تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإصلاح الإسلامي من الفكر إلى السياسات

إدريس هاني

 

الإصلاح الديني: الآفاق والفاعلون[1]

 

ـ «الدين لا يصلحه إلا العقل»

               علي بن أبي طالب

مدخل

نحاول الحديث من خلال هذا المدخل العام عن أمرين ضروريين، لا بد من إحراز النظر فيهما قبل الجواب عن أي تساؤلات أخرى.

الأول: في أي سياق يتعين موضعة الحديث عن الإصلاح الديني اليوم؟

الثاني: يتعلق بطبيعة النموذج المعرفي الذي تحكم حيناً في عملية الإصلاح الديني.

ولا يخفى ما للأمرين من أهمية وتأثير في موضوعنا، حيث لكل معالجة سياقها التاريخي الواقع وإطارها المعرفي المتوقع. بل إن كل هذه الضبابية التي حلَّت بالفكر الإصلاحي مردُّها إلى أننا نعالج قضايانا معزولة عن تاريخها ومتحررة من مرجعيتها النظرية، مما يجعل جدل الفكر قاصراً عن بلوغ مداه في تركيب نتائج النقاش مهما اتسع هذا النقاش واستمر. إنه سؤال الواقع وسؤال المنهجية.

الأمر الأول:
في أي سياق يتعين موضعة الحديث عن الإصلاح الديني اليوم؟

ثمة زاويتان في تعيين الإطار التاريخي لنشوء خطاب الإصلاح الديني في عالمنا العربي والإسلامي:

أحدهما: طرح بإلحاح في نهاية النصف الأخير من القرن التاسع عشر في سياق ما عرف يومها بمشروع النهضة العربية، بدءاً بآراء رفاعة الطهطاوي وانتهاءً بآراء الشيخ رشيد رضا في مراحل عطائه الأولى قبل أن يظهر الفتور لدى هذا الأخير تجاه مقاصد نهج الجامعة الإسلامية، وتحديداً على مقاصد المنظور الإصلاحي لأستاذه محمد عبده، وانهماكه في مقاصد الخطاب السلفوي -تمييزاً بين سلفية رواد الإصلاح وفكرة الجامعة وبين سلفية المتأخرين رواد فكرة الجماعة-، وفكرة تصحيح المعتقد أولاً. وهي حالة النكوص كما يسميها البعض في نهج الإصلاح والنهضة، والردة عن مقتضيات النهضة وآفاقها كما يسميها البعض الآخر. قد يكون سببها تعرف الشيخ محمد رشيد رضا على آراء محمد بن عبد الوهاب، أو قد يكون سببها الإحساس بخيبة الأمل الذي أحدثها التخلي التركي الرسمي عن مؤسسة الخلافة.

وثانيهما: ما طرح راهنيًّا وبإلحاح على مستوى تغيير مناهج التربية والإصلاح الديني وإعادة هيكلة الحقل الديني، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها بعد ذلك من أحداث، أهمها وقوع احتلالين جديدين في العالم الإسلامي: أفغانستان والعراق. تغيير المناهج الذي بات مطلباً ينطلق من الدوائر الأمريكية ويقع ضمن مسلسل التدابير الوقائية وربما العقابية في سياق ما يعرف في الخطاب السياسي الأمريكي: الحرب على الإرهاب.

الحديث عن تجارب الإصلاح تستدعي نموذجين: أحدهما ما جرى في المجال العربي، والآخر فيما شهده المجال الإيراني عشية قيام الثورة الإسلامية. ويجدر بنا هنا العبور بعجالة على النموذج الإيراني قبل تجربة الإصلاح الإسلامي العربي التي هي عمدة النقاش في هذه الورقة.

أجل هناك محاولات أخرى لإصلاح الفكر والسياسة في العالم الإسلامي خارج المنطقة العربية -أقصد المجال الهندي والتركي والإيراني- طرح فيها موضوع الإصلاح بإلحاح لا يقل ضراوة عما أشرنا إليه، وقلَّما يُلتفت إليه عادة بسبب انغلاق التجربة في مجالها القطري، أو قصور في الانفتاح عليها، كما هو شأن تجارب الإصلاح الإسلامي في تركيا، أو بسبب آخر يتعلق بشدة النزاع السياسي الكبير الذي حكم مسار العلاقة في منطقتنا، كما هو النموذج الإصلاحي الإيراني، وهو النموذج الأكثر حضوراً وحيوية. بل لا أدل على ذلك مما جرى ويجري داخل المجالي الإيراني الذي قادته ثورة 1979 إلى احتلال الواجهة في التأثير الديني في العالم الإسلامي وحركاته الإسلامية بمقادير مختلفة. وهناك حيث تنتصب أمامنا محاولات إصلاحية قادها علماء دين كبار في إطار ما عرف أنذاك بـ«المجلس العام للأحرار» 1902، وأثمرت حركة دستورية كبيرة دافع عنها كبار مراجع الدين، على رأسهم الميرزا النائيني صاحب رسالة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». ونافح عنها علماء في حجم الملا كاظم الخرساني والشيخ محمد الطباطبائي والشيخ عبدالله المازندراني وأضرابهم فيما عرف حينها بثورة الدستور - المشروطة.وانتهاء بمحاولات الثورة الإسلامية في إيران في إقرار الإصلاحات التي كان مقرراً أن تتواصل تباعاً لولا الدور السلبي للحرب، التي استُهلكت فيها طاقات ومقدرات هائلة أدخلت المنطقة في مناخ من التوتر قلب الأولويات وجعل خيار الممانعة هو التعبير المرحلي للدولة والمجتمع. تجلَّى الوجه الأول منها في حركة الإصلاح الديني السابق والمحايث للثورة، باتجاه أكثر تعبوية وأيديولوجية وسياسية، يبغي إحداث تحولات في الوعي الديني باتجاه موقف أكثر ثورية وانقلابية استدعى آراء علي شريعتي، وبازركان وبهشتي وطلقاني والأستاذ مرتضى المطهري وكثير ممن خرج من جبة قائد الثورة المذكورة الراحل الإمام الخميني. سياسيًّا اتجهت التجربة الإيرانية في الإصلاح الإسلامي نحو فرادة النموذج السياسي الذي سبق لقائد الثورة تطويره في أفق الجمع بين ولاية الفقيه -التشخيص مجازي حيث المقصد ولاية الفقه- الذي يضمنه العلم والملَكة الاجتهادية والعدالة المراقبة من قبل مجلس الخبراء، وولاية الأمة التي تضمنها المؤسسات الدستورية. وهي منتج لجدل فقهي تقليدي وجد له آثاراً ليس فقط فيما أفرده صاحب جامع السعادات الملا النراقي في هذا الباب، بل هو نقاش فقهي قديم عولج بصورة أقل جدية وأقل شمولية مما صارت إليه محاولات قائد الثورة. لعله من المؤثرات السلبية على الدراسة الموضوعية لهذه التجربة الكبيرة أنها لا زالت في تقدير المحلل رهينة حقبة الحرب والمواجهة والتوتر السياسي الذي استدعى كل أحكام القيمة لزمن الحرب، جعلت تجارب الإصلاح على تفاوت مستوياتها في العالم الإسلامي لا تطرح على بساط التأمل ولم تخضع بعد لمنطق المراكمة النظرية التي تستدعي مقاربة أكثر موضوعية وأقل أيديولوجية. والحق أن قراءة متأنية لتجربة الإمام الخميني وآرائه الدينية والسياسية الإصلاحية لا تزال مطلوبة وإن غطت عليها الآراء والمواقف السياسية لزمن الحرب. فالخميني الفقيه هو مجتهد ذو نزعة إصلاحية تجد جذورها في الحركة الإصلاحية الكبرى التي عرفتها المنطقة عشية الاحتلال. هذه النزعة الإصلاحية حتماً لن تجد لها صداها خارج الضوضاء الذي أحدثته الحروب والتوترات التي عرفتها المنطقة تباعاً، وحيث بات واضحاً أن مقصدين كاناً قد استهلكا الأجندة الإصلاحية لقائد الثورة: القضاء أولاً على التبعية السياسية والاستبداد، وثانياً تكريس ثقافة الممانعة وحماية الاستقلال ومكتسبات الثورة. فالنزعة الإصلاحية هنا كانت تستجيب لشروط المرحلة حيث لا إمكان لقيام إصلاحات حقيقية في أفق الاستبداد والتبعية. وهي نزعة بنت على ما تراكم من مكتسبات النضال التحرري الإيراني، منح الحياة الدستورية ومؤسساتها الديموقراطية رسوخاً في الثقافة السياسية لما بعد الثورة. فولاية الفقيه لم تكن إلا الطريق الوحيد والممكن لاستعادة الفاعلية للعقل السياسي الديني للانخراط في العملية السياسية خارج ثقل العقل الانتظاري السلبي. لكن الأهم في ذلك أن ولاية الفقيه وضعت نفسها مؤمناً للحياة الدستورية وضامناً لدولة المؤسسات فيما يعرف اليوم بالديموقراطية الإيرانية. إن ولاية الفقيه في المدى الذي سعى إليه قائد الثورة الإيرانية تمنح الفقيه سلطة اجتهادية لا حدود لها. وقد كانت آراؤه الفقهية النظرية منسجمة مع هذا الخط الإصلاحي حينما أكد على مدخلية الزمان والمكان في الاجتهاد الفقهي، مؤكداً أن الاجتهاد المعاصر يختلف عما كان عليه سابقاً في عصر الأئمة، حيث كان تلقياً شفهيًّا وجدانيًّا في حين أنه اليوم اجتهاد نظري ظني وظيفي أكثر مما يُعنى بالأحكام الواقعية. وأما ولاية الفقيه في مداها الفقهي النظري فهي لم تأخذ طريقها للنقاش في مناخ جدل الفكر ومراكمة النظر في الفكر الإسلامي المعاصر، لأن من شأن ذلك النقاش أن يساهم في إنماء الفكر السياسي الإسلامي بدل الاكتفاء بثقافة أحكام القيمة في موضوع لم يدرس بما فيه الكفاية ولم يفهم على النحو الصحيح.

ولعل خصوصية المجال الإيراني منذ قيام الثورة حتى اليوم في سياق الجدل القائم اليوم داخل الدوائر العلمية والمراكز البحثية في نطاق ما يعرف بعلم الكلام الجديد والاهتمام المتزايد بفلسفة الدين وفلسفة الفقه -وهو جدل يطال عالم المعرفة والسوسيولوجيا والتاريخ والفكر السياسي والاقتصادي...- تكمن ها هنا في أن هذه النخبة هي الأكثر اقتراباً واحتكاكاً مع واقع الدولة في مفهومها الإسلامي الديني. فالنقاش هو بالغ الجدية في هذا المجال. كما أن إيران تشهد اليوم بروز نخبة ما فتئ يتنامى اطِّلاعها على تجارب الجدل اللاهوتي الغربي الحديث وعلى قدر من الاطلاع على مكتسبات ذلك النقاش الذي جرى في أوروبا الحديثة بين لاهوتيين وإصلاحيين كثر. قدر وجدناه يفوق ما عليه المجال العربي.

في المنطقة العربية لا يخلو الأمر من حضور آراء في الإصلاح الإسلامي هي اليوم تشكل جدلاً غير محسوم بين اتجاهين، أحدهما يغلب عليه التشدد في اختياراته ومواقفه، والآخر يغلب عليه التراخي فيهما. ويبدو لي أن موجات التطرف الديني في العالم العربي، بغض النظر عن أسبابها الموضوعية، هي الطابع الغالب على إسلام الحركات الإسلامية، دون أن يفوتنا تسجيل ملاحظة أخرى حول حقيقة التطور الذي تشهده هذه الحركات. ويبدو أن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين كانتا متقدمتين من ناحية أطروحات الإصلاح الإسلامي على ما عرفه المجال العربي عقوداً بعد ذلك. ليس المسؤول الوحيد عما يمكن اعتباره ردة عن تجارب الإصلاح الإسلامي في المجال العربي، بل الأمر يتعلق بحصيلة صيرورة خضعت لشروط موضوعية تفاعلت فيها معطيات تاريخية وسياسية واجتماعية، جعلت الفكر الإسلامي في الغالب يتراجع لصالح مهام ما كان لها إلا أن تخفف طرديًّا من سؤال النهضة والإصلاح لصالح أسئلة الهوية والاستقلال والممانعة. وهو ما يعني أن المرحلة الحرجة التي يجتازها العالم العربي والإسلامي تحرض على قلب الأولويات، وحيث لا يمكن بعث المهمتين معاً، فإنه من الطبيعي أن يتغلب خطاب الممانعة على خطاب الإصلاح الذي ما فتئ يتعثر ويواجه الفشل مع كل نوبة من نوبات الصراع الذي شكَّل قدر المنطقة ولا يزال.

نحن هنا مقيدون في نمذجتنا بالسياق الأكثر شمولية تاريخيًّا ومجاليًّا، لأن حركة الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر في المنطقة العربية والإسلامية كانت داخلة في نطاق مشروع نهضوي وحضاري، مثلما ساهم فيه أعلام من المنطقة العربية في طليعتهم رفاعة الطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده... ساهم فيه أعلام إسلاميون من غير العرب وفي طليعتهم محمد إقبال اللاهوري والسيد جمال الدين والسيد أحمد خان... ولأن هاتين الحركتين إنما سلكتا مسارهما الوعر في سياق تحدٍّ خارجي، فرض أجندته على جدول أعمال الحركة الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي، فارضاً معها وتيرة أسرع وجدية أكبر. سواء في سياق صدمة الحداثة التي فجّرها حدث احتلال نابوليون لمصر، وبالتالي تداعي خضوع المنطقة العربية والإسلامية للاحتلال والحماية من قبل فرنسا وإنجلترا، أو في سياق صدمة الموقف الأمريكي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما أعقبها من احتلال ودعوى لتغيير النظم السياسية والتعليمية، تحت شعار تصدير الديموقراطية -العنوان الواضح- أو تحت شعار الفوضى البناءة -العنوان الغامض- والتي شكّلت تداعياً لاختلال استراتيجي في التوازن الدولي عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وانحلال المنظومة الشرقية بعد سقوط سور برلين ودخول أوروبا الشرقية دورة الرهان على السوق الأوروبية وحلف الناتو. فالسياقان شكَّلا معاً صدمة، لا بل أحدثا جرحاً غائراً في الوجدان العربي والمسلم، جعل عملية الإصلاح الديني تنطلق في عمق هذا الجرح، وتجرّ معها خيبات أمل كبرى من جراء التنكُّر لقضايا العالم العربي والإسلامي العادلة، وللسياسة الدولية المرهونة للضغوط، والمتحيزة في سياستها وقراراتها المزدوجة المعايير. ففي السياق الأول شعرت المنطقة العربية والعالم الإسلامي بأن خطراً يتهدد الأرض ويستبيح الأوطان. لكنه اليوم وبفعل الفوضى التي يشهدها العالم والحوادث الكارثية العاصفة بمنطقة الشرق الأوسط، أصبحت المنطقة تشعر بأن دينها وثقافتها وأنماطها هي المهددة بالاستباحة. وحتى وإن حاول الغرب أن يخفف من وطأة هذا الإحساس المتنامي من خلال تصريحات وأقوال الآحاد من مسؤوليه بأن لا وجود لحرب حضارية ولا لحرب صليبية، فلا يمكن أن يُغيِّر قناعة عموم الشعوب العربية والإسلامية التي تلمس على الأرض كل مظاهر الاستباحة، للأرض والثروة والإنسان والمكتسبات الثقافية والحضارية. السياق التوتري الذي شهد انبثاق سؤال التجديد والإصلاح الديني محكوم بهذه المعادلة الصعبة. بل إنه معنيٌّ بأن يجيب عن تحدٍّ مخصوص وأسئلة حرجة لا مندوحة من استئنافها. لكن هذه المرة ليس على أساس المطلب المحلي الإصلاحي والنهضوي لتربية الجيل الجديد على قيم التقدم والنهضة أو ما عبر عنه الكواكبي ذات مرة في أم القرى: «بضرورة إنماء الشوق إلى الترقي في أذهان الناشئة». ولا لغاية انتزاع ما أسماه المرحوم مالك بن نبي: «القابلية للاستعمار»، بل هذه المرة على أساس الغلب السافر والإكراه المكشوف، وسياسة انتزاع كل ما يتراءى للقوى الخارجية عنصراً ثقافيًّا قابلاً بتمثل الوظيفة الاجتماعية والسياسية للممانعة المحلية. بين حسابات الاستراتيجيا البرّانية وحساب الاستراتيجية الجوّانية، حصلت صدمة أخرى أثرت في الزمان والمكان على رسالة الإصلاح الديني وأوجدت موانع موضوعية ساهمت بشكل أو بآخر في إعاقته، تحت وابل التلويح بالغزو وممارسته، والحصار والتأديب والتهديد الدوليين وما شابه. أي تضارب الأجندة الخارجية مع الأجندة الداخلية بخصوص الشكل والوتيرة التي يجب أن يقوم عليها الإصلاح الديني في المنطقة العربية خصوصاً والعالم الإسلامي عموماً. هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن عملية الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر في المنطقة العربية والإسلامية لم تحقق استمراريتها التي كان متوقعاً أن تنجز التراكم الكافي لانطلاق مراحل جديدة من أسئلة التقدم بدل أن نظل نراوح مكاننا حول الأسئلة ذاتها وإعادة إنتاج أجوبة سابقة بعينها. فبين المرحلتين حصلت قطيعة كبرى، أفقدت العقل الإصلاحي شرط الوصال، فكان أن حدثت النكسة في فلسفة الإصلاح ومضمونه بما انتهى إلى حرف المضمون النهضوي الإصلاحي الذي وسم مشروع النهضة العربية والإسلامية، باتجاه أسئلة ومشاريع لم تتجاوز في أوج غليانها سوى كونها مجرد رد فعل على مشروع الثورة كما مثله المشروع الناصري. ما جعل التوافق الذي عاشته النهضة العربية والإسلامية في عنفوانها يواجه نهايته السيئة، التي بلغت أوجها في الصراع القومي - الإسلامي منذ أقدم جمال عبد الناصر على إصدار الحكم بإعدام الشهيد سيد قطب[2].

تميزت هذه القطيعة السلبية مع مكتسبات النهضة العربية والإسلامية بميزتين:

الأولى: تراجع السؤال الإصلاحي بمدلوله النهضوي الجامع.

وثانيتهما: حصول الشرخ وتشتت الموقف الداخلي من مجمل القضايا التي عالجتها الحركة الأولى.

بوادر ردة الفعل تلك بدأت تبرز بشكل ملفت للنظر في تراجع السيد محمد رشيد رضا عن الخط العام الذي رسمته الجامعة الإسلامية وعكسته مجمل الأفكار التي قدمتها مجلتي العروة الوثقى والمنار. لكن سقوط الخلافة العثمانية وهجمة الحوادث السياسية المحبطة التي شهدتها المنطقة كان لها ذلك الأثر الكبير، الذي جعل محمد رشيد رضا، وهو أستاذ الشيخ حسن البنا الذي سيؤسس بعد ذلك جماعة الإخوان المسلمين، يتراجع بسؤال النهضة إلى الأسئلة الجزئية التي تُعنى بقضايا الفكر السلفي وتصحيح المعتقد، انطلاقاً من رسائل ابن تيمية وابن عبدالوهاب اللذين أولاهما اهتماماً كبيراً في نهاية مشواره الإصلاحي. فأصبحنا أمام رشيد رضا السلفي وليس رشيد رضا النهضوي.

ومن سؤال النهضة للجامعة الإسلامية إلى سؤال الحاكمية بمفهومها السياسي للجماعة الإسلامية، كانت الهوة أكبر مؤشر على وجود تراجع في صميم السؤال. وقد رأينا كيف أن الرؤية السلفية التي بلورها أعلام من الحركة الوطنية المغربية -حيث لم يقف مؤرخو فكر النهضة العربية والإسلامية على الفارق الكبير للرؤيتين السلفيتين- استطاعت أن تعانق فضاء الأسئلة الكبرى التي تبنتها الجامعة الإسلامية لرموز النهضة والإصلاح كالسيد جمال الدين ومحمد عبده. وهي بخلاف الرؤية السلفية التي استحوذت على تفكير السيد محمد رشيد رضا، فجعلته يقلب المجن على كل أفكاره التي بشَّر بها وعكست التزامه وإعجابه بأستاذه محمد عبده. فهذه أدخلت المجتمع في صراع بيني أشبه بحرب أهلية، في حين أن الثانية أنتجت وعياً تحرريًّا كانت ثمرته تحقيق الاستقلال وبناء الدولة الوطنية. بل إن نهضويًّا كبيراً هو المرحوم مالك بن نبي، لم يكن، وهو من رموز الإصلاح الديني، متحمساً لاستقلال باكستان عن الهند كما نظَّر له ودافع عنه، كل من إقبال والمودودي، على اعتبار أن سؤال النهضة لا يتحقق بمجرد الفوز بدولة في شروط لا تمنع من استمرارية القابلية للاستعمار. يوقفنا ذلك على ضرب من المفارقة، تجعل إقبال سياسيًّا أقرب إلى سيد قطب منه إلى مالك بن نبي. وإن كان إقبال الفيلسوف أقرب من مالك بن نبي فلسفيًّا منه إلى سيد قطب. وقد شهدت هذه المرحلة الكثير من الأحداث التي تفسر جنوح الحركة الإصلاحية إلى هذا المستوى من التردي في حمأة الصراع الأعمى الذي استبدل سؤال التقدم والنهضة بسؤال دولة الحاكمية. ويعود الفضل إلى هذه الحقبة فيما صار من أمر الصحوة الإسلامية التي وجدت في خطاب الحركة الإسلامية من حسن البنا إلى المودودي وسيد قطب ما أنزل النقاش إلى الشارع، وجعل لسلطة الشارع مدخلية في تحديد الأسئلة المشروعة. فبينما كان الجدل الجاري في إطار الجامعة الإسلامية تتولاه نخب ورموز إصلاحية بعيداً عن سلطة الشارع، فإن الخطاب الإسلامي في المرحلة الأخيرة أصبح خطاباً ديماغوجيًّا تحريضيًّا تعبويًّا، ربما أدى وظيفته على أحسن وجه على صعيد الممانعة ضد التحدي الخارجي، وربما أدى دوره مضاعفاً على صعيد العمل الاجتماعي، لكنه أوقف أسئلة النهضة وأجهز عليها إجهازاً، فكان النكوص، وكانت الصحوة غير مكتملة، صحوة عواطف وانفعالات وممانعة وتعبئة، لكنها قلَّما عانقت فضاء الصحوة النهضوية العقلانية في مداها الحضاري. وإن كانت في مديات فاعليتها تظل مفتوحة على كل اختيارات النضوج الواعد والرشد الممكن، لكن بعد أي جهد؟!

غاية القول في الأمر الأول من مدخلنا، أن ثمة سياقاً تاريخيًّا يحكم نقاشنا اليوم وهو على النحو التالي:

- أن سؤال الإصلاح الديني اليوم لم يطرح عندنا لأول مرة، بل سبق وطرح مع رواد الجامعة الإسلامية وما قبلها بقليل كما تشهد آراء السيد رفاعة الطهطاوي.

- أنه سؤال طرح في سياق توتري، موسوم بالصدمات والاحتلالات، ما يطرح سؤال إمكانية النجاح في تأمين مطلبين أساسيين: الممانعة ضد التهديدات الخارجية، وتحقيق الإصلاح الداخلي.

- أن ثمة قطيعة بين المرحلة الأولى والمرحلة الثانية من طرح السؤال، موسومة بالنكوص والتراجع عن سؤال النهضة، ما يحتم استحضار كل النقاش الحيوي الذي خلَّده تاريخ النهضة العربية المجهضة في القرن التاسع عشر.

- أن مطلب الإصلاح حينها كان مطلباً نهضويًّا داخليًّا، في حين كان مطلب الإصلاح في المرحلة الجديدة مطلباً خارجيًّا.

- أن عملية الإصلاح الديني حينها كانت توفيقية جنَّبت المجتمع حرباً أهلية متوقعة، في حين هي اليوم عملية تغييرية غير معنية بتبعات الإكراه الخارجي، أي الحرب الأهلية المحلية المحتملة في سياق ما يعرف بالفوضى البنَّاءة.

الأمر الثاني:
النموذج المعرفي لمسألة الإصلاح الديني

إذا سلَّمنا بوجود تاريخية متعثرة لمسألة الإصلاح الديني في العالمين العربي والإسلامي، من حيث كونها حاجة تولدت في سياق توتري محكوم بصدمة الاحتلال والضغوط الخارجية، وسلَّمنا أيضاً بأن ثمة فترة تخللت المحاولتين، لكنها بالنتيجة لم تراكم على مكتسبات الإصلاح الديني الذي وسم مرحلة النهضة وتراث الجامعة الإسلامية كما مثلتهما الأفكار المبثوثة في العروة الوثقى أو المنار، لصالح نكوص مشهود حرف شمولية الجامعة الإسلامية إلى تجزيئية الجماعة الإسلامية، وشمولية فكرة النهضة وشروطها إلى تجزيئية فكرة الحاكمية وشروط الدولة الإسلامية، وشمولية الإصلاح الديني في جدله الحضاري إلى تجزيئية الإصلاح الديني في جدله السياسوي التعبوي؛ إذا سلمنا بكل ذلك، فإننا نجد ثمة نموذجين معرفيين حكما وجهات النظر الإصلاحية والإسلامية اليوم:

الأول: النزعة التوفيقية التي طبعت كل محاولات جيل النهضة العربية ورواد الجامعة الإسلامية من السيد جمال الدين إلى محمد عبده إلى محمد رشيد رضا، ومن رفاعة الطهطاوي إلى الكواكبي إلى شكيب أرسلان...

أما الثاني فهو النزعة التفكيكية -لو صح الوصف- التي طبعت كل محاولات جيل الصحوة الإسلامية ورواد الحركة الإسلامية من المودودي إلى سيد قطب إلى الشيخ عبد الرحمن إلى علي بلحاج والظواهري ونظرائهم. اصطفاف كل هذا الرعيل في خانة نموذج معرفي واحد لا يقلل من أهمية التفاوت الفكري والثقافي والتمايز في التكوين، الذي كان يميز بين معتدليهم ومتشدديهم، أو بين بعضهم البعض سواء في خط التشدد نفسه أو في خط الاعتدال نفسه. فلقد كانت هناك فروق حتى بين متشددي النموذج الثاني، إذ ليس سيد قطب في سعة ثقافته ونبوغه كالشيخ عبد الرحمن أو علي بلحاج أو.. أو.. على الرغم من أنه هو الرمز التاريخي للجماعات الإسلامية المتشددة إلا أنه أكثر من كل شيوخها قبولاً ببعض مظاهر الحداثة التي يرفضها الآخرون كما يوحي مظهره الأفندي ونظراته في حضارية الإسلام وقيمه الانسانية والتحررية مثلاً. وإذا كان ثمة خلاف بين المعتدلين والمتشددين حول مفهوم التكفير والتجهيل للمجتمع الإسلامي الذي لا يدين في نظرهم لحكم الشريعة، فإنهم لا يختلفون حول جاهلية الحضارة الغربية ودنو انحطاطها. النموذج التوفيقي لجيل النهضة كان وسيلة تهدف تحقيق وظيفتين: وظيفة اجتماعية قوامها منع نشوب شرخ اجتماع وصراع يقسم الاجتماع إلى جبهتين لا وصال بينهما، كما انتهى إليه الأمر بعد ذلك، مع الجيل اللاحق، حيث انقسمت النخب الإصلاحية إزاء مسألة النهضة والتحديث إلى دعاة أوربة وقطيعة مع التاريخ العربي والإسلامي، كما برز في آراء سلامة موسى ولطفي السيد وطه حسين لا سيما في مستقبل الثقافة في مصر، وإلى دعاة أسلمة ومعانقة التراث بالجملة، كما برز في آراء كل الجيل الذي أعقب محمد رشيد رضا من الصحوة الإسلامية التي يلخصها العنوان الأبرز والأوضح بعدئذ لمحمد قطب: «جاهلية القرن العشرين»[3].

أما الوظيفة الثانية فهي وظيفة إيجابية ترمي إلى الدفع بالناشئة إلى الاندماج السمح في مكتسبات الحضارة المعاصرة بوصفها تعبيراً عن قيم وتعاليم ندين بها في واقعنا العملي. وبأن لا وجود هناك لما يدعو للصدام بين قيم الحداثة والتحديث وقيم الأصالة والمعاصرة. مثل هذا المنظور التوفيقي، نجده في «طبائع الاستبداد» عند عبد الرحمن الكواكبي، كما نجده في «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» عند شكيب أرسلان، كما نجده قبل ذلك في «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» عند رفاعة الطهطاوي، كما نجده في «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» لخير الدين التونسي. كما نجده في كل آراء هذا الجيل من السيد جمال الدين ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا والكواكبي من مصر والشام إلى المختار السوسي صاحب «سوس العالمة» والحجوي الثعالبي صاحب «الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي» من المغرب، إلى النائيني صاحب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» من إيران.

التهدئة الاجتماعية وتنمية القبول بالاندماج الإيجابي في الحداثة بوصفها تعبيراً عن قيمنا، هما الوظيفتان الأساسيتان اللتان استهدفهما النموذج التوفيقي لرواد الإصلاح الديني للجامعة الإسلامية. في حين استهدف النموذج التفكيكي لجيل الصحوة الإسلامية وظيفتين على طرف نقيض مع الأولى: الوظيفة الأولى، تكريس الصراع الداخلي، ونقل مفهوم دار الحرب إلى الداخل بما يستتبعها من تكفير وتجهيل للمجتمع المسلم المحلي، سواء أعبر عنه أولئك صراحاً في وقتها أم أنه أوجد نوعاً من التداعي المنطقي المؤسس لهذا الخطاب. الوظيفة الثانية، تكريس الفصل التام بين قيمنا وقيم الغرب، وحفر سدود بيننا وبينهم تصل إلى حد الفصل الحاسم والقطيعة الكبرى بين المجتمع الإسلامي -المختزل قطبيًّا في الدينونة بالحاكمية السياسية بلا شرط- والمجتمع الجاهلي. النموذج الأول جاء ردَّ فعل طبيعي لصدمة الاستعمار، وكبر همه بسعة الأفق الحضاري الذي يمثله هذا القلق، في حين أن النموذج الثاني جاء ردَّ فعل طبيعي لصدمة الثورة، فصغر همه بضيق الأفق الذي يمثله ذلك النزاع. والحق يقال إن ثمة غموضاً كبيراً يطبع هذه التجربة في التحول البنيوي في فكر الإصلاح، نستطيع أن نتحدث عنه على سبيل المفارقة. ما يعني أن ليس ثمة منطق ديني صرف لهذا التحول الباراديغمي، بقدر ما هناك انزياح، ينعكس على جدل الفكر انعكاسه على جدل الواقع، ما يعني أن ثمة قدراً من الفوضى والجزافية ظلت مستحكمة في مسارات الفكر والمعاش الإسلاميين.

المفارقة الأولى، وأسميها مفارقة الوسيط

المفارقة الثانية، وأسميها مفارقة الاختيار

تتجلى المفارقة الأولى، مفارقة الوسيط، في الشخوص نفسها التي تولت عملية الإصلاح والإحياء في الفكر الإسلامي، من الجيل الأول للنهضة إلى يومنا هذا. فبينما كان الوسيط المتصدي لعملية الإصلاح في عصر النهضة هم نخبة في الأغلب الأعم من رجال الدين بالمعنى التقليدي للعبارة. عالم الدين أو رجل الدين، لا مشاحة في الاصطلاح. في حين كان المتصدي لعملية الإحياء الإسلامي في الجيل المتأخر نخبة من محترفي التدريس النظامي والمهندسين والمحامين والأطباء، أي التكنوقراط. ما نريد التأكيد عليه هو أن أنصار الباراديغم التوفيقي، سواء من الجيل الأول للنهضة أو الجيل الثاني للإحياء، كانوا رجال دين وعلماء دين محترفين أزهريين كالطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي -من خلال نظيرة الأزهر: المدرسة الكواكبية بحلب الشهباء التي كان أبوه زعيمها وراعياً ومتولياً لها- وعلي عبد الرازق.. أو الزيتونة والقرويين كخير الدين التونسي والحجوي الثعالبي وابن المواز وأبي شعيب الدكالي، وصولاً إلى علال الفاسي أو حوزويين نجفيين كالسيد جمال الدين والشيخ محمد حسين النائيني، وصولاً إلى السيد الشهيد باقر الصدر ومهدي شمس الدين والسيد فضل الله والسيد حسن الأمين وأضرابهم. في حين كان رموز الإحيائية الإسلامية حاملة النموذج التفكيكي، ليسوا من رجال الدين وعلمائه في الأعم الأغلب، فحسن البنا معلم في المدارس النظامية، وسيد قطب كاتب وناقد أدبي، وأخوه صاحب كتاب «جاهلية القرن العشرين» خريج أدب إنجليزي، والظواهري طبيب، وبلحاج مدرس، وابن لادن خريج إدارة أعمال، وعبد السلام يسين مفتش تربوي، والترابي خريج قانون، وهكذا كان معظم رموز وقيادات الحركة الإسلامية في المنطقة العربية تكنوقراط وأفندية، وليسوا في الأعم الأغلب علماء دين وآخوندية.. إن أكثر الأفكار الإصلاحية الأكثر توافقية والأكثر عمقاً وجاذبية هي ما خرج من تحت جبة رجال الدين المحترفين والمنخرطين في عملية الإصلاح سواء في الجيل الأول أو الجيل التالي. في حين أن أكثر الأفكار المتشددة والتفكيكية خرجت من معطف الإسلاميين الأفندية التكنوقراط، لكنهم في الأعم الأغلب ليسوا رجال أو علماء دين بالاختصاص والاحتراف. تلك هي المفارقة الأولى[4].

وأما المفارقة الثانية فتتعلق بمفارقة الاختيار. إن الجيل التالي الذي مثَّل الحركة الإحيائية الإسلامية بعد محمد رشيد رضا، وتحديداً بعد رحيل حسن البنا، شكَّل الوريث الأكبر لكل التراث الفكري المنحدر من المجال الهندي، والذي عكسته آراء المودودي بخصوص الحاكمية وخطاب الاستقلال بالجماعة المسلمة الهندية في دولة معزولة ومستقلة. وهو الخطاب الذي سيجد له تعويضاً في فكرة حتمية العزلة الشعورية داخل المجتمع نفسه في المنظور القطبي. وليس الأمر يتعلق فقط بمفارقة الجغرافيا ولا بمفارقة الخطاب، بل هي مفارقة الاختيار التي تجعل سيد قطب يبحث في خطاب تيار الحركة الانفصالية الباكستانية عن الهند عن حلول لمصر بعد الثورة الناصرية[5]. موقف يحكي عن مفارقة اختيار، على الأقل يعكسها خلاف منظوري شبه بنيوي بينه وبين مالك بن نبي، المؤيد للثورة الناصرية غير المكترث لدعاوى محمد إقبال لانفصال باكستان عن الهند، وأيضاً غير المتحمس للطريقة القطبية في تجريم الناصرية، التي رأى فيها هذا الأخير طليعة الانتهاض في وجه التحدي الحضاري، وأحد أبرز فواعل حركة عدم الانحياز الفتية والواعدة آنذاك. ثمة إذن مسار متعرج في الخطاب القطبي، يعكس مفارقة الاختيار المذكورة، التي تتجلى بقوة في التحول الذي طرأ على الموقف والفكر القطبي، الذي كانت مواقفه السياسية والأيديولوجية في عهد الملك فاروق لم تصل إلى حد التكفير والتجهيل، وكأن الثورة الناصرية هي وحدها ما أدخل مصر في العهد الجاهلي. مع أنه في بداية الأمر كان من أنصارها ككل الإخوان المسلمين -قبل أن ينتمي لهذا التنظيم ويصبح واحداً من منظريه وقياداته- والتيارات المناهضة لحكم الملك فاروق وسيطرة الإنجليز.

ومفارقة أخرى، آيتها ذلك التهافت في الاحتجاج بأهمية الحضارة الإسلامية وانحطاط الحضارة الغربية. التي جعلت الخطاب الإسلامي في أوج عنفوانه التفكيكي، يقدم مثالاً فاضحاً لمفارقة نفسية ومعرفية. فبينما حاول المنظرون لهذا الهجاس التفكيكي أن يؤكدوا على دنو انهيار الحضارة الغربية وإعلان انحطاطها استناداً إلى شبينغلير في «انحطاط الغرب»، والذي سنجد للمودودي مقالاً على مقاسه بعنوان «انتحار الحضارة الغربية»، فإنهم أخبروا عن أهمية حضارة العرب والمسلمين استناداً إلى كتاب: «شمس العرب تطلع على الغرب». فبين خطاب «ليست حضارتهم على شيء» وخطاب «فضل حضارتنا على حضارتهم»، كانت هذه المفارقة تحفر تراجيديا مفارقة العقل الإحيائي الإسلامي في هيامه التفكيكي الذي بلغ أقصى شقوته وأشوه فصاميته وأنكر هجاسه، منتجاً حالة من الخطاب البارانوياني شديد التردد بين نزعة المكابرة ونزعة الشعور بالاضطهاد.

غاية الأمر في الأمر الثاني من مدخلنا، أن ثمة نموذجاً معرفيًّا مؤسساً ومؤطراً لمنظور الإصلاحيين، وهو المسؤول عن وجود بنية تناقضية تنتج هذا الشرخ المنظوري. ومظاهره التي لا تحصى يمكن اختصارها في الآتي:

- النموذج التوفيقي الذي أدى وظيفتين أساسيتين سرعان ما تراجع لصالح نموذج تفكيكي عكس الوظيفتين معاً.

- النموذج التوفيقي، بغض النظر عن الإشكالية المعرفية التي يستبطنها، كان تجلياً لسعة الأفق الذي جاء ردَّ فعل تجاه الاستعمار وصدمة الحداثة، في حين أن النموذج التفكيكي، بغض النظر عن الظروف التي حتَّمته، كان تجلياً لضيق الأفق الذي جاء ردَّ فعل تجاهه.

- الوسيط الذي شكَّل الحامل والناقل للوعي المؤطر بالنموذج التوفيقي والوسيط المؤطر بالنموذج التفكيكي ليسا سواء. بل المفارقة أن كبرى الأفكار الحيوية التي أنتجها عصر النهضة العربية في إطار الجامعة الإسلامية خرجت من جبة علماء ورجال دين بالتخصص والوظيفة، في حين أن كبرى الأفكار التي تميزت بالتشدد والجزئية والظرفية خرجت من معطف الأفندية والتكنوقراط بالتخصص والوظيفة.

- التحولات الدراماتيكية في النموذج المعرفي التأطيري للحركة الإحيائية، حصيلة منتج لانفعالات جزافية ومسارات توترية تحكمت فيها مفارقات الاختيار.

وبالجملة، فإن المدخل أعلاه يضع إشكاليتنا اليوم في إطارها التاريخي والمعرفي، حيث معالجتنا اليوم لمسألة الإصلاح الديني، ستواجه بسؤالين رئيسين:

الأول: هل معالجتنا لمسألة الإصلاح الديني ستبني على هذا الموروث الإصلاحي، أم أنها ستجترح أسئلتها الخاصة؟ بتعبير آخر، هل ستكون أسئلتها استئنافية أم ابتدائية؟

الثاني: هل معالجتنا لمسألة الإصلاح الديني ستستوعب الإشكال المعرفي الباراديغمي، أم أنها ستتحرر من سلطة التأطير المعرفي وتنطلق جزافاً في عماء وقفر معرفي مفتوح على نقائضه بلا شرط ظهير، كحاطب ليل؟

السؤال الأول، يفرض جواب البناء على إرث من العمل، وتراث من الاشتغال معتبر. حيث الفعل الإصلاحي نفسه يستدعي مخزون التراكم التاريخي شرطاً للاستمرارية لا محيد عنه. كما أن السؤال الثاني يفرض جواب تحديد النموذج المعرفي، حيث التحرر من الإطار المعرفي لا يحرر بالضرورة الفكر، بقدر ما يجعله أسيراً لفوضى النماذج وضحية سلط معرفية متضاربة، فلا مخرج إلا بتحديد النموذج المعرفي الناجع، حيث نجاعته لا تتحقق إلا بشرط الباراديغم المفتوح على موقف منظوري يتقوم بنزعة بيتخصصية تتسع اتساع وشمول الظاهرة الدينية والاجتماعية.

* المتوقع والمنتظر من الإصلاح الديني اليوم

- من «ما كان» إلى «ما ينبغي أن يكون»..

بعد أن وقفنا على ما كان من أمر الإصلاح الديني وحركة النهضة والإحيائية عبر جيلين فصلتهما قطيعة في النموذج، ماذا نتوقع من عملية الإصلاح الديني اليوم وما شروط قيام عملية كهذه في مجالنا العاصف والملتهب؟

هذا ما سنجيب عنه، في حدود العناوين والمحاور التي يؤطرها جدول أعمال هذا الورش.

هناك بلا شك جدل أولوي بين عملية الأسلمة وفق الشروط الذاتية وأنماطها المتاحة وإعادة بناء الفكر الديني في عالمنا العربي والإسلامي، وفق الشروط الموضوعية والأنماط الحديثة التي يفرضها واقع التجدد. وهما ما يميز مشروعين على تمام الاختلاف. التيار الإسلامي يرى أن المجال الإسلامي يعيش فراغاً إسلاميًّا على مستوى تطبيق الشريعة، في حين أن لسان حال التيار العلماني النقيض، هو أن المشهد يغص بما يكفي من الإسلام، وأن المهمة باتت ناجزة لقيام حركة إصلاحية للفكر الديني. في سياق هذا الجدل تتعمق الفجوة إلى الحد الذي يبدو فيه النقاش أشبه بحوار طرشان. فداخل التيار الإسلامي هناك موجة عارمة للفكر الإصلاحي، حيث لم تخل حقبة من الحقب من المناداة بضرورة الإصلاح الديني. دعوة أطلقها رواد الإصلاح الإسلامي كرفاعة الطهطاوي ومن أتى بعده من الإصلاحيين. بل خير من مثَّل لذلك محمد إقبال من خلال محاضراته في الجمعية الإسلامية بمدراس التي شكلت بعد ذلك مؤلفه الشهير: «تجديد التفكير الديني». وبينما هدف الإصلاح الديني بمدلوله الإسلامي إلى القضاء على الفكر الخرافي ومظاهر التخلف الفكري، لمزيد من الأسلمة، وهو أساس الفكرة السلفية النهضوية التي دعا إليها محمد عبده والحجوي وأبو شعيب الدكالي ونظراؤهم؛ كانت غاية الإصلاح الديني في مدلول التيار العلماني الوصول إلى فصل كبير وإن اقتضى الحال فصلاً تاماً وحاسماً بين الدين والدولة، وأحياناً بين الدين والمجتمع، لمزيد من التخفيف من الأسلمة. فلكل تيار أهدافه ولكل اتجاه تكتيكاته الخفية والمعلنة. ولا يحتاج الأمر إلى كثير نظر، حيث يكفي الوجدان لإدراك هذا الاختلاف بين المنظورين. ولو أننا مضينا في استقراء مجمل الخطابات الإصلاحية منذ عصر النهضة العربية حتى اليوم، سوف نجد أن أكثر المشاريع والآراء التي شطَّت باتجاه محو آثار الأسلمة أو العروبة أو التراث أو الخصوصية، هي تلك التي نشأت في أحضان التيار العلماني والوضعاني العربي، حيث مثَّلها أفضل تمثيل فرح أنطون وسلامة موسى ولطفي السيد وطه حسين ولويس عوض. واليوم خرجت عن حدِّها وغالت غلواً يمثله بديماغوجية أكبر أمثال العفيف لخضر والطرابلسي وأضرابهما؛ بالدعوة الصادحة إلى الاندماج اللامشروط في العلمانية المطلقة والقطيعة التامة مع التراث والخصوصية، وكثيراً ما تحدثوا عن قطيعة مع الإسلام نفسه كما أظهرت بعض مقالات العفيف لخضر صراحاً. ومع أن ثمة الكثير مما يفرق بين الاتجاهين إلى حد الخصومة والقطيعة، إلا أن ثمة جامع مشترك في حدود نزوعهم التمامي إلى «اللابشرط». أقصد بذلك نزوع كلا الاتجاهين نحو وجهة نظره دونما اهتمام بالشروط التي تجعل دعوته ممكنة ومشروعة. فأما التيار الإسلامي الإحيائي في صورته التمامية والشمولية، فهو يتحدث عن عملية أسلمة شاملة بلا شرط. وينتزع مشروعية ما يؤول إليه تداعي هذا الخطاب في الجملة من خلال مشروعية الأسلمة بالجملة[6]. فلو أخذنا على سبيل المثال دعوة سيد قطب لتطبيق الحاكمية، بوصفها فيصلاً جوهريًّا بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الجاهلي، فإننا نجد أن الأسلمة تمر من هنا، من الحكم والسلطة. فلا يكفي أن يدين هذا المجتمع بالإسلام حتى يكون مجتمعاً إسلاميًّا. فسيظل مجتمعاً جاهليًّا حتى لو دان كل أفراده بالإسلام ما لم يحققوا حاكمية الله على الأرض. لكن سيد قطب لم يقدم مشروع الأسلمة بشروط تكفل له النجاح. إنه يتحدث عن الإسلام في نفس الأمر وكما هو. والحاكمية كما صيغت في رؤيته الأدبية الأخاذة لن تجد قبولاً شاعريًّا في واقع يفرض على داعية الأسلمة بلا شرط أن يقدم ما يشبع قناعة المتلقي بقيمة ما يطرحه وجدواه خارج هذه المجازات الجميلة. فالواقع على الأقل كان يلح في السؤال: طيب هب أننا قبلنا بتطبيق الشريعة بهذا المعنى الغامض والمجمل، وتنازلنا عن كل هذه الشرائع والقوانين التي تقوم عليها إدارة الاجتماع السياسي الحديث وتشكل مكتسبات لا غنى عنها للدولة الحديثة، ولو كانت الكثير من الدساتير العربية والإسلامية تتحدث عن الشريعة الإسلامية بوصفها مصدراً أساسيًّا للتشريع، فكيف سيكون التدبير يا ترى.. وهل البديل جاهز في كل التفاصيل لكي يملأ الفراغ.. ومن هو الحاكم الشرعي الذي سيتولى تحقيق الحاكمية؟ سؤال طرح على سيد قطب، لكنه لم يقدم جواباً غالباً لم يطرحه المتلقي المأخوذ بسحر العرض الشاعري لمفهوم الحاكمية التي مجالها علم الكلام وما يتصل بها من فروع الفقه وأحكامه، لا سيما تلك التي تتوقف على تدخل الحاكم الشرعي. ذلك لأنه أجاب عن السؤال الأول بأننا غير معنيين الآن وقبل إحراز الدولة الإسلامية وتحقيق الحاكمية، بالتفاصيل. وليس من المجدي البحث في التفاصيل الفقهية إلا بعد قيام الدولة الإسلامية.

وأما السؤال حول شرائط الحاكم الشرعي ومن يحكم، فلم يجب عنهما، بل غفل عنهما أيما غفلة. والنتيجة، ستكشف عنها تداعيات الأحداث وسيرورة زمان قاتم من الاندحارات والنكوصات. فلقد قامت في أفغانستان دولة تدين بالحاكمية وتطبق الشريعة من قبل طلبة الديوباندية الأفغان في باكستان. وشهدنا ما هو جدول أعمال هذه الدويلة فور إجهازها على حكومة المجاهدين الأفغان، التي شكَّلت نشازاً أكثر غرابة مما قد تثيره جماعة وحشية معزولة في الأدغال. ولبشاعة النموذج الذي قدمته للعالم الذي لم تُعره أي اهتمام وهي تراكم الإهانة والحرج للنموذج الإسلامي. حيث حصرت اهتمام الحاكمية الإسلامية في تصفية الحساب مع تعليم المرأة وفرض مقاييس اللحى، ولما خلصت من ملحمة الصفع والركل للمواطنين، توجهت بالتدمير للتماثيل والحجر. لقد كانت مثالاً لدولة دونكيشوتية بائسة، أقفرت قفراً وأفقرت فقراً كان ولا يزال هو لعنة هذا المجتمع الذي دفع الثمن غالياً. ومع أن حليفها الأول كان يسندها بالإعلام، ويواري سوآتها، إلا أن الفضيحة شاعت، وكان أكثر الناقمين على هذا النموذج هم المسلمون أولاً. ولو أنك تلوت «معالم في الطريق» على شاب قطط، ثم بعد أن يختمه توجهت به إلى دولة طالبان، لقال: إنها الدولة التي طبقت «معالم في الطريق»: مجاهدون يقاتلون ببسالة أصحاب الأخدود، وجيل قرآني فريد لا يدري أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، وأمة تقاتل لكي يحكم شرع الله في الأرض وتتحقق حاكميته. جماعة تححقت عندها قيمة العزلة الشعورية عن كل ما حولها من مدارات جاهلية... إنها دولة الصحابة. قال ذلك أحدهم يوم زار الجماعة المقاتلة بالجزائر، وسمعناها جميعاً ممن رأى يوماً في ابن لادن صحابيًّا يعيش في القرن الواحد والعشرين. ومع ذلك، فإنني جازم بأن دولة كهذه لم تكن لترضي صاحب معالم في الطريق. فهو أكثر انزعاجاً من التشبث بالشكليات كما تحدث مليًّا في كتابه «الإسلام في مواجهة الرأسمالية». بل ماذا كان سيقول لشرطة طالبان لو أنها طالبته بامتثال واجب إعفاء اللحية التي جعلت منها حكومة الملا عمر، قضية تفوق كل القضايا الحضارية للأمة. لكن ذلك كله نتيجة غياب شروط حقيقية، جعلت مفهوم الحاكمية بلا فقه ولا شرط، يمكن أن تأتيك بآلهة بشرية تستعبدك، وليس أنها الحاكمية التي تحررك من سلطان البشر. أفلا يتساءل المرء: ترى ماذا خسر المنظور القطبي، عندما استهان بمسألة التأصيل والتفصيل وشرائط ما كان يدعو له بحماسة؟!. لا بل حتى المودودي الذي حاول الإجابة عن السؤال أعلاه، بأن الحكم ليس من وظيفة الفرد بقدر ما هو وظيفة الجماعة المؤمنة التي تستحق تمثيل تعاليم السماء، لم يتحدث عن إجراءات احترازية من خطر الانهداد في مهوى الاستبداد، سوى أوصاف أخلاقوية، تجعل الأمة تحت رحمة المجهول والاتفاق والجزاف السياسي. إن الحديث عن البديل، هو جوهر إشكالية خطاب الأسلمة. وكثيرة هي الحركات الإسلامية التي لا تملك جواباً حقيقيًّا أمام تحدي الوقائع والنوازل والموضوعات المتجددة. ودائماً أحب أن أضرب مثالاً موجعاً يحكي عن أن مسألة البديل لا تمثل قضية أساسية وجادة يتدبرها الإسلاميون أحياناً بالمسؤولية المطلوبة. فبينما كان أحد القيادات الإسلامية يحرِّض الشباب على الانقلاب على النظم السياسية في بلدانهم، وذلك باسم البديل الإسلامي الذي هو -ومن دون أن يقدم ما به يتميز هذا البديل- متقدم على جميع الخيارات، قائلا: إن البديل إذا لم يكن متجاوزاً لكل البدائل المطروحة، لن يكون حضاريًّا. لكن بعد أكثر من عقد من الزمان، يجيب السائل الذي تحدث له عن وجود بديل قادر على بناء مجتمع متقدم: نحن لسنا مكلفين ببناء حضارة، نحن مكلفين بأن نؤمن بالله ونرجو الآخرة[7]. ليس ما تحدث عنه هذا القيادي المميز بخطاباته التعبوية الثوروية لا يعدم مصداقية لو أنه صدر عن متولٍّ لوقف أو إمام راتب في مسجد جامع، بل الصدمة الكبرى، أنه صدر ممن حرَّض جيلاً كاملاً من الشباب على الانقلاب على النظم المتخلفة طلباً لدولة إسلامية حضارية يملك بديلها. والحق، أن الأسلمة بعد ذلك لم تكن واضحة كما يجب عند هؤلاء. فأن يكون المسلم مكلفاً بما يرجو به المنفعة الأخروية هذا أمر يشكل الحد الأدنى الذي لا يحتاج إلى إصلاح ديني، لأنه موجود ولا وجود لمشكلة. وهذا غير ما يتعلق بالتكليف الجماعي للمسلمين بأن يحققوا نهضتهم ويحتلوا مكاناً متقدماً في المشهد العالمي.

ولا شك أن التبني الحضاري للإسلام له شروط ليس بالضرورة مستوعبة في شروط تحقق الإسلام الفردي. فبين النفع الدنيوي والأخروي جدل معقد في الخطاب التربوي الإسلامي. والمسلم يجد نفسه ممزقاً بين باعثين، أحدهما يبعث على عمارة الأرض والآخر يبعث على الزهد في الحياة والانزواء. ويظل السؤال الكبير: هل بمقدور المسلمين أن يبنوا حضارة ويحققوا عمراناً متقدماً مع وفائهم لقيم الزهد والعزوف عن الدنيا؟

التعاليم تتحدث عن أن العمل عبادة، وتقدم أمثلة لا تحصى على أن لا تناقض بين مقدمات المنفعة الدنيوية والمنفعة الأخروية؛ بل إنها ترقى إلى حد إعلان التوافق التام بين العملين، حيث كل عمل دنيوي مقرون بنية القربة ورجاء المطلوبية هو بقدر ما يثمره في الدنيا من منافع، يثمر في الآخرة حسنات. ولا وجود لمسلم يجهل نظريًّا هذه القيمة التي تُميِّز ديننا من أكثر الأديان التي لم تستطع ردم هذه الهوة الفاصلة بين الدنيوي والأخروي، بين المادي المشهود والغيبي المكنون. غير أن لهذا التوازن نفسه تبعات على العمران. واليوم إن الموضوع أكثر تعقيداً مما سبق. فلقد فرضت الحداثة على الاجتماع المعاصر وتيرة في العمل وأنماطاً في الأداء وثقافة في الاستهلاك، تفرض على أحرار العالم اليوم جهداً مضاعفاً لم يكن ليبذله عبيد الأمس -وهو ضرب من الاستعباد الناعم الذي فرضه نمط الانتاج ونمط الاستهلاك- على مستوى استغراق زمن العمل والاستيلاب في أنماطه. وستصبح حينئذ وتيرة ونظام العمل وما يتطلبه نمط الإنتاج الحديث تحدياً إضافيًّا في وجه فلسفة الزهد بمدلولها التقليدي. ولهذا يشعر المتدينون بضعف التدين كلما انغمسوا في العمل وانخرطوا في الحياة الجماعية. إن نمط الإنتاج ونمط الاستهلاك أوجدا ثقافة وسمت الحداثة بميسم خاص وفرضت، فضلاً عن الوتيرة العالية في العمل والأداء، انقلاباً في الرؤية يحدد علاقة الإنسان الحديث بأشيائه حيث يكسبها قيمة اجتماعية مختلفة. وهذه الرؤية هي انقلابية تقطع مع نظائرها التقليدية، حيث ما لم يقف الفكر الديني على هذا التحول الانقلابي في العلاقة مع الأشياء وصيرورة المعنى الاجتماعي لهذه العلاقة، فإن حوار طرشان بين الفكر الديني ومقتضى التطور الكبير والسريع للإنماط الاقتصادية والاجتماعية سيستمر إلى ما لا نهاية. أردت أن أقول: إن كل شيء تغيّر مفهوميًّا، لأن الجوهر تحرك وبالتالي الموضوع لم يعد هو الموضوع. وخذ لذلك مثالاً لمفهوم -لا أقول الأشياء المستهلكة- بل فلسفة الاستهلاك نفسها، أو لنقل فلسفة وثقافة القمامة بين الأمس واليوم. وخذ لك مثالاً عن مفهوم التعب والعياء بين الأمس واليوم. وخذ لك مثالاً آخر بين مفهوم الفقر والغنى بالأمس واليوم... كل هذا يطرح سؤالاً آخر: هل مفهوم الزهد هو نفسه تطور بما يكفي؟ الجواب يكمن في الثورة الكلفانية التي شكلت ثورة تزمت واستقالة في التفكير الديني المسيحي في أوروبا، التي جعلت -بوصفها ثورة تقشفية- العمل عبادة حتى لو لم يكن نفعه شخصيًّا، أي خدمة للآخرين. وهي النزعة التي سيبني عليها جيل كامل من الاجتماعيين نظرتهم وهو ما سيسميه كل من هيغل وماكس ويبر بأخلاقيات العمل. وهو ما شكل مفارقة الأصول اللاعقلانية للإنتاج الرأسمالي في أوروبا الحديثة. لكن هذه الروح سرعان ما ستتلاشى في زحمة الاستلاب الأكبر في الدورة الرأسمالية، فجعل للإنتاج أخلاقيات مختلفة، تدور حول المنافسة وحرية العمل والمضاربة، أي الحق في الملكية بمعناه الفرداني الليبرالي القائم على المنفعة الفردية وهو ما عبرت عنه النزعة الفيكتورية أوضح تعبير. فروح العمل وأخلاقياته بحسب المنظور الهيغلي، كان لا يزال يحتفظ بنزعة اجتماعية كبيرة. وهي النزعة التي سرعان ما ستشهد تبدلاً ملموساً في النمط الليبرالي الذي ينزع بالطبيعة إلى التوحش، أي الفردية والأنانية والمنفعة الشخصية. لكن التصور الديني الإسلامي، يحتوي على مضمون آخر للزهد، غير المفهوم البسيط والتقليدي، أي الحق في التملك والتوسعة في المعاش، من منطلق المفهوم الإسلامي نفسه للفقر باعتباره الحالة التي تجعل صاحبها غير قادر على تأمين معاش سنوي. فما تحت الفقر بالمعنى الإسلامي لا يوجد الموت والنكبة، بل توجد المسكنة وهي لا تعني الموت أيضاً. فأي صورة سيكون عليها الزهد يا ترى، إذا أضفنا إلى ذلك حث الإسلام على الإنتاج والسعي وطلب التجارة. القيمة الأساسية التي غابت عن المسلمين، هو ما يحدده الخبر القائل: «ليس الزهد ألَّا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء». وليس غريباً أيضاً، بل لعله من المفارقة أن أجمل الحلول نجدها في موقف العرفان الصوفي من هذه الإشكالية، حيث إن وجود غير الزهاد من أهل الذنوب ضرورة عمرانية. ليس ضرورة من حيث إن البارئ تعالى جعل الناس خطَّائين كي يتوبوا فحسب، بل لأن العمران لا يقوم -حسب ابن عربي وصدر المتألهين الشيرازي- على هؤلاء الزهاد المنزوين في معابدهم. بل لو خلت الدنيا إلا من هؤلاء لفسدت الأرض كما يقول أهل العرفان. فأن يُقَبِّل صاحب الدعوة يد الفلَّاح قائلاً: إن الله يحب هذه الأيادي، ليس سوى ذلك التوازن الذي أرسته الرسالة، بين ضرورات العمران وطلب رضا الخالق تعالى. ولذا كان أكثر العباد والعلماء في الصدر الأول للإسلام كادحين عاملين. ولذا قال لهم صاحب الدعوة: لولا أنكم تخرجون في معايشكم وتعافسون النساء لصافحتكم الملائكة في الطرقات. وهذا معناه أن ثمة ضريبة للكدح والعمل، وأن الرعيل الأول كان كادحاً بامتياز. إنما لا قيمة لهذه التعاليم ما دامت هي أفكار لم تعد تجد أرضية صلبة. حيث كما أكدنا مراراً أن قيمة الأفكار والتعاليم هي في أن تنطلق من داخل نسق في لحظة تفاعل تاريخي اجتماعي. فالقليل من التعاليم الدينية المتجددة في أوروبا استطاعت أن تحدث تأثيراً كبيراً. على أن بحراً من التعاليم الإسلامية لن يفيد ما لم تتحرك البنية في موقف تاريخي، يجعل قليلاً من القيم والتعاليم يؤتي أكله، في حين لم يكن كل هذا الركام ليحدث شيئاً في غياب نهضة الأمة. ومن هنا فالأسلمة لن تزيد المسلمين إسلاماً إذا لم تكن الأسلمة هي نتيجة لموقف تاريخي وانطلاق بنية متكاملة في الفعل الإيجابي. أي بتعبير آخر أقول: إن الإصلاح الديني هو نتيجة وليس مقدمة. فالمطلوب إذَّاك، كيف تُنهض الأمة وتنهض معها فهماً متقدماً للدين. ما دام أن الدين لم يوجد في دنيا البشر ليعدم، بل إنه أعقد وأبسط ظاهرة اجتماعية على الإطلاق، وأيضاً هو أقدم وأحدث ظاهرة اجتماعية أيضاً.

في النتيجة: إن بين الأسلمة والإصلاح الديني علاقة تقدم ولحوق منطقيين. فالإصلاح الديني أولاً وبعدها فليكن فعل الأسلمة. والسبب في ذلك أن الحدث الإسلامي في نشأته الأولى شكَّل بحق ثورة إصلاحية. وما معارك التأويل التي أعقبت مرحلة التنزيل سوى مظهر لإخفاق الأمة في عملية الخروج من زمن التنزيل إلى زمن التأويل. وما دام الدين فاعلاً في المجتمع، وما دام هو الظاهرة الأكثر تعقيداً أمام محاولة الاستئصال، وما دام هو الظاهرة الأكثر بساطة لدنوها من شعور الإنسان وإحساسه اليومي، فإن فعل الإصلاح الديني هو فعل مستدام. فحيثما وجد الدين تعيَّن وجود الإصلاح. هو إصلاح مستدام من حيث حتمية استمرارية التأويل، ومستدام من حيث إنه لا بد من ترك مساحات ممكنة للأجيال اللاحقة لمزيد من التأويل. ذلك هو المخرج الوحيد. فإذا كان «فقد العقل شقاء» فإن خلو التدين من الفاعلية العقلية يؤدي حتماً إلى شقاء الوعي. فيظل مطلب تعقيل الدين عنوان صلاحه مادام «الدين لا يصلحه إلا العقل»![8]

* هل من الملائم طرح مسالة الإصلاح الديني؟

لهذا السؤال جنبتان: الأولى معرفية والثانية سياسية.

   1-  الجنبة المعرفية

تتعلق الجنبة الأولى، بالإشكال الذي يطرحه إمكان بله ضرورة الإصلاح الديني، من حيث الدين -بحسب نفس الأمر والوظيفة- هو جوهر قار، وشأن جعلي توقيفي لا يد للعقول فيه نشأةً وربما فهماً أيضاً. إذ كيف يملك العقل ممارسة سلطته على الدين، والدين أشمل منه، بل لو كان يملك العقل هذه السلطة لما احتاجت البشرية إلى الدين. ولا يخفى أن مثل هذا التصور وُجِد ولا يزال موجوداً بين ظهرانينا. وهو أسير شبهة كلامية قديمة مفادها أن العقل مستقيل في علاقته بالشريعة، وليس كاشفاً عنها أو مطابقاً لها، أو حتى مستقلاً ببعض أحكامه. ويكفي لدفع هذه الشبهة ما تراءى للعدلية، وصلاً لا فصلاً بين العقل والشريعة. حيث الشرع سيد العقلاء. وأن العقل هو ملازم لكل عملية تشريعية، حيث لا تكليف إلا بعقل. بل لا إمكان لوصول الشرع إلى المكلف إلا بواسطة العقل وقواعده ومقتضى سيرة العقلاء. فالحكم الواقعي يتقوم بعقل المتلقي المكلف في فهم ظهوراته واستبيان مفهومه من منطوقه وقيده من إطلاقه وخصوصه من عمومه وحقيقته من مجازه ومجرده من محفوفه بالقرائن المنفصلة أو المتصلة. كما أن الوظيفة الأصولية التي هي المجرى عند فقد الحكم الواقعي، تستند إلى نظر العقل، سواء أكانت شرعية صرف كالاستصحاب والبراءة الشرعيين أو عقلية صرف كالاستصحاب أو البراءة العقليين. وكذا سائر الأمارات أو الأدلة العقلية التي يقوم عليها الجزء الكبير إن لم نقل الأكبر -لسعة التكاليف ذات المدرك الظني- نظير قاعدة اليد في أحكام التملك أو سوق المسلمين في أحكام المكاسب والأطعمة والأشربة أو عموم السيرة العقلائية الارتكازية الممضاة من قبل الشارع، وهي تشمل ما بنى عليه العقلاء بغض النظر عن خصوص مللهم ونحلهم. بل إن مدار العقاب ما اطمأن إليه قطع المكلف بطريق العقل، وهو طريق العلم والقطع، حتى لو كان الواقع على خلاف ذلك القطع. ما يعني أن العقل معانق لا مفارق في كل أحواله للتشريع والتكليف. ويتضخم دور العقل، نظراً أو سيرة بشكل مطَّرد مع تضخم الانسداد وتقدم الرشد. وما خلو زماننا من وصل وحياني مباشر على خلفية الخاتمية إلا أمارة على مقدار الرشد الذي هو رهان تجلي الحقائق الأخفى، حيث لن تحجب هذا الرشد مظاهر الفساد العريض في قلب العمران البشري الحديث. هذا إن كان الأمر يتعلق بالتشريع، وأما إن كان متعلقه أصول الاعتقاد، فإنه يكفي لدفع تلك الشبهة، أن العقل بحسب ما ورد في الأخبار هو: أول ما خلق الله، به يعاقب وبه يثيب[9]. فضلاً عن أن التاريخ الديني دال على أن الأديان، لا سيما السماوية جاءت على أعقاب بعضها البعض، كحركة تصحيحية. فالمسيحيون يقبلون بهذه الحقيقة إزاء اليهودية، والمسلمون يقبلون بها إزاء الأديان الأخرى. وأما تاريخ اليهود، فلقد شهد أنبياء متعاقبين أو معاصرين لبعضهم البعض. وكانت عملية الإصلاح الديني قائمة على قدم وساق عموديًّا تنزيلاً وأفقيًّا تأويلاً. وقد كان مدار الإصلاح في نهاية المطاف يدور مدار الأدلة والبراهين وخطاب العقل. فالعقل هو الأمر الثابت في هذه الأطوار الإصلاحية. والتفكير الديني يتقدم بتقدم العقل ويرشد برشده. وفي هذا الإطار يتعين أن نتساءل: من المعنيّ بالإصلاح، الدين أم الفكر الديني؟ والحق أنه بدا واضحاً اليوم أن المعنيّ بالإصلاح هو الفكرالديني أو بتعبير محمد إقبال: التفكير الديني. أي تلك المساحة التي يوفرها التأويل، لتثوير الحد الأقصى من المعنى. فالمعنى يغتني ويتكامل برشد العقل وتقدم الإنسان. فكل درجة من العقل والرشد كاشفة عن فكر ديني مناسب. ولعله من الشطط أن نسحب أفهام الأقدمين على أفهام الحدثاء، ونغضي عن كل هذه الأمواج الهائلة من التقدم، كما لو أن الإنسان يعيش لا بشرط الزمان والمكان. فيكون المتلقي في عصر الثورة الرقمية والإنتاج والوفرة التقنوية هو عين المتلقي في عصر شغلت فيه الخرافة العارية الجزء الأكبر من ثقافة الإنسان. حيث العمران لا يقاس بالعمران، والسرعة لا تقارن بالسرعة والذوق لا يقارن بالذوق. فحق حينئذ أن نقول: إن للزمان والجغرافيا والحضارة وصدمات التقدم مدخليةً في صياغة الوعي والفهم الديني. فالفهم الديني المجرد واللابشرط دونه خرط القتاد!

2- الجنبة السياسية

لا يخفى ما للشرط الدولي من آثار سلبية على عملية الإصلاح الديني. كما لا أحد يستطيع الإغضاء عن عنف الإكراه الذي تواجهه النظم السياسية العربية والإسلامية حول ضرورة إحداث إصلاحات وتغييرات في نظمها السياسية ونظمها التربوية وكذلك على مستوى إصلاح الحقل الديني. كل هذا أمر تدرك أهميته وخطورته المجتمعات العربية والحكومات العربية كما لا يخفى. وبينما ظل مطلب الإصلاح ملحاً منذ عصر النهضة العربية والإسلامية، لا بل أمراً مطروحاً بإلحاح في كل الأطوار التاريخية للأمة، واجه إهمالاً كبيراً من قبل النظم نفسها التي تواطأت ضمنيًّا ضد هذه المطالب، حيث كان الشرط الدولي يتيح إمكانية استثمار وتوظيف التخلف بكل مدياته في تأمين مصالح وأجندات داخلية وخارجية. واليوم، بعد أن حصل اتفاق غير معلن بين مطالب الإصلاح التاريخية ومطالب الإصلاح المنطلقة من الأجندة الخارجية في سياق ما سمي بالحرب على الإرهاب، أصبح من اللازم طرح هذا السؤال الحرج: هل من الملائم طرح مسألة الإصلاح الديني اليوم؟

لكن السؤال المفروض طرحه في وجه السؤال أعلاه: لماذا لا يكون الظرف ملائماً، وأي ظرف هو الأمثل، وهل الإصلاح ليس إلا ما يبعثه هذا الصدام والقلق..وكيف يمكن التوفيق بين الإصلاح والممانعة ضد توظيف الإصلاح بوصفه استجابة لمطالب الخارج ولو كانت على حساب الحقوق العادلة للمجتمعات العربية والإسلامية؟

أفترض أن الإصلاح الديني هو ملائم دوماً ما بقي الدين الظاهرة الأكثر تعقيداً وبساطة، والأقدم والأحدث بين الظواهر الاجتماعية كما أسلفنا. ولكن ما يبدو قميناً بالطرح، هل الظرف اليوم مناسب أم لا؟

يمكن للباحث في الإصلاح الديني أن يكتشف عبر عملية استقرائية سريعة، أن كبرى الثورات الدينية والإصلاحية بما فيها بزوغ الأديان، إنما جاءت استجابة للتحدي الذي يفرضه الواقع الخارجي، وأيضاً للتحدي الذي يفرضه البؤس الذي يجتاح الوعي بالجملة والوعي الديني بدرجة أخص. وحتى لا نتحدث عن الأديان الأخرى ولا حتى عن الشروط التاريخية للإصلاح الديني في أوروبا، لنضرب مثالاً بالإسلام نفسه. هذا الدين الذي لم يكن ليقدم نفسه بديلاً للعرب ورسالة للعالمين، إلا بعد أن أجاب عن كل المشكلات التي طرحها عصره، وطرحها تاريخ الأديان نفسه. فلقد كان كتابه مهيمناً بما كان يمتلكه من أجوبة حاسمة لموضوعات ظلت تؤرِّق الفكر الديني قبل البعثة وبعدها. وهكذا صار وصف القرآن بأنه مهيمن لتوفيره إجابات لم يجب عنها الفكر الديني السابق، وقرآن كريم بتعدد ووفرة المعنى الذي يتيحه التأويل، وكتاب مجيد لأنه شكَّل تواصلاً مع العصور فلا يبلى. كان الإسلام ثورة حقيقية في عالم الفكر الديني أولاً. حدث هذا والعرب لم تكن لهم دولة ولا صولة ولا ذكر في الأمم. فقبل أن يشرع صاحب الدعوة في تأديب غيره، عمل على تأديب نفسه ومجتمعة أولاً: «أدبني ربي فأحسن تأديبي». وقبل أن يقرأ ما أتاه للعالم، قرأ لنفسه ولأمته: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} و {أَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}.. وقبل أن يدعو قومه علل دعوته بالإحياء: {اسْتَجِيبُواْ لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

وبما أن ثقافة العرب حين البعثة لم يكن لها من الفكر الديني إلا بقايا خرافات الجزيرة العربية ورتوش من تعاليم أهل الكتاب، فإن حركة الإصلاح انطلقت لتتمم مكارم الأخلاق، وتجب ما كان حقيقاً بالاندثار، وتحيي ما كان حقيقاً بالإحياء من سنة الأولين. وأجابت عن كل الانحرافات التي هيمنت على التفكير الديني لأهل الكتاب في الجزيرة العربية، داعية إلى كلمة سواء. وقد استمرت هذه الحركة كل الفترة التي سبقت بناء الدولة الإسلامية في المدينة كما استمرت معها بشكل أكثر بروزاً حتى وفاة صاحب الدعوة (صلى الله عليه وآله وسلم). ليس ثمة ظرف مناسب وآخر غير مناسب. بل ثمة فقط موقف عقلاني وموقف ليس كذلك. فسؤال الإصلاح الديني هو سؤال ملح في الطرح وآني ولا يقبل التأجيل. وهو تاريخيًّا ينبثق من رماد انحطاط الأمم ومن قلب الأحداث الكبرى. فالمجتمعات الساكنة يسكن معها وعيها الديني. والمجتمعات المتطورة يتقدم فيها كل شيء، بما في ذلك وعيها الديني. فالوعي واحد وحركته متكاملة. ولا قيمة لما يمكن أن يأتي من أولويات على أساس هذا التأجيل. فكل أولوية من أولويات مجتمعاتنا تقع ثانوية أو ضرورية موازية لسؤال إصلاح التفكير الديني. ولا يخفى عليك أن أعظم الأفكار وكبرى الحكم التي نطق بها علي بن أبي طالب أينعت في حربه الضروس ضد الخوارج، وخرجت سمحة من أتون المعارك واشتباك السيوف وتحت قرع طبول الحروب التي اجتاحت الدولة الإسلامية وتربص القوى الخارجة بها. فإما أن نقبل بالدين أو لا نقبل. وإذا قبلنا به لزم إطلاق حركة الإصلاح الديني فوراً. الإشكال بل الغرابة أن تجتاز الأمة محنتها الراهنة دون أن ينعكس ذلك على أجندتها في إصلاح فكرها وواقعها. الغريب ألَّا نتطور ولا نصلح أحوالنا بعد هذا الذي حدث!؟

* ما هي آفاق انتشار الإصلاح الديني؟

على الرغم من تعثر عملية الإصلاح الديني في العالم العربي والإسلامي، إلا أن هناك ما يؤشر على وجود مظاهر تزحزح البنية. قد لا يكون الإصلاح المأمول كافياً ومرضياً لكل الأطراف، لكن ثمة مظاهر لا ينبغي إهمالها، وهي مصدر أمل بالنسبة للعملية الإصلاحية. التقدم المفروض على الكيان العربي والإسلامي يفرض جملة من التحولات والتنازلات، وهي بالنتيجة مكتسبات تساهم في تيسير عملية الإصلاح. يكفي الباحث أن يتأمل حجم ما تم التنازل عنه، حيث بدا حتى القرن التاسع عشر في باب الممنوع النقاش فيه، بل مما لا يقبل التنازل. كل ما طرحه قاسم أمين في تحرير المرأة وما تخلل الإسلام وأصول الحكم عند علي عبد الرازق وما ورد في الشعر الجاهلي عند طه حسين، يمكن أن يتحدث عنه الكثير من الإسلاميين اليوم من دون وجود لأدنى مشكلة. اليوم، نجد الشارع العربي والإسلامي يقبل بحضور مميز للمرأة، كما يقبل بالديموقراطية. الإسلاميون يتعلمون كما يشهد بذلك أكثر المراقبين المنصفين. وهم على قدر من الفاعلية الاجتماعية والتقدم بالمجتمع المدني كما يقرر غراهام فولر في مقالته المعنونة بـ(الإسلام والتحديث). وهم اليوم جديرون بتخليص المجتمع العربي من نزعته الأبوية التي تقف وراء كل أشكال الاستبداد والتخلف والانحطاط كما يقرر هشام شرابي في كتابه (البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر). وهم حتى عند خصيمهم يتمثلون الحداثة أو مابعدها في تكوينهم العلمي كما عند دانيال بايبس[10]. وهم متقدمون يملكون بناء حداثتهم وتقدمهم وازدهارهم لا من خلال عرض نموذج طالبان، بل من خلال نموذج أندونيسيا وماليزيا كما تحدث ألان غريش في مقاله المعنون بـ(الإسلاموفوبيا)... إذن ثمة تقدم في مجال الإصلاح، وثمة مكتسبات بين واقع الأمس واليوم. فالآفاق مفتوحة لمزيد من الإصلاح في الفكر، ولمزيد من التطور في الفقه. إن الأحداث الكبيرة التي تعصف بالعالم العربي، ووسائل التقنية التي سهلت انتشار الأفكار وشيوع المعرفة، يساعدان على ذلك. إن الصدمات هي التي تصنع الوعي. وإذا كان الجرح النرجسي في نظر فرويد نتج عن ثورات ثلاث: صدمة فلكية وصدمة بيولوجية وثالثة تحليلنفسية، فحقًّا، لا بد أن يتحدث المرء عن آثار ما خلفته صدمة الحداثة والاحتلال من جروح في الوجدان الإسلامي. فجروح الحداثة بالنسبة للمجتمع العربي والإسلامي الشرقي تكمن في جرح الدولة الحديثة والديموقراطية التي خدشت نزعته للاستبداد والفوضى مذ أدرك أن مفهوم المواطنة يتيح له التعايش بلا اعتداء على غيره وبلا امتيازات. كما تكمن في جرح تحرير المرأة الذي خدش ذكورته الطافحة مذ اكتشف أن الأنثى ليست فقط مساوية له في الحقوق، بل قيمة ثاوية في لا وعيه وتفسر أكثر سلوكاته ونزعاته. كما تكمن في جرح حرية التعبير التي خدشت شخصيته القامعة والمقموعة، مذ أدرك أن حرية التعبير هي حق مقدس في المجتمع الحديث. كل هذه الجروح من شأنها أن تؤثر بشكل أو بآخر على مستوى الإصلاح الديني، مما يجعل آفاقه أوسع مما يعتقد البعض.

* من هم الفاعلون في مجال الإصلاح الديني؟

مادامت الظاهرة الدينية هي في قلب المجتمع، وما دامت معقدة إلى درجة حضورها المتعدد الأبعاد في الحياة الاجتماعية، فإن الفاعل في مجال الإصلاح الديني متعدد بتعدد المديات التي تحضر فيها المسألة الدينية. فقد تكون الظاهرة الدينية أشمل وأبعد مدى حتى من السياسة نفسها. لأن الجميع معنيّ من بعيد أو من قريب بما ينبغي أن يكون عليه الوعي الديني. فالدين يبلغ المديات التي لا يمكن أن تبلغها السياسة نفسها. فهو الهواء الذي نتنفسه بوعي وكثيراً ما نتنفسه بلا وعي. أفلا تكون ظاهرة كهذه بهذا الشمول والاتساع، أمراً إذا لم نمارسه بوعي مورس علينا تماماً كالسياسة أو أكثر؟! إنها ليست بالضرورة دعوة إلى الدين بل هي إشارة إلى أهمية وكثافة الحضور الديني في الاجتماع. إن المقاربة الويبرية هي أبلغ من أي مقاربة في توضيح هذا الأمر. وأعني تحديداً أن الدين حتى في المجتمع الغربي الذي استوعب منذ فجر تاريخه الحديث الفصل بين الدين والدولة، فإننا نجد أن الحضور الديني والصورة الغامضة التي لا تكاد تفهم فهماً حداثيًّا، يلف كل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية الغربية. ربما الكثيرون لا يرون ذلك، لأنهم يطلبون رؤية هذا الحضور عارياً. ليس فقط من خلال المؤثرات غير المباشرة، حيث تبلغ الإنتاجية لدى الجزار في مجتمع بروتستانتي أضعاف ما تبلغه إنتاجية جزار في مجتمع كاثوليكي. وكذا يتضح الفرق في مجتمع يهودي وغيره. بل إن جزاراً في مجتمع أمريكي محافظ، سيضطر إلى حضور الكنيسة بانتظام للحفاظ على منسوب إنتاجيته. وقس ذلك على السياسة، فهي اليوم تدار بشكل ديني أجلى من ذي قبل، جعل الظاهرة الدينية تكاد تكون قسيماً بين البيت الأبيض وأفغانستان. وعليه، فإننا إن كنا نريد بالفاعلين في الإصلاح الديني شيئاً آخر غير الوسيط الممأسس، فإن المجتمع بكل مكوناته هو فاعل متفاعل. وتلك هي الخطورة. فالمجتمع الذي لم يحقق نهضته كيف ينتج إصلاحاً دينيًّا. هناك بنية تعيد إنتاج وعيها الديني، رغم حيوية النقاش الذي تثيره النخب حول هذا الموضوع. لكن جماع ما يؤول إليه الصراع الموضوعي في مجتمع حيوي، من شأنه أن يتقدم بالبنية نفسها في الاتجاه الذي تتكشف فيه عن مكتسبات حقيقية في هذا المجال. إن الفعل الإصلاحي هو فعل ليس إراديًّا فحسب، ولا هو قرار سياسي أو اختيار أيديولوجي. بل إنه جماع ما تكشف عنه حركة اجتماعية في أتون صراع وجدل حقيقي، يشكِّل عنصر التواصل والنقاش الحر والمسؤول صمام أمان له من العنف. إن العنف هو الظاهرة التي تسكن أحشاء المجتمعات، وهي تتربص بالاجتماع الإنساني وتشكل تهديداً له متى ما لم تنشأ ثقافة التواصل وأدواته، ومتى ما لم يحلَّ مناخ الحرية والديموقراطية، وهي المزيل الطبيعي والحتمي لخيارات العنف. إن ما يوفر للبنية حركتها الطبيعية في قلب الصراع الموضوعي المقيد بثقافة تواصلية وأدوات ديموقراطية، هو مناخ الحرية التي تتيحها دولة الحق والقانون. وهي ليست المناخ المثالي الذي تطلبه العملية، بل إن الحد الأدنى الممكن يكفي ابتداء مقدمةً ناجعة للتقدم بهذا السؤال إلى فضاءات أوسع. إن الحركة الاجتماعية التي هي شرط التقدم بسؤال الإصلاح الديني، تتوقف على استمرارية النقاش واتساعه في مناخات مشجعة ووسائل مانعة لطروِّ العنف بوصفه عاملاً مهدداً أو محرّفاً للنقاش الحر. ونعتقد أن الثقافة التواصلية لم تتحقق حتى اليوم بين أكثر الفاعلين المفترضين للإصلاح الديني. وهذا يتطلب أن نطل على موضوعنا من زاويتين هما بمثابة شرطين:

1- شرط التواصل وآلياته بين الفاعلين

بما أننا سنحصر حديثنا في الفاعل النخبوي، أي منتج الثقافة والوعي في المجتمع، فسأقصر الكلام في الفاعل الإسلامي والفاعل العلماني، دون الوقوف عند تعدد المشارب التي تعيد تقسيم كل نخبة من هذه النخب إلى أطياف، هي بالنتيجة تنضوي تحت العنوان نفسه سواء أنزعت إلى اليمين أو إلى اليسار أو استقر بها النوى في الوسط. فمناط استشكالاتها يظل واحداً. كما سأتجنب الحديث عن الفاعل - السلطة، نظراً لأنها واقعة هي الأخرى وسط هذا التجاذب بين الاتجاهين، وهي لا تحرز موقفها إلا استقواء بهذا الفاعل أو ذاك. وأما تأثيرها المستقل خارج منطق التغليب، فهو عديم الثمرة وبلا جدوى في المنظور التاريخي البعيد. وقد أظهرت سلطة التغليب والتوظيف بؤسها فيما شهدناه اليوم تحت طائلة التحول في منظور الاستراتيجيا العالمية المربكة، التي جعلت حساباتها التكتيكية تبدو أكثر تردداً وتيهاً بمجرد انقطاعها عن حساب ومجرى الاستراتيجيا الكبرى، متى ما شقت هذه الأخيرة طريقاً جديداً أو انقلبت بالجملة في الاتجاه المضاد.

لم يشهد العالمان العربي والإسلامي الحد الأدنى من التوافق بين النخب الفاعلة. وهي ظاهرة ما فتئت تتطور بشكل دراماتيكي منذ وفاة محمد عبده، باعتباره آخر كبار المصلحين التوافقيين. وقد تفجر الموقف بشكل حاسم بعد قيام الثورة، الذي جرف معه كل مكتسبات النهضة العربية وأسئلتها، وأيضاً روح التوافق التي حكمت حركة الإصلاح والنهضة. بعد ذلك، بدأت المسارات تتجه وجهة متناقضة، وطغى لون من التخندق في خطابات قسّمت الشارع العربي والإسلامي إلى فسطاطين أيديولوجيين. حينئذ نشأت خطابات أكثر وضوحاً في نزعتها النقيضة. كان لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين قد عبَّروا عن دحر هذا التوافق مؤكدين على لا جدوائيته. لم ينحصر حديث سلامة موسى في: «هؤلاء علموني»، في الإشارة فقط إلى أهمية مكتسبات العلوم الاجتماعية الحديثة وأنه مدين لها، بل رافقتها دعوة لاقتطاع مصر من كل ما هو محلي أو تراثي، كما برز ذلك الموقف الصريح في الدعوة إلى الأوربة مع طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر». وظهرت معالم التخندق والفصام جلية في بعض فقرات «في الشعر الجاهلي» التي عبَّرت عن أنها غير معنية بالتوافق. ويعبر لويس عوض بصورة جلية عن هذا الفراق، من خلال الحملة القاسية التي قادها بأثر رجعي ضد السيد جمال الدين. كما نجد كاتباً مثل جلال العظم يصل بالتحدي في «نقد الفكر الديني» إلى إعلان الموقف الجذري ضد الفكر الديني. وقد حاول فك التوافق بين الفكر الديني والفكر العلمي بعد أن حاول إثباته أنصار التوفيق. وبذلك فعل في مجال العلم ما حاول فعله طه حسين في مجال الشعر الجاهلي. من الجبهة الأخرى، ظهرت أعمال تؤكد القطيعة مع كل مكتسبات الإنسان. فإذا كان سلامة موسى تحدث بإعجاب وانبهار بالغين بالحضارة الغربية الحديثة في: «هؤلاء علموني»، فإن محمد قطب سوف يتحدث بازدراء عن هذه الحضارة معلناً إفلاسها وانحطاطها وجاهليتها في: «جاهلية القرن العشرين». وسيكتب المودودي سنة 1941 مقالة تحت عنوان: «انتحار الحضارة الغربية». وفي لجة هذا الصراع ونشدان التخندق والفصام، تبلوت ثقافة استئصالية كانت ولا زالت تستنجد بسحر الأيديولوجيا وعنف الخطاب. تراها تستقوي تارة بالشارع وتارة بالسلطة. وقد غاب خطاب العقل التوافقي من مجال المعرفة، فلم نعد نحظى حتى بذلك النزر القليل من التنازلات. بعد أن أهملت النخبة العلمانية إهمالاً شبه تام الظاهرة الدينية وتعاطت معها باستخفاف، كما أهملت طبقة رجال الدين والإسلاميين إكراهات التقدم الإنساني وتعاطت مع العلوم الاجتماعية باستخفاف. وقد انبثق عن هذا الفصام تراكم الصورة النمطية المتبادلة بين الاتجاهين، مما فوَّت على كل من الطرفين فرصة النظر في طبيعة وجدوى استشكالات الآخر. فكان الحوار طرشاني حتى اليوم، وبلغت أزمة التواصل نهايتها القصوى. وظلت علاقة الفرقاء أسيرة رؤية نمطية لا زالت آثارها حاضرة على الرغم من كل التحولات التي شهدها كل فريق ورغم حصيلة التنازلات التي قدَّمها هؤلاء. يمكننا الإشارة إلى عينة من التوصيفات النمطية التي أنتجها مناخ القطيعة:

أ - يتهم العلمانيون الإسلاميين بـ:

- القوى الرجعية والظلامية حملة الفكر الديني الخرافي.

- الأداة الأيديولوجية للإقطاع.

- عملاء الإمبريالية والطابور الخامس للولايات المتحدة الأمريكية.

- لا يحملون بديلاً ولا يملكون برنامجاً سياسيًّا واجتماعيًّا.

- التعصب والعنف و الإرهاب.

- أعداء العلم والحرية والديموقراطية

- ضد حقوق المرأة وضد الحداثة.

- استغلال الدين لأغراض سياسية

- ............................................

تنميط شخصي ونموذجي نظير

رموز دينية متداولة في الخطاب العلماني بصورة نمطية، كنماذج لإشاعة الفكر الظلامي والتحريض: الشعراوي كراعٍ لتيار الأسلمة في مصر، سيد قطب ككاهن للتطرف الديني، طالبان بوصفها نموذجا مثاليًّا للإسلاميين على خلفية حجب التعبيرات الإسلامية المتنوعة.

اصطلاحات متداولة للتنميط

خوانجية - متأسلمون - مهربون دينيون - نظام ملالي - الزنادقة - المتطرفون - الأصوليون...

ب- يتهم الإسلاميون العلمانيين بـ:

- حملة الفكر الإلحادي.

- أدواة الاستعمار الجديد.

- خونة للقضايا المحلية.

- التبعية للغرب والاستلاب في ثقافته.

- الفصل بين الدين والدولة بين الدين والمجتمع.

تنميط شخصي ونموذجي نظير

رموز علمانية متداولة في الخطاب الإسلامي بصورة نمطية كنماذج للتغريب والإلحاد: طه حسين في الشعر الجاهلي، نجيب محفوظ في رواياته، حسن حنفي في مشروع التراث والتجديد، محمد أركون في إسلامياته التطبيقية، نصر حامد أبو زيد في مقارباته التأويلية للنص الديني... سياسيًّا، مثاله: تبشيع وتجريم جمال عبد الناصر والثورة الناصرية باعتبارها ثورة ضد الإسلام والمسلمين[11].

لقد ظل الفريقان أسرى لهذه الصورة النمطية المتبادلة، والتي تنتج الفصام وتعيق التقارب والتواصل والحوار. وقد ظهر أن حالة الانزواء كان ضررها على صعيد الإصلاح الديني كبيراً. فكل فريق انطوى على أحكام القيمة التي أنتجها في لجة الحجاج والتغالب الأيديولوجي على صدق دعواه مسبقاً. ولا شك، كما أظهرت الأحداث، أن الإسلاميين يطورون خطابهم باستمرار، كلما تحملوا مسؤوليات سياسية واستوعبتهم الديموقراطية، ويزدادون تطرفاً وانزواء كلما فرض عليهم الانزواء ولفظتهم العملية الديموقراطية. وفي ظرف الانزواء المفروض تتضخم ذهنية الريبة وعقلية المؤامرة وثقافة التخوين. فلا زلنا نسمع من هذا الفريق أو ذاك نماذج من التشكيك في وطنية ونزاهة وكفاءة الآخر. ومن هنا تعيَّن تجاوز مرحلة القطيعة والانزواء، والدخول في دورة النقاش والحوار والثقافة التواصلية لتخفيف هذه الصورة النمطية المتبادلة، ولفتح كوة إن لم نقل نافذة لمعرفة ماذا يريد الآخر قوله، قبل الانجرار إلى أسلوب التهمة على أفهام هي حصيلة تصرف في الخطاب والتأويل، وخارج باراديغم المغالبة بمدلولها السياسوي. وهذا أمر ممكن التحقق. بل إن تحققه ضرورة في طريق الإصلاح الديني، ولضمان حد أدنى من التوافق بين الفاعلين في الإصلاح الديني. انطلاقاً من مفهوم تصالح الإمكان الحداثي مع الإمكان الإسلامي، نستطيع القول: إن ما بين أيدي النخب، سواء أكانت إسلامية أو علمانية نحو من الفهم والتأويل، قابل لمزيد من القراءة. على أساس أن داخل هذا الخطاب أو ذاك، توجد صور تشاركية ممكنة تمثل جانب الإمكان في كلا الخطابين. فمدار التوافق هو فيما يتيحه الفرقاء من إمكان، حيث عالم الإمكان أوسع من عالم الواجب المتحقق. وهذه العملية هي حصيلة نقاش حر وجدل تواصلي تتوقف على البحث عن باراديغم جديد يؤطر العملية التواصلية ويرسم هدفاً للحوار الوطني يجعل الحوار بنَّاءً في الاتجاه الذي يبني مجتمعاً وييسر له سبل النهوض والتقدم. ونعتقد أن الباراديغم السائد كان ولا يزال سياسيًّا. ولذا تفجرت حروب المواقع بين الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية الوطنية وأحياناً بينها وبين النظم السياسية، وأخرى أيضاً بينها والمجتمع. وقد نتوصل عبر عملية الاستقراء، إلى أنه متى كان الباراديغم أوسع وأشمل وأعمق، كان التوافق مطروحاً بإلحاح. وليس ثمة باراديغم بهذه المواصفات غير شعار النهضة والنموذج الحضاري، الذي يساعد الفاعلين على تخطي المعارك الأيديولوجية المزيفة والصغيرة والمحدودة لصالح برنامج نهضوي يفتح الفاعلين على ضرورات الواقع وإلحاحاته والمستقبل ورهاناته. فأما خطر الاستعمار وخطر الاستبداد وخطر التخلف والانحطاط، لا يوجد أمام النخب الفاعلة إلا التوافق والالتفاف حول مطالب تاريخية كبرى. وآلية ذلك هي التواصل وما يفرضه من إحلال فلسفة السماع والإنصات لما يقوله هذا الفريق أو ذاك. واستيعاب اللحظة التاريخية لهذا الجدل. إن حواراً إسلاميًّا - علمانيًّا في مجالنا العربي والإسلامي هو ممكن، وإن بدا صعباً. كما أمكن جريان حوار قومي - إسلامي. إن مراكمة النقاش بهذا المعنى، يمكنها أن تضيف إلى كل فريق معطيات وآراء من شأنها التخفيف من أكثر الموانع والشبهات التي تعيق التواصل وبالتالي تحول دون تحقق التوافق الممكن. من الممكن أن يجد الإسلامي في العلمانية الكثير من الحقائق التي هي مطلب ديني أيضاً. سيجد فيها النزعة إلى التحرر من الاستبداد الديني. فماذا يضير الإسلامي من هذا الموقف التاريخي، ولماذا ينحاز إلى موقف الإكليروس وقد كانت من أولويات الإسلام منذ ظهوره أول مرة أن يحطم الصنمية بكل أشكالها مادية ورمزية، يوم نعت الطاعة العمياء للأحبار بأنها ضرب من العبودية: «فشرعوا لهم فاتبعوهم فتلك عبوديتهم إياهم». وحينئذ سيفهم العلماني أن الإسلام من حيث شموليته ليس دخيلاً على السياسة بل هو ضامن من خلال شريعته، لحياة اجتماعية يتحرر فيها الناس من مظاهر الاستبداد، حيث أي تشريع بشري في عصر العبودية والإقطاع لن يحرر الإنسان من تأليه وتأله البشر. وقد عبر عن ذلك صاحب العقد الاجتماعي أجمل تعبير، حيث ثمة نزعة للتحرر من سلطان البشر تكمن في ذهن دعاة فكرة الحاكمية الإلهية. كما سيكتشف العلماني علمانية الإسلام، التي تكمن في حضوره السياسي لا في استقالته. أي بتعبير آخر سيكتشف الإسلامي علمانيته من خلال العلمانية كما سيكتشف العلماني تدينه من خلال الإسلام.

نستطيع حينئذ التخفيف من التضخم الغيبوي والتضخم العلموي معاً لصالح تصالح بين ما أسميه الحد المعقول من الحضور الغيبي والعلمي. فعصور الإيمان لم تخل من مظاهر العلم كما أن عصور العقل أو العلم لم تخل من مظاهر الإيمان. وحينما يقرأ الإسلامي، مستقبل الثقافة في مصر أو في الشعر الجاهلي لطه حسين، فسيدرك أن القلق الذي كان يشغل بال طه حسين هو الانفتاح على قواعد التفكير العلمي الجديدة، وعلى قيم الحرية التي تضمن شرف الكائن وتتيح للفكر مديات أوسع. فلو كان يدعو حقًّا للأوربة في مستقبل الثقافة في مصر، لما كان يتحدث عن مصر بكثير من الخصوصية والاعتزاز. ولو كان يريد التشكيك في القرآن في الشعر الجاهلي لما اعتبر القرآن هو المصدر الأساسي والمعتبر في معرفة الشعر الجاهلي. وسيدرك حينها العلماني أن سيد قطب لم يكن كاهناً للعنف الديني لأنه داعية سلام عالمي، من خلال «السلام العالمي في الإسلام». ولا كان داعية تزمُّت ونابذ حداثة كما في «الإسلام في مواجهة الرأسمالية»، حيث انتقد التحجر الديني والتقيد بالمظاهر السطحية والأعراف. ولا يجده من ناحية أخرى عديم ذوق للجمال والفن من خلال «في النقد الأدبي» أو «التصوير الفني في القرآن»، سنقف على الوجه الآخر. ونقرأ طه حسين في الأيام قراءتنا لسيد قطب في طفل في القرية أو أشواك. سنتعرف على مصر ومن ثمة العالم العربي وما كان يعتمل فيه من ظروف انتهت إلى إعلان القطيعة، بعدما لم يعد من جامع. وحيث لم يعد سؤال النهضة ملحًّا بعد كل النكسات والاندحارات، كان فراغ المشهد من أسئلة كبرى باعثاً على هذا الشرخ والفصام النكد. الكل استبد به منطق الأقصاء.

2- شرط تحقق الكفاية اللازمة

المتولي لعملية الإصلاح، المتصدي لرسالة التجديد ليس متحرراً من القيود التي تفرضها شرائط المباردة الصحيحة والتصدي الحسن. وليس مفاد هذا الاشتراط وضع قيود على الناقد أو المجدد نظير تأطيره بسقوف للنظر وخطوط تمنعه من اختيار زاوية النظر أو أدوات النقد. وعلينا حينئذ أن نميز بين ما هو حق في النقد وما هو شرط فيه. وليس كل عملية نقدية هي إصلاحية تجديدية، حيث لا وجود لرابط منطقي يلزمنا بالانتقال من الإقرار بحق النقد العام إلى الإقرار بجدوى النقد الخاص في الإصلاح والتجديد. نعم، العملية الإصلاحية والتجديدية بالجملة تستلزم إطلاق حركة النقد. لكنها في نهاية المطاف، لا تحقق لثمرات الإصلاح والتجديد إلا بما هو مستوعب لتلك الشرائط. فيكون الحق في النقد شرطاً في العملية الإصلاحية والتجديدية بالجملة وإن كانت بمثابة الثمرة المرتجاة بلحاظ ذلك القيد، هي شرط في العملية الإصلاحية في الجملة. أي بتعبير أوضح، إن الحق في النقد بالجملة شرط في الوجود، والحق في النقد في الجملة شرط في الصحة. من هنا نجد أن حرية النقد هي حق تنحصر أهميته في حيثيته كحق مجرد. على أن العملية الإصلاحية والتجديدية في نهاية المطاف لا تنتفع بهذه الحيثية إن كانت غير محفوفة بالقيد الاشتراطي للنظر، ما دام أن حيثية هذا الأخير هي الواجب لا الحق. فالناقد المرتكز على الحق المجرد في النقد من قيد الاشتراط العلمي هو مختار، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. لكن المرتكز على الحق المحفوف بالقيد الاشتراطي العلمي ليس مختاراً، بل وجب عليه التصدي وإظهار العلم. من هنا كانت حرية النقد معتبرة من حيثية الحق، حتى لو كان هذا النقد معاقراً لواقع لم يُقْصَد أو لمقصود لم يقع. فإن مجرد تحقق حق التعبير فيه مصلحة لحفظ الاجتماع واستمرارية التواصل كما لا يخفى. وإذا كان الجميع لا يرى خلافاً في أن المعتبر في المقام هو النقد البناء الذي يتحقق معه المراد، فإن الحديث هنا يتوجه إلى شرائط هذا النقد حتى نخرج حق النقد من حالة اللامسؤولية في القول استناداً إلى «حق» النقد بالجملة إلى حالة النضج والرشد في القول استنادا إلى «واجب» النقد في الجملة.

من هنا، نجد الحديث حيثما اتجه نحو «الواجب» في النقد تكاثرت القيود وثقل وزن الشرائط. وحيثما اتجهت نحو «الحق» في النقد، قلَّت القيود وخفَّ وزن الشرائط. فليس غريباً أن تجد من النقد ما عانق خطلاً من الرأي مائعاً، ومن النقد ما عاقر صائباً من الرأي مستحكماً. فمقتضى العملية النقدية القائمة على نضج القول وحيثية الواجب هو المضايقة، في حين أن مقتضى العملية النقدية القائمة على عدم رشد القول وحيثية «الحق» هو المواسعة.

إذا اعتبرنا النقد مفتوحاً بموجب الحق في القول بالجملة، وبأن هذا لا نفع فيه إلا لوجود شكل آخر من النقد المقيد بشرائط النظر الأقوم بموجب الواجب في القول في الجملة، لزم ذكر ماهية الشرائط التي من شأن النقد المقيد أن يحترز بها عن مجمل النقد العام لتحقيق المراد:

1- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد حدد الإطار المعرفي والأيديولوجي الذي يرى من خلاله مشكلات واقعه؟

2- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد استوعب ما تراكم من فعل الإصلاح والتجديد، حتى يكون نظره مستحضراً لجماع النظر الإصلاحي؟

3- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد أَنِسَ أدوات التفكير وآليات النظر، التي تتيحهما النماذج المعرفية المتكاثرة؟

4- هل إن الناظر في إصلاح الفكر الديني، المتصدي لعملية التجديد، قد تفنن بما يكفي فيما يعتمل إقباسه من تراث الآباء أو فيما يعتمل اقتباسه من تراث الآخر، إلى حد الاقتدار على تركيب ما يستقل به من نظر في الآن والمآل؟

السؤال الأول يؤسس لشرط التمنظر والانتماء. والثاني يؤسس لشرط التراكم والاستحضار. والثالث لشرط المؤانسة والاستيعاب. والرابع يؤسس لشرط المجاوزة والترقي بالنظر.

على أن للنقد مراتب ثلاثاً لا نفع إلا بثالثتها. فلا إصلاح إلا بقيام نقد ذاتي. ولا نفع في نقد ذاتي إذا لم ينضم إليه كيفٌ جديد كي يصبح نقداً ذاتيًّا جذريًّا. ولا نفع أكبر يرتجى من ذلك أيضاً ما لم ينضم إليهما كيف ثالث فيصير نقداً ذاتيًّا جذريًّا بناء. ذلك حيث أن ليس كل نقد ذاتي هو جذري بالضرورة. وليس كل نقد ذاتي جذري هو بناء بالضرورة أيضاً. فلكلٍّ كيفٌ هاهنا نصيبه من الإضافة، وجماع الكيوف تركيب عبقري قمين بتحقيق المراد. وكما أن النقد ليس دعوة عامة بل دعوة خاصة، أيضاً آن الأوان أن نقول: إن النقد ليس دعوة فردية بل هو حركة وحالة جماعية. فلا شك أن لدينا أناساً كتبوا في النقد الذاتي، لكن ليس لنا حالة جماعية تقبل بمواجهة ذاتها الجماعية على أسس جادة وحقيقية وعلمية. أي أن المطلوب حالة نقدية جماعية واعية وليس حالة فردية يتيمة محكومة بتعويضات الانجراح وحيل الفشل اللاواعية، بوصفها نوعاً من الهروب إلى الأمام دفعاً لمطلب الاعتراف. فليس كونه نقداً ذاتيًّا أن المتولي له فردي، بل هو ذاتي، أي بحسب الاجتماع هو الذات الجماعية لا الذات الفردية. فالنقد الذاتي الجذري البنَّاء، وحده من ينقذ العملية الإصلاحية من آفات النقد بمدلوله العام حتى لو تقدم فكان ذاتيًّا، وحتى لو تقدم فكان نقداً ذاتيًّا جذريًّا. ذلك لأن المطلوب من النقد أن يتحقق معه مكتسبات ثلاثة:

- القبض على الجرح وتشخيصه.

- تضميد الجرح وعلاجه.

- نسيان الجرح وتجاوز آثاره النفسية.

تلك هي مقومات النقد؛ أي النقد الذاتي الجذري البنَّاء.

وحاصله أن ذلك هو الحد الأدنى من شروط الكفاية التي يتعين توافرها في الفاعل الحقيقي في دورة الإصلاح عموماً والإصلاح الديني خصوصاً. والحال أنها شرائط تكاد تعدم في المتولي لعملية الإصلاح الديني، وهي نادرة التحقق في الفاعلين ندرة الكبريت الأحمر.

* مجالات الإصلاح

فيما يتعلق بمجالات الإصلاح، تواجهنا مشكلة الدور المنطقي من حيث إن الناظر إزاء مظاهر التخلف والانحطاط المتشعبة والمنتشرة؛ لا يكاد يستقر اختياره في مقام تزاحم الأولويات على المختار الحقيقي، الذي يتنزل منزلة أصل الداء وسبب الانحطاط. ولذا تراه هائماً لا أمارة توقفه على فصل مطمئن به يميز السبب من مسببه، ولا أوله من آخره. وهو التحدي الذي تطرحه أزمة الواقع الذي تنقلب فيه الحقائق انقلاباً يبدو فيه ما كان سبباً، مسبباً، والعكس يصح. وكذلك هو التحدي نفسه الذي تطرحه أزمة في التصور تجعل الناظر في مشاكل الاجتماع يسحب عليها تصوراً ميكانيكيًّا لعلاقة العلة بالمعلول آنس به في استقراء خلل الطبائع الجامدة في عالم الأشياء القريبة. فإذا به يهيم هياماً، وهو يستقرئ الأعطاب ويحصي مداخل الأزمة إحصاءً مهما بلغ وسع الناظر فيه، لن ينفعه في ضبط الأسباب، والقدرة على الإجابة عن سؤال: أين الخلل؟ فالمشكلات في الاجتماع حتى لو بدت على نحو التراتب الضروري بين العلة والمعلول، فإنها بمجرد تحقق الخلل، تكفّ عن أن تصبح علة. بل إن البنى متى ما اجتاحها الفساد، أصبح الخلل بنيويًّا، وتعيَّن الإغضاء عن مداخل الخلل والبحث عن مخارج الخلل في هذا التركب البنيوي للأزمة. إننا نعتقد أن سؤال: أين الخلل، سؤال غير منطقي برسم الاجتماع، ما دام أن الخلل حتى لو أدركنا مداخله ابتداءً لن ينفعنا في إدراك المخارج انتهاء. فالبنية التي تتعرض للخلل، هي نفسها من يرشح مداخل الأزمة. ولعل ما يبدو مداخل للأزمة ليس مداخل ضعيفة أو مختلة، بل هي المداخل الأكثر حيوية لاستقبال الأزمة وتصريفها داخل البنية المأزومة دفعاً لخطر انهيار البنى انهياراً تامًّا. والحاصل هنا أن البنية مثلما تفرز عند تراجعها التاريخي مدخلاً مناسباً للأزمة، فإنها تفرز كذلك عند تخارجها التاريخي مدخلاً مناسباً للحل. فالمطلوب حينئذ العمل ومراكمة الفعل، وبذل الوسع في زحزحة البنية لتحقيق تخارجها التاريخي الذي تكشف فيه هي عن مداخل الحل ومخارج الأزمة. ليس في وسعنا أن نحدد للبنية المأزومة مداخل ميكانيكية للحل، بل المطلوب هو الحراك الجماعي ومراكمة الفعل، كل من موقعه وكل بحسبه. فليست الأولويات وحساباتها هنا سوى ما يقتضيه الفعل والإنجاز التكتيكي على المدى القريب. فإذا كان الحل هو فعل يتحدد بحركة البنى باتجاه تخارجها التاريخي، فإن العملية الإصلاحية تصبح بهذا اللحاظ حصيلة فعل واعٍ ولا واعٍ.. اختيار وحتمية.. بنيوي وتاريخي.. لكن بما أن المطلوب هو رصد الأولويات وتحديد مجالات العمل على المدى القريب، فإن الأولوية هنا تتيحها خصوصية الظرف الاجتماعي والتاريخي الخاص، وأيضاً تفاعل الظرف الخاص المحلي مع الظرف الخاص الدولي. لعل عدم وجود موضوع لهذه الأولوية هو ما يجعل الأولوية هنا سرعان ما يجرفها الجدل القائم بين المجالات والقطاعات، وتأثير كل منها في البعض الآخر تأثيراً جدليًّا. فيصبح للإصلاح السياسي أثر في الإصلاح الديني، وللإصلاح الديني أثر في الإصلاح السياسي وهكذا دواليك. والمطلوب هو انطلاقة متوازية يتقدم بها هذا الجدل وتتقدم به، وهو أمر ممكن إذا ما تحدد الباراديغم النهضوي الذي يرعى نظريًّا وسلوكيًّا هذا الرهان. ولذا فلنقل إنها مستويات ومجالات في الإصلاح بدل القول إنها أولويات في الإصلاح. حيث كل فعل في أي قطاع هو برسم النهضة أولوي بما له من أثر أولوي ممكن على جماع الحراك البنيوي. فما هي إذن، مجالات الإصلاح الديني أو أولوياته الممكنة؟

- إصلاح التفكير الديني والمنظور إلى الدين كظاهرة

تطرح هنا إشكاليتان: الأولى تتصل بطبيعة المنظور الذي يتخلل نظرة أهل الدين إلى جملة الموضوعات الخارجية. وهنا تحل قضية فهم الدين ومناهج فهم الدين، وفلسفة الدين... والثانية تتعلق بالمنظور الذي يستند إليه الدارس للظاهرة الدينية، بوصفها ظاهرة اجتماعية أو ظاهرة في المجتمع. وتصحيح المنظورين معاً وارد في المقام. ونحب البدء بالثاني، نظراً لتنزله منزلة المقدمة الضرورية لإصلاح التفكير الديني بالمعنى الأول:

1- المنظور الخارجي للدين

لا شك في أن موضوع الظاهرة الدينية هو من الخطورة والأهمية ما يقتضي استرسالاً شديداً في معالجته الكرة تلو الأخرى، وعدم الاكتفاء بأحكام القيمة. لا سيما بعد أن تبيَّن اضمحلال كل الأحكام التي نظرت إلى الفكر الديني كما لو كان في نزعه الأخير، أو على أهبة المغادرة بلا رجعة. فمنذ كانط ونقده الجذري للدليل الانطلوجي والمسألة الدينية في تراجع في الفكر الحديث إلى أن جاء نيتشه ليعلنها صراحا: لقد مات الإله! والحق أن نيتشه لم يفعل أكثر من أن عبر صراحة عن محتوى القانون الأخلاقي الكانطي في محاولته الفاشلة تلك، حيث أصبح موضوع الإله، موضوعاً للفهم والُمتخيَّل. وسوف يتطلب الأمر مرور ثلاثة قرون قبل أن يعلنها صراحة الفيلسوف اللاهوتي الجرماني سايفرت رائد الفينومينولوجيا الواقعية الجديدة؛ بأن إلهاً لا يعيش إلا في حدود الخيال، لهو حقًّا إله ميت!

وكم كان يسيراً على فيلسوف علموي نظير رايشينباخ أن يتحدث بازدراء منقطع النظير عن بؤس التفكير الديني والغيبي، مبرزاً الدور الحاسم للعلم في مدلوله المادي. تأكيداً على وضعانية أوجيست كونت، ومفهوم الفكر الإيجابي الذي احتل المرحلة الأوج في قانون الحالات الثلاث، والذي يشكِّل قطيعة حاسمة لعصر العلم عن عصور الخرافة والميتافيزيقا. وبات الاعتقاد الديني أمراً غير ذي جدوى في اهتمام أنصار العلم. إذ في أوج تنازلهم وقفوا، فقالوا باختيار الإيمان، كما دل عليه «إرادة الاعتقاد» لوليام جيمس. لكن ثورة العلم نفسها حادت عن هذه النزعة التمامية لتجعل العلم ينزع نزعة توفيقية كبرى تجعل الإيمان والعلم جناحين تطير بهما حضارة الإنسان. لاسيما بعد أن تبيَّن أن الغيب داخل في صميم العملية العلمية، يتخللها ويعايشها على مستوى الفرضية والاحتمال. لكننا اليوم وبعد هذه الأحكام التي قزمت الظاهرة الدينية إلى أقصى الحدود رغم حضورها المحايث لحركة العقل، نشاهد انقلاباً واضحاً في المنظور. فالعالم بدا يحيا على إيقاع ما أسماه كيبل بانتقام الآلهة. لقد طفت الظاهرة الدينية على الواجهة وأصبحت محدداً للنمط الحضاري الراهن. لقد عاد الدين مرة أخرى إلى واجهة الأحداث!

لكن ما معنى الظاهرة الدينية؟ وما معنى أن تكون الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعية؟ بل ما معنى الظاهرة الاجتماعية ابتداء؟

لا أحد يزعم أن ثمة حسماً حقيقيًّا في إطلاقات الباحثين في الظاهرة الدينية، لمفهوم الظاهرة. بل أكثر الاستعمالات لمفهوم الظاهرة يغلب عليه التسامح. إن دوركهيام يؤكد هذه المسألة تأكيداً، لا يقتصر على عموم الناس فقط كما قرَّر في قواعد المنهج في علم الاجتماع، بل تعدى بها إلى دائرة العلماء الاجتماعيين أنفسهم من أهل الاختصاص أيضاً كما قرر في «الانتحار». وعليه كان من إفرازات هذا التعميم للظاهرة الاجتماعية أن أصبح كل حادث إنساني هو ظاهرة اجتماعية. الأمر الذي لا يفي بالغرض. فالظاهرة الاجتماعية حسب عالم الاجتماع، هي كل سلوك أيًّا كان هذا السلوك ثابتاً أو غير ثابت يمارس قهراً خارجيًّا على الأفراد. على أن ثمة فصلاً بين الظاهرة الاجتماعية والوظيفة التي تؤديها. حيث ليس بالضرورة أن تكون الحاجة هي ما يسبب وجود الظاهرة، بل إنها تدين لها لأسباب أخرى. وهذا تؤكده بعض الظواهر التي تغيَّرت وظائفها ولكنها ظلَّت موجودة. وقد قدَّموا على ذلك أمثلة كثيرة. فوجود الظاهرة الاجتماعية شيء ووجود الوظائف التي تؤديها شيء آخر. وهذا المنظور لا شك في أنه يجعل المنظور الخارجاني للدين مطالباً بتحقيق النظر في وجود ووظيفة الظاهرة الدينية في المجتمع، وبيان الصلة بين الوجود والوظيفة، بياناً موضوعيًّا لا يرتب وجود الظاهرة الدينية دائماً على وجود وظائف تؤديها في الجملة. وحيث لا يمكننا الحديث عن الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية دخلت دور الجمود الذي يحولها إلى ظواهر فضلات -بتعبير دوركهايم- ما دام أن رجوع الظاهرة الدينية اليوم إلى واجهة الأحداث، يجعلها الظاهرة الحيوية الأقدم والأحدث من بين كل الظاهرات الاجتماعية. فهي ظاهرة اجتماعية وأيضاً ظاهرة في المجتمع، بشقيه: المجتمع المحلي المؤلف من الجماعة الإنسانية في مجال سوسيو - ثقافي وتاريخي وجغرافي محدد. والمجتمع الدولي الذي بات اشتغاله على المسألة الدينية وتحولها إلى باراديغم أساسي في تفسير الأحداث الدولية إلى جانب الكثير من الباراديغمات الأخرى السياسية والاقتصادية. إن الوظيفة التي يمكن للظاهرة الدينية تقديمها اليوم أو غداً هي مختلفة تماماً عنها في المجتمعات التقليدية. فالمجتمع يعيد باستمرار إنشاء علاقات معقدة مع الظاهرة الدينية لصالح وظائف كثيرة ومحتملة. وسيكون من الأجدر أن نعتبر الدين ظاهرة إنسانية، أشمل من كونها ظاهرة اجتماعية، لأنها تشكِّل حاجة إنسانية حتى في النطاق الفردي. بمعنى آخر، هي تخضع لمنطق قهر خارج الدينامية الاجتماعية، حيث يمكن أن ينبعث هذا القهر من الأنفس أو الآفاق. وقد كانت حكاية حي بن يقظان التي أبدع فيها ابن سينا وأعاد إخراجها ابن طفيل، مثالاً فلسفيًّا مهمًّا لتفسير هذا القهر الأنفسي لاستشعار الحاجة إلى الدين. وحتى لما حاول كانط أن يجعل الأخلاق بديلاً عن الدين، فإنه لم يفعل أكثر من محاولة التخفي بقناع في حفل تنكري سرعان ما سيكتشف المتنكران أن أحدهما زوج للآخر كما مثَّل بذلك شوبنهاور.

إن الظاهرة الدينية تطرح من جهة أخرى إشكالية موضوعية، وإشكالية منهجية. فأما من ناحية الموضوع، فإن ما يقتضيه المنهج الظواهري هاهنا غير ممكن البتة. إذ كيف نحرز الموضوعية في دراسة ظاهرة تلف الذات والموضوع ولا تسمح بتجرد المنظور من شوائب الذاتي مهما خفي ذلك. بل هذا هو عين ما تطرحه الإسلاميات التطبيقية الأركونية لحل ازدواجية الدارس للظاهرة الدينية في استقالة عن الإيمان. كيف نكون دارسين خارج نطاق التأثير الذي يحتمه الإيمان. لكن مثل هذا الأمر يأخذ الظاهرة الدينية بوصفها موضوعاً أصم وجامداً ومستقلاً. وأيضاً بوصفها ظاهرة اجتماعية مدروسة خارج نطاق الحقائق المعرفية والجدل العلمي الذي يشكل أساساً للإيمان. فهل بإمكان الدارس للظاهرة الدينية فينومينولوجيًّا أن ينجح في التجرد الكامل برسم الاختزالية الظواهرية للوقوف أمام المعطى بذات عارية عن كل شيء. ومن يضمن تحقق ونجاح مثل هذا التجرد. كيف تكون مؤمناً ودارساً للظاهرة الدينية في آن، تلك هي المشكلة؟ هذا بالإضافة إلى الإشكالية المنهجية، حول إذا ما كان المطلوب وحدة منهجية لفهم الدين أم تعدد مناهجي لفهم الدين. وأعتقد أن المسألة هي أوسع من ذلك، ولم يعد هناك من شك في ضرورة الاستناد إلى تعدد المناهج في فهم الظاهرة الدينية.نظراً لتشعبها واستيعابها كل النشاط الإنساني وتجليها في كل مظاهره. إلا أن هذا التعدد تارة يكون أشتاتاً وبلا شرط أو منهجاً فوقيًّا يؤطر تداخل وتجادل المناهج، كما هو مطروح في الإسلاميات التطبيقية التي تؤكد هذا النوع من الحشوية المناهجية في دراسة الظاهرة الدينية دون البحث في الإشكال الإبستيمولوجي الذي قد تحدثه فوضى المناهج. وتارة يكون تعدداً بيتخصصيًّا كما يؤكد الباحث الإيراني د. قراملكي في مجال الدراسات الدينية. وكيف تتحقق هذه البيتخصصية هل بالتلفيق والاستدماج الواعي أم بعفوية الاستئناس اللاواعي بمختلف المناهج، ما يجعلها مكسباً عفويًّا مقصوراً على الآحاد، وتجود به العبقرية في حالات الاستثناء النادرة؟. وهل للدين الحق في أن يدخل في جدل مع المناهج الأخرى ويفرض منهجه الخاص باعتباره يملك رؤية ومنهجاً في فهم الدين أيضاً، أم مطلوب منه الصمت وعدم النطق حيث تتحدث عنه الآراء الأخرى بالوكالة وبكثير من التصرف؟!

1- إصلاح التفكير الديني

إن ما يبدو تنازلات من الفكر الديني وتخريجات فقهية، ليس سوى ضريبة ما أسميناه بحتمية التكييفانية الخلَّاقة[12]. وهو إشارة إلى الحيوية التي تتمتع بها الظاهرة الدينية، حيث تكشف بين قطيعة وأخرى عن مرونة عز أن يتمتع بها غيرها. ليس ثمة ما يؤكد وجود قطيعة في صميم الدين، بل كل ما هنالك قطائع مع فهم أو تفكير ديني ما. حتى العلم يولد ويموت ويصبح في حكم الخرافة، إلا الدين فإنه يتجدد ويتطور ويسجل حضوره الكبير في تاريخ البشر. وربما لأن الأسطورة والعلم أحياناً يقدمان حقائق صارمة ولا يتركان منطقة فراغ أو مساحات للإمكان والاحتمال كما يتيحه الفكر الديني، رغم ما قد يتشبث به المتدينون من آراء نهائية. وكما كان الإنسان ينشئ مع الأشياء ومع العلوم في كل أطوار التاريخ علاقة تتعدى بالمعنى إلى ما أسماه بيكون المعاني المبتذلة. وهذا -كما يؤكد دوركهايم- يشكل المرحلة الأولى لبناء العلوم. والدين ليس استثناء في ذلك. ففي كل الحقب يشكل الإنسان علاقة محكومة بالشروط الثقافية والاجتماعية والعلمية لمجاله، حيث لكل مجال تعبيره وفهمه للدين. فإذا عز أن تستقرئ هذا من التاريخ، أمكنك مشاهدته عياناً في اختلاف التعبيرات الثقافية والاجتماعية للدين، بين بلد وآخر. فالإسلام، تعبيراً وطقوساً ومظاهر، يختلف بين المجال الحضري والمجال القروي في البلد الواحد، كما يختلف من بلد لآخر: بين تركيا وزنجبار.. بين المغرب وأندونيسيا. .بين ألبانيا واليمن...

وعليه فإننا نعتقد أن ما يهمنا من الإصلاح الديني، النظر في جملة التحديات الخاصة التي تواجه التفكير الديني بوصفها أسئلة حرجة. وليس حينئذ من الضروري أن نحاول الإجابة عن هذه الاسئلة كما اتفق، خارج ما يفرضه منطق الجواب الإسلامي القائم على مبدأ التكييفانية الخلَّاقة. وأعني بذلك أن تجيب أجوبة محددة عن أسئلة محددة. ولكن ضمن باراديغم يشكل الوجهة التاريخية للمجال الذي يتحرك فيه الجواب الديني. وهذا ما يتيحه مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري الذي سنعرضه باختصار في الآتي:

- ننطلق من قاعدة ترى أن الأفكار لا قيمة لها إلا بما تحققه من كشوفات داخل النموذج المعرفي والحضاري لا خارجه. وأعني بذلك أن مدار استشكالاتنا ليس في أن يوجد التفكير، بل المسألة أين يقع التفكير. إنه سؤال المحل. لم يكن القدماء أقل تفكيراً من الحدثاء. وليست المسألة مسألة عبقرية بل كما قال أنشتاين قبيل وفاته: إنها مسألة فضول. فالأفكار لا قيمة لها مهما حلَّقت ما لم تنطلق وترسوا في نسق معتبر ممضى من قبل نموذج معرفي وحضاري يتمتع بالحيوية والراهنية وقوة الحضور. وماذا يفيدنا نقاش يستند إلى النسق القروسطوي مهما حلَّق في الفضاء ما لم يُجب عن أسئلة حقيقية يطرحها الواقع ويطلب لها جواباً في الواقع. فاستحضار القطائع على صعيد النموذج المعرفي والحضاري أمر بالغ الأهمية في استنطاق التعاليم التي يفترض فينا تحريرها من النسق المعرفي والحضاري المتجاوز. أي إخراجها من حال الأشياء إلى حال المعاني، لننشئ معها علاقة جديدة في ضوء ما يتيحه النموذج المعرفي والحضاري الحديث. وهذا ما يجعل قليلاً من القيم الدينية في تكييفانيتها الخلَّاقة مع النسق الحديث تثمر ما لا يمكن لقيم كثيرة تحقيقه خارج النسق. المشكلة أن المسلمين اليوم يستقوون بالحِجاج وقوة الحقائق المجردة وحيوية الأفكار، في حين أن الآخر يستقوي عليهم بصمود النسق وحداثته وديناميته. وقد يكون من باب الاقتصاد في عملية الإصلاح الديني، تحديد النموذج المعرفي والحضاري الناجع. وليس في وسعهم فعل ذلك إذا لم يحرروا التعاليم ويحولوها إلى هيولى قابلة للصور. وأيضاً ليس في وسعهم بلوغ النموذج المعرفي والحضاري الناجع إلا بتحقيق التكييفانية الخلَّاقة مع الموجود لا البحث في المثال المنفصل. أي من داخل شروط النموذج المذكور نبحث عن إمكانات جديدة لإعادة إنتاج -لا أقول النموذج نفسه- الذات نموذجيًّا.

- التبني الحضاري والتجديد الجذري يتيح مسألتين

فمن جهة التبني الحضاري، سنميز لا محالة بين ما هو مطلوب برسم التكليف الشخصي. أي بما يتحقق به معذرية الفرد ويتحصل به اطمئنانه الشخصي. ومثل هذا أمر موجود ولا يكلف أكثر من أن يتحقق اطمئنان المكلف بالحكم. فهو كافٍ لعامة الناس أفراداً وجماعات، غير مكلفة برسم المعذرية بأكثر من ذلك، حيث كما يقول أبو حامد الغزالي: إن الدين هنا كالماء الذي يشرب منه الكبير والصغير.. وكأدلة الدين التي شبهها في مقاصد الفلاسفة بالطعام الذي قد ينفع العالم ويضر العامي. إن هذا المقدار من تحقق المعذرية والمنجزية التكليفية للفرد، من شأنه أن يجعل المسلم مسلماً حتى لو كان متخلفاً. فالتخلف برسم التكليف اللامشروط بالتبني الحضاري ليس رافعاً لصحة الإسلام. كما أن تقدم الجماعة المسلمة حضاريًّا بلحاظ المفهوم التكليفي الشخصي ليس شرطاً في تلك الصحة. إن الدين يأمرنا بالطهارة الشرعية ويرشدنا -ودائماً يرشدنا لما يمكن أن يصبح أمراً واجبيًّا برسم التبني الحضاري- إلى النظافة ندباً، لكن دخول أعرابي مغموس الملبس في الطين وملطخ بالمرق إلى محفل حديث، يعتبر أمراً مقززاً ويعتبر صاحبه نجساً حتى ولو كان في نظر الشرع لا يعتبر نجساً، وكان الآخرون واقعون فيما هو نجس في عين الشرع. ما يعني أن شروط التخلف ليست في محض الامتثال -لا بشرط- للتعاليم. بل هي نتيجة امتثال مشروط. ومن هنا فالمطلوب هو التبني الحضاري الذي يجعل براءة الذمة برسم التكليف الشخصي لا تحقق براءة الذمة برسم التبني الحضاري. إن مشكلتنا ليست في وارد جعل المسلمين مسلمين جعلاً بسيطاً، بل هي في وارد جعل المسلمين متقدمين جعلاً مركباً. فالمطلب -برسم التبني الحضاري- ليس الحق في الوجود، بل المطلب هو السبق في الوجود. وأما التجديد الجذري، فهو مطروح بإلحاح في طريق إصلاح الفكر الديني. أي مطلوب منا أن ننتقل بأسئلتنا إلى قلب الأسئلة نفسها. فالأسئلة المغشوشة أو لنقل مقايسة على ما سبق من قول بيكون، بالأسئلة المبتذلة، هي العائق النظري في طريق عملية الإصلاح. وفي مقدمة الأسئلة التي أتينا عليها قبل قليل، سؤال: أين الخلل. وهو التعبير الآخر عن السؤال الأرسلاني: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ والبديل أن نسأل: نحن متخلفون علينا أن نتقدم. ويكون السؤال المتفرع عنه: أين الخلل في الفعل؟

فثمة بون شاسع بين الصيغتين: حينما نهيم في استقراء ضروب الخلل، نكون وصفيين كبومة هيغل المولعة آناء الليل بوصف ما جرى أطراف النهار. لكنها لا تستطيع على أي حال أن تدرك كيف حدث ذلك نهاراً. سؤال لا ينفع وهو بخلاف الاقتصاد في طلب الإصلاح. علينا أن نسأل عن الخلل الذي يشل الإرادة اليوم وعن الخلل في الفعل المطلوب لا بشرط: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}.

فنحن متأخرون لا يهم كيف تأخرنا لأن ذلك لا يفيد شيئاً في استئناف مسيرة التقدم. حيث المطلوب: انهض وانطلق من شروطك الآنية ومن إمكاناتك المتاحة. فهذا يحقق الفعل الإيجابي، ويحقق التحرر من سلطة الانجراح والتخلف وآثاره. أي الطريق الأخصر لبلوغ المراد بعيداً عن هواجس الوعي الشقي. وكما الأمر يتعلق بطبيعة السؤال، يتعلق أيضاً بمفاهيم أخرى مطروحة بوصفها باراديغمات للإصلاح الديني وبوصفها حلولاً وشرائط للنهضة. ضربنا على ذلك مثالين، بمفهوم الوسطية ومفهوم الثابت والمتحول[13]. ذكرنا في محله أن مقتضى الوسطية جدل بين طرفين لا تموقع بيني بين طرفين. فالمطلوب في الوسطية التموقع الأكبر في الجهة التي هي مقتضى العمل. تصبح الوسطية نتيجة تفاعل وتجادل وتكامل طرفين لا نتيجة تموقع في التخوم. ومثل هذا المفهوم من شأنه التأثير في همة الفاعل في النهضة، إذ المطلوب منه تصعيداً في النباهة وتصعيداً في الهمة لا يتيحهما المنظور التلفيقي للوسطية. وأما ثنائية الثابت والمتحول التي دخلت في الاعتمال النظري لبعض الإصلاحيين المسلمين، فإنها بمدلولها الثنوي لا تقدم ولا تؤخر. بل من شأنها أن تشغلنا بالوصف والتمييز بين الثابت والمتحول في غياب ضامن يحول دون الخلط الفاحش بينهما، تحت تأثير اختيارات غير معرفية. والحال أننا ذكرنا، أن لا شيء ثابت ما لم يبلغ الكمال. فاقترحنا إذاك مفهوم «الثابت المتحول» مع رفع واو العطف. إيماناً منا بالحركة الجوهرية والتعدي بها إلى المجال الاجتماعي. فالشيء ثابت في نفس أمر ماهيته المنحفظة في هذه الحركة التكاملية التي تجعل «أ» هي «أ» لكنها في النتيجة هي «أ» أكثر كمالاً ونضوجاً واشتداداً، نظير النور في شدته وتضعّفه ونظير الوجود في تراتبيته و تشكّكه. ليس ثمة ثابت مقابل لمتحول، بل ثمة ثابت متحرك على نحو من الحركة الجوهرية. وسيتأكد عند تطبيق هذه المفاهيم الجديدة الكثير مما سنضطر إلى تجاوزه بسبب السجون النظرية التي فرضتها علينا هذه المفاهيم، فتأمل!

* الإصلاح السياسي

يمثل مشروع أسلمة الحقل السياسي هدفاً أساسيًّا للحركة الإسلامية، أو ما يسميه البعض بالإسلام السياسي. ولم يكن في مقدور التيار العلماني أن يثني هذه الحركات عن قناعتها بضرورة أسلمة الدولة وتحكيم الشريعة. لم تكن أدلة التيار العلماني كافية لفرض قناعة فصل الدين عن الدولة. وقد يكون من الصعب أن يقال: إن ذلك ناجم عن إصرار أو عدم استيعاب لشروط قيام الدولة الحديثة القائمة على التعاقد الاجتماعي، مادام هناك من المثقفين المحسوبين على التيار العلماني والحداثي مَنْ تحدث عن صعوبة تطبيق العلمانية في العالم العربي والإسلامي[14]. بل هناك من تراءت له هذه الأخيرة دعوة غير معقولة، نظراً لخصوصية الإسلام نفسه الذي شهد قيام دولة مدنية تستمد مشروعيتها من الأمة. وقد كان مطلب تطبيق الشريعة ولا يزال ملحًّا في جدول أعمال الحركات الإسلامية، وحيث إن بعضاً منها استطاعت حيازة السلطة وبناء الدولة الإسلامية على أساس تطبيق الشريعة[15]. وقد فرض هذا الواقع الجديد للدولة الإسلامية الحديثة تحديات حقيقية، لتكييف التشريع مع مجمل القضايا المستحدثة في إدارة الدولة الحديثة، وهو ما جعل مطلب الشريعة يفرض واقعية جديدة خففت من مثالية وفجاجة شعار: الإسلام هو الحل أو الشريعة هي الحل. فرضت واقعية الدولة الإسلامية تحدي الأسئلة الحرجة، بعد أن وجدت نفسها في وجه ترسانة من المواثيق الدولية وأمام مآزق فرضت عليها مرونة كبيرة، فضلاً عن أن تحديات اجتماعية واقتصادية وإدارية وقانونية فرضت اجتهاداً مضاعفاً على المعنيين بالنظام السياسي الإسلامي. فلم يعد في الوارد أن ينتظر الناس من خيار الدولة الإسلامية المنشودة، مجرد سلطة دينية توفر للناس مناخاً لممارسة الشعائر الدينية وإقامة الحدود، بل أصبح المنتظر من دولة الشريعة أن تكون قادرة على تحقيق مطالب اجتماعية حقيقية. فقبل الحديث عن الشريعة ما هو البرنامج الاجتماعي الذي تتوافر عليه. ويحتاج التفكير الديني الجديد أن يصحح منظوره للشريعة نفسها باعتبارها أحكاماً تدور مدار موضوعاتها المتجددة. وأن دعاة الشريعة أنى لهم الإقناع بجدواها وهم لم يحققوا في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، ولم يجتهدوا في إخراج الصورة الأكثر جدارة بالحلول محل البدائل التي تقدمها الخيارات الحديثة. فلا زال الفقه الإسلامي على عظمة وقيمة هذا التراث العظيم لم يتخلص من آثار النمط الاجتماعي والاقتصادي القديم. ولا زالت المدونات الفقهية تدرج بيع العبيد ضمن باب بيع الحيوان من الأغنام والأبقار لوحدة المناط والاشتراك في القصود. ولا زلنا نقرأ عن فقه الجزية والتفنن في أخذها بإذلال الذميين بأعنف العنف من أصحابها بشد اللحية والصفع على الخد وما شابه إمعاناً في الصغار. ولا زلنا نتحدث عن المقادير والأوزان الشرعية أشبه ما تكون بقطع أثرية، كالدرهم البغلي والأوساق والأرطال وما شابه. ولا زلنا نتحدث عن مكاسب محرمة لم تثبت ماليتها بالأمس في حين ماليتها بارزة اليوم بل تشكِّل عصب النظام الاقتصادي. ولا زلنا نتحدث عن فساد بيع الإكراه دون فحص وتحليل يميزه عن عقود الإذعان التي يقوم عليها النظام الاقتصادي اليوم، والتي لا تزال مهملة في أبحاث البيع والمتاجر من فقهنا التقليدي، وقس على ذلك باقي المعاملات. فهل سنبارز العالم بشريعة لم يطور أهلها النظر فيها ولم تفهرس حتى اليوم على نمط المدونات القانونية المعاصرة. بل لا زال الكثير من المسلمين يشككون في جدوى الاجتهاد، ومع ذلك يعتبرون الشريعة قد أجابت عن كل شيء. فبقدر ما نقترب من الواقع الاجتماعي وما يطرحه من أسئلة حرجة على الشريعة، ندرك خطورة التساهل في رفع شعار: تطبيق الشريعة كحل سحري لمجرد أن تحكم. فالشريعة ليست هي المسؤولة عن تقدم المجتمع، بل هي ذات وظيفة تكييفانية، أي ذات وظيفة سلبية، تعكس تقدم المجتمع وأنماطه الاجتماعية والاقتصادية. فهي تتطور بتطور موضوعاتها ومتعلقاتها وبتطور المكلفين بأحكامها. من هنا تطرح قضية فتح باب الاجتهاد، وتحرير عملية الاستنباط من أنماطها القديمة وفتحها على الموضوعات المطروحة بإلحاح على الاقتصاد والتجارة والإدارة والقانون الجنائي الحديث. تجديد في اللغة وفي المقاصد وفي آليات الاستنباط نفسها. بل الضرورة قاضية بإعادة بناء تصور إسلامي لمفهوم الشريعة ومقاصدها، ومفهوم الحاكمية وفلسفتها، مفهوم الشورى وعلاقتها بالديموقراطية، ومفهوم الأسلمة وحيثياتها وشروطها وإمكاناتها. أي باختصار إعادة النظر في الفكر السياسي الإسلامي، وإعادة إنتاجه وتكييفه مع متطلبات الاجتماع الحديث.

 

 



[1] هذه الورقة هي الحصيلة المطورة عن مداخلات الكاتب في أشغال الورش الدولي حول الإصلاح الإسلامي من الفكر إلى السياسات الذي نظمته بمدينة ميدلت المغربية على مدى يومين ـ 17 ـ 18 مارس 2006 ـ أربعة مراكز، اثنان من مصر هما: مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية الذي يديره الباحث الفرنسي ألان روسيون، ومركز شركاء من أجل التنمية. ومن المغرب: مركز طارق بن زياد الذي احتضن أشغال الندوة برعاية من رئيسه والي منطقة مكناس تافيلالت، الكاتب والمثقف السيد حسن أوريد، ومركز جاك بيرك. وإني أغتنم هذه المناسبة لأعزي الزملاء الذين ساهموا في أشغال الورش المذكور بوفات زميلين كان لهما حضور مميز بيننا، أحدهما هو السيد ألان روسيون الباحث والاجتماعي الفرنسي الشهير ورئيس المركز المنظم، وكذا الزميل والصديق محمد حاكم من مصر ناشطاً وباحثاً سوسيولوجيًّا قديراً، وقد وافت الأول المنية يوم 2 من يوليو/ تموز 2007م على إثر جلطة حادة، كما توفي الثاني يوم السبت 21 يوليو 2007م على إثر مرض عضال ألَـمَّ به.

 

[2] استطاع كل من الفاعل القومي والفاعل الإسلامي بعد عقود من القطيعة تجاوز تلك المرحلة من الهدر النضالي في إطار ما عرف بعد ذلك بالحوار والتنسيق القومي - الإسلامي. وذلك بعد صراع مرير وفي مناخ من تبادل الاتهام . فبينما اتهم التيار القومي الناصري حركة الإخوان المسلمين وسيد قطب آنذاك بالعميل الأمريكي والتآمر على النظام لا سيما في حادثة المنشية؛ يتهم الإخوان النظام الناصري بمعادات الإسلام والتآمر على الدعوة، وقد بات ذلك واضحاً من خلال التوضيح الذي كشفت عنه رسالة سيد قطب الموسومة: لماذا أعدموني. وفيها يعلن براءته مما اتُّهم به وتياره، ويشير إلى مؤامرة مدبرة ضده والإخوان. وإذا كان عبد الناصر قد اعتبر كتاب معالم في الطريق كتاباً انقلابيًّا يومها فإن إصلاحيًّا مغربيًّا كبيراً في مستوى علال الفاسي كان من أوائل من أدخل كتاب المعالم وكتابات قطب الأخرى إلى المغرب، وتعاطف مع قضيته إلى أبعد الحدود.

 

[3] من ناحية يبدو محتوى تجهيل الحضارة المعاصرة منطقيًّا داخل النسق التفسيري الذي استند إليه محمد قطب وطعَّمه بآراء مفكرين غربيين يُنذرون بسقوط الحضارة الغربية -شبينغلر- وانحطاط الفلسفة الغربية وخطرها على مستقبل الإنسان -الإنسان ذلك المجهول لألكسيس كاريل- وهما عمدة ما أسند ذلك النسق التفسيري القطبي -لشقيق سيد قطب-. لكن المسألة تتعدى كونها نتاج رؤية تحليلية منطقية، بل لا بد من ملاحظة التداعي الوظيفي لمثل هذه الأحكام، لا سيما حينما تصبح مجرد أحكام  تُرتَّب عليها مواقف وآثار، إحداها العزوف عن الدنو من معرفة الآخر واستيعاب ثقافة العصر ومكتسبات العلوم الاجتماعية الحديثة: ما أسميه بالتأثير الوظيفي غير المباشر، الذي يؤسس لعدميته انطلاقاً من تأصيلات تبدو في ظاهرها منطقية وأحياناً تعبيراً عن اعتقاد طهراني كما يحيل العنوان ذو الدلالة الشرعية، حيث الجاهلية هنا  تستدعي موقف -تكليفي- القطيعة والحرابة والعزلة الشعورية...

 

[4] لنقارن على سبيل المثال بين تلك الآراء المتشددة الصادرة عن هؤلاء بتلك الآراء الإيجابية التي صدرت عن أولئك. فبينما عمل محمد قطب الأفندي على تجهيل الحضارة الغربية نجد عالم الدين الآخوندي السيد باقر الصدر يتعاطى مع الفكر الغربي من منظور التحليل والنقد والمعالجة المعرفية وليس من منظور المؤامرة. فالأفكار والفتاوى التي حررت الفقه الإسلامي من الجمود صدرت عن مشايخ تقليديين . لنتأمل الموقف الفقهي الإيجابي من حقوق المرأة حد توليها الرئاسة والقضاء عند الشيخ شمس الدين وإبراهيم جناتي، والسيد فضل الله، والشيخ الفضلي وأضرابهم..

 

[5] نقر بهذه الحقيقة إلى حد ما وإلا فإن لسيد قطب منظوراً يعكس تجربته الخاصة. فلقد أظهر وجهة نظره في الحضارة الغربية وموقفه منها. وقد اعتبر أن لا حل إلا بقيام المجتمع الإسلامي الذي يدين بالشريعة في مداها الأوسع وليس للفقه الإسلامي. من هنا لا يمكن استفتاء الإسلام في مشكلات ليس مسؤولاً عنها المجتمع الإسلامي الذي لم يقم بعد في نظر سيد قطب. الحل في قيام هذا المجتمع وليس في استفتاء الإسلام. هكذا عبَّر عن موقفه من خلال كتبه وفي مقدمتها الإسلام ومشكلات الحضارة.

 

[6] سؤال بالجملة مفاده الموجبة الكلية، وسؤال في الجملة مفاده الموجبة الجزئية.

 

[7] حصل هذا التحول الدراماتيكي بعد أن فشل هذا القيادي في مشروعه السياسي. وليس الفشل السياسي مشكلة إذا ما أردفت بحركة تصحيحية مباشرة وجلية، ومراجعة للحصيلة الحركية التي فسدت فيها بيوت وتركت وراءها جراحات وثقوب في الفكر والنفس. فالسائل يسأل هنا بموجب التبني الحضاري فيما القيادي يجيب بموجب التكليف الديني الشخصي. نفهم من ذلك أننا بالإمكان تعبئة طليعة متدينة برسم التبني الحضاري، لكن بإمكاننا أن نتنكر لسؤال التبني الحضاري والهروب منه بواسطة السؤال التكليفي الشخصي، والتحلل بموجب المعذرية والمنجزية في حدها الأدنى.

 

[8] الكلمتان للإمام علي بن أبي طالب، غرر الحكم، ص55، حكمة 500، ص49، حكمة 315.

 

[9] أصول الكافي للكليني، كتاب العقل والجهل، ص 64، ج 1، دار احياء التراث، ط 1، بيروت 2000م.

 

[10] لمزيد من التفصيل، انظر: إدريس هاني، العرب والغرب، أي علاقة؟ أية رهان؟، دار الاتحاد، بيروت - 1998م.

 

[11]  هذا الموقف هو من إرث الفكر الإخواني نتيجة التوتر الذي حكم علاقة الإخوان بالنظام الناصري. وقد حملت الأدبيات الإخوانية هذا الموقف السلبي من التجربة الناصرية وأحياناً كثيرة عملت على تديين الموقف. ومادام أن تجربة الإخوان المسلمين كانت اللحظة المؤسسة للحركة الإسلامية في طورها المعاصر، ولا يزال تأثيرها في اللاوعي التربوي والسياسي والثقافي لكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة، فإن آثار هذا الموقف لا زالت حاضرة. لا يحجب ذلك أن موقف إسلاميين آخرين، أغلبهم شخوص وليسوا حركات لم يتبنوا الموقف المذكور -مثال الشعراوي والباقوري من مصر- وآخرون تجاوزوا الموقف مع مرور الزمن.

 

[12] هذه الحتمية يفرضها الدين نفسه من حيث طبيعته المرنة وإمكانية التأويل، كما يفرضها كونه مفتوحاً على إكراهات الزمان والمكان. فالجمود اختيار يتحمله الدين كما أن التقدم اختيار يتحمله الدين. والمتغير هو الحامل الديني، أفراداً وجماعات. فإذا تغير العالم -بكسر اللام- تغير العالم -بفتحها-، وإذن تغير التفكير الديني.

 

[13] لمزيد من الاطلاع انظر: إدريس هاني، مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري: الفكر الإسلامي المعاصر والأسئلة الحرجة، منشورات أوميغا للتواصل والنشر، الرباط - المغرب.

 

[14] يلاحظ ذلك في موقف الجابري السلبي من فكرة العلمانية انطلاقاً من خصوصية الدين الإسلامي نفسه واختلافه عن المسيحية في طبيعة موقفه وتصوره للاجتماع والسياسة. فيما ينتقد أركون شكلاً متطرفاً من العلمانية لا سيما الفرنسية في موقف النظام التربوي المطلق من الدين، حتى لو تعلق الأمر بدراسة الأديان من منطلق علمي وظواهري. بعضهم يرفض الفكر العلماني في صيغته الغربية ويلحقه بكل أشكال العدوى الفكرية التي مآلها رهن المحلي للهيمنة الخارجية وتمكين الغرب من تدجين المحلي ومحو ثقافته، كما يذهب غريغوار مرشو.

 

[15] يكفي أن نضع نصب أعيننا اختلاف النماذج الإسلامية المطبقة: السعودية، إيران، طالبان، السودان... لنقف على حقيقة أن في التفاصيل نقع على علاقة الإرث الحضاري والثقافي لكل بلد وانعكاسه على طبيعة تمثل الشريعة. وحتماً سنكون مغالطين إذا لم نقرأ الفوارق الجوهرية بين تجربة وأخرى. فالنموذج السعودي يختلف عن السوداني وكلاهما يختلفان عن الإيراني والكل يختلف عن النموذج الطالباني المتشدد. نستطيع أن نقرأ خارج تأثير المنظورات النمطية السياسية والأيديولوجية درجة القرب أو البعد عن قيم التقدم والانفتاح والإصلاح والثقافة بين النماذج المذكورة.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة