شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
ﷺ المقدمة
«نحن مثل كثير من بحارة المجاذيف، نقضي أعمارنا ونحن نجذف باتجاه وعيوننا معلقة إلى الوراء باتجاه مغاير»، هذه الجملة البليغة تصور حال العلم والثقافة في السعودية بكل دقة، وتشرح سبب الجمود الذي أصاب الحركة السلفية؛ فقد ظلت نظرة ابن تيمية الحراني (661- 728هـ/ 1263- 1328م) إلى كثير من المسائل، والفلسفة واحدة منها، هي الحَكَمُ عند السلفيين على شتى توجهاتهم، ولم تتعرض مواقف ابن تيمية للدراسة والتمحيص، بل بقيت أسيرة التقليد من الأتباع، وصار غايةُ مطلب هؤلاء القوم أن يفهموا كلام ابن تيمية على وجهه، فضلاً عن النظر في صحة هذا الكلام أو ما وراءه، وصارَ أقصى فعل بعضهم، وكدت أقول غالبهم، الاكتفاءَ بنقل كلام ابن تيمية دون تكلُّفِ فهمٍ له أو دراسة، مما أدى إلى جمود الفكر، وضعفِ حال كثير من المنتسبين إليه وخريجي معاهده ومدارسه وجامعاته، ولو أخذنا «الفلسفة» مثالاً، فانظر إلى موقف ابن تيمية ودراسته لها، وقارنه أول ما تقارنه بموقف تلميذه ابن القيم، في كتابه «إغاثة اللهفان»[2] فيتبين لك صدق كلامي.
تتجاوز أهمية هذا البحث مجرد كونه عرضاً لموقف ابن تيمية من الفلسفة إلى توضيح آثار هذا الموقف على الواقع العلمي والثقافي في السعودية، فبسبب هذا الموقف توجد في السعودية قرابة عشر جامعات وعشرات الكليات لا تحوي بين جنباتها قسماً واحداً لدراسة الفلسفة، واعتماداً على نظرة ابن تيمية إلى الفلسفة التي تراها كفراً وضلالاً لم تتجرأ أي جامعة سعودية على فتح قسم للفلسفة في أيٍ من كلياتها، ولا على تدريس مواد فلسفية، وإن مرَّ ذكر الفلسفة عَرَضاً فينبغي وصفها بالكفر والضلال، والتأكيد على أن تحكيم العقل هو طريق الهلاك.
ولم يقتصر هذا الموقف على المواقف الدينية البسيطة بل تجاوزتها إلى الدراسات المتلبسة بقشرة أكاديمية، وسأوضح قولي هذا عن طريق عرض ثلاث دراسات يجمع بينها أنها مكتوبة من قبل ثلاثة من «الأكاديميين» ينتمون بشكلٍ من الأشكال إلى جامعة واحدة من جامعات السعودية، بل إلى كلية واحدة وقسم واحد، وهي: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، وهذه الدراسات هي:
* موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها[3]، إعداد: الدكتور صالح بن غرم الله الغامدي، وهي رسالة دكتوراه نال بها درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من كلية أصول الدين، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، حيث يذكر أن من أسباب اختياره للموضوع «أن من يسمون بفلاسفة الإسلام قد أدخلوا على الأمة شرًّا عظيماً، بما انتحلوه من أفكار فلسفية ضالة، عملوا جهدهم في تقريبها من دين الإسلام؛ لكي تُقبل في أوساط المسلمين، وقد ابتلينا في هذا الزمان بمن يبرر هذه الأفكار الفلسفية من بعض المنتسبين إلى الإسلام والمستشرقين وغيرهم، على أنها تمثل فكر الإسلام الحقيقي ومنهجه الواقعي»[4]، أما نتائج بحثه الأكاديمي! فكان منها: «كان لشيخ الإسلام -رحمه الله- اطلاع واسع على كتب الفلسفة، ومعرفة دقيقة بآراء الفلاسفة متقدميهم والمتأخرين، حتى أن خصومه منهم، ومن غيرهم، قد اعترفوا له بذلك، فصاروا يرجعون إليه في بيان دقائق مذاهبهم، وكشف خفايا أقوال أئمتهم»[5]، ويقول: «أرسطو لم يسلك مسالك الأساطين من الفلاسفة المتقدمين: كتاليس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، فإن هؤلاء كانوا يقولون بحدوث العالم، ويثبتون معاد الأبدان، وكانوا يثبتون الصفات والأمور الاختيارية للباري عز وجل. أما أرسطو فكان مشركاً، يعبد الأوثان، وهو أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم، وسبب هذا الفرق بينه وبينهم هو أن أولئك المتقدمين كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم، ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بآثار الأنبياء ما عند سلفه، والفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام إنما نقلوا فلسفة أرسطو، وبآرائه تأثروا، فإنه كان معلمهم الأول»[6]. هذا بعض ما جاء في هذه الرسالة التي نال بها صاحبها درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى.
* الآثار العقدية للوثنية اليونانية[7]، تأليف: الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل، وهو دكتور في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، وقد طبعت هذا الكتاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد ذكر من نتائج بحثه هذا، أن من آثار الوثنية اليونانية في بلاد المسلمين «ما جلبه علينا المغرضون من بذر الخلاف بين المسلمين، وإحداث البدع والضلالة فيهم حتى وجد بين أهل الإسلام بدعٌ كفرية، تمثلت في كثير من الفرق والمقالات والمناهج كالفلسفة، والباطنية، والجهمية، والرافضة، وغلاة التصوف، وفروع كل منها»[8]، وكذلك «ما نراه ونسمع به من آثار القوم مما يسمى بالدورة الأولمبية دورة الألعاب الأولمبية، والتي هي امتداد لأعياد الوثنيين ومناسباتهم الدينية، وأيضاً الثعبان الملتوي على كأس والذي أضحى علماً على الصيدليات، وربما المستشفيات الصغيرة والكبيرة»[9]، وأيضاً: «يجب التنبيه والتحذير من السفر إلى تلك البلاد، لأنه ما زالت باقية معالم تلك الأمة الوثنية، في معابدها وملاعبها وتماثيل آلهتها ومساكنها ومواطن أعيادها، كما أن المتأخرين منهم قد اعتنوا بذلك وعدوه تراثاً وآثاراً مهمة لهم فحفظوها في متاحفهم وأماكن خاصة، ليرتادها الناس لا سيما السياح منهم -حيث بلاد اليونان من أكبر مراكز الاستقطاب السياحي في العالم-»[10].
* حقيقة الحضارة الإسلامية[11]، تأليف: ناصر بن حمد الفهد، وقد كتب المؤلف بحثه هذا وهو معيد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، في كلية أصول الدين، وقد كفَّر واتهم بالزيغ والضلال كل فلاسفة الإسلام والمشتغلين منهم بعلوم الكيمياء والفلك ونحوها، وذكر أن هذا البحث إنما هو «جواب عمن جعل حضارة الإسلام هي النبوغ في علوم الفلاسفة والملاحدة وجعلها هي تشييد المباني وزخرفة المساجد، وجعل علماء الإسلام هم الملاحدة كابن سينا والفارابي ونحوهم»، ويقول عن علم الفلسفة أنه: «منبع الضلالة، ومنجم الباطل، وقد عشَّش به الشيطان وضرب فيه قبابه، حرَّمه جميع المحققين من العلماء، ومن أدمن النظر فيه لم يسلم من الإلحاد، ودين أهل هذا العلم هو الكفر بالله».
هذه نماذج من آثار موقف ابن تيمية من الفلسفة ونظرته إليها، ولا يتوقف هذا التأثر على جامعة الإمام بل يتعداها إلى جميع الجهات التعليمية في السعودية[12]، ومع هذا التأثير الكبير لابن تيمية إلا أنه لم تظهر حتى الآن (في السعودية) أي دراسة علمية محايدة تدرس موقف ابن تيمية من الفلسفة.
وقد حاولت في هذا البحث المختصر دراسة بعض المسائل المتعلقة بموقف ابن تيمية من الفلسفة، فمن ذلك:
* واقع الفلسفة في العصر الذي ظهر فيه ابن تيمية،
* والأسباب التي دعت ابن تيمية إلى الاهتمام بالفلسفة،
* وأصالة ابن تيمية في اطلاعه على تراث الفلاسفة، ودراسة مسائلهم،
* ومدى تأثير الفلسفة في ابن تيمية،
* مع عرض لموقف ابن تيمية من أهم التيارات الفلسفية، وأهم الفلاسفة.
وقد اخترتُ أن يكون هذا البحث «مدخلاً» إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة، وإلا فالموضوع كبير جدًّا ويحتاج إلى دراسات كثيرة معمقة وتفصيلية، تناقش مدى فهم ابن تيمية للمسائل الفلسفية التي تعرض لمناقشتها، وكذلك مدى دقته في عزوه للمسائل والأقوال إلى أصحابها، ودراسة أثر بعض كبار المفكرين من الفلاسفة والمتكلمين في ابن تيمية، كالغزالي، وفخر الدين الرازي، وأبي البركات البغدادي، وشهاب الدين السهروردي، وابن رشد وغيرهم.
وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات، التي سيكون لها الأثر الكبير ليس في الفكر السلفي فقط، بل وفي الفكر الإسلامي بصورة عامة.
ﷺ مختصرات أسماء كتب ابن تيمية الواردة في البحث
بغية المرتاد= بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد، تحقيق: موسى الدويش، ط مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية 1415هـ.
الدرء= درء تعارض العقل والنقل، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى 1399هـ.
الفرقان= الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، دون تحقيق، ط مكتبة ابن تيمية.
مجموع الفتاوى= مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، د.ت.
منهاج السنة= منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية 1409هـ.
ﷺ واقع الفلسفة في عصر ابن تيمية
«من عرف ذاته تألّه» هذه الجملة التي قالها أفلاطون كانت منحوتة على مدقّة باب مجمع التعليم الصابئي في حران، عندما زاره المسعودي المؤرخ؛ حيث قرأها له مالك بن عقبون الصابئي[13].
وحران ذات تراث فلسفي عريق، فقد كانت مكان كرسي التعليم للأفلاطونية المحدثة، التي عُرف أتباعها بعد ذلك باسم «الصابئة»، حيث انتقل كرسي التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية في عهد عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي، ثم استقر في حران في عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله، إلا أن موقع المدينة الفلسفي بدأ بالضعف بدءاً من عهد الخليفة المعتضد مع هجرة الفلاسفة الصابئين مثل «ثابت بن قرة» إلى بغداد[14].
في هذه المدينة ذات التراث الفلسفي القديم ولد ابن تيمية سنة 661، لكن لم تبقَ في ذاكرته عنها إلا ذكرى فظيعة عندما وضعه أهله في الليل في عربة متهالكة مع كتب أبيه النفيسة هرباً من التتار، وتوجهوا إلى دمشق سنة 666.
ولم يحمل في تلك العربة أي كتاب فلسفي، بل كانت مليئة بنفائس الكتب في الفقه الحنبلي والحديث، فمع أن عائلة آل تيمية من العائلات العلمية العريقة إلا أن عنايتها كانت متوجهة إلى الفقه والحديث، ولم تكن لها أي عناية بالكلاميات والعقليات، عدا ما أخبرنا به ابن تيمية من أن أباه وجَدَّه كانا متقنين لعلم الجبر والمقابلة[15].
وفي دمشق:
طلب الفتى النابه ابن تيمية العلم، وواظب على حضور مجالس الحديث والفقه والتفسير، ولم تذكر كتب التراجم أنه قرأ الفلسفة أو العلوم العقلية على أي شيخ، بل لا نجد في شيوخه، وهم كثير، من كان ذا معرفة بالفلسفة والعقليات.
فكيف كان وضع الفلسفة في الشام ومصر والعراق في عصر ابن تيمية؟
لم تخرج الشام فيلسوفاً كبيراً، مع أنه دخلها جمع من الفلاسفة، لا سيما متفلسفة الصوفية، أما في عصر ابن تيمية ما بين عامي 651 - 750 فلا نكاد نجد فيلسوفاً كبيراً سواءً في مصر أو الشام أو العراق إلا ما ندر بل إننا نعجب من قلة المشتغلين بالعقليات من فلسفة ومنطق وطبيعيات في ذلك العصر، وقد جردتُ جملة من الكتب التي أرَّختْ لتلك الفترة، وبحثت عن كل مَنْ قيل عنه إنه فيلسوف أو منطقي، فلم أجد إلا عدداً قليلاً سأذكرهم هنا.
أما الفلاسفة المهمون الذين كانوا في عصر ابن تيمية؛ فهم:
1- نصير الدين الطوسي
أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسن الطوسي، الفيلسوف الكبير، والفلكي المشهور، كان إسماعيليًّا وبنى مرصداً في قلعة ألموت، وبعد استيلاء هولاكو عليها صار من حاشيته، وانتقل إلى مذهب الإمامية، ولا أدري هل كان انتقاله تقية أم عن قناعة.
وتوفي في ذي الحجة سنة 672، وقد نيَّف على الثمانين[16].
وقد أقنع هولاكو سنة 657 فبنى له مرصداً في مدينة مراغة «ونقل إليه شيئاً كثيراً من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دارَ حكمة ورتَّب فيها فلاسفة، ورتَّب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم، ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهمان، ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم، ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم»[17].
وأكثر ابن تيمية من الرد عليه في كتبه، مثل «درء التعارض» و«الصفدية» و«منهاج السنة»، واطَّلع من كتبه على كتاب «شرح إشارات ابن سينا». وقد عاصر ابن تيمية جماعة من تلاميذ الطوسي، وجرى له جدال مع أحدهم وهو:
الحسين بن يوسف بن المطهر الشيعي، المتكلم الإمامي، وكان له اشتغال بالعلوم العقلية، وكتب كتاباً لملك المغول يدعوه فيه إلى التشيّع سماه: «منهاج الكرامة في إثبات الإمامة»، وتوفي سنة 726 [18].
وقد ردَّ عليه ابن تيمية بكتابه المشهور «منهاج السنة النبوية»، وذكر الصفدي أن ابن تيمية كان يسمي ابن المطهر «ابن المنجس»[19].
ومن تلاميذ الطوسي غير ابن المطهر:
- الحسن بن شرفشاه الحسيني، من كبار تلاميذ الطوسي، وقد جعله الطوسي رئيس أصحابه بمراغة، إلا أنهم لم يحكوا عنه اشتغاله بالفلسفة بل بالفقه، توفي سنة 715 [20].
- عبد الله بن محمد بن الخوام العراقي الشافعي، كان ماهراً في الطب والحساب والمعقولات، إلا أن اشتغاله كان في الطب والحساب فقط[21].
- عبد الرزاق بن أحمد الشيباني، الحنبلي المؤرخ المتكلم، من تلاميذ الطوسي، وباشر كتب خزانة الرصد بمراغة، وتوفي سنة 723 [22].
- محمود بن مسعود، قطب الدين الشيرازي، كان فقيهاً شافعيًّا، من تلاميذ الطوسي، إلا أنه في المعتقد كان على دين العجائز، توفي سنة 710 [23].
فالطوسي هو الشخصية المهمة ذات التأثير الفلسفي، في ذلك الوقت، والملاحظ أن تلاميذه كانوا من شتى المذاهب والفرق الإسلامية.
أما الشخصية الثانية، فكانت:
2- ابن سبعين:
قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم الإشبيلي، ولد سنة 613، وتوفي منتحراً في مكة سنة 668 [24].
وبالغ ابن تيمية في الرد عليه، لا سيما في كتابه الذي سمي «السبعينية» نسبة إلى ابن سبعين هذا، وهو مطبوع باسم «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد»، وسأذكر بعض ما قاله ابن تيمية عنه فيما سيأتي من هذا البحث.
ومن تلاميذه الذين أدركهم ابن تيمية:
- ابن هود: بدر الدين حسن بن علي المغربي الأندلسي، ثم الدمشقي، اشتغل بالطب والحكمة، و«عنده من علوم الأوائل فنون»، وكان يشرح لليهود في دمشق كتاب «دلالة الحائرين» لموسى بن ميمون اليهودي، مات سنة 699 [25].
وقد رآه ابن تيمية[26]، وردَّ عليه في بعض كتبه، كما سيأتي.
- السيوفي: محمد بن عبد الرحمن، صاحب ابن سبعين، مات سنة 734 [27].
أما الشخصية الثالثة؛ فكانت:
3- العفيف التلمساني:
عفيف الدين سليمان بن علي بن عبد الله بن علي، ذكروا أن ابن سبعين كان جده من جهة الأم، توفي في رجب سنة 690، وله ثمانون سنة[28].
وقد أكثر ابن تيمية من الرد عليه، وسماه في بعض كتبه «الفاجر» كما سيأتي في هذا البحث.
أما الشخصية الرابعة؛ فكانت:
4- الصدر القونوي:
محمد بن إسحاق بن محمد القونوي الرومي، ثم الدمشقي، من تلاميذ ابن عربي، وقد تزوج ابن عربي أمه ورباه، توفي سنة 673 [29].
وقد كفَّره ابن تيمية، وأكثر من الرد عليه؛ كما سيأتي.
والشخصية الخامسة:
5- مولانا جلال الدين الرومي:
محمد بن محمد بن الحسين القونوي الرومي، المعروف بجلال الدين، صاحب (المثنوي)، وصاحب الطريقة المولوية، من القائلين بوحدة الوجود، توفي سنة 672 [30].
ولم أجد أي كلام لابن تيمية عليه، ولا على كتابه «المثنوي»، ولا على طريقته الصوفية، أو على طريقته المشهورة في السماع والرقص.
هذه أهم الشخصيات الفلسفية التي كانت في عصر ابن تيمية، وإذا استقرأنا كتب التراجم لذلك العصر؛ فإننا نجد جماعة «قليلة» اشتغلوا بالفلسفة، أو بالمنطق، ونستطيع أن نقسمهم إلى مجموعات:
فمنهم: من يشتغل بالفلسفة وهم شيعة في المذهب:
- العز الضرير، حسن بن محمد بن أحمد الإربلي، كان شيعيًّا بصيراً بالعربية، رأساً في العقليات، مات سنة 660 [31].
- نجم الدين أحمد بن محسِّن بن ملي الشافعي، كان فاضلاً في الأصول والطب والفلسفة، متَّهماً بالتشيع والطعن في الصحابة، مات سنة 699 [32].
- عبد القادر بن مهذب الأدفوي، فيلسوف يعتقد نبوة محمد، ومقبل على قراءة كتاب «الدعائم» للقاضي النعمان، توفي سنة 752 [33].
- محمد بن أسعد التستري، شيعي كان فقيهاً فائقاً في المنطق والحكمة، مات سنة بضع وثلاثين وسبعمائة[34].
ومنهم: من كان من علماء الكلام، وله عناية بالمنطق، ولبعضهم معرفة بالفلسفة، لكنهم متكلمون وليسوا فلاسفة:
- شمس الدين الخسرو شاهي، أبو محمد عبد الحميد بن عيسى التبريزي الشافعي، متكلم، من تلاميذ الرازي، تقدم في علم الأصول، وتفنن في علوم متعددة منها الفلسفة، ومن مؤلفاته: «مختصر الشفاء» لابن سينا، مات سنة 652 [35].
- شمس الدين الأصفهاني، أبو عبد الله محمد بن محمود العجلي الشافعي، له «الفوائد في العلوم الأربعة» الأصلين والخلاف والمنطق، و«غاية المطلب» في المنطق، مات سنة 688 [36].
وكان يدرس «الشفاء» لابن سينا[37].
وله عقيدة مختصرة شرحها ابن تيمية، وانتقد مواضع كثيرة منها، وشرحه مطبوع باسم: «شرح العقيدة الأصفهانية».
- علاء الدين الباجي، أبو الحسن علي بن محمد بن خطاب المصري الشافعي، المتكلم الأشعري، كان إماماً في المنطق، مات سنة 714 [38].
- إبراهيم بن سليمان المنطقي، كان إماماً في المنطق، مات سنة 732 [39].
ومنهم: من لا ينتسب إلى إحدى الطائفتين السابقتين، وهم قليل، مثل:
- ابن النفيس، علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي الشافعي، الطبيب المشهور، وله تصانيف في المنطق، توفي سنة 678 [40].
- حسن بن محمد بن محمد، له اشتغال بكلام الفارابي وابن سينا، توفي سنة 732 [41].
- عثمان بن علي الطائي، ابن خطيب جبرين، كان يدرس في كل فن حتى الطب والحكمة، مات سنة 738 [42].
- ابن الأكفاني، محمد بن إبراهيم بن ساعد السنجاري الأصل ثم المصري، أتقن الحكمة والرياضة والطب والروحانيات، توفي سنة 749 [43].
- أحمد بن عبد الله الأزدي، من متفلسفة الصوفية، مات سنة 730 تقريباً[44].
ويمكن تتبع بعض الإشارات إلى وجود جماعة من الدارسين للفلسفة، والمعظمين للفلاسفة، فابن تيمية في مقدمة كتابه «الرد على المنطقيين» يقول: «لما كنت بالإسكندرية [سنة 709 محبوساً في القلعة] اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل»[45].
ويقول الأدفوي المتوفى سنة 748، في أبيات يشرح فيها الحالة العلمية في مصر، في عصره[46]:
إنَّ الدروسَ بمصرِنا في عصرنا |
طُبِعَتْ على لَغَطٍ وفرط عياطِ |
ومباحثٍ لا تنتهي لنهايةٍ |
جدلاً، ونقلٍ ظاهرِ الأغلاطِ |
ومدرسٍ يبدي مباحثَ كلَّها |
نشأت عن التخليطِ والأخلاطِ |
ومحدثٍ قد صار غايةُ علمهِ |
أجزاءَ يرويها عن الدمياطي |
وفلانةً تروي حديثاً عالياً |
وفلانَ يروي ذاكَ عن أسباطِ |
والفرقَ بين عزيزهم وغريبهم |
وأفصحْ عن الخياطِ والحناطِ |
والفاضلُ النحرير فيهم دأبه |
قول أرسطاليس أو بقراطِ |
وعلومُ دينِ الله نادت جهرةً |
هذا أوانٌ فيه طيُّ بساطي |
ولَّى زماني وانقضت أوقاتهُ |
وذهابه من جملة الأشراط |
وبعد هذا العرض لمجموعة من المشتغلين بالفلسفة والمنطق في ذلك العصر؛ يمكن أنْ نخرج ببعض الملحوظات:
الملحوظة الأولى: قلة المشتغلين بالفلسفة في ذلك الزمن مقارنة بما سبقه من عصور، ولعل مرجع ذلك هو الموقف السني المتشدد الرافض للفلسفة، لا سيما بعد ارتباطها بالمذاهب الشيعية الباطنية[47].
الملحوظة الثانية: أن غالب المشتغلين بالفلسفة في ذلك العصر هم إما من الشيعة، أو من المتكلمين الذين لهم عناية بالمنطق، وببعض المباحث الفلسفية، أو من متفلسفة الصوفية الذين يقرب مذهبهم من مذاهب الباطنية.
فالفلسفة ارتبطت بالمذاهب الباطنية الشيعية[48] حتى أن الإسماعيلية كان يطلق عليهم لقب «الفلاسفة» أو الملاحدة.
أما المتكلمون: فإن الفلسفة دخلت إلى الأشاعرة منهم عن طريق بوابتي «المنطق» و«الإلهيات»، فالغزالي هو من أول من أدخل المنطق إلى علم الكلام، وإلى أصول الفقه، أما فخر الدين الرازي فهو من أوائل المتكلمين الذين اعتنوا بكتب الفلاسفة[49]، وشرحوها، لا سيما «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا، لذا فالملاحظ على المعتنين بالفلسفة من المتكلمين في ذلك العصر هو اقتصارهم على «المنطق» وعلى كتب ابن سينا فقط.
فالرازي شرح كتب الفلاسفة واختصرها (ابن سينا على وجه الخصوص) وكتب في مباحثها لكن منطلقه كان كلاميًّا ولم يكن فلسفيًّا، وفي المقابل كان نصير الدين الطوسي (الذي يعد في طبقة تلاميذ الرازي أو تلاميذ تلاميذه) الذي شرح كتب المتكلمين واختصرها لكن من منطلق فلسفي.
ﷺ تأريخ اعتناء ابن تيمية بكتب الفلسفة
نشأ ابن تيمية نشأة علمية حنبلية سلفية، فقد اعتنى بسماع الحديث، وبدروس التفسير، والفقه، ولم نجد له أي دراسة أو اعتناء بكتب الفلسفة والمنطق، إلا أن دخوله في صراعات كثيرة مع المتكلمين، والشيعة لا سيما الباطنية منهم، وغلاة الصوفية؛ قاده إلى البحث عن جذور مقالاتهم عند الفلاسفة، والتفتيش عن عضد «عقلي» يستعين به على إثبات العقائد «السلفية»، وقد وجد ابن تيمية بعض ضالته في كتب «فلاسفة الإسلام» مما سأفصله في آخر هذا البحث.
ولو حاولنا تحديد هذا التاريخ بدقة؛ فإننا قد نجد أنه كان بعد سنة 710، واستمر هذا الاعتناء إلى وفاة ابن تيمية في السجن.
ومما يدل على صحة هذا الرأي أن أهم كتب ابن تيمية التي حوت مناقشاته للفلاسفة، أو إيراده لأقوالهم، كتبت بعد سنة 710 تقريباً، مثل: «درء تعارض العقل والنقل»، و«منهاج السنة النبوية»، و«الصفدية»، و«الرد على المنطقيين»، و«السبعينية»[50].
وفي النصيحة الذهبية، المنسوبة للذهبي، نص يفيدنا كثيراً في هذا الأمر، إذ يقول الذهبي مخاطباً ابن تيمية: «فإلى كم ننبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن والله في البدن»[51].
ويقول فيها: «أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل»[52].
فهذا يدل على تأخر قراءة ابن تيمية لهذه الكتب، فالعقد السابع من عمر ابن تيمية كان بعد سنة 720 إلى وفاته سنة 728 عن 68 سنة.
وقد عوّض ابن تيمية تأخر قراءته للفلسفة، وعدم أخذه لها عن طريق دراستها على علمائها؛ بالاطلاع على بعض تراث «الإسلاميين» في الفلسفة سواء كانوا مشائين، أو إشراقيين، أو صوفية، أو من أتباع المدارس الفلسفية المختلفة، بل نجده قد اطلع على تراث غير المسلمين مثل ابن كمونة وموسى بن ميمون، وكذلك ما كتبه المتكلمون في الفلسفة ونقدها أو في شرح كتبها، وهذا الاطلاع الواسع عوّض تأخر ابن تيمية في دراستها؛ إلا أنه سبَّب لمعلوماته بعض الارتباك.
دخل ابن تيمية في خصومة وصراع مع ثلاث طوائف: المتكلمين، والمتصوفين، والشيعة؛ وكان بحاجة إلى سلاح «عقلي» يرد به عليهم، فلجأ إلى قراءة الفلسفة ليستخدم آلياتها في دحض حجج خصومه المتفلسفين، ولا نكاد نجد قبل ابن تيمية في الكتب السلفية أي دليل عقلي يستخدمه السلفيون لتأييد مذاهب السلف أو الرد على مخالفيهم؛ فقد كان لهم موقف معروف ومشتهر من الفلسفة والكلام، بل حتى من المنطق ذاته، وأراد ابن تيمية أن يبين لهذه الفرق أن أصولها التي استندت إليها في حججها هي «الفلسفة»، وأن هذه الفلسفة مخالفة لما ذهب إليه «أساطين الفلاسفة»؛ فتكون هذه الفرق مخالفة للعقل وللنقل معاً.
وفي الوقت ذاته أراد توضيح أن مذهب السلف، وهو مذهب نقلي، موافق للعقل الصحيح، وذلك ترسيخاً لقاعدته المشهورة أن «العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح».
لذا فعناية ابن تيمية بالفلسفة لم تكن مقصودة لذاتها؛ بل كان الغرض منها الرد على خصومه من المتكلمين، والصوفية، والشيعة سواء كانوا باطنية أو اثني عشرية.
فابن تيمية لم يدخل عالم الفلسفة دارساً محايداً أو متعلماً، بل دخله مخاصماً مجادلاً، حيث درس الفلسفة دراسة «نفعية»، فنجده قد بنى دراسته للفلسفة على «التلفيق» ففي أي مسألة يريد أن يرد على خصومه فيها يبحث عن أي قول لأي فيلسوف يرد على هذا القول؛ سواء كان الفيلسوف مشائيًّا أو إشراقيًّا أو غير ذلك، وفي المسألة التي يقول بها يبحث ابن تيمية عن أي قول لأي فيلسوف يؤيدها مهما كان مذهبه.
وهناك سبب آخر يفسر اعتناء ابن تيمية بالفلسفة والرد على الباطنية ومتفلسفة الصوفية، وهو سبب سياسي؛ حيث يتهم ابن تيمية هذه الطوائف بالتعاون مع «الكفار» من الصليبيين والتتار ضد المسلمين، ويرجع ابن تيمية هذا إلى أصول مذهبهم حيث لا يفرقون بين دين وآخر[53].
ﷺ حكم الفلسفة عند ابن تيمية
ابن تيمية خصم لدود للفلاسفة جميعاً، وقد أكثر من التصنيف في الرد عليهم، فمن ذلك:
درء تعارض العقل والنقل، ومنهاج السنة النبوية، والصفدية، والسبعينية، والرد على المنطقيين، ونقض المنطق، وغيرها كثير.
أما حكم ابن تيمية في الفلاسفة فإنهم كفار عنده، وهو يرى أنَّ «كفار اليهود والنصارى أشرف علماً وعملاً منهم من وجوه كثيرة، والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل؛ فضلاً عن درجتهم قبل ذلك»[54].
والفلاسفة عند ابن تيمية أعظم ضلالاً وجهلاً من «المجوس ومشركي العرب والهند والترك وكثير من الصابئين»[55].
ويرى ابن تيمية أن الفلاسفة يفسدون عقائد الناس؛ لذا فإنهم يظهرون في الدول التي تناسب حالهم، حيث يقول: «فإنَّ هؤلاء أفسدوا على الناس عقولهم وأديانهم، وهم يكثرون ويظهرون فيما يناسبهم من الدول الجاهلية، كدولة القرامطة الباطنية العبيدية، ودولة التتر، ونحوهم من أهل الجهل والضلال، وفي دول أهل الردة والنفاق»[56].
ويجدر أن نشير إلى أن ابن تيمية لم يشمل بقدحه جميع مباحث الفلسفة، بل اقتصر على مبحث «الإلهيات» أما الطبيعيات والرياضيات فهو يعترف بأن غالب كلامهم فيها جيد، فنجده يقول عن أرسطو وأتباعه بأن «لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم يقصدون الحق، ولا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا القليل»[57].
وعاب ابن تيمية على المتكلمين ردهم بعض الحق الذي جاء به الفلاسفة في باب الطبيعيات والرياضيات، حيث يقول: «والخطأ فيما تقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية؛ فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب مَنْ ردَّ عليهم من أهل الكلام؛ فإن أكثر كلام أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع»[58].
وضرب ابن تيمية على ذلك مثالاً وهو «إنكار كثير منهم لكثير من الأمور الرياضية كاستدارة الفلك، وغير ذلك مما دلَّ عليه الكتاب والسنة وآثار السلف مع دلالة العقل»[59].
وهذا الموقف من ابن تيمية يذكرنا بموقف الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» حيث ذكر الغزالي أنه قصر رده على الفلاسفة في خطأهم في الإلهيات دون الطبيعيات والرياضيات، لأن مذهبهم فيها لا يصدم أصلاً من أصول الدين، ولأن هذه الأمور تقوم على براهين هندسية وحسابية[60].
إلا أنَّ ابن تيمية يستدرك على موقفه هذا، ويبين أنه يقدح فيما يزعم الفلاسفة أنه برهان يفيد اليقين في الطبيعيات، وهو ليس برهاناً بل لا يعدو كونه من أمور العادات؛ فيقول: «ونحن لم نقدح فيما عُلمَ من الأمور الطبيعية والرياضية، لكن ذكرنا أن ما يدَّعونه من البرهان الذي يفيد علوماً يقينية كلية بالأمور الطبيعية: ليس كما يدعونه، بل غالب الطبيعيات إنما هي عاداتٌ تقبل التغير، ولها شروط وموانع»[61].
هذا موقف ابن تيمية إجمالاً من الفلسفة، فهو يراها معارضة لدين الأنبياء؛ أما موقفه بالتفصيل، فذلك وفق الآتي:
1- الفلاسفة قبل أرسطو.
2- أرسطو وأتباعه.
3- متفلسفة الصوفية.
4- الباطنية.
5-المنطق.
لكني سأعرض، قبل ذلك، لرأيه في مسألة مهمة، شغلت الفكر الإسلامي، وهي مسألة:
ﷺ التوفيق بين الدين والفلسفة
مع تسرب النظريات والآراء الفلسفية إلى المسلمين؛ ظهرت محاولات كثيرة مختلفة الأهداف والأساليب للتوفيق بين الدين والفلسفة، أو القول بأن الفلسفة لا تخالف حقائق الدين، وممن أسهم في هذا المجال من فلاسفة الإسلام: الكندي، وإخوان الصفا، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد.
وقد انتقد ابن تيمية هذه المحاولات بشدة، لا سيما محاولات إخوان الصفا، وابن سينا، وابن رشد.
ويرى ابن تيمية أنَّ من فهم كلام الأنبياء وكلام الفلاسفة تبين له أن الكلامين متناقضان قطعاً، وعلم بطلان هذه المحاولات[62].
وقد اتهم ابن تيمية الذين حاولوا الجمع بين الدين والفلسفة بمخالفة الدين، وصحيح الفلسفة؛ حيث يقول عن ابن سينا وأمثاله: إنهم «أرادوا أنْ يجمعوا بين قول سلفهم وبين ما جاءت به الرسل مع دلالة العقول عليه؛ فلم يمكنهم ذلك إلا بما خالفوا به الرسول مع مخالفة المعقول، مع مخالفة سلفهم فيما أصابوا فيه، وموافقتهم فيما أخطؤوا فيه، وكان كفراً في الملل، ومع تناقضهم، ومخالفة جميع العقلاء»[63].
ولذا نجد ابن تيمية يعترض على لفظة «فلاسفة الإسلام» ويستعمل ألفاظاً أخرى مثل: «الفلاسفة الذين كانوا في الإسلام» و«الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام».
وقال: «وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته، أعني الفيلسوف الذي في الإسلام؛ وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام. فقال: ليس للإسلام فلاسفة»[64].
ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن تيمية يرى أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح. وهنا يمكن أن نوجه بعض الأسئلة إلى ابن تيمية: هل عدم التعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح يرجع إلى كونهما شيئاً واحداً؟ أم لكونهما متماثلين ويدلان على حقيقة واحدة؟
وإذا كانا غير متناقضين فلمَ يعارض ابن تيمية محاولات التوفيق بين الفلسفة والشريعة؟ أيعني هذا أن الفلسفة عند ابن تيمية ليست من ضمن (العقل الصريح)[65]؟ وما ضوابط هذا العقل الصريح؟
ومع ذلك نجده يتهم الذين حاولوا الجمع بين الشريعة والفلسفة بأنهم خالفوا الشريعة والعقل وما أصاب فيه الفلاسفة.
ومما سبق يظهر أن ابن تيمية تارة يرى أن الشريعة والفلسفة متناقضان قطعاً، وتارة يحمِّل مسؤولية الغلط على الذين حاولوا الجمع بينهما فخالفوا الشريعة والعقل وصحيح الفلسفة.
وفي الجملة: ألا يرى ابن تيمية أن قوله: (النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح) نوع من الجمع بين الحكمة والشريعة؟
أم أنه يرى المسألة وفق التالي: إذا ثبتت القضية بالنقل الصحيح فما وافقها فهو العقل الصريح، وما خالفها من العقل فإنه غير صريح؟
وهذه الرؤية الأخيرة هي التي تظهر في كتابات ابن تيمية، ومعنى هذا أن العقل الصريح لا يدل على صحته إلا النقل الصحيح، الذي يستقل بإثبات نفسه.
ووجدت في كلام أحد تلاميذ ابن تيمية ما يؤيد هذا الرأي، فهو يقول عن شيخه: «إنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد بالعقليات الصحيحة التي توافق ذلك وبغيرها، ويجتهد على دفع كل ما يعارض ذلك من شبه المعقولات»[66].
1- الفلاسفة قبل أرسطو
يثني ابن تيمية على الفلاسفة القدماء الذين كانوا قبل أرسطو؛ مثل سقراط وطاليس، حيث يقول: «إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين، وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئاً، ويؤمنون بأن الله مُحدِث لهذا العالم، ويُقرِّون بمعاد الأبدان؛ فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم.
ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم، كما كان المشركون من العرب تقر بحدوثه، وكذلك المشركون من الهند، وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء المشركين هو أرسطو»[67].
ويذكر أن الفلاسفة الأساطين القدماء «كانوا يقولون بحدوث هذا العالم، وكانوا يقولون: إن فوق هذا العالم عالماً آخر يصفونه ببعض ما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم)، به الجنة، وكانوا يثبتون معاد الأبدان، كما يوجد هذا في كلام سقراط وتاليس وغيرهما من أساطين الفلاسفة، وقد ذكروا أن أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو»[68].
ويقول أيضاً: «ولهذا كان أساطين الفلاسفة القدماء وكثير من المتأخرين منهم على خلاف قول هؤلاء النفاة، وكانوا أقرب إلى موافقة الأنبياء وأتباع الأنبياء من هؤلاء النفاة من المتفلسفة والجهمية والمتكلمة، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع»[69].
ويقول: «وقد ذكروا أن أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط وأفلاطن قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان»[70].
فقدماء الفلاسفة قبل أرسطو، كما يرى ابن تيمية، كانوا:
* يوحدون الله، عز وجل= لم يكن الفلاسفة قبل أرسطو موحدين، بل كانوا يعبدون الآلهة المعروفة في بلادهم في ذلك الوقت، أما سقراط فقد اُتُّهم بأنه يريد إحلال آلهة جديدة بدل الآلهة الموجودة في أثينا، كما اُتُّهم بالإلحاد؛ لكنه صرح أمام لجنة المحاكمة ببطلان هذا الاتهام واعترف بعبادة آلهة المدينة مثل الشمس والقمر وهيرا[71].
* يثبتون معاد الأبدان= لا يمكن نسبة مذهب واحد حول البعث إلى فلاسفة اليونان، فمثلاً فيثاغورس كان يؤمن بالتناسخ.
* يثبتون خلق العالم= لم يناقش الفلاسفة قبل أرسطو مسألة قدم العالم، ولا يمكن أن يُنسب إليهم فيها قول (عدا أفلاطون)، إلا أن بعض الباحثين يرى أن إرجاع الفلاسفة القدماء أصول الأشياء إلى الماء أو الهواء أو النار أو التراب يعني قدم هذه المادة التي ترجع إليها جميع المواد[72].
* يثبتون عالماً فوق هذا العالم يصفونه ببعض ما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) به الجنة= واضح أن هذه صورة مشوهة وساذجة عن نظرية «المُثُل» التي قال بها أفلاطون.
* أنهم تعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان.
* وأنهم من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم.
وسبب هذه المعرفة المشوهة هو أن ابن تيمية لم يطّلع على النصوص الأصلية للفلاسفة اليونانيين، سواءً بلغتها الأصلية (لعدم معرفته باليونانية)[73] ولا على النصوص المترجمة لفلاسفة اليونان.
وواضح أن ابن تيمية اعتمد على مصادر غير دقيقة في حكايته لمقالات فلاسفة اليونان؛ إلا أن الطريف في الموضوع هو اعتماده على مصادر تعظّم الفلاسفة القدماء، وتحاول شرعنة «الفلسفة» عن طريق ربط إسناد الفلاسفة بأنبياء بني إسرائيل وحكمائهم المعترف بهم في الإسلام[74]، وذكر ابن تيمية في بعض المواضع أنه اعتمد في ذلك على محمد بن يوسف العامري[75].
وهنا سؤال مشروع، وهو: هل كان ابن تيمية ضحية هذه النظرة التمجيدية للفلاسفة القدماء، أم أنه كان واعياً إلى عدم صحتها إلا أنه أراد «توظيفها» للغض من فلسفة أرسطو وأتباعه؟
أما مصادر ابن تيمية في عرضه لمقالات الفلاسفة القدماء؛ فقد أشار إلى بعضها في قوله: «وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات (مقالات غير الإسلاميين) عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما، وكذلك القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب (الدقائق) الذي ردَّ فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان، وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا أنواعاً من المقالات وردوها»[76].
2- أرسطو وأتباعه
ذكر ابن تيمية، في نصٍّ له طويل، جماعة من أتباع أرسطو، من الإسلاميين ومن اليونانيين؛ حيث يقول: «مذهب الفلاسفة الذي نصره الفارابي وابن سينا وأمثالهما، كالسهروردي المقتول على الزندقة، وكأبي بكر بن الصائغ، وابن رشد الحفيد؛ هو مذهب المشائين أتباع أرسطو صاحب المنطق، وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب (مقاصد الفلاسفة)، وعليه ردَّ في (التهافت)، وهو الذي يذكره الرازي في (الملخص) و(المباحث المشرقية)، ويذكره الآمدي في (دقائق الحقائق) و(رموز الكنوز) وغير ذلك.
وعلى طريقتهم مشى أبو البركات صاحب (المعتبر)، لكنه لم يقلدهم تقليد غيره، بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله. وكذلك الرازي والآمدي يعترضان عليهم في كثير مما يذكرونه بحسب ما يسنح لهم، وابن سينا أيضاً قد يخالف الأولين في بعض ما ذكروه، ولهذا ذكر في كتابه المسمى بـ(الشفاء) أن الحق الذي ثبت عنده ذكره في (الحكمة المشرقية)، والسهروردي ذكر ما ثبت عنده في (حكمة الإشراق)، والرازي في (المباحث المشرقية).
وأتباع أرسطو من الأولين أشهرهم ثلاثة: برقلس، والإسكندر الأفروديسي، وثامسيطوس صاحب الشروح والترجمة، وإذا قال الرازي في كتبه: اتفقت الفلاسفة. فهم هؤلاء»[77].
أما تقويم ابن تيمية لفلسفة أرسطو وأتباعه؛ فقد ذكر أنه «ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع وغيرهم أجهل من هؤلاء، ولا أبعد عن العلم بالله، تعالى، منهم.
نعم؛ لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم قد يقصدون الحق ولا يظهر عليهم العناد.
لكنهم جهالٌ بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ»[78].
وقارن ابن تيمية بين مذاهب بعض الفلاسفة المشائين في الإلهيات، حيث يقول: «ولا ريب أن الفلاسفة أتباع أرسطو يقل جهلهم ويعظم علمهم؛ بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم، فكل من كان بالنبوات أعلم وإليها أقرب؛ كان عقله ونظره أصح.
ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة، ويوجد لأبي البركات صاحب (المعتبر) من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا، وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات»[79].
وابن تيمية يكفر أتباع أرسطو من «الإسلاميين» لمقالات كثيرة يقولون بها، ومن أهمها:
- قدم العالم
يرى ابن تيمية أن أرسطو هو أول من قال بقدم العالم، وأن هذا القول كفر في جميع الأديان[80].
وينسب ابن تيمية هذا القول إلى أرسطو وأتباعه مثل: ثامسطيوس، والإسكندر الإفريدوسي، وبرقلس، والفارابي، وابن سينا، وأمثالهم[81].
ولو سلَّمنا لابن تيمية صحة فهمه لمذهب ابن سينا وابن رشد، فلا يمكن التسليم له بهذا التعميم، فقد غفل عن رأي الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين»[82] حيث يثبت فيه خلق العالم، وكذلك لم يشرْ إلى أن الكندي أثبت خلق العالم من لا شيء في رسائل مختلفة له[83].
- النبوة[84]
فابن تيمية يذكر أن خصائص النبوة عند الفلاسفة هي:
أ) أن تكون للنبي قوة قدسية، وهي قوة الحدس، بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره إلا بكلفة شديدة.
ب) قوة التخييل والحس والباطن بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه؛ فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صوراً نورانية هي الملائكة عندهم، ويسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله عندهم.
ج) أن تكون له قوة نفسانية تمكنه من التصرف في هيولى العالم، كما يستطيع العائن أن يؤثر في المحسود.
ويرى أن هذا القول في تفسير النبوة «باطل، بل هو كفر يستتاب قائله، ويبيَّن له الحق؛ فإن أصرَّ على اعتقاده بعد قيام الحجة الشرعية عليه كفر، وإذا أصر على إظهاره بعد الاستتابة قُتل»[85].
- العلم بالجزئيات
من المسائل التي يُكفِّر ابن تيمية بها الفلاسفة هي نفيهم علم الله بالجزئيات، قال ابن تيمية: «ثم من بلاياهم وكفرياتهم أنهم قالوا: إن الباري تعالى لا يعلم الجزئيات، ولا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما، ولا شيئاً من تفاصيل الحوادث»[86].
- المعاد
ينقل ابن تيمية عن الفلاسفة أنهم «لا يقرّون بمعاد الأبدان، ولهم في معاد النفوس ثلاثة أقوال، والثلاثة تُذكر عن الفارابي نفسه أنه كان يقول تارة هذا، وتارة هذا، وتارة هذا، منهم من يقر بمعاد الأنفس مطلقاً، ومنهم من يقول: إنما تعاد النفوس العالمة دون الجاهلة؛ فإن العالمة تبقى بالعلم، فإن العلوم [كذا] تبقى ببقاء معلومها، والجاهلة التي ليس لها معلوم باقٍ تفسد، وهذا قول طائفة من أعيانهم، ولهم فيه مصنفات، ومنهم من ينكر معاد الأنفس كما ينكر معاد الأبدان، وهو قول طوائف منهم، وكثير منهم يقول بالتناسخ»[87].
وما نسبه ابن تيمية إلى الفارابي هو المذكور في كتبه مثل: «آراء أهل المدينة الفاضلة»، إلا أن ابن تيمية أخطأ عليه إذ نسب له القول بنفي المعاد مطلقاً؛ فكتب الفارابي الموجودة عندنا ليس فيها شيء من ذلك. ولابن سينا قولان: الأول: إثبات الحشر النفساني، وإنكار الجسماني، كما في رسالته «الأضحوية»[88]. والثاني: إثبات الحشر للأجسام والنفوس، كما في كتابه «النجاة»[89]، وفي «رسالة في دفع الغم من الموت»[90].
وكذلك الكندي يثبت حشر الأجساد[91].
وابن تيمية لم يشر إلى هذه الأقوال عند فلاسفة الإسلام، بل عمم القول بأنهم ينكرون بعث الأجساد[92].
هذه بعض المسائل التي يُكفِّر ابن تيمية الفلاسفة بها، ولقد هاجم ابن تيمية عقيدة الفلاسفة، في باب التوحيد، واتهمهم بالشرك، وأنهم إذا ادَّعوا التوحيد فإنهم لا يعملون به، وأنهم لا يؤمنون بالرسل، وينكرون البعث، أو بعث الأجساد على الأقل، وأنهم لا يعرفون ما تحصل به السعادة والنجاة في الآخرة...[93].
وفيما يلي موقف ابن تيمية من أشخاص بعض الفلاسفة المشائين:
وأبدأ بموقفه من شيخهم..
أرسطو:
حيث يرى ابن تيمية أنه أول من قال بقدم العالم، ولما تكلم عن الفلاسفة قال: «فإن القوم لا يعرفون الله، بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير، وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية، لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا، وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدًّا، وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد فلا يعرفون ذلك ألبته، ولم يتكلموا فيه لا بنفي ولا إثبات، وإنما تكلم في ذلك متأخروهم الداخلون في الملل»[94].
وقال أيضاً: «وأرسطو كان وزير الإسكندر بن فليبس المقدوني، نسبة إلى مقدونية، وهي جزيرة هؤلاء الفلاسفة اليونانيين الذين يسمون المشائين، وهي اليوم خراب، أو غمرها الماء»[95].
وابن تيمية يكشف هنا معرفة ناقصة بالتاريخ والجغرافيا؛ فأرسطو كان أحد معلمي الإسكندر، ولم يكن وزيراً له، وهو يجعل مقدونية هي اليونان، ويزعم أنها خراب أو غمرها الماء، وهذا فهم مدخول.
ويقول: «وأما أئمتكم البارعون، كأرسطو وذويه، فغايته أنْ يكون مشركاً سحاراً، وزيراً لملك مشرك سحار، كالإسكندر بن فيلبس»[96].
ولا أدري من أين له أن أرسطو والإسكندر كانا ساحرين؟
وذهب بعض الباحثين إلى أن ابن تيمية اطَّلع مباشرة على كتب أرسطو، إلا أنه لا يمكن إثبات ذلك وفق المعلومات المتوافرة لدينا؛ فابن تيمية يشير أحياناً إلى أنه لا «يظن» أن أرسطو يقول كذا وكذا[97]، أو ينقل قوله بواسطة كتب الملل والنحل[98].
أما إحالة ابن تيمية في بعض كتبه على كتاب أرسطو «ما بعد الطبيعة»[99]، فإنني أرجح أن ابن تيمية لم يطَّلع على هذا الكتاب مباشرة، بل اطلع عليه عن طريق كتاب «تلخيص ما أتى به أرسطو فيما بعد الطبيعة» لثابت بن قرة، الذي لخَّص كلام أرسطو وانتقده في مواضع، ونقل ابن تيمية عن هذا الكتاب نصوصاً طويلة[100].
وقد اعتمد ابن تيمية أيضاً على نقل ابن ملكا عن هذا الكتاب؛ حيث قال عن أرسطو: «وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه (ما بعد الطبيعة) وقد ذكره بألفاظه أبو البركات صاحب (المعتبر) وغيره»[101].
وعلى هذا فيمكننا الجزم بأن ابن تيمية لم يطلع مباشرة على كتب أرسطو، أو غيره من فلاسفة اليونان.
ابن سينا:
أكثر ابن تيمية من الكلام عن ابن سينا، وأكثر من نقد آرائه؛ وربما يعود هذا إلى اطلاعه على كثير من كتبه، فمن ذلك قوله: «ابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم؛ فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض،...والمقصود هنا أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك... وابن سينا لما عرف شيئاً من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة؛ أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات؛ بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطق، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك، وإلا فأرسطو وأتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود، ولا شيء من الأحكام التي لواجب الوجود، وإنما يذكرون (العلة الأولى) ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به.
فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض؛ فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده»[102].
ابن رشد:
أكثر ابن تيمية من النقل عن كتب ابن رشد، بل يكاد يكون نقلها كاملة في كتبه، ويرى ابن تيمية أن ابن رشد: «من أتبع الناس لمقالات المشائين؛ أرسطو وأتباعه، ومن أكثر الناس عناية بها، وموافقة لها، وبياناً لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها»[103].
ويرى أنه يعتقد أقوال الفلاسفة الباطنية، لا سيما المشائين أتباع أرسطو، ويرى أيضاً أن قول ابن رشد في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة، من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم؛ إنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة[104]. ويراه ابن تيمية مفرطاً في تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل، وغير عارفٍ بحقيقة مذهبهم[105].
ومع هذا فابن رشد عنده من أقرب الفلاسفة إلى الإسلام[106].
ابن ملكا
وقد أكثر ابن تيمية من النقل عن كتابه «المعتبر في الحكمة» وأثنى عليه؛ حيث وصفه بأنه لا يقلد الفلاسفة تقليد غيره، بل يعتبر كلامهم[107]، وأنه إمام في الفلسفة[108]، ومن حذَّاق أئمة أهل المنطق[109].
الطوسي
يرى ابن تيمية أن الطوسي ملحد[110]، بل من رؤوس الملاحدة[111]، وأنه لم ينفق عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين[112].
السهروردي
وقد وضعه ابن تيمية في النص الذي سبق نقله مع الفلاسفة المشائين، وقد نبه إلى اختلافه عنهم، فهو يقول مثلاً: «السهروردي الحلبي المقتول: كلامه في الباطن يأخذه من مادة الفلاسفة الصابئين والمجوس، وبهذه المعاني يتميز عن غيره من الفلاسفة المشائية، ولهذا يعظم الأنوار»[113].
فالسهروردي هو المؤسس لفلسفة الإشراق، وقد قُتل بتهمة الزندقة، لذا فالأولى أن يُعدَّ مع فلاسفة الصوفية، ويقول ابن تيمية عنه: «المقتول على الزندقة صاحب (التلويحات) و(الألواح) و(حكمة الإشراق) وكان في فلسفته مستمداً من الروم الصابئين والفرس والمجوس»[114].
وقال: «السهروردي المقتول سلك النظر والتأله جميعاً، لكن هذا صابئ محض، فيلسوف لا يأخذ من النبوة إلا ما وافق فلسفته»[115].
والملاحظ على نقد ابن تيمية للفلاسفة المشائين اعتماده على التلفيق، فهو يلفق ردوده من ردود الغزالي والشهرستاني عليهم، ومن ردود المتكلمين كالرازي والأرموي وغيره، لا سيما في كتبهم الفلسفية أو شروحهم لكتب ابن سينا، ومن ردود بعضهم على بعض، ولذا فردوده تكاد تخلو من الأصالة، وتقتصر على «الترجيح» بين المختلفين، وقد أشار إلى هذا المعنى المستشرق الفرنسي هنري لاووست بقوله عن ابن تيمية: «والحقيقة أن نقده للفلسفة لم يكن على قدر كبير من الأصالة؛ إذ انحصر جهده في ترديد انتقادات الشهرستاني والغزالي للفلسفة»[116].
ولعل السبب في هذا هو أن دراسة ابن تيمية للفلسفة لم تكن دراسة مقصودة لذاتها؛ بل كانت دراسة هدفها الحجاج مع المخالفين.
3- فلاسفة الصوفية:
والمراد بهم القائلون بوحدة الوجود؛ فابن تيمية يرى أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة، ثم أخرجوها في قالب المكاشفة[117]، ويقول: إنهم لم يأخذوا مذهبهم هذا من كلام العلماء والشيوخ المشهورين عند الأمة الذين لهم لسان صدق، ولكن هؤلاء أخذوا مذهب الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله[118].
وابن تيمية يُكفِّر هؤلاء المتفلسفة من الصوفية، لمقالات يقولون بها، منها:
- وحدة الوجود:
أما مصدر الصوفية في هذا القول؛ فابن تيمية يرجعه إلى بعض الفلاسفة القدماء قبل أرسطو، وأن أرسطو ردَّ عليهم[119].
إلا أننا نجد ابن تيمية يضيف مصدراًً آخر، ففي موضع آخر يجعل أصل قولهم بوحدة الوجود هو قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم[120].
- تفضيل الولي على النبي.
- أن أصحاب النار يتنعمون فيها:
قال ابن تيمية عن فلاسفة الصوفية: «ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة؛ أما الإيمان بالله: فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهذا غاية التعطيل. وأما الإيمان باليوم الآخر: فادعى ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، وأنه يسمى عذاباً من عذوبة طعمه... وأما الإيمان بالرسل: فقد ادعوا أن خاتمَ الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وهذا مناقض للعقل والدين»[121].
وبالنسبة لمسألة تفضيل الولي على النبي؛ ففي كلام ابن عربي ما يبين أنه يريد خلاف ما نقله عنه ابن تيمية، حيث يقول: «إذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع؛ فمن حيث هو ولي وعارف، ولهذا مقامه من حيث هو عالم وولي أكمل وأتم من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع، فإذا سمعتَ أحداً من أهل الله يقول، أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة؛ فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول؛ فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو الرسول (عليه السلام) من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له، فافهم»[122].
فابن عربي يبيِّن أن قول الصوفية بتفضيل الولي على النبي، يريدون به أن النبي من حيث كونه وليًّا لله أفضل من حيث كونه نبيًّا له، ولا يريدون أن الولي (من غير الأنبياء) يكون أفضل من النبي، كما فهم ابن تيمية[123].
ومن المسائل التي كفَّر ابن تيمية بها فلاسفة الصوفية، قولهم:
- وحدة الأديان:
قال ابن تيمية: «كان ابن سبعين والتلمساني وغيرهم يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين، ويقولون لمن يختص بهم من النصارى واليهود: إذا عرفتم التحقيق لم يضركم بقاؤكم على ملتكم. بل يقولون مثل هذا للمشركين عباد الأوثان... وهذا كان من آثار مذهب الذين يدَّعون التحقيق، ويجعلون المتحقق الذي يسوِّغ التدين بدين المسلمين واليهود والنصارى والمشركين هو أفضل الخلق، وبعده عندهم على ما ذكره ابن سبعين وإخوانه هو الصوفي، يعنون المتصوف على طريقة الفلاسفة، ليس هو الصوفي الذي على مذهب أهل الحديث والكتاب والسنة»[124].
وعرض ابن تيمية لنقد بعض فلاسفة الصوفية، فمنهم:
ابن عربي
يكفر ابن تيمية ابن عربي، إلا أنه يراه أقرب متفلسفة الصوفية إلى الإسلام لما في كلامه من الكلام الجيد الشيء الكثير، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى، والله أعلم بما مات عليه[125].
ابن سبعين
وابن تيمية يكفره، وأكثر من الرد عليه، وبيَّن أصوله التي استقى منها فلسفته، حيث يقول: «وأما ابن سبعين: فأصل مادته من كلام صاحب الإرشاد وإنْ أظهر تنقصه ونحوه من الكلام، ومن كلام ابن رشد الحفيد، ويبالغ في تعظيم ابن الصائغ الشهير بابن باجة، وذويه في الفلسفة، وسلك طريقة الشوذية في التحقيق، وأخذ من كلام ابن عربي، وسلك طريقاً في تحقيقهم مغايراً لطريق غيره، وإنْ كان مشاركاً لهم في الأكثر، وهما وأمثالهما يستمدان كثيراً مما سلكه أبو حامد في التصوف المخلوط بالفلسفة، ولعل هذا من أقوى الأسباب في سلوكهم هذا الطريق»[126].
وعقد ابن تيمية مقارنة بين ابن عربي وابن سبعين، حيث يرى ابن تيمية أنهما أقل الناس معرفة بالكتاب والسنة وآثار السلف، إلا أنه يرى أن ابن عربي أعلم بالحديث والتصوف من ابن سبعين، وأظهر للإسلام منه، وأن ابن سبعين أحذق في الفلسفة من ابن عربي[127].
القونوي
يرى ابن تيمية أن القونوي أكفر من ابن عربي «وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ، [وأدخل في النظر والكلام من ابن عربي]، ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان [كذا] أكفر»[128].
وعقد ابن تيمية مقارنة بين القونوي والنصير الطوسي، فبعد أن ذكر أنهما متفقان على الضلال والكفر؛ قال: «النصير أقرب [إلى الإسلام] من حيث اعترافه بالرب الصانع المتميز عن الخلق، لكنه أكفر من جهة بعده عن النبوة والشرائع والعبادات، وأن الصدر أقرب من جهة تعظيمه للعبادات والنبوات والتأله على طريقة النصارى، لكنه أكفر من حيث إن معبوده لا حقيقة له، وإنما يعبد الوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الخارج، ولهذا كان الصدر أكفر قولاً، وأقل كفراً في عمله، والنصير أكفر عملاً، وأقل كفراً في قوله، وكلاهما كافر في قوله وعمله، ولهذا يظهر للعقلاء من عموم المسلمين من كلام الصدر أنه إفك وزور وغرور، مخالف لما جاء به الرسول، كما يظهر من أفعال النصير أنه مروق وإعراض عما جاء به الرسول، ولهذا: كان النصير أقرب إلى العلماء لأن في كلامه ما هو حق، كما أن الصدر أقرب إلى العبَّاد لأن في فعاله ما هو عبادة»[129].
التلمساني
التلمساني معروف بلقب العفيف، وسماه ابن تيمية الفاجر التلمساني، حيث يرى أنه أخبث القوم وأعمقهم في الكفر[130]، ومع ذلك يرى ابن تيمية أنه أحذق متأخريهم[131].
وعقد ابن تيمية مقارنة بين ابن عربي والقونوي والتلمساني، فهو يرى أن القونوي أتم تحقيقاً من ابن عربي، وأن التلمساني أتم تحقيقاً من القونوي[132].
وذكر ابن تيمية أن مذهب هؤلاء الاتحادية مركب من ثلاثة مواد: «سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية: وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة... ومن الزندقة الفلسفية، التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان وما في ذلك من حق وباطل.
فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم، والتلمساني أعظمهم تحقيقاً لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر»[133].
ابن هود
قال ابن تيمية: «وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهداً ومعرفة ورياضة»[134].
وذكر ابن تيمية أن ابن هود كان يتكلم على الأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد، وأن الرابع المنتظر أعظم من هؤلاء ويرجو أن يكون هو الرابع، أو يصرح بذلك[135].
3- الباطنية
يرى ابن تيمية أن الباطنية من المتفلسفة المنتسبين إلى الإسلام[136]، ويرى أن أصل دينهم مأخوذ من دين المجوس والصابئين (أي الفلاسفة)[137]، وأنهم يتظاهرون بالتشيع وهم في الأصل ملاحدة[138].
وكما سبق، فابن تيمية يعد الباطنية أصلاً لأقوال متفلسفة الصوفية، ويرى أن أقوال ملاحدة الصوفية ترجع إلى قول هؤلاء[139].
ويرجح ابن تيمية أن سبب دخول ابن سينا في مذهب الفلاسفة هو كون أهل بيته من أتباع الباطنية[140].
أما حكم ابن تيمية في مذهب هؤلاء الفلاسفة من الباطنية؛ فهو عنده أشد في الكفر من مذاهب الفلاسفة مثل ابن سينا والفارابي[141].
ومع أن ابن تيمية اطلع على تراث بعض فلاسفة الباطنية، كالكرماني، والسجستاني، إلا أنه لم يبد رأياً خاصًّا في أي منهما، وكان نقده منصباً على تلك الموسوعة الكبيرة وهي: «رسائل إخوان الصفا»، وبغض النظر عما يحيط بهذه الرسائل من إشكالات كثيرة؛ إلا أن ابن تيمية يجعلهم من الإسماعيلية، ويجعل كتابهم أصل مذهب القرامطة الفلاسفة[142]، ويرى ابن تيمية أن رسائل إخوان الصفا كان لها تأثير كبير في أوساط الصوفية والفلاسفة القائلين بالفيض، وأنها كنت العمدة لهؤلاء[143]، أما تاريخ كتابتها فيقول ابن تيمية أنها كتبت في الوقت الذي بنيت فيه القاهرة خلال المائة الرابعة من الهجرة[144].
وعقد ابن تيمية مقارنة تكشف أوجه الشبه بين الشيعة والباطنية والاتحادية من الصوفية؛ فيقول: «لهذا تجد بين الرافضة والقرامطة والاتحادية اقتران واشتباه يجمعهم أمور: منها الطعن في خيار هذه الأمة، وفيما عليه أهل السنة والجماعة، وفيما استقر من أصول الملة وقواعد الدين، ويدعون باطناً امتازوا به واختصوا به عمن سواهم، ثم هم مع ذلك متلاعنون متباغضون مختلفون كما رأيت وسمعت من ذلك ما لا يحصى»[145].
4- المنطق
موقف ابن تيمية من المنطق هو أكثر الجوانب استحواذاً على دراسات الباحثين، لذا فإني لا أجد حاجة إلى الإطالة في هذا الجانب، لا سيما بعد دراسات كثير من الباحثين من السنة والشيعة في هذا الجانب، كدراسة محمد حسن الزين «منطق ابن تيمية» وهي في قرابة 600 صفحة، ودراسات علي سامي النشار، وسأحاول هنا تلخيص رأيه في المنطق، مع بيان ارتباط نقده للمنطق بنقده للفلسفة عموماً.
يقول ابن تيمية: «كنت دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد، ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه»[146].
وقد لخَّص ابن تيمية نقده للمنطق في أربع مقامات:
الأول: إبطال قولهم أن التصور لا يُنال إلا بالحد.
الثاني: إبطال قولهم أن الحد يفيد التصور.
الثالث: إبطال قولهم أن التصديق لا يُنال إلا بالقياس.
الرابع: إبطال قولهم أن القياس يفيد التصديق[147].
ودراسة ابن تيمية للمنطق ونقده له غير مقصودين لذاتهما، بل درس ابن تيمية المنطق ونقده ليرد على المتكلمين، الذي يكثرون من الاحتجاج به، ولهذا يقول: «ولم يكن ذلك [أي إبطال المنطق] من همتي، لأن همتي كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات، وتبين لي أن كثيراً مما ذكروه في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات»[148].
ﷺ أثر الفلسفة في ابن تيمية
لا يمكن لأي شخص أن يتعمق في دراسة مذهب فكري أو فلسفي دون أن يتأثر به من حيث يشعر أو لا يشعر، ولا بد أن يستفيد من دراسته تلك.
فما الذي استفاده ابن تيمية من الفلسفة، وما الذي أخذ منها؟
هذا جانب مهم من جوانب ابن تيمية الفكرية؛ أغفله الدارسون، فلا نكاد نجد من دراسات في هذا الجانب إلا دراسة عبد المجيد الصغير «مواقف رشدية عند ابن تيمية»، وبعض الإشارات عند باحثين وعلماء آخرين، مثل الشيخ محمد زاهد الكوثري، ود. محمد علي أبو ريان.
ولا يمكن لمثل هذه الورقة أن تحيط (من حيث الكم أو الكيف) بما أخذ ابن تيمية من الفلاسفة، إلا أنني سأكتفي بالإشارة إلى بعض الجوانب:
1- ينقل ابن تيمية كلام الفلاسفة ليردَّ به على المتكلمين، كما في رد ابن رشد على الغزالي[149].
2- ويرد ابن تيمية على المتكلمين، لا سيما المتأخرون منهم ببيان أن أصول مناهجهم في الاستدلال مأخوذة من مناهج الفلاسفة وأقوالهم، كما قال في إحدى المسائل: «هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوه من ابن سينا»[150].
3- يرى ابن تيمية أن تأويلات المتكلمين وابتداعهم هي التي مهدت الطريق للفلاسفة وتأويلاتهم، فيحتج بهذا على إبطال تأويلات المتكلمين، ومن ذلك قوله عن التأويل: «ولهذا كان هذا الأصل الفاسد مستلزماً للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه؛ فمن طرده أدَّاه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد.
ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنت الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل مناقض معارض لدين جميع الرسل، صلوات الله عليهم وسلامه.
وقد رأيت كتاباً لبعض أئمة الباطنية سماه: «الأقاليد الملكوتية» سلك فيه هذا السبيل، وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل»[151].
4- واستفاد ابن تيمية من رد بعض الفلاسفة على بعض؛ فاستفاد من ردود ابن رشد على ابن سينا، وردود السهروردي على كثير من الفلاسفة، وردود ابن ملكا على الفلاسفة، وردود ابن سبعين على غيره.
فابن تيمية يأخذ من كلام الراد ليبطل به كلام المردود عليه؛ هذا في المسائل التي يكون الراد موافقاً لا بن تيمية فيها، أي أن ابن تيمية عندما يريد الرد على قول لأحد الفلاسفة يأخذ أي رد على هذا القول لأي فيلسوف آخر.
5- أما من ناحية الاستفادة المباشرة؛ فقد استفاد ابن تيمية من كثير من الفلاسفة، ومنهم:
- ابن ملكا:
وهو أعظم الفلاسفة تأثيراً في ابن تيمية، ونجد تأثيره الكبير في استعانة ابن تيمية بكلامه في الرد على المتكلمين، في مسألة «حلول الحوادث» أو «قيام الأفعال الاختيارية بالله»، ومسألة «العلم الإلهي».
وقد استفاد منه أيضًا في نقده للمنطق، في مسألة نقد «فكرة الحد عند أرسطو»[152]، كما استفاد منه في مسألة «الأقيسة الشرطية»[153].
وقال الدكتور محمد علي أبو ريان: «ومن الغريب أنه قد نتج مذهب أبي البركات تياران متعارضان قد لا يتصلان عن كثب بحقيقة موقفه الفلسفي بقدر ارتباطهما بالظروف والملابسات التي صاحبت ظهوره، فهو أولاً قد هجر معتقده اليهودي وارتضى الإسلام ديناً، وهو أيضاً قد انتقد ابن سينا وعمل على هدم مذهبه الفلسفي بقطع النظر عن كونه صاحب مذهب فلسفي جديد يستحق بأن يكون موضع نقد للفقهاء المعارضين للنظر الفلسفي على وجه العموم.
وأول الموقفين المتعارضين هو موقف الفقيه الحنبلي ابن تيمية، الذي دافع عن أبي البركات دون فهم دقيق لحقيقة مذهبه في الخلق والألوهية، وقد يكون في اقتراب المذهب ظاهريًّا من الموقف العام للأشاعرة ما يفسر لنا هذا القبول المتسرع من جانب رجال الدين، هذا بالإضافة إلى ما قد يكون لمثله من مكانة خاصة عند فقهاء المسلمين حيث إنه انقلب من اليهودية إلى الإسلام عن طريق البحث والنظر، لا تقليداً للآباء والمشيخة»[154].
- ابن رشد:
وقد استفاد منه ابن تيمية كثيراً؛ لا سيما في رده على ابن سينا، وفي رده على المتكلمين؛ وبخاصة إبطال قاعدتهم في «قياس الغائب على الشاهد»، وكذلك في إبطال استدلالهم على وجود الله، عز وجل، بدليل حدوث الأعراض، وغير ذلك كثير من المسائل.
والفلاسفة الذين استفاد منهم ابن تيمية كثير، تحتاج دراستهم إلى وقت طويل، ومكان ليس هذا محله.
وينبغي الإشارة إلى أن «الجزم» بتأثير فيلسوف معين على ابن تيمية في مسألة معينة أمر يحتاج إلى الدقة وعدم التسرع، فمجرد التشابه لا يعني أن ابن تيمية نقل ذلك القول من ذلك الفيلسوف؛ بل لابد من شواهد أخرى تورث اليقين أو الظن الغالب بذلك الرأي.
6- واستفاد ابن تيمية من الفلاسفة في الرد على المتكلمين في إبطالهم «التسلسل في الماضي»، أو ما يعرف «بحوادث لا أول لها»، وذلك في تفريقه بين قدم الآحاد وقدم النوع.
7- ولما كان ابن تيمية في معرض الجدال مع الفلاسفة والمتكلمين؛ فقد استعمل ألفاظهم ومصطلحاتهم، وهذا ما لم يفعله السلف؛ ولذا فقد وضع قاعدته المشهورة، وهي: «مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم» حيث يقول: «وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه؛ إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يُحتج إليه»[155].
فهرس بعض المصادر الفلسفية التي صرح ابن تيمية بالرجوع إليها في كتبه
_أ_
أساس التأويل، تأليف: القاضي نعمان.
الصفدية (1: 276).
الإسرا إلى المقام الأسرى، تأليف: ابن عربي.
منهاج السنة (5: 340).
الافتخار، تأليف: أبي يعقوب السجستاني.
الصفدية (1: 276، 301/ 2: 1).
الإشارات والتنبيهات، تأليف: ابن سينا.
قال عنه ابن تيمية في درء التعارض (8: 244): أنه زبدة الفلسفة عندهم.
درء التعارض (1: 314/ 3: 166- 169، 336/ 4: 258/ 5: 87، 101، 104، 105- 107، 128- 129، 168، 169/ 6: 19- 26، 40- 41، 44- 45، 59، 70- 72، 78- 79، 91- 92، 99- 102، 277/ 8: 127، 244- 245، 249، 251- 258/ 9: 233- 235، 263- 267/ 10: 33- 36، 110، 160- 161). الصفدية (1: 136- 137، 142، 165- 167/ 2: 284، 339). منهاج السنة (1: 201، 353/ 2: 197/ 3: 299).
الأقاليد الملكوتية، تأليف: أبي يعقوب السجستاني.
درء التعارض (5: 323)، وفيه: «وقد رأيتُ كتاباً لبعض أئمة الباطنية سماه الأقاليد الملكوتية». وانظر: درء التعارض (5: 58/ 8: 132)، والصفدية (1: 276، 301/ 2: 1).
الألواح العمادية، تأليف: السهروردي.
رسالة في لفظ السنة في القرآن، ضمن جامع الرسائل ج 1، ص 52.
_ت_
تحرير الدلائل في تقرير المسائل، تأليف: أثير الدين الأبهري.
درء التعارض (6: 185)، وفيه (1: 377- 378): «وقد رأيتُ الأثير الأبهري، وهو ممن يصفه هؤلاء المتأخرون بالحذق في الفلسفة ويقدمونه على الأرموي، ويقولون: الأصبهاني صاحب «القواعد» وغيره تلامذته».
تلخيص ما أتى به أرسطو فيما بعد الطبيعة، تأليف: ثابت بن قرة.
درء التعارض (9: 272- 273).
تلخيص المحصل، تأليف: نصير الدين الطوسي.
منهاج السنة (3: 248).
التلويحات، تأليف: شهاب الدين السهروردي.
درء التعارض (3: 172، 179/ 9: 221- 222).
تهافت التهافت، تأليف: ابن رشد.
درء التعارض (1: 162/ 3: 397- 441/ 6: 210/ 8: 137- 138، 164- 172، 174، 175- 177، 187- 188، 190- 200، 203- 217، 225- 233/ 10: 141- 143، 149- 150، 251- 252). الصفدية (1: 149).
_ح_
حكمة الإشراق، تأليف: شهاب الدين السهروردي.
درء التعارض (9: 228- 230/ 10: 84- 88).
الحكمة المشرقية، تأليف: ابن سينا.
درء التعارض (9: 228)، يبدو أنه لم يطلع عليه.
حي بن يقظان، تأليف: ابن طفيل.
درء التعارض (6: 56)، وفيها اتهامه له بالإلحاد.
_د_
دلالة الحائرين، تأليف: موسى بن ميمون.
درء التعارض (1: 131).
_ر_
الرد على منطق الإشارات، تأليف: ابن تيمية.
الصفدية (2: 281).
الرد على المنطق اليوناني، تأليف: ابن تيمية.
الصفدية (2: 281)، وذكر أنه مصنف كبير، ومصنف مختصر. ولعله يشير إلى: الرد على المنطقيين، ونقض المنطق.
رسالة، تأليف: ابن سبعين.
درء التعارض (6: 168).
الرسالة الأضحوية، تأليف: ابن سينا.
درء التعارض (1: 9/ 5: 10- 18، 50).
الزينة، تأليف: أبي حاتم السجستاني.
منهاج السنة (2: 105- 106).
_ش_
شرح الإشارات، تأليف: نصير الدين الطوسي.
درء التعارض (6: 55- 56/ 10: 39- 44، 111، 164- 167، 174- 175). منهاج السنة (3: 299).
شرح إشارات ابن سينا، تأليف: ابن كمونة.
درء التعارض (5: 87).
شرح كلام أرسطو في الإلهيات، تأليف: ثابت بن قرة.
الرد على المنطقيين ص 288.
الشفاء، تأليف: ابن سينا.
درء التعارض (1: 288/ 3: 11، 140/ 6: 47- 48/ 8: 186/ 10: 8).
_ض_
ضميمة في مسألة العلم القديم، تأليف: ابن رشد.
درء التعارض (9: 383- 390).
_ع_
العقول العشرة والنفوس الملكية التسعة.
درء التعارض (1: 35).
_ف_
الفتوحات المكية، تأليف: ابن عربي.
الصفدية (1: 267- 268).
فصوص الحكم، تأليف: ابن عربي.
منهاج السنة (5: 336- 338)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 112، ورسالة في الجواب عمن يقول إن صفات الرب تعالى نسب إضافات وغير ذلك، ضمن جامع الرسائل ج 1، ص 164- 167.
_م_
المبدأ والمعاد، تأليف: السهروردي.
رسالة في لفظ السنة في القرآن، ضمن جامع الرسائل ج 1، ص 52.
المعتبر في الحكمة، تأليف: أبي البركات البغدادي (ابن ملكا).
درء التعارض (2: 20، 164- 172/ 3: 302/ 4: 26/ 6: 98، 247/ 9: 397، 400- 409، 416- 418، 423- 434/ 10: 3- 5، 7- 10، 100- 104). الصفدية (1: 45/ 2: 111، 253- 256، 332- 333).
مناهج الأدلة، تأليف: ابن رشد.
درء التعارض (6: 212- 237/ 7: 345- 347/ 9: 69- 82، 84- 99، 106- 110، 112- 113، 122- 132، 321- 324، 326- 333، 336، 348- 354، 370- 371، 378- 382/ 10: 197- 200، 207- 208، 214- 215، 219- 221، 224- 229، 243- 249، 259- 269، 281- 282، 289- 290، 298- 300).
_ن_
النجاة، تأليف: ابن سينا.
درء التعارض (10: 98)، والصفدية (2: 181- 186، 187- 188).
نظم السلوك (تائية ابن الفارض، قصيدته المشهورة)، تأليف: ابن الفارض.
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 119. ودرء التعارض (6: 168- 169).
ﷺ الملحق رقم (1)
قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى 9: 31- 38): «توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر هي أمور متلازمة مع العمل الصالح فأهل هذا الإيمان والعمل الصالح هم أهل السعادة من الأولين والآخرين والخارجون عن هذا الإيمان مشركون أشقياء فكل من كذب الرسل فلن يكون إلا مشركاً وكل مشرك مكذب للرسل وكل مشرك وكافر بالرسل فهو كافر باليوم الآخر وكل من كفر باليوم الآخر فهو كافر بالرسل وهو مشرك ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء وهم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف وهو المزين المحسن يغررون به، والغرور هو التلبيس والتمويه، وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتفلسفة والمتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين. ثم قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} فأخبر أن كلام أعداء الرسل تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنوا بالآخرة؛ فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان؛ فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} الآية فأخبر أن الذين تركوا اتباع الكتاب وهو الرسالة يقولون: إذا جاء تأويله وهو ما أخبر به جاءت رسل ربنا بالحق، وهذا كقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكرنا.
فقد تبين أن أصل السعادة وأصل النجاة من العذاب هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر والعمل الصالح. وهذه الأمور ليست في حكمتهم وفلسفتهم المبتدعة، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحدة والنهى عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم إذ بنوه على ما في الأرواح والأجسام من القوى والطبائع، وأن صناعة الطلاسم والأصنام والتعبد لها يورث منافع ويدفع مضار، فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعاً فتدبر هذا فإنه نافع جدًّا؛ ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك فالأولون يسمون الكواكب الآلهة الصغرى ويعبدونها بأصناف العبادات كذلك كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك أو يأمرون به أو لا يوجبون التوحيد. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك. وهم إذا ادَّعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به لرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه. والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات، وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك. فلو كانوا موحدين بالقول والكلام وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفى في السعادة والنجاة، بل لابد من أن يعبد الله وحده ويتخذه إلهاً دون ما سواه، وهو معنى قول لا إله إلا الله. فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون لا موحدون ولا مخلصون.
وأما الإيمان بالرسل فليس فيه للمعلم الأول وذويه كلام معروف، والذين دخلوا في الملل منهم آمنوا ببعض صفات الرسل وكفروا ببعض.
وأما اليوم الآخر فأحسنهم حالاً من يقر بمعاد الأرواح دون الأجساد، ومنهم من ينكر المعادين جميعاً، ومنهم من يقر بمعاد الأرواح العالمة دون الجاهلة. وهذه الأقوال الثلاثة لمعلمهم الثاني أبي نصر الفارابي، ولهم فيه من الاضطراب ما يعلم به أنهم لم يهتدوا فيه إلى الصواب.
وقد أضلوا بشبهاتهم من المنتسبين إلى الملل من لا يحصي عدده إلا الله، فإذا كان ما به تحصل السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلاً كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
وأما ما يذكرونه من العلوم النظرية فالصواب منها منفعته في الدنيا، وإما العلم الإلهي فليس عندهم منه ما تحصل به النجاة والسعادة بل وغالب ما عندهم منه ليس بمتيقن معلوم، بل قد صرح أساطين الفلسفة أن العلوم الإلهية لا سبيل فيها إلى اليقين وإنما يتكلم فيها بالأحرى والأخلق، فليس معهم فيها إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً، ولهذا يوجد عندهم من المخالفة للرسل أمر عظيم باهر حتى قيل مرة لبعض الأشياخ الكبار ممن يعرف الكلام والفلسفة والحديث وغير ذلك: ما الفرق الذي بين الأنبياء والفلاسفة؟ فقال: السيف الأحمر؛ يريد أن الذي ضلت القرامطة والباطنية ومن شاركهم في بعض ذلك، وهذا باب يطول وصفه ليس الغرض هنا ذكره، وإنما الغرض أن معلمهم وضع منطقهم ليزن به ما يقولونه من هذه الأمور التي يخوضون فيها والتي هي قليلة المنفعة وأكثر منفعتها إنما هي في الأمور الدنيوية وقد يستغنى عنها في الأمور الدنيوية أيضاً، فأما أن يوزن بهذه الصناعة ما ليس من علومهم وما هو فوق قدرهم أو يوزن بها ما يوجب السعادة والنعيم والنجاة من العذاب الأليم فهذا أمر ليس هو فيها، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق فهذا القدر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة من الإيمان بالله وتوحيده وإخلاص عبادته والإيمان برسله واليوم الآخر والعمل الصالح. وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة فالذي يؤتى فضائل علمية وإرادية بدون هذه الأصول يكون بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول، وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئاً إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له ويؤمن برسله وباليوم الآخر وهذه الأمور متلازمة فمن عبد الله وحده لزم أن يؤمن برسله ويؤمن باليوم الآخر فيستحق الثواب وإلا كان من أهل الوعيد يخلد في العذاب، هذا إذا قامت عليه الحجة بالرسل».
[1] كاتب وباحث، السعودية.
[2] لو نظرنا إلى مناهج جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، على وجه المثال، ونظرنا إلى كلية أصول الدين، التي هي محل الاختصاص، فسنجد في مناهج المستوى السابع، مادة «الملل والنحل» وتدرس هذه المادة في هذا المستوى ساعتين أسبوعيًّا، يعني تبلغ ساعات هذه المادة في الفصل الدراسي 30 ساعة، ويوجد في مقرر هذه المادة ديانتان تدرسان (أو ما يظنونه درساً) بالتفصيل، وهما: اليهودية والمسيحية، وثلاث ديانات تدرس باختصار! وهي: الهندوسية والبوذية والسيخية، ويدرس باختصار في هذا المقرر أيضاً: الفلسفة، والماسونية. فما نصيب دراسة الفلسفة في هذا الفصل؟ الجواب: لا شيء، أو ما هو أسوأ من اللاشيء، فقد كانت تمضي الفصول دون أن يستطيع المدرس إنهاء المنهج فلا يعرض للفلسفة بقليل أو كثير، أما إن عرضَ للفلسفة فإنه يقرر على الطلاب الفصل الذي كتبه ابن القيم في «إغاثة اللهفان»، فيقرؤه مع الطلاب دون فهم، ولا تمحيص، ويحفظه الطلاب دون فهمٍ ولا تمحيص، ثم يخرجون وهم يظنون أنهم فهموا وعرفوا الفلسفة، ليحكموا على الفلاسفة وعلى الفلسفة، بل وعلى العقل، بالضلال.
[3] صالح الغامدي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها، ط مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2003م.
[4] ص، د، من المقدمة.
[5] ص 590.
[6] المرجع نفسه.
[7] علي الشبل، الآثار العقدية للوثنية اليونانية، الطبعة الأولى، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ضمن سلسة: الصراط المستقيم، 1999م.
[8] ص 83.
[9] المرجع نفسه.
[10] ص 84.
[11] ناصر الفهد، حقيقة الحضارة الإسلامية، بحث لم ينشر حتى الآن.
[12] انظر مثلاً كتاب: الرد على من عظم الفلاسفة الملاحدة، ابن سينا، الرازي، الفارابي.. وأشياعهم، تأليف: المهندس سمير بن خليل المالكي.
[13] المسعودي، مروج الذهب (1: 444).
[14] انظر: ماكس مايرهوف، من الإسكندرية إلى بغداد، ضمن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، جمع وترجمة: عبد الرحمن بدوي، ودي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة وتعليق: محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط دار النهضة العربية، الطبعة الخامسة 1981م، ص 19- 27، وعلي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1: 103- 107)، ومحمد البهي، الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي، ط مكتبة وهبة، الطبعة السادسة 1402هـ.
[15] الرد على المنطقيين، ص 258.
[16] ابن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، (7: 591- 592). ستتم الإشارة إليه بعد ذلك باسم: الشذرات.
[17] ابن كثير، البداية والنهاية، (13: 228).
[18] ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق: محمد سيد جاد الحق، د ت، (2: 158). ستتم الإشارة إليه بعد ذلك باسم: الدرر.
[19] صلاح الدين الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق: جماعة من المحققين، ط دار فرانز شتاينر شتوغارت، في سنوات متعددة، (13: 85).
[20] الدرر، (2: 98)، والشذرات، (8: 87).
[21] الدرر، (2: 400- 401).
[22] الدرر، (2: 474)، والشذرات، (8: 108- 110).
[23] الدرر، (5: 108).
[24] الشذرات، (7: 573- 575).
[25] المرجع السابق، (7: 780 - 781).
[26] بغية المرتاد، ص 520.
[27] الشذرات، (8: 189).
[28] المرجع السابق، (7: 719- 721).
[29] تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق: محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو، ط دار إحياء الكتب العربية، د.ت، (8: 45)، وخير الدين الزركلي، الأعلام، ط دار العلم للملايين، الطبعة الحادية عشرة، 1995م، (6: 30)..
[30] الأعلام، م.س، (7: 30).
[31] الشذرات، (7: 521).
[32] المرجع السابق، (7: 777).
[33] الدرر، (3: 6).
[34] المرجع السابق، (4: 3).
[35] الشذرات، (7: 441).
[36] المرجع السابق، (7: 710).
[37] الدرر (3: 374).
[38] المرجع السابق، (3: 176- 177)، والشذرات (8: 62- 63).
[39] الدرر (1: 28).
[40] الشذرات (7: 701- 702).
[41] الدرر (2: 126).
[42] المرجع السابق، (3: 58).
[43] المرجع السابق، (3: 366- 367).
[44] المرجع السابق، (1: 197).
[45] ص 3.
[46] الدرر (2: 72- 73).
[47] يمكن تسجيل موقف الإمام الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» والشهاب السهروردي في كتابه «رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية» وابن الصلاح الشافعي في فتواه المشهورة في تحريم الفلسفة، وما كتبه السبكي في «معيد النعم ومبيد النقم» والذهبي الشافعي في «زغل العلم» و«سير أعلام النبلاء» وغيرها وابن رجب الحنبلي في كتابه «فضل علم السلف على الخلف» وغيرها كثير، وهؤلاء عارضوا الفلاسفة من باب بيان خطرهم على العقيدة.أما المتكلمون فقد عقدوا فصولاً في كتبهم خصصوها للرد على الفلاسفة، لا فرق في ذلك بين المعتزلة والأشاعرة، كما في كتب الحاكم الجشمي المعتزلي، وابن الباقلاني الأشعري، والجويني الأشعري، وغيرهم.
ويمكن مراجعة مقالة جولدزيهر «موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل» منشور ضمن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، جمع وترجمة: عبد الرحمن بدوي.وللاطلاع على وجهة نظر مخالفة انظر: ديمتري غوتاس، الفكر اليوناني والثقافة العربية، ص 282- 287، وجورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام.
[48] انظر مثلاً: الدرر، (2: 156)، والشذرات، (8: 239) في ترجمة الطيبي.
[49] قال ابن خلدون في مقدمته ص (251): «وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم وهذبها ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض وأنه لا يبقى زمانين وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول، وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك، ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب (الشامل) وأوسع القول فيه، ثم لخصه في كتاب (الإرشاد) واتخذه الناس إماماً لعقائدهم، ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة، وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها، ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدت إلى ذلك وبما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين، وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم، وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضع في العلمين فحسبوه فيهما واحداً من اشتباه المسائل فيهما... ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر، ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في (الطوالع) ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم، إلا أن هذه الطريقة قد يُعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها، وأما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين وأصلها كتاب (الإرشاد) وما حذا حذوه، ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب فإنها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم».
[50] انظر مقدمات تحقيق هذه الكتب، ولا أستطيع إعطاء رأي دقيق بالنسبة لكتاب «بيان تلبيس الجهمية».
[51] الإمام الذهبي، النصيحة الذهبية، ضمن التوفيق الرباني، جمعه: ناصح شفوق، ص 205- 206.
[52] المرجع السابق.
[53] الصفدية، (1: 272). يقوم المؤلف بإعداد دراسة يدور أحد فصولها حول (النظرية السياسية عند ابن تيمية)، وفيها بيان أن موقفه من الشيعة يرجع في جزء كبير منه إلى منطلق سياسي، حيث إنه يراهم خطراً على الدولة المملوكية (=السنية) لصالح ولائهم للدولة العدوة المغولية (= الشيعية، بعد ذلك).
[54] مجموع الفتاوى، (9: 252- 253)، وانظر: بغية المرتاد، ص 367.
[55] الصفدية، (1: 236).
[56] الصفدية، (1: 236).
[57] الرد على المنطقيين، ص 143.
[58] المرجع السابق، ص 311.
[59] المرجع السابق، ص 105.
[60] الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا، ص 80.
[61] الرد على المنطقيين، ص 311.
[62] بغية المرتاد، ص 308.
[63] الرد على المنطقيين، ص 243.
[64] الرد على المنطقيين، ص 199. ذكر الدكتور عبد الفتاح أحمد فؤاد أن بعض كتّاب السلفية حذوا حذو ابن تيمية في عدم استعمال لفظة «فلاسفة الإسلام» بحجة أن الإسلام ليس في حاجة إلى فلاسفة. انظر: عبد الفتاح أحمد فؤاد، ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي، ط دار الوفاء، 2001م، ص 151. وواضح من النص المنقول في البحث أن هذا هو رأي ابن تيمية أيضاً.
[65] أي أن الفلسفة كلها باطلة عند ابن تيمية، وابن تيمية لا يرى هذا بل يرى وجود مسائل صحيحة في الفلسفة. انظر: الرد على المنطقيين، ص 144، 243، 311.
[66] أحمد بن مرّي الحنبلي، قطعة من مكتوب الشيخ الإمام الزاهد شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي، تحقيق: محمد بن إبراهيم الشيباني، ط مكتبة ابن تيمية، الطبعة الأولى 1989م، ص 18.
[67] الرد على المنطقيين، ص 289، وانظر: الصفدية، (1: 236).
[68] مجموع الفتاوى، (17: 351).
[69] الرد على المنطقيين، ص 323.
[70] الدرء، (7: 79- 80).
[71] أفلاطون، الدفاع، ضمن محاورات أفلاطون، عربها زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1966م.
[72] انظر: إميل برهيه، الفلسفة اليونانية، ضمن تاريخ الفلسفة ص 56- 63، وابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي، م. س، ص 153، 197.
[73] الدرء (9: 276).
[74] سيكون من المهم مقارنة كلام ابن تيمية، بما ذكره القفطي عن الفلاسفة، ومن ذلك، قوله:
وكانت عامة اليونانيين صابئة يعظمون الكواكب ويدينون بعبادة الأصنام. ص 15.
أبيذقليس: كان في زمن داود النبي (عليه السلام) على ما ذكره العلماء بتواريخ الأمم، وقيل: إنه أخذ الحكمة عن لقمان الحكيم بالشام، ثم انصرف إلى بلاد اليونانيين فتكلم في خلقة العالم بأشياء تقدح ظواهرها في أمر المعاد فهجره بعضهم. ص 15.
ويونان أمة عظيمة القدر في الأمم، ظاهرة الذكر في الآفاق، فخمة الملوك عند جميع الأقاليم، منهم الإسكندر بن فيلبس المقدوني المعروف بذي القرنين الذي غزا دارا بن دارا ملك الفرس في عقر داره فاستلبه ملكه بعد إهلاكه، وتخطاه إلى المشرق من الهند والصين فجرى له من الاستيلاء على تلك الجهات ما شهدت به التواريخ، ثم ملك بعد الإسكندر البطالمة، وربما قيل البطالسة، ودان لهم الملك وذلَّت لهم الرقاب واستمروا واحداً بعد واحد إلى أن ملكتهم الروم فانقرض ملكهم من الأرض وانتظمت مملكتهم مع مملكة الروم فصارت مملكة واحدة مثل مملكة الفرس والبابليين، وكانت بلاد يونان في الربع الغربي الشمالي من الأرض فحدها من جهة الجنوب البحر الرومي والثغور الشامية والثغور الجزرية، ومن جهة الشمال بلاد اللان وما حاذاها من ممالك الشمال، ومن جهة المغرب تخوم بلاد المانية التي قاعدتها مدينة رومية، ومن جهة المشرق تخوم بلاد أرمينية وباب الأبواب والخليج المعترض ما بين بحر الروم وبحر نيطس الشمالي يتوسط بلاد اليونانيين، ولغة اليونانيين تسمى الإغريقية وهي من أوسع اللغات وأجلها، وكانت عامة اليونانيين صابئة معظّمة للكواكب دائنة بعبادة الأصنام. ص 26- 27.
كان أرسطوطاليس معلم الإسكندر بن فيلبس ملك مقدونية وبآدابه عمل في سياسة رعيته وسيرة ملكه وانقمع به الشرك في بلاد اليونانيين وظهر الخير وفاض العدل. ص 29.
فبحق كفر من يقول بقول أرسطوطاليس في ثلاث مسائل خالف فيها كافة الإسلاميين، وهو: أن الأجساد لا تحشر، وأن المثاب والمعاقب الأرواح المجردة والعقوبات روحانية لا جسمانية، والثانية: في صفة الله، عز وجل، يعلم الكليات دون الجزئيات، فهو كفر صريح لأن الله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وقد تابعه صاحب المعتبر بعد اعتباره على نوع من هذا، ومجمج القول لتعارض الأدلة ولم يمكنه الانفصال عنه على الوجه، ومن ذلك قوله بأزلية العالم وقدمه، وإن تعللوا مرة في قدمه بنسبة ومرة في حدوثه بنسبة، فما برحوا في الحيرة. ص 53.
سقراط: وأعلن بمخالفة اليونانيين في عبادتهم الأصنام... إلا أن له في شأن المعاد آراء ضعيفة بعيدة عن محض الفلسفة، خارجة عن المذاهب المحققة. ص 198.
فيثاغورس: أخذ الحكمة عن أصحاب سليمان بن داود النبي بمصر حين دخلوا إليها من بلاد الشام. ص 258.
انظر: جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي، تأريخ الحكماء، باختصار الزوزني (المنتخبات الملتقطات)، طبع مكتبة المثنى ببغداد، ومؤسسة الخانجي، د.ت.
[75] الرد على المنطقيين، ص 337.
[76] المرجع السابق، ص 334.
[77] الرد على المنطقيين، ص 335- 336.
[78] المرجع السابق، ص 143.
[79] الدرء (9: 276).
[80] لشرح موقف أرسطو من مسألة قدم العالم انظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ط دار العلم للملايين، (د.ت)، ص 145- 147.
[81] مجموع الفتاوى، (12: 143- 144).
[82] الفارابي، الجمع بين رأيي الحكيمين، تحقيق: ألبير نصري نادر، ط المطبعة الكاثوليكية، الطبعة الأولى 1960م، ص 103.
[83] انظر على سبيل المثال، الكندي، رسالة يعقوب بن إسحاق الكندي إلى علي بن الجهم في وحدانية الله وتناهي جرم العالم، ضمن رسائل الكندي، حققها وأخرجها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط دار الفكر العربي 1950م، ص 201- 207، وما كتبه محقق الرسائل في المقدمة، ص 62- 75، وحسام محيي الدين الألوسي، فلسفة الكندي وآراء القدامى والمحدثين فيه، ط دار الطليعة ، الطبعة الأولى 1985م، ص 92- 153.
[84] لشرح رأي الفارابي وابن سينا في مسألة النبوة، وبيان تأثرهما فيها بنظرية الأحلام عند أرسطو وما أضافاه إلى هذه النظرية لتتواءم مع المفهوم الإسلامي للنبوة، انظر: إيراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه، ص 95، ومحمد كمال إبراهيم جعفر، من قضايا الفكر الإسلامي دراسة ونصوص، ط مكتبة دار العلوم، ص 255- 278، وتيسير شيخ الأرض، المدخل إلى فلسفة ابن سينا، ط دار الأنوار، الطبعة الأولى 1967م، ص 287- 295.
[85] الصفدية (1: 1).
[86] مختصر نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، ضمن مجموع الفتاوى (9: 249)، وانظر: الجواب الصحيح (5: 27).
[87] مجموع الفتاوى (9: 35- 36).
[88] ابن سينا، رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق: سليمان دنيا، الطبعة الأولى 1368هـ، دار الفكر العربي بمصر، ص 109- 111.
[89] ابن سينا، النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الثانية 1357هـ، ص 291.
[90] بواسطة: ألبير نصري نادر، في كتابه: النفس البشرية عند ابن سينا، ط دار المشرق بيروت، الطبعة الخامسة (د.ت)، ص 5.
[91] الكندي، كمية كتب أرسطوطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة، ضمن رسائل الكندي، م.س، ص 373- 375.
[92] انظر: ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي، م.س، ص 213- 217.
[93] انظر الملحق رقم (1).
[94] تفسير سورة الإخلاص، مجموع الفتاوى، (17: 330- 331).
[95] المرجع السابق، (17: 332).
[96] الدرء، (5: 86).
[97] المرجع السابق، (6: 98).
[98] المرجع السابق، (2: 159- 164).
[99] الرد على المنطقيين، ص 224، 268، والصفدية، (1: 85).
[100] الدرء، (9: 272- 273)، والرد على المنطقيين، ص 288.
[101] الدرء، (9: 397).
[102] الرد على المنطقيين، ص 143- 144، وانظر: مجموع الفتاوى، (9: 133- 135)، (11: 571).
[103] الدرء، (6: 210).
[104] المرجع السابق، (6: 242).
[105] الدرء، (9: 397).
[106] تفسير سورة الإخلاص، مجموع الفتاوى، (17: 295).
[107] الدرء (3: 323).
[108] ابن تيمية، رسالة في تحقيق علم الله، ضمن جامع الرسائل، المجموعة الأولى، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط دار المدني، الطبعة الثانية 1405هـ، ص 180.
[109] الدرء (3: 324).
[110] الدرء (6: 78)، (10: 44).
[111] المرجع السابق، (5: 67).
[112] المرجع السابق، (5: 67- 68).
[113] بغية المرتاد، ص 194- 195.
[114] مجموع الفتاوى، (9: 18- 19).
[115] المرجع السابق، (2: 57).
[116] هنري لاووست، نظريات ابن تيمية في السياسة والاجتماع، ص 225.
[117] ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص 106.
[118] الصفدية، (1: 265).
[119] بغية المرتاد، ص 182.
[120] الصفدية، (1: 262).
[121] المرجع السابق، (1: 245- 24).
[122] ابن عربي، فصوص الحكم، (1: 558- 559)، بشرح صائن الدين التركه، تحقيق: محسن بيدارفر، ط انتشارات بيدار، قم، الطبعة الأولى، وص 204، وبشرح القاشاني، الطبعة الثانية 1386هـ، ط مصطفى البابي الحلبي.
[123] لفهم نظرية الولاية عند ابن عربي، والعلاقة بين الولاية والنبوة أو بين النبي والولي؛ انظر: علي شود كيفيتش، الولاية والنبوة عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، ترجمة وتقديم: أحمد الطيب، ط دار الشروق، الطبعة الأولى 2004م، لا سيما ص 71- 85.
[124] الصفدية، (1: 268- 270).
[125] مجموع الفتاوى، (2: 143).
[126] بغية المرتاد، ص 447- 448.
[127] الصفدية، (1: 283- 284)، وبغية المرتاد، ص 445.
[128] مجموع الفتاوى، (2: 161).
[129] المرجع السابق، (2: 92- 93).
[130] المرجع السابق، (2: 471).
[131] بغية المرتاد، ص 409، والفرقان، ص 113.
[132] المرجع السابق، وانظر مجموع الفتاوى، (2: 471).
[133] مجموع الفتاوى، (2: 175).
[134] بغية المرتاد، ص 520.
[135] الصفدية، (1: 284).
[136] بغية المرتاد، ص 183.
[137] المرجع السابق، ص 194.
[138] الصفدية، (1: 2).
[139] المرجع السابق، (1: 5).
[140] المرجع السابق، (1: 3).
[141] المرجع السابق، (1: 276).
[142] بغية المرتاد، ص 329- 330، والدرء، (5: 10، 26- 27).
[143] بغية المرتاد، ص 179- 180.
[144] الدرء، (5: 10، 26- 27)
[145] مجموع الفتاوى، (4: 103).
[146] الرد على المنطقيين، ص 3.
[147] المرجع السابق، ص 7.
[148] مجموع الفتاوى، (9: 82- 83)، ووقع في النص اضطراب في الرد على المنطقيين، ص 4.
[149] انظر: الدرء، (3: 402- 441).
[150] المرجع السابق، (6: 19).
[151] المرجع السابق، (5: 322- 323).
[152] أبو البركات البغدادي المعروف بابن ملكا، المعتبر، (3: 12- 13).
[153] المرجع السابق، (1: 155).
[154] محمد علي أبو ريان، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، ط دار النهضة العربية 1976م، ص 401، وانظر: محمد زاهد الكوثري، مقدمة كتاب: «المقدمات الخمس والعشرون»، ط المكتبة الأزهرية للتراث، 1413هـ، ص 10، وحسام محيي الدين الألوسي، دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1400هـ، ص 148.
[155] الدرء، (1: 43).
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.