تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الدفاع عن فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية في زمن المحنة

زكي الميلاد

*[1]

 

ـ 1 ـ

منذ الإعلان عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة في النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين، أخذت فكرة التقريب طريقها نحو التبلور والصعود، وأصبحت واحدة من أنشط الأفكار تداولاً في مجال الحديث عن الوحدة الإسلامية والعلاقة بين المذاهب الإسلامية، المجال الذي بدأ يتحدد تقريباً بهذه الفكرة ويعرف بها، وكأنها الفكرة التي حلَّت مكان الأفكار الأخرى المتصلة بمجال الوحدة الإسلامية ووحدة الأمة، ومنها فكرة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها السيد جمال الدين الأفغاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وعرفت بها حركته الإصلاحية، وأراد منها التأكيد على حقيقة أن مصير العالم الإسلامي ومستقبله وتقدمه لا يتحقق إلا من خلال مفهوم الجامعة الإسلامية.

وبعد أن تراجعت فكرة الجامعة الإسلامية بعد غياب الأفغاني، وتلاشي دولة الخلافة العثمانية التي ارتبطت بها هذه الفكرة، وجاءت من أجل إصلاحها والحفاظ على وحدتها، بعد هذا التراجع لهذه الفكرة، ظهرت مكانها أفكار أخرى، كان من أبرزها وأكثرها بقاء ورسوخاً هي فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية.

وحتى لو اعتبرنا أن فكرة التقريب قد حلت مكان فكرة الجامعة الإسلامية، من حيث المجال التداولي في إطار الحديث عن الوحدة الإسلامية، إلا أنها جاءت امتداداً لها، وتفاعلاً معها، واستمراراً لنهجها، فالشيخ محمد تقي القمي حينما وصل إلى القاهرة واتصل بعلماء الأزهر الذين كانوا ينتمون إلى المدرسة الفكرية للشيخ محمد عبده، وكأنه أراد أن يستعيد ويستكمل الدور الذي نهض به الأفغاني مع الشيخ محمد عبده، ويذكرنا بهذا الدور التاريخي الذي بقي في الذاكرة، وأصبح عصيًّا على النسيان.

ومع تجربة دار التقريب بقيت فكرة التقريب حية وحاضرة في الأمة على امتداد مساحتها الجغرافية والبشرية، وقد كشفت هذه الفكرة عن عطاء فكري وعلمي وأخلاقي وإصلاحي هو من ألمع وأثمن عطاءات الفكر الإسلامي في تاريخه الحديث، وحمل رسالتها رجال وأعلام هم من ألمع وخيرة رجالات وأعلام هذه الأمة، الذين عرفوا بنهجهم التقريبي والوحدوي والإصلاحي سعياً وتطلعاً لوحدة الأمة وإصلاحها ونهضتها، وعملاً لتحقيق قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[2]، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[3]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[4]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[5].

ـ 2 ـ

مع فكرة التقريب انبعثت في الأمة روح خلَّاقة، هي الروح التي عبَّرت عنها بوضوح كبير مجلة (رسالة الإسلام)، التي حملت فكرة التقريب، وعُرفت بها، ودافعت عنها، وأصبحت شاهدة عليها.

ومن تجليات هذه الروح ما أشار إليه الشيخ محمود شلتوت، وهو يتحدث عن اجتماعات دار التقريب، بقوله: «حيث يجلس المصري إلى الإيراني، أو اللبناني، أو العراقي، أو الباكستاني، أو غير هؤلاء من مختلف الشعوب الإسلامية، وحيث يجلس الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الإمامي والزيدي، حول مائدة واحدة تدوي أصوات فيها علم، وفيها أدب، وفيها تصوف، وفيها فقه، وفيها مع ذلك كله روح الأخوة، وذوق المودة والمحبة، وزمالة التعليم والعرفان»[6].

ونلمس هذه الروح كذلك، وبعد ثلاثة عشر عاماً على نشأة دار التقريب، حين يتحدث الشيخ محمد تقي القمي، ويحمد الله على أن المسلمين حسب قوله: «أثبتوا أنهم جديرون بإصلاح شؤونهم، قادرون على علاج مشاكلهم»، معتبراً أن نجاح فكرة التقريب، رغم المعارضة التي قامت في وجهها، والعراقيل التي وضعت في طريقها، جعلت المصلحين يأملون كثيراً في المستقبل، وكان يعتقد أن هذه الفكرة ستكون نقطة الانطلاق لكثير من الأفكار الإصلاحية، وعندما يتذكر أول اجتماع بدار التقريب، يرى فيه أنه «أول اجتماع من نوعه في الإسلام جلس فيه علماء من السنة والشيعة حول مائدة واحدة، في هدوء العلماء المتضلعين، وفي وجوههم تصميم المجاهدين، وقلَّبوا وجوه الرأي لعلاج داء التفرق على هدى رسالة الإسلام والمبادئ الإسلامية، فكتبوا بعملهم هذا فصلاً من فصول التاريخ الإسلامي المجيد»[7].

وقد برهنت هذه التجربة على إمكانية تحقيق فكرة التقارب بين المذاهب الإسلامية، والتقدم الفعلي والعملي في هذا السبيل، وكيف أن هذه الفكرة ليست بعيدة المنال، أو من غير الممكن إنجازها والعمل على تحقيقها. وكان من المهم للغاية البرهنة الفعلية على هذه الحقيقة، لكي تطمئن القلوب بهذه الفكرة، ونحافظ على بقاء هذا النهج، ويكون لنا الأمل بالمستقبل.

ـ3 ـ

لهذا فقد حافظت فكرة التقريب على بقائها وثباتها، وظلَّت تتجدد وتتطور بصور وأنماط من التجليات المتعددة في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولعل من أهم وأبرز تجليات التجدد والتطور لهذه الفكرة ما تجلى في تشكيل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران سنة 1988م، والذي استلهم من روح الثورة الإسلامية في إيران، زخماً كبيراً انعكس في طموحاته وتطلعاته، وفي نشاطاته وفعالياته، وفي أفق الرؤية وبعد النظر.

ولا شك أن النبع الذي استلهم منه الشيخ محمد تقي القمي فكرة التقريب، وحملها معه من طهران إلى القاهرة، هو النبع نفسه الذي كان وراء تشكيل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، المجمع الذي عرَّف العالم الإسلامي برسل التقريب والوحدة الإسلامية، وفي طليعتهم اليوم سماحة الشيخ محمد علي التسخيري، الذي يجوب الأرض حاملاً معه فكرة التقريب ورسالة الوحدة الإسلامية.

ـ 4 ـ

أما اليوم وبعد أن وصلنا إلى مرحلة باتت تتعرض فيها فكرة التقريب، إلى محنة خطيرة، لعلها من أصعب وأخطر المحن التي مرَّت على هذه الفكرة في التاريخ الإسلامي الحديث، مع هذا التفجر الحاد والساخن الذي أخذت تظهر عليه اليوم مشكلة الطائفية في المجتمعات العربية والإسلامية، فلأول مرة منذ ربع قرن على الأقل تنكشف لنا هذه المشكلة بهذا المستوى من الظهور المتوتر، والذي بات يقلق جميع العقلاء والحكماء في الأمة، وكل المتنورين والمصلحين.

وقد وصلت هذه المشكلة إلى حد فرضت نفسها وبقوة على الجميع، بحيث بات من الصعب تجاهلها أو إخفاؤها، أو التقليل من شأنها، أو عدم الاكتراث بها، وظهرت حولها من الكتابات ما لا يحصى، وبشكل لعله يفوق من الناحية الكمية الاهتمام بأي ظاهرة أخرى في هذا الوقت، وذلك بعد أن استحوذت هذه الظاهرة على اهتمام الكتَّاب الذين اعتنوا بالكتابة عنها، وتجلت في هذه الكتابات وجهات النظر المتعددة، والمتباينة أحياناً، ومن النادر حصول هذا المستوى الكمي المتصاعد من الاهتمام عند الكتَّاب خلال فترة قصيرة، وأمام ظاهرة من غير الظواهر السياسية المعتادة.

وتصلح هذه الكتابات أن تكون عينة، لقياس اتجاهات ومستويات الفهم والإدراك عند هؤلاء الكتاب تجاه هذه المشكلة، ولطبيعة تصوراتهم الراهنة والمستقبلية نحوها.

واللافت في الأمر أمام هذه المشكلة، هو سرعتها في الظهور والانتشار هذه المرة، وكأن رياح السَّموم قد هبت علينا فجأة في غير موعدها، وقلبت علينا حياتنا، وغيرت أمزجتنا، وأصابت عقولنا بالدوار، وغشَّت على أبصارنا، فأصبحنا نرتد إلى خطوط الانقسام التي ترجع بنا إلى الماضي وتحاصرنا به، وتغلق علينا أفق المستقبل ورحابته.

من جهة أخرى، إن ظهور هذه المشكلة بهذا التوتر والاحتقان التي هي عليه اليوم، لا شك أنه يمثل نكسة خطيرة لكل تلك المحاولات الفكرية والثقافية الناضجة واللامعة التي حاولت أن تبرز المكونات الحضارية، وتلفت النظر إلى أبعاد المعاصرة والتجديد في المنظومة الثقافية الإسلامية، وبالشكل الذي يجعل هذه المنظومة متعالية على المشكلة المذهبية، وبعيدة عن تشنجاتها ومنزلقاتها الوعرة والخطرة، وباحثة عن المستقبل الحضاري المشترك للأمة.

كما أن هذه المشكلة، قد مثَّلت نكسة خطيرة لكل تلك المحاولات والجهود الإصلاحية والخيِّرة التي سعت لتعزيز مسلكيات الحوار والانفتاح والتلاقي والتواصل والتقارب والتضامن بين المسلمين بكل فئاتهم ومذاهبهم، ولكل مكونات التعدد والتنوع فيهم، وهي المحاولات والجهود التي كنا وما نزال نتلمس فيها بصيص الأمل بمستقبل هذه الأمة وصلاحها.

وأمام هذا الوضع الحرج والحساس، تبرز مسؤولية العقلاء والحكماء والمصلحين والمتنورين في الأمة، وهم ليسوا بحاجة لمن يذكرهم بهذه المسؤولية، فهم الذين يذكِّرون غيرهم بمثل هذه المسؤوليات والواجبات، مع ذلك لا بد من القول بضرورة أن يرفع هؤلاء صوتهم عالياً ومدوياً منعاً للفتنة والتمزق والاحتراب الداخلي، وحماية لوحدة الأمة وتماسكها وتضامنها، ولقطع الطريق على أولئك الذين يجدون في مثل هذه الظروف فرصتهم لرفع أصواتهم التي لا تزيد الأمة إلا تفريقاً وتمزيقاً وتراجعاً.

فنحن أمام محنة تضع الأمة على مفترق طرق، واليقظة والبصيرة هي التي تجنب الأمة من الانحدار وتضعها في طريق سواء السبيل.

وإذا كان لدينا من رجاء، فهو أن يكون في ظهور هذه المشكلة بداية الوعي بخطورتها، والتخلص منها، والانتباه إليها، ومحاصرتها والتضييق عليها، ولتكن المشكلة التي نتخلص منها باستفراغ كل ما فيها من تقيُّح ونزيف وسموم، ومن ثم نبدأ باستشراف مرحلة ما بعدها، وهذا هو الرجاء.

ـ 5 ـ

والمشكلة أن في ظل هذه الوضعيات الساخنة هناك من تخلى عن فكرة التقريب، وهناك من انقلب عليها ونعاها بوعي أو دون وعي، في حين كان المفترض في مثل هذه الوضعيات بالذات التمسك بفكرة التقريب، والدفاع عنها، وحمايتها، والإعلاء من شأنها، ومواجهة أولئك الذين يريدون أن يوهمونا بتراجع وفشل هذه الفكرة، وتصوير أنها فكرة لا تستند إلى أساس علمي متماسك، وأنها فكرة وهمية وغير قابلة للتطبيق، إلى غير ذلك من تحليلات وتصورات تنتمي إلى خطابات الهزيمة والتراجع والتحجر.

ويبقى أن الدفاع عن فكرة التقريب في زمن المحنة هو موقف العقلاء والحكماء من الناس، وهذا الدفاع لا ينبغي أن ينحصر ويتحدد في نطاقه النفسي، ويفهم بوصفه موقفاً نفسيًّا فحسب، وإنما ينبغي أن يتشكل على أساس موقف علمي ركيزته المنطق والبرهان، والذي يدفع بفكرة التقريب نحو المزيد من التجديد والتحديث، بشكل يستجيب للتحديات والمشكلات المعاصرة والتي أفرزتها هذه المحنة الراهنة، ومستفيداً من التراكمات الفكرية والمعرفية المتواصلة والثرية في هذا المجال.

فنحن اليوم بحاجة إلى تجديد قناعة الأمة بفكرة التقريب، وتطوير وعيها بهذه الفكرة بما يجعلها في موقف الدفاع عنها، في إطار دفاعها عن وحدتها ومصيرها ومستقبلها.

ومن هنا تكمن أهمية وحيوية انعقاد هذا المؤتمر من حيث الزمان والمكان لكونه ينعقد في مدينة لها تاريخ عريق ومؤثر في تاريخ الحضارة الإسلامية، وهي مدينة إسطنبول.

 



[1] * ورقة مقدمة لمؤتمر التقريب في الفكر والوحدة في العمل، عقد في إسطنبول ما بين الفترة 14ـ 15 أبريل 2007م.

[2] سورة الأنبياء. الآية: 92.

[3] سورة آل عمران. الآية: 103.

[4] سورة الحجرات. الآية: 10.

[5] سورة الأنفال. الآية: 46.

[6] حسان عبد الله حسان متولي. كشّاف مجلة رسالة الإسلام، بيروت: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2005م، ص15.

 

[7] الشيخ محمد تقي القمي. قصة التقريب، رسالة الإسلام، القاهرة، السنة الحادية عشرة، العدد الرابع، أكتوبر - ديسمبر 1959م، ص348.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة