شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
فلسفة السؤال وإشكالية تدبير الجواب
في الفكر العربي والإسلامي المعاصر
مع أنني أدرك أن موضوع الإصلاح الديني ومسألة التجديد هي من السعة بحجم ما فات الكيان العربي والإسلامي من غُنْم ركب الحضارة المعاصرة ومكتسباتها، وبحجم الفارق البنيوي الذي يعكس تراجيديا الانحطاط الذي ظل يرافق كل محاولات التقدم ومشاريع النهضة على امتداد قرن ونصف من التنظير للنهضة والإصلاح، فإنني أرى أفضل طريق لاقتصاد النقاش واقتصاد القول في هذه المحاولة، أن نتقيد بمحاوره وأسئلته، التي هي في تصورنا أسئلة داخلة في نطاق العمومات التي تتطلب تخصيصاً وتقييداً، خروجاً بها إلى فضاء التفاصيل وانتقالاً بها إلى مشهد ملامسة الشروط الموضوعية لجدل الواقع. لكن قبل أن نشرع في معالجة الأسئلة التي تشكِّل محاور هذا النقاش المهم والحيوي والضروري أيضاً، لا بد من مدخل نظري عام، يتعلق بفلسفة السؤال وجدله مع فلسفة الجواب، لدفع شبهة الفصل التعسفي بينهما، حيث لا مجال لدراستهما إلَّا في ضوء جدل السؤال والجواب، ومشموليتهما ضمن الجدل الكبير بتجلِّييه: جدل النظر والعمل، جدل العقل والواقع. فموضوعنا إذن يتعلق بفلسفة المواءمة بين السؤال والجواب؛ ودورانهما تبسيطاً وتركيباً، نزولاً وصعوداً، وجوداً وعدماً.
المسألة الأساسية، والمحورية في معالجة قضية الإصلاح، أي إصلاح، مادامت تطرح نفسها على نحو بالغ الإلحاح، هو نجاعة السؤال. بمعنى آخر، هل نحن حقًّا نطرح أسئلة حقيقية أم أننا نجيب فقط جزافاً أو أننا نجيب دون أن نتساءل؟! ولا أخالكم ستتعجبون من هذه المفارقة: هل يمكننا أن نجيب من دون سؤال؟
أقول: نعم، وتلك هي أولى مفارقات العقل العربي اليوم. إنه يجيب فقط ولا يحسن السؤال. قد يسأل ويسأل، لكنه لا يسأل في الصميم، وسهمه لا يصيب الهدف. إنه لا يمتلك أسئلة حقيقية، سوى أنه يتقمص أسئلة ويتقمص أجوبتها في أرقى نشاطه. كاد التقليد يكون قدره، سواء أكان في مقام السائل أوفي مقام المجيب. إنه، بالنتيجة، لا يملك فلسفة السؤال، وبالتالي أنَّى له بفلسفة الجواب. ذلك لسبب بسيط، هو أنه لم يستوعب حتى اليوم مأساته وانحطاطه. وتلك هي ثاني المفارقات التي ابتُلي بها العقل العربي المعاصر. وحتى لا يكون هذا الحكم مجرد وهم ينطّ أو اتهام يشطّ أو حكم ينضاف إلى مسلسل الأحكام التي تفتقر إلى موضوعاتها، أجد نفسي ملزماً لإعطاء بعض الأدلة والشواهد على ذلك تباعاً.
ﷺ شواهد على مفارقة الاستقالة بالجواب
أقصد بمفارقة الاستقالة بالجواب، ما يوجد من أجوبة في جدول أعمالنا من دون سؤال مطروح، أو أجوبة أجنبية عن سؤال مطروح. وهو ما يتطلب تفصيلاً في المقام:
أجوبة من دون سؤال
سأجد نفسي مضطراً إلى تقديم أمثلة ثلاثية تعكس، من جهة، الوسائط الأكثر فعالية في موضوع الإصلاح، والتي تشكل أضلاعاً لثالوث جدلي متفاعل وأحياناً متصارع، اعتقاداً منا بمشروعية حضورها في قلب النقاش الدائر حول النهضة والإصلاح. ومثل هذه الشراكة، من جهة أخرى، هي بمثابة الغُنْم الذي يستلزم غُرماً. أي الشراكة على صعيد التوزيع المتكافئ للتوصيف الأزموي، لأننا جميعاً «في الهوى سوا». ولأن الجميع مشغول الذمة بقدر من المسؤولية فيما نحن فيه. وعليه فتكون أمثلتنا تتوزع بين ثلاثة نماذج؛ كلٍّ موسوم بسؤال نموذجي خاص. وكل سؤال يستدعي ثقافة كاملة وموقفاً كاملاً، وعنواناً لمشروعية حضور أي فاعل من فواعل التأثير في المشهد والمجال، وهي النماذج التالية: أصولي - علماني - رسمي (سلطاني)[1]. وكل نموذج منها يشمل أطياف الاختلاف الجواني إزاء الاختلاف البراني للنماذج المذكورة، وحيث الجامع لها جميعاً، طبيعة السؤال نفسه:
- أصولي، وفيه مثالان
- جواب أسلمة المعرفة، مثالاً، عن سؤال لم يرد في سؤال النهضة إلا بصيغة كيف نكتسب المعرفة؟
ليس القصد أن ندرج هذه المحاولة ضمن المطروح المعيب[2]. ولا القصد النيل من عمق التحليل والنظر الذي رافق هذا الاجتراح الذي كان يجيب عن سؤال لعله لم يكن في وارد التيار النهضوي والإصلاحي المأخوذ بسؤال، هو مربض الفرس في هذا الشرخ الكبير المهول بين أمة تقيم على حافة التقدم العلمي. وليس لها من غلاة معارفه سوى ما سقط سهواً أو قذف جزافاً. أي ليس لنا من نصيب هذه المعرفة سوى محصول الخردة والقمامة المعرفية التي لم تملأ مشاشنا حتى نرى أي إشكال في كفرها أو إيمانها. ولا كانت تراجيديا الانحطاط من إخراج غيلان معرفية كافرة، حيث آثار الانحطاط ظلت بادية في مشاهدنا قبل أن تملأ فراغه بقايا صور معرفة هزيلة لم نحصد منها سوى سقط المتاع. أهي التخمة المتخيلة أم خداع الذات لنفسها أم هي عبقرية نادرة كشفت عن أن معضلتنا هي في نوع هذه المعرفة لا في امتناعها وتمنعها علينا. وكيف ستحصل هذه الأسلمة وأين يا ترى؟ أفي الجملة أم بالجملة.. ومن سيتولاها، أفراد شُذّاذ أم مؤسسات مهترئة أم نظم تربوية لم تقتدر حتى على الانخراط في الشروط الدُّنيا للعلم الحديث ومعارفه التي باتت تسبقنا كالضوء، لا حيلة لنا أمام تحدي تحصيلها بله نقضها، سوى تخريفات من وحي جنون العظمة أو أحجيات يسر لنا بها خطاب يجيب عن سؤال لم يطرح لا عندنا ولا عند أغيارنا؟! حتى أن السيد جمال الدين الذي عاقر ذلك الجدل في حينه ضد نظرية النشوء والارتقاء، لم يكن ليحرف الجواب الحضاري والإصلاحي الذي وضعت فكرة الجامعة الاسلامية في طريقه. فلم يجعل -وهو الفيلسوف البارع- من العارض جوهر استشكاله النهضوي. ولا أحد من هذا الرعيل سافر ذهنه الشقي ليقيم نهجاً يتنزل قسيم الجنة والنار لمعرفة الإنسان مهما شطَّت وتملكها الطغيان. فهي مغلوبة لحتمية النظر محكومة لصيرورة النقد ومعاقرة أهل المعرفة نفسها. حيث ليس لنا إلا الانخراط الأمثل والإيجابي في دورة معرفة الإنسان وتحقيق ثورتنا المعرفية في طولها وعرضها؛ نسلم لها فتسلم لنا. أليس ذلك أهون وأقصد وأنفع من كل رياضة آيتها إضافة جلبة شقية للمعروض غير النافع من الأفكار التي تأبطها الفكر الإسلامي قسراً، فيما الفكر الإسلامي يبكي اليوم حظه العاثر لشقوة حامله وشدة إسرافه في تهيؤاته التبسيطية الطفالية.
ليست مشكلة العالم العربي والإسلامي إلا الحاجة والفقر الشديد المدقع لرأس المال المعرفي. وليس له من الإمكانات ولا من الفرص ولا من الآليات ما يحقق به مهمتين مستحيلتين استحالة ما كان قرره هيزنبيرغ بخصوص مهمتين في عالم الميكروفيزياء متمنعتين على الباحث: رصد موقع وضبط حركة الكهرب في آن واحد. كيف نسابق المنتج المعرفي وكيف نقوِّمه في الوقت ذاته بنهج في الأسلمة لم تتضح معالمه لأهله. وحيث بات عسر هضمه أنكى وأضر بالأمة من هضم المعرفة كما هي. مشروع ولد ميتاً كما كان منتظراً، لأنه مصارعة لطواحين الهواء. ولأنه جهد يهدف إشغال الأمة عن موجبات راهنة تطرح جملة استحقاقات ومهام لم تنهض بها بعد أكثر من قرن من النشاط عبثا. هي بلا شك دعوة يملك مؤسسوها باعاً وخبرة وتطاولاً معرفيًّا متيناً. وقدرات متفاوتة في فن الخطاب وصناعة الإمتاع. لكن كل ما كان خارج دورة المقاصد واختار شقوة الشرود ومعاقرة التيه آل إلى الفشل حتماً، وأدخل في متاهات لا يكاد العقل يخرج منها. لم يطرح سؤال تهذيب المعرفة -وهو عنوان الأسلاف لما كانوا فاعلين ويقظين- قبل سؤال النهضة. وإذا كان سؤال التهذيب هو ملازم لتقدم الحضارة وتحقيق التقدم واتساع العمران، أي أنه مشروع أمة قوية محصنة استوفت شروط نهوضها، فكيف نتقدم بعارض وننزله منزلة ما بالذات. وقد علمت أن المسلمين نجحوا في ملحمة التهذيب للعلوم والفنون في هدأة الحضارة واستقرارها. فليس تهذيب الضعيف لعلوم القوي بذي جدوى. فلا سرعة الركب ولا التاريخ سينصفها. وأي موضوعية ستحرزها عملية الأسلمة لو استمرت على حساب اصطياد المعارف وصراع المغامر الغشمشم، من أجل انتزاعها انتزاع قرصان للمعرفة لا انتزاعاً سمحاً لمستجدي. فالمطلوب هو القوة -ومصداقها قوة المعرفة وليس فتح مختبر لتشريح معرفة لم ندرسها قبل أن نجري على جسدها المجهول عملية قيصرية لولادة معرفية مشوهة-. وإذا سمى القدماء ما أقدموا عليه تهذيباً لا أسلمة، فحذار أن نجعل عنوان «أسلمة» يدفع ثمن فشل عقل متأسلم، يتأبط الإسلام كرهاً لتحميله فظاعات وعينا الشقي. إن مطلب الأمة اليوم هو: كيف تلاحق قطار المعرفة وتكسبها، لأنها بعيدة عنها محرومة منها، وهي في سباق أكثر مما هي في حالة انتقاء. وكيف تتسلل إلى مرتعها في مراكزها فتحتلها لأنها مبعدة عنها ممنوعة عليها. فلعل للأسلمة طريق أوضح ودليل أخصر ومحجة أوضح: اصنع نهضتك، ثم ستفرض نموذجك المعرفي على الدنيا. وحينئذ ستجد تلقائيًّا العلوم تتأسلم من حيث إنك قوي لا من حيث إنك مسلم. فالمعرفة في نفسها مسلمة، فهلَّا أسلم حاملها فتسلم. فليس الإسلام في حياتنا إلا ما نُلبسه إياه وما نتلبس به. فإما لبوس الأنا السوية المعافاة من جروح صدمات الحداثة ولكمات العصر الموجعة، أو هو لبس الفرو مقلوباً؛ لبوس ذات مهزومة تهذي حيث ينبغي أن تعترف بعوار انحطاطها، لتطلقه جهاداً معرفيًّا يؤنس ويستأنس، يقبس ويقتبس خارج مدارات الانزواء التعيس، بعلم لم ننتج منه مقدماً ولا مؤخراً. إنها قصة الوعي الشقي تعانق أجوبة هي بالأحرى تجيب عن سؤال آخر مخفي في قعر لا وعينا المتخم بالجروح. ولكنه في النتيجة جواب عن سؤال لم يطرحه واقع انحطاطنا البتة. ولعل ما يظهر إلى أي حد أن سؤال أسلمة المعرفة ليس تحققاً لوحدة رؤية ومنهج سوى نشر المعارف الدينية ووجهات نظر في قضايا فكرية واجتماعية، أن المعروض هناك لا تكاد تميّزه من المعروض في أسيقة خارج سياسة الأسلمة. وقد عجبت أن ينشر كتاب للباحث غريغوار مرشو في سلسلة إسلامية المعرفة، مع أنه عالج قضية نقد التمركز في الفكر الغربي، فضلاً عن أنه مسيحي علماني، هو نفسه برأ -لي شخصيًّا- من الطريقة التي تم بها إدراج كتابه حول الاستتباع في صلب مشروع لم يدرك شيئاً من أصوله وغاياته[3]. وهذا لا يقلل من ذلك الجهد الذي أسسه المفكر القدير محمد أبو القاسم حاج حمد، في رياضته الفكرية التي هي أصلح للإشباع المعرفي منها لسؤال النهضة والإصلاح. وأصلح للإمتاع والمؤانسة منها لسؤال المنهجية. وقد كان رحمه الله واسع الخبرة غزير العلم قوي الملكة. وقد ازداد عجبي من طريقة تدبير هذه الأسلمة. وخاب أملي في انتقائياتها المتعسفة واختياراتها الجزافية واصطفافاتها المكشوفة. فالمرحوم محمد أبو القاسم يوم شاء تصدير مشروعه استعرض الكثير من المشاريع بوصفها مهمة وأساسية في مشروع مكنز أساسي للمنهجية الضرورية لأسلمة المعرفة. فكان أن صفهم طابوراً عجيباً، وجبهة لا جامع بين فرسانها معرفيًّا وإيديولوجيًّا. ومنهم ناقضون لفكرة أسلمة المعرفة ومعارضون لمنهجيتها أيما معارضة، إن لم يكن معظمهم[4]. وسأسردهم أولاً بأول لتقف على أسماء لا يجمع بينها جامع في مدى التفاكر والمطارحة العامة فكيف بمشروع إسلامية المعرفة على نبل غايته وإخلاص طلائعه وإصرار مريديه. ولعل تدابر أولئك موروث من الجذر الصراعي لإيديولوجياتهم في منطقة التصدير؛ أي المركز.. لاحظ ما يقول صاحب فكرة المكنز:
«محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وميشال زكريا، ومحمود فهمي زيدان، وهادي عطية مطر الهلالي، ونصر حامد أبو زيد، وعبد المجيد الشرفي، وكمال عمران، والمنصف عبد الجليل، والباجي القمرتي وداد القاضي، ومحمد نور الدين أفاية، ومحمد خطابي، وعبد السلام المسدي، وأحمد ماهر البقري، وحسن ظاظا، وعبدالكريم العريض، ومحمود فهمي حجازي، وصلاح الدين صالح حسين، ومصطفى لطفي، ونجيب غزازي، وإبراهيم أنيس، وزين كامل الخوسكي، وعبدالهادي عبد الرحمن، وعلي حرب، وعمار بلحسن، وإمام عبد الفتاح إمام، ومنى فياض، وكمال عبداللطيف، وعبدالسلام بنعبد العالي، وسالم يفوت، وطه عبدالرحمن وهناك آخرون.. تشكل هذه الدراسات ومع اختلاف توجهاتها وبواعثها مداخل أساسية للتجديد النوعي ليس في الفكر الديني فقط، ولكن حتى في التجديد الحضاري والثقافي والاجتماعي، فهؤلاء الكتاب المعاصرون يشكلون رواد نهضة جديدة (...) وليس ينقص من شأن بعضهم في عصرنا الراهن أنه وضعي الفلسفة والاتجاه، فالوضعية نفسها قد خضعت للتفكيك العلمي والإيبستيمولوجي (...) إن مراجعة هذه الأعمال وتوظيفها في صياغة المنهج المعرفي وطرح التجديد النوعي تتطلب جهداً جماعيًّا ومؤسسيًّا لإحداث التغيير الجذري في واقعنا وفق جدلنا الخاص (...) إن ما نطرحه في هذه الدراسة يختص بمعنى المنهجية والأدوات المعرفية المعاصرة لصياغتها وذلك في إطار إسلامية المعرفة»[5].
رؤية حالمة، ومبتغى مخملي في معمعة المنتج الإيديولوجي العربي ذي النزعة الصراعية، ولا نخاله سرداً منطقيًّا ولا جامعاً مانعاً، فهو سرد شللي، كان بالأحرى أن يتم استعراضه ألفبائيًّا بعمر تاريخ المطارحات العربية، أو بأهمية المطروح، لا يوجد في هذا الاصطفاف عبد الله العروي ولا الطيب تيزني ولا حسين مروة ولا حنفي ولا عبد الكبير الخطيبي ولا عبد العزيز الحبابي ولا أبو يعرب المرزوقي ولا سمير أمين ولا.. ولا.. بل لعلهم ملحقين في كلمة «وهناك آخرون»، هذا عربون المنهجية، وهذا نموذج ما أسماه بالمكنز الذي سعى إليه في سياق إنشاء «المعهد العالي للمناهج المعرفية والأنساق الحضارية»[6].
ثم كيف ترجى الجماعية في تحقيق هذا المشروع وكل أطاريحنا العربية مهجوسة بالتنافر والقطيعة والصراع. فهل بمجرد أن نستنسخ موقف نقد الغرب أو ما بعد الحداثة يكفي أن تتحقق الأسلمة. ثمة بالفعل آراء للاستئناس. ولو أن المرحوم محمد أبو القاسم عند تقديم أفكاره وآرائه الممتعة، شغل بتقديم المعرفة ونقدها، أو لنقل بتعبير زميله طه جابر العلواني: بتحريرها، لكان أجدى. فلا نحمل سؤال الأسلمة وزر تخلفنا. أو فلنقل: إن القصة تتعلق بأسلمة ضمير علمي لا أسلمة معرفة. وإن اقتضى الحال، تحرير معرفة لا أسلمتها[7]. واستنهاض همم لا تشريح معرفة لا ننتجها ولا نكاد نستوعب منها ما فيه الكفاية.
إنه بتعبير آخر وبرسم المطلب النهضوي، ليس سؤالاً حقيقيًّا. فحينما تتخلق المعرفة، أي حينما يتخلق الضمير الحامل للمعرفة، سنلتقي معها في منطقة التسليم الكبرى. فلنخض ونبدع ونشارك وندهش العالم من منظومتنا المحبطة المهمشة ثالثيًّا وجنوبيًّا وشرقيًّا. لنفرض التسليم على العالم بمعرفة ننتجها لا أن نؤسلم ما هو في نفس الأمر مسلم، حيث لا تجدي العوارض، فتأمل.
فانظر كيف بان لك جليًّا أن من أجوبتنا ما لا سؤال له، وهي من شواهد مفارقة الاستقالة بالجواب!
ـ جواب لغونة المعرفة، على سؤال لم يرد في سؤال النهضة إلا بصيغة: كيف نبدع المعرفة؟
وقد علمت أن هذا من ذاك. تتحكم بهما النزعة ذاتها مع افتراق شكلي في أسلوب الطرح وإجراءات النظر. وإن كان الناظر الأول يقف على غور من المعاني ما لم يتحقق لدى الناظر الثاني حيث منعته لعبة الألفاظ وتبديل الاصطلاح من ملامسة المعنى ملامسة سمحة، إلا أن حصار المجال التداولي للمعرفة لا يقل ضراوة عن حصار الأسلمة التي يستند إليها الناظران. على أن محصولنا الهزيل من المعرفة لا يشفع لنا في ممارسة سلطة التقويم التي لا تتجاوز لعبة الألفاظ. فكيف نُقوِّم ما لا يد لنا في إنتاجه، وكيف تنطلق عبقريتنا في إعادة إنتاج ما أخفقنا عن إنتاجه والانخراط في دورته باقتدار نسابقهم فيه. ولو بقينا قروناً في هذا المشروع الدنكشوطي، وقلبنا كل المعاني والألفاظ، وغيَّرنا معجم المعرفة الإنسانية كلها، لما حصل جديد ولا تحقق نفع. إن مشروع التقريب التداولي كما يقدمه المفكر طه عبد الرحمن، على متعة رياضته الفكرية وحسه الفلسفي ودربته المنطقية، لا يجيب عن أسئلة التقدم ولا حتى يفتح كوة لتأمل ما في الاجتماع من إمكانات للرقي[8]. وبينما كان سؤالنا اجتماعيًّا وتاريخيًّا، كان الجواب لغوانيًّا قلَّ أن يفيد ومنطقانيًّا قلَّ أن ينتج، مع التوقف عند اللازمتين، حيث المقاربة تتعدى اللغة فهي لغوانية متمذهبة للتخصص وتتعدى المنطق، فهي إيديولوجيا منطقانية متحيزة للأجرأة الفكرية لا للإبداع[9]. جواباً عن سؤال لم نطرحه. وحينما طرح لماماً عند شذاذ من تراثنا لم يكن لهم دور أثير في منتوج حضارتنا، بقدر ما كان من باب المزايدة وفي أقصى الأحوال طلباً لمزيد من التهذيب. لكنه تهذيب من منظور القوي المعافى من جروح التهميش والضعف، وسليم من نوازع الانغلاب والقهر والخور. وفعلٌ مع قوة لا انفعال مع ضعف. ومع ذلك ما كان دعاة الاستبدال اللفظي في تراثنا نظير الغزالي وابن حزم وابن تيمية، ممن التفت إلى مقولهم حينها. ولا هم اشتغلوا فيما هو بلوى التماس في المعارف والاحتكاك بالفنون، حتى يدركوا حجم ضرر هذا الاستسهال في طلب تغيير الألفاظ. وليس في وسع طالب روح الحداثة أن يعكف على تأمل المصطلح بترف في التمنطق قد يرهق الأمة في طريق الوصول إلى ما تطلبه من أجوبة حقيقية، بالتأكيد لم يكن هذا الجواب مناسباً لسؤالها. وهو أن ننهض ونتقدم بالمعنى لا باللفظ. ونبدع بالأصالة لا بفتح ورش إعادة إنتاج ما وصلنا أحياناً عذباً مستساغاً. مع جودة المحاولة ومتانة التنسيق والبناء، وأهميته في ترييض الأذهان وتدريبها على التفكر والتفلسف كما لا يخفى.
- علماني، وفيه مثالان:
- جواب القطيعة الكبرى، على سؤال لم يرد في سؤال منطق التاريخ إلا بصيغة: كيف تتخارج الأمم في جدل تقدمها التاريخي؟
ليست الطوبا قدر التحليل الأصولي فحسب. فحيث لم تشفع إسلامية الأصولي في التقدم به نحو الأسئلة الحقيقية، ونزعت به إلى الاستقالة بالجواب، فإن وضعانية التفكير العلماني أو تاريخانيته الكاسحة لم تخفف من غلواء هذه الطوبا الجاثمة على العقل العربي. وسوف نقف بعد ذلك في محله، على أن الذات المفكرة تتحمل مسؤوليتها في النظر. وحيث إن ما تتلبس به من عناوين لا يكفي للتقدم بالسؤال والجواب. حيث ليست أفكارنا إلا ما نقدر على استيحائه من أصول النظر المعتمدة. فنحن الناطقون المستنطقون وليس أصول فكرنا، التي قد نخلع عليها رُقِيًّا في النظر أو انحطاطاً في التفكير. وبينما حاول البعض أن يجيب عن انحطاط الأمة بإعلان قطيعة كبرى لا تبقي ولا تذر، كمخرج لا بديل عنه للانعتاق، كانت الرؤية تحلِّق في فضاء لا صلة له بالواقع ولا المتوقع. كما أنها ما فعلت سوى أن امتحت من جنوح تاريخانيتها، لتقطع بما هو في مقام المظنون في مظان الصنعة ذاتها. تتعاطى مع المجتمعات بقطائع لا تلحظ جدل تخارجها، كمجتمعات تتقدم حسب منطق التكامل لا القفز الجماعي كالانتحار الجماعي لا تلتفت وراءها ولا ترى خلفها ولو استمتاعاً. كأنها كائنات مسلوخة منزوعة من ريشها مخروط قتادها كعنوان على منعتها وآثار حضورها التاريخي، تقذف في العوالم عند الطلب. وقد ملكها هذا الناظر اقتداراً معجزاً على التخلص والانسلاخ. وهو قبل أن يكون مطلباً مرفوضاً بالعمل هو مطلب مستحيل بالنظر. مسلسل من القفزات ومن التولدات وليس من التوالدات. نشوء بلا ارتقاء وارتقاء بلا نشوء، مستبعدة كل شروط التقدم والتأخر الممكنة. حتى إذا تفاقمت مظاهر الانحطاط، رأيتهم يعانقون تخريفاً جديداً غامضاً، كأن يتحدثوا عن ضرورة وجود معجزة للتقدم والنهضة، أو أن وجودنا الجغرافي كان وبالاً علينا وخطيئة ابتلينا بها. فيكف العقل عن استقراء مخاضات الصراع ومشكلات النهضة. ورأيت الناظر ينسحب رويداً رويداً لم يعد يملك ما يقال إلا بالإصرار المكابر على ما قال. وقد تجد بين تاريخانيتين عربيتين أجلى شاهد على ذلك؛ بين تاريخانية عبد الله العروي الخالصة وتاريخانية طيب تيزني المفتوحة. فذاك غلق الأبواب وجفّ عنده المداد، والآخر بدا منه تطور أكثر إيجابية، حيث لا يزال ناظراً فيما جدَّ من مشكلات وما لحق من عوامل تخليفية، معلناً إمكانية النهوض من داخل هذا الحطام المفتوح.
لقد كان الجواب المذكور، جواباً عن سؤال لم يطرح، ولم يكتمل كجواب حتى داخل المنظور التاريخاني، الذي لا قيمة له إن هو أغضى عن فواعل البنى، وجدل الواقع الواعي منه واللاواعي. فأن تتحقق النهضة بقفزة بهلوانية إلى حيث ما هو عليه الغرب، فيها من عوار الطوباوية الرثة ما لا يخفف عنه حسن النظر وسعة الخبرة التي لا ننفيها عن الناظر. فهي طوباوية تستبعد واقعاً متمنعاً بشروط بنيوية لا تسمح بتحقيق القطيعة الكبرى. حيث أنى للمجتمعات العربية والإسلامية أو غيرها أيًّا كان، أن ترمي بلبوسها كلا، دثارها وشعارها، وتتعرى دون أن تتدثر ببديل يوري سوآت هذا الاختيار المستحيل في منطق الاجتماع. ثم هي طوباوية حيث استبعدت تمنع الحداثة مشخصة في مراكزها، عن الشريك المربك لمعادلة وصاية القوي على الضعيف، وسلطة الشمال على الجنوب، ومتعة الغني بنهب الفقير وحرمانه في مجتمع الرفاهية إلا من مستودعات خردته. وحيث إن مدار الصراع اليوم أن تظل مستهلكاً لمصنوعات لا صانعاً منافساً حديثاً تزاحم الحداثة الغربية في مراكزها التي ضاقت حتى أنها لم تعد تتسع للحليف. فالتخلف غدا مطلباً وظيفيًّا لاستقرار نظام عالمي جائر والحفاظ على منسوب رفاهية الشمال القائمة بنيويًّا على اختلال التوازن والنظام التبادلي الكوني. فحتى لو انسلخنا لن نتقدم إلا توسلاً بمناورة مستدامة، لا يتيسر بعدها لطالب حداثة إلا أن يكون حديثاً من الدرجة التي لا تهدد التوازن. أي حداثة يجب أن يصنعوا نموذجها الخاص بنا وليس حداثة كما نريد صنعها لأنفسنا. أي ليست الحداثة التي يريدونها لنا هي حداثتهم ولا التي نريدها هي حداثة غيرهم. فلا ما يريدونه مقصود عندنا ولا ما نريده مقصود عندهم. فجواب القطيعة الكبرى، جواب عن سؤال لم نطرحه، حيث السؤال المطروح كيف نجعل هذه الأمة تحقق تخارجاً موضوعيًّا من دون وثب، بتراكمات وصراعات ومناورات، ليس لها يد في تحديد شكل نتيجتها. بل التخارج هو جماع جدل معقد ومتشعب ينتج فرصاً للانعتاق، بطريقة تفاجئ الناهضين والمصلحين وليس خطاطات جاهزة أو «ما ينبغيات» خطابية أو حلولاً لا مأوى يخفي عوارها إلا متخيل يرهقه الاعتراف بتعقد الظاهرة الاجتماعية، وبقوة الحضور التأثيري للاوعي الجمعي والتاريخي، كما تستطيع أن تستوعبه على الأقل بعد تحقق التخارج المنطقي للبنى، واصفين إياه كما وصف أهل الحداثة نهضتهم. لكن ترى، هل البنى تتخارج بصورة مكرورة أم أن لا معنى لتاريخ النهضات في الجملة إلا بما ينبغي تحقيقه بالجملة؛ أي تكثيف الفعل والوعي والمراكمة والمناورة والقطيعة مع ضروب ومظاهر الوعي الشقي. فقد بان لك أن سؤال القطيعة الكبرى[10] كنموذج قد أجاب، لكنه أجاب عن سؤال لم يطرح إلا بصيغة: كيف نتقدم وننهض على مكتسباتنا لا على أنقاضنا؟
- جواب البنى الخالصة، عن سؤال لم يرد في منطق الاجتماع إلا بصيغة: كيف تنهض الأمم والمجتمعات كلٌّ بجماع حضورها؟
وثمة وجه آخر للجواب، فطن لعوار القطيعة الكبرى، ولطوباوية ما استحال تحققه بالعمل وتمنَّع تعقله بالنظر. لكنه عاقر طوباويته من جنبة لا تقل اعوراراً عن الأولى. من طوباوية القفز العاري المنزوع الريش المخروط القتاد، إلى طوباوية تجزيء ما لا يتجزأ وتقطيع أوصال كائن حي لا ينهض إلا بكامل قوامه. بحثاً عن جواب عملي في لعبة جزار نظري ارتأى الحل في هذا التقطيع العبثي على وضم متخيل يستسهل مهمة معانقة البنى الخالصة والمجردة عن شوائب الدخيل. حيث خفي على الناظر وهو محمد عابد الجابري، أن هذه البنى لم تُجتزأ إلا في مخياله النظري. وحيث إن البنى لا تختلط تاريخيًّا في جدل الواقع باليسر الذي نقتدر على تفكيكها نظريًّا في جدل الخيال. وحيث خلطة البنى وليس في منطق الاجتماع إلا بنى متكاملة متداخلة يعود تاريخها إلى تاريخ النوع كل النوع هذه المهجوة أيما هجاء عند ناقد العقل العربي، لم تكن إبان تشكلها في مورد انحطاطها اليوم. بل لقد حققت من نهضتها وسموها في زمانها ما كان من عبقرية هذا التداخل البنيوي الجميل، الذي كان بالفعل عنوان حضارة قائمة، بل ثمرة لنهضة كبرى وليس مشكلة من مشكلاتها.بل وكيف أمكن هذا التقطيع الهوسي لأطراف التراث أن يجعل من الفاعل الأقوى في هذا الخليط البنيوي مصدر انحطاطه. وكأن المجتمعات والأمم تتقدم بأبعاضها لا بكليتها. وتنهض برأي واحد لا بجماع آرائها. غافلاً عن أن هذه الأخيرة تنهض ببيانييها وبرهانييها وعرفانييها، بأطيافها وألوانها، وليس باللون الواحد، تأسيساً لثقافة عمى الألوان. وقد اشتغل الناظر بجواب لا يوجد له سؤال، حيث المطلوب كيف ننهض جمعاً لا أبعاضاً، خِفافاً وثقالاً. وكيف نتقدم كلًّا لا شِللاً. ولا حتى الكتلة التاريخية ستفيد حينما لا نؤسس للتقارب في العمل بتقارب في النظر!
- رسمي، وفيه مثالان
- جواب التحديث التحتي المشروخ عن الفوقي، عن سؤال لم يرد في منطق الحداثة إلا بصيغة: كيف نستحدث الوعي والعقل ابتداءً؟
هكذا انطلق قطار التحديث والتنمية. وهكذا أدهش رحّالتنا ورواد سفرياتنا الأوائل ما أدهشهم من عناوين الحياة المادية. اختزل الإصلاح في إنشاء ما أمكن من الهياكل والبنى التحتية. تراكم لدينا الإسمنت المسلح حتى الثمالة. وقد صارت حداثتنا المخذولة؛ حداثة إسمنتية صرفة. حينما يكون اقتصادنا ريعيًّا سوف ننافس المركز في أشيائه برسم الاستحضار لا التحضر. وسيكون نصيبنا من الإنتاج أن ندخل ثقافة القمامة والرفاهية والاستهلاك إلى حد يصبح الاستهلاك هو الغاية، فنتطوح في دورته وننسى أننا كائنات تربض على الهامش وتقوم بالآخر، ما دامت لم تمتد يدها إلى كيمياء الحداثة الحقيقية خارج صخب الإسمنت المسلح؛ حداثة تمس السياسة فتهذبها وتستنقذ ما تبقى فيها من معنى. حداثة التنظيم الاجتماعي والانفراج السياسي والعلم والمعرفة وثقافة الإنتاج والعمل وروحهما اللذين وسما الحداثة قبل أن ينقض عليها الأشرار الذين أفرزتهم صيرورة الحداثة وتغلّب أشرارها بمنطقها على عُدولها. لو شمخ عقلنا كما شمخ الإسمنت المسلح في بنياننا، لبلغنا ما لم تبلغه الأمم. لكن بما أن غريزتنا إلى الانهمام بالبنية التحتية مشروخة عن البنية الفوقية، هي أطول من عقلنا، دخلنا دورة استهلاك من الطراز الرديء. لن يكون لنا من هذه الحداثة حداثة خضراء الدمن سوى الكثير من الثرثرة والمزيد من الإسمنت المسلح والكثير من الخردة والقذارة.
ـ جواب التمسك بدواليب الاستتباع عن سؤال لم يرد في منطق النهضة وتقدم المجتمع إلا بصيغة: كيف نحقق نهضتنا بسيادة واستقلال؟
كل مشاريعنا وكل أحلامنا ارتبطت بالآخر الممركز، واستقوت بنموذجه الغالب. بل راهنت على مساعداته، أو بالأحرى توريطاته التنموية ورشاويه برسم التخليف البنيوي. كأن العالم اليوم برسم الإنماء هو مبرات مفتوحة. وكأن بروتن وودز والبنك الدولي للإنشاء والتعمير وما شابه إنما وُجدت لتُقدِّم صدقات وتنقل الهامش إلى مصاف المركز بكرم حاتمي قرأناه عربيًّا وبحثنا عنه في أروقة الأمم. وكأنها وجدت خارج السياق التاريخي والموضوعي لحركة الاستعمار وأهدافه. هكذا أصبحت تنميتنا الحلال مومس عمياء، واستقلالها استتباعاً، ما دامت تراهن على المساعدات والبقشيش الدولي المرهون بقذارة التبعية، على حساب السيادات والاستقلالات. وهكذا تحوَّل الذئب إلى حمل وديع، وأصبحت لغة التحرر وسيادة الأوطان وكرامة الإنسان حكاية متقادمة وخرافة الرجل المحتضر لا المُتَحَضِّر الذي صاغوا له ثقافة عمائية أخرى. واختزلت النهضة في سياسة الهرولة وتقنية النسيان لكل مقومات نهضة الأمم. لم يعد ثمة سؤال نهضوي جاد، بما أن سؤال السيادة والاستقلال بات أمراً مرفوضاً وفي حاقِّ التجاهل والنسيان.
- جواب التوهيم الشعاراتي المشروخ عن التحتي، عن سؤال لم يرد في منطق الحداثة إلا بصيغة: كيف نعمل وكيف ننظم العمل؟!
ليس ذلك فقط هو الصورة الوحيدة عن آفة السؤال. فبالمقابل ثمة ما هو أكثر إيلاماً مما سبق، حينما يتحول الانهمام بالفوقي على حساب متطلبات التحتي. كما لو كان قدرنا أن نهيم بين الفوقي والتحتي كأشباح معلقة. وثمة في أدبيات نهوضنا ما عاوض التحتي بشكل من الطوباوية الرثة التي قضمت كل إمكاناتنا في أن نقف على أرضية وجود يتحقق لنا بها حد أدنى مما يحفظ إنسانيتنا. ثمة على عكس حداثة الإسمنت المسلح الغالية والمزيفة، حداثة الثرثرة والشعارات المنفوشة. شعارات حلَّقت بنا خارج العياني وحكمت على برامجنا برطانة سياسوية، وأحلام يقظة، ومشاريع تسكن الكلام وتتخذ لها من بيت اللغة مأوى. باسم كرامة لم نحصد في طريقها سوى مزيد من الذل تأجلت التنمية وانهار العمران. وباسم الاستقلال الذي أسكن بين ظهرانينا استعماراً جديداً تقوض البنيان وانهارت همة الحضارة في نفوسنا وعقولنا. وزهدنا كذباً في المعاش واكتفينا ببنى تحتية كولونيالية، كما لو كانت أسباب نزول عمراننا الأول غير قابلة للتأويل، فيما فحشنا في هذه الأطلال ولم نزهد في نهب ثروات الأمة والاستئثار بها في مشاريع الطغيان العاري. وقد فاتنا أن لا قيام للفوقي ولا رسوخ للقيم إلا بما يستقوي به حاملها الاجتماعي في صميم معاشه وطبيعة عمرانه. فالزهد في البنى التحتية والاستغناء بالفوقي، كذبة يتستر خلفها طابور من سراق الأمة والعابثين بضميرها الحضاري.
ﷺ أجوبة أجنبية عن السؤال
وهي على نحوين: أجوبة فوق السؤال وأخرى تحت السؤال:
أ- أجوبة فوق السؤال
وأقصد بها ضرباً من الأجوبة، كثير الاتصاف بالعمومية والإطلاقية، شديد النفور من التخصيص والتقييد. أجوبة تهيم بالجواب إلى حدوده الفوقية القصوى، كأنها تجيب عن سؤال آخر لم يطرح، ولكنها تبدو في وارد المجيب عن سؤال مطروح. ومثاله ثلاثة تأكيداً على الشراكة في التوصيف الأزموي، وهو غُنم على غُرم تقتضيه الشراكة في البحث عن مخارج الأزمة كما تم ذكره أعلاه: أصولي علماني رسمي:
- أصولي
جواب «الإسلام هو الحل» عن سؤال لم يرد في سؤال النهضة إلا بصيغة: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
نعم، في سَورة الاعتقاد يغدو الإسلام هو الحل. ولكن بأي شرط من الشروط ووفق أي صورة من الصور؟! كذلك كان العقل هو الحل، لكن هل كان الناس كلهم عقلاء؟! ليس المطلوب أن نقول: إن الإسلام في نفس الأمر هو الحل، كما ليس جديداً أن نقول: إن العقل في نفسه هو الحل. بل الحل متوقف على موقف المسلمين كما الحل متوقف على العقلاء. وقد بان أن الإسلام «لبّيس»، حتى غدا يوماً كالفرو يُلبس مقلوباً، حمّال وجوه، نستنطقه ويفيض علينا بمقاسنا لا بما يجب أن يكون عليه فعل الاستنطاق برسم التكييفانية الخلّاقة التي تُعيد بناء العلاقة الحيوية مع الإسلام برسم التجدد وموجبات العصر وتحدياته. نريد أن يكون الإسلام هو الحل، غير أننا لم نحلّ في نفوسنا ولا في عقولنا الصورة الإشكالية لتديننا بالإسلام. والحق، أن الإسلام هو الحل بما هو تعاليم في حاقّ التشريع لا في حاقّ التكليف والامتثال لا بشرط. فتلك قضية إذن بلا موضوع، لأن المطلوب أن يحل المسلمون مشكلاتهم ويجاهدوا معرفيًّا ونفسيًّا للقبض على منطق التقدم، ويجعلوا الإسلام ينهض بنهضتهم، لا أن يكون لسان حالهم تجاه إسلامهم: اذهب أنت وربك، لتحل مشكلاتنا فنحن ها هنا قاعدون!؟
فلنقرأ في سفر تقدم الإنسانية ما تنهض به الأمم. فليس في الإسلام من نهضة الأمم الحضارية إلا ما كان إرشاديًّا تأنس به النفوس الكسلى في عدم إشغال الذمة الجماعية به، فإذا بنا أمة لا تجد تكليفها إلا فيما توجه للخلاص الفردي والأخروي، بينما لا من باعث أو محرض لاكتساب الحلول الآنية بالجهد والكدح، ما دام ذلك في حاق التعاليم، إرشادي لا تكليفي، فافهم!
- علماني
جواب «الأوربة» عن سؤال لم يرد في النهضة إلا بصيغة: كيف نتقدم كعرب وكمسلمين لا كغيرنا؟
ندرك تماماً أن لا خوف على الهوية مهما بدا لنا من مسخ جارف لها برسم الاستلاب. ذلك أن منطق العمران قاض بأن غريزة المغلوب هائمة في تقليد الغالب. فالعمران في ذلك دول. فأقم لنفسك قوة وانهض نهضتك الكبرى فستجد المعنى يعود لهويتك الدفينة التي هي في الأمم أسباب نزول لا تتغير إلا ظاهراً. وقد رأينا من هول ذلك الخطاب الساذج الذي عبث بالعقول في لحظة تتم الأطاريح المناهضة للاستلاب، حيث شاؤوا أن يعيدوا رسم بورتريه لأمة أضناها الانحطاط، بأن تطلب حداثتها بنزع الطربوش ولبس البرنيطة، وتبديل اللغة باللغة، واللون باللون، مسوخ حداثية تصلح للفرجة، وتستبدل كدح الحداثة بالتمسرح. حيث كان ولا يزال السؤال المطروح: كيف نتقدم كعرب ومسلمين لا كمسوخ أورباوية شحنت حواسنا ومخيلتنا البئيسة بصورة عنها غداة نشوة الاستهلاك لا في محراب الكدح وسورة الإتقان.
- رسمي
جواب «إمكان التقدم بشروطنا»عن سؤال لم يرد في سؤال النهضة إلا بصيغة: ما هي الشروط الضرورية للنهضة؟
ظن قوم الظنون، فتراءى لهم أن الشروط المفترض تحصيلها للنهضة والرقي، تقع جزافاً في فوضى أهوائنا المنجذبة إلى أقل الوسع وتجنب الكدح. حسبوها شروطاً نضعها للهو ولعب، تحدياً وتمنُّعاً بلا موضوع، وليس أنها شروط موضوعية خارجة عن حساباتنا وميولنا. هي شروطنا نعم، لكن النسبة هنا مجاز، بما أن لا طريق لنهضتنا إلا بشروط انبعاث الأمم. وحيث بات اليوم من مَلَك ناصية التقدم والتحكم بمصائر الأمم والدول يفرض شروطاً كاذبة للتقدم على من سكن الهامش عنوة، ليكمل به دورة حداثة تفرض وجود مركز وهامش في تناوب وظيفي يؤثث لمشهد الحداثة الكاملة اليوم، في نوع من العلاقة غير المتكافئة تقضي ببقاء نوعنا المهدور في لا وعي الحداثة، محميات للفرجة أو كائنات للتجريب أو فضاءات للنفايات أو سوقاً لتصريف البضاعة أو صورة حية للاستئناس عن ماضي الآخر.. أجل، فحيث بات مطلوباً منا أن نستجيب لشروط هذا السقف التضليلي من النهضة التي من شأنها الانتقال بنا إلى عالمهم ومركزهم، كان لا بد أن نتحدث عن شروط أخرى. وهي حقًّا لا هي شروطهم المفروضة ولا هي شروطنا الذاتية، بل هي الشروط ذاتها التي يشتغلون في سياقها وتشكل مقاصد شرعتهم. فلا نبغي شروطاً أخرى غير الشروط نفسها التي جعلتهم ينهضون من دون إعاقة تُذكر، سوى إعاقة الواقع الموضوعي ومضادات سيرورة التقدم. حتى إذا نهضوا فَبْركوا لنا شروطاً مزيفة، ووضعوا لنا سقفاً يحول بيننا وبين أن ننهض، إلا أن ننهض كائنات تابعة، تشكل هالة الهامش الذي أحاط به المركز نفسه. فهي شروط الواقع الموضوعي والتاريخي وليست شروطنا.
ب- أجوبة تحت السؤال
ونقصد بها أجوبة لا تسموا إلى عمق السؤال، ولا تستقرئ منه مشروعها، فهي تتردى في سذاجة الكيان المنحط وتتلون بانحطاطه العقلي، ومثاله الثلاثي:
- أصولي
جواب أن تحكم الشريعة لا بشرط عن سؤال لم يرد في سؤال النهضة إلا بصيغة: كيف نطور فهمنا واجتهادنا للشريعة ابتداء؟
ليس السؤال ها هنا نهائيًّا. وأحياناً هو حيلة تحجب المطلوب. ثمة مهمة كبرى قبل الحديث عن حكم الشريعة. كيف تنخل ثقافة فقهية كاملة راكمت صورة نمطية عن الشريعة حتى اختزلت في بقايا صور لا تمس جوهر مشكلة المجتمعات الحديثة. كيف تنمو أفهامنا وتكبر باستنطاقها الشريعة، استنطاقاً يجعلها تقف على مشكلة الإنسان واجتماعه وقفة قاصدة تتجاوز «زوارب» الرهق الفقهي المصمم على المشكلات الساذجة لمجتمعات عصر العبودية وما قبل ثورة الإنسان الحديث. وها قد أسرت الشريعة في معجم تقليداني يستجيب لنمط اجتماع مضى لا لنمط اجتماع قائم. لا زالت سلطة الأوزان والمقادير حاكمة غالبة، على عدم دقتها في زمن الدقة والأوزان الجيولوجية وقياس المسافات الفلكية؛ على منوال غلوة سهم ودرهم بغلي وأوساق ودنانير بيضاء وصفراء هي اليوم حفريات طاعنة في عمر الحضارات. أو تمسكاً بموضوعات خلا منها زماننا كما لو تعلق الأمر بعقود الإكراه التي بها قام عمراننا المعاصر، فيما لا زلنا ننظر إليها عقوداً باطلة من شأن الامتثال بهذا الرأي أن تسيخ به اقتصادات الأرض ويندك به العمران البشري المعاصر. لا زلنا ولا زلنا كما لا يخفى، وقد رأينا كيف صغرت الشريعة حتى صارت بحجم رهان القبيلة وثقافة البداوة. فإذا بها مساطير تلاحق حالقي اللحى، وركل النساء في قندهار وتشريد الممتنع عن عبادة هذا الشكل من الأفهام الاختزالية للشريعة. ورأيناها كيف باتت مسوِّغاً لقتل النفس المحترمة بلقلقة لسان وتكريس ثقافة الموت الرخيص والإرهاب إلى حد اللامعنى. شريعة تؤمِّن المرور إلى جنة أنانية يتطلع إليها جاهل عنيد ومهمش مهلوس حشاش ومنبوذ ضاقت به الدنيا درعاً، بقطع الأعناق وذبح الأطفال وإقامة أعراس الدم الحرام. فالشريعة التي يفترض فيها كما هو أصل الاشتقاق أن تكون منبعاً لأصل الحياة، بها تحيا الأمم وترقى، هي اليوم تتطلب جهداً أكبر وموازين كبرى لإعادة بناء العلاقة السوية معها على أسس مقاصدية أكبر.
- علماني
جواب حداثة تامة لا بشرط على أنقاض تراث كامل لا بسبر منطقي أو عقلي ولا بمائز، عن سؤال لم يرد في سؤال النهضة إلا بصيغة: كيف نخلق تجاوباً وجدلاً بين المكتسب في يد الماضي الذي امتلكنا ناصيته والمكتسب المتفلت من بين أيدينا في رهانات الحاضر والمستقبل؟
كلنا يدرك إلى أي مدى تاه بنا جواب التنكر لكل ما مضى حتى لو كان منه ما لا يزال فيه نبض حي، بل ما زال في الأمم الناهضة منه نبض أكثر حياة. ثمة ما هو منفلت من بين أيدينا هو ما تستهدفه تطلعاتنا، وليس المطلوب أن نرسم خطاطات في خيالنا ونسقطها على واقعنا المهدور، ونعلن أننا كائنات قُدِّر لها ألَّا تنهض إلا بالتنكر لكل قيمها الاجتماعية دونما تأمل. كما لو أن ما بين أيديها كله لا يصلح لنهضة ولا حتى مساعداً للانبعاث. ولعل نصيب ذلك الضرب من العلمانية المتطرفة من ذاك كثير مسرف؛ التي لا يهمها إن كان لرأيها مكنة التحقق في مجال آبٍ بطبعه لكل أشكال التهريج الإيديولوجي الذي يتنكر لحتمية التاريخ وشروط السوسيولوجيا. فالدين كان وهو كائن وسيكون حتماً. لا مجال لاستئصاله ولا حتى تحييده، حيث لا طريق ولا حيلة إلا بتنوير حامله الاجتماعي وتحريضه على تجديد العلاقة معه على شروط متجددة وآفاق أخرى.
- رسمي
جواب «التنمية القطاعية» عن سؤال لم يرد في النهضة إلا بصيغة: كيف ننهض كلًّا لا جزئيًّا، وروحاً لا مجرد بنى تحتية؟
تراجع خطاب النهضة واستبدت به غريزة دولة الخدمات، على تهدلها وفساد برامجها وغياب الإرادة السياسية، حتى بات مطلب الإصلاح يفتقر إلى الحد الأدنى والمعقول من تنسيق جهود النهوض بكافة القطاعات على أساس ثورة تنموية شاملة ونهضة أمة لا يوجد فيها ركن منسي أو مجال غير نافع. فالنهضة هي أوسع من مجرد تنمية قطاعية وأكبر من مجرد ترقيعات بنى تحيتة. إن كل نهضة إذا لم توسع من آفاقها وتفتح لها ورشاً شاملةً تحتها وفوقها تمس كل القطاعات بالجملة وتتعزز بروح نهضة أمة وثورة دول على تخلفها البنيوي، فإنها لن تكون أكثر من مجرد ورش ترقيعية تستهلك فيها الأمة زمنها المهدور، وتتآكل فيه بنياتها في سياق الهدر ودورات التخلف التي هي دورات بنيوية وليست حكاية تلميع الواجهة.
ﷺ شواهد على مفارقة الوعي بالانحطاط؟
يكفي شاهداً على ذلك ما تدركه بالوجدان. انظر تجد أمامك وخلفك وحواليك من كل مظاهر تلك المفارقة. أمة تعيش على تداعيات تراجيديا الفشل، وألم الجرح الغائر، لكنها زاهية فيما لا يقر له جنان القلقين وهائمة فيما لا يهيم به مأخوذ من ناصيته منشغل بشروخ الحاضر وضبابية المستقبل. أمة أو مجتمعات سميها ما شئت، ترقص وتغني على جراحها، تنتفض حينما تريد ولأجل ما لا يستحق انتفاضاً. وتسترخي لا بل تغفو حيثما كان لا بد أن تصحو، لم يهزها تخلف مزمن ولا احتلال متربص، ولا أشعرتها انتكاساتها المتعاقبة بشيء من تأنيب ضمير، هو في الأصل ضمير مأزوم أو على الأقل مستقيل أو في إجازة، حيث لم يعد قادراً على الصحو إذ طال ليله وارتخت سدوله وأُشرب ذُلًّا وانحطاطاً، لا أجد لهما مثيلاً إلا في مجتمعات مهدورة متخيلة، فحالها حال قطيع من العبيد غير معنية بسؤال التحرر ولا لرأيها اعتبار في مسارات نهوض الأمة وصلاح أحوالها، لا يحتاج الأمر إلى كثير تكلف في النظر ولا حتى أن ترمي ببصرك أقصى القوم. فمظاهر المفارقة بحر فيه تغرق بلا أدنى حراك أو محاولة للنجاة، في يأس مرير واستسلام ذليل استقبحته سيرة عقلاء البرية طرًّا واستهجنته حكاية الأحرار دوماً. فخذ لذلك مثالاً:
- سياسيًّا
تهيم النظم السياسية في الاستبداد، وقد رأت بأم عينها ما للاستبداد من أضرار في العاجل قبل الآجل. أولها خزي الانحطاط وآثامه ونهايتها لعنة الاستعمار وضراوته. تهيم الأحزاب السياسية في التواهم والتسبيب في سوق الشعارات، فتتحيز إلى غير جانب الجمهور أو تتحالف على غير مقاس ما استعارته من البرامج السياسية أو تتوالد خداجاً قبل الميقات من دون سابق إنذار، في مشهد سياسي حزين وبئيس. تهيم السياسات في الانشغال بترقيع الخلل الاجتماعي، وتأجيل الأزمات، والمراهنة على الخارج فيما تخشى مراهنة المجتمع المدني على الخارج. رهان متبادل دوري، يكون الاستنجاد فيه دُولة بين السُّلَط والمجتمع المدني. وفي كل الأحوال فإن منطق اللعبة يجعل الخارج هو الماسك بالغُنم، والمستقوي بالصراع الجواني وشروخه، وهو ما يعزز القابلية للاستعمار كما وصفها بحق ذات مرة المرحوم مالك بن نبي.
- ثقافيًّا وإعلاميًّا
ننتفض هنا على ما نسكت عنه هناك. ننتفض على استبداد محلي ونتواطأ معه هناك. نتمسرح في نضالاتنا حتى الثمالة. نحتج هنا ونغضي هناك. نتحرر هنا ونستعبد هناك. نشمخ هنا ونركع هناك. تتنوع المعايير، وتستبد الأهواء، وتعم الفوضى. وفي كل موقف ثمة شيء ثابت ليس له تبديل؛ الوقاحة.
الانتهازية في النظر والعمل. المثقف والمفكر تحت الطلب، يتفرج على القطيع ويمعن في تحقيره. الثقافة والإعلام صنعة للتخلف والانحطاط في المجتمعات المنحطة. وتلك مفارقة ما بعدها مفارقة.
- اجتماعيًّا
انحطاط في الوعي ولهو جماعي بمظاهر التعويض الساذج عن حرمان اجتماعي، نتيجته تآكل اجتماعي للطاقات في غمرة الحاجة الماسة لها. وتراجع في جودة ومردودية التعليم، وبؤس في الثقافة والتمدرس والتواصل والاهتمام.
- اقتصاديًّا
نهب المال العام المطلوب صرفه للتنمية. إطلاق شيطان الخوصصة دون سياسة اجتماعية حمائية. توزيع غير عادل للثروة الوطنية. ثقافة استهلاكية فوق العادة في دورة اقتصادية هزيلة في وسط الفضاء العمومي. إنفاق لا معقول على المشاريع الاحتفالية وفقر وإفقار في الإنفاق على المشاريع الحيوية. حالة انتظار قصوى لتنفيذ المشاريع التنموية المفترض إنجازها قبل «قرون» وعدم التزام بما تقرر إنجازه قبل شهور.
لا أريد أن أفصِّل أكثر، لأن في ذلك ما تشيب منه الولدان. لكنه ماثل أمامك جلي لا يقتضي نظر. ومع ذلك إننا في أوكارنا وفضاءاتنا المفتوح منها والمغلق نتصرف كمتحضرين كمتقدمين كمنتصرين أو كما قال صاحب فارس بلا جواد: لا وجود لمشكلة!
مفارقة الأسئلة المغشوشة والأجوبة المغشوشة ومفارقة الوعي بالانحطاط، شاهد على وجود خلل ما في وعينا بجدلهما الموضوعي. وبغياب فلسفة حقيقية للسؤال، حيث لا جواب إلا من سؤال يستوفي منطق الأشياء.
إننا أمام سؤال الإصلاح والتجديد نتطلع إلى تعميق السؤال وتفريعه بحسب ما يحبل به الوضع من استشكالات مشروعة. وإذا كان السؤال من ناحية التصور يطلب جواباً عن تخلُّف مُزْمِن وانحطاط شامل، فإن مادة السؤال ستساعد على استيفاء الجواب لشروطه، من خلال عملية التفكيك الضرورية لنزعه من عموماته وإطلاقاته، ونزولاً به إلى حيث ينبغي نزوله بالتفصيل والتقييد وبيان الجهة والشرط.
نحدد جهة السؤال بحسب الاستقراء العقلي إلى ثلاثة أسئلة، كل منها ينحل بدوره إلى أسئلة ثلاثة أخر. وفي إطارها ينشأ جوابنا ويتقدم:
أحدها: سؤال يتجه نحو الذات.
ثانيها سؤال يتجه نحو الموضوع.
ثالثها: سؤال يتجه نحو الرابط، أي العلاقة.
أي باختصار: سؤال المجدَّد بفتح الدال الأولى مع التشديد وسؤال المجدِّد مع كسر الدال الأولى مع التشديد وسؤال التجديد.
1- سؤال الذات/ المجدد
يتفرع سؤال الذات المجددة بدوره إلى ثلاث أسئلة فرعية هي بمثابة شرائط لقيام الذات المجددة المعنية بسؤال النهضة والتقدم والإصلاح:
أ- سؤال الوعي: هل حققت الذات وعيها الكامل بالأزمة دفعاً لمغالطة السؤال المغشوش؟
ب- سؤال السبر والاجتهاد: هل حققت الذات المجددة استيعابها الكامل لخطورة الأزمة دفعاً للغفلة والمفارقة؟
ج- سؤال الإرادة: هل حققت الذات المجددة استعدادها الكامل لتجاوز الأزمة دفعاً للتمييع والهروب؟
2- سؤال الموضوع/ المجدد
ويتفرع بدوره إلى ثلاثة أسئلة بمثابة شرائط للموضوع المتجدد:
أ- سؤال التحدي والاستجابة: هل إن المجدد متمنع عن الإصلاح أم مستجيب أم ممنوع أو معاق؟
ب- سؤال جدل الكوني والخاص: هل إن المجدد يمثل استثناءً في التاريخ وشذوذاً في العالم.
ج- سؤال التكييفانية الخلّاقة: هل إن للمجدد مطالب محددة أم أنه قابل للتكيف على أي حال ومع كل الخيارات الممكنة؟
3- سؤال الرابط أو العلاقة/ التجديد
وينحل بدوره إلى ثلاثة أسئلة فرعية هي بمثابة شرائط للرابط المنهجي والسند الموضوعي للتشخيص والعلاج، أي ما يتصل بالآليات والمنهج:
أ- سؤال العلاقة: هل التجديد أمر جعلي تنزيلي عمودي أم أنه جدل أفقي؟
ب- سؤال المتوقع: هل التجديد والتجدد فعل تاريخي إرادي واعي أم قدر بنيوي لا واعي، أم جدل بين البنية والتاريخ، أي تكامل بين الحتمية والإرادة، وتداخل بين الوعي واللاوعي؟
ج- سؤال المنهج: هل المنهج الراصد للعلاقة بين الذاتي والموضوعي، خالص واحدي أم مركب بيتخصصي؟.
أسئلة وتساؤلات لا نستأثر بالجواب عنها، بل نجعلها مفتوحة ومطروحة بحثاً عن أجوبة ما بكيف ما. لكن أجوبة حقيقية بحجم السؤال وفي صميم السؤال، بجهد نظري جماعي، نقبس له ونقتبس منه. وشراكة في جهاد المعرفة. وحدها الطريق للخروج من عنق الزجاجة.. ففي البدء كان السؤال!
[1] ليس المقصود من سلطاني ها هنا توصيف لنمط من السلطة والحكم، بل المقصود توصيف الوظيفة الرسمية للسلطة.
[2] أحب أن أذكّر بأن ما من شيء هو أخطر على المعرفة ومنطق صيرورتها أكثر من الغريزة السياسية ورهاناتها المفارقة وحساباتها المتقلبة. فالنقد ضرورة معرفية تكسب مشروعيتها وحساباتها من جدل الفكر ومقتضيات التطور الطبيعي للمعرفة. ليس في النقد محبة أو كراهية؛ وإنما يوجد فقط نظر وضمير معرفي أشبه ما يكون بالضمير المهني الوظيفي والحرفي. وقد يحصل أن المنقود هو من يحدد درجة وكيفية ونمط النقد لدى الناقد. وقد تكون مشكلة العقل العربي أنه عقل خصيم لكل أشكال النقد مسبقاً. بل مشكلته اليوم أنه لا يزال يراوح مكانه ويعانق جاهليته حينما يلجأ إلى كل التبريرات الواهية لمنع حركة النقد، وتوظيف كل العوامل واهتبال كل الفرص لمحاصرة صوت المعرفة: ينقضي شهر عسل السياسة وينتهي عرس التواهم وتهدأ سورة البحر فتخمد موجاته، فلا يبقى مجال لركوبها، وشيء واحد يبقى ويخلد في التاريخ رغم أنف الدجل السياسي: إنه صوت المعرفة، حين تلعن الأجيال كل من زيف التاريخ وعكر صفو الحقيقة!
[3] أقصد الكتاب القيم للمفكر غريغوار مرشو المعنون بـ: مقدمات الاستتباع : الشرق موجود بغيره لا بذاته، وهو مثال فقط عما نشر ضمن سلسلة قضايا الفكر الإسلامي، حيث جاء في التقديم المسهب الذي كتبه المفكر الإسلامي المعروف: طه جابر العلواني: وهذا الكتاب يندرج عندي تحت سلسلة «تحرير المعرفة» ولما لم تكن لدينا سلسلة بهذا العنوان فأقرب سلاسلنا إليه سلسلة «إسلامية المعرفة». (الكتاب نفسه، ص 11، ط 1/ 1996 المعهد العالمي للفكر الإسلامي).
أقول تلك إشارة ذكية من صاحب التقديم، لأن التحرير أقرب من الأسلمة في المقام، وهي عملية جارية في النقد المعرفي الغربي نفسه. فلو كان الأمر ينحصر في التحرير فهو أجود من الأسلمة. وليته قرر هذا العنوان وعاوض به أسلمة المعرفة لكان أقرب إلى المراد.
[4] على سبيل المثال كان لكمال عبداللطيف موقف نقدي من أسلمة المعرفة. أما أركون فمزاجه آبٍ لهذه الفكرة ومنهجيته نقيضة لها. وأما طه عبدالرحمن، فعلى الرغم من قربه من مناخها الإيديولوجي، فقد أصَّل ونسَّق من المفاهيم والآليات ما ينأى به عن منهجيتها. وهكذا حال نصر حامد أبو زيد في بعاده عنها أصولاً وغايات، فهو إلى مذهب الإسلاميات التطبيقية الأركونية أقرب. فإذا كان الأمر يتعلق بمجرد توفير مكنز للأفكار، فكان يكفي إيجاده في منابعه الغربية إذا أردنا تجنب مفارقة تجاوز معضلة الفكر العربي والإسلامي المعاصر لجنبة سقوطه في التقليد وتمنعه عن الإبداع!
[5] محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستيمولوجيا المعرفة الكونية: إسلامية المعرفة والمنهج، ص 36 - 37، مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ط. دار الهادي - بيروت، 2004م.
[6] يبدو لي أن الكاتب ومن خلال هذا الاستعراض الفوضوي لأسماء الفاعلين في حقل البحث والمعرفة، لم يكن فقط جزافيًّا أو بعيداً عن المنهجية في سرد الأسماء بالترتيب التاريخي الذي يحدد مكانتهم العلمية، بل كان ذلك ناتجاً عن استقراء ناقص وفوضوي لقائمة الفاعلين الثقافيين في مجالنا العربي، فليس الأمر يتعلق فقط بترتيب خاطئ يضر بالمكنز المزعوم، بل ثمة تجاهل لقسم مهم، لم يجد له مكاناً سوى على الهامش، أو بعبارة أخرى : «وهناك آخرون».
[7] إن المعرفة مسلمة في ذاتها، وهي في مقام المسترق، الذي يطلب التحرر من أسر العبودية. وتحريرها كتحرير رقبة مؤمنة. فليس كل مسترق هو كافر بالضرورة!
[8] كتب علينا أن نمعن في الشرح ونستطرد في الإكمال حتى ندرأ شبهة الأصحاب الذين استكثروا علينا نقدنا القاسي لصاحب مشروع التقريب التداولي، ولتطمئن بها نفوس طيبة. ومبلغ علمي أن المستكثر في موقفه هذا نبيل وفي حرصه ذاك قاصد، وأسلوبه يرفع العنت ويذيب الحرج ويعانق الإقناع، وطلبته حينئذ، حتماً يتسع لها الفؤاد ويستسيغها الجنان. كيف لا وقد ثبتت من منقودنا مودة ندية لما فاح عطر موقفه الأخلاقي الرضي من قضية عظمى وعصبة شريفة وقد قرأت له في ذلك أثراً، في لحظة تلكأ فيها النصير وتوقحت فيها شماتة الأدعياء. لكن ليست الشبهة هنا لها علاقة بفرية الألعبان راكب الموج وثرثرة الدخلاء، من هم لا في العير ولا في النفير، أشباح معلقة في سماء الادِّعاء، دخلاء على المعرفة أيتام في متاهاتها أغراب أغراب، وليس في لوذانيتهم سوى ما يدعو للتصعيد ويزيد الطينة بللاً: بأن ثمة فارقاً كبيراً بين الاعتراف باقتدار الباحث وتمكنه مما لا يخفى على الغرير من دون احتياج إلى أهل الخبرة في التشخيص والتقييم، سبَّاقين لذكره وبسطه ونشره، مدركين لما خفي من بطونه ونأى من أبعاده، وبين الوقوف على نكات مشروع فكري لا طريق لكي يكمل إلا بالنقد ولا طريق لكي نكمل إلا بنقده. وقد قلنا قبل قليل: إن المنقود وأحياناً ملابسات ومناخات النقد والمنقود هي من يفرض المنحنى التوتري للنقد، حيث المشكلة تستفحل متى دخل طرف خارج قلق المعرفة في صب الزيت على النار، أو خدمة المآرب والأهواء بركوب هذا الموج. لا خدمة للباحث نفسه أو مشروعه الذي لم يستوعب منه صاحب الافتراء سوى سطحاً ظاهراً أو عناوين طافحة، فلم يستوعب بناءه المرصوص، بل فعل ما فعل خدمة لعجره وبجره. و0منهم حتى اليوم من طلعت عليه الشمس فتأبط شرًّا بحثاً عن الاستثمار في البين، استغلالاً للظرف، زاعماً مدعياً، وإن جهل كوعه من بوعه في المقام. وقد راغ البعض وتأول ذلك رجماً بالغيب وإسرافاً في التقوُّل المغرض بتقدير خلفية، يشهد الله أنني أكثر الخلق عنها بعاداً، أو تأولها بتقدير حدية مزاج يشهد خلق الله الطيب العريض أنني ألين الأوادم عريكة وأطيب الناس معشراً. وفي لجة خلط الأوراق وحك دبرة الاغتياب، قلنا: لا ما فهموا هو مقصودنا ولا ما قصدوا هو مفهومنا ؛ فالمشكلة في الدخلاء لا في أهل الإنصاف. وإذا تبدد نقع الشطط، وقرت شقشقة الأفراس، فسوف تكون معاقرتنا النقدية لصاحب التقريب التداولي حتماً بما هي أرقى من أن تدركها حكاية الألعبان، أرفع لشبهة الصديق النبيل، وأزجر لفرية المبيت الدخيل، ولله في خلقه شؤون.
[9] قد يفهم البعض من نعتنا، سابقاً، لمحاولة الباحث بالجهد البيداغوجي كما فعل بعضهم لغاية أخرى تهوينية، أننا نستنقص من المحاولة أو من أصل الصناعة البيداغوجية، وهذا ما لم يكن لنا مقصوداً، حيث رمنا بذلك تعيين النموذج لا التهوين من الطريقة. وظني أن المتلقي العربي لا يزال في مزيد حاجة إلى من يقرب له المنقول الحديث بدربة بيداغوجية تملأ فراغاً كبيراً من شأن استفحاله أن يخلق الفوضى. ولو أن الباحث شغل نفسه بإعادة بناء القول الفلسفي بهذه الروح البيداغوجية لقدم خدمة جلى للفكر العربي والإسلامي، حيث مسألة الإبداع ليست قضية إرادة بل هي مشكلة نسق. وهي تتطلب جهداً بيداغوجيًّا يزيل الشبهة ويدرأ الفوضى. أما ما عناه باحث آخر، فهو مقصود آخر انتقدناه في محله.
[10] أسمي المحاولة العروية التاريخانية بمشروع القطيعة الكبرى، وهو شكل من أشكال التمامية في الموقف من التراث؛ انظر كتابنا: خرائط إيديولوجية ممزقة، 2006، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.