تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التجربة الإصلاحية في فكر الشيخ محمَّد حسين كاشف الغطاء

د. رسول محمد رسول

[1]

كانت تجربة أغلب الفُقهاء والمثقَّفين الدِّينيين وبمختلف طبقاتهم في العراق مطلع القرن العشرين، قد تميَّزت بأنها ذات صلة بحركة الواقع المجتمعية بكل ما كان عليه ذلك الواقع من حراك مجتمعي شائك ومعقَّد ومتشابك، وبكل ما فيه من معطيات فكرية وثقافية، وبكل ما واجهه من تحديات وصراعات وتصادمات في غير صعيد. وكانت تجربتهم الفكرية والدِّينية الميدانية في التصدِّي للاستعمار البريطاني للعراق عام 1914، تُعدُّ أحد المؤشرات الواضحة على عمق صلتهم بالمجتمع، ومؤشِّراً على شفافية تمثيلهم لإرادة شرائح واسعة منه؛ ما يعني أن أولئك الفُقهاء ما كانوا مجرَّد طبقة نخباوية عالِمة وعارفة بالشأن الدِّيني على نحو مهنيٍّ واحترافيٍّ تعمل من أجل المعرفة بعلوم الشريعة والعقائد لذاتها فحسب، إنما من أجل تداول قضايا الشأن الدِّيني ومشكلاته الفكرية والعقائدية والسُّلوكية قدر علاقتها بالأمة، وقدر تداولها في المجتمع والتعامل في شؤونه اليومية بين الناس؛ ولهذا ما كانت تلك الطبقة من المثقَّفين الدِّينيين متعالية على مجتمع الأمة أو مفارقة له، خصوصاً وأن المجتمع هو مجالها الحيوي في تداول المعرفة الدِّينية والشَّرعية التي لها في ظل ما تملكه من مهارات بدت فاعلة في التعامل مع المجتمع في مبانيه وتشكيلاته وطبقاته، ومع أساليب توظيف سلطتها الدلالية والإشارية والإيحائية والعلاماتية، وتوصيلها إلى المجتمع بغية التأثير في طبقاته ومكوِّناته، وفي مسارات مواقفه ورؤاه وتوجُّهاته الفكرية والتداولية والميدانية.

حفل العراق في الربع الأول من القرن العشرين بنماذج راقية من هؤلاء المثقَّفين الدِّينيين[2] أُولئك الذين وزَّعوا أوقاتهم بين دواوين التعليم الدِّيني لتدريس الفقه والأصول وجملة علوم الشريعة، والانشغال بشؤون الناس اليومية كإصدار الفتاوى الشرعية والإرشادات الدِّينية والتوجيهات المجتمعية، والأهم من ذلك التصدِّي للتحديات ذات الطابع الاستراتيجي والمصيري التي كانت تواجه الأمة وفق منظورات إصلاحية كان بعضها ثاوياً في خطاباتهم الدِّينية وغيرها، مبثوثاً في سلوكهم وممارساتهم، وفي تكليفاتهم الشرعية وأدوارهم المجتمعية.

على رغم أن عدداً من هذه النماذج الفُقهائية قد أصابها الإحباط بسبب ما تعرَّض له من تحدِّيات خارجية نزيلة ومحلية ذات سلوكات جهويَّة واجهت المجتمع العراقي في تلك الفترة -الربع الأول من القرن العشرين-؛ مثل سلطة الاحتلال البريطاني بدايةً، وسلطة أقطاب النِّظام الملكي من العراقيين، خصوصاً من ذوي الميول العثمانية والطائفية والمناطقية والمذهبية الذين اندسُّوا تحت عباءة سلطة الانتداب تالياً.

على رغم ذلك، كان من بين تلك النماذج الفُقهائية منْ نجح في التكيُّف مع هذه التحديات الجديدة ليس عن طريق الانخراط في المرجعيات الفكرية والميدانية لهاتين السُّلطتين حدَّ التماهي أو التطابق أو التذاوت، إنما من خلال الانفتاح عليها بغية التصدِّي لخطابها، والحدّ من تأثير سلطتها في الأمة، وعدم التهرُّب منها إلى العزلة؛ عزلة بعض الفُقهاء التي عرفتها الأوساط الفُقهائية الجعفرية بعد نهاية ثورة العشرين في العراق، لأسباب معروفة لدى المؤرِّخين.

من بين تلك النماذج الفُقهائية، كان الشيخ محمَّد حسين كاشف الغطاء (1877 ـ 1954) الذي وُلد وعاش ودُفن في مدينة النَّجف التي كانت، ومنذ تأسيسها حتى الآن، قِبلة العُلماء والفُقهاء وعاصمتهم الروحية الجاذبة. عاش الغطاء نحو ثمانية عقود من الزمان، كانت على درجة كبيرة من الثَّراء المعرفي والعمل الميداني الإصلاحي، وهي العقود التي شهدت تحوُّلات جذرية شاملة في النَّجف والعراق والمنطقة العربية والإسلامية والعالم. بدأ الغطاء حياته بالتعليم الدِّيني، ثمَّ التعليم الحوزوي، ودرس تالياً على يد أكبر الفُقهاء الأعلام الموجودين في النَّجف والكوفة وكربلاء والكاظمية وسامراء نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ورافقهم يوماً بيوم حتى صار جزءًا من مجتمعهم، المجتمع الفُقهائي المعروف آنذاك. وتحصَّل، جرّاء رفقته لتلك الصفوة من الفُقهاء، على ذخيرة معرفية دسمة من علوم العربية وعلوم الشريعة والفلسفة والتاريخ وبعض العلوم العصرية التي كان يتعرَّف إليها عبر ما يصل إلى النَّجف من مجلات ودوريات عربية وتركية معرَّبة تُعنى بهذه العلوم. كما أنها زوَّدته بخبرة في بناء شخصيته الفُقهائية من الناحية العلمية والمعرفية المتخصِّصة في علوم الشريعة، ومن الناحية المجتمعية بوصفه فقيهاً معنياً بشؤون الناس في الأمة، وبوصفه مثقَّفاً دينيًّا إصلاحيًّا نشيطاً.

ﷺ آليات الإصلاح

تكرر ظهور مصطلح «الإصلاح» كثيراً في النُّصوص المدوَّنة والشِّفاهية التي كتبها الشيخ الغطاء خلال حياته؛ ففي كتابه «المثُل العليا في الإسلام لا في بحمدون»، وهو من مؤلفاته الأخيرة قبل رحيله في تموز/ يوليو 1954، كان الغطاء قد رسم استراتيجية خطابه الإصلاحي وعلى نحو واضح في تحقيق ما أسماه بـ«الإصلاح الاجتماعي»، فكتب قائلاً: إن الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعي، وتحقيق العدل، وتمزيق الظلم، ومقاومة الشر والفساد، تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع:

1- وسائل الدعوة والإرشاد: [من خلال] الخُطب، والمقالات، والمؤلفات، والنشرات. وهذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جلَّ شأنه بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[3]. وقوله عزَّ شأنه: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[4]. وهذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة، وهي خطتنا التي ما زلنا عليها، منذ تحمَّلنا المسؤولية، ونهضنا بأعباء الإصلاح، والمرجعية الدِّينية، والوظائف الروحية منذ خمسين سنة، لا ندعو إلى ثورة، ولا نرضى بإضراب واضطرابات، وننشدُ السَّكينة والسلام في كل مقام.

2- وسائل المقاومة السِّلمية والسَّلبية: مثل المظاهرات، والإضرابات، والمقاطعة الاقتصادية، وعدم التعاون مع الظالمين والاشتراك في أعمالهم وحكومتهم. وأصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب والقتل والعنف وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}[5]. وفي (القرآن) كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة. وأشهر من دعا إلى هذه الطريقة وأكّد عليها «المسيح» (عليه السلام) والهندي «بوذا» و، والأديب الروسي «تولستوي»، والزعيم الهندي الروحي «غاندي».

3- الحرب والثورة والقتال: يتدرَّج الإسلام في هذه الأساليب الثلاثة؛ الأول: الموعظة الحسنة والدعوة السِّليمة، فإن لم تنجح في دفع الظالمين، ودرء فسادهم واستبدادهم فالثانية، أي: المقاطعة السِّلمية أو السَّلبية، وعدم التعاون والمشاركة معهم، فإنْ لم تُجدِ وتنفع فالثالثة، أي: الثورة المسلَّحة. فإن الله لا يرضى بالظلم أبداً، والراضي بل والسَّاكت شريك الظالم[6].

لا بد من التأكيد بدايةً على أن هذا النَّص الصادر في أواخر حياة الغطاء، كما ذكرنا، قد لخَّص فلسفته في الإصلاح. ورغم أن هذا النَّص يبدو معنياً بالوسائل وبالأدوات والآليات، إلاّ أنه تضمَّن أيضاً رؤيته في الإصلاح، كما أنه كشف عن المرجعية الفكرية والفلسفية التي يعود إليها الغطاء في مشروعه الفكري والفُقهائي وهي (القرآن) الكريم و(السُّنة النَّبوية الشريفة).

ويلاحظ أن الشيخ الغطاء جعل من «الإصلاح» أحد الموضوعات المركزية التي شكَّلت مربَّع مشروعه الفكري بوصفه مثقَّفاً دينيًّا عندما قال وفي النَّص ذاته: «منذ تحمَّلنا المسؤولية، ونهضنا بأعباء الإصلاح، والمرجعية الدِّينية، والوظائف الروحية». وأعمدة المربَّع هي: المسؤولية، الإصلاح، المرجعية، الإمامة. على أننا هنا لا ينبغي قراءة هذه المفاهيم المركزية في تتاليها الزمني فقط، بمعنى أن الغطاء بدأ إصلاحيًّا، وصار فيما بعد مثقَّفاً دينيًّا عضويًّا يعمل ضمن المؤسسة الفُقهائية المرجعية تحت خيمة الإمام المصلح محمَّد كاظم الطباطبائي اليزدي 1831 - 1919، وانتهى مرجعاً في الإفتاء ابتداءً من عام 1926، إنما يجب قراءتها وفق الباعث الإصلاحي الذي ظلَّ موجِّهاً مركزيًّا وأنموذجاً إرشاديًّا في كل مراحل حياة الغطاء حتى رحيله عام 1954، وفي الوقت ذاته ظل، هذا الباعث، غاية صيَّرت ظهورها وتجلياتها مجمل الظرفيات التاريخية التي عاش في خضمها الشيخ الراحل بملء إرادته وصافي وجدانه.

ونلاحظ أيضاً قوله: «إن الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعي، وتحقيق العدل، وتمزيق الظلم، ومقاومة الشر والفساد، تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع...». والشاهد هنا هو استخدامه لمصطلح الوسائل Instruments، أي الأدوات والآليات والطُّرق التي من خلالها يمكن تحقيق ما أسماه بـ«الإصلاح الاجتماعي»، والذي يقابل، من وجهة نظرنا، مصطلح Reformation Societal في اللغة الإنجليزية، والذي يعني الإصلاح الاجتماعي - الحضاري، أو ما نعتقد أنه «الإصلاح المجتمعي»، وليس «الإصلاح الاجتماعي» من منظور سوسيولوجي بحت فقط، لأن الغطاء جعل من تلك الوسائل مقترحات ثلاثة تحقِّق العدل وتمزِّق الظلم وتقاوم الشَّر والفساد.

إن تحقيق العدل هنا لا ينصرف إلى ما هو فردي فقط، وإنْ كان كذلك، كما أن الوقوف بوجه الظلم والشَّر والفساد هو وقوف في وجه فعل الممارسة الجماعية لهذه الآفات، وإن كانت هذه الآفات تظهر لدى أفراد بعينهم، إلاّ أنها تظهر في نسق مجتمعي لتكتسب صفة عامَّة، ولتعمّ المجتمع أو شرائح كبيرة منه. المهم هنا هو البُعد المجتمعي فيما يريد قوله الغطاء عندما استخدم مصطلح «الإصلاح الاجتماعي» في النَّص المذكور، وهو مصطلح يبدو مركزياً في خطابه الإصلاحي، لأن الغطاء، وفي ضوء نصوصه التي توافرت لنا قراءتها، لم يستخدم مصطلح «الإصلاح الدِّيني» ولا مصطلح «الإصلاح السياسي»، وإن كانت دلالات هذه المصطلحات ثاوية في خطابه، وعبَّر عنها فيما كتب من نصوص مدوَّنة أو شفاهية، وفيما سلك من حياة ميدانية، لذلك نعتقد أن الغطاء مُصلح ديني بكل معنى الكلمة، وهو أيضاً مُصلح سياسي بكل معنى الكلمة، كما سنرى ذلك لاحقاً، إلاّ أنه اختار مصطلح «الإصلاح الاجتماعي» ليتضمَّن، هذا المصطلح، كل دلالات الإصلاح التي ابتنت بكل تنويعاتها خطابه الإصلاحي؛ المجتمعي والسياسي والدِّيني والثقافي.

في ظل ذلك يمكن القول: إن غاية الإصلاح الاجتماعي هي تحقيق العدل في الأمة من خلال التصدِّي المُقاوم للظلم والشَّر والفساد فيها عبرَ استثمار سُلطة المعرفة والتي من أدواتها أو وسائلها (الخطب، المقالات، المؤلَّفات، النشرات). وعبرَ استثمار سُلطة الاعتراض السِّلمي على الظلم والتي من أدواتها (المظاهرات، الإضرابات، المقاطعة الاقتصادية). ومن ثمَّ (عدم التعاون مع الظالمين، والاشتراك في أعمالهم وحكومتهم)، أي المقاطعة السياسية للنظام السياسي السائد في الأمة وهو نظام السُّلطان المُستبد أو الحاكم الجائر الذي يجثم على صدر الأمة ليسلبها العدل والحرية والتنمية والتقدُّم. وأخيراً عبر (الثورة المسلَّحة) التي هي الخيار الأخير لإصلاح الحال عندما لا تُجدي الخيارات الأخرى في مقارعة ظلم المستبدين. ومن هنا يمكن القول: إن وظيفة المُصلح الاجتماعي هي تحقيق العدل في الأمة من خلال توظيف سُلطة المعرفة، وسُلطة الاعتراض السِّلمي، وسُلطة الثورة المسلَّحة خياراً أخيراً.

وعلى وفق هذه الفهم لوظيفة المُصلح في الأمة، راح الشيخ الغطاء ماضياً في ممارسة دوره الإصلاحي في المجتمع خلال عقود حياته الطويلة، فقد وظَّف سُلطة المعرفة من خلال الكتابة والتأليف والخطابة، ووظَّف سُلطة الاعتراض والاحتجاج السِّلمي من خلال جملة المظاهرات والاحتجاجات التي شارك فيها ضد تردي الأوضاع، ووظَّف سُلطة الثورة المسلَّحة ضد الغزو البريطاني للعراق مطلع القرن العشرين من خلال مشاركته الميدانية مع نخبة من الفُقهاء في جبهات التصدي للغزو البريطاني على العراق.

في مجتمع كانت غالبية سكانه لا تقرأ عن تعليم ودرس حيث الأمية متفشية، والمدارس الحديثة نادرة، إن لم تكن غائبة، سوى مدارس التعليم الدِّيني التقليدي المنتشرة في العراق، والتي لم يحظ بها إلا من أدركه الحظ والهمَّة. في مجتمع من هذا النوع، كان الشيخ الغطاء يؤمن بأهمية توفير وسائل توصيل المعرفة، ولعله من المثقَّفين الدِّينيين الذين كانوا في همَّة دائمة من أجل الكتابة والتأليف والنشر لغرض ردم الفجوة المتباعدة بين المجتمع والمعرفة من جهة، وبين المثقَّف والمجتمع من جهة ثانية، وبين الفقيه والأمة من جهة ثالثة. ولهذا عكف الغطاء على التأليف والنشر، فشرع في وضع كتابه (الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية إلى مذهب الإمامية)، ودفع الجزء الأول منه إلى النشر في «مطبعة دار السلام» ببغداد، وعكف تالياً على وضع الجزء الثاني منه ودفعه إلى المطبعة ذاتها، ولكن عين الرقيب كانت له بالمرصاد، فتعرَّض الشيخ الغطاء إلى أول محاولة لقمع صوته ولجم خطابه، وربما كان من أوائل المثقَّفين الدِّينيين العراقيين «الفُقهاء» الذين طالهم قمع السُّلطة السياسية والسُّلطة المذهبيَّة في العراق، وهذا ما كشف عنه في مذكّراته الثانية التي دوَّنها عام 1952، حيث قال: بينما كانت «مطبعة السلام» في بغداد تشتغل بطبع «الجزء الثاني» من الكتاب سنة 1329/ 1911، وكانت بعض النُّسخ من «الجزء الأول» الذي نسخ طبعه قد انتشرت وتداولتها الأيدي، وإذا بالسُّلطة تهاجم المطبعة بغتةً، وتُصادر الكتاب بجزأيه، وتحمله إلى حيثُ لا ندري، وكان ذلك بأمر والي بغداد ناظم باشا، وبإيعاز من المفتي الشيخ سعيد الزهاوي، فكبَّدونا، بهذه الحركة الجائرة، خسائر باهضة، مادية ومعنوية، بعثت فينا روح النشاط والحماس في السعي إلى طبع الكتاب خارج العراق[7]. إن صورة القمع والجور تلك ما كانت قد جعلت من الشيخ الغطاء مثقَّفاً مهزوماً أمام جور السُّلطتين السياسية والمذهبية أو الطائفية في بغداد، إنما زادت عزيمته رسوخاً على مواصلة توصيل رسالته الدِّينية وخطابه التنويري إلى المجتمع الذي كان يحتاج، في تلك المرحلة، إلى ثورة إصلاحية كبيرة وشاملة.

من أجل ذلك كان الغطاء يتطلَّع على نحو غامر إلى معرفة العالم من حوله، ولهذا ما كان يميل إلى التعلُّم والعيش في قصور المعارف فقط، إنما الانخراط في الواقع اليومي والسعي الحثيث لربط المعرفة الدِّينية بحركة هذا الواقع، وربط الأخير بالمعرفة الدِّينية ليصل إلى تنافذ مُنتج بين العالمين، عالم المعرفة الدِّينية وعالم الأمة والمجتمع. إن هذا التوجُّه الذي كان مركوزاً في ذاته وفي وجدانه، كان سبباً وباعثاً على تفكيره بالسفر والترحال إلى غير مكان بالعالم، وكانت الأولوية بالطبع زيارة المجتمعات الإسلامية، وعلى رأسها «مكَّة المكرَّمة» لأداء فريضة الحج، والوقوف عند واقع تلك المدينة التاريخية العابقة بعطر الرسالة المحمَّدية. كان ذلك بين عامي 1910 - 1911، لكن الغطاء انتهز فرصة وجوده في مكَّة بالذهاب إلى دمشق، ومنها إلى بيروت فصيدا التي نشر فيها أوائل مؤلفاته ومنها (الدين والإسلام، ج1، 1911)، و(المراجعات الريحانية، جزآن، بيروت 1912)، وبالتالي إلى مصر التي مكث فيها نحو ثلاثة شهور، ونشر فيها الجزء الأول من كتابه الحِجاجي (التوضيح في الإنجيل والمسيح). وهي الرحلة التي استمرَّت لثلاث سنين، والتي في خلالها كان الغطاء فاعلاً أينما حطَّ؛ ففي تلك العواصم وما حولها من ضواحٍ، التقى العشرات من المفكِّرين والأدباء والمثقَّفين الدِّينيين والفُقهاء الأعلام هناك. وفيها ومعهم أيضاً تفاعل مع القضايا التي كانت محور الحركة المجتمعية هناك؛ ومن ذلك أنه انخرط في الحركة الوطنية السورية، فكانت له مشاركة مع عدد من الفُقهاء والمثقَّفين الدِّينيين من ذوي التطلُّع الجهادي الوطني في سوريا مثل: الشيخ عبد الكريم الخليل، والشيخ أحمد طبارة 1871 - 1916، والشيخ عبد الغني العريسي 1891 - 1916، والشيخ عارف الزين، صاحب مجلة «العرفان». وكانت رحلة الغطاء إلى تلك البلدان قد اكتسبت أهمية كبيرة في حياته، ولذلك عمد إلى تدوينها في نصٍّ رحلاتي عنوانه: «نزهة السَّمر ونهزة السَّفر» أو «نهزة المُسافر، ونزهة المُسامر».

يمكن لنا أن نستنتج من تلك الرحلة، أن الشيخ الغطاء اكتسب خلالها خبرات مجتمعية هائلة، ووقف عند ثقافات عدَّة، وعاش صوراً من الحراك الوطني في سوريا، والحراك الثقافي في مصر ولبنان، وبهرته صور الحياة العصرية أو (الصنايع العصرية)، على حدِّ تعبيره في مذكراته «رحلة الجهاد»، بتلك العواصم رغم طراوة عود تلك الصنايع خلال تلك المرحلة. وكان كل ذلك قد أحيا عنده الباعث الإصلاحي حتى أستحوذ، هذا الباعث، على وجدانه وعقله وفاهمته وذائقته. وجعل من رحلته تلك رحلة مثقَّف دينيٍّ ساعٍ إلى إظهار شخصيته في الأمكنة التي سافر إليها بوصفه فقيهاً متحمِّساً لتوصيل رسالته المعرفية والدِّينية إلى الأمة، وليبسط حضوره في المجتمع الدِّيني من خلال خطابه الإصلاحي، ما يؤكد الاستنتاج أن الغطاء ما كان يصبو إلى التقوقع داخل النسق الفُقهائي النُّخبوي المغلق الذي ينظر إلى الأمة من على شرفة عالية، أو من خلال نافذة غرفة بعيد عن الأنظار، أو من داخل نسق فُقهائي مُفارقٍ أو متعالٍ، إنما كان يسعى إلى ردم الفجوات، وكسر الحواجز بين المثقَّف الدِّيني ومجتمع الأمة، بل وإحياء التواصل العلمي بين المثقَّفين والمفكرين والفُقهاء؛ فقد كان الكثير من مؤلفاته ذات طابع نقدي حواري مثل كتابه «المراجعات الريحانية» الذي ناقش فيه أراء أمين الريحاني 1876 - 1940. فضلاً عن مناقشات أخرى مع الأب انستاس الكرملي 1886 - 1947، وجرجي زيدان 1861 - 1914، والشيخ يوسف الدجوي 1780 - 1948، من مدرِّسي الجامع الأزهر، والشيخ جمال الدين القاسمي 1866 - 1914، عالم دمشق في عصره، وغيرهم.

إن لجوء الغطاء إلى الطابع النقدي - الحواري أو التنافذي مع أمثاله من المثقَّفين الدِّينيين وغير الدِّينيين، والعاملين في الحقل والفكري والثقافي، ناجمٌ عن إدراكه الحقيقي بأن المنحى الحواري هو أحد أهم الآليات التي يلجأ إليها الإصلاحي إذا ما أراد إيصال خطابه إلى المجتمع.

ﷺ إصلاحيٌّ وغُزاة

عندما كان الشيخ الغطاء في لبنان تناهى إلى مسامعه أن حرباً كبرى ستندلع بالعالم «الحرب العالمية الأولى 1914»، فحمل حقائبه وعاد إلى النَّجف ليكون الرجل الذي يحمل في جعبته الكثير من الخبرات والمشاهدات والمعلومات والمقارنات عن مجتمعات إسلامية غير مجتمعه، وهو الأمر الذي وفَّر له خصائص ثقافية ومعرفية وخبراتية كانت قد ميَّزته في المجتمع الفُقهائي النَّجفي عن أقرانه العاملين في الحقل الدِّيني، خصوصاً من جيله، وليكون على مقربة من مجريات ما دارَ وما يمكن أن يدور، خصوصاً وأن تقويض الإمبراطورية العثمانية، والعراق جزء منها، كان أحد الأهداف الاستراتيجية في تلك الحرب.

كانت عودة الغطاء من رحلته تلك، وبسبب التحديات التي كانت تلوح أمام الأمة في العراق، قد وضعته أمام مجال جديد للتحرُّك والعمل، وأمام معترك تبرز فيه شخصيته بوصفه مثقَّفاً دينيًّا إصلاحيًّا يمارس دوراً مجتمعيًّا فضلاً عن الدور المعرفي الذي يملكه. وفي سيرته التي كتبها عام 1952، ذكر الغطاء كلمات كشفت عن انخراطه، بوصفه مثقَّفاً دينيًّا إصلاحيًّا، في ممارسة دوره بوصفه مثقَّفاً عضويًّا Intellectual Organic في المجتمع الفُقهائي والأهلي معاً ليصبح مثقفاً دينيًّا إصلاحيًّا عضويًّا في الأمة، يربط مصيره بمصير الأمة فيما تعيشه وتمرُّ فيه، وفيما تواجهه من تحديات، وفيما تأمله وترتجيه من مأمولات. قال الغطاء واصفاً دوره الذي أُوكل إليه بعد عودته من سفرته: «ألجؤونا إلى الإرشاد والدَّعوة، وسافرنا للجهاد مرّات عدَّة»[8]. ونلاحظ في النَّص أعلاه أن الشيخ الغطاء استخدم كلمة (ألجؤونا)، والسؤال هنا: من (ألجأ) الشيخ الغطاء إلى الإرشاد والدَّعوة؟

لا شك أن المؤسسة الدِّينية في النَّجف أو المرجعية الدِّينية العليا هناك، التي كان السيد محمَّد كاظم اليزدي على رأسها في حينها، هي التي كلَّفت الشيخ الغطاء بهذا الواجب الشرعي، وطلبت منه تحمُّل المسؤولية المجتمعية، وألجأته إلى ممارسة الدور الإرشادي والدَّعوي والنَّهضوي في الوسط المجتمعي، وهو ما يكشف عن تحوُّل الشيخ الغطاء من مجرَّد مثقَّف ديني تقليدي «مُلائي، مِنبري، خطيب» إلى مثقفٍّ ديني عضوي يستجيبُ لمتطلبات المؤسسة الدِّينية في النَّجف التي تمثل، في حدِّ ذاتها، مجتمعاً فقهائيًّا مستقلاً وقائماً برأسه، وبنية قيادية دينية «مرجعية» في المجتمع العام. ويستجيب، في الوقت نفسه، لمتطلَّبات مجتمع الأمة بكل ما فيه من مؤسسات مدنية وأهلية وعشائرية، لأن هذه المؤسسات بكل تشكيلاتها المجتمعية تمثل الحقل الذي يمكن أن يصرِّف فيه المثقَّف الدِّيني دوره الإرشادي والدَّعوي والنَّهضوي وهي أدوار إصلاحية في حقيقتها.

لقد اندلعت الحرب العالمية الأولى. وكانت القوات البريطانية على مشارف منطقة «الفاو» جنوب العراق، لغزو العراق، وكان الفُقهاء الأعلام، في النَّجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، قد أفتوا بالجهاد في الدفاع عن ثغور الأمة. ومنهم السيد محمَّد كاظم اليزدي، زعيم الشيعة الإمامية في العراق والمنطقة حينها، فاستجاب عدد من الفُقهاء الأعلام والمثقَّفين الدِّينيين وتلاميذ «الحوزة العلمية» في النَّجف وكربلاء والكاظمية وسامراء إلى نداء الجهاد، وذهب الكثير منهم إلى جبهات الجنوب العراقي الساخنة، ومنهم السيد محمَّد، نجل السيد اليزدي، في حين بقي الشيخ الغطاء إلى جانب السيد اليزدي الأب ليمارس دوراً تنظيميًّا وإداريًّا ودعويًّا، كتب في «عقود من حياته» واصفاً دوره آنذاك: بقيتُ مع السيد اليزدي لنشر الدَّعوة، ومُراسلة زعماء العشائر، ومراجعة الحكومة في الشؤون اللازمة، وتهيئة الأسباب والمعدات للمُجاهدين في سائر الجهاد[9]. مع ذلك لم يفوِّت الغطاء فرصة المشاركة في جبهة القتال ميدانيًّا؛ ففي عام 1917 ذهب مع صفوة من الفُقهاء إلى «جبهة الكوت» للمشاركة في مواجهة الغازي البريطاني، وكتب قائلاً عن مشاركته تلك: بعد وقعة الشِّعيبة ومزَيريعة في ناحية القرنة التي أُسر فيها جميع المجاهدين كالحاج داود أبو التمَّن وغيره، تجهَّز العُلماء ثانية، وكانت المحاربة في الكوت، وسافرت هذه الدفعة بخيام واستعداد، وخدمة وأتباع، وكذلك المرحوم السيد محمَّد اليزدي، نجل سيدنا الأستاذ -يقصد السيد اليزدي-، وشيخ الشريعة فتح الله الأصفهاني 1849 - 1920، وجماعة كثيرون من العُلماء. ووصلنا إلى ساحة الحرب حتى حوصرت الكوت، وفيها القائد الإنكليزي طاوندزند، وقبل التسليم بقليل، رجعنا إلى الكاظمية[10].

في خضم تلك الحرب بين الأتراك والإنجليز، كان الشيخ الغطاء قد شهد صراعات عدَّة بين الأتراك والعراقيين في مدينة النَّجف أيضاً، في وقت بدا فيه العثامنة في حالٍ يضعف يوماً بعد آخر. وشهد أيضاً استقلال مدينة النَّجف إداريًّا وسياسيًّا سوى بعض الشيء من السُّلطة الرمزية تركه النَّجفيون للسُّلطة العثمانية المركزية في بغداد، تلك السُّلطة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة. فبعد أيار 1915، صار للنَّجفيين حكم مستقل في مدينتهم، وصارت المدينة تحكم نفسها بنفسها أهليًّا ومحاليًّا أو مناطقيًّا بعد أن صار لكل محلة من محالِّ النَّجف الأربع مسؤول: (محلة العمارة/ عطية أبو كُلل. محلة الحويش/ مهدي السيد سلمان. محلة البراق/ كاظم صبي. محلة المشراق/ سعد الحاج راضي). وألزم هؤلاء أنفسهم بدستور سُمي بـ«دستور البراق».

كان ذاك الاستقلال قد جعل من مدينة النَّجف مجتمعاً أهليًّا يقود نفسه بنفسه، وكانت السُّلطة الفُقهائية أو سلطة الفُقهاء في ذاك المجتمع قائمة بفاعلية على عهد السيد اليزدي، فلم يشهد المجتمع الإداري الجديد تصادماً أو تنافراً مع المؤسسة الفُقهائية التي كانت تميل إلى إحلال الاستقرار في المدينة في ظل التوتر الذي كان عليه العراق بسبب المارد الاستعماري البريطاني القادم إلى البلاد. وبإزاء هذا الوضع الجديد كانت المؤسسة الفُقهائية في النَّجف، التي كان الغطاء ينضوي تحت خيمتها، قد انطلقت من استراتيجية قوامها:

أولاً: الإبقاء على موقفها السابق «التقليدي» في مواجهة الاحتلال البريطاني والتصدي لجيوشه الاستعمارية كخطٍّ شرعيٍّ ثابت.

ثانياً: الحفاظ على المكسب الاستقلالي الذي حققه رؤساء أحياء النَّجف، وإنهاء حالة المواجهة والثورة المسلَّحة ضد الأتراك، مع تنظيم صيغة رمزية للعلاقة مع الحكومة المركزية تحفظ هيبتها وصورتها الرسمية أمام الرأي العام[11]. كانت علاقة السيد اليزدي الوثيقة برؤساء النَّجف، الذين أتينا على ذكرهم كما مر، قد ساهمت في إدارة الشؤون العامّة للمدينة بشكل جيد؛ فكانت توصياته تنفَّذ من قبل أولئك الرؤساء المحليين، وكان «ختم» اليزدي يُعتمد في الشؤون الإدارية، كالأملاك والعقارات وغير ذلك من المعاملات التي تتصل بحياة الناس وشؤونهم العامة[12].

لقد تفاعل الشيخ الغطاء مع تلك الاستراتيجية، وصار جزءًا منها، وربما كان يعتقد أن تجربة الاستقلال والاستقرار في النَّجف يمكن أن تتحوَّل من ظاهرة جزئية إلى ظاهرة تعمُّ العراق كله، وبالطبع كان ذاك الاعتقاد حُلماً ومأمولاً، لكن جماعات العمل الإسلامي التي بدأت بالتشكُّل للتوِّ في النَّجف مثل «جمعية النهضة الإسلامية/ النَّجف 1917»، كانت قد زعزعت موازين الاستقرار من منظور الغطاء؛ ليس لأنه كان ضد الثورة على المحتلين وهو الذي شارك في جبهات القتال، ولا لكونه ضد العمل الإسلامي السياسي، إنما لكون تحرُّك الجناح العسكري برئاسة الحاج نجم البقّال التابع إلى جمعية النهضة الإسلامية في 19/ 3/ 1918 لاغتيال الضابط الإنجليزي «وليم أ. مارشال»، معاون الحاكم السياسي في الشامية والنَّجف، ما كان قد «أُبرم على ما يقتضيه الحزم والحصافة»[13]. على حدِّ تعبير الغطاء نفسه، ما يعني أنه لم يكن راضياً عن تلك العملية غير المدروسة ولا الحصيفة، وربما كان هذا رأي أستاذه اليزدي أيضاً. بل إننا وجدنا شيئاً من السُّخرية لدى الغطاء تجاه مشروع الجمعية برمته، وتجاه الذين انخرطوا فيه، وذلك عندما قال في مذكراته: «عقدوا جمعية سرية فيها بعض المعمَّمين، وجماعة من جُهلاء الفريقين، ولم يبرموا الأمر على ما يقتضيه الحزم والحصافة»[14].

رغم هذه السخرية، نعتقد أن الغطاء ما كان ليخرج على توجُّهات أستاذه ومرشده الروحي السيد اليزدي في شأن وجود تلك الجمعية لولا مزاجه بشأن العمل السياسي الحزبي أو في شأن فكرة الأحزاب بعامة والذي سيقول عنها بعد سنوات «الأحزاب في الشرق داءٌ وفي الغرب دواء»[15]. ومهما كانت رؤية الغطاء خاصة فإنه لم يخرج عن رؤية أستاذه في ضرورة الميل إلى الاستقرار وعدم اللجوء إلى الثورة والعُنف من دون العدَّة الكاملة والكافية لتحقيق الاستقلال التام والناجز.

لقد شهدت الأعوام الستة الممتدة من عام 1914 حتى عام 1920، متغيرات هائلة عاشها المجتمع العراقي عامّة والمجتمع الفُقهائي منه على نحو خاص. كانت الرؤية الإصلاحية مبثوثة في سلوك الفُقهاء والمثقَّفين الدِّينيين، ومُعبَّراً عنها في حركتهم الميدانية اليومية مع المجتمع الأهلي. إن ما جرى بعدُ على النَّجف، بعد مقتل «المارشال»، من مصائب وتعقيدات مع المحتل البريطاني الذي فرض الحصار على المدينة من كل جوانبها ليطالب بالمجموعة التي اغتالت المارشال، كان قد فتح للفُقهاء وللمثقَّفين الدِّينيين مجالاً جديداً لممارسة أدوارهم الإصلاحية على نحو ميداني؛ فبرغم أن الإنجليز اصطادوا المجموعة التي اغتالت «المارشال» عن طريق عملاء لهم بالنَّجف، وساقوهم إلى مقاصل الإعدام، إلاّ أن الكثير مما كان يرومه الإنجليز من النَّجفيين بالقسر والقمع حال الفُقهاء دون تحقيقه، فكان الفُقهاء قد أتوا دورهم الإصلاحي، السياسي والمجتمعي، في تلك الأزمة، قال الغطاء: إن سياسة تلك الدول الغاشمة «بريطانيا» تقضي عليهم بمجاملة الروحانيين «الفُقهاء»، وعدم إثارة غضبهم، فتمكنّا من وقاية نفوس كثيرة من الإعدام، وحفظ أموال غزيرة من المُصادرة[16]. وهذا يعني أن الفُقهاء كانوا قد سعوا لإصلاح الحال من خلال احتواء التوتر بين المحتلين البريطانيين والأهالي الثائرين من خلال أدوارهم الإصلاحية التي استنفرت سلطتهم الدِّينية والمجتمعية في الأمة، رغم أن استراتيجيتهم ومأمولاتهم الإصلاحية كانت تأمل الخلاص من ربقة الأتراك العثامنة والإنجليز الغزاة سواء بسواء للظفر باستقلال العراق عن كل تبعية للأجنبي.

لم يشارك الشيخ الغطاء في ثورة العشرين ميدانيًّا، وربما كان له موقف آخر من الثورة، ربما أيضاً كان يعرف نتائجها التي انتهت إليها في ظل تجربته الميدانية السابقة. لقد قلنا: إنه شارك في الدفاع عن ثغور الأمة في جهة الكوت عام 1917، وعلى ما بدا أنه كان يؤمن بالإصلاح الثوري الذي تداخلت لديه بواعثه بين ما هو واجب ديني شرعي وأخلاقي والباعث العضوي لارتباط الغطاء بالمؤسسة الدِّينية المرجعية التي كان على رأسها السيد اليزدي، إلا أن الأمر تغيّر عندهُ بعد نهاية «ثورة العشرين» وهو ما انعكس على طبيعة خطابه الإصلاحي في سنوات العشرينات وما بعدها من عقود خلال النصف الأول من القرن العشرين حتى رحيله عام 1954.

لقد مال الشيخ الغطاء إلى الإصلاح التدريجي الذي لا يؤمن بالقفزات المجتمعية غير الواقعية أو النقلات التنموية الشكلية التي تعلوا على حراك الواقع وتفارق هويته الخاصة به، مثل اللجوء إلى الثَّورة الشاملة على الواقع المعتاد، وهدم النظام الاجتماعي السائد من أجل خلق بيئة جديدة لم تكن الأمة مهيأة لها بل حتى قادرة على الآتيان بها، خصوصاً وأن العراق كان مطلع العشرينات للتوِّ قد خرج من خراب الدولة العثمانية التي لم تقدِّم له سوى نظم من العثمنة التحديثية المشوَّهة، وقد رأينا كيف أن الغطاء سخرَ من العمل الثَّوري الذي أقبلت عليه «جماعة نجم البقَّال»، كما أننا قرأنا كيف أنه قال: «منذ خمسين سنة لا ندعو إلى ثورة..».

ﷺ نقد القصور الفكري

في ضوء رؤيته الإصلاحية التدريجية التي سنَّها لخطابه، شرع الغطاء بعد انتهاء «ثورة العشرين»، بمعاينة القصور الفكري الذي تعاني منه هوية الوعي الشِّيعي مطلع القرن العشرين، وهو الأمر الذي كان يدعوه إلى بذل جهد معرفي كبير من أجل خلق أرضية فقهية وفكرية وثقافية للمجتمع تكون منطلقاً للإصلاح، لأن الإصلاح لا يمكن أن يأخذ طريقه إلى المجتمع من دون أرضية فكرية واضحة يستند إليها.

ومن هنا، سعى الشيخ الغطاء إلى نشر الثقافة الدِّينية في المجتمع، وكان مسعاه ذاك قد عُدَّ شكلاً من أشكال التنوير الثقافي الذي صرَّفه من خلال جملة من المشروعات ذات المنحى المعرفي والثقافي والفقهي كالشروح على بعض المتون الفقهية المركزية التي شاعت في تلك المرحلة مثل كتاب «العروة الوثقى» وهو كتاب فقهي وضعه السيد محمَّد كاظم اليزدي رسالةً فقهيةً عمليةً في العبادات والمعاملات يتداولها الناس في المجتمع. ومن ثم العمل على تأليف الرسائل الفقهية مثل: «وجيزة الأحكام» أو «الوجيزة الصغرى» و«الوجيزة الكبرى»، وكلتاهما في الفقه، وكتاب «السؤال والجواب العربي»، وكتاب «حاشية على كتاب التبصرة»، وأصل «التبصرة» كتاب للمحقِّق الحلي، وكتاب «حاشية على كتاب العروة الوثقى، خمسة مجلدات»، وكتاب «التعليقات على سفينة النَّجاة»، و«سفينة النَّجاة» في أصله كتاب من تأليف الشيح أحمد كاشف الغطاء، شقيق محمَّد الحسين كاشف الغطاء.

ما يُلاحظ هنا أن الشيخ الغطاء انصرف إلى تأصيل المعرفة الفقهية وعلى نحو مكثَّف في السنوات الخمس الأولى من عشرينات القرن العشرين، وهو بذلك إنما أراد أن يُعزِّز شخصيته الفقهيه بمزيد من المنجزات المعرفية في الفقه الجعفري، لاسيما وأنه ارتقى، ابتداءً من عام 1926، إلى سدَّة الإفتاء المرجعي «مرجع ديني». إلاّ أن السنوات الخمس الأخرى من العقد العشريني ذاك، ابتداءً من 1926 حتى أوائل الثلاثينات واستمر لاحقاً، تميزت بتوجُّه آخر لدى الغطاء، وهو التوجّه النقدي الذي سبق وأن جرَّبه مع جرجي زيدان وأمين الريحاني وغيرهما، لكن النقد هذه المرة اتخذ مساراً دينيًّا - فكريًّا، ففي عام 1927 نشر كتابه (الآيات البيِّنات في قمع البدع والضلالات) بالنَّجف، والذي تضمّن أربع مقالات، هي: رد الأمويَّة، رد البهائيَّة، رسالة نقض فتاوى الوهّابيَّة ورد كلية مذهبهم، رد الطبيعيَّة[17]. والواضح من عنوانات هذه المقالات أن الغطاء تصدّى لمجموعة من الخطابات الدِّينية والفلسفية بالتحليل والنقد محاولة منه إلى تثبيت دعائم الخطاب الإسلامي على أسس سليمة بعيدة عن التطرُّف الجهوي والمذهبي والفكري الذي كان المستعمِر الإنجليزي القادم من وراء الحدود قد جلبه معه إلى العراق أو ذاك التطرُّف الذي كانت تكرِّسه جهات من خارج الحدود العراقية بقصد إشاعة الفُرقة بين أبناء المجتمع العراقي بكل مكوِّناته العرقية والدينية والمذهبية والثقافية والحضارية.

ﷺ الإصلاح السياسي

إن تركيز نظر الشيخ الغطاء على الجوانب الدِّينية والفكرية والثقافية خلال عشرينات القرن الماضي -القرن العشرين-، ما كانت تحجب عنه تركيزه النَّظر في جملة متغيرات الواقع اليومي في المجتمع العراقي. لذلك كان للجوانب السياسية - المجتمعية نصيبها في اهتمامه، خصوصاً وأن نظام الحكم الملكي ما كان نظاماً صافياً في عراقيته، ففي مرحلة العشرينات كان العراق تحت الانتداب البريطاني، ولم يحصل على استقلاله إلا في الثالث من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1932، إلا أن الاستقلال ما كان سوى استقلال شكليٍّ، فقد ظلت السياسات البريطانية الجهويَّة جاثمة على صدور العراقيين رغم الاستقلال، خصوصاً من خلال أذنابهم الذين جعلوهم في صلب نظام السُّلطة والحُكم الملكي، والذين ما أن تحصَّل العراق على استقلاله الشَّكلي حتى راحوا يتمادون في تصريف شتى أنواع التكريس الجهوي والمذهبي في المجتمع العراقي، إلا أن السيل وصل الزُّبى بعد أن صارت توجُّهات المشهد السياسي تُنذر بما لا يُحمد عقباه في ظل الممارسات الطائفية والمذهبية والجهويَّة التي كانت تكرِّسها حكومة علي جودت الأيوبي 1896 - 1968 توارثاً عن حكومات مَلكية سابقة، وتكريساً لمنهج البريطانيين واستراتيجيتهم في تمزيق وحدة صف المجتمع العراقي.

قبل التطرُّق إلى السلوك السياسي لوزارة الأيوبي ثم وزارة ياسين الهاشمي 1894 - 1934، لا بدَّ من القول: إن الشيخ الغطاء أخذ على عاتقه إعادة الاعتبار للخطاب الإصلاحي عبر إعادة النَّظر في المسألة الإصلاحية برمتها، ولذلك راح، في خطب شفاهية عدَّة، وفي غير مكان من العراق، يُذكِّر بأهمية الإصلاح، ويسعى إلى وحدة الُمصلحين في الأمة، وإلى مدِّ الصلة الجوهرية بين المُصلحين والأمة، ويبحث عن ذلك فيما يسند تطلُّعاته في الشريعة الإسلامية بعد أن أصبحت «الأمة الإسلامية في حالة دونها شق الضمائر، وفقع المرائر، هائمة في ميدان الهالة، سادرة في بيداء الغواية والضلالة، أخذ الأجنبي بخناقها، وربض الدَّخيل بكلكله على غاربها، تُصبح على همٍّ، وتُمسي على غمٍّ، تُكابد ما لو تشعر الحمامة ببعضه لمزَّقت أطواقها، وتحمل ما لو أحسَّت الجبال بمثله لاكترثت أطراقها، دائبة على النفاق، داعية إلى الشقاق، يأكل القوي منها الضعيف، ويدافع البدين النحيف، رؤوس لا تفكِّر، وجسوم لا تدبِّر»[18]. يعود هذا النَّص، الذي كشف عن حال العراق مطلع الثلاثينات، إلى عام 1932 تقريباً، لكن الغطاء ظل، وأينما حطَّ وارتحل، ينادي بضرورة الإصلاح؛ ففي خطبة له بالنَّجف عام 1935، تحدَّث عن دور المُصلحين في المجتمع، ورأيناه يبحث عن هذا الدور في التراث الإسلامي من خلال اعتبار الأنبياء والمرسلين إنما جاءوا لـ«تثقيف البشر وتهذيبهم ودفع الرذائل عنهم»[19]، وعدَّهم طبقة أولى، أما الطبقة الثانية فهي طبقة العُلماء، والعُلماء من منظور الشيخ الغطاء هم الذين «يُعنون بتهذيب البشر، وإصلاح أخلاقهم، وتزكية نفوسهم»[20]، ولعله يتحدَّث هنا عن العُلماء بوصفهم مثقَّفين عضويين. ويشير أيضاً إلى أهمية المُصلحين في الأمة، لذلك يقول: إن «منزلة المُصلحين من الأمم منزلة الأطباء والمعالجين»[21]. إن الأمة التي تخلو من العُلماء المُصلحين أو المُرشدين ستكون «عاقبتها الدمار؛ فالله يقول: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}[22]، ثم عقب هذه الفقرة الشريفة بكلمة أنبأت عن مغزاه من إرسالهم، حيث قال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[23]. فالغاية منهم أن يكونوا مبشِّرين بفوائد الإصلاح، ومُنذرين بمضار تركه. وإلى هذا أشار في آية أخرى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[24]، يعني أن وجود المُصلحين يستحيل معه هلاك الأمة، فإذا جاء الأنبياء وورثتهم العُلماء، وقاموا بوظيفتهم، فحينئذ منْ آمنَ وأصلحَ واتبعَ سيرتهم فلا خوف عليهم، وأما إذا لم يتبعوا السيرة النبوية، ولم يكونوا مُصلحين، فهناك الخوف والحزن»[25].

إن قراءة أولية لتلك الخطبة تكشف عن دعوة أراد لها الشيخ الغطاء أن تصل أسماع المُصلحين قبل غيرهم، أي أنه كان يوجِّه كلامه إلى النُّخبة الدِّينية المثقَّفة قبل غيرها من النُّخب الأخرى في المجتمع ناهيك عن بقية أبنائه لتنهض بدورها في استنفار الإصلاح بين الناس، وتمارس وظيفتها في هذا الأمر على نحو تتوحَّد فيه جهود المُصلحين وتتضافر إراداتهم لغاية واحدة، ولعل بيت الشعر الذي قرأه في تلك الخطبة يعبر عن هذا المنحى وذلك عندما قال:

والله لا يُرجى الصلاح وأمرنا

 

فوضى وشمل المُصلحين ممزَّق

 

 

لقد شمَّر الشيخ الغطاء عن سواعده، وراح ممتشقاً سيف الإصلاح في وطنه الممزَّق، وصار الفقيه المُصلح الذي يتقدَّم الرَّكب من أجل إنقاذ حال الأمة مما هي فيه؛ والتفَّ حوله رؤساء عشائر الفرات ما أعاد الصلة بين الفقيه المُصلح والأمة المنكوبة بفساد السُّلطة، وصارت العلاقة بين الفراتيين والفُقهاء مؤشراً على تلازم العلاقة بين النُّخب الفُقهائية والنُّخب العشائرية بعد أن شابها الفتور والتشكُّك المتبادل؛ ففي عام 1934 أجرت وزارة الأيوبي انتخابات برلمانية لم تكن نزيهة، كما هي العادة، وقد أثار ذلك معارضة رؤساء العشائر العراقية في الفرات الأوسط، الذين كانوا قد رشحوا للانتخابات، لكنهم لم يفوزوا بها لعدم نزاهتها. كما أن ممارسات الوزارة كانت تثير نقمة الجماهير العراقية لا سيما في المناطق الشِّيعية. وبإزاء هذه الأوضاع، قام رؤساء العشائر بعقد اجتماعات متواصلة من أجل التضامن وتوحيد الموقف المعارض لوزارة الأيوبي. وحاول رجال السياسة المحترفين أن يستغلوا الموقف العشائري المعارض، لمصالحهم الخاصة، لكن الشيخ كاشف الغطاء، استوعب الموقف وحوَّله من مجرَّد معارضة سياسية محدودة إلى معارضة شاملة من أجل الإصلاح في سياسة الحكومة العامّة تجاه الشعب المسلم. ولذلك تمَّ عقد اجتماع موسَّع دعا إليه الغطاء في منزله بالنجف الأشرف، حضره نحو مائتي رئيس من رؤساء العشائر، كان محوره ضرورة تحقيق الإصلاح السياسي في البلاد، وتمَّ كتابة بيان في هذا الخصوص لتقديمه إلى الملك وإلى رئيس مجلس النواب والأعيان[26]. ولهذا أدركت وزارة الأيوبي خطورة الموقف بعد أن تدخَّل الشيخ كاشف الغطاء ودعم موقف رؤساء العشائر، فأقدمت على خطوة مضادَّة، حيث عبَّأت رؤساء العشائر الموالين لها من أجل التصدِّي ضد العشائر المعارضة، وكان الغرض من ذلك تصعيد الموقف إلى الحدود القصوى بما في ذلك إشعال حرب داخلية بين العشائر لشغلها فيما بينها عن معارضة الحكومة. وأوشكت خطة الحكومة أن تنجح، لولا أن أصدر الشيخ الغطاء فتواه الحاسمة التي أطفأت نار الفتنة المفتعلة، وكانت الفتوى عبارة عن بيان عام نختار بعض المقاطع منه لأهميته التاريخية، ولأنه يبين طريقة تفكير الشيخ الغطاء في الإصلاح: «من البداهة بمكان أن محاربة العشائر بعضهم لبعض، واستعمال القتال والمضاربة فيما بينهم، وهو من أفظع المآثم وأعظم الجرائم وأكبر المحرمات. ومحاربة المؤمنين فيما بينهم محاربة لله ورسوله، وفساد في الأرض كبير، ومعاذ الله أن نرضى بها، ويرضى بها مسلم، ومن نسب إلينا ذلك، فقد افترى على الله واقترف إثماً كبيراً، ومن رضي بذلك فجزاؤه جهنم خالداً فيها. وقد علم كل ذي حس، أن خطتنا ومخاطباتنا لا تزال مقصورة على دعوة الناطقين بكلمة التوحيد إلى توحيد الكلمة، وجمع الشمل، ولمِّ الشَّعث، ولا نرى سلماً للسلامة، وسبباً للسعادة إلا بالاتفاق والوحدة، والتعاون والتضامن. وهذا واجب على كل واحد من أبناء الأمة، وكبار مفكريها وقادتها وزعمائها. وإن غرضي الأسمى وهدفي الأعلى الذي قد أخذ الله عليّ العهد والميثاق في القيام به والدعوة إليه، من غير توانٍ ولا فترة، هو تعزيز قضيتنا المقدَّسة والسعي في الإصلاح لتضميد بعض الجراح الذي نزف به جسم الأمة دماً زكيًّا، الإصلاح هو أقصى ما نروم، وغاية ما نحاول، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلت وإليه أنيب»[27]. لقد تمكَّن الشيخ كاشف الغطاء من استيعاب حركة المعارضة، وتوجيهها نحو مشروعه الإصلاحي، وقد أسفرت جهوده عن إسقاط الوزارة، وتشكيل وزارة أخرى. لكن الوزارة الجديدة لم تأت للاستجابة لمطالب الأمة، فاستمرت المعارضة وتصاعدت بدعم من الشيخ طاب ثراه، فسقطت بعد أسبوعين[28].

في ظل وجود وزارة ياسين الهاشمي، وبإزاء واقع سياسي فاسد من هذا النوع، كان لا بدَّ من محاولة إنقاذية ينهض بها عدد من الإصلاحيين، وهي المحاولة التي تجشَّم الشيخ الغطاء عناء تحمل مسؤوليتها، لكنها محاولة اكتسبت طابع المشروع الإصلاحي الشامل، لأن الفساد السياسي يؤدي إلى فساد مجتمعي شامل، وتلك بديهية جلية؛ فتحرَّك الغطاء في هذا الاتجاه؛ اتجاه إصلاح الحال المزري الذي صار عليه أداء الحكومة وأداء النظام السياسي الحاكم حيث طال المجتمع العراقي، خصوصاً الأغلبية منه التي نالت الحيف حتى صاحت بأعلى صوتها معلنة مرارة العيش تحت ظل سطوة القسوة المذهبية التي كرِّستها حكومة ياسين الهاشمي، ما يعني أن المشروع الإصلاحي الذي تقدَّم به الشيخ الغطاء اكتسب طابعاً واقعيًّا كونه جاء نتيجة لحاجة مجتمعية أملتها جملة أشكال تطرُّف الدولة وهي تكرِّس مذهبيتها الجهويَّة على نحو سافر. كتب الغطاء قائلاً بما يؤكِّد واقعية مشروعه الإصلاحي: بدأ التذمُّر واستياء أهل المدن والقرى والأرياف، وتواردت علينا الكتب والرسائل، شاكين فيها من سوء معاملة رجال الإدارة والموظفين من الاحتقار والسب والإهانة، والإجحاف في الضرائب، واستعمال الشِّدة في استيفائها، وسجن بعض الشباب وتعذيبهم بالضروب القاسية[29].

في هذا الوقت، وجَّه الشيخ الغطاء نقداً مزدوجاً؛ نقداً إلى المجتمع الشِّيعي من جهة، ونقداً إلى الأداء الحكومي من جهة أخرى. ففي ظل الخداع السياسي الذي لجأ إليه السياسيون العراقيون من أجل الحصول على كراسي الحكم عبر استمالة العشائر العراقية إلى جانبها، صارت الأغلبية الشِّيعية ضحية هذا الخداع عندما تمَّ منحهم الوعود من قبل أولئك السياسيين لكنها كانت وعوداً زائفة لا أكثر. ولهذا نصح الشيخ الغطاء جماهير الشِّيعة، ممثلين برؤساء العشائر في الوسط والجنوب، بضرورة عدم الانجرار وراء وعود السياسيين لأنها مجرَّد أوهام. ووجد أن هذه الحال بحاجة إلى مشروع إصلاحي يستند إلى رؤية شاملة، ولعل من ذكائه الإصلاحي أنه لم يطرح المشروع استناداً إلى مرجعية دينية ذات بُعد مذهبي فقط، كما يحلو لبعض الدّراسين تفسير ذلك، إنما ذهب إلى أكثر من ذلك عندما جعل «القانون العراقي الأساسي»[30] مرجعيته في مقايسة أداء الحكومات التي توالت على العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 حتى نشوب الأزمات الجهويَّة المتتالية بين الدولة والمجتمع في العراق.

في آذار/ مارس عام 1935، تقدَّم الشيخ الغطاء بمشروع إصلاحي إلى الملك غازي 1912 - 1939، وإلى رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، تضمَّن اثنتي عشرة مادّة جاء فيها:

المادّة الأولى: لقد تمشَّت الحكومة العراقية، منذ تأسيسها حتى اليوم، على سياسة خرقاء لا تتفق ومصالح الشَّعب، واتخذت سياسة التفرقة الطائفية أساساً للحُكم؛ فتمثَّلت أكثرية الشَّعب بوزير واحد أو وزيرين، ممَّن يسايرون السُّلطة في سياستها، على الأكثر، وعلى مثل هذا الأساس تمشَّت الحكومة في سياسة التوظيف، فظهر التحيُّز صريحاً في انتقاء الموظفين، فظهر التحيُّز صريحاً في انتقاء الموظفين وأعضاء «مجلس الأمة»، بينما «القانون الأساسي» لم يفرِّق بين أبناء البلاد، كما نصَّت «المادّة السادسة»[31] من «القانون الأساسي»؛ فلإيجاد الاستقرار والطمأنينة في نفوس الشعب، ورفع التفرقة بين أبناء الأمة، يجب أن يساهم الجميع في «مجلس الوزراء» وفي «مجلس الأمة»، وفي سائر وظائف الدولة، كما يساهم في الجندية والضرائب.

المادّة الثانية: إن طريقة الانتخابات الحاضرة، أُسيء استعمالها حتى أصبح «مجلس الأمة» لا يمثل الشَّعب تمثيلاً صحيحاً. وضماناً لدفع التلاعب من ناحية الحكومة، نرى وجوب تعديل «قانون الانتخاب» على أساس ضمان الحرية المطلقة بوضع القيود التي تمنع الحكومة من التدخُّل المباشر وغير المباشر، وأن يكون الانتخاب بدرجة واحدة، واعتبار كل «لواء» منطقة انتخابية مستقلة.

المادّة الثالثة: لمّا كانت المادّة «77» من «القانون الأساسي»[32] تنصُّ على وجوب تعيين القُضاة الشرعيين من مذهب أكثرية السُّكان، في حين أن سلطات القضاء الشرعي منحت للحكَّام من مذهب أقلية السُّكان، فنطلب تطبيق أحكام المادّة المذكورة من «القانون الأساسي»، مع لزوم تدريس أحكام «الفقه الجعفري» في «كلية الحقوق» العراقية.

المادّة الرابعة: لما كانت «محكمة التمييز العراقية» المرجع الوحيد للحفاظ على أرواح وأموال الشَّعب، وقد سبق أن مُثلَّت الطائفتان؛ المسيحية والإسرائيلية [اليهودية] والعناصر الأخرى فيها، فعليه نطلب أن يكون في كل فرع من فروع المحكمة المذكورة عضو شيعي لتطمئن النفوس بأحكام المحاكم.

المادّة الخامسة: لما كانت الصحافة لسان حال الشعب الناطق، فيجب إطلاق الحريات الكاملة للصحافة، ورفع القيود الإدارية، وحصر المسؤوليات بالمراجع القضائية، تمشياً مع روح الماد «12» من «القانون الأساسي»[33].

المادّة السادسة: لما كانت الأوقاف العامّة أوقافاًَ إسلامية خصَّصت لخدمة الشَّرع الشريف، وإعاشة المتفرِّغين لهذه الخدمة، وما يتفرَّع عنها، غير أن سياسة الحكومة اتجهت إلى نواح أخرى، وأصبحت مواردها تُصرف على تشكيلات الأوقاف الإدارية وأهملت دُور العِلم، ومساجد العبادة، فعليه يجب الإقلاع عن هذه السياسة في إدارات الأوقاف العامّة، وصرف مواردها على المؤسسات الإسلامية بصورة عامة.

المادّة السابعة: تعميم وتعديل لجان تسوية الأراضي التي يتم بواسطتها الاستقرار الزراعي. كما نطلب الإسراع في تنفيذ قانون البنك الزراعي والصناعي، وتمليك الأراضي لأربابها من غير بدل.

المادّة الثامنة: إلغاء ضريبتي الأرض والماء، واستبدال ضريبة «الكودة» على المواشي بضريبة استهلال، وعدم فرض الضريبة على الآلات الرافعة.

المادّة التاسعة: إن وظائف إدارة الدولة في تضخم مستمر بسبب عدم استقرار الملاك. وإن رواتب الموظفين في تزايد بصورة لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي، ومع مستوى المعيشة، كما أن الموظفين قد تمادوا في الاستهتار بمصالح الشعب بعدم رعاية القوانين. فيجب اتخاذ تدابير سريعة لاستبدال موظفي الدولة المعروفين بسوء السلوك والسمعة، والتخفيف من نفقات الدولة بتخفيض رواتب الموظفين الضخمة إلى الحد المعقول.

المادّة العاشرة: إن معظم مؤسسات الدولة؛ الصحية والعمرانية والتهذيبية، لم تراع في توزيعها النسبة العادلة بين أبناء الشعب، خصوصاً في المنطقة الجنوبية من العراق. كما يجب وضع الأنظمة والقوانين لمنع تفشِّي الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، وتهذيب مناهج المعارف، وجعل «الدُّروس الدِّينية» كسائر الدروس ذات درجة في الامتحان. والسعي وراء صيانة الأخلاق بمنع «البغاء».

المادّة الحادية عشر: عدم التعرُّض للأفراد بسبب الاشتراك في الحركات الوطنية الحاضرة من أبناء الشَّعب أو من الموظفين وأفراد الجيش والشرطة.

المادّة الثانية عشر: توقيف أحكام القوانين التي تعارض هذه الطلبيات، واستبدالها بما يضمن تنفيذ الطلبات المتقدمة[34].

بغض النَّظر عن النتائج التي ترتبت على هذا المشروع الإصلاحي، فإن الشيخ الغطاء أقدمَ على تجربة إصلاحية بدَّدت اليأس الذي شاب العلاقة السياسية بين الفقيه والأمة بُعيد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 حيث ضمور دور الفقيه في المجتمع، بل وعزلته عن الحياة السياسية لصالح خطاب الدولة التي أسسها المستعمِر الإنجليزي وعمّاله من تَرِكَة الدولة العثمانية المندحرة. كما أنها تجربة إصلاحية ردمت الفجوة بين المجتمع والفقيه تلك التي نشأت بعد اغتراب الفقيه عن مجتمعه، واغتراب المجتمع عن رموزه الدِّينية. وهي تجربة كشفت عن وعي سياسي ناضج ذاك الذي آثر العمل السِّلمي على العمل المسلَّح، وهو العمل الذي غالباً ما نأى الشيخ الغطاء عن اللجوء إليه على الصعيدين الفكري والميداني في كل مراحل حياته. وأخيراً إنها تجربة تكشف عن وعي سياسي نجح الشيخ الغطاء من خلاله في نقد طائفية الدولة بعيداً عن أية طائفية دينية مماثلة عندما رجع إلى «القانون الأساسي العراقي»، والى روحه المدنية ما يتعلق بتطبيق العدالة وإحقاق المساواة بين أبناء الشعب العراقي، بمعنى أنه توجه بالنقد إلى أداء الحكومات التي توالت على السلطة في البلاد، وإلى افتراقه عن الدستور العراقي، وتبع نقده بمشروع إصلاحي وهو ما يعبِّر عن واقعية رؤيته الإصلاحية بقدر ما يعبِّر عن تاريخية توجُّهاته الإصلاحية التي تضمنها الميثاق الذي تقدَّم به إلى الملك غازي.

 

 

 

 



[1] كاتب وأستاذ جامعي من العراق rasmad8@hotmail.com

[2] عن مفهوم «المثقَّف الدِّيني» اُنظر كتابنا: رسول محمد رسول:  تكوين المثقَّفين في المجتمع العربي. سيصدر عام  2008 عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة - الإمارات.

[3] النحل/ 125.

[4]  فصلت/ 34.

[5]  هود/ 113.

[6] محمَّد حسين كاشف الغطاء: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون، ص 62 وما بعدها، دار الوعي الإسلامي، ط 5 بيروت - لبنان 1980.

[7] محمَّد حسين كاشف الغطاء: ترجمة الإمام كاشف الغطاء بقلمه، النَّجف 1952، منشورة ضمن كتاب (محمَّد الحسين كاشف الغطاء: العبقات العنبرية في الطبقات العنبرية)، ص14 وما بعدها، تحقيق جودت القزويني، بيروت 1988.

[8] محمَّد حسين كاشف الغطاء: ترجمة الإمام كاشف الغطاء بقلمه، النَّجف 1952، منشورة ضمن كتاب (محمَّد الحسين كاشف الغطاء: العبقات العنبرية في الطبقات العنبرية)، ص 16 وما بعدها، تحقيق جودت القزويني، بيروت 1988.

[9] محمَّد حسين كاشف الغطاء: عقود من حياتي (مذكرات)، ص 387، أورد جزءاً من نصِّها الأستاذ كامل سلمان الجبوري: النَّجف الأشرف وحركة الجهاد، دار المرتضى، بيروت 2002.

[10] محمَّد حسين كاشف الغطاء: عقود من حياتي (مذكرات)، ص 387، أورد بعض من نصِّها كامل سلمان الجبوري: النَّجف الأشرف وحركة الجهاد، دار المرتضى، بيروت 2002.

[11] سليم الحسني: دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار، ص 125، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، إيران 1994.

[12] سليم الحسني: المصدر السابق نفسه، ص 125.

[13] محمَّد حسين كاشف الغطاء: عقود من حياتي، المصدر السابق نفسه، ص 388.

[14] الغطاء: المصدر السابق نفسه، ص 388.

[15] أوردها علي محمَّد دخيِّل: نجفيات، ص 261، مؤسسة المعارف للمطبوعات، ط 5، 2000 بيروت.

[16] الغطاء: المصدر السابق نفسه، ص 392.

[17] حول نقد الشيخ الغطاء للوهّابيَّة انظر كتابنا: الوهّابيون والعراق، ص 181 وما بعدها، رياض الريس للكتب والنشر، 2005.

[18] الغطاء: الخطب الأربع، خطبة الاتحاد والاقتصاد، الكوفة، مطبعة الراعي، النجف 1935.

[19] الغطاء: الخطب الأربع، خطبة النجف. موقع: (www.kashifalgetaa.com).

[20] الغطاء: الخطب الأربع، المصدر السابق نفسه.

[21] الغطاء: الخطب الأربع، المصدر السابق نفسه.

[22] الأنعام/ 48.

[23] الأنعام/ 48.

[24] هود/ 117.

[25] الغطاء: الخطب الأربع، المصدر السابق نفسه.

[26] عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، الجزء الرابع، ص52.

[27] الحسني: المصدر السابق نفسه، ص55.

[28] الحسني: المصدر السابق نفسه. وانظر أيضاً: حسن بركة الشامي: المرجعية الدِّينية من الذات إلى المؤسسة، ص 329 وما بعدها، مؤسسة الإسلام، لندن 1998.

[29] عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية، ج 4، ص 208.

[30] هذا هو اسم أول دستور يصدر في العراق الحديث إبان إعلان تأسيس الدولة العراقية عام 1921. صدر في بغداد بتاريخ 21/ 3/ 1925.

[31] جاء في المادّة «6» من القانون الأساسي العراقي: «لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية والدِّين واللغة». يجدر القول هنا إن الملك فيصل الأول (ت 18/ 9/ 1933) كان قد كتب مذكَّرة ودفعها للمناقشة إلى عدد من وزرائه ومستشاريه في الحكم ومنهم: جعفر العسكري، وياسين الهاشمي، وناجي شوكت، ونوري السعيد، وناجي السويدي. وكان هؤلاء رموز نظام الحكم الملكي، دعا فيها الملك إلى الاهتمام بالمسألة الشيعية على نحو إصلاحي شامل، وقدَّم رؤاه في هذا الجانب، لكن رموز النظام آنذاك لا يبدو أنهم أخذوا مقترحات وتوصيات الملك على محمل الجد. ورد نص المقترحات في وثيقة نشرها عبد الرحمن البزّاز: العراق: من الاحتلال حتى الاستقلال، ص 311 وما بعدها، مطبعة العاني بغداد 1967.

[32] جاء في المادّة «77» من القانون الأساسي العراقي: «يجري القضاء في المحاكم الشَّرعية وفقاً للأحكام الشَّرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية بموجب أحكام قانون خاص، ويكون القاضي من مذهب أكثرية السُّكان في المحل الذي يُعيَّن له، مع بقاء القاضيين السُّنيين والجعفريين في مدينتي بغداد والبصرة».

[33] جاء في المادّة «12» من القانون الأساسي العراقي: «للعراقيين حرية إبداء الرأي، والنشر، والاجتماع، وتأليف الجمعيات، والانضمام إليها، ضمن حدود القانون».

[34] عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية، ج 4، ص 92 وما بعدها، ط 7، دار الحرية للطباعة، بغداد 1988.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة