تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تحرير العقل من نفسه قراءة في موقف العلامة الفضلي من جدل الأنماط

حسن خليفة

*

«عقلُ مَنْ يا عَقلُ فكَّرنا به

ما لنا بالعقلِ صرنا تُعَسَاءْ

إنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ وكذا

إنَّ بعضَ العقل في الإثم سواء»

مناسك عشق

بَيِّنٌ من العنوان أنَّ هناك عقلاً مُسْتَحوَذٌ عليه، ومُسْتَحوِذٌ، مأسورٌ وآسِرٌ، وأنَّ في البين إرادة تحرير تشكَّلت على الأساس من رؤية أنتجت موقفاً من جدل الأنماط متمثلاً هذا الموقف في منتج ملفت، يستدعي فعل قراءة تستجلي التحرير باعتباره قيمة إبداعية في العطاء الفكري للعلامة الفضلي. وهو ما تطمح إليه هذه القراءة.

* إشكالية النمط

تطلق كلمة النمط (Type) ويراد بها عدة معانٍ، كالنوع، والصنف، والطراز، وتطلق كذلك «على الطريقة الأساسية التي يصطنعها المرء لتوجيه طاقته النفسية»([1])، وإذا أشار المعنى الأخير إلى البعد النفسي في الشخصية الفردية كالانبساطية والانقباضية، فإن المراد هنا السلوك المنمَّط، ولكن على الصعيد الفكري.

لاحظ أنه -إلى الآن- لم يحضر المنهج (Gurricuium) فالنمط غير المنهج، إنه أخص منه، لأنه أعني النمط، لا في الإعلان عن الانتماء إلى منهج ما، وإنما أثناء ممارسة المنهج، فهو داخل في نسيجه، ولا يعدو سياقاته.

وإلا، فلماذا يظهر الفرق أحياناً بين باحثين ينتميان إلى منهج واحد، ويبحثان قضية واحدة لموضوع واحد، ولماذا يهيمن سياق على كثيرين يخرقه آخرون غير منمَّطين.

إن وحدة الموضوع والقضية والمنهج لا توحد النتيجة مطلقاً، وما ذلك إلا للتفاوت الحاصل في الأنماط ومستويات التعاطي معها ضمن تلك الوحدات كلها.

ومن هنا كانت الإشكالية.

ولكي نسلط الضوء على الوقوع في أسر التنميط لدى ممارسة العملية المنهجية لابد من الإشارة إلى نماذج انزلق فيها النهج نحو التنميط، ولأن العقل -هنا- بمثابة البؤرة من جدل الأنماط في عنوان القراءة هذه، فسأقتصر على مناهج الدرس الكلامي لرصد تنميطاتها رصداً نقديًّا مستفيداً من ترسيمة شيخنا العلامة الفضلي لتلك المناهج في خلاصة علم الكلام.

* المناهج الكلامية وانزلاقات التنميط

يؤكد شيخنا العلامة الفضلي أن «منهج البحث في علم الكلام، أو الطريقة التي يعتمدها الباحث في دراسة مسائله وقضاياه، أفكاره ونظرياته، يختلف باختلاف وجهات نظر علمائه ومدارسه التي تعرف بالفرق الكلامية في المنهج الذي ينبغي أن يتبع في دراسة وبحث الفكر الديني»([2]).

ما يعني أن تلك الفرق، أو المذاهب أو المدارس الكلامية لا تعدو في بناها المعرفية وفي هيكلية تنظيم أفكارها اختيار واحد من المناهج التالية:

- المنهج النقلي أو (البياني) الذي يعتمد على النص الشرعي وما يؤدي إليه مصدراً وتفسيراً...، وهو منهج أهل الحديث من الظاهرية، والسلفية، وغيرهما.

بيد أن النقليين يختلفون فيما بينهم، ولذلك كانوا مذاهب عدة، من ظاهرية وسلفية، وحشوية، و...، ولعل فرقة الحشوية تمثل بين أهل الحديث النقليين النموذج الأجلى في الوقوع في شرك التنميط، فقد وصل بهم الحد إلى القول عن الله سبحانه وتعالى أنه: «جسم من لحم ودم، وله الأعضاء حتى قال بعضهم: اعفوني عن اللحية والفرج وسلوني عما وراءه»([3]).

إنَّ أصول المنهج النقلي في جوهرها الصافي لا يمكن أن تسلم الناهج إلى هذا المستوى من الشطح والشطط، وإلا لوقع كل النقليين البيانيين فيما وقع فيه مشبِّهة الحشويّة الذين لم يبالغوا فقط، بل غالوا في الاستسلام للتنميط على انتهاجهم النقلي البياني.

- المنهج العقلي أو (البرهاني) الذي يلتزم البراهين والمبادئ العقلية الفلسفية الكلاسيكية وما ينسجم معها من أنظمة تفكير، وهو منهج المؤوِّلة -كما ينعتهم أهل الحديث- من معتزلة ومن تأثر بهم.

وقد ابتنى العقليون أصول منهجهم على ما يلي:

«1- الضرورة العقلية (بداهة العقول).

2- سيرة العقلاء.

3- البديهيات العقلية (المنطقية) وهي: استحالة الدور واستحالة التسلسل، واستحالة اجتماع وارتفاع النقيضين.

4- المبادئ الفلسفية المسلَّم بها، مثل: مبدأ العلية، مبدأ القسمة إلى الواجب والممكن والممتنع.

5- اعتبار النصوص الشرعية مؤيدة ومؤكدة لمدركات العقل وأحكامه.

6- تأويل النصوص الشرعية التي تخالف بظاهرها مرئيات العقول وفق مقتضيات القرينة العقلية.

7- الأخذ بالمتشابه بتأويله في ضوء ما ينهي إليه النظر العقلاني»([4]).

واختلاف العقليين فيما بينهم أدى إلى مذاهب واتجاهات ضمن المنهج أو أن كثيراً من المذاهب والاتجاهات الكلامية تأثرت بالعقل الفلسفي الذي بلغ الذروة في المنهج العقلي لدى المعتزلة، فـ«لم يكن هناك عالم من علماء المسلمين بعد نشوء المدرسة العقلية على أيدي المعتزلة إلا وتأثر بمنهجهم منذ نشأتهم إلى يومنا هذا»([5]).

الأمر الذي يفضي إلى تشكيل تنميطات عدة ضمن المنهج العقلي بسبب كثرة المنتمين إليه، فالمعتزلة وحدهم يناهزون العشرين فرقة([6])، ومن تأثر بهم من مذاهب واتجاهات غير قليلين، ما يعني كثرة الشطط والوقوع في أسر النمط.

إن أصول المنهج العقلي المشار إليها -هنا- بتفصيل أكثر من أصول المناهج المساوقة انسجاماً مع كون البحث منصباً في أساسه على العقل وكيفية تحريره من أسر نفسه، ومن وقوعه في دائرة جدل الأنماط للمناهج الكلامية المصاحبة، أصول المنهج العقلي تلك لو تم ضبط إيقاعها لِتَسْلم من التورط في التنميط لما وقع منتهجوها من العقليين في الشطحات المبطنة ليقولوا بمثل نظرية العقول أو الأفلاك العشرة، وبمثل نظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وبمثل المُثل الأفلاطونية وما إلى ذلك...، الأمر الذي سنقف عنده فيما بعد.

- المنهج التكاملي الذي يؤمن بإمكانية الجمع بين المنهجين (النقلي والعقلي) إذ لا تعارض بينهما في حقيقة الأمر، وهو منهج الإمامية والأشاعرة، وغيرهما من التكامليين أو (النقلعقليين).

إن أصول المنهج التكاملي (النقلعقلي) تبدو أكثر اتزاناً من أصول المنهجين (النقلي والعقلي) كل على حدة، بيد أنه ما وقع من نزوع نحو الوقوع في أسر التنميط لدى النقليين من جهة، ولدى العقليين من جهة قد يقع لدى التكامليين حين ينفلت من سيطرتهم ضبط الإيقاع بين الجهتين في كفتي الميزان.

بل الأدهى من ذلك، حين يدخل المنمَّط النقلي مع المنمَّط العقلي في جدل كي يتنافيا فإذا بهما يتحدان ليكوِّنا من اللا مقبول النقلي، واللا معقول العقلي مكوناً مركباً بصورة معقدة من الوقوع في أسر النمط التكاملي متوهماً أنه لم يشطح عن المنهج.

ولعل القول بالحقيقة المحمَّدية النموذج الأجلى لتكاملية توفيقية أو تلفيقية بين نصوص غير ثابتة سنداً ودلالة لدى المحققين من النقليين، وبين نظريات فلسفية لم تصمد أمام نقد المحققين من العقليين.

- المنهج الوجداني أو (الذوقي) الذي يؤمن بالتجربة الروحية طريقاً لتصفية الباطن وتربية الظاهر وإدراك الحقائق بالحدس والإلهام والكشف لا بالاستدلال والبرهان ما يؤدي إلى التعلق بما يدهش كالخوارق باعتبارها كرامات أو فيوضات تدل على القرب من المحبوب والاتصال بالمعشوق.

وهو منهج الصوفية.

ولأن الوجداني (الذوقي) تجربة شخصية فلا سبيل للبرهنة على معطياتها عقليًّا ولا حسيًّا، ومن هنا كان النكير عليه من الخصوم. قال ابن عربي (ت 638هـ): «وينكرون الذوق لأنهم ما عرفوه من نفوسهم، مع كونهم يعتقدون في نفوسهم أنهم على طريق واحدة، وكذلك هو الأمر، أصحاب الأذواق على طريقة واحدة بلا شك، غير أن فيهم البصير والأعمى والأعمش، فلا يقول واحد منهم إلا ما أعطاه حاله، لا ما أعطاه الطريق، ولا ما هو الطريق عليه في نفسه»([7]).

إذا كانت الطريق واحدة وفيهم البصير والأعمى والأعمش، ولكلٍّ أحوال ومقامات...، فكيف إذا كان لكل شيخ طريقة. إن من يقرأ الفتوحات المكية على سبيل المثال سيجد شواهد عدة للوقوع في أسر التنميط، وما تجارب بعضهم التي خلطت الخواطر بالخوارق والكرامات والإلهامات والأوفاق والطلسمات والحدوس إلا دليل على كثرة قبول الوجداني لما يوصف بشطحات الصوفية([8]) على الرغم من الكثير من جوانب الجمال في حالات الصفاء الوجداني إن لم تفترس من شطط الغلو ومن الوقوع في سحر النمط.

- المنهج العرفاني الذي يضيف الوجدان ويُعلي منه بجانب النقل والعقل في عملية تكاملية تؤمن بضرورة الجمع بين البياني والبرهاني والوجداني.

وهو منهج الإسماعيلية، وغير واحدة من الفرق الأخرى([9]).

والمنهج العرفاني تكاملي الأصول، ما يعني أنه مركب من النقل والعقل والوجدان، فيقال فيه ما قيل في المنهج النقلي، والعقلي، والوجداني، وما قيل أيضاً في المنهج التكاملي من حيث الوقوع في أسر النمط أحياناً، وفي مفارقة ضبط الإيقاع الداخلي لمكونات المنهج.

والعرفانيون كثر، لا يجمعهم مذهب واحد أو اتجاه محدد، إلا أنَّ منهجهم له خصوصية في إضفاء طابع عام على إنتاجهم يتَّسم بتحرك الوجداني بين البياني والعقلي؛ لذلك فإن الانزلاقات النمطية غير مأمونة إذا لم يضبط الإيقاع وإذا انضبط أشرق وانطلق بعيداً عن ظلمات النمط.

* بين جدل المناهج وجدل أنماطها

لا شك أن المناهج الكلامية (النقلي/ العقلي/ التكاملي/ الوجداني/ العرفاني) كانت وليدة السياق الجدلي لدى الفرق الكلامية، ما يعني أن تشكُّل هوية لكل منهج واتضاح أصوله عنصر أساس في ضبط إيقاع الجدل فيما بين الفرق الكلامية على الأساس من وعي المناهج التي تحركها من الداخل وتعمل على الاستفادة من مرجعياتها الفكرية المتنوعة لتقوم فيما بينها عمليات تداخلية تخارجية تعمل -في جوانبها الإيجابية- على إبقائها في حالة من الحيوية والخصوبة المنتجة، وفي جوانبها السلبية تراوح منوالها فتصاب بالعقم والجمود...، فحينئذٍ ستتوالد الأنماط فيما بينها، فتطغى على الجو لتأسر العقل الفطري وتكسر أجنحته، ليصبح في قفص العقل المنهجي معتقلاً، لا لينطلق العقل المنهجي الكلامي في فضاءات العقل الفطري ليسلم من إفرازات التنميط المتولدة في هذا السياق.

إن كل منهج من المناهج الكلامية المشار إليها يحتاج إلى موقف يتأسس على الفحص والتحليل والتعليل لتصفيته من الشوائب والتنميطات المتراكمة ولتخليصه من الأصر والأغلال متطهراً يصلي في محراب العقل الذي به تَعَبَّدَنَا الله سبحانه وعليه فطرنا.

بيد أنني سأقف على العقلي فقط باعتباره منهجاً في سياق العقل باعتباره فطرة لأفهم ماهية الأسر، وكيفية أسر العقل نفسه، وبالتالي الحاجة للتحرير، وماهيته، التي تأبى الانجرار وراء سلطة النمط، وكيف استطاع شيخنا العلامة الفضلي -أفادنا الله بعلمه- أن يخوض الغمار دون أن يقع تحت سلطة النمط، ليبقى دائماً صاحب العقل الحر المبدع لنستوحي من فكره الخلَّاق، ومن سيرته العلمية الرائدة- تحرير العقل من نفسه.

نظرية الفيض (Emanation) أو الصدور (Procession)

في المعجم الفلسفي إن «المقصود بالفيض أن جميع الموجودات التي يتألف منها العالم تفيض عن مبدأ واحد...»([10])، وأن الصدور يطلق «في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة على فيض الموجودات عن الواحد...»([11])، «فالصدور إذن هو الفيض»([12])، «والفيض مرادف للصدور»([13]).

لم يقف الفلاسفة والمتكلمون عند هذا الحد في تصور الصدور والفيض عن الله الواحد خالق الموجودات كلها، وإنما تحدثوا في ذلك الفيض والصدور، وفي كيفية صدور كل هذا العالم الكثير المركب عن الواحد البسيط. فهل يعطي الواحد متعدداً، والبسيط مركباً، وفاقد الشيء لا يعطيه، إذ لابد من وجود سنخية بين العلة والمعلول...، وهو ما يعرف عندهم بنظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. فكيف كان تعاملهم مع النظرية في سياق الفيض الإلهي للوجود.

نظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد

قال أستاذنا الشيخ الفضلي: «قد ذهب جلُّ متكلمة وفلاسفة المسلمين إلى انطباق وتطبيق هذه النظرية على المبدأ الأول؛ لأنه واحد، ولا تكثر فيه، فقالوا: لابد أن يكون الصادر الأول عنه واحداً وفي سلسلة تتكثر فيها الجهات لتعطي الكثرة»([14]).

وبعد أن أوضح أن «مؤدى النظرية: أن الفاعل إذا كان واحداً لا يمكن أن يصدر عنه من جهة واحدة إلا معلول واحد»([15]) قام بدراستها دراسة وافية، مقدماً عرضاً تاريخيًّا لنشأتها وتطورها بين متبينها وناقديها.

فأول ما وجدت النظرية في الفلسفة الإغريقية ثم تسربت إلى أجواء الجدل في العصر العباسي، فتبناها من تبناها ونقدها من نقدها من الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، وممن تبناها الفارابي (ت339هـ) وابن سينا (ت428هـ) إلى نصير الدين الطوسي (ت672هـ) وغيرهم، وحتى من المعاصرين كالعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي. وممن نقدها من القدامى ابن رشد (ت595هـ) وفخر الدين الرازي (ت606هـ) والعلامة الحلي (ت762هـ)، ومن المعاصرين الشيخ الخاقاني (ت1406هـ).

من أدلة المثبتين

ما ذكره السيد الطباطبائي في بداية الحكمة: «إن من الواجب أن يكون بين العلة ومعلولها سنخية ذاتية ليست بين الواحد منها وغير الآخر، وإلَّا جاز كون كل شيء علة لكل شيء، وكل شيء معلولاً لكل شيء، ففي العلة جهة مسانخة لمعلولها هي المخصصة لصدوره عنها، فلو صدرت عن العلة الواحدة وهي ليست لها في ذاتها إلا جهة واحدة معاليل كثيرة بما هي كثيرة متباينة غير راجعة إلى جهة واحدة بوجه من الوجوه لزمه تقرر جهات كثيرة في ذاتها، وهي ذات جهة واحدة، وهذا محال»([16]).

ولأنهم يؤمنون أن العالم كله صدر عن الله الواحد، مع إيمانهم بـ(الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) ابتدعوا عدة نظريات للخروج من المأزق الفلسفي الجدلي الذي وضعوا أنفسهم فيه، فكانت:

- نظرية المثل الأفلاطونية (أرباب الأنواع).

- نظرية العقول الفلكية.

- نظرية العقول الطولية.

وقبل التطرق للعقول الطولية، والفلكية، والمثل الأفلاطونية، تلك النظريات التي انبثقت من محاولة التوفيق بين النظرية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) وبين الإيمان الفعلي بصدور العالم عن الله الواحد سبحانه، لابد من طرح سؤال -ونحن بصدد المنهج العقلي- وهو هل أن التفكير العقلي الذي أنتج كل تلك النظريات كان وفياً للخطوات التي ينبغي أن يتبعها العقل في الاستدلال والبرهان.

إن أول مرحلة من مراحل التفكير العقلي السليم (مواجهة المشكل المجهول) ويأتي بعدها مباشرة «معرفة نوع المشكل، فقد يواجه المشكل ولا يعرف نوعه»([17]).

فهل المجهول أو المشكل الذي واجهه العقليون -هنا- من النوع الذي يمكن مواجهته بالطريقة التي واجهوه بها؟

يجيب ابن رشد (ت595هـ) بقوله: «هي قضية اتفق عليها القدماء من الفلاسفة [يعني الواحد لا يصدر عنه إلا واحد] حين كانوا يفحصون عن المبدأ الأول للعالم بالفحص الجدلي وهم يظنونه الفحص البرهاني»([18])، وإذا تذكرنا عناصر المنهج العقلي في بداية البحث، لوجدنا مع ابن رشد، أنهم تجاوزوا البرهاني إلى الجدلي ظانين أنهم في قلعة العقل، في حين أنهم أوقعوا العقل ضحية تنميطات أفرزها الجدل وتراكماته ورواسبه، ولم يستطع العقل الذي استسلم لسلطة النمط أن يحرر نفسه مما لا يشعر أنه واقع فيه.

ويأتي تأكيد العلامة الفضلي ما قاله ابن رشد حول النظرية بقوله: «إن سبب نشأتها يرجع إلى أن الفلاسفة اليونانيين كانوا يذهبون إلى ثنائية المبدأ الأول فيعتقدون بإله للخير وإله للشر، ثم قالوا بوحدانية المبدأ الأول، وبالمقارنة بين وحدته وكثرة العالم المخلوق له جاء سؤال (كيف تصدر هذه الكثرة عن تلك الوحدة) يفرض نفسه عليهم، فذهبوا يلتمسون له الإجابة»([19]) التي كان منها القول بـ:

- نظرية المُثُل الأفلاطونية (أرباب الأنواع)

وقد تسمى بنظرية العقول العرضية في قبال نظرية العقول الطولية التي تبناها المشائيون، فيما تبنى هذه النظرية الإشراقيون، وقد «نسبت إلى أفلاطون (ت348ق.م) لأنه هو الذي بلورها، بعد أن مهد لنضجها على يديه من تأثر بهم ممن سبقوه أمثال أستاذيه بهرقليطس وبرمنيدس، والفيثاغوريين، وأستاذه سقراط (ت399ق.م)، واعتبرها هي الصادر الأول عن المبدأ الأول. وتبناها الإشراقيون فأثبتوا أن في عالم الجبروت عقولاً عرضية لا علية ولا معلولية بينها، يحاذي كل عقل منها نوعاً من الأنواع المادية الموجودة في عالم الناسوت هو الذي يدبره بواسطة صورته النوعية فيخرجه من القوة إلى الفعل.

ومن هنا سميت هذه المثل بـ(أرباب الأنواع) أيضاً»([20]).

وهذا يعني -بحسب رأيهم- أن الله الواحد سبحانه، صدر عنه بصورة عرضية أفقية عدة عقول كان كل عقل صادراً من جهة ليكون واسطة في الفيض للأنواع المندرجة تحته فهو (رب لنوع من أنواع الموجودات)، «والمقصود من رب النوع أنه فرد من النوع مجرد عن المادة والمقدار، ومتحد الماهية مع أفراد النوع المتحققة في الخارج سواء أكان نباتيًّا أو حيوانيًّا أو إنسانيًّا.

فهو ليس بجسم ولا جسماني حال في الجسم غير مفتقر إلى محل ولا إلى مكان ولا زمان كما يفتقر وجوده إلى قابل، ولا موضوع ولا معد، فإن كل ذلك من خصائص الموجود المادي. وهو منزه عن المادة ولوازمها وحاجياتها...، وهم يصفون ربَّ النوع بالكلي، بمعنى المحيط والوسيع والقاهر فله سعة وجودية لأنه محيط بجميع أفراد نوعه ويفيض عليهم...، ثم إنَّ ربَّ النوع واجد لجميع أصناف الكمال الذي يمكن أن يحصل لأي فرد من أفراد نوعه...، وأنه المصدر لكل كمال في ذلك النوع، فكل ما يحصل لكل فرد في الحاضر أو في الماضي أو في المستقبل فهو المصدر له، وأنه الرائد والموجه، ويسترشد منه كل فرد...»([21]).

والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف وصل العقل الفلسفي إلى هذا المستوى من الشطح والشطط، دون انتباهة من العقل الفطري الواقع في أسر التنميط لدى الفلاسفة والمتكلمين الذين التهمهم السياق قاتلاً كل طاقات الإبداع.

- نظرية العقول الفلكية

وهي أيضاً من النظريات الفلسفية التي صيغت كي تفسر صدور الكثرة عن الواحد دون أن تتهدم نظرية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، وقد «تبلورت على يد المعلم الثاني الفارابي متأثرة بنظرية العقل بالفعل التي قال بها المعلم الأول أرسطو (ت322ق.م) والتي عرفت فيما بعد لدى المشائيين بنظرية العقل الفعّال الذي هو الصادر الأول عن المبدأ الأول عند أرسطو.

وخلاصة هذه النظرية: أن الوجود الأول يفيض وجود الثاني، وهذا الثاني جوهر غير جسمي ولا هو مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول. وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثالث، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه يلزم عنه وجود السماء الأولى.

والثالث أيضاً وجوده لا في مادة، وهو بجوهره عقل، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود رابع. وهذا أيضاً (يعني الرابع) لا في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه كرة زحل، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود خامس.

وهذا الخامس أيضاً وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المشتري، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سادس.

وهذا أيضاً (يعني السادس) وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المريخ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سابع.

وهذا أيضاً (يعني السابع) وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة الشمس، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثامن.

وهو أيضاً (يعني الثامن) وجوده لا في مادة ويعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الزهرة، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود تاسع.

وهذا أيضاً (يعني التاسع) وجوده لا في مادة ويعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به في ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود عاشر.

وهذا أيضاً (يعني العاشر) وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة القمر، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود حادي عشر.

وهذا الحادي عشر هو -أيضاً- وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول، ولكنه عنده ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً، وهي الأشياء المفارقة التي هي في جواهرها عقول ومعقولات.

وعند كرة القمر ينتهي وجود الأجسام السماوية، وهي التي بطبيعتها تتحرك دوراً»([22]).

إن نص الفارابي المتقدم المركب من أخطاء العقل الفلسفي وأخطاء العلم الفلكي لدليل صارخ على افتضاح جدل الأنماط الذي أفرز ما لا يمكن صدوره إلا عن العقل المأسور.

وقبل الانتقال إلى نظرية العقول الطولية التي ولدت للتخلص من وهن نظرية العقول الفلكية أنقل تعليق العلامة الفضلي عليها إذ يقول: «والنظرية -كما ترى- مرتبطة ارتباطاً أساسيًّا بنظرية الكواكب السيارة السبعة القديمة.

وهذا يعني أن الفلكيين القدامى لو كانوا قد توصلوا إلى وجود أكثر من هذه السبعة -كما هو الحال الآن حيث وصل العدد إلى أكثر من عشرة- لقالوا بعقول ومعقولات بعددها أيضاً، فتصل العقول في النظرية إلى أكثر من أحد عشر، وهذا يدل على شيء ليس بالصغير من الوهن الذي تعاني منه النظرية»([23]).

وبنظرية العقول الطولية تكتمل دائرة الشطح والشطط في العقل الفلسفي المنمَّط المأخوذ بنظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.

- نظرية العقول الطولية

وهي أيضاً من النظريات التي شيدت كي لا تنهدم «الواحد لا يصدر عنه إلا واحد»، «وفحوى هذه النظرية كما يحرره السيد الطباطبائي هو: أن أول صادر عنه تعالى عقل واحد يحاكي بوجوده الواحد الظلي وجود الواجب تعالى في وحدته.

ثم إن (هذا) العقل الأول وإن كان واحداً في وجوده بسيطاً في صدوره، لكنه لمكان إمكانه تلزمه ماهية اعتبارية غير أصيلة؛ لأن موضوع الإمكان هو الماهية، ومن وجه آخر هو يعقل ذاته، ويعقل الواجب تعالى فتتعدد فيه الجهة، ويمكن أن يكون لذلك مصدراً لأكثر من معلول واحد.

لكن الجهات الموجودة في عالم المثال الذي دون عالم العقل بالغة مبلغاً لا تفي بصدورها الجهات القليلة التي في العقل الأول، فلابد من صدور عقل ثانٍ ثم ثالث وهكذا حتى تبلغ جهات الكثرة عدداً يفي بصدور العالم الذي يتلوه من المثال.

فتبين أن هناك عقولاً طولية كثيرة، وإن لم يكن لنا طريق إلى إحصاء عددها»([24]).

إن ما يمكن أن يقال عن النظريتين السابقتين يقال عن هذه الأخيرة، وعن الأساس المولِّد لتلك النظرية وهو (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، فإن ذلك لا يصح على الله القادر مطلق القدرة؛ لأن فيه نسبة العجز إليه تعالى وهو إشكال منهجي مصدره العقل الفطري، إلا أن الطباطبائي يجيب بما يسعفه العقل الفلسفي بقوله: «وليس في ذلك تحديد للقدرة المطلقة الواجبية التي هي عين الذات المتعالية، وذلك لأن صدور الكثير، من حيث هو كثير، من الواحد، من حيث هو واحد ممتنع.

والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن، وأما المحالات الذاتية الباطلة الذوات كسلب الشيء عن نفسه والجمع بين النقيضين ورفعهما، فلا ذات لها حتى تتعلق بها القدرة، فحرمانها من الوجود ليس تحديداً للقدرة وتقييداً لإطلاقها»([25]).

تبدو للوهلة الأولى أن الإجابة مقنعة، ولا سيما للمأخوذين بأمثال هذه القضايا من المعتادين على الخضوع لسلطة النمط، وهم يرون أساطين الفكر من فلاسفة وعلماء ومتكلمين يرددونها ترديد المسلمات، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على تفشي ظاهرة العقل المأسور إلى الحد الذي يدعو إلى الثورة لتحريره من سلطة النمط.

نقد نظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد:

إذا كانت نظرية المُثُل الأفلاطونية (أرباب الأنواع)، ونظرية العقول الفلكية، ونظرية العقول الطولية، كلها تولدت من أجل تصحيح نظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، في الشاهد والغائب، أي حتى بالنسبة للخالق المبدع، فإن تقويض هذه النظرية يقتضي تقويض النظريات التي وجدت لتسويغها تلقائيًّا.

ومن الذين انتقدوا النظرية ابن رشد (ت595هـ)، وفخر الدين الرازي (ت606هـ)، والعلامة الحلي (ت762هـ)، ومن المعاصرين الشيخ الخاقاني (ت1406هـ).

تفكيك السياق التاريخي للنظرية:

المعروف أن تعدد الآلهة عند الأغريق كان فكرة سائدة، وهذا موثق في أساطيرهم، فهناك إله الخير، وإله الجمال، وإله العدل وإلخ من الآلهة والأرباب، فقد جعلوا إلهاً وربًّا واحداً لكل نوع من الأنواع في هذا العالم المتعدد، ومنهم من اقتصر على إلهين فقط إله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلمة.

وحين تخلصت طائفة من فلاسفتهم من الشرك المتعدد أو الثنوي، وقالت بالتوحيد، وهي بنت سياقها الثقافي الجدلي الذي يؤمن بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد جوبهت هذه الطائفة الموحدة جدليًّا بمؤدى النظرية، فما كان منها إلا أن استبدلت النقض بابتداع نظريات المثل والعقول والأفلاك، وهذا الابتداع في الواقع لم يكن برهانيًّا وإنما هو جدلي -كما أشار ابن رشد- لأنه وليد مأزق التحول من الشرك إلى التوحيد في العقل الجدلي الرازح تحت سلطة النمط، وإلا فما صلة أرباب الأنواع المسوغة لنظرية الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بالآلهة والأرباب المتعددين لدى غير الموحدين من فلاسفة الإغريق واليونان.

فكون فئة انتقلت من الشرك إلى التوحيد في بحثها عن الله لا يعني أنها تخلصت من كل رواسبها الماضية التي عددت الآلهة والأرباب لوجدانها التعدد في العالم ولا وحدته وجداناً ما أدى بها إلى القول بالواحد لا يصدر عنه إلا واحد.

نظرية غارقة في التنميط:

قال ابن رشد: «وكان الأول عند الجميع واحداً بسيطاً، عسر عليهم كيفية وجود الكثرة عنه، حتى اضطرهم الأمر ألَّا يجعلوا الأول هو محرك الحركة اليومية. بل قالوا: إن الأول هو موجود بسيط، صدر عنه محرك الفلك الأعظم...»([26]).

انظر كيف تتوالد البناءات على النظرية بصورة منمَّطة مأسورة للعقل الفلسفي الذي ما ترك للعقل الفطري من سبيل.

- من النقد الموجه للنظرية:

وُجِّهَ للنظرية عدة انتقادات على تعاقب العصور وتنوع المدارس، منها:

- ابن رشد (ت595هـ) ومشهور عصره:

رفضت النظرية في عصر ابن رشد، وكان رفضها من المشهور في عصره، قال: «وأما المشهور اليوم فهو ضد هذا، وهو أن الواحد الأول صدر عنه صدوراً أولاً جميع الموجودات المتغايرة»([27])، فلا اضطرار -حينئذٍ- للمُثُل والعقول الفلكية والطولية، فالله قادر على كل شيء ولا عجز في ساحته سبحانه وتعالى، قال ابن رشد معللاً ذلك «بأن الفاعل المطلق لا يصدر عنه إلا فعل مطلق، والفعل المطلق لا يختص بمفعول دون مفعول»([28]).

- العلامة الحلي (ت762هـ):

لقد ذهب العلامة الحلي إلى تبني «القول بالفرق بين الفاعل المختار فلا يشمله حكم هذه النظرية، والفاعل بالاضطرار فتصدق عليه»([29]) ما يعني سقوط النظرية وما ترتب عليها من حريم البحث في انبثاق الوجود عن الله؛ لأن الله فاعل مختار.

والفرق بين التعليلين لدى ابن رشد، والعلامة الحلي، أن الأول أخرج تعليله من مبحث القدرة، أما الثاني فأخرجه من مبحث الإرادة، والمؤدى واحد.

- الشيخ الخاقاني (ت1406هـ):

وإذا صدر عن مبحث القدرة تعليل ابن رشد، وعن مبحث الإرادة تعليل العلامة الحلي، فعن مبحث الجمال صدر تعليل الشيخ الخاقاني في قوله: «إن من كمال الإبداع التكويني صدور الكثرة عن الواحد»([30]).

ولعل أقسى ما وصف به القائلون بنظرية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ومتعلقاتها...) ما سَطَّره سيف الدين الآمدي (ت631هـ) بقوله: إنَّ «هذه العماية، والجهالة قد تعظم نسبتها إلى الصبيان، فضلاً عمَّن ينسب إلى شيءٍ من التحقيق، والغوص والتدقيق...»([31]).

من كل ما تقدم يتضح أن هذا العقل الفلسفي (الجبار) قد تكون له شطحات بمستوى شطحات الصوفية والحشوية، وقد كانت، وأن الاستسلام لسلطة النمط موجود في كل منهج بما فيه المنهج العقلي، بيد أن العقل الذي أنتج نظريات الفيض المتقدمة مدَّعياً قدرته على الكشف عن أول الخلق وكيفيته...، لماذا لم يكن قادراً على الشعور بأنه ماسور ليبصر في نفسه كي يحررها قبل أن يرسم لنا بكل وثوقية خريطة الفيض الوجودية الكاملة.

ثورة العقل الفطري على العقل الموثون

بعد تحليل المنهج العقلي، والعقل الفلسفي من خلال النموذج الفلسفي الكلامي لنظريات الفيض، وبعد تَبَيُّن ماهية الأسر في عقل كان يُنتَظَر منه أن يحرِّرنا من أوهامنا، فإذا به يصطبغ تاريخ التفكير والتفلسف البشري بما يربو على ألفي عام بالعقل الموثون الذي يستعبد أصحابه، ويلجم فيهم صوت العقل الفطري الحر السليم المحرّر؛ أصبح من الواجب تحرير عقولنا من تلك الأنماط وأوهامها.

ويتم ذلك بدراسة الفلسفة والكلام دراسة نقدية إبداعية، فيها القبول والرفض، وإعادة الإنتاج والصياغة مع التجديد...، لا بدراسة تخضع لسلطة النمط في تقليديتها واتباعيتها العمياء، والتي لا همَّ لها إلا الاستماتة في المحافظة والدفاع عما هو مقبور في نمطيته وبلا حراك.

فلا إبداع إلا بثورة العقل الفطري الذي أودعه الله فينا فَحرَّرنا على العقل الموثون الذي اختلقناه نحن لنبرهن على حريتنا فاستعبدنا..!! وأنَّى لِمُسْتَعبَدٍ من الرؤية الإبداعية.

- تمتع العلامة الفضلي بالرؤية الإبداعية

إن صاحب الرؤية الإبداعية يستطيع أن يفكك بين جوهر المنهج وأنماطه العرضية العالقة فيه بفعل التراكم والتكديس والكدورات المفضية إلى الشطح والشطط...

بينما يأخذ التقليديون الجوهر في المنهج مصحوباً بأعلاقه النمطية دون أدنى فرز فتصفية فتنقية؛ لأنهم لا يطيقون النقد، فهم اتِّباعيون مقلدون ليس إلا، وإن توهموا أنهم مفكرون، وأصحاب عقول حرة.

من هنا كان دور العلامة الفضلي في تحرير العقل، وموقفه من جدل الأنماط منسجماً مع الرؤية الإبداعية التي يتمتع بها، وظاهراً في عطاءاته العلمية الرائدة.

فهو إذ يستعرض مناهج الدرس الكلامي في كتابه (خلاصة علم الكلام) ويبيِّن أصول تلك المناهج، ويرصد المدارس الكلامية التي تتحرك في فلكها، ويدخلنا إلى حريم البحث، والرؤية الواضحة؛ لا يستقر له قرار حتى يرينا الأفكار وهي تتصارع فيما بينها لافتاً أذهاننا إلى المناهج التي تستمد منها تلك الأفكار طاقتها الجدلية، ثم يتحرك بنا نحو الطاقة تلك -إذ فيها مكمن السر- مركّزاً عليها فحصاً ونقداً وتحليلاً، فإذا بالأفكار التي تتصارع يتهاوى سقيمها، ويستقيم صحيحها مخلفة وراءها ما يبقى دائماً بعد الاحتراق، وهي -هنا- الأنماط التي لن تجد لها مكاناً بعد احتراقها إلا في خانة التوالف، فَيُحسَم جدلها لصالح المناهج التي تخلصت من أعلاقها.

وبعد ذلك كله يقوم بفحص القضية في الإفكار المتصارعة لِيُعمل فيها المنهج الذي يصلح لها بعد أن خَلَّصه من علائقه النمطية، وخَلَّصها من المناهج الفضولية، وكل ذلك يتم بدقة وإحكام، ومرونة واتزان، وسلاسة وانسجام.

إن شيخنا العلامة الفضلي -دام ظله- يبرهن في كل هذا -وبمنتهى الإبداع- على تكاملية منهجه بانفراده في تكوين إيقاعه الخاص على أوتار تلك المناهج المتعددة.

فالذي يدرس العلامة الفضلي دراسة تحليلية تتجاوز السطح إلى الأعماق سيكتشف أن له فقهاً في إدارة المناهج، هو سر من أسرار إبداعاته.

فقه إدارة المناهج

قال شيخنا الفضلي في أصول البحث ما نصه: «من البيِّن أن اختلاف المجال أو الموضوع يتطلب اختلاف المنهج الذي يتبع في دراسته وبحثه»([32]).

ولو أن الفلاسفة والمتكلمين القائلين بـ(الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) وما إلى ذلك من (المُثل، والأفلاك، والعقول) كان لديهم وعي بفقه الإدارة المنهجية عند العلامة الفضلي لما أضاعوا كل تلك الجهود الفكرية في بحث قضايا غيبيَّة بالمنهج العقلي الذي لا يملك معطيات بحثها فيما يملكها المنهج النقلي.

ولذلك يؤكد فقيهنا الفضلي أنه: «لابد من إعادة النظر في البحث عن مصدر المعرفة داخل إطار الفلسفة الإسلامية، وتقسيم المعلومات إلى:

- طبيعية وغير طبيعية.

- وغير الطبيعية إلى غيبيَّة وغير غيبيَّة.

ثم توزيع مصادر المعرفة على هذه الأشياء على النحو التالي:

- المعلومات الطبيعية تؤخذ عن طريق الحس.

- غير الغيبيَّة تؤخذ عن طريق العقل.

- الغيبيَّة تؤخذ عن طريق الوحي والإلهام، أي عن طريق المنقولات الدينيَّة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية»([33]).

فلو طرح سؤال -في ضوء فقه إدارة المناهج- عن الكيفيَّة التي خلق بها الله سبحانه وتعالى مخلوقاته.

لكان الجواب: يُرجع إلى النصوص الدينيَّة في الكتاب والسنة.

وعند الرجوع إلى القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}([34]).

ولدى التأمل نجد أن معنى الزوجية موجود في كل مخلوق، فالذكر والأنثى، والسالب والموجب...، موجودان في الخلية، وفي الذرة، ما يعني أن كل مخلوق مركب، ولا يخفى ما في المركبات من افتقار ذاتي.

أما الواحد -على الحق والحقيقة- فهو الله وحده الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومن هنا، فإن الله سبحانه وحده الواحد ولا واحد سواه، ووحده البسيط فلا بسيط سواه، ووحده الغني فلا غني سواه، وكل الخلق مكوّنون على الزوجية والتركيب والفقر، لذلك كان الفرار إلى الله الغني الواحد بلا تركيب.

والنتيجة: أن لا واحد إلا الله مطلقاً، والخلق كلهم مجبولون على الزوجية.

- وإذا طرح سؤال آخر: هل اقتضى خلق الخلق وجود واسطة فيض بين الخالق المبدع والعالم.

لكان الجواب: يُرجع إلى النصوص الدينية في الكتاب والسنة.

وعند الرجوع إلى بيت النبوة ومعدن الرسالة... نقرأ في خطبة الزهراء (عليها السلام): «ابتدع الأشياء لا من شيءٍ كان قبلها»([35]).

وهل الإبداع غير الخلق من العدم، خلق شيء من لا شيء.

والنتيجة: أن لا واسطة فيض بين الخالق المبدع والعالم.

إن إعمال المنهج النقلي في القضيتين أفادنا علماً، أما إعمال المنهج العقلي فيهما فلم يزدنا إلا جهلاً وسفسطة، وهذا هو الفرق بين من يعي دور (فقه إدارة المناهج) ويقدره، وبين من لا يعي ولا يقدر غير عقله المأسور.

ولهذا يشدد العلامة الفضلي على ضرورة أن «يرجع في دراسة الأفكار الغيبيَّة إلى المنهج النقلي، وفي دراسة الأفكار الميتافيزيقية إلى المنهج العقلي، وفي دراسة الأفكار التي ترتبط بالطبيعة والإنسان تكويناً ومجتمعاً إلى المنهج التجريبي، وفي دراسة التشريعات الدينية -لأن مصدرها النصوص النقلية- يرجع إلى المنهج النقلي، وهكذا<([36]).

نعم هكذا، كي لا يفلجنا الجدل الذي أفلج الجاحظ (255هـ) في البصرة، وهو فيها قطب من أقطاب مدرسة الاعتزال التي تعد العقل مؤسساً والدين مؤيداً، «نتيجة غلوهم في تقديس العقل، والحق هو العكس، أي أن النص الديني هو المؤسس، والدليل العقلي مؤيد له»([37]).

ومما يؤكد هذا الغلو العقلي الذي أشار له شيخنا الفضلي، أن بعض المعتزلة كانوا ينكرون حقيقة وجود الجن، وعندما جوبهوا بوجود سورة كاملة في القرآن الكريم باسم سورة الجن، قالوا: إن هؤلاء قبيلة من قبائل العرب تسمى بقبيلة الجن..!!

إنه لون فاقع من الوقوع في الشطح والشطط وفي أسر النمط، وإلا كيف يخفى على هؤلاء العقليين أن «هناك في العقيدة الإسلامية ما لا يدرك بالعقل، وهي الأشياء الغيبيَّة كالجن والملائكة، والجنة والنار والقيامة ومشاهدها...»([38]).

من كل ذلك تأكد لنا أن الوقوع في أسر النمط ظاهرة لا تعصمها المناهج المثقلة بالعقول المأسورة، لذلك «يجب أن يكون العالم والفيلسوف مهيمناً على الفلسفة ولا يكون العلم والفلسفة مهيمنين عليه، ويجب أن يكون ناقداً للآراء والمفاهيم لا ناقلاً لها وإذا كان العالم والفيلسوف مهيمناً على العلم والفلسفة سيكون العلم والفلسفة كأداتين بيده، وإلا فسيكون هو أداة بيدهما»([39]) كما هو الحال بالنسبة للعقليين المنمطين الذين يدخلون إلى المنهج العقلي مصفدين بأنماطه، فأي عقل مأسور ذلك الذي يصدر تصورات غريبة عن أوليَّة الخلق في عالم الملكوت الذي لا طريق إليه بحسب «فقه إدارة المناهج» إلا النص الشرعي.

قال أستاذنا العلامة الفضلي -دام ظله-: «إن عقل الإنسان لا مسرح له في عالم الملكوت فليس له القدرة على معرفة حقائق عالم الغيب، وليس أمامه وسيلة! ذلك إلا الدين...»([40])، وقد وردت هذه المقولة المنسجمة مع «فقه إدارة المناهج» في كتاب فقيهنا الفضلي (خلاصة الحكمة)، وما ورودها فيه إلا اختراق لأفق التوقع تحقيقاً لشروط الإبداع.

فإن المنتظر والمتوقع من كتاب في الدرس الفلسفي -الذي يُبتنى عادة في جوهره وأساسه على المنهج العقلي المحض- أن يُعلي من منهجه مشيداً متاريسه الثقافية الممكنة لتحصين عمارة العقل، إلا أنه أراد أن يحرر العقل من حجبه لينكشف على نفسه قبل انكشافه على العالم.

فكان أن عرَّفه نفسه ليعرف غيره، وهذا لعمري سلوك يأخذ في حسبانه عدم التفريط بشروط الإبداع في أي مجال، وفي كل الاتجاهات...

 

 



([1])* كاتب وباحث - السعودية.

 صليبا، الدكتور جميل، المعجم الفلسفي، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982م، 2/ 705.

([2]) الفضلي، الدكتور عبدالهادي، خلاصة علم الكلام، بيروت، دار التعارف، 1408هـ - 1988م، ص17.

([3]) العريبي، د. محمد، المنهاج والمذاهب الفكرية والعلوم عند العرب، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1994م، ص76.

([4]) خلاصة علم الكلام، م. س. ص18 - 19.

([5]) آل جعفر، الدكتور مساعد مسلم عبدالله، أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405هـ - 1984م، ص339.

([6]) العريبي، د. محمد، م. س. ص61 - 65.

([7]) القاسم، محمود عبدالرؤوف، الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، بيروت، توزيع دار الصحابة، 1408هـ - 1987م، ص10، نقلاً عن الفتوحات المكية لابن عربي 3/ 213.

([8]) م. ن، انظر الفصل السادس منه (الصوفية والسحر)، ص859 - 870.

([9]) خلاصة علم الكلام، م.س. انظر (منهج علم الكلام)، ص17 - 20.

([10]) المعجم الفلسفي، م. س، 2/ 172.

([11]) م. ن، 1/ 724.

([12]) م. ن، 1/ 724.

([13]) م. ن، 2/ 173.

([14]) خلاصة علم الكلام، م. س، ص81.

([15]) م. ن، ص81.

([16]) م. ن، ص85.

([17]) الفضلي، الدكتور عبدالهادي، أصول البحث، بيروت، دار المؤرخ العربي، 1412هـ - 1992م، ص54.

([18]) خلاصة علم الكلام، م. س، ص82.

([19]) م. ن، ص83.

([20]) م. ن، ص86.

([21]) الصدر، محمد رضا، الفلسفة العليا، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1406هـ - 1986م، ص332 - 333.

([22]) خلاصة علم الكلام، م. س، ص86 - 87.

([23]) م. ن، ص88.

([24]) م. ن، ص88 - 89.

([25]) م. ن، ص89.

([26]) م. ن، ص82 - 83.

([27]) م. ن، ص82.

([28]) م. ن، ص84.

([29]) م. ن، ص84.

([30]) م. ن، ص91.

([31]) الآمدي، سيف الدين، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق: حسن محمود عبداللطيف، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1391هـ - 1971م، ص209.

([32]) الفضلي، الدكتور عبدالهادي، أصول البحث، بيروت، دار المؤرخ العربي، 1412هـ - 1992م، ص43.

([33]) الفضلي، د. عبدالهادي، جدل الرؤى (في الفضاءات المرجعية للثقافات المعاصرة)، بيروت، دار الرافدين، 1427هـ - 2006م، ص16.

([34]) الذاريات، آية 49 - 50.

([35]) خطبة الزهراء (عليها السلام) وردت في عدة مصادر تراثية كالاحتجاج، وبلاغات النساء، وغيرهما.

([36]) أصول البحث، م. س، ص43.

([37]) الفضلي، الدكتور عبدالهادي، خلاصة الحكمة الإلهية، مخطوط، ص21.

([38]) جدل الرؤى، م. س، ص15.

([39]) حكيمي، محمد رضا، الاجتهاد التحقيقي، ترجمة: حيدر نجف، خليل العصام، مراجعة وتقديم عبدالجبار الرفاعي، كتاب قضايا إسلامية معاصرة، لا مكان، 1421هـ - 2000م، ص39.

([40]) خلاصة الحكمة، م. س، ص76.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة