تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

أمين الخولي والمجددون في الإسلام

زكي الميلاد

 

- 1 -
من القاهرة إلى روما

تذكِّر سيرة الشيخ أمين الخولي (1895 - 1966)، في أحد جوانبها البارزة، بسيرة الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، الذي عرفه العالم بعد عودته من رحلته الشهيرة إلى فرنسا، في أول بعثة مصرية إلى أوروبا في عصر محمد علي باشا، حيث كان موجِّهاً دينياً للبعثة المصرية، ولهذا المهمة ذاتها أُرسل الشيخ أمين الخولي في عهد الملك فؤاد باشا إلى إيطاليا عام 1923م، بعد صدور مرسوم ملكي بتعيين أئمة للسفارات المصرية، شملت إلى جانبه الشيخ عبد الوهاب عزام إماماً وموجِّهاً دينياً للسفارة المصرية في لندن، والشيخ محمد البنا للسفارة المصرية في باريس، والشيخ محمد حلمي طمارة لواشنطن.

وفي روما تعلم الخولي اللغة الإيطالية وأجادها، كما تعلم من قبل الطهطاوي اللغة الفرنسية وأجادها أيضاً قراءة وكتابة وترجمة. وفي عام 1926م نُقل الخولي إلى ألمانيا مكلَّفاً بالمهمة الدينية نفسها التي كان يشغلها في إيطاليا، وفيها تعلم الألمانية كذلك، ونشر بعض المقالات القليلة بالألمانية.

وعاد الخولي من هذه البعثة إلى مصر عام 1927م، بعد أن ألغى حزب الوفد المصري، وظيفة الإمامة والتوجيه الديني في البعثات المصرية.

وبخلاف الطهطاوي لم يعتنِ الخولي بالترجمة بعد عودته إلى مصر، كما اعتنى بها الطهطاوي الذي تولى إدارة مدرسة الألسن للترجمة، وقام بترجمة بعض الأعمال الفكرية المهمة من اللغة الفرنسية، مثل كتاب: (روح القوانين) لمونتيسكيو، وكتاب: (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو وغيرهما، في حين لا يذكر من بين أعمال الخولي الفكرية المنشورة كتابات ومؤلفات مترجمة.

وقد بقيت هذه الرحلة إلى إيطاليا وألمانيا في ذاكرة الخولي، وشكلت محطة تركت تأثيرات في وعيه وشخصيته، وفي تكويناته الفكرية والثقافية.

ولأهمية هذه الرحلة، فقد توقف عندها الدارسون لسيرته وأفكاره لما لها من تأثيرات في مسلكه الفكري والثقافي، ولكونها تذكرهم برحلة الطهطاوي إلى فرنسا، ورحلة الشيخ محمد عبده إلى أوروبا.

ومن جهته كان الخولي واعياً لأهمية هذه الرحلة، ومدركاً لفوائدها، ويذكر أنور الجندي أن الخولي كان من أشد المحرضين على تنفيذ فكرة التمثيل الديني في الخارج حتى نفذت[1]، وفي هذا النطاق جاءت مقالته (السياحات الإسلامية)، التي نشرها في مجلة (الهلال) المصرية عام 1922م.

ويكشف الخولي عن هذا الوعي والإدراك، حين يتحدث عن رحلته بقوله: «حين رحلت إلى أوروبا، واستقر بي المقام أول ما استقر في روما، أو مدينة رومية العظمى، كما كان يسميها العرب قديماً، وهي مقر البابا وعاصمة الكاثوليكية، فقصدت إلى دراسة الخطط والأساليب التي تتبع في الدراسة اللاهوتية، كما نظرت فيما حولي من الدول الدينية القائمة في عاصمة الدولة المدنية بإيطاليا. وطال تتبعي لهذه الدراسات اللاهوتية في أقطار أوروبية عشت فيها بعد ذلك كألمانيا، أو أقطار زرتها مجرد زيارة.

وتابع صاحبنا ما جرى ويجري من ذلك، وجعل يتخير منه ما يمكن أن تنتفع فيه الحياة هنا بالإسلام، سواء ما كان من ذلك في روما، أو في دول غيرها، تقيم الكليات اللاهوتية لدراسة الدين، وتابع إرسال تقاريره بذلك إلى مصر في تصميم وإصرار، فكانت تلك التقارير مما هشَّ له التطور الاجتماعي الشرقي حيناً، وإن لم يكن أثره العملي واضحاً، لكنه شيء في الجو، يسمع وينصت له بعض الأوقات، وذاكرة الزمن من وراء هذا كله لا تنسى شيئاً، ولا تضل أبداً»[2].

وفي مسلكه الفكري عُرف الشيخ الخولي بنزعته الإصلاحية والتجديدية، وهي النزعة التي لفتت أنظار الدارسين إليه، وكانت باعثهم في أكثر الأحيان للحديث والكتابة عنه، فحين يتحدث عنه الدكتور إبراهيم مدكور يقول: «إن أمين الخولي كان صاحب رسالة، وكانت رسالته دعوة حارة وصارمة إلى التجديد والإصلاح. كان ينشد تجديداً شاملاً في المظهر والمخبر، يؤمن بالإصلاح إيماناً جازماً، ويريد به أن يستوعب مظاهر حياتنا على اختلافها، فينصب على العادات والتقاليد، ويشمل الأنظمة والقوانين والفكر واللغة»[3].

ويرى الدكتور عاطف العراقي أن الاجتهاد وما يرتبط به من تجديد كان الشغل الشاغل لأمين الخولي، ليس التجديد في مجال اللغة فحسب، بل التجديد الشامل لأساليب عديدة في حياتنا الفكرية والثقافية، والربط بين النظر والعمل[4].

وعندما حاول الدكتور حميدة النيفر تصنيف التفاسير القرآنية المعاصرة، وضع أمين الخولي في مقدمة المدرسة الحديثة التي تبنت حسب رأيه سؤال التجديد[5].

وفي هذا السياق أيضاً، جاء كتاب الدكتورة يمنى طريف الخولي بعنوان: (أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد) الصادر في القاهرة عام 2000م.

- 2 –
الثقافة الدينية والثقافة المدنية

في سيرته العلمية تخرج الشيخ الخولي في مدرسة القضاء الشرعي عام 1920م، ودرس فيها الآداب واللغة العربية بعد تخرجه، وعاد إلى التدريس فيها مجدداً بعد عودته من إيطاليا وألمانيا، مدرساً لتاريخ الأدب العربي، وتاريخ العقيدة الإسلامية. ثم انتدب للتدريس في كلية أصول الدين بالأزهر، ليدرس مادة فلسفية في الأخلاق اختار لها عنوان: كتاب الخير، ويعد الخولي أول من درس مادة للفلسفة في كلية أصول الدين بالأزهر.

وفي عام 1928م عُيِّن مدرساً بالجامعة المصرية قسم كلية الآداب، ليكون لاحقاً أحد أعمدتها وأركانها، بعد أن تدرج في مناصبه ليصبح رئيساً لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية، ثم أستاذاً للأدب العربي، ثم وكيلاً لكلية الآداب حيث بقي في هذا المنصب حتى عام 1953م.

وقد ساهم هذا الانتساب والارتباط بهذه المؤسسات العلمية على تنوع بيئاتها وخبراتها الفكرية والمعرفية، في طبيعة التكوين الثقافي عند الخولي، الذي اتَّسم في نظر العديد من الباحثين بالانفتاح والاعتدال والتنوير، كما تميز بالحس النقدي والنهج التجديدي، فقد كان على تواصل مع الثقافة الدينية والمؤسسة الدينية التي مثَّل الأزهر مركزها الحيوي، وعلى تواصل في الوقت نفسه مع الثقافة المعاصرة والمؤسسة الأكاديمية الحديثة التي مثَّلت الجامعة مركزها الحيوي. ومن هذه الناحية مثل الخولي عنصر انفتاح وتواصل بين الثقافتين الدينية والدنيوية حسب تعبيره، وبين المؤسستين الدينية والمدنية، الأزهر والجامعة.

وهذا المنحى الفكري جعل الخولي يدرك طبيعة الأزمة الحادة القائمة بين الثقافة الدينية والثقافية المعاصرة، وهي الأزمة التي ظل يلفت النظر إليها، ويدعو لتجاوز إشكالية عزلة الثقافة الدينية عن المعارف الدنيوية، حيث يرى أن «من خير ما تقدم حياة المجددين للحياة العلمية، سعة الأفق في تمثل دائرة المعرفة البشرية، والاشتغال بالعلوم الحيوية، والقضاء على انعزال الثقافة الدينية عن المعارف الدنيوية، وهو ما نرى منه مثالاً واضحاً قوياً، في ثقافة الشافعي وما بعدها، وحرصه على ترجمة ما عند الكفار المحاربين، فإن ذلك يقضي على أوهام شقيت بها حياتنا الحديثة»[6].

وقد شرح الخولي رؤيته لهذه الأزمة في رسالتين قصيرتين، نشرهما في زمنين متباعدين بعض الشيء، رسالة حول الأزهر نشرها عام 1936م بعنوان: (رسالة الأزهر في القرن العشرين)، ورسالة حول الثقافة في مصر نشرها عام 1947م بعنوان: (رسالة تعدد الثقافات في مصر وعلاجها).

في الرسالة الأولى، كان الخولي ناظراً للثقافة الدينية، وفي الرسالة الثانية كان ناظراً للثقافة الدنيوية. كما أنه في الرسالة الأولى كان ناظراً لمؤسسة الأزهر، وفي الرسالة الثانية كان ناظراً لمؤسسة الجامعة. والإطار المشترك بين الرسالتين هو معالجة إشكالية العلاقة بين الثقافة الدينية والثقافة الدنيوية.

ومن جهة أخرى، فإن الرسالة الأولى تصنف في مجال الدعوة إلى إصلاح الأزهر، وجاءت أساساً لهذا الغرض، فقد كتبت بقصد المشاركة في مسابقة دعا إليها شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد مصطفى المراغي، وكان موضوعها تطوير الأزهر، وحين اختير الخولي عضواً في لجنة تحكيم البحوث لهذه المسابقة، قام بنشرها مستقلة.

وفي هذه الرسالة يقرر الخولي ثلاثة أبعاد للأزهر، هي: البعد العلمي، والبعد الديني، والبعد الاجتماعي، ولابد في نظره من تناول هذه الأبعاد كلها، ليسلم الرأي في مهمته، أو رسالته الحديثة.

والربط بين هذه الأبعاد -حسب رأي الخولي- كون أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا، ولا يبعد الدين عن الحياة العاملة، ومن هنا يكون عنده أن ناحية الأزهر الدينية تتصل بالناحية الاجتماعية وتؤثر فيها.

وكشفت هذه الرسالة، عن الأفق الواسع لرؤية الخولي في دور الأزهر، وتطوير مهامه، وتجديد وظيفته العصرية، وعن رسالته الاجتماعية يقول: «فإن له بذلك رسالة اجتماعية مهمة بعيدة الأثر، تهيئ لمصر والشرق فرصاً فعلية في الحياة، وعليه إذن أن يحمي إحساس مصر والشرق الإسلامي بذاتهما، ويحمي الذوق المصري والشرقي الصالح ويحييه، ويحمي الفضائل العلمية المصرية والشرقية، ويحمي العادات المصرية والإسلامية الصالحة للبقاء، وينظر فيما يراد اقتباسه ويتدخل في هذا الاقتباس، التدخل المتعقل المتبصر على ضوء الإسلام والمصلحة فيحدده، ويشجع الصالح منه، ويقاوم الضار الفاسد، إلى غير ذلك من عمل حكيم في الميدان الاجتماعي ليس هنا القول المفصل فيه، والبرنامج المطول له، بل نكتفي بأن نقول: إن رسالة الأزهر الاجتماعية في القرن الرابع عشر، أو القرن العشرين، إنما هي أن يحمي الروح القومية لمصر والشرق الإسلامي، حماية عاقلة متبصرة متدينة لا تقف عند القشور، ولا تُعنى بالتافه.

وفي سبيل هذه الحماية يحتفظ هو لنفسه بالطابع المصري الإسلامي، ثم الشرقي النافع الذي لا يعوق الحياة في تجددها المادي ونشاطها العملي، مقدراً نواميس الاجتماع وقوانين الحياة، غير واقف في طريق شيء من ذلك، أو معارض إلا على أساس من النظر البعيد والوزن الدقيق»[7].

وعن رسالته الدينية، فإن هذه الصفة الدينية للأزهر، لا يراد منها -حسب قول الخولي- أن له سلطة دينية كسلطة الكنيسة، تزعم لرجالها من الامتياز والتفضيل، بل إن هذه الصفة الدينية شعارها عنده الخلقية السامية، والنشاط العامل، والتسامح الكريم، والعزة النفسية. وحين يلخص الخولي هذه الرسالة الدينية للأزهر يقول: «هي حماية التدين ومحامده الاجتماعية حماية فعلية، وتمكين الإنسانية من أن تسعد بأثر هذا العامل في الحياة، ويكون ذلك بالتدبير المحكم في التعريف بالدين، ونشر الإسلام على يد رجال لهم الصفة الدينية المتميزة، بين طبقات الجماعات البشرية في خلفيتهم، وأسلوب حياتهم حتى يكونوا صوراً من القدوة الحية في المشاركة العاملة المترفعة النبيلة الغالبة للشهوات، السعيدة بالمعنويات»[8].

أما رسالته العلمية فهي في نظره: «إعداد الرجال الذين يقومون بالعبء الاجتماعي والديني في الحياة المصرية، ثم الحياة الشرقية، بل العالم كله فيكونون دعاة الإسلام في الدنيا، العاملين على تمكين الإنسانية من أن تظفر بحظها من السعادة التي يشارك الإسلام في توفيرها، وتحقيقها. فتدرس الشؤون الدينية الاعتقادية، أوفى دراسة، وأعمقها، متصلة بكل ما أفادت الإنسانية من جديد في ذلك، سواء في أساليب الدرس، أم في موضوعه. وتدرس الشريعة الإسلامية الدراسة اللائقة اليوم بشريعة ذات ماضٍ تاريخي، وحياة طويلة، وتصل تلك الدراسة بما يلزمها من أصول القانون، وتاريخه، والأبحاث النفسية، والاجتماعية التي يتسلح بها دارس القانون. ليقدم الأزهر فقهاء قانونيين يقفون إلى جانب رجال القانون في أنحاء العالم، ويصلون جهدهم بجهد هؤلاء في ترقية التشريع، وتنظيمه. ويكونون قضاة علماء متدينين لهم من دينهم الخلقية القوية، والنفس المترفعة التي تكون خير عون على إمتاع الناس بالعدالة النزيهة، وإيصال الحق الكامل لأهله. كما يكونون أعواناً على جعل الشريعة الإسلامية أساس التقنين في الشرق، وشريكة غيرها من الشرائع في التقنين العالمي»[9].

وبهذا المنحى يصنَّف الخولي على رجالات الإصلاح، الذين حاولوا إصلاح الأزهر منذ عصر الشيخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده، وصولاً إلى المعاصرين أمثال الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ عبد المتعال الصعيدي وآخرين.

ومع هذا المنحى، فقد اصطدم الخولي بالأزهر أو ببعض رجالاته على أثر دفاعه عن رسالة الدكتوراه التي تقدم بها تلميذه محمد أحمد خلف الله لجامعة القاهرة عام 1947م، حول موضوع (الفن القصصي في القرآن الكريم)، والذي كان مشرفاً عليها أيضاً. الرسالة التي فتحت معها معركة فكرية على نمط المعارك الفكرية التي شهدتها مصر من قبل مع كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) لشيخ علي عبد الرازق عام 1925م، وكتاب: (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين عام 1926م وغيرهما.

وسرعان ما انتقلت هذه المعركة إلى الصحافة، وكتب عنها توفيق الحكيم مصوراً المستوى الذي وصلت إليه بقوله: «لقد طالب البعض بحرق الرسالة على مرأى ومشهد من أساتذة وطلبة كلية الآداب، وطالب آخرون بفصل الأستاذ خلف الله»[10].

ودفاعاً عن موقفه كتب الخولي رسالة إلى توفيق الحكيم، وضعها خلف الله فيما بعد مقدمة لرسالته، في هذه الرسالة أكد الخولي على صحة موقف تلميذه، متمسكاً بأن القصص القرآني ليس قصصاً لتعليم التاريخ ووقائعه، ولكنه جاء للعبرة والعظة، وبقصد التأثير النفسي والاجتماعي في الأفراد، واعتبر أن هذا ما قال به الشيخ محمد عبده في الأزهر من قبل.

وقد امتدت هذه المعركة وفتحت سجالاً بين الخولي وجبهة علماء الأزهر، حيث راح الخولي ينشر مقالات في صحيفة (المصري)، يتحدث فيها عن رسالة الأزهر الاجتماعية، وعلاقة الدين بالحياة، هذه المقالات اعتبرتها جبهة علماء الأزهر بمثابة نقد موجه إلى مؤسسة الأزهر وعلمائه، الأمر الذي دعاهم إلى إصدار بيان في الرد عليها، جاء فيه:

«اعتاد الأزهر الشريف أن يسمع من حين لآخر، أفراداً يحاولون أن ينالوا منه ومن رجاله، وكأنما سولت لهم أنفسهم أن تعلقهم بهذا الجبل الأشم يُلقي في روع الناس أن لهم شأناً، أو عندهم رأياً، أو فيهم غيرة على حق، أو غضباً لدين، أو حرصاً على صالح عام، ولكن هيهات، فهم كناطح صخرة يوماً ليوهنها».

ولعل هذا الكلام أثار حفيظة الخولي فرد عليهم بكلام اتَّصف بالقسوة الشديدة، حيث أخذ يشكك في نواياهم ومقاصدهم، معتبراً حسب قوله: «إن قصدهم النفسي إلى هذا التوجيه ليس بارئاً من الشوائب ولا خالصاً من الغايات المدخولة، فسبيلهم في هذا التوجيه والبيان سبيل غير قاصدة وتناولهم له غير مستقيم».

ومنتقداً طريقة تحكمهم في الدين، أو حسب وصفه «سيادة روح التحكم في فضل الله ونعمه، والاستبداد بدين الله وهدايته، فإذا أفتوا فقولهم هو رأى الإسلام، وإذا حكموا فحكمهم هو حكم الله، وإذا خالف عليهم إنسان فهو يحارب الله». ومعيباً عليهم «فتور صلتهم بالحياة، وعدم معرفتهم الكافية لما يجري فيها، ولا أقول الحياة العامة، في آفاقها العالية الفسيحة، بل أقصد الحياة المصرية الخاصة، في دائرتها المحدودة».

وتصاعد الموقف حين أصدرت الجبهة بياناً ثانياً، وجهت فيه كلاماً مباشراً للشيخ الخولي، حيث قالت عنه: «فالشيخ بعدما انقطع عن الأزهر، وكشف موقفه من القرآن الكريم في الجامعة، يريد الآن أن يلبس رداء النصح، وإلا فأين كانت هذه الحماسة الإصلاحية أيام كان هذا الشيخ يعمل في الأزهر، ويبالغ في إطرائه، فلما صار بعيداً عنه ارتد بخاصة ويعاديه!»[11].

ولم ينته السجال عند هذا الحد، فقد واصل الخولي معركته مع جبهة علماء الأزهر، فنشر بمجلة (الأدب) المصرية في فبراير 1961م، مقالة وجَّه فيها نقداً لعله الأشد قسوة وعنفاً، وظهر فيها كيف أن المعركة بينه وبين جبهة علماء الأزهر باتت حامية، بشكل دفعته ليكون غاضباً، وناقداً لبعض المحاولات التي كان يراد منها تطوير، فقد كتب يقول: «راحوا يتشبهون بغيرهم، ويحشرون أنفسهم في سواهم، هرباً من طابعهم، وبرماً بشارتهم، وامتهاناً لرسالتهم، فما يحاولون إلا اقتباس نظم ليست لهم، ولا يلبسون إلا ثوب زور لم يُفصَّل لجسمهم، وهم على ما سمعت سيمنحون الليسانس، والماجستير، والدكتوراه، فإن تكن أسماء بلا مسميات فهي مهزلة ساخرة، وسخرية باللغة، وإن تكن على غرارها عند الآخرين فماذا يكونون هم؟ وأي مكان لهم بعد ذلك في الحياة؟ وأي رسالة؟»[12].

ويكشف هذا التطور في موقف الخولي من الأزهر، المفارقة بين ما كان يطمح إليه عندما صنف رسالته حول الأزهر في القرن العشرين، وبالغ في دوره ورسالته، وبيَّن ما انتهى إليه من صدام، لعله كان الأشد قسوة ومرارة في حياته الفكرية والدينية.

أما رسالته عن الثقافة في مصر، فقد حاول الخولي أن يشرح فيها طبيعة مشكلة الثقافة في مصر، وهذه المشكلة في نظره ناجمة عن تعدد الثقافات منذ القدم، وبقاء واستمرار هذا التعدد إلى اليوم، التعدد الذي تتغاير فيه الأسس تغايراً جوهرياً، يجعل من تعدد الثقافات مضراً، إذ تنقسم بسببه الأمة، ويؤدي حسب رأيه إلى خلق خلافات حقيقية، تكون من نتائجه أن يحرم كل فريق منهم مما عند سواه من خير، أو يُعرِّضه لضرر محقَّق.

ولو لم يكن في تعدد الثقافات كما يقول الخولي، إلا تقسيم أبناء الأمة الواحدة إلى معسكرات متنابذة متفاضلة، حيث يبدد هذا الاختلاف قواها، ويمنع اتحادها، لكان ذلك في تقديره وحده كافياً إلى العناية بعلاج مشكلة تعدد الثقافات.

ويرجع الخولي هذه المشكلة إلى موقع مصر الجغرافي، وإلى بيئتها الطبيعية، والوضع الذي مكَّن مصر من الإشراف والاتصال بالجم الموفور من هذه الثقافات المتنوعة، التي تختلف ألوانها وأشكالها وتتحد جواهراها، فقد عرفت الثقافة الدينية بطابعها العام المشترك، وصورها المتفاوتة، ومظاهرها المتغايرة، وعرفت الثقافات المدنية بمزاجها العقلي، وطموحها الفلسفي، وفي صورها المختلفة باختلاف الشعوب، وفي الأزمنة المتغايرة في التاريخ القديم والمتوسط، أو باختلاف أممها في العصر الواحد كالزمن الحديث وحضارته الغربية.

وجوهر المشكلة عند الخولي تتحدد في الانقسام الحاصل بين الثقافتين الدينية والمدنية، وهي المشكلة التي حاول أن يلفت النظر لها باهتمام، وبالغ في تصويرها، فهي عنده ليست من المشكلات اليسيرة الهينة، وليست مشكلة مادة ناقصة، ولا خطة قاصرة، ولا منهج خاطئ، بل هي أعمق من كل ذلك، وأبعد غوراً، وهي التي أخَّرت الشرق ذلك التأخر المخيف، الذي كاد يستعصي على العلاج.

وعلاج هذه المشكلة في نظر الخولي، ينقسم إلى قسمين: نظري وعملي. ويتحدد العلاج النظري عنده في تصحيح تلك الفكرة، وتقويم تلك العقيدة المخالفة للحقائق التجريبية الواقعية، ويقوم بهذا الدور -حسب رأيه- رجال الدين في تعليمهم العقائد، ووضعهم لكتبها، ويكفي عنده العودة إلى ما قام به رجال الإصلاح الديني من دور في هذا المجال.

أما العلاج العملي، فيحمله الخولي على مسؤولية الدولة في أن تؤدي واجبها، وتستعمل حقها -كما يقول- في الإشراف على الحياة التثقيفية للأمة، إشرافاً منفرداً مباشراً يتناسب مع مسؤوليتها أمام ممثلي الأمة، ويحقق رسالتها في إعداد أبنائها إعداداً صالحاً للحياة[13].

والملاحظ على هذا الطرح بصورة عامة، أن الخولي بقدر ما بالغ في تصوير هذه المشكلة الثقافية، وأوغل في العودة إلى امتداداتها التاريخية القديمة، بقدر ما بسط كثيراً في رؤيته للعلاج، فليس هناك تناسب على الإطلاق بين طريقة تصوير المشكلة، وبين طريقة تصوير العلاج.

 

- 3 –
المجددون في الإسلام

في عام 1933م نشر الشيخ الخولي مقالة في مجلة (الرسالة) المصرية بعنوان (التجديد في الدين)، وتعد هذه المقالة حسب قوله أول عناية له بفكرة تجديد الدين، دعت إليها الحاجة الواضحة إلى هذا التجديد الذي يحقق في نظره استمرار حيوية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، ومسايرته للتقدم الإنساني المتصل.

وقد رجع إلى هذا الموضوع بعد ثلاثين عاماً في كتابه: (المجددون في الإسلام) الصادر عام 1963م، حيث اشتدت في تقديره الحاجة، وقويت العناية بهذا التجديد الديني، وجاء هذا الكتاب لتفصيل وإيضاح ما أجمله في مقالته السابقة.

وهذا الكتاب على أهميته، وأهمية ما كان يريد الخولي التأكيد عليه، إلا أنه لم يعتن به كثيراً الدارسون لسيرة الخولي وأفكاره، وحتى الدارسون لفكرة التجديد الديني. فعندما تحدث الدكتور عاطف العراقي في كتابه: (العقل التنوير) عن ملامح المنحى التجديدي في فكر الخولي، تلمَّس هذه الملامح في العديد من مؤلفات الخولي التي أشار إليها، لكنه لم يقترب ولم يتطرق إلى كتاب: (المجددون في الإسلام).

وهكذا حال الدارسين لفكرة التجديد الديني، فإنهم في الغالب يأتون على ذكر هذا الكتاب، لكنهم لا يتوقفون عنده كثيراً في الحديث عنه، والعناية به، ويحدث هذا الأمر دون أن نلمس شرحاً وتوضيحاً له.

وتفسير ذلك، لعله يرجع في إطاره الكلي والعام إلى أن شهرة الخولي وأفكاره الحديثة والتجديدية عُرفت وتحددت في مجالين أساسيين: هما مجال اللغة، ومجال التفسير، أكثر من أي مجال آخر، بما في ذلك المجال الفكري، حيث يعتبر الخولي صاحب رأي في مجال اللغة، ومن دعاة التجديد والتحديث البارزين في هذا المجال، وكتاباته ودراساته في هذا الشأن لها قيمة واعتبار عند المهتمين بهذا الحقل.

ويبرز في مقدمة هذه الكتابات مؤلفه الذي عُرف به، وهو كتاب: (مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب)، إلى جانب مؤلفاته الأخرى، ومنها: (مشكلات حياتنا اللغوية)، و(فن القول)، و(لسان العرب اليوم).

ومن أكثر ما يبرز المنحى التجديدي عند الخولي في هذا المجال، دعوته إلى الاجتهاد في النحو العربي، وهي الدعوة التي طرحها في بحث حمل هذا العنوان، وشارك به في مؤتمر المستشرقين الدوليين الثاني والعشرين، المنعقد في اسطنبول عام 1951م.

وحين يشرح الخولي قصده من مفهوم الاجتهاد في النحو بالمعنى العام يقول: إنه «البحث الحر المنتفع بآخر ما وصلت إليه الإنسانية من جهد في الدرس اللغوي، وعدم قبول أقوال الأولين في ذلك بلا تمحيص، على أن يبذل في ذلك البحث الحر أقصى وسع الإنسان في طلب المعرفة، أداء لواجبه الكامل في طلب الحقيقة، حتى يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب للمعرفة».

وعن اقتضاء هذا المفهوم، وحاجة النحو العربي إليه يضيف الخولي: «يقتضينا تصحيح المنهج النحوي الاجتهاد بمعنييه: اللغوي والاصطلاحي، فأما الاجتهاد بمعناه اللغوي، فهو الجد الدائب في تأصيل الدراسة اللغوية العلمية، واستكمالها والاعتماد عليها وحدها في فهم نص العربية، وتقديم التفسير اللغوي الصحيح لظواهرها الصرفية والنحوية، بدل تلك التعللات النظرية، والتفسيرات المخترعة والمتوهمة لتلك الظواهر، كما تسجل الكثير منها الصيغ الإعرابية التقليدية. وأما الاجتهاد بمعناه الأصولي الاصطلاحي، فلا يكون وراء ذلك إلا النظر المجتهد فيما خلف المنهج القديم، من قواعد العربية، وتقديراً لصحة هذه القواعد وسلامتها»[14].

وفي مجال التفسير، يُقدَّم الخولي بوصفه من مؤسسي المنحى البياني المعاصرين في تفسير القرآن الكريم، ومن رواد المدرسة الحديثة في التفسير، وقد التزم بتطبيق المنهج البياني في كتابه التفسيري: (من هدي القرآن).

وعادة متى ما عُرف الإنسان بمجال واشتهر به، فإن هذا المجال قد يغطي على المجالات الأخرى، ويتفوق عليها من حيث العناية والاهتمام. ولهذا لم يُعرف الخولي كثيراً في مجال التجديد الديني، كما عُرف في مجالي اللغة والتفسير، مع أنه طرح قضايا وأفكاراً تعد مثيرة بعض الشيء في نطاق الفكر الديني والتجديد الديني، سوف نأتي على ذكرها لاحقاً.

وقد أشار الخولي إلى هذه الأفكار وشرحها في كتابه: (المجددون في الإسلام)، وتحديداً في القسم الأول من الكتاب الذي تناول فيه الحديث عن فكرة التجديد الديني قديماً وحديثاً، وأسس التجديد الديني ومجالاته، ويمثل هذا القسم لب وجوهر أطروحة الكتاب.

أما القسم الثاني من الكتاب، فهو مخصص لتراجم بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في كتب السابقين بوصفهم من المجددين في الدين على رأس كل مئة سنة، استناداً إلى الحديث النبوي الذي رواه أبو داود في سننه: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»، ومن هنا جاء عنوان الكتاب: (المجددون في الإسلام).

مع ذلك فإن هذا الكتاب لا يعد كتاباً في السيرة، ولم يكن الخولي قاصداً لأن يؤرخ لتلك الشخصيات التي تحدث عنها، أو ليعيد الحديث عنها من جديد، فهذه لم تكن غايته، أو خطته في البحث. كما أنه لم يكن معنياً كثيراً في اختيار هؤلاء الأشخاص، أو النظر في صدقية هذا الاختيار والتعيين، والمهم عنده أن يكون هؤلاء الأشخاص من المجددين في نظر السابقين، سواء كانوا شخصاً واحداً على رأس كل مئة سنة أو أكثر، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على هؤلاء الأشخاص؛ لأن الغاية عنده -كما يقول- هي الاطمئنان إلى سلامة فكرة التجديد، وتدعيم هذه الفكرة، وتحديدها وبيانها، والاستفادة من تجديد الذين عُرف عنهم ذلك، والخير عنده في أن يكونوا أكثر من واحد.

والخلفية التي ينطلق منها الخولي في تحديد هذه الغاية، يشرحها بقوله: «فقد ملك النفس شعور الحياة بالحاجة الماسة الملحة إلى تجديد تطوري يفهم به الإسلام، الذي يقرر لنفسه الخلود والبقاء، فهماً حياً، يتخلص من كل ما يعرض هذا البقاء للخطر، ويعوق الخلود إذا ما صح العزم على هذا الفهم الجديد، الذي مضت سنوات في تقرير أصوله وأسسه درساً وتعليماً وتدويناً. ومن حق الحياة أن نحرص على سلامة هذا الفهم، وبقائه، ونجاته كذلك من تلك المهاترات وما تحدثه من خسائر، تكبدتها الحياة في كثير من خطوات سيرها التي لا مفر لها منه ما دامت حياة»[15].

ولهذا لم يعتنِ الخولي في كتابه بمناقشة صحة وقوة الحديث السالف الذكر، تخريجاً أو تحقيقاً والذي يستدل به في القول بالتجديد الديني، واكتفى بما جاء من تخريج وتحقيق في كتاب جلال الدين السيوطي الموسوم بـ(التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مئة)، وهو الكتاب الذي استند إليه الخولي في تحديد وترتيب تراجم الشخصيات التي عُدت من المجددين في الإسلام على رأس كل مئة سنة.

وفي تتمة الشخصيات المجددة من بعد السيوطي رجع الخولي لكتاب المراغي الجرجاوي الذي يحمل عنوان: (بغية المقتدين ومنحة المجددين على تحفة المهتدين). هذان كتابان متكاملان في نظر الخولي، ومن بين الكتب التي تعرف إليها وتحدثت عن فكرة التجديد في الدين.

وقد أوفى هذان الكتابان في تقديره القول في ذلك الحديث النبوي، بما لا يجد -حسب قوله- حاجة إلى المزيد من القول فيه، وهما في الأصل كتابان مخطوطان بدار الكتب المصرية.

ولقد تعمد الخولي الاستناد إلى كتب السابقين، ولعل في ذهنه أن أقوال السابقين أكثر تقبلاً من أقوال المعاصرين، وأشد رسوخاً وهيمنة في ثقافة المسلمين المعاصرة، وأنها تغني عن المحاججة، وجمع الأدلة الثبوتية للبرهنة على فكرة التجديد الديني.

فإذا حدَّث أصحاب القديم عن التجديد، كما يقول الخولي: «وبدأ حديثهم هذا مبكراً منذ حوالي القرن الثالث الهجري، لم يبق بعد ذلك مقال لقائل ولا اعتراض لمعترض، ولم تعد فكرة التجديد بدعاً من الأمر يختلف الناس حوله، فتخسر الحياة ضحايا من الأشخاص والأعراض والأوقات، مما ينبغي أن تدخره هذه الحياة، لتفيد منه في ميادين نشاطها، ولا تضيع الوقت والجهد في تلك المهاترات التي تكثر وتسخف حول كل محاولة جادة لدفع الحياة الدينية، أو الحياة الاجتماعية إلى ما لابد لها منه من سير وتقدم وتطور، ووفاء بما يجدّ دائماً من حاجات الأفراد والجماعات»[16].

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يحسب الخولي أنه واجد في «تصرفات المجددين وتفكيرهم ما لم تصل إليه الحياة اليوم، أو قل ما لم تجرؤ عليه، لأن المقلدين قد ألقوا بجمودهم في الفهم والتصرف ضباباً أو ظلاماً أخفى حقيقته، وحجبه عن الأنظار فلم يعرف، ولم يشتهر، وإذا عرفه اليوم عارف بدا قوله به غريباً منا اليوم. ولكنه في عمل الحاكم المجدد، وفي فكر العالم المجدد لا يمكن أن يلقاه أحد بشيء من هذا الاستغراب أو ما يشبهه»[17].

وقد ظل الخولي يلفت النظر باستمرار في كتابه لمثل هذه الإشارات، التي تكشف عن طبيعة الهواجس التي كانت تتملكه تجاه الحالة الدينية في عصره، ومستوى التراجع، والمأزق الذي وصل إليه الفكر الديني في مصر آنذاك، إلى درجة يرى أن سلامة الفهم الجديد للدين ونجاته، يستدعي حسب قوله تقديم قول القدماء أنفسهم وبعباراتهم في التجديد على محاولة الفهم الجديد.

- 4 –
التجديد والتطور

يشكل مفهوم التطور مفهوماً أساسياً في بنية خطاب النظر والتحليل عند الخولي، ويرتقي لأن يمثل مفهوماً تفسيرياً ومرجعياً في بحثه عن التجديد الديني، يقيس عليه، ويرجع إليه دائماً، وينظر إلى القضايا من خلال نسبتها إليه، وهو من أكثر المفاهيم تواتراً في كتابه: (المجددون في الإسلام)، وبشكل يلفت الانتباه حقاً لشدة بروزه وحضوره، وقد استوقف انتباهي فعلاً حين مطالعتي لهذا الكتاب، وحرضني للبحث عن تفسير يكشف عن شدة التمسك بهذا المفهوم الذي يتكرر ويتواتر من بداية الكتاب إلى نهايته.

وحين توقف الدكتور أحمد سالم عند هذه الملاحظة، أرجع تفسيرها إلى تأثر الخولي بنظرية التطور عند دارون، حيث عقد فصلاً في كتابه: (الجذور العلمانية في الفكر التجديدي عند أمين الخولي)، تناول فيه أثر نظرية التطور على فكر الخولي. وفي هذا الفصل أشار أحمد سالم إلى ما أسماه دفاع الخولي عن نظرية التطور، وتأكيده على أن دارون وأتباعه من الدارونيين لم ينكروا الألوهية، ورفض القول بأن الإسلام يعارض نظرية التطور، وسعيه لتأصيل هذه النظرية ليتخذ منها رؤية منهجية وفلسفية، يستعين بها في التجديد اللغوي، والتجديد الديني، وفي دراسة تاريخ الأديان.

وعلى أساس هذه الفرضية بنى أحمد سالم أطروحة كتابه المذكور، وأخذ يشرح أثر نظرية التطور في موقف الخولي من التجديد اللغوي والديني، وفي العديد من القضايا الأخرى، وخلص إلى أن الخولي وظَّف نظرية التطور من أجل إعادة بث الحياة والروح في الفكر الديني، ولهذا كان تأثر الخولي بهذه النظرية في نظره، عاملاً فعالاً في تجديده للتفكير الديني[18].

والملاحظ على هذا الطرح أنه لا يخلو من مبالغة وإسراف في تصوير تأثر الخولي بنظرية التطور عند دارون. كما لا يخلو هذا الطرح كذلك من مسحة إيديولوجية، وتوظيف إيديولوجي طافح بربط هذا التأثر بجذور العلمانية في المنحى التجديدي عند الخولي، أو بوصفه مكوناً ومفعلاً لهذه الجذور.

مع ذلك فنحن لا ننكر هذا التأثر، ولا نعتبره بالضرورة أمراً سلبياً، أو تأثيراً مذموماً وغير مصيب وقع فيه الخولي، وتجلى هذا التأثر في طبيعة رؤية وموقف الخولي من نظرية التطور، وفي سريان هذه النظرية في أفكاره وأحكامه وتحليلاته.

وقد شرح الخولي موقفه من هذه النظرية، في محاضراته التي ألقاها عن الأخلاق في كلية أصول الدين بالأزهر عام 1927م، حيث اعتبر أن مذهب النشوء والارتقاء «هو مذهب طبيعي يتصدى للبحث في الحياة، ونشوء الأنواع، وكيف تم ذلك. ولكنه يقرر أيضاً نواميس طبيعية مطردة تجري على المعنويات، جريانها على الماديات، فعم تطبيقه سائر فروع المعرفة الإنسانية، ومظاهر الحياة البشرية المختلفة»[19].

وهذا الرأي تحديداً سوف نجد له تجليات واضحة في تبنيه لفكرة التطور في مجال التجديد الديني.

وحين يشير الخولي إلى أن هذا المذهب لا يخالف الإسلام، وينظر لمؤسسه دارون بوصفه لا ينكر وجود الله، فكأنه يريد أن يعلن تقبله لفكرة هذا المذهب وموافقته عليها.

وعن عدم مخالفة هذا المذهب إلى الإسلام، يقول الخولي: «هذا دارون مؤسس المذهب يؤثر عنه أنه يقول: بأنه يستحيل على العقل الرشيد أن يخالجه الشك في أن هذا العالم الفسيح بما فيه من الآيات البالغة، وتلك الأنفس الناطقة المفكرة يصدر عن صدفة عمياء، وهذا المذهب لا يخالف الإسلام لأنه ليس فيه إنكار للإله، ونحن لا ننكر أن من القوم ماديين يرفضون التأليه والألوهية، ويعللون ظهور العالم والأحياء فيه بما يُقال في فكرة النشوء، لكن ذلك شيء ليس من أصول المذهب ولا مقرراته، ولا تلحقه تبعته، بل المذهب كما قال العالم الطبيعي توماس هكسلي يستحيل نقض الألوهية بمقتضاه»[20].

ليس هذا فحسب، فقد ذهب الخولي إلى وجود أساس لنظرية دارون في تاريخ الفلسفة عند المسلمين، في رسائل إخوان الصفا، وفي كتب ابن سينا، وابن طفيل، وابن مسكويه، واستشهد على ذلك بقول إلى ابن مسكويه ورد في كتابه: (الفوز الأصغر) يقول فيه بوحدة الحياة في هذا الكون، وأن المعادن يتصل آخرها بأول النبات، والنبات متصل آخره بأول الحيوان، والحيوان يتصل آخره بأحط الإنسان، ثم لا يزال الإنسان يترقى حتى يصل إلى درجة الملائكة في أشخاص المختارين[21].

ونلمس تأثيرات هذه النظرية وحضورها، أو تطبيقاتها في حديث الخولي عن التجديد الديني، عند تأكيده الواثق على فكرتين متلازمتين أشار إليهما أكثر من مرة في كتابه المجددون. الأولى فكرة التلازم والربط بين التغير والتطور في الأحياء والكائنات المادية والمعنوية، وفي العالم الطبيعي والعالم المعنوي، والثانية فكرة ارتباط التطور بناموس الكون وسنن الحياة، الناموس الذي لا يتخلف عنه شيء، ويشمل كل شيء في عالم الطبيعيات وعالم المعنويات.

ومن إشارات الخولي لهاتين الفكرتين قوله: إن التطور هو «تغير وانتقال من حال إلى حال، تأثراً بعوامل مادية ومعنوية، تتعرض لها الأحياء، والكائنات المعنوية بفعل ناموس، صار في حساب العلم اليوم ثابتاً في جملته ومفهومه العام، وأصله الكلي»[22].

وفي مكان آخر يقول الخولي: «إن التجديد الذي يقرر القدماء اطِّراده في حياة الدين، ووقوعه في كل نقلة من انتقالات الحياة، التي تمثلوها بالقرون ومئة السنة، إنما هو التطور مآلاً، وهو بهذا مصداق للناموس الذي تخضع له الكائنات جميعاً ماديها ومعنويها»[23].

ويرى الخولي أن التطور في المجال الديني لا يخرج عن إطار ناموس التطور واطِّراده وشموله لكل شيء، ومن هنا فلا غرابة عنده «في استعمال هذا التطور والمطالبة به في المجال الديني، الذي يبدو فيه لأول وهلة البعد عن التغير التطوري. نعم لا غرابة في المطالبة بالتطور في هذا الميدان، لأن النظرة الدقيقة السليمة الأساس تبين أن هذا الناموس في تطور الكائنات المعنوية يبدو أكثر وضوحاً في حياة الأديان وتدين الإنسان»[24].

إلى جانب هذا التفسير المتماسك، هناك عامل آخر يضاف له ويعاضده في الكشف عن علاقة الخولي بمفهوم التطور، ويتحدد هذا العامل في الحضور القوي لمفهوم التطور، والجدل الواسع الذي كان يثيره هذا المفهوم في ذلك الوقت، وما كان يطرحه من تساؤلات وإشكاليات تجاه الإسلام والفكر الإسلامي، كما أنه المفهوم الذي حاولت توظيفه الاتجاهات الفكرية غير الإسلامية في مواجهة وإحراج الفكر الإسلامي والاتجاهات الإسلامية.

وهذا ما يتكشف لنا من خلال المؤلفات والكتابات العديدة التي وصلتنا وكانت معبرة عن تلك المرحلة، ومصورة طبيعة العلاقة الجدلية والإشكالية بين الإسلام والتطور، كالذي نراه في كتاب الدكتور محمود الشرقاوي بعنوان: (التطور روح الشريعة الإسلامية) الصادر عام 1969م، وكتاب الدكتور محمد البهي (الفكر الإسلامي في تطوره) الصادر عام 1971م، وكتاب الدكتور محمد فتحي عثمان (الفكر الإسلامي والتطور)، ولعل الشيخ يوسف القرضاوي هو أبلغ من صور الطبيعة الجدلية والإشكالية لهذه العلاقة في مقالة نشرها بعنوان: (الإسلام والتطور.. أيسلم التطور أم يتطور الإسلام).

وقد أشار الخولي لهذه الإشكالية وكيف أنها كانت مطروحة في زمنه، حيث أثير حديث عنها، في ندوة عامة كان موضوعها عن تطور الإسلام. واتسع هذا الحديث حسب قول الخولي مع ما نشرته إحدى المجلات الأسبوعية المصرية من دون أن يسميها، التي واجهت بالإنكار كل من يتحدث عن التطور في الإسلام، وكيف أن الإسلام ليس بحاجة إلى تطور، ولو تطور لم يكن إسلاماً.

وفي هذا النطاق كذلك، أشار الخولي إلى سؤال ورد في حوار موسع مع شيخ الجامع الأزهر آنذاك دون أن يسميه، نشرته صحيفة الأهرام في السابع والعشرين من شهر رمضان عام 1384هـ. ومن هذا التاريخ يتبين أن شيخ الأزهر الذي كان يقصده الخولي، هو الشيخ حسن مصطفى مأمون الذي اختير عام 1964م خلفاً للشيخ محمود شلتوت.

وينص السؤال الوارد في هذا الحوار: إلى أي حد يمكن أن يتطور الدين تبعاً لتطور المجتمع؟

ولا شك أن طبيعة هذا المناخ الفكري يمثل عاملاً في تفسير علاقة الخولي بمفهوم التطور، ولكن العامل الأكثر وضوحاً وموثوقية في هذه العلاقة، هو ما تحدث عنه الخولي بعد أن وجد في تلك الوقائع تأكيد الحاجة إلى الحديث عن التجديد والتطور، ومناقشة معنى تلك الفكرة القديمة التي لقيت من السالفين حسب رأيه، العناية والاهتمام، وهل أنها تقرر للتطور أم لا؟ ولهذا الغرض خصص الخولي فصلاً في كتابه حول التجديد والتطور، خطط له منذ أن رتب لكتابه: (المجددون في الإسلام).

وبصورة أوضح، يتحدد هذا العامل في كون أن مفهوم التجديد المتوارث من كلام السابقين إنما يحيل إلى الماضي والعودة إليه، في حين أن مفهوم التجديد في نظر الخولي هو اهتداء إلى جديد وليس إعادة إلى قديم، وبهذا المعنى يتصل مفهوم التجديد بالتطور، ويعطي معنى التطور، وهو المعنى الذي لا يفهم من كلام السابقين حين يتحدثون عن معنى التجديد.

ويمثل هذا الرأي نقداً من الخولي لكلام السابقين عن معنى التجديد، حين يعنون به إحياء ما اندرس، وهو المعنى الذي يقصد به -كما يقول الخولي- «أن شيئاً من المعالم الدينية الاعتقادية، أو العبادية، فرضاً أو سنة، قد أهمل ونسي على مر الزمن فيعمل المجدد على إعادة العناية به، والتزامه بالصورة القديمة الأولى التي كان عليها. وهذا الفهم المتبادر القريب من جملة كلامهم لا ينتهي إلى شيء من معنى التطور، الذي هو تغير الحياة أثناء سيرها إلى مستقبلها، فإذا ما كان المجدد مطوراً للحياة فمعنى ذلك أنه يقدر تغيرها في سيرها إلى غدها، ويعمل على جعل الدين مسايراً لها في هذا السير، موائماً لحاجتها فيه. فالتجديد الذي هو تطور ليس إعادة قديم كان، وإنما هو اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن، سواء أكان الاهتداء إلى هذا الجديد بطريق الأخذ من قديم كان موجوداً، أم بطريق الاجتهاد في استخراج هذا الجديد بعد أن لم يكن. فالتطور لا يفهم بسهولة من إحياء ما اندرس كما يقال في معنى التجديد»[25].

وقد وجد الخولي في بعض الوقائع والنماذج التي حصلت في تاريخ المذاهب الإسلامية وفي غيرها، ما يؤكد عنده ربط مفهوم التجديد بالتطور، ومن هذه الوقائع التي يستدل عليها ما حصل في مذهب الإمام الشافعي من تطور ما بين مذهبه القديم في العراق، ومذهبه الجديد في مصر. أو ما يحكيه أصحاب مذهب الإمام أبي حنيفة حين يذكرون اختلافاً حصل بينه وبين أصحابه، فيقولون عن هذا الاختلاف: إنما هو اختلاف عصر فقط. وهكذا ما حصل في تاريخ الرسالات السماوية، حيث كان لكل رسالة -كما يقول الخولي- طابعها الملائم لزمانها، ولكل رسول شخصيته الحيوية التي تناسب رسالته وتوائم أهل زمانه، وهذا هو التطور لا غيره حسب قول الخولي.

والخلاصة التي ينتهي إليها الخولي باطمئنان في هذا الشأن، حسب وصفه أن التجديد الديني إنما هو تطور، والتطور الديني هو نهاية التجديد الحق.

- 5 –
 أسس التطور في الإسلام

بعد أن اختار الخولي مفهوم التطور في التعبير عن معنى التجديد، جاء حديثه عن أسس التطور في الإسلام، بدل عنوان أسس التجديد في الإسلام، ويعد هذا البحث من أكثر مباحث كتاب الخولي تميزاً، وأكثرها تعبيراً عن جوهر أطروحته في التجديد الديني.

ويعتقد الخولي أن من ينظر بعمق وسعة أفق إلى الصورة العامة للإسلام بوصفه ديناً ونظاماً اجتماعياً عملياً، يتضح له أنه يحمل أسساً للتطور تهيئه لذلك، وتعده لتحقيقه في يسر، ودون مصادمة لشيء من تطور الدنيا حوله نظرياً وعملياً، التطور الذي يمضي متوثباً جريئاً حسب قوله؛ لأنه الواقع الذي لا مفر منه ولا محيد عنه.

وهذه الأسس في نظر الخولي هي:

أولاً: امتداد دعوة الإسلام امتداداً أفقياً ورأسياً معاً، ويقصد بالامتداد الأفقي امتداد مكان هذه الدعوة وحياتها إلى العالمين كافة. فدعوة الإسلام موجهة إلى كل من يصح أن يوجه إليه خطاب في ذلك، أو يلقى إليه تكليف، أو يطلب إليه تدبير، وبالتالي فإن دعوته لا يخص بها جنس أو لون أو لسان.

ويقصد بالامتداد الرأسي امتداد الزمان بدعوته وحياته قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل. وحيث تتسع حياة الإسلام بهذا الاتساع الذي لا يحده زمان ولا مكان، تكون مواجهته للتغيرات التي لا مفر منها بصورها غير المحددة. فأي تغير يستدعي تطوراً أكثر مما تستدعيه دعوة وحياة تريد لنفسها أن تعمر ذلك العمر الأبدي في الأمكنة كلها، مع هذه الأزمنة على طولها. فهذه الدعوة الإسلامية وحياتها تواجه من التطور ما لا تجد شيئاً أحق به منها، ما دام لها هذان الامتدادان الأفقي والرأسي.

ثانياً: اقتصاد دعوته في الغيبيات، وإراحته العقل مما يتركه التفصيل فيها، واكتفائه بالإجمال العام في الإيمان بها مع النهي عن التفكير في دقائق ما يطلب الإيمان به كالله والملائكة.. إلخ.

وهذا الوضوح واليسر في العقيدة لن يدع فرصة للصدام والخلاف، قليلاً أو كثيراً، بين العقيدة، وبين ما يستطيع الإنسان أن يكشفه من سنن هذا الكون، وأسرار مخلوقاته؛ لأنه متخفف من تلك الغيبيات المبهمة.

وبذلك تستطيع العقيدة الإسلامية أن تصرف نشاطها الذي وفره عدم الاشتغال بالتفصيلات الغيبية، إلى الفهم الحر الملائم لكل جديد من خفايا الكون، تعرفه الحياة على مدى الأيام دون أن تحتاج إلى تفاصيل أو بيانات جزئية، لم تعد الحياة نفسها تحتاج إليها، أو تطالب بها.

ثالثاً: عدم تورط الإسلام في كتابه القرآن الكريم الذي هو أصل أصوله في بيان شيء عن نشأة الحياة على الأرض وظهور الإنسان، وما مر به من أدوار، وسنين تلك الأدوار، وما يتصل بذلك مما تورط فيه غيره.

وراحة الإسلام من هذا التورط تدعه يترك للعلم طريقه، معلناً له أنه مستعد لتقبل كل ما يجيء به العلم من ذلك، وتقريره دون أن يحتاج إلى اطِّراح ما يثقله ظلماً وعدواناً من الإسرائيليات التي أقحمت عليه، أو من التفسير المتثاقل الذي عبر أصحاب الإسلام منذ أكثر من ألف عام، بأنه لا أصل له.

وهكذا يتخلص الإسلام من هذه الأوزار وأمثالها، ولا يحتاج إلى التعرض لشيء من مقررات العلم اليوم، وفي الغد البعيد، مع انطلاق العلم ذلك الانطلاق الجبار. فإذا كان العلم اليوم وغداً يجد في هذه الميادين الطبيعية نفاذاً فإن الإسلام يدعه يمضي في ذلك إلى أقصى ما يصل إليه، ولا نحسب أنها ستؤثر في البيان الإسلامي الفني في قرآنه، الملتزم لأصول العرض الأدبي دون سواه في كل حديث عن تلك الجوانب التي لا يشرك العلم فيها أحد.

رابعاً: عدم تورط الإسلام في شيء من تفاصيل تاريخ الأمم والرسل، التي عرض لأحوالها جملة أو مع بعض التفصيل، بياناً لسنن الاجتماع، في حياة الدعوات والرسالات، كيف تلقاها الناس، وكيف قاوموها، وكيف تم انتصارها أخيراً.

والقرآن في هذا القصص لا يُعنى بما دون العرض الأدبي الفني المحض، فلا يعنى ببيان زمان الحادث، أو مكانه، كما لا يُسمي شخصاً من أشخاصه، في أكثر الأحيان وعامة الأمر. ومع هذه الخطة تجيء الرواية المادية للتاريخ بلسان الحفريات والآثار، بكل ما يمكن أن تجيء به فلا يخشى الإسلام منها مناقضة له ولا تكذيباً، ولا يتعرض بها الإسلام للأزمة التي تعرض لها غيره، ووجد بها من الحرج ما اضطر معه إلى تأويل قد يهتم به أحد المتدينين دون الملايين الباقية، ليوفق في تكلف وتعسف، بين الروايات اللسانية المتزايدة عن هذه الأشياء.

خامساً: اقتصاره في تنظيم الحياة العلمية بالعبادات وغيرها بعد تيسير الحياة الاعتقادية على الأمور الكلية والأصول العامة الشاملة، دون التفاصيل المفردة، والجزئيات الصغرى. ثم تلتمس التفاصيل بعد ذلك، من مصادرها المختلفة مع كتاب الدعوة الأصلي، فترى في هذا التفصيل والتماسه مجالاً تؤثر فيه الحياة بتنوعها وتغيرها وباختلافها وتدرجها، من كل ما تعمل فيه سنة التطور عملها.

سادساً: جعل الاجتهاد أساساً للحياة الإسلامية، وما الاجتهاد إلا الانطلاق مع الحياة وفاء بجديد حاجاتها، وقد تقدم قول القدماء أنفسهم أن الحياة لا تخلو من مجتهد، وما طلبوه من أن يتوافر للناس في كل عصر من المجتهدين عدد التواتر. وما تقرر الاجتهاد والاهتمام به إلى هذا الحد إلا تقديراً للحاجة الماسة والضرورة القاضية بحدوث تغيير يوجبه التطور، ويحس الناس بأثره في النصوص، وكشفه عن حاجة تلك النصوص إلى توسع يمدها بحيوية تدعها صالحة للبقاء الذي نودي به لها.

ولا تغطى تلك الحاجة وتدفع تلك التطورات الضرورية، إلا بأن يكون في المجتمع من يضمن مسايرة الفكرة للحياة، ووقايتها من عوادي الجمود، وذلك بالتجديد الذي لا يكون مع منطق الحياة والواقع إلا تطوراً.

ولعل الرأي الذي انفرد به الخولي، قوله بالتطور في كل شيء، وبحسب المعنى الذي حدده للتطور فإنه يشمل الدين في العقائد والعبادات والمعاملات؛ لأن كلً شيء في نظره يتغير مع الزمن، ولا سيما المتطاول منه.

والتطور الذي يقصده الخولي في هذا الشأن، هو ما يحدث للشيء من تغير في صورته الذهنية، ومفهومه العقلي، ويتغير تبعاً لذلك وقعه النفسي، كما يتغير أيضاً التعبير عنه، والتمثل له، وكل هذه تغيرات تطرأ على أي شيء. وبناء على ذلك يجب على صاحب الدين -كما يرى الخولي- أن يقرر هذه الأمور، فيغير تعبيره، وعرضه واستدلاله.

وبهذا المعنى يكون التطور في العقائد بمعنى كيف نعرض هذه العقائد في عصرنا حماية للتدين، وإثباتاً لصلاحية الدين وبقائه، واستطاعته لمواءمة الحياة، مواءمة لا يتنافر فيها الإيمان مع نظر أو عمل.

وهكذا التطور في العبادات، فمن صوره التي يشرحها الخولي، أن مع دخول الطائرات فهل نظل نأخذ حكمها من الصلاة على الدابة، أو الصلاة في السفينة.

ومن الأمثلة التي يطرحها الخولي ويتبناها في التعبير عن التطور في العبادات، فإنه يستحسن أن تسمى صلاة الخوف بصلاة الميدان أو صلاة الحرب، لأن تسمية صلاة الخوف في تقديره لا يتوافق مع روح الجندية. علماً أن الخولي له كتاب حول الجندية بعنوان: (الجندية والسلم).

- 6 –
ملاحظات ونقد

هذه كانت رؤية الشيخ الخولي لفكرة التجديد الديني، وعند النظر لبنية هذه الرؤية ومكوناتها يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: لقد وجد الخولي أن فكرة التجديد التي أشاد بها القدماء، وأفردوا لها المؤلفات، هذه الفكرة حسب تقديره لم ترج في العصر الحديث، رواجها في القديم. وما يحسب أنها اشتهرت أو كثر الحديث عنها من أصحاب الإصلاح الديني، ومع أنه لا يزعم تتبعه لآثار المصلحين الإسلاميين على اختلاف نزعاتهم، وتعدد أقطارهم، ليعرف مدى تعرضهم لفكرة التجديد الديني، لكنه يستطيع بالنظرة العامة القول: إن هذه الفكرة لم تشتهر اشتهاراً واسعاً، ولم يعرف أنه قد كتبت فيها الرسائل المفردة.

وإذا كان هذا الانطباع أو التقدير على فرض صحته يصدق في زمان الخولي، فإنه بالتأكيد لا يصدق في زماننا، الذي نشهد فيه أوسع حديث عن فكرة التجديد الديني، حيث بات الجميع يتحدث عن هذه الفكرة، من داخل الفكر الإسلامي ومن خارجه، من المنتسبين إليه ومن المشتغلين عليه، مسلمين وغير مسلمين، وبالمستوى الذي يشكل حدثاً لافتاً يمكن أن يؤرخ له في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ولمن يريد أن يؤرخ لفكرة التجديد الديني. وذلك بغض النظر عن طبيعة دوافع ومنطلقات هؤلاء جميعاً، بين أن تكون دوافع ومنطلقات دينية أو ثقافية، فكرية أو إيديولوجية، معرفية أو سياسية.

الوضع الذي يكشف عن طبيعة المفارقات بين الزمان الثقافي والديني الذي كان سائداً في عصر الخولي، وبين الزمان الثقافي والديني السائد في عصرنا اليوم. كما يكشف عن طبيعة السياقات السياسية والاجتماعية المتغيرة والمتحولة بين ذلك الزمان، وهذا الزمان الذي اقتضى انبعاث الحديث عن التجديد الديني بهذا المستوى من التراكم الواسع.

ثانياً: كان الخولي يرى أنه ليس يعنيه كثيراً ملاحقة وتتبع فكرة التجديد الديني في العصر الحديث، بقدر ما يعنيه تأصلها في القديم، وسيرورتها بين الأسلاف، تلك السيرورة التي تفيد منها الحياة اليوم، ولذا لم ينشط كثيراً حسب قوله في التتبع التاريخي لهذه الفكرة عند المحدثين، ولعل في خلفيته أن كلام السابقين -كما أشرت إلى ذلك من قبل- أشد وقعاً وأكثر موثوقية في الثقافة الدينية المعاصرة من كلام المعاصرين.

وهذا الرأي لا يمكن تقبله أو التسليم به من الناحية العلمية، فكيف لا يعنينا تتبع هذه الفكرة عند المحدثين، وكيف يؤرخ لها في العصر الحديث، ونحن ننتمي لعصر هؤلاء، وزمانهم الفكري والديني والروحي الذي لا ينبغي الانفصال أو الانقطاع عنه!

كما أن هذا النهج يخالف ما هو متعارف عليه في الدراسات العلمية والمنهجية التي تشترط العناية والإحاطة بموضوع البحث، وتتبع ما كتب ونشر حوله خصوصاً من المعاصرين. وهذه الملاحظة لم تكن خافية بالتأكيد على الخولي، وهو الضالع في الدراسات اللغوية والأدبية، والتي تتصل بها مناهج البحث، وقواعد وأصول البحث العلمي.

وبقدر أهمية أفكار ووجهات نظر السابقين، بقدر ما تكون أيضاً أهمية أفكار ووجهات نظر المعاصرين. وفي كثير من الحالات يكون كلام المعاصرين أكثر أهمية وعناية من كلام السابقين؛ لأن البحث يقتضي دائماً الإحاطة والبناء والتراكم والإضافة على ما هو موجود من أفكار المعاصرين، ومعارفهم.

ثالثاً: إن عدم عناية الخولي بكتابات المعاصرين في مجال التجديد الديني يمثل نقصاً معرفياً واضحاً في أطروحة كتابه، حيث لم يقترب أو يتطرق إلى التساؤلات والقضايا والإشكاليات التي كانت تطرح حول فكرة ومفهوم التجديد في الفكر الإسلامي، كالتي أثارها قبله الدكتور محمد البهي في كتابه: (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي)، أو التي كانت تطرح في كتابات الغربيين، كالتي أثارها تشارلز آدمز في كتابه: (الإسلام والتجديد في مصر)، وهاملتون جيب في كتابه: (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، وهذان الكتابان تحديداً هما من أسبق الكتابات في موضوع التجديد الديني، ولا تنقصهما الإثارة والجدل.

والخولي من جهته لا تنقصه المعرفة بدراسات هؤلاء الغربيين والمستشرقين، لكونه يتقن بعض اللغات الأجنبية، ولأنه أقام ردحاً من الزمن في إيطاليا وألمانيا. وفي هذا الصدد يذكر الدكتور كامل سعفان أن الخولي خلال إقامته في روما اطلع على كثير من كتابات المستشرقين أمثال لويجي رينالدي، والسنيور جلستينو سكيابارتي اللذين اتخذهما مرجعاً لبحثه عن المدنية العربية في صقلية[26].

مع ذلك فإن الخولي لم يأتِ على ذكر أحد من هؤلاء الذين تطرقوا وأثاروا إشكاليات حول موضوع التجديد الديني في كتابه، الأمر الذي أفقده بعض المزايا العلمية.

ولهذا فإن كتاب الخولي لا يعد في نظري من الكتب التي لها وزنها العلمي والمعرفي في مجال التجديد الديني، وقيمته تتحدد في أنه أثار أفكاراً ووجهات نظر لها أهميتها في موضوع التجديد الديني.

رابعاً: لقد خصص الخولي قسماً في كتابه تحدث فيه عن التجديد حديثاً، بعد أن تحدث في القسم الذي قبله عن التجديد قديماً، ولو لم يتحدث الخولي عن هذا القسم في كتابه، بالطريقة التي تحدث بها لكان أفضل، وذلك لضعفه، وعدم قيمته، وما كان بحاجة إليه أساساً.

فقد تحدث الخولي في هذا القسم، عن الحركة القاديانية في الهند التي اتخذت من فكرة التجديد -كما يقول- أداة لدعاية واسعة جعلها تعرف في الهند وحولها، وفي الغرب، ولهذا لم يرَ بأساً في أن يصيخ لحديث هذه الحركة عن التجديد الديني، سواء أكانت هي حركة رشيدة -حسب قوله- أم لا.

وكان الأولى بالخولي أن يتحدث عن التجديد الديني في مصر، خصوصاً وأنه يرى أن حركة الإصلاح الديني في مصر قد قويت على يد جمال الدين الأفغاني، ومدرسته التي أصلها ورأسها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وسرت مبادئها من مصر إلى غيرها من أقطار الإسلام الأخرى شرقاً وغرباً[27]. وحتى في الهند كان الأولى به أن يتحدث عن رواد حركة التجديد الديني هناك، الذين كان لهم أثر في العالم العربي والإسلامي أمثال شبلي النعماني وولي الله الدهلوي ومحمد إقبال.

وحديث الخولي عن القاديانية جاء وكأنه خارج عن السياق، وقدم كلاماً عادياً، ولم يضف جديداً على الإطلاق. والقاديانية أساساً لا تصلح مثالاً للحديث عن التجديد الديني حديثاً، بقدر ما تصلح أن تكون مثالاً للحديث عن الانحراف في التجديد الديني.

وبهذا الحديث برهن الخولي على صحة كلامه السابق، في أنه لم ينشط كثيراً في التتبع التاريخي لفكرة التجديد الديني عند المعاصرين، ولآثار المصلحين المسلمين الذين تعرضوا لهذه الفكرة على اختلاف نزعاتهم وتعدد أقطارهم. ولعله لو كان ملماً بهذه الآثار لما اختار الحديث عن القاديانية، فهي أسوأ حديث في هذا الموضوع.

خامساً: تحدث الخولي عن أمكانية التطور في العقائد، وهو يدرك سلفاً أن التطرق لمثل هذا الموضوع يثير فزعاً، ويولد التباساً، ونتائجه لا تحمد عقباها، وهذا ما استدركه وهو يفتتح حديثه بالقول: «ما أشك أن وجوهاً تتجهم لهذا العنوان، تحسب أن العقيدة من الثبات والرسوخ بما يبلغ حد الوقوف أو قل الجمود، الذي لا يناله تغيير، ولا يمسه تفكير»[28].

ومنشأ الالتباس في هذا الأمر هو: هل أن المقصود بتطور العقائد، تطور أصل هذه العقائد؟ أم هو تطور في طرائق الفهم لهذه العقائد؟

والذي يفهم من كلام الخولي أنه لا يقصد التطور في أصل العقائد، وإنما في طرائق واتجاهات الفهم لهذه العقائد، والذي يكشف عنه حسب رأيه التعدد والاختلاف، أو حتى النزاع والصراع في طرائق فهم وتصور هذه العقائد، كالخلاف الذي جرى حول صفات الله، وما يثبت منها، وكيف يثبت، أو الخلاف حول صفة الكلام في المحنة الشهيرة التي عرفت بمحنة خلق القرآن.

وأوضح مثال يكشف عن رأي الخولي بهذا المعنى، حديثه عمَّا حصل من تحول وتغير عند أبي الحسن الأشعري في القرن الرابع الهجري، من مذهب الاعتزال إلى تأسيس مذهب الأشاعرة الذي ينسب إليه. إلى جانب ما تعرفه المكتبة العربية حسب قوله من كتب مختلفة تحمل صورة العقيدة، حيث يذكر فيها مقالة فلان، ومقالة فلان آخر، فهذه الكتب تسجل في نظره التغير في العقيدة، وقابلية التغير عنده هي قابلية التطور.

وما يريد الخولي أن يصل إليه في حديثه عن تطور العقائد هو الحاجة إلى التطور في طريقة عرض العقيدة إلى الأجيال المعاصرة وهي في بيوتها، أو في مدارسها، أو في معاهدها وجامعاتها. هذه الأجيال في نظر الخولي بحاجة إلى طريقة في عرض العقيدة تلائم حاجتها النفسية، وجوَّها العلمي والعملي الذي تطير فيه الصواريخ العابرة للقارات، وتسجل الحياة في الكواكب.

وبعد هذا العرض يختتم الخولي بالقول: فليس لوجه أن يتجهم لعنوان تطور العقائد. وبهذا التوضيح يفترض أن الخلاف والنزاع مع الخولي، يرتفع ويتلاشى في حديثه عن تطور العقائد.

سادساً: أراد الخولي من هذا الكتاب أن يكون تمهيداً لكتاب آخر يبسط فيه الحديث عن التجديد الديني، وأشار إلى ذلك قبل أن يختم مقدمة كتابه بقوله: «وبذلك يكون كتاب المجددون في الإسلام، طليعة لكتاب آخر هو تجديد الدين، فهو يطرق بين يديه، ويمهد ويعد النفوس، ويذلل العقبات»[29].

وقد ظل الخولي يشير أكثر من مرة لمثل هذه الملاحظة في كتابه، وتبين أن هذا الكتاب لم يصدر. وهذا ما أكده أيضاً الدكتور كامل سعفان الذي ألف كتاباً في سيرة الخولي، وحين جاء على ذكر هذا الكتاب قال: إن كتاب «تجديد الدين الذي سبق أن أعلن عن تقديمه للنشر أكثر من مرة، ولم يرَ الكتاب طريقه إلى النور، ولم نجد إليه طريقاً حتى الآن»[30].

كما أن الخولي وعد بإصدار جزء ثانٍ يكون تتمة وتكملة لكتابه (المجددون في الإسلام)، على أن يبدأ بترجمة أبي حامد الغزالي حسب ما أوضح في نهاية هذا الكتاب، لكنه توفي قبل أن يصدر الجزء الثاني. وهذا يعني أن حديث الخولي عن التجديد الديني لم يكتمل، ولا يمكن النظر إليه نقداً وتحليلاً إلا بوصفه حديثاً غير مكتمل.

 

 



[1] كامل سعفان. أمين الخولي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982م، ص 58. نقلاً عن: أنور الجندي. النثر العربي المعاصر في مائة عام، ص 721.

[2] كامل سعفان. المصدر نفسه، ص62.

[3] عاطف العراقي. العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، القاهرة: دار قباء، 1998م، ص321.

[4] عاطف العراقي. المصدر نفسه، ص321.

[5] احميدة النيفر. الإنسان والقرآن وجهاً لوجه، دمشق: دار الفكر، 2000م، ص114.

[6] أمين الخولي. المجددون في الإسلام، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، ص163.

[7] أمين الخولي. رسالة الأزهر في القرن العشرين، القاهرة: دار الهنا، 1961م. نص الرسالة موجود في كتاب: أحمد سالم. الجذور العلمانية في الفكر التجديدي عند أمين الخولي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005م.

[8] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص173.

[9] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص177.

[10] توفيق الحكيم. يقظة الفكر، القاهرة: مكتبة الآداب، 1986م، ص10.

[11] كامل سعفان. أمين الخولي، مصدر سابق، ص146 - 147. نقلاً عن صحيفة المصري، 1952م.

[12] كامل سعفان. المصدر نفسه، ص148.

[13] أمين الخولي. رسالة تعدد الثقافات في مصر وعلاجه، عن كتاب: أحمد سالم، الجذور العلمانية في الفكر التجديدي عند الخولي، مصدر سابق، ص195.

[14] كامل سعفان. أمين الخولي، ص193 - 195.

[15] أمين الخولي. المجددون في الإسلام، مصدر سابق، ص13.

[16] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص10.

[17] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص12.

[18] أحمد سالم. الجذور العلمانية في الفكر التجديدي عند أمين الخولي، ص136.

[19] أمين الخولي. كتاب الخير، القاهرة: دار الكتب المصرية، 1966م، ص87.

[20] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص101.

[21] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص96.

[22] أمين الخولي. المجددون في الإسلام، ص39.

[23] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص42.

[24] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص41.

[25] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص36.

[26] كامل سعفان. أمين الخولي، ص63.

[27] أمين الخولي. المجددون في الإسلام، ص27.

[28] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص55.

[29] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص13.

[30] أمين الخولي. المصدر نفسه، ص100.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة