تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

رؤية في العلاقة بين الغرب والشرق : ارتباك الهوية والآلية

أ. علي عبود المحمداوي

*

جدلية العلاقة (بين الشرق والغرب)

الحقيقة أن جدلية العلاقة بين طرفي البحث (الغرب والشرق) ليست بالجديدة كموضوع للبحث، إلا أن عدم الجدة كموضوع لا يوقف التداول المعرفي لهذه الثنائية، وصور العلاقة وأشكالها، ومنذ أول تنبؤ اقترن مع توينبي لماهية الحادثة الكبرى في المستقبل في كتابه (الحضارة في الميزان)[1]

 

على «أنها لن تكون إحدى الحوادث السياسية والاقتصادية المثيرة أو المفجعة التي تشغل عناوين الصحف وتحتل مكانة الصدارة في أذهاننا، ولكنها ستكون من الحوادث التي لا نكاد نشعر بها... أظن أن مؤرخي المستقبل سيقولون: إن الحادثة الكبرى في القرن العشرين، هي اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في العالم، إبان ذلك العصر»[2]،

 

 كانت الاستجابات لهذه الفكرة متسارعة بين دعوات لإيقاف عجلة التضخم السائرة باتجاه التخطيط والتنظيم والاستشراف لحوادث مرتبطة بمقدمة فكرة الصدام بين الغرب والآخر، كفكرة سباق التسلح وفكرة خلق العدو وفكرة إيجاد المواقع الاستراتيجية العسكرية وغيرها وبين الدعوات الداعمة لمشروع الصراع كمنفذ لما سبق من السياسات والمصالح.

وكانت إحدى تلك الاستجابات التي يمكن أن تسمى بالإيجابية هي استجابة غارودي ودعوته لفكرة الحوار بين الحضارات Dialogue of Civilizations إذ دعا غارودي الغرب في كتابه «من أجل حوار بين الحضارات< إلى أن يعيد النظر إلى ذاته والآخر الحضاري من خارج محيطه الغربي والانفتاح عليه، وأكثر من ذلك حيث يعتقد غارودي أن من الواجب على الغرب أن يتعلم من الحضارات الأخرى بصورة أساسية، وأن الحضارات اللاغربية تعلِّمنا بادئ ذي بدء أن الفرد ليس مركز كل شيء وأن فضلها الأعظم يرجع إلى أنها تعلِّمنا كيف نكتشف الآخر وكل الآخر دون فكرة مبيَّتة تضمر التنافس والسيطرة[3]،

 

 وهي صورة من نقد الذات والعمل على تقويم بعض المنهجيات والأفكار التي كانت لا ترى من الواقع والحياة غير الجانب المادي، مشدِّدا على أن الآخر (= الشرق) هو المكمل لفكرة الإنسان لأنه الممثل للنزعات الإنسانية والمعنوية (= الروحية)، وبذلك فإن أطروحة غارودي دعوة لتغيير طريقة ومنهجية التعامل الغربي مع الآخر، إذ «إن المشكلة هي مشكلة إحداث تغيير جذري في الأنموذج الغربي لعلاقاتنا مع الطبيعة بفضل حكمة الصين وأفريقيا والهند والإسلام، مشكلة إقامة توازن في مفهومنا ذي النزعة التقنية بالإفادة من تجربة حية، شعرية صوفية، هي تجربة اتصالنا ومشاركتنا في طبيعة لا نملكها بل تملكنا»[4]،

 

وما فكرة التكامل بين الطرفين الشرق والغرب التي نادى بها غارودي إلا فكرة إنسانية إصلاحية من شأنها أن تكون حلًّا للكثير مما يشوب العلاقة بين الطرفين، فحوار الحضارات لديه؛ «لا يمكن أن يكون حقيقيًّا ولا جائزاً إلا إذا اعتبرت الإنسان الآخر والثقافة الأخرى جزءًا من ذاتي، يعمر كياني، ويكشف لي عما يعوزني»[5].

 

وسعى غارودي إلى الانتقال بفكرة الحوار بين الحضارات من النظرية إلى التطبيق كحل لأزمة العلاقة بين الغرب والآخر، فجعل ذلك على ثلاث مستويات هي:

1- إن دراسة الحضارات اللاغربية في مجال الدراسات منزلة تعادل بأهميتها على الأقل أهمية الثقافة الغربية.

2- أن يشغل مبحث الجمال منزلة تعادل في أهميتها على الأقل أهمية تعليم العلوم والتقنيات.

3- أن تعادل أهمية النظرة الأمامية -فن تخيل المستقبل- والتفكير في الغايات والأهداف، أهمية التاريخ على الأقل[6]،

 

 «فالإستقبالة -الدراسات المستقبلية- غير متعارضة مع التاريخ بل هي على العكس متصلة به اتصالاً وثيقاً»[7]؛

 

 وذلك لأنها تعتمد على الحوادث التاريخية كمادة معلوماتية وبيانات تقوم عيها النظرة المستقبلية.

والرؤية العامة لغارودي حول آلية تحقيق حوار الحضارات تتلخص في العمل على تسليط الضوء حول مسألة التكافؤ والحقوق المتساوية -المعرفية- التي تعطي أو توجه أو توضح الصورة عن الغرب والآخر، فتساوي الطرح أو التعرف أو التعريف بالآخر بنفس درجة ما يمتاز به الغرب من اهتمامات معرفية تعريفية، هذا هو الهدف الأساس والمحور في نقل حوار الحضارات من النظرية إلى الواقع حسب غارودي.

ومرت فكرة الحوار بطور التراكم المعرفي من المناقشات والأخذ والرد، نتج عن ذلك أن أُنشئت العديد من المراكز والمعاهد والجمعيات والمنتديات التي ترعى فكرة الحوار الحضاري[8]،

 

 وأصبح الاهتمام بالفكرة ملازماً لدعوات السلم واللاعنف والسلام العالمي، وأصبحت الدعوات إلى إيقاف التصور الاصطدامي بين الغرب والآخر، على أساس قبول الغرب بفكرة الحوار ولاسيما أن الفكرة جاءت على سبيل النقد الذاتي (من قبل غارودي).

وكانت الاستجابة الأخرى لمقولة توينبي، في نهاية القرن العشرين على يد صموئيل هنتنغتون[9] Samuel Huntington،

 

 وهي مقالة بعنوان صراع الحضارات Clash of Civilizations في مجلة شؤون خارجية أو أجنبية FOREIGN AFFAIRS الأمريكية، وذلك في صيف عام 1993، وطورها فيما بعد إلى كتاب أسماه بـ(صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي). والنظرية وإن لم تكن جديدة، إذ إن البداية كانت مع توينبي، وهنالك بعض الآراء ترى أن أصل النظرية تأريخيًّا عائد إلى برنارد لويس وأن هانتنغتون قد استقاها منه[10]،

 

 وفكرة صدام الحضارات كان لها أصول مع مهدي المنجرة الكاتب العر

بي المغربي وذلك مع صدور كتابه (الحرب الحضارية الأولى)، وإن الكلام عن الصدام الحضاري ليس بالجديد لأننا كنا ننعت مواجهتنا ضد الغرب بأنها مواجهة حضارية[11].

 

وهذه الاستجابة (صدام الحضارات مع هنتنغتون) كانت لها تداعيات وظروف أبرزت من شأنها؛ منها الحروب الناشبة التي تخوضها أمريكا في الشرق الأوسط وخاصة حروبها مع العراق (الحروب المتقطعة)، والتي انتهت فيما بعد بالإطاحة بصدام في 2003، والتداعيات العسكرية والحاجة الاستراتيجية التي جعلت هنتنغتون ينظر لفكرة الصراع من جديد، ولم يلحظ حينها ما يقف بالضد منها أو أي محاولات لإيقافها. والسبب في ذلك حسب تصوري أنها كانت تجليات للرغبة الأمريكية التي ترى وجوب تحديد الهوية الأمريكية والتي تحتاج إلى ما يقوي بنيتها الداخلية بافتراض العدو الخارجي، وهذا ما أكد عليه عدد من المفكرين الأمريكيين وأبرزهم كان هنتنغتون. وسواء اطلع هنتنغتون على ما صاغه «توفلر» وأسس له -بما يخص مفهوم صدام الحضارات- أم لا[

12]، فإن هنالك إبداعاً فكريًّا لهنتنغتون في صياغة النظرية وهو «في

 

المنهجية التي أخرج فيها هذه المقولة، ووضع لها بنية من المعارف التاريخية على قدر من المنهجية،فالجديد ليس في المقولة، وإنما في الافتراضات التي تخرج بها ومن التحليل التاريخي والربط المتماسك لأجزاء متناثرة من لأحداث والوقائع التاريخية والمعاصرة»[13].

 

كما وأن الجدة في النظرية تتركز في «بنيتها الفكرية الجديدة التي صاغها هنتنغتون وحساسية الوقت الذي جاءت فيه، فضلاً عن نوعية المصدر والجهة التي عبَّرت عن هذه الفكرة»[14].

 

وحاولت فكرة الصراع بين الحضارات تحويل مركز أو محور الصراع من كونه صراعاً قوميًّا أو دينيًّا بحتاً أو توسعيًّا استعماريًّا أو ما شابه، إلى صراع بين دول أساسية تنتمي إلى حضارات معينة هي لا تخرج عن موقع الغرب وعدويه الحليفين وهما (الصين والإسلام)، وهذا التحالف هو عدو الغرب وهو يحاول التصدي للمشاريع الغربية والوقوف بوجه الحضارة الغربية (= الأمريكية)، وعلى الغرب مواجهته، إذ إن العلاقات بين الدول والجماعات من حضارات مختلفة، لن تكون وثيقة، وغالباً ستكون علاقات عدائية، فضلاً عن ذلك، فبعض العلاقات الحضارية المتداخلة ستكون عرضة للصراع أكثر من الأخرى وأكثر خطوط الصراع عنفاً حينما تكون بين الإسلام وجيرانه، وعلى المستوى الكلي، يكون التقسيم بين الشرق والغرب مرتبطاً بصراعات شرعية بين المجتمعات المسلمة والمجتمعات الآسيوية من جهة والمجتمعات الغربية من جهة أخرى. والصدامات الخطيرة في المستقبل من المحتمل أن تنبع من التفاعل بين الغرب والإسلام والصين[15].

 

وكل ذلك لا يخرج عن أن المحرك الأساس فيه هو معنى الهوية والحضارة التي عرَّفها على أنها أعلى مستويات الثقافة لمجتمع ما.

وهنا يبدأ الجدل من جديد حول واقعية الصراع وطموح الحوار، وفي فلك البحث في هذه الديالكتيكية النظرية حول المفاهيم والرؤى التفسيرية أو العلاجية للوضع العالمي أو النظام العالمي الجديد، نرى أن البحث في حلول لفكرة العلاقة بين الشرق والغرب في خانة الحوار لها من الإيجابيات أكثر من سلبياتها على الأقل من جانب النظر الشرقي للغرب، وذلك لعدة مبررات لقبول الحوار والتنظير من أجله، ومنها:

1- ضعف الجانب الشرقي قياساً بالغرب كحضارة تقنية ومدنية وعمران يتمحور حول تكنولوجيا المعلومات وثورتها.

2- وكذلك الضعف العسكري الذي هو المحرك الأساس في عمليتي الحوار أو الصدام بين الطرفين، فتجد الدعوة للحوار خوفاً متمثلة بصيحات الشرق ورأفة الغرب التي تنطلق من رومانسية واهتمامات كمالية وليست ضرورية كما يريد لها أو يتصورها الشرق.

3- وهذا التفاوت بين الطرفين بقدر ما يدعو إلى الحوار فإنه من جانب آخر يخلق مشكلة نظرية وواقعية في مجال الحوار إذ إنه (أي التفاوت) يكون مشكلة وحل في الوقت نفسه، فهو حل لفكرة الصدام وعلاج لها، ومشكلة لأن التفاوت هذا يؤدي بالتراكم التعاملي بين الطرفين إلى الصدام من جديد لأن الطرف الأقوى لا يرى من الآخر إلا مستجدياً لحقوق ما، ومستعطفاً للرأفة بحاله، وهنا توجب النظر في محور آخر تحال إليه إشكالية العلاقة بين الطرفين (الشرق والغرب).

إنتقالة إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب إلى حيِّز أو مجال آخر

لعل الانتقالة من ثنائية الوصف العلاقاتي بين الطرفين على أنه إما صراع أو حوار له من القيمة المعرفية ما هو جدير بأن يُتابع ويُناقش ويَأخذ الكلام فيه مأخذه، إذ إننا مطالبون بالرغم من إمكانية حل إشكالية التفاوت السابقة في إطار الحوار إلى إخضاع العقل الإسلامي أو العربي إلى منهجية العصف الإبداعي التي من شأنها أن تجعله يعيد النظر في مقولاته وما يتبناه في هذا المجال، ولعل من إنتاج هذه العملية هي فكرة تعارف الحضارات Acquaintance of civilizations، التي حاولت نقل الإشكالية إلى حيز ثالث يخرج عن الثنائية المتعارف عليها أولاً من باب الجدة في المنهج أو الموضوع، وثانياً من باب الدعوة لإمكانية إيجابية النتاج لعملية العصف الإبداعي التي تعني الرجوع إلى الأسس الثقافية أو الحضارية والدينية للأمة أو المجتمع للاسترشاد بما لديها من مكنون فكري يُسهم في عملية قراءة ونقد الذات أو رسم وتحديد لعلاقة مع الآخر، واللذين هما من أكبر الهموم والمشاكل المعرفية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي، ولعل فكرة التعارف حسب فهمي تنطوي على المعنيين فهي من جانب تُعدُّ نقداً للذات على أنها يجب أن تراجع علاقتها مع الآخر وما شابه من عمليات العنف والإلغاء والإقصاء، ومن الجانب الآخر فهي بقدر ما تكون نقداً بقدر ما تكون بديلاً لمنهجية ما أو جدة في رؤيتنا نحو الآخر على مختلف المستويات وما يهمنا حقيقة هو المستوى الحضاري، إذ تقوم الفكرة أساساً على الإفادة من النص القرآني في فهم العلاقة أو وصفها أو استشرافها وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[16].

 

والفكرة التي يستوحيها صاحب النظرية (زكي الميلاد)[17] و

 

ما يستفاد من الآية حسب الميلاد هو ضرورة البحث في هذا المجال الجديد للقيمة المعرفية التي يمكن جلاؤها من خلال تأملنا في هذا الاصطلاح (تعارف الحضارات) إذ بالإمكان اكتشاف قيمته الدلالية عن طريق:

1- «الخروج من الإشكالية الثنائية التي كرَّست الطابع الجدلي والاحتجاجي بين مقولتي حوار الحضارات وصدام الحضارات، الإشكالية التي قد تضيّق عمليات الفهم وتورث السجال.

2- تجاوز إشكالية الجمود والتوقف، أو الاقتصار على تلك المقولتين فحسب، إلى نوع من التجدد والكشف من خلال مقولة جديدة ومختلفة.

3- إن مفهوم تعارف الحضارات هو أوسع وأشمل وأعمق من مفهوم حوار الحضارات، وهو ينطلق من أرضية تكوين المعرفة والتأسيس عليها. فالتعارف هو الذي يحدّد شكل العلاقات وحدودها ومستوياتها وآفاق تطوّرها.

4- إن المشكلة بين الحضارات ليس في عدم الحوار فيما بينها، وإنما في عدم التعارف، والانقطاع عن تكوين هذه المعرفة، وسيادة الجهل أو الفهم المنقوص، أو الصورة النمطية والسطحية في المعرفة، لذلك فإن كل حضارة غالباً ما تصور مشكلاتها مع الحضارات الأخرى على أساس عدم المعرفة السليمة أو الصحيحة بها.

5- من الغايات الأساسية لحوار الحضارات الوصول إلى التعارف، أو إلى قدر معقول منه، أو تصحيح الصورة وإزالة عدم الثقة... إلى غير ذلك من معانٍ ودلالات تكشف أن التعارف يمثل قيمة أكبر من الحوار»[18].

 

6- التراكم التخيلي الاستشراقي - الاستغرابي، حول الطرفين ومن قبل الطرفين؛ فرؤية الغرب تجاه الشرق محقونة بالكره والاستهانة والرعب، المقابل من قبل الشرق بفكرة العدو والوحش والتبذل والانهيار الخلقي.

النقاط الثلاث الأخيرة هي المهمة، إذ إن قضية الحوار وواقعه الذي تمثّل بديلاً للصراع وأنه معالج له، لم نشهد لها ذلك التفاعل الكبير مع وجوده، ولم نرَ ذلك الانعكاس على واقع العلاقة بين طرفي العلاقة (الغرب والشرق)، وذلك دليل أن المسألة ليست في الحوار فقط ولا يمكن أن تقف معه، بل إنها تتجاوز ذلك لحاجتنا إلى ما يُزيل المشكلة الأساس وهي التفاوت بين المتحاورين، فكانت فكرة التعارف التي من شأنها أن تُزيل ذلك التفاوت وتعمل على زيادة المعرفة بين الطرفين واحترام كل منهما للآخر على أساس المكنون المعرفي والحضاري بينهما، هذا في النقطة الرابعة.

أما في النقطة الخامسة والسادسة، فإن سوء الفهم الحاصل من خلال واقع التراكم المشوش لعملية التعامل بين الطرفين تاريخيًّا كفيلة بأن ترسم علاقة مشوبة بالسوداوية والإلغاء والكره والبغض، مما يقود ويؤدي إلى مسألة الصراع معه في محاولة لإقصائه على مستويات الوجود والفكر والسلوك وهذه من أشد مستويات إلغاء الآخر، والحقيقة أن فكرة تعارف الحضارات «بإمكانها أن تصبح مدخلاً في تطوير رؤيتنا إلى الغرب، وفي تصحيح العلاقة بين عالم الإسلام وعالم الغرب، وفي البعد الأول تقوم فكرة تعارف الحضارات على بناء المعرفة بالغرب، ونحن بأمس الحاجة لأن ننهض بحركة واسعة وشاملة ومعمقة للتعرف على الغرب، ولاسيما في أبعاده الفكرية والفلسفية والعلمية، وهي الأبعاد التي تمثل جوهر الحضارة الغربية، وفي البعد الثاني هناك مشكلة متبادلة بين العالمين من حيث تكوين الرؤية والصورة، بين عالم الإسلام الذي لا يقبل أن يُصور بأنه عالم يسوده الجهل والتخلف، واضطهاد المرأة، ومعاداة العلم، وعدم التناغم مع الديموقراطية، وأنه لا يتقبل الحداثة، ولا يعترف بالآخر، كما هي الصورة المتشكلة عند الغرب، وعالم الغرب الذي لا يقبل أن يصور بأنه عالم يسوده تفشي الجريمة، والانحلال الأخلاقي، وتفكك العائلة، وأنه يعادي الدين، ولا يحترم الأخلاق. والخروج من هذا الجهل أو المأزق، أو من هذه الصورة النمطية، يمكن أن يتحقق عن طريق تعارف الحضارات من جديد بين عالم الإسلام وعالم الغرب»[19].

 

وعلى ذلك فالتعارف الحضاري هو حلقة وسيطة من جهة، ومن جهة أخرى فهي منهج متكامل لنظرية في العلاقات الحضارية، فمن جهة الوساطة فهو (التعارف) يؤدي إلى نزع الجهل بالآخر ورسم صورة حقيقية مصاحبة للاعتراف به، تقود إلى مرحلة نجاح العلاقة معه والتعايش السلمي Peaceful Coexistence وقبوله على أسس التسامح معه تؤدي إلى عملية حوار حضاري ناجح ومعالج لخلل التفاوت بين الطرفين. ومن جهة المنهج فهي نظرية متكاملة على الأساس الديني الإسلامي القرآني، تسعى إلى تأسيس أسلوب للتعامل مع الآخر عموماً ومن خلال منطلقات الاعتراف به والتعرُّف عليه وقبول التعايش معه والتعامل السلمي ونبذ الصدامات والصراعات التي من شأنها العنف والدماء والحروب، لكي يسود بذلك الأمن العالمي.

ومسيرة الفكر في نقل العلاقة بين الطرفين من فلك الصراع وما يدور حوله إلى فضاء الاعتراف بالآخر ومنهجية التعارف، مروراً أو اعتماداً على الحوار الحضاري بين الطرفين هو ما من شأنه أن يصلح العلاقة ويلغي ما يشوشها ويشوبها ويرسم صورة الآخر بخلاف فكرة العدو لدى أي من الطرفين، وكل ذلك يبقى في مستوى الفكر والتنظير ولا يرقى بل يحتاج إلى الكثير حتى يمكن تنزيله إلى المستوى الواقعي والعلاقة العملية.

قراءة في الأفكار ونتائج للبحث

ومن خلال رؤية نقدية وتحليلية لأفكار (الصراع، الحوار، التعارف) نسجل ملاحظات عدة تصلح قراءةً مبسطةً وسريعةً وفي الوقت نفسه فاحصة لآليات الخطاب فيها، وتتلخص بالتالي:

1- إن الاعتبار (بالنسبة لفكرتي الحوار والتعارف الحضاري) القاضي بتصوير الطرفين المتعاملين منطويين تحت مسمى الحضارة مصادرة مستوردة ومستقاة من فكرة صدام الحضارات التي يثار عليها التساؤل نفسه؛ إذ إن الحضارات لا تكون محوراً في إدارة الصراع بقدر ما هي وصف لهوية أو كينونة لمجتمع ما، والأحرى هو نقل العلاقة من محور الحضارة إلى محور أقل شأناً أو أوضح يمكن أن يتجلى بفكرة الدولة أو التحالفات الإقليمية أو النخب والأحزاب السياسية والدينية، مما من شأنه أن يوضح آلية العمل وتشخيص خطواتها وأهدافها ومكامن الخلل فيها.

2- إن هنالك عنصراً مهمًّا في النظريات الثلاث وهو أنها كلها وضعت للتنبؤ والاستشراف لمستقبل العلاقة بين الطرفين (الغرب والشرق)، وما كانت الحوادث التاريخية المسرودة إلا شذرات للاستشهاد على إمكانية حصول النظرية استقراءً للحدوث التاريخي لها، بل وبعض منها كان يمثل دعوة وطموحاً وليس تنبؤاً (كالتعارف والحوار).

3- إن فكرة التعامل تتراوح تارة بين دينين (الإسلام والمسيحية) أو حضارتين (الغربية والإسلامية والعربية) أو مكانين لهما كيانهما الثقافي (الغرب والشرق)، هذا الارتباك في حصر آلية التعامل وهيأته جعل الصور المقدمة لتفسير العلاقة أو استشراف مستقبلها تقدم بعدة أساليب، فتارة تجد الرفض الديني للآخر قائماً، وتارة يعمل التمييز الحضاري كما في رؤية فيكتور هيغو تجاه الشرق أو العرب بأنهم يمثلون البربرية وأن الغرب هو الحضارة وأنه حامل مشعل التنوير للشرق والعرب والمسلمين، وتارة أخرى نرى أن التمييز الجغرافي المرتبط بتصنيف الطرفين بصفتين بارزتين هما (السحر والخرافة والروحيات) للشرق و(العقلانية والبرهانية والحداثة) للغرب. كل هذا الارتباك في تشخيص ماهية العلاقة وبين من؟ وما هي هوية الطرفين؟ جعل النتيجة المتوخاة من البحث في ماهية مستقبلها أمر تحصيل حاصل في الغموض والإبهام والارتباك.

4- إن أفضل الدعوات لحل العلاقة بين الطرفين اللذين نتصورهما (بشتى الهويات) سواء على الصعيد الحضاري أو الديني أو الجغرافي، هي الدعوة إلى التعايش السلمي والتعارف بين الطرفين والحوار بينهما، وسواء كانت ردّة فعل على دعوة، أو تنبؤاً بالصراع، أو جاءت ضرورةً حضارية كما مع غارودي، أو رؤية إبداعية كما يرى الميلاد في التعارف، فإنه يحتاج إلى الكثير من النقد الذاتي ومعالجة المشاكل الداخلية على المستوى الشرقي (الإسلامي - العربي)، وإلى مراجعة آلية الخطاب والرؤية الاستعلائية على المستوى الغربي، وكلا الأمرين في غاية الصعوبة لما للمشكلتين من تجذر وبناء تراكمي داخل المنظومتين الفكريتين، والعمل على هدم ما لدى الغرب أو بناء ما لدى الشرق إن لم يكن مستحيلاً فهو من الصعب جدًّا أن يجد حيزه على المستوى الواقعي لا الفكري، وهذه الصعوبة أو الاستحالة تحدو بنا إلى فكرة العقم والقصور الذهني الثقافي تجاه المشاكل السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية التي تخص هذا الهم العلاقاتي، وإن صحت فإن الدعوات إلى الكثير مما يتعلق بعلاج أو بحث هذه الثنائية المحمومة لا يخرج عن عده هواء في شبك أو ممارسة لا تتجاوز معنى الميتافيزيقيا عند الوضعية المنطقية؛ لأنها لا تعدو أن تكون كلاماً فارغاً.

وعليه يبقى التساؤل قائماً حول شكل العلاقة وآليتها ومستقبلها؟ والتساؤل الآخر هو عن شرعية هذا السؤال (حول شكل العلاقة وآليتها) إذا تبيَّن أنه لا معنى عملي ينتج عنه، بسبب ارتباك الهويات المتعاملة وهوية تلك العلاقة أيضاً، وآلية ذلك التعامل، إذ إن الأطراف ضمن العلاقة تدور في فلك المصلحة والمصلحة تقتضي تارة الصراع وأخرى -وهي الأجدر بنا (نحن الشرقيين)- أن نطالب ونتمسك بالحوار أو ندعو إلى التعارف، وكل ذلك أفسره بمعنى المصلحة (الصراع مصلحة والحوار والتعارف مصلحة)، فهي تراوح بين ما للقوي من مصالح وما للضعيف من مكتسبات مقترنة بضعفه ومصلحته.



[1]* باحث عراقي.

 توينبي، أرنولد: الحضارة في الميزان، ترجمة أمين محمود الشريف ومراجعة محمد بدران، سلسلة آفاق ثقافية، وزارة الثقافة السورية، 2006،ص 248.

[2] توينبي، أرنولد: الحضارة في الميزان، ص247 - 248.

 

[3] غارودي، روجيه: حوار الحضارات، تعريب عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة، 1999، ص 162.

 

[4] المصدر السابق، ص 215.

 

[5] المصدر السابق، ص 158.

 

[6] المصدر السابق، ص 159.

 

[7] غارودي : مشروع الأمل، مشروع الأمل، دار الآداب، بيروت - لبنان، ط 2، 1988، ص 108.

 

[8] (1)

 إنشاء مؤسسة كبرى لحوار الحضارات وبرعاية المفوضية الأوربية، (2) إنشاء مؤسسة المعهد الدولي للحضارات، الذي أسسه روجيه غارودي في عام 1976م، والذي هدف من خلاله إلى أن يبرز دور البلاد غير الغربية وإسهامها في الثقافة العالمية، (3) برنامج حوار الحضارات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة والذي ترأسه الدكتورة نادية مصطفى، ومركز حوار الحضارات في الخرطوم والمتضمن العديد من الدراسات والبحوث والتنظيرات التي من شأنها دعم وتبني فكرة الحوار بين الحضارات، (4) المركز الدولي لحوار الحضارات برئاسة الدكتور محمد خاتمي والذي تأسس في تاريخ ديسمبر 1998، (5) مركز دراسة الحضارات المعاصرة في جامعة عين شمس... وغيرها من المراكز.

 

[9]

صموئيل هنتنغتون Samuel.Huntington: مفكر أمريكي من أصل يهودي، متخصص في الإدارة العامة ومدير معهد جون أولاين للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفرد، وقد كرَّس حياته لموضوع الاستراتيجية العسكرية بحثاً وتدريساً واهتم بصورة مباشرة بالدراسة المقارنة في مجال السياسة الأمريكية وسياسات دول العالم الثالث، وقد أسندت إليه ما بين عامي 1977 و 1978 مسؤولية قسم الاستشراف بمجلس الأمن القومي الأمريكي. 

 

[10]

ينظر: الميلاد، زكي: نحن والعالم.. من أجل تجديد رؤيتنا إلى العالم، سلسلة كتاب الرياض، مؤسسة اليمامة الصحفية، الطبعة الأولى، سنة 2005، ص 10. وخليل الصغير في مقالة (برنارد لويس بطريرك الاستشراق، مدارات غربية، العدد الرابع، 2004) وموقع www.bintjbil.com

 

[11]

هاني، إدريس: المفارقة والمعانقة، رؤية نقدية في مسارات العولمة وحوار الحضارات، المركز الثقافي العربي،بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2001 ص173.

 

[12]

حيث فسّر توفلر أو وصف الحضارة بالموجه، وذلك على اعتبار أن الموجات متحركة ديناميكية وإذا اصطدمت ينتج عن اصطدامها التيارات المتعارضة القوية، ويتوقع توفلر حروباً ذات مواصفات مختلفة تستهدف الحفاظ على مكتسبات أصحاب المصالح  من الموجة الثانية (الموجة الأولى الزراعية، الموجة الثانية الصناعية، الموجة الثالثة المعلوماتية)، وفي هذا السياق تجد لديه مفهوم «صدام الحضارات» الذي سبق في استخدامه هنتنغتون. (عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الثقافة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2006، ص 247).

 

[13] الميلاد، زكي: المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1999، ص 63.

 

[14]

الميلاد، زكي: الإسلام والمدنية.. حوارات حول الفكر الإسلامي؛ قضاياه ومسائله وإشكالياته، الدار العربية للعلوم، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2007، ص 42.

 

[15]

هنتنغتون، صمويل: صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999، ص 333.

 

[16] الحجرات، الآية 13.

 

[17]

زكي عبد الله الميلاد: متخصص في الدراسات الإسلامية، وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة. ولد في 25 أكتوبر 1965م، في محافظة القطيف الواقعة شرق المملكة العربية السعودية، وهو رئيس تحرير مجلة الكلمة، وهي مجلة فصلية فكرية تصدر من بيروت، وهو مستشار أكاديمي في المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالولايات المتحدة الأمريكية، وعضو المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران، و عضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب له عدة مؤلفات منها : (من التراث إلى الاجتهاد.. الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد) الصادر في بيروت عام 2004م، وكتاب: (المسألة الثقافية.. من أجل بناء نظرية في الثقافة) الصادر في بيروت عام 2005م، وكتاب: (نحن والعالم.. من أجل تجديد رؤيتنا إلى العالم) الصادر في الرياض عام 2005م، ضمن سلسلة كتاب الرياض الذي تصدره شهريًّا مؤسسة اليمامة الصحفية، وهو أول كتاب أصدره داخل السعودية، وكتاب: (تعارف الحضارات) الصادر في دمشق عام 2006م بالاشتراك مع آخرين.

 

[18] الميلاد، زكي: نحن والعالم، ص 64.

 

[19]

الميلاد، زكي: الإسلام والمدنية.. حوارات حول الفكر الإسلامي؛ قضاياه ومسائله وإشكالياته، الدار العربية للعلوم، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2007 ص 152.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة