لكنه هنا وصل وفصل أو لنقل قطيعة بين تراثين كما رأينا مع الجابري. غير أنها تختلف هنا، لأنها لا تجعل اللحظة الرشدية الحزمية المغربية المتأخرة، تقطع مع الماضي، بل هي خلافاً لذلك تجعل اللحظة التي تمتد ما بين القرن الثاني والخامس الهجري تقطع مع ما بعدها.

* التراثات ومسلمات العقل الأرثوذوكسي

على الرغم من أن أركون يرفض النظر إلى التراث بوصفه تراثاً واحداً. فاضحاً بذلك سلطة الأرثوذكسية الرسمية الغالبة والمكرسة للتراث التكراري، إلا أن هذا لا يعني أن صفة الأرثوذكسية تقتصر فقط على الأرثوذكسية «السنية» مقابل التراثات الأخرى المحلية والتي استمرت في الوجود بشكل من الأشكال على هامش التراث الرسمي؛ بل إن الأرثوذكسية في نظر أركون تشمل الشيعة أنفسهم وأيضاً الخوارج. نحن إذن، أمام ثلاث أرثوذكسيات، وإن كانت الأرثوذكسيتان الكبريان «السنية» و«الشيعية» استطاعتا نفي غيرهما. إن الجامع والمشترك بين الأرثوذكسيات الثلاث، انطواؤها على المنطق نفسه من حيث هو منطق نافٍ لما دونه أو منكر على غيره إمكانية مشاركته في التراث الحقيقي الصحيح([18]). وأيضاً في كونها ترفض النقد الذاتي. «و لهذا السبب نجد أن كل أرثوذوكسية تحذف ما عداها من ساحة الإسلام الصحيح وتعتبر نفسها الممثل الوحيد للإسلام الصحيح وتتحارب بنفس أسلحة ومحاجات القرون الوسطى»([19]).

يحدد أركون المسلمات المؤسسة للعقل الأرثوذوكسي في جملة نقاط، يتعين على الإسلاميات التطبيقية استيعابها في عملية تفكيك هذا العقل، وهي:

1- الانقسام بين البشر ضرورة. فهناك فريق واحد فقط، يستطيع تلقي الرسالة والإخلاص لها.

2- الحقيقة المطلقة واحدة. وبالتالي لا وجود إلا إلى دين حقيقي واحد، وتراث واحد.

3- تعاصر الأجيال في ضوء فكرة الخلاص الأخروي.

ضمن هذه الشروط يتحدد معنى التعاصر في الآتي:

أ - وحدة «العقل المعنوي السيمانتي» وثبوته عبر الأجيال وتحيينه عبر التاريخ بواسطة كل المؤمنين.

ب- الآحادية المعنوية كما تنقلها الشروح والتفاسير.

ج- عملية التحيين -Actualisation- الدائم للتراث، المتولد عن النصوص، تتم داخل سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة، لكنها لا تترك آثاراً وتصميماً على هذه النصوص.

ح- ارتباط كل « الوحدات النصية» Enoncé، من هذا التراث بسلوك عملي نموذجي ومثالي.

د ـ صحة المنقول وقطيعته وعصمة الصحابة([20]).

من هنا تتضح المهمة المطلوب إنجازها من الإسلاميات التطبيقية. أي تحرير الفكر الإسلامي المعاصر من هذه الأسيجة الدوغمائية بحسب وصف أركون، وذلك برج الأسس والبداهات المؤسسة للعقل الأرثوذوكسي. إن أركون يحاول أن يبرر فعل الانتهاك المناهجي للتراث، ليس بقصد رفع صفة الوحي عن النصوص أو إلغاء شحنتها التقديسية أو إزالة آثار معناها الروحي([21]) بل على العكس تماماً من ذلك، فهو يدَّعي مراراً وتكراراً أنه أكثر حرصاً على إدماج هذه السمات في اهتمام الإسلاميات التطبيقية وإدخالها ضمن لائحة التراث الكلي. غير أنه يؤكد على مسألة -لعلها مثار إشكال ونظر مزمنين- التمييز بين المعرفة والإيمان.

وإذا كانت اللحظة الرشدية في المقاربة الجابرية السابقة ترى في النظام البرهاني ذي الأصل الأرسطي لحظة مائزة وفارقة في مجال غاص بسمات العقل المستقيل، فإن المعالجة الأركونية تعزو هذه الأرثوذكسية إلى هذا النظام التيولوجي الناهض على الأسس المنطقية للفلسفة الأرسطية. إن الحقيقة المطلقة والمعنى الواحد يتجليان بصورة مختلفة في النص الأصلي (=القرآن) والنظام التيولوجي القائم على المنطق الفلسفي الأرسطي. ففي الأول هو مغذٍّ للحنين المطلق إلى التوحيد والعدالة والخلود. أما في النظام الثاني فهو يغذي النزعة الصارمة والثنائية إيمان/ لا إيمان.. عقيدة/ لا عقيدة.. نزعة ثنائية وساكنة. وعليه، فالتراث «عندما يتوجه إلى أكبر عدد ممكن من الناس فإنه يميل إلى ممارسة فعله وأثره طبقاً للنموذج الثاني رافضاً باسم الأرثوذكسية تعددية المعاني والدلالات المتجلية في التفاسير والمدارس المختلفة ورافضاً أيضاً إمكانيات المعنى الاحتمالية...»([22]).

* التراث أمام صدمة الحداثة

يدعو أركون إلى تطبيق العلوم الاجتماعية على التراث. فهذا أمر أساسي في مقاربته القائمة على تعددية المناهج. وبقدر ما كان واضحاً في نقد الهيمنة الأرثوذكسية على التراث انتقد من الناحية الأخرى الموقف الحداثي النافي والمهمل لكل ما هو روحي وديني. وقد كانت لأركون مواقف نقدية من العلمانية لا سيما العلمانية الفرنسية المتطرفة. ويعبر عن وجهة نظره تلك بقوله: «وأما ما يخص مراجعة موقف الحداثة من الدين فإني أقول ما يلي: ينبغي أن نعلم بأن الأديان الكبرى كالإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية... إلخ، تغنينا كثيراً من الناحية الروحية والثقافية إذا ما عرفنا كيف نستمع إليها أو كيف نصغي إلى عمق تجربتها التاريخية. ولا ينبغي رفض كل ما هو ديني بحجة أنه قديم، بالٍ، عفا عليه الزمان. لا، هذا لا يجوز. لأننا عندئذ نبتر أنفسنا ونبتر التاريخ الروحي والثقافي للبشرية»([23]).

ويوضح ذلك أكثر وبشكل عام في سياق نقده للنزعة العلموية والتاريخانية المتطرفة: «فليس بالعقل وحده يحيا الإنسان، وإنما برطوبة الخيال أيضاً وجموحه واتساعه الخلَّاق. ولكننا نلاحظ أن العلوم الاجتماعية والسياسية لا تقبله عموماً. فهي ليست مستعدة لاعتبار العقل والخيال كشيئين مترابطين أو يمكن أن يتواجدا معاً، وإنما كشيئين متضادين أو متنافيين [...] إنها ليست مستعدة لاعتبارهما كمادتين تتداخلان بشكل مترابط ومتساوق في كل مجالات المعرفة»([24]).

لقد نعى أركون على أولئك الذين اصطنعوا فكرة الغرب والشرق، وحملوا على كل واحد من الاثنين صوراً مفارقة عن الآخر، في حين كلاهما ينتميان إلى المرجعية الثقافية العميقة المتمثلة بالفكر الإغريقي والديانات التوحيدية. إن العالم العربي هو غرب وليس شرقاً. الشرق هو الشرق الأقصى الذي يتمثل بالصين واليابان والهند. ولذا يصف التضاد المزعوم والمضخم بين الشرق والغرب بالكارثي([25]).

إن للحداثة أزمتها تماماً كما للتراث أزمته. والإسلاميات التطبيقية جاءت أساساً كي ترفع عن الفكر الإسلامي هيمنة الاستشراق الكلاسيكية، من خلال توسيع مهمة المناهج الاجتماعية الحديثة في مقاربتها للتراث العربي والإسلامي، من مجرد مقاربة تصنيفية ووصفية فيلولوجية إلى الانخراط في إشكاليات هذا التراث نفسه. كما أنها ستعمل على إغناء الفكر الإنساني بشكل عام. إنها دعوة إلى ضرب من النقد المزدوج قام به أركون بقوة وجرأة نادرين؛ لكن إلى أي حد وُفِّق في كل ما دعا إليه وطبقه؟

* ملاحظات أولية على المقاربة الأركونية

يفرض المتن الأركوني على قارئه إلماماً واسعاً بقارة كاملة من المناهج والمفاهيم الفكرية والفلسفية، ربما قد لا نبالغ إذا ما قلنا: إنه يشترط على قارئه إلماماً واستيعاباً لكل المعطيات المنهاجية والمفاهيمية للحداثة. بل إن الباحث سيجد نفسه هنا أمام تقاطعات منهاجية لا تتوقف، إذ كل المفاهيم تلتقي هنا مع بعضها، وكل المناهج تتخاطب وتتبادل الأدوار فيما بينها، إلى حد يجعل القارئ لهذا المتن المتوتر والمكثف باستشكالاته، يعجب كيف تصبح هذه المناهج الفلسفية والعلمية الحديثة على ما هي عليه من تضاد وتنافر، تتداخل فيما بينها، منتجة ضرباً هجيناً من المناهج المتاخمة أو الأنظمة المعرفية المتلاقحة، ما يثير حقًّا إشكالية الأسس الإبستيمولوجية لهذه المناهج ذاتها. إنما يظل السؤال المطروح: كيف أمكن لأركون أن يُوفِّق بين هذا الحطام المناهجي الضخم في وقت قلما يحدث فيه هذا في حقول أخرى تنتمي إلى المجال التداولي الغربي، حيث نشأت وتكاملت هذه المناهج. فهل معنى هذا أن مجال الإسلاميات الذي هو مجال أجنبي عن هذه المناهج استطاع أن يحقق معجزة توافق المناهج الغربية الحديثة أكثر مما استطاعته المجالات الأم. إن أركون هنا هو حشوي مناهجي بامتياز فهو لا يشغل باله بالمشكلات التي يطرحها السؤال الإبستيمولوجي حول انتقال المفاهيم من منظومة إلى أخرى أو علاقة المناهج بمجالات الاشتغال وقد بلغ الحشو المناهجي عند أركون حدًّا، بات يدعو فيه إلى ضرب من الإعجاز حيث طالب المسلم النموذجي أو الباحث في الإسلاميات التطبيقية بأن يكون عالماً بكل صنوف المعارف والصنائع، بتفنن وإتقان. على القارئ النموذجي في الظاهرة الدينية وتحديداً الإسلاميات التطبيقية أن يكون حشوياً مناهجياً لا يكترث للمأزق الإبستيمولوجي الناجم عن تزاحم الأدلة والطرق والمناهج، وكأننا أمام لحظة استدراك معجز يتوسل بالممتنع. بل نقول باختصار: إن الدعوة الحشوية المناهجية للإسلاميات التطبيقية الأركونية تطرح مشكلة على مستوى ما يمكن نعته بإبستيمولوجيا الاستعارة المناهجية غير الخاضعة لاستراتيجيا واضحة، لنقل: علم مناهج مقارن أو ميتودولوجيا تحدِّد اختياراتنا المناهجية قبل الحديث عن علم أديان مقارن. وأيضاً تطرح تحديًّا أمام ما نسميه بمنطق الاقتصاد المناهجي. الأمر الذي يجعل المهمة أشبه ما تكون برحلة سيزيفية تكاد تكون متعذرة في ضوء إمكانات النظام التربوي المعاصر القائم على أساس التخصص والتخصص في فروع التخصص. فلا ينبغي الانخداع بهذا الاختيار المهووس بتحشيد المناهج وتعددها. بل كان علينا أن نسائله عن مدى تمكنه منها ومن تطبيقها دون توتر المجال المدروس ودون وقوع في اختزالات وإسقاطات وأشكال التناظر السطحي. وأن نناقشه حول جدوى الاقتصاد المناهجي في الإسلاميات التطبيقية التي حاول هذا الأخير تمييزها عن الاستشراق الكلاسيكي. ومع ذلك فهي تظل حقلاً يتسع للاستشكالات نفسها ولمفارقات لا يمكن أن يتخلص أركون من تبعاتها إلا إذا اكتفى بالإقرار بأن مشروعه هو بالأحرى مشروع قراءة من أجل الفهم وليس الفعل. وليس مشروعاً نهضويًّا إيديولوجياً واعياً بنقده الإيديولوجي. إن الدعوة المفتوحة انفتاحاً بلا شرط على غرار ما أسماه إمبرتو إيكو بالمتاهة الهرمسية، لتحشيد المناهج الممكنة من أقصاها إلى أقصاها، يثير إشكالية النقد الإيديولوجي عند أركون. فلا توجد إبستيمولوجيا داعمة للإسلاميات التطبيقية ولهذا الاختيار المولع بلعبة الاستدماج اللامشروط للمناهج، بحيث يتم طقس استدماجها في جو من الأنس المتخيل، وليس في جو من القلق الإبستيمولوجي المتوقع. إذا كان أركون يميط لثام النموذجية عن الباحث في الإسلاميات التطبيقية، حيث لا يتسنى له تحقيق ذلك إلا إذا كان هذا الأخير ملمًّا ومحيطاً بأربعة قرون من تاريخ المعرفة الحديثة إحاطة متخصص في كل الصنائع والفنون، فكيف يتوقع من قارئ مفترض من العموم أن يستوعب نتائج هذه المغامرة ويستوعب خلفياتها القرائية. إن أركون يطلب من مجتمع المؤمنين أن يعطوه فرصة ويصبروا -يطولوا بالهم عنه-. وكأن المشكلة في نظر أركون هي في أن تصبر القاعدة السوسيولوجية الواسعة أو لا تصبر. وهي كما تبدو دعوة غير قادرة على إقناع المجال المدروس، ما يجعل الدعوة تتراجع إلى حدود التهمة، وتعليق الأزمة على الجمهور واستثناء النخبة. بهذا المعنى تبقى دعوى أركون واحدة من أشكال اليوتوبيا والبدائل الغارقة في المثال الممتنع. لتتحول بدورها إلى تجلٍّ من تجليات أزمة الفكر العربي والإسلامي وليس محاولة من محاولات الخروج من أزمته.

لقد استطاعت المغامرة الأركونية أن تقدم أفكاراً لافتة أو بالأحرى مقايسات مثيرة. لكن يظل السؤال مطروحاً: هل هي أفكار لافتة من حيث كونها صادمة للمألوف ومتجرئة على ما هو في عداد اللامفكر فيه، أم من حيث هي نتيجة لتطبيق المناهج الاجتماعية في قراءة التراث؟ إن الدعوة إلى تحرير التراث العربي والإسلامي من سيطرة النموذج الواحد، وهيمنة التراث الواحد، هي دعوة غاية في الأهمية بل لعلها مطلب تاريخي تراثي وليس حداثياً. إن أركون بهذا المعنى لم يأتِ بجديد لم يلتفت إليه القدامى أو حتى أولئك المحسوبون على الاستشراق أو الإسلاميات الكلاسيكية، ممن لم يستثنهم أركون من أحكامه المطلقة الموجهة للاستشراق الكلاسيكي، على الرغم من إفادته من نتائجهم وخبرتهم. أعني أمثال ماسينيون وهنري كوربان وإيفانوف... أي أولئك المستشرقون الذين خرقوا القاعدة قبل قيام الإسلاميات التطبيقية واجترحوا أسلوباً فريداً على صعيد البحث والتحقيق قائماً على أساس المعايشة ومقاربة التراث الآخر المهمش.

لا شك في أن ملاحظات كثيرة قد أثارتها وتثيرها الإسلاميات التطبيقية.وسنكتفي هنا فقط بعدد من التساؤلات في انتظار إجابات وافرة عليها. وهي تساؤلات تفتح أفقاً لمرحلة أخرى من النظر:

- إلى أي حدٍّ استطاع أركون تحقيق حلمه الكبير الذي طالما وعد به قراءه لمدة تزيد على ثلاثة عقود، ولازالوا ينتظرون؛ أعني مشروع الإسلاميات التطبيقية التي لا تزال في حيز الدعوة المجردة؟

- أي آفاق تسمح بها الإسلاميات التطبيقية لتحقيق حد أدنى من الإبداع في مجال المناهج والمفاهيم، حيث اقتصرت الدعوة الأركونية على فعل الاستعارة ليس إلا!

- ما مدى جدية المطلب الأركوني في دعوته إلى تعددية المناهج في مقاربة التراث العربي والإسلامي، وهل ذلك من المتاح لعالم الإسلاميات التطبيقية؟

- كيف يفترض في جمهور المسلمين أن يكونوا على اطلاع على كل هذه التراثات وأيضاً على كل هذه المناهج الحديثة.

- هل وفق إلى تطبيق تلك المناهج في حقل الإسلاميات؟

هذا، بالإضافة إلى عدد من التساؤلات، يمكننا أن نتساءل: هل يفترض في جمهور المؤمنين أن يكونوا على اطلاع واسع وإتقان كبير لكل هذا الحطام المناهجي الحديث حتى يُوفَّقوا إلى بناء رؤية جديدة عن إيمانهم؟ والسؤال الذي سيبقى مفتوحاً: إلى أي حدٍّ يمكن للمناهج المذكورة، مهما قيل حول كفاءتها، أن تقدم تفسيراً للإيمان والاعتقاد أو تخضعه للدرس السيكولوجي. وإلى أي حدٍّ يمكننا التسليم بفكرة وحدة الإيمان كما يقدمها علم النفس الإنثروبولوجي الذي يشكل واحدة من دخائر الحشو المناهجي الأركوني. بمعنى آخر: إلى أي حدًّ يمكننا نفي دخالة المعرفة في تحديد نوعية الإيمان، بمعنى آخر: كيف يقتحم الكيف مقولة الكم. وأخيراً وليس آخراً: إلى أي حدٍّ يمكننا الحديث عن سوسيولوجيا التلقي بالمعنى الذي قدمه هانس روجس، وتبناه أركون، دون أن نسقط في انزلاقات قد تؤدي إلى عكس ما دعا إليه أركون، من احترام استمرارية الدين والمقدس؟

 



(([1])) ورقة مقدمة للمؤتمر التخصصي الأول: «فهم الدين وإشكالية المنهج»، نظمه معهد المعارف الحكمية (للدراسات الدينية والفلسفية) في بيروت، عقد في 1 و2 (يومي الجمعة والسبت) من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2004م، الموافق لـ 15 و 16 من شهر شعبان 1425هـ.

([2]) د. محمد أركون: تاريخية الفكر العربي والإسلامي، ص 54، ت: هاشم صالح ط 3 - 1998 - مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي - بيروت.

([3]) المصدر نفسه ص 57.

([4]) المصدر نفسه ص 57.

([5]) المصدر نفسه ص 101.

([6]) المصدر نفسه ص 52 - 53.

([7]) المصدر نفسه ص 52 - 53.

([8]) د. محمد أركون: الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ص 31، ت: هاشم صالح ط 2 - 1996، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي. بيروت.

([9]) انظر مقدمة هشام صالح على المصدر نفسه، ص 17.

([10]) المصدر نفسه ص 18.

([11]) يقول أركون بخصوص مفهوم «اللامفكر فيه»: لكي نتحمل مسؤولية المفكر فيه (Le pensé) واللامفكر فيه (L’impensé) اللذين تراكما طيلة القرون الأربعة عشر الماضية، فإننا سنبتدئ ببلورة مفهومي الإسلام والتراث (بالمعنى الصغير للكلمة). سوف ندرس بعدئذ وضع التراث في المجال الإسلامي. وسوف نحاول أخيراً بلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي (أو السنة الإسلامية الكلية) استناداً على المعطيات الناتجة والمتجمعة لدينا». انظر: الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية ص 18.

([12]) المصدر نفسه ص 31.

([13]) المصدر نفسه ص 32.

([14]) المصدر نفسه ص 31.

([15]) المصدر نفسه ص 31.

([16]) لا ينكر أركون ذلك التأثر الكبير بإيف كونغار، حيث يؤكد قائلاً: «إني أستشهد بهذا النص لسببين: الأول، هو أنني أشاطر إيف كونغار تحليلاته بخصوص دقة مصطلحاته وصحة مقاربته للتراث في مواجهة الانتقادات الوضعية ضمن سياق الأزمة الحداثوية...» انظر المصدر نفسه ص 49.

([17]) المصدر نفسه ص 33-31.

([18]) المصدر نفسه ص 25.

([19]) المصدر نفسه ص 25.

([20]) المصدر نفسه ص 26.

([21]) المصدر نفسه ص 33.

([22]) المصدر نفسه ص 35.

([23]) د. محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص 321 - 322، ت: هاشم صالح ط 2 - 2000 - دار الطليعة، بيروت.

([24]) المصدر نفسه ص 200.

([25]) المصدر نفسه ص 202.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة