تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الأناوالآخر، حينما ينتصرالحوار على التنميط والعنف الممنهج

هاني ادريس

تقديم لمـلف العدد:

تشكل ثلاثية آلان غريش، وأمبرتو إيكو، وكارل بوبر، العمود الفقري لملفنا الموسوم بالأنا والآخر. طبعا سنكون في غنى عن التعريف بهؤلاء المشاهير الذين هم بمثابة الفرسان الثلاثة في رهان صعب، قد تكون واحدة من أنبل غاياته، الإصرار على طرح إمكان اللحمة بين الضفتين الثقافيتين، في ضوء سؤال عن الإنسان والثقافة أكثر جدة وثورية من ذي قبل. وضمن مشروع حوار الثقافات أو صراعها بما يخفف من شدة عنف، حكم النمط الحضاري الإنساني حتى غدى وكأنه لازمته البنيوية. وقد يتساءل الإنسان: كيف يمكن أن نطور نظرتنا للحوار بين الحضارات وفي الوقت ذاته نطور نظرتنا للصراع بين الحضارات. وكل هذا لصالح التسامح، كرهان واحد؛أي تناقض هذا؟! نعم، قد تكون هذه النظرة المحكومة بعقيدة الثالث المرفوع هي أهم أسباب انسداد آفاق التعايش والسلم الحضاريين. ومع أنني لا أنوي من خلال هذا التقديم المقتضب، التطرق مجددا إلى إشكالية التعريف، فسأفترض أن القارئ سيشاطرني الرؤية أو على الأقل، سوف يتفهم نزوعي إلى كون الجدل اليوم هو وهمي بين حضارات افتراضية. لنقل إنه جدل بين ثقاقات قد توجد في داخل الكيان الواحد أو خارجه. لكنها تظل بمثابتها الحقيقة الأكثر موضوعية من وجود حضارات وهمية لا توجد ولا يمكن أن توجد إلا في الأذهان الحالمة، أو تلك المولعة بنحت المستحيل التحقق. إنه جدل بين ثقافات في قلب حضارة واحدة موزعة بتفاوت شديد بين هذه الكيانات الثقافية. إن استعمالنا لعبارة جدل بين الثقافات هو لأجل فتح المجال للصور الممكنة لهذا الجدل. هل هو حوار أم صدام. لسنا بصدد تحيين القول في مسألة الحوار أو الصراع، طالما أن هذه الثنائية نفسها أثبتت حتى الآن هشاشتها، وبؤس محتواها المفهومي. إن الحوار الذي نريد التقديم له الآن، ليس هو الحوار الذي ملأ مسامعنا في إنشائيات صناع المثل الباردة عندنا أو عندهم. وطبعا، إن الصراع الذي نعنيه هنا لا يلتقي هو أيضا مع المفهوم الذي يحمله كهنة العنف الأعمى عندنا أو عندهم. إنه مفهوم هومن الإختلاف بحيث قد يصل إلى حد إقناعنا بأن ثمة إمكان آخر لصيغة وسطى، ألا وهي: الحوار في الصراع، والصراع في الحوار. إن الحوار هو مستوى من مستويات الصراع. حيث لا قيام لحوار بين غير المختلفين والمتصارعين. بل إنها الصورة الأكثر مثالية وأخلاقية عن صراع ينبغي أن يكون ويستمر أبدا؛لأن به فقط، تستطيع الجماعة الإنسانية التطور بدون فظاعة. إنه الصراع الذي يجعل الأفكار تتقارع في سوح النقاش النقدي، نيابة عن الشخوص، وب بأقل تكلفة إنسانية. وعليه فإن قصة جدل الأنا والآخر، هذه النغمة المونولوغية التي تخفي صراع الأنا مع آخره، والذي أحب أن أسميه: (آخر ـ الأنا) l”autre de moi، هي اليوم مسؤولية تقع على عاتق الغالب والمغلوب، أي على الأنا والآخر معا.

 

* * *

 

لن أتحدث هنا عن آلان غريش، حيث سأحتفظ إلى حين بتعليق خاص حول مقالته المعنونة: الإسلاموفوبيا، في الملف المقدم له. وهي في الأصل مقالة، كان قد قام بنشرها على صفحات جريدة لوموند ديبلوماتيك، التي يشغل رئيس تحريرها، والتي أعيد نشرها كالمعتاد في المجلة الفرنسية: maniere de voir، التابعة لنفس الفريق الصحفي. وسأكتفي هنا بالتقديم لقطبين شهيرين ـ هما أمبرتو إيكو، وكارل بوبر ـ، لعلهما الأكثر إثارة للجدل، والأكثر نزوعا إلى نقد البنى العميقة للحضارة الغربية. بل هناك الكثير مما يجمع بينهما. فبالإضافة إلى النزعة الانسانية التي تشكل غاية ما يصبو اليه الناقدان، هناك الإزدراء بذلك المنظور الذي تطفوا الحقيقة من خلاله وكأنها في كمالها البهي. فالنقاش مفتوح عند بوبر كما أن التأويل مفتوح عند إيكو. ولا عجب أن يكون الأول داعية إلى المجتمع المفتوح والثاني داعية إلى النص المفتوح. فالمجتمع المفتوح عند الأول، هو المجتمع الذي تستطيع الفردانية أن تعبر فيه عن نفسها بحرية تامة. والنص المفتوح يرى في المتلقي طرفا رئيسا في صناعة المعنى. وكلاهما، المجتمع المفتوح والنص المفتوح، يفترضان عقلا مفتوحا على الإمكان. فالمتاهة الهرمسية التي شكلت مثال إيكو عن ذلك التراث الإغريقي الآخر، دليل على قوة الإمكان. قد تكون المشكلة كامنة في هذا الإرث المابعد ـ سقراطي، الذي يرجع إليه الفضل في تحديد نمط التفكيرالغربي الحديث على شرط الرؤية العلية، بالمعنى الذي لم يعد هناك أي إمكان للتفكير في الثالث المرفوع. وهذا التنميط الخطي العلي هو ما سيكشف كارل بوبر عن عمق أزمته في نقده للإستقراء.

من حق أمبرتو إيكو أن يحتفظ بميل خاص الى مجاله الثقافي والعمراني. فهو يعترف بهذا الميل حتى الثمالة. لكنه ميل يحمل سنخية أي ميل ممكن لأي كائن بشري، في أي مجال ثقافي. فالموضوع هنا ليس موضوع نزعة تصنيفية، بقدر ما هو شعور وإحساس بالراحة. وفي مثال أمبرتو إيكو الذي يفضل العلاج في ميلانو: سيساعده ذلك على الإحساس بوجوده في منزله. وهو ماسينمي قدرته على التغلب على المرض. هو بهذا المعنى إحساس متخيل. وهذا ما يجعله يعترف بالحق نفسه للغير، إلى حد الدعوة إلى احترام ثقافة الغير في مجال الأنا، وليس مجرد احترام الآخر في مجاله. وهذا منتهى ما يمكن أن يصدر عن ناقد يسعى إلى أنتروبولوجيا جديدة. ذلك لأن هذا القدر من الإحترام للغير في مجاله، هو القدر المتاح، وغير المتنازع حوله إزاء الكائنات البرية. فكلنا يحترم عالم وأنماط البهائم، ما دامت هذه الأخيرة لم تطالب بأنسنتها. إن أمبرتو إيكو يشاطرنا هذا المنظور. إن الإحترام الذي ينبغي أن نحمله عن الأغيار، ليس بشرط أن يبقوا حيث هم بل حيث نحن. وذلك هو المحك الأخطر، لأنه في ظني حتى أمبرتوا إيكو لن يقوا على القبول بذلك إلى آخر المشوار. بل وليس في وسع أمبرتو القول على نحو آخر. لأنه ليس بعد هذا الحد الأدنى من الإعتراف، إلا أن يسقط في فخ الهينتينغتونية. لقد تحدث هينتينغتون عن صدام بين الحضارات يمكن تطويقه في الداخل بإجراءات شمولية، تحت طائلة المنظور التقليدي للدولة ـ الامة أو الرابطة الوطنية، بوصفها رابطة حضارية موحدة. الأمر الذي قد يثير نوعا من الغثيان بالنسبة لكارل بوبر، وهو يميط اللثام بجرأة عن أكبر أكذوبة حديثة، إسمها الوطنية أو الرأي العام. كما يمكن تطويقها في الخارج بسلوك سياسة الإنزواء. فمقتضى الهينتنغتونية هو أجرأة تغريب الغرب، أو لنقل إعادة غزو الغرب. غرب مهدد بالأفول الثقافي. من هنا، الدعوة إلى تصعيد خيار اللاتسامح ضد الهجرة الأجنبية التي تجرف معها عادات وتقاليد، من شأنها أن تغرق بلدا كالولايات المتحدة الأمريكية. هواليوم في طليعة الدول الغربية المهددة بأن لا تكون غربية. إنها الدولة المهددة بأن تنسى لغتها، وإلى الأبد! هذه الحرب الحضارية في الداخل الأمريكي هي مشكلة أمريكية بحتة. ولذا فإن تفويتها إلى الخارح، هو من باب ضمان هذه الوحدة المهدد. ما يعني أننا أمام كيان لا يمكن أن يعيش دون افتراض عدو استراتيجي، يشغل به الرأي العام عن هذه الهشاشة الاجتماعية لغرب أمريكي حكم عليه هينتغتون بالانتحار. لغرب أمريكي بدأ تراجيديا وسينتهي كذلك. إنها دعوة غير مباشرة للإنزواء والتراجع الى الحدود الطبيعية، وفي الوقت ذاته دعوة صريحة لحرب طويلة الأمد لتجفيف منابع التهديد الحضاري في الداخل. إن مشكلة هينتنغتون داخلية. لكن هناك من أراد أن يجعلها مشكلة العالم. وكأنه بات لزاما على العالم أن يتعبأ لحل المشكلة الأمريكية بعد أن حلت بها لعنة كهنة أباتشي. حتى يمكننا القول بأن مجال تطبيق المنظور الهينتنغتوني، هو الداخل الأمريكي. إن ما يحدث في الخارج لا علاقة له بهذا المنظور الإنزوائي. فأمريكا لا تنزوي ضمن حدودها الطبيعية كما دعى إلى ذلك هينتنغتون. ولا ندري هل ذلك لإحساسها بأنها لاتملك أصلا، جغرافيا. فلعنات مانيتو لن تسمح لها بالاحساس بامتلاك الأرض بالتقادم. إنها تمارس التدخل، وهذا ما يرفضه داعية الصدام بين الحضارات. فهل ياترى هذا تحريف للنص الهنتنغتوني تمارسه قوى التحريف في البيت الابيض؟قد يرى البعض في ذلك ضربا من الاجتهاد. لكن هذا لا يحجب فظاعة كونه اجتهادا مع وجود النص!

* * *

إذا عدنا إلى أمبرتو إيكو، فسوف نقف على حد أدنى من التوافق الإنسي. فهو يدعو إلى احترام المجتمعات المختلفة ثقافيا ليس حيث هي هناك فحسب، بل حيث هي هنا أيضا. والفرق كما يبدو واضح تماما. ليس أمامنا أن نعلم أبناءنا التميز كحالة نافلة في دنيا البشر، ولا أن نكتفي بالتعريف الأرسطي الذي يوقف التميز في حدوده البويولوجية، بوصفه تميزا عن الحيوان. فهذا كان في وسع الايديولوجية الداروينية أن تجهز عليه كما فعلت خلال مرحلة ليست بالقصيرة في حياة الكيان الغربي وعلاقته بالآخر؛بل علينا أن نعلمهم على أن التميز قائم في عالم البشر. وبأن معيار ذلك ليس تصنيفي، بل تلك طبيعة الأشياء.

إن أمبرتو إيكو، هذا المفكر اللساني الكبير وصاحب الأفكار الأكثر دهشة في عالم السيميوزيس والهرمينوتيك، يملك جرأة استثنائية إلى درجة الإعتراف بالمأزق التناقضي للثقافة الغربية. التناقضية التي أصبحت خبزا يوميا لثقافة تكفر بالثالث المرفوع وبالتناقض. ولكنها مع ذلك تملك أكثر من غيرها القدرة علىمداعبة تناقضاتها إلى حد الغباء، و أحيانا بوقاحة. فالذين يؤمنون من هذه الحضارة بسوء التلوث البيئي يقبلون إذن بمنشآت ومختبرات لإطالة أمد الحياة، لا يمكنها أن تعمل إلا على شرط تلويث البيئة. فهل هي مشكلة المعايير أم أنها الضحالة الوجودية، بكل حمولتها الغثيانية التي عبر عنها الهاربون من جحيم هذا المنطق الفاوستي الذي خيم على غرب أصبح اليوم في المرحلة الأخيرة من لعبة ميثاق غرري: كيف يسلم الروح والجسد للشيطان. إنها في نظري، خدعة كبرى. وبعدها أستطيع أن أجزم بأن مستقبل هذه الحضارة لن يحتفل لا بالروح ولا بالجسد. إنه العماء القادم. وليس ثمة من يملك رمقا لينادي: شراع.. شراع، على طريقة شيكسبير. لأن الغرقى، قطعوا حبل العودة، ولوثوا المستقبل!

هذه الدوامة التناقضية هي موضوع المقاربة الثقافية لنقاد الغرب من الغرب نفسه، ولأمبرتو إيكوكذلك. ما يجعل هذا الأخير حقا جديرا بهذا التأسيس الواعد لأنتروبولوجيا جديدة، ليس بالمعنى الذي تدعوا إليه منظمة (عبر الثقافات)، التي ينتمي إليها أمبرتو نفسه، والداعية إلى هذه الانتربولوجية البديلة. بل بالمعنى الذي ينتهي بجعل الغرب نفسه موضوعا لدراسة الآخر، ولقراءة أخرى. لقد فعل أمبرتو بالحضارة الغربية ما فعله ستراوس بالفكر الوحشي، مع وجود الفارق، طبعا. فالانتربولوجية البديلة هي إذا قلب ذكي أو لنقل إعادة ترتيب للذات والموضوع.

* * *

إنه لمن حسن الحظ أن يكون فرسان التسامح الثقافي، هم من جنس المشتغلين على اللغة. وكأن اللغة هنا تعيدنا كرها إلى أصل الوجود؛من حيث هو وجود متكثر في وحدته الظاهرة. فمن تشومسكي حتى أمبرتو إيكو، تغدو اللغة حقا أنسب مأوى لهذا التصور الأكثر تسامحا للوجود. وهو أمر يبدو في منتهى الضرورة والوضوح. فهل هو قدر اللغويين أن يكونوا أكثر تسامحا من نظرائهم. وهل قدر اللغويين أن يملكو وحدهم ـ في زمن التداول الاقتصادي والتجاري الأعظم ـ إحساسا ثائرا على هذه الهيلينية المؤسسة للعنف الثقافي. إنهم، أي اللغويون، هم الأكثر تفهما لنا نحن الآخر. نعم، نحن الآخر، حيث كان علينا أن ننظر إلى أنفسنا بوصفنا الآخر دوما. ليس مقابل الأنا المتمركزة للغرب، بل الآخر حتى بالنسبة لنا. إننا ننظر إلى أنانا ليس بوصفها أنا ـ حيث لزم أن نشاطر الغرب في نظرته إلينا كأغراب ـ بل بوصفها الآخر بالنسبة لأنا يفترض أن تكون جزءا من تاريخ الغرب. فإذا كانت اللغة، مأوى الوجود، فإن اللغوي لا مأوى له إلا في قلب هذه الملحمة التصنيفية للنوع ضد النوع، برسم الإنسانية الناطقة. إن النحو الكوني عند تشومسكي يفترض وجود هذه الملكة المبدعة، التي تجعل الكائن نفسه يتميز ويتعرف باللغة وفي اللغة. إنها القواعد الثاوية في ضمير المتكلم أينما قذف به قدره الأنتربولوجي. إذن، من الصعب علينا أن نقبض على الآخر الغرائبي في ضوء هذا التصور النحوي الكوني. إن الكوسمولوجية النحوية التشومسكية، تستبعد الغرائبية من المجال الذي يفترض فيه وجود الكائن الناطق. فالتميز هنا باللغة لا بالوجود. وإذا ما سلمنا بالحلولية الهيدغيرية، فسوف يكون التمايز هنا لاغيا، لأن اللغة تعوض التغاير، بوصفه تغايرا اعتباريا مضللا. إن الأمر نفسه نصادفه عند صاحب (العمل المفتوح). حيث شرط المعاضدة، جعل المتلقي المفترض جزءا من ثلاثية صانعي المعنى، إضافة إلى كل من النص والمتكلم. وعلى أساس هذا المنظور التأويلي المفتوح على آفاق الإمكان إلى حد معانقة المتاهة الهرمسية، سيكون للمتلقي الحق في الإنخراط في مخاض صنع المعنى. إذا اعتبرنا الثقافة الغربية نصا شأنها ككل الثقافات الأخرى ـ وأمبرتو إيكو يعتبر العالم نصا ـ فإن على الآخر أن يمارس حق القراءة كما يشاء ووفق قواعده. لذا يتأسف السيميائي الإيطالي أثناء رفضه لحالة الأفريقي الذي يفرض عليه أن يقرأ نفسه كما علموه أن يقرأ نفسه. أي بحسب المنظور الانتربولوجي الغربي. هذا الإنخراط المشروط عند أمبرتو إيكو للمتلقي في قراءة هذا النص المفتوح، على خلفية تحديد قواعد للتأويل، يمكن من خلالها أن نقبض على ما هو صحيح وما هو خاطئ في هذه المغامرة التأويلية. وهو الأمر الذي سينقلب رأسا مع كارل بوبر، داعيا إلى قراءة مفتوحة لنص مفتوح. أي بمعنى آخر حتى ذلك التأويل الخاطئ، يتمتع بنحو من السلطة المعرفية. ويساهم في صراع الحضارات. على اعتبار أن الصراع هنا حسب كارل بوبر يفيد معنى أكثر عمقا مما يفيده معنى صراع الحضارات بالمعنى السياسي والأيديولوجي. إنه ضرب من التدافع بين الثقافات والأفكار، هو قدر الحضارات نفسها ؛قدرها أن تبدأ مجرمة، ليس بالمعنى الجنائي، بل بالمعنى الذي يفيد فعل التجاوز والإختراق لليقينيات والمسلمات. إنها سيرورة نحو ضرب من الكمال، هو مستحيل التحقق في نظر بوبر. من هنا قدر الخطأ الملازم والمفترض أيضا للفكر. إن غاية هذا الصراع ذي الطبيعة النقدية هو لغاية دحض الخطأ. هنا يلزم التعويض بالحوار المفتوح، الذي قد يصل حد مواجهة الأفكار بلا هوادة وبلا انقطاع. دون أن يمس ذلك حامل هذه الأفكار. وهذا هو أهم ما يميز الاجتماع الغربي: كونه مجتمعا مفتوحا أكثر من غيره. بل واستثناءا في تاريخ البشرية.

* * *

أجل، هناك الكثير مما ينبغي الإنصات له في الدرس الغربي. فمن يجرأ على القول بغير هذا. وهذا لا يمنع من القول بأن هناك الكثير مما يجب على الغرب تعلمه منا. فإذا كان الغرب هو المرآة التي نرى من خلالها صورة مستقبلنا ـ وسنحسن الظن هنا بهذه الرؤية التاريخانية النمطية التي أودعها ماركس مقدمته للطبعة الانجليزية للرأسمال ـ فإننا نصلح أن نكون المرآة التي تمكنه من النظر إلى ذلك النسيان الذي مارسه في حق كبرى القيم التي شكلت حلم الأنوار ذاته. وتكشف له عن ما لم يفكر فيه من ممكنات المستقبل المفتوح. فإذا كنا نرى في الغرب مأزق تخلفنا، فعليه أن يرى فينا مأزق تطوره. هكذا نصبح نحن المرآة التي تكشف للغرب عن صور مستقبل ممكن، ربما نحن في وضعنا المتأخر، أقدر على تخيله، بل ونملك الجرأة للتعبير عنه. ذلك لأنه المستقبل الذي تستبعده تاريخانية هذا النمط الحضاري وحيد الإتجاه.

ومع ذلك لابد أن ندرك بأن الغرب لو سلمنا بأنه الكاشف النمطي عن صورة مستقبلنا، فما علينا إلا أن نحذر أكثر من أي وقت مضى. فالسؤال هو: كيف سنتجه إلى مستقبل انكشفت أزمته بوصفه نمطا بلا مستقبل. فليس ما بعد هذا المستقبل مستقبل. يتحول النص الماركسي من نص مغري للعالم الثالث إلى نص يثير الرهاب. فماذا لو أصبح العالم كله يملك القدراة الصناعية لـ G8. أين سنقذف بنفاياتنا؟!ومن سيكون المنتج ومن سيكون المستهلك.. ومن سيكون الشمال ومن سيكون الجنوب.. وأي كائن إنساني يعدنا به مستقبل، لعل العالم الثالث على تخلفه يشكل راحة بيولوجية لكائن بدأ يفقد استعداده للتكيف داخل كوكب ملغوم بالنفايات ومثلوم الغشاء. كيف تتحمل المفارقة الغربية أن نربح مصنعا ونخسر كوكبا. ومع ذلك تسمح الوقاحة بإعلان التحدي!؟

ربما كان بوبر متفائلا فوق العادة لما تحدث عن تحرر الفردانية الغربية وأفول السلط. ثمة ما لم يشأ بوبر التفكير فيه وفق نظريته في فعل الدحض المستدام. فهي المفارقة التي أحسن التقاطها أمبرتو إيكو بلياقة عالية. حيث وقع بوبر في فخ النسيان؛أي اللغة نفسها التي يتقنها هذا النمط الحضاري شديد الولع بممارسة النسيان. إنه يشير إلى نهاية السلط بعد أن قفزت الفردانية إلى الواجهة. ونحن هنا لسنا بصدد التفصيل في موضوعة كهذه، ولا ننوي قلب الطاولة في وجه أكذوبة كهذه، ربما في متناول بوبر تكذيبها بناءا على نهجه في التشكيك في قضايا نظير الرأى العام، والإعتراف بعدم إمكان قيام كيانات على الأوهام والأساطير. وذلك باعتبار الأمة في نظر بوبر، وفي ضوء الأسطورة المذكورة، هي صناعة للدولة. أين حرية الفرد وما هو مصداق رفع الوصاية عن كائن بدا في مثل هذا الحال، أسوأ وضعا من حيث كثافة السلط وسطوة الوصايات. المجتمع الذي استطاع اكتشاف اللغة التي تمكنه من تحويل الوضع الجنائزي لحضارة موت الانسان كما أعلن ماركوز ذات يوم، إلى كرنفال للقهقهة على الذقون. إنها الحضارة الأكثر قدرة على التهام كائناتها بنعومة ولياقة عالية. لكم كانت حفلات الوجبة البشرية داخل القدور العملاقة، ورقصات آكلي لحوم البشر، بدائية حقا. لأننا لا زلنا نحتج على تلك القدور اليومية الجاهزة دوما لتقديم وجبات بشرية جماعية دونما حاجة إلى حفلات موسمية.

إن الملف الآتي، الذي نقدمه للقارئ الكريم، هو محاولة لفتح نقاش جاد وصريح. ليس الغرض منه زف الذات بشططها على خلفية استئصال الآخر ونفيه. ولا جلدا للذات أمام دفق هذه الروائع التي ينتجها الآخر ونشاركه فيها ولو برسم الإستهلاك. إنها دعوة إنسانية، هي قدر لقيانا في محك الأسرة الدولية. وب هي مسؤولية الجميع لأجل الجميع. وهي الدعوة التي نجدها ماثلة في عمق ما ندين به لثقافتنا. لقد أنستنا فترات انتصاراتنا، هذا الجانب الأكثر إنسانية في تعاليمنا. وهو الجانب المهمل التفكير فيه حيث بتنا ندرك أنه أقوى ما كنا نملك. وبالتأكيد هو أقوى حتى من تلك الجيوش التي صنعت لنا أمبراطوريات لم تغب عنها الشمس. لكن كانت شمس الحقيقة والعدالة بدأت تغيب عن أكثر مناطقها غرقا في لعبة السيطرة. إننا لم نؤسس فلسفة للحوار. وهذا طبيعي لأننا وجدنا في أزمنة كانت القوة هي اللغة السائدة والبديلة عن الحوار. فرق كبير إذن، بين أن تكون في حوزتنا تعاليم تؤكد على ضرورة الحوار وتستحسنه، وبين أن نمتلك فلسفة للحوار. لقد قالها مرة الإمام علي بن أبي طالب ـ ع ـ: (اضرب بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب وامخض الرأي مخض السقاء).

فهلا امتلكنا الجرأة لمخض أساطيرنا الجديدة، مخض هذا السقاء، عسى أن يتولد منه ما يساهم في سلمنا المجتمعي وتطورنا الإجتماعي والحضاري. كيف ندخل مخاض البناء الحضاري وأذهاننا من الهشاشة بحيث لا تتحمل مخاضات الفكر ولا تتسع للنقذ والحواروحسن تدبير الإختلاف والتدافع بالتي هي أحسن. وماذا يضيرنا إن نحن تحاورنا جميعا حتى نضيف فكرا إلى فكر.. وعقلا إلى عقل.. فنختصر المسافات. قال لي بائع الصحف، وهو يحمل زفرة هذه الشعوب المعذبة: إنني أدعوا إلى أن يكون لنا يوم نسميه، يوم للتأمل!قلت له مازحا ـ جادا: إنك تدعونا إلى شيء كبير. فيوم للتأمل بالنسبة إلى شعب مؤلف من أربعين مليون نسمة، معناه أننا سنفكر أربعين مليون يوما، وهو ما يعادل ألف ومئة وعشرة قرن وقرن. وهذا تفكير طويل يمكن أن يشكل تهديدا يفوق امتلاك أسلحة نووية!ومن يدري أن مبادرة كهذه من شأنها أن ترى فيها القوى العظمى، تهديدا لمصالحها القومية.

يمكنني أن أجري مقايسة على ما يدعو إليه بائع الصحف. ولندعوا إلى يوم للحوار. وأيضا وبالموازات ندعوا إلى يوم فقط للحوار بين الثقافات؛ففي تقديري أن دعوة السيد خاتمي طالبت بما ليس في وسع عالم، لم يجرب ساعة للحوار، فبلأحرى سنة للحوار بين الحضارات!؟


 

ملحوظة:

قام الصحفي الفرنسي فرانسوا ماسبيرو بترجمة مقال أمبرطو إيكو المعنون بالحرب المقدسة لجريدة لوموند، إلا أن هذه الترجمة كانت انتقائية وتصرف فيها بالتقديم والتأخير والحذف دون الإشارة إلى ذلك، وقد بدا ذلك واضحا في الشق المتعلق بالمظاهر الثقافية الإسلامية كمسألة الحجاب في المدارس الغربية وتلك المتعلقة بالجناح اليميني الأوربي الذي أصبح المحتكر للقيم الغربية دون قيمة التسامح، لهذا قمنا بترجمة النص الأصلي كاملا من الإيطالية مراعين في ذلك السياق التاريخي الذي كتب فيه المقال، وإن اختيارنا لأمبرطو إيكو لم يكن اعتباطيا، رغم المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ المقال، فالكاتب كان ولا يزال من أبرز الأصوات الأكاديمية الرصينة الداعية للحوار، وبالإضافة إلى كونه مؤسسا نظريا للحوار من خلال أبحاثه ومقالاته وعمليا من خلال عضويته في الأكاديمية العالمية للثقافات. (المترجم)

 

الحرب المقدسة: الأهواء والدوافع*

 

بقلم: أمبرتو إيكو**

ترجمه عن الإيطالية: هشام الميلودي***

 

قد يكون أمرا ثانونيا أن يتفوه بعضهم هذه الأيام بكلمات غير مناسبة عن تفوق الثقافة الغربية، أو أن يقول أشياء يعتقد صحتها في وقت غير مناسب، وقد يكون الأمر ثانويا أيضا، أن يعتقد المرء بأشياء خاطئة لأن العالم مليء بأشخاص يعتقدون أمورا غير صحيحة وغير مناسبة، مثل شخص يدعى بن لادن ربما أغنى من رئيس وزرائنا، وتعلم في أحسن الجامعات، لكن ما ليس ثانويا، ويجب أن يقلق الكل، سياسيين، زعماء دينين، مربين، هو بعض العبارات أو بالأحرى كل المقالات الانفعالية والتي أعطيت لها بطريقة ما الشرعية لتصبح مادة لنقاش العام، وتستولي على عقول الشباب، وربما تقودهم لاستنتاجات متسرعة تحت تأثير لحظة انفعال.

أنشغل بالشباب لأن ما في رؤوس الشيوخ لا يتغير أبدا، كل الحروب الدينية التي أدمت العالم لقرون، كانت نتيجة استجابة لأهواء ومقابلات تبسيطية، مثل نحن والآخرون، أخيار وأشرار، بيض وسود.

إذا برهنت الثقافة الغربية على خصوبتها (ليس من عهد الأنوار إلى اليوم فقط، بل قبل ذلك، أي منذ أن دعى الفرنسي روجي بيكون إلى تعلم اللغات، لأن هناك لدى غير المؤمنين ما يجب تعلمه)، فلأنها اجتهدت في فك التبسيطات المضرةعلى ضوء البحث وروح النقد. طبيعي أنها لم تفعل ذلك دائما لأن من مكونات تاريخ ثقافتا الغربية يوجد ايضا هتلر الذي أحرق الكتب ومنع الفن "الرديء"، وأحرق المنتمين إلى أعراق متدنية، أو الفاشية التي علمتني في المدرسة أن أردد "ليلعن الرب الإنجليز" لأنهم شعب "الخمس وجبات"، وب فإنهم نهمين واقل شأنا من الإسبرطيين الإيطاليين المعتدلين. لكن ما يجب مناقشته مع شبابنا وبكل الألوان هي المضاهر الاجابية للثقافاتنا إذا لم نشأ أن تنهار أبراج جديدة في الأيام التي سيعيشونها بعدنا.

هناك عامل للخلط، وهو عدم القدرة على استيعاب الفرقبين الهوية والأصول (الجذور).

هل فهم وإدراك الجذور المختلفة يعطينا الحق في الحكم أيهما خير أو شرير؟ فيما يخص الجذور، إذا سئلت هل الأفضل قضاء سنوات التقاعد في بلدة مونفراتو Monferrato في الحديقة الوطنية المهيبة بأبروزوه Abruzzo أو بتلال سيينا Siena الجميلة، سأختار مونفراتو، لكن هذا الاختيار لا يحمل حكما بأن المناطق الأخرى بإيطاليا هي أقل شأنا، لهذا، إذا كان قصد رئيس الوزراء بكلماته (التي تفوه بها للغربيين لكن تم بترها للعرب) أنه يفضل العيش بأركور Arcor بدلا من كابول، وأن يعالج في مستشفى بميلانو بدلا من آخر ببغداد، سأكون مستعدا لمشاطرته الرأي (باستثناء آركور). هذا وإن قيل لي أن المستشفى الأحسن تجهيزا في العالم يوجد ببغداد، ففي ميلانو سأشعر أنني بمنزلي، وهذا له تأثير أيضا على قدرتي في الشفاء.

إن الجذور تحمل معنى أوسع من الجهوية أو الوطنية، فأنا أفضل العيش بليموج Limoges على أن أعيش بموسكو، لكن كيف ذلك؟ أليست موسكو مدينة جميلة؟ أكيد، لكن بليموج أستطيع فهم اللغة.

إجمالا فكل واحد منا يتقمص هوية الثقافة التي نشأ فيها، أما حالات الانتقال الجذرى والتي توجد على أي حال تضل أقلية، لورانس العرب كان يلبس كالعرب، لكن في الأخير عاد إلى منزله وبلده.

لنعرج الآن على صراع الحضارات، لأن هذا هو صلب الموضوع، فقد كان الغرب دائما وبفعل التوسع الاقتصادي تثير فضوله الحضارات الأخرى، والتي كثيرا ما أبادها باحتقار: اليونان قاموا بإحراق البرابرة، وهذا لأنهم يجلجون (اويبربرون) ولا ينطقون لغتهم، إذن كأنهم لا يتكلمون إطلاقا، لكن بالنسبة لليونان الأكثر نضجا كالرواقيون (ربما لأن بعض أصولهم فينيقية) قد أدركوا بأن البرابرة يستخدمون كلمات مختلفة عن الإغريقية، لكن بالرجوع إلى أفكارهم الخاصة، حاول ماركوبولو أن يصف باحترام كبير التقاليد والعادات الصينية، كما حاول أساتذة اللاهوت المسيحيون في العصر الوسيط ترجمة نصوص الفلسفة والطب وعلوم التنجيم العربية، وشدد رجال النهضة على استعادة الحكم الشرقية منذ الكلدانيين إلى المصريين، حاول مونتيسكيو فهم كيف ينظر الفارسي إلى الفرنسيين ووجه الأنتربولوجيون الحديثون دراساتهم الأولى إلى العلاقات بين المسلمين الذين ذهبوا إلى بورور من أجل تغيير ديانة ساكناتها إذا أمكن، لكن كذلك لفهم طريقة تفكيرهم وعيشهم، وربما كانوا يستحضرون في ذلك المبشرون الأوائل الذين لم ينجحوا قبل قرون في فهم الحضارة الهندية الأمريكية، فشجعوا بذلك على إبادتها. تكلمت عن الأنتروبولوجيين ولن أقول شيئا جديدا إذا ذكرت أنه منذ القرن 19 كان تطور الأنتروبولوجيا الثقافية كمحاولة لمعالجة ندم الغرب اتجاه ما اقترفه في حق الآخرين، الذين سماهم بالمتوحشين، ومجتمعات بدون تاريخ والشعوب البدائية، فلم يكن الغرب لطيفا مع المتوحشين: لقد قام "بتعريتهم" وحاول تنصيرهم، استغلهم وحول الكثير منهم إلى عبيد، ومن بين أمور أخرى بمساعدة العرب، لأن سفن العبيد قبل أن تفرغ حمولتها بنيوأوليونNeworleons من طرف نبلاء ذوي أصول فرنسية فإنها تحمل وتشحن بالشواطئ الأفريقية من طرف مهربين مسلمين حاولت الأنتروبولوجيا الثقافية (والتي ربما ازدهرت بفضل التوسع الاستعماري) معالجة وإصلاح أخطاء وخطايا الاستعمار من خلال إظهار الثقافات الأخرى كأنها مجرد ثقافات لها اعتقاداتها، عاداتها وطقوسها، عقلانية في سياق تطورها ومنظمة إلى أقصى حد، وجدير بالذكر أنها منظمة حسب منطقها الداخلي. إن مهمة الأنتروبولوجي الثقافي هي البرهنة على وجود عقلانيات مختلفة عن نظيراتها الغربية، ويجب أخذها في الاعتبار لا احتقارها وقمعها, هذا لا يعني أنه عندما يشرحون منطق الآخرين يقررون العيش مثلهم، على العكس وباستثناء حالات قليلة فإنهم بعد إنهاء السنوات العديدة بالعمل وراء البحار يعودون لقضاء شيخوخة هادئة في دوفنشير أو ببكارديا، لكن قراءة كتبهم قد تجعل من الأنتروبولوجيا الثقافية وكأنها تتخذ موقفا نسبيا وتؤكد على تساوي الثقافات، الأمر لايبدو لي كذلك، في أحسن الأحوال، الأنتروبولوجي يخبرنا بأنه إذا أردنا من الآخرين البقاء حيث هم يجب احترام طريقة عيشهم.

إن الدرس الحقيقي الذي يجب استخلاصه من الأنتروبولوجيا الثقافية هو أنه عندما نقول إن ثقافة ما هي أفضل من أخرى، يجب علينا تحديد المعايير Parametres. أن نقول شيئا عن ثقافة ما هو بمثابة تحديد للمعايير التي تقوم عليها هذه الثقافة. من الممكن وصف كل ثقافة بشكل قد يبدو موضوعي: هؤلاء الأشخاص يتصرفون على هذا النحو، يعتقدون في الأرواح أو في إله واحد يحوي كل الطبيعة، يتوحدون في قبائل أبوية حسب قوانين معينة، يؤمنون بأن ثقب الأنوف بالخاتم هو أمر جيد (يمكن أن تفيد في وصف الثقافة الشبابية في الغرب) يقولون بقذارة لحم الخنزير، يربون الكلاب لوضعها في القدر أثناء الحفلات أو كما يقول الأمريكيون عن الفرنسيين أنهم يأكلون الضفادع. طبيعي أن يدرك الأنتروبولوجي أن الموضوعية تعيد النظر في العديد من العوامل. السنة الماضية كنت بأحد بلدات  دغون@(1)#، فسألت صبيا عما إذا كان مسلما؟ فأجابني بالفرنسية "لا، فأنا طبيعي". ثق بي إن طبيعيا لا يستطيع أن يعرف نفسه بااطبيعي إلا إذا كان حاصلا على شهادة من مدرسة الدراسات العليا ببارسس على الأقل، ومع دلك فهذا الصبي يتكلم عن ثقافته كما سمعها من الأنتروبولوجيون. وقد حكى لي أنتروبولوجيون أفارقة أنه عندما يأتي زملاؤهم الأوربيون إلى دغون يرددون لهم ما قاله أنتروبولوجيون منذ سنوات. ومع هذا، فإن تخفيف حدة سوء التفاهم مع ثقافة ما وقد يبدو "محايدا"، لكن معايير الحكم شيء آخر، فهي تتوقف على جذورنا، اختيارنا، عاداتنا، على أهوائنا وعلى منظومة قيمنا. لنأخذ مثالا على ذلك، ألا نعتقد نحن الغربيون بأن إطالة أمد الحياة من أربعين
الى ثمانين سنة هو قيمة؟ شخصيا أقول بذلك، لكن بالنسبة للكثير من الزهاد المتصوفة فإن ما بين شره عاش ثمانون سنة والقديس سان لويجي فان الثاني هو الذي حظي بحياة مليئة، لكن لنقبل بأن إطالة أمد الحياة هو قيمة، فإذا كان الأمر كذلك، يمكن القول بأن الطب والعلوم الغربية هي حتما أكثر تفوقا من العديد من المعارف والتطبيقات العلمية. ألا نعتقد بأن التطور التكنولوجي والتوسع التجاري، وسرعة وسائل النقل هي قيم؟ العديد يعتقد ذلك، ولهم الحق في الحكم بتفوق حضارتنا التكنولوجية، لكن داخل هذا العالم الغربي هناك من يرى أن القيمة الأولى في الحياة هي العيش في تناغم وفي بيئة سليمة، وهم مستعدون للتخلي عن الطائرات والسيارات والثلاجات وتأبط السلل والتنقل من قرية إلى أخرى على القدام لعدم الحصول على ثقب في الأزون، ولهذا ترون بأن الحكم على تفوق ثقافة ما على أخرى لا يكفي بوصفها (كما يفعل الأنتروبولوجي) ولكن يجب الرجوع إلى منظومة القيم التي يتشبثون بها ولا يستطيعون التخلي عنها، فقط على هذا النحو يمكننا القول بأن ثقافتنا بالنسبة لنا هي الأفضل.

لقد شاهدنا هذه الأيام كيف أن ثقافات مختلفة تدافع عن نفسها من خلال معاييرها، بالأمس فقط قرأت رسالة بعثت إلى أحد اليوميات الكبرى يتساءل كاتبها بتهكم لماذا تعطى جوائز نوبل للغربيين ولاتعطى للمشارقة وبغض النظر عن ان الامر يتعلق بجاهل لا يعلم بعدد الجوائز التي منحت لاصحاب الجلدة السوداء في الآداب وبان جائزة نوبل في الفزياء لسنة 1979 منحت لباكستاني يدعى عبد السلام. فان التأكيد على أن الاعترافات التي تمنح للعلوم تعطى لمن يشتغل في مجال العلوم الغربية هو تحصيل حاصل، لأنه لا أحد شكك في أن العلوم والتكنولوجيا الغربية هي في الصدارة، صدارة ماذا؟ صدارة العلوم والتكنولوجيا، إلى أي حد يعتبر معيار التقدم التكنولوجي مطلق؟ باكستان تملك القنبلة الذرية وإيطاليا لا، إذن هل نحن حضارة متدنية؟ هل الأفضل العيش بإسلام أباد بدلا من آركور؟ المدافعين عن الحوار يطالبوننا باحترام العالم الإسلامي مذكرين برجال كابن سينا (والذي ولد ببخارى غير بعيد من أفغانستان) وابن رشد ـ وإنه لعيب أن يقتصر الحديث دائما على هؤلاء الإثنين كما لو كانوا هم الوحيدين، ولا يتحدث عن الكندي، Avenpace, Avicetra، ابن طفيل أو هذا المؤرخ العظيم للقرن 14 ابن خلدون، الذي يعتبره الغرب مؤسس العلوم الاجتماعية ـ يذكروننا بأن عرب إسبانيا درسوا الجغرافيا والفلك والرياضيات والطب، في حين كان العالم المسيحي متأخرا بكثير. كل هذه الأشياء صحيحة، لكنها ليست بحجج، لأن التفكير بهذه الطريقة ستجعلنا نقول بأن فينشي مقاطعة نبيلة من مقاطعات توسكان، هي أفضل من نيويورك لأنه بفينشي ولد ليوناردو حينما كان أربعة هنود بمانهاتن جالسين ينتظرون مدة خمسمائة عام الهولنديين ليبيعونهم كل شبه الجزيرة بأربعة وعشرون دولارا، وبدون مبالغة، فمركز العالم اليوم هو نيويورك وليست فينشي.

إن الأمور تتغير، فلا يهم التذكير بأن عرب إسبانيا كانوا متسامحين مع المسيحيين واليهود، عندما كنا نحن نحشرهم في الجيتوهات، أو بأن صلاح الدين عندما فتح القدس كان أكثر رحمة بالمسيحيين منهم بالمسلمين عندما فتحوها. كل هذه الأشياء صحيحة، لكن في العالم الإسلامي اليوم، توجد أنظمة أصولية ودينية لا يتسامح معها الغرب، فابن لادن لم يكن رحيما بنويورك، كانت الباطريانا ممرا لحضارات كبرى، لكن طالبان اليوم تقصف بالمدافع تماثل بوذا، بالمقابل قام الفرنسيون بارتكاب مذبحة ليلة سان بارطوليميو، لكن هذا لايسمح لأحد بالقول إن الفرنسيين اليوم هم البرابرة، لن نقوم بإزعاج التاريخ لأنه سلاح ذو حدين، فالأتراك كانوا يصلبون (وهو أمر سيء) لكن البيزنطيون الأورثوذكس اقتلعوا أعين الآباء الخطيرين، والكاثوليكيين قاموا بإحراق جورداتو برونو لكن سفن صاحبة الجلالة بريطانيا، أحرقت بغباء لمستعمرات الإسبانية في الكارايبي.

يعتبر كل من بن لادن وصدام حسين أعداء للحضارة الغربية، لكن داخل هذه الحضارة، لدينا سادة يسمون بهتلر أو ستالين (كان ستالين شريرا إلى درجة أنهم كانوا يعرفونه كشرقي، وإن كان قد درس في الجامعات وقرأ لماركس). لكن مشكل المعايير لا يتم وضعها على مفاتيح شخصيات التاريخ، ولا حتى المعاصرة. هناك الآن أشياء محمودة في الثقافات الغربية (الحرية والتعددية.. وعدة قيم لا نجرؤ نحن على مناقشتها)، وقد لوحظ منذ زمن بعيد كيف أن شخصا واحدا يستخدم معايير مختلفة ومتناقضة أحيانا حول مواضيع متباينة، مثلا يشاع بأن إطالة أمد الحياة هو أمر جيد، وأن التلوث البيئي سيء، لكن بالمقابل نقبل بأنه إذا اردنا الحصول على مختبرات كبرى، والتي تبحث في إطالة أمد الحياة، يجب أن نتوفر على نظام للاتصالات وآخر لتزويد الطاقة، التي بدورها قد تسبب التلوث.

لقد برهنت الثقافة الغريبة على قدرتها على مواجهة تناقضاتها، قد لا تستطيع معالجتها، لكن تعترف بوجودها وتعرفها. وفي الأخير، فالنقاش حول مساندي العولمة ومعارضيها يوجد هنا، باستثناء أصحاب البذل السوداء@(2)# الذين يحطمون لا يناقشون: كيف يمكن الدفاع عن نسبة من العولمة الإيجابية، واجتناب أخطار وظلم العولمة الفائرة؟ كيف يمكن إطالة أعمار الملايين من الأفارقة الذين يموتون بالأيدز (وفي نفس الوقت نطيل أعمارنا)، بدون قبول اقتصاد عالمي يقتل جوعا مرضى الأيدز، ويتخمنا بالمأكولات الملوثة@(3)#. وهذا النقد للمعايير والذي يتابعه الغرب ويشجعه، هو الذي يجعلنا ندرك إلى أي حد أن مسألة المعايير هي دقيقة. هل من العدل والتحضر حماية السر البنكي؟ الكثير يقول بذلك، لكن مادا لو سمح هذا السر للإرهابيين بامتلاك أموال بمدينة لندن؟ إذن هل الدفاع عن مبدأ السرية هو قيمة إيجابية أم مشكوك فيها؟ إننا نقوم باستحضار معاييرنا في الحديث دائما، فالعالم الغربي يقوم بذلك إلى الحد الذي يسمح فيه لمواطنيه برفض القيمة الإيجابية لمعيار التقدم التكنولوجي، وأن يصبحوا بوذيون أو يعيشون في مقاطعات لا تستعمل فيها العجلات، حتى لعربات الخيول، يجب على المدرسة أن تعلم تحليل ومناقشة المعايير التي نعتمد عليها في أحكامنا الأهوائية.

إن المشكل الذي لم تستطع الأنتروبولوجيا الثقافية حله، هو ما يجب عمله مع فرد ينتمي إلى ثقافة تعلمنا احترامها، وأتى للعيش بيننا، في الحقيقة إن أغلب ردود الأفعال العنصرية في الغرب ليست ضد الإحيائيين الذين يعيشون بمالي (يكفي أن يظلوا بوطنهم: تقول الرابطة)@(4)#، لكن عندما يأتي الإحيائيون للعيش بيننا، بغض النظر عن هولاء الإحيائيين أو الذي يصلون اتجاه مكة، ماذا لو أرادوا لباس التشادور أو أن يستروا فتياتهم أو رفضوا نقل الدم لأطفالهم المرضى ( كما حدث مع سبع من غربيين)، أو إذا جاء آخر آكل لحم البشر من غينيا الجديدة (لنفترض وجودهم) وقام بقلي شاب كل يوم أحد على الأقل؟ أما عن آكل لحوم البشر، فإننا جميعا متفقون، سيوضع في السجن (خاصة أنهم ليسوا بالملايير). أما عن الفتيات اللواتي يذهبن للمدرسة بالتشادور، فأنا لا أفهم لماذا تقام هذه التراجيديا إذا كان يعجبهن ذلك؟ إن النقاش عن اللباس مفتوح، لكن ماذا تفعل أمام مطالبة النساء المسلمات بتصويرهن محجبات في جوازات السفر؟ لدينا قوانين تساوي بين الجميع، وتحدد شروط التعريف للمواطنين، لا أظن أنه بالإمكان تحريفها. عندما أزور مسجدا أقوم بنزع حذائي لأنني أحترم قوانين وعادات البلد المضيف، إذن كيف نقبل بالصور المحجبة؟ أظن أنه يمكن التفاوض في مثل هذه الحالات، في الحقيقة إن صور جوازات السفر غير أمينة وتستخدم فيما تستخدم له، هناك دراسات عن البطائق المغناطيسية التي ستحل محل البصمات، والذي يريد مثل هذه الخدمة والمعاملة التفضيلية عليه دفع ثمن أعلى، وإذا اعتدن هؤلاء الفتيات على ارتياد مدارسهن، من الممكن أن يتعرفن على حقوق لم يتوقعن وجودها، كما حدث مع غربيين يذهبون إلى المدارس القرآنية، وقرروا بحرية اعتناق الإسلام. إن التفكير في معاييرنا يعني أننا قادرون وستعدون للتسامح مع كل شيء، لكن هناك أشياء لا يمكن التسامح بشأنها.

إن الغرب قد خصص أموالا وطاقات لدراسة عادات الآخرين، لكن لا أحد سمح لهؤلاء الآخرين بدراسة عادات الغرب، باستثناء المدارس التي توجد وراء البحار وتحت سطوة البيض، أو أن يسمحوا للأغنياء بالدراسة في أوكسفورد أو باريس، وأن يروا ما الذي سيحدث، يدرسون بالغرب ثم يعودون إلى بلادهم لتنظيم حركات أصولية، لأنهم يشعرون بارتباط مع مواطنيهم، لا يمكن للدراسة التي قاموا بها أن تمنحهم إياه (إن القصة قديمة، فاستقلال الهند كان تحت ضربات المثقفين الذين درسوا مع الإنجليز)، قدماء الرحالة الصينين والعرب درسوا بعض الأشياء في البلاد التي تغرب فيها الشمس، لكن ما نعرفه نحن عنهم قليل جدا. كم هو عدد الأنتروبولوجيين الأفارقة أو الصينيين الذين أتوا لدراسة الغرب ووصفه ليس فقط لمواطنيهم، بل لنا أيضا؟ أعني أن يحكوا لنا كيف ينظرون إلينا؟ منذ سنوات، هناك منظمة عالمية تسمى "عبر الثقافات" « Tranculture »، والتي تصارع من أجل "أنتروبولوجيا بديلة"، وقد شجعت دراسات إفريقية، قام بها أناس لم يعرفوا الغرب من قبل، وقاموا بوصف الأقاليم الفرنسية والمجتمع البولوني (نسبة إلى مدينة بولونيا الإيطالية)، ويمكن أن أؤكد لكم أنه عندما نقرأ نحن الأوروبيون أن اثنين من الملاحظات الأكثر إثارة تتعلقان بالأوروبيين الذين يمشون برفقة كلابهم، ويستلقون عراة في الشواطئ، وهكذا عندما تبادل الطرفان الرؤى بينهما، نشأ عن ذلك مناقشات في غاية الأهمية، في هذه الأثناء، ستجري ندوة ببروكسيل في نوفمبر يحضرها ثلاث صينيين، فيلسوف، أنتروبولوجي وفنان، انتهوا لتوهم من سفر طويل، تتبعوا فيه طريق ماركو بولو، لا أدري ما يمكن أن تشرحه ملاحظاتهم للصينين، لكن أعلم جيدا ما يمكن أن يشرحه الصينين لنا، تخيلوا لو أن الأصوليون المسلمين أتوا لدراسة الأصولية المسيحية؟ (هذه المرة لن يتعلق الأمر بالكاثوليك، لكن بالبروتيستان الذين يحاولون محو أي أثر لداروين بالمدارس)، حسنا، إنني أعتقد بأن دراسة الأصولية الأخرى تساعد على فهم أفضل لطبيعتها الذاتية، ليأتوا لدراسة مفهومنا عن الحرب المقدسة (بإمكاني نصحهم بكثير مما كتب عن الموضوع، حتى الكتابات الحديتة منها)، ومن المحتمل أن ينظروا إلى الحرب المقدسة لديهم بطريقة أكثر انتقادا، أما نحن الغربيين، فإننا في العمق لا زلنا حبيسي طريقة التفكير على شاكلة الفكر الوحشي la pensé Sauvage.

إن أكثر القيم التي يتكلم عنها الغرب اليوم هي القبول بالاختلاف، نظريا كلنا متفقون على ذلك، ومن ناحية السلوك العام، فإن القول بأن شخصا ما شاذ جنسيا أمر مقبول، لكن بعد ذلك، يقال بسخرية في المنزل بأنه بارد، كيف تتم عملية تلقين قبول الاختلاف؟ إن الأكاديمية الكونية للثقافات قد أنشأت موقعا على الأنترنت، توجد به مواضيع مختلفة (الألوان، الديانات، العادات والتقاليد... إلخ) للمهتمين بالتربية لكل بلد، والذين يريدون تعليم أطفالهم تقبل من هم مختلفون عنا، وقبل كل شيء عدم الكذب على الأطفال، بالقول أننا جميعا متساوون، والأطفال يلاحظون جيدا أن بعض الجيران أو الزملاء بالمدرسة ليسوا مثلهم، ولون بشرتهم مختلف، وعيونهم مقطعة كاللوز، وشعرهم أكثر غزارة أو أكثر نعومة، "يأكلون أشياء غريبية.... لا يكفي أن نقول لهم بأننا جميعا "أبناء الرب"، لأن الحيوانات كذلك "أبناء الرب"، ومع ذلك، لم ير الأطفال يوما الماعز جالسا على كرسي يعلمهم قواعد الإملاء. لهذا يجب علينا أن نقول للصغار بأن بنو الإنسان مختلفون كثيرا فيما بينهم، وأن نشرح لهم بأي شيء هم مختلفون، لنبين بعد ذلك أن هذا الاختلاف يمكن أن يكون مصدرا للغنى.

إن الأستاذ بمدينة إيطالية عليه أن يساعد أولاده الإيطاليين على فهم السبب الذي يجعل الأطفال الآخرين يدعون إلاها مختلفا، أو يعزفون موسيقى لا تشبه الروك، من الطبيعي أن يكون من واجب مربي صيني أن يقوم بالشيء نفسه مع الأطفال الصينيين الذين يعيشون قرب جماعة مسيحية، وتقتضي الخطوة ة البرهنة على أن هناك شيئا مشتركا بين موسيقانا وموسيقاهم، وبأن إلاههم يأمر بأشياء جيدة أيضا، اعتراض محتمل:

سنقوم نحن بذلك في فلورانسا، لكن هل سيقومون بنفس الشيء في كابل؟ حسنا، وإن كان هذا الاعتراض يتعلق بالقيم الغربية، إننا حضارة متعددة لأننا نقبل بحقوق المساجد ولا يمكننا التنكر لها فقط لأن المبشرين المسيحيين يلقى بهم في السجون بكابول، وإذا فعلنا ذلك، سنصبح نحن أيضا طالبان. أكيد أن معيار القبول بالاختلاف الأكثر أو الأقل إثارة للنقاش، فنحن نقول بنضج ثقافتنا لأنها تتسامح وتقبل الاختلاف، والبرابرة هم المنتمون لهذه الثقافة ولا يتسامحون معها، وإلا سيكون الأمر كما لو قررنا الآتي: إذا وجد في بقعة من العالم آكلي لحوم البشر، فإننا سنذهب لأكلهم أيضا، هذا ما تعلمناه، إننا نحلم بيوم توجد فيه لديهم الكنائس وألا يقذف بوذا، لأننا نقبل بوجود المساجد، هذا إذا كنا نؤمن حقا بأحقية وخيرية معاييرنا.

كثير هو الخلط تحت السماء، في هذه الأيام تحدث أشياء مثيرة للفضول، يبدو أن الدفاع عن القيم الغربية قد أصبح راية بيد اليمين، في حين أن اليسار وكالعادة أصبح في الصف الإسلامي، والآن فضلا عن وجود يمين وكاثوليكية أصولية عالم ثالثية، لا يتم الانتباه إلى ظاهرة تاريخية تنمو تحت أنظار الكل.

إن الدفاع عن العلوم والتقدم التكنولوجي والثقافة الغربية المعاصرة، كانت دائما خاصية تلازم الجناح اللائكي والتقدمي بالغرب، بل إن الأنظمة الشيوعية كانت تنادي دائما بايديولوجية التقدم التكنولوجي والعلمي.

افتتح مانفستو 1848 بثناء غير مبالي بالتوسع البرجوازي، لم يقل ماركس بعكس عجلة الإنتاج والمرور إلى النمط الأسيوي، بل أكد فقط على أن بعض هذ القيم والنجاحات يجب أن تلهم البروليتاريا، وهكذا كان دائما الفكر الثوري (في معناه النبيل للكلمة) بداية من رفض الثورة الفرنسية والتي عارضت الأيديولوجية اللائكية للتقدم، مؤكدة على ضرورة الرجوع لقيم التقاليد. فقط بعض جماعات النازية الجديدة يقولون بفكرة أسطورية عن الغرب، وقد يكونوا مستعدين لذبح كل المسلمين بشتونهك. إن أكثر مفكري التقاليد الغربية تعصبا غالبا ما يعودون فقط ليس لعادات وأساطير الشعوب البدائية أو إلى الدرس البوذي، بل أيضا إلى الإسلام كمصدر معاصر لروحانية بديلة، ويذكرورنا دائما بأننا لسنا الأفضل، بل ربما أكثر بعدا عن أيديولوجية التقدم، وأن الحقيقة يجب البحث عنها بين رموز الصوفية أو بين رقصات الدراويش، لست أنا من يقول بذلك، بل قالوه هم دائما، يكفي الذهاب إلى المكتبة والبحث في الأروقة المناسبة، يمكن القول أن هناك انشقاقات بدأت في الظهور لدى اليمين، أو أنها علامة على أنه في أوقات الضياع (والأكيد أننا نعيش إحداها) لا أحد يعرف مع أي فريق هو، لكن يبدو أنه في هذه الأوقات بالذات يجب استخدام سلاح التحليل والنقد في وجه خرافاتنا وخرافاتهم، أتمنى أن تناقش هذه الأشياء في المدارس، وليس فقط في مؤتمرات للصحف.

 

ــــــــــــــــ

الهامش:

* نشر هذا المقال في صحيفة la republica الإيطالية الصادرة في 5 أكتوبر 2001

**المفكر وعالم اللسانيات الإيطالي الكبير، صاحب الرواية الشهيرة (الوردة)، وكتاب: القارئ في الحكاية، والعمل المفتوح…

*** باحث من المغرب

أحد شعوب مالي

جماعة من المناهضين للعولمة ظهروا لأول مرة في جينوفا2001 أثناء اجتماع رؤساء الدول الصناعية الثمان. وقد تميزوا بعنفهم الشديد وتكسير الواجهات. حت أن اعضاء شعب سياتل اتهموا الدولة بتسخيرهم لتشويه المظاهرات السلمية التي نظموها.

يقصد الكاتب المأكوت المعدلة وراثيا التي تثار شكوك حول ضررها الصحي

حزب رابطة الشمال الي يقوده أمبرطو جوسي ويدعو لاستقلال مقاطعة جادانيا الشمالية عن ايطاليا وطرد المهاجرين من التراب الايطالي.


 

كارل بوبر وصدام الثقافات

العربي عاكف

(باحث من المغرب)

تـقـديـم:

لا يعني صدام الثقافات بالضرورة عند كارل بوبر عنف الصراع الدامي والحرب المدمرة فقط، مادام المأمول هو إخضاع العنف لمراقبة العقل. إنه يعني كذلك تلك الصدمة الناتجة عما يسميه بـ "توتر" أو "قلق الحضارة". وهو معنى قريب من المعنى الذي عالجه فرويد في "قلق في الحضارة". إنها صدمة يحدثها صدام الأفكار والآراء المتناقضة والمتعارضة من خلال المواجهة الفكرية التي يلعب فيها النقد المتبادل بين الأفراد والجماعات والثقافات دور المحرك. فالنقد يغذي الشك حول الحقائق الأكثر رسوخا. ويزعزع اليقينيات والمعتقدات الأكثر قداسة. ويحث على الفضول الفكري، سواء في الميدان العلمي باختبار النظريات وانتقادها كي تعوض بنظريات أخرى ذات محتوى إخباري اكثر غنى. أو في الميدان الاجتماعي بعدم الاطمئنان للمؤسسات القائمة، إنه يحافظ على حالة الغليان الفكري واليقظة الديموقراطية من أجل حقيقة موضوعية في الميدان العلمي، ومن أجل مقاربة معقولة للمشاكل الاجتماعية. وإن كان بوبر يشيد بالثقافة الغربية، فليس ذلك بسبب مضمونها، فهو لا يتخذها إطارا مرجعيا، ولكن لأنها استطاعت أن تمارس النقد مقتفية آثار التقليد النقدي للأساطير والتصورات والحقائق، الذي أرسى دعائمه بعض فلاسفة اليونان وخاصة سقراط. وفي هذا الإطار، ينتقد بوبر بعض المفاهيم والتصورات المرتبطة بصدام الثقافات، والتي أصبحت عقائد وإيديولوجيات مثل: مبدأ الدولة الوطنية، ومبدأ تقرير المصير، التي تقوم على أسس غير صحيحة، ولا يمكن البرهنة عليها أو تبريرها، كالجماعة اللغوية أو العرقية أو التراب الوطني. ويدافع في مقابل ذلك عن الفرد والفردانية كحرية ومسؤولية تجاه الذات والغير، وتبنى موقف النقد الذاتي وتقبل نقد الغير. ويعبر عن إيمانه بمبدأ وحدة الإنسانية ضد المجاميع المصطنعة كالدول والمجتمعات، ويدعو إلى إغناء متبادل يمكنه أن يولد من مواجهة الثقافات. لأن النقاش والنقد يمكنهما أن يساهما في انبثاق عالم جديد يؤمن بكونية العقل الإنساني، ويشجعا فردانية غيرية كونية في قلب مجتمعات مفتوحة لا تذيب الفرد فيها، ولا تجرد الفردانية من كل معنى في كونية مجردة.

1 ـ العوالم الثقافية:

يندرج اهتمام كارل بوبر بصدام الثقافات في إطار اهتمامه بمشكل نوعية وأصل الحضارة الغربية، والذي يمكن صياغته ك: ما هو أصل هذه الحضارة؟

وتتلخص إجابته على السؤال، في كون الحضارة الغربية انبثقت عن الحضارة الإغريقية. والحضارة الإغريقية التي يعتبرها بوبر ظاهرة لا مثيل لها "ولدت من صدام الثقافات، ثقافات البحر الأبيض المتوسط الشرقي"@(1)#، بحيث أن "كل شيء بدأ في المستعمرات اليونانية لآسيا الصغرى، ولجنوب إيطاليا وسيسيليا، يعني أماكن في الشرق تواجهت في المستعمرات اليونانية مع الحضارات الشرقية الكبرى، ودخلت معها في صراع، أو في الغرب حيث التقوا بالسيسيليين والقرطاجيين والإيطاليين مثل التوسكان"@(2)#، وقد شكلت هذه الأماكن تقاطع صراع ثقافات مختلفة، ومن وجهة نظر بوبر "كان هذا أول صدام ذا دلالة بين الثقافات الغربية والشرقية"@(3)#.

ويحيل صدام الثقافات عند بوبر "إلى فرضية، تخمين تاريخي: فمجابهة من هذا النوع لايجب بالضرورة أن تؤدي دائما إلى صراعات دامية ولا إلى حروب مدمرة"@(4)#. فهناك أمل في إمكانية السيطرة على العنف أو على الأقل الحد منه. وقد بينت فترات طويلة من تاريخ الحضارات الغربية والشرقية أن مثل هذا الأمل ليس وهما، و"أنه من الممكن الحد من العنف مثلما يمكن إخضاعه لمراقبة العقل"@(5)#. فالصدام هنا يعني خلخلة وزعزعة اليقينيات والمعتقدات التي يحدثها صدام الأفكار والآراء المتناقضة والمتعارضة، يوجه لوجهة النظر التي يتم الانطلاق منها، وهكذا لا توجد مجتمعات إنسانية بدون صراع. لهذا من واجبنا المساهمة في حل الصراعات التي تتعلق بالقيم والمبادئ. ويرى بوبر في الصراع لحمة الحياة الاجتماعية، وفي العنف التهديد الذي يكدر باستمرار سياقها. ويعكس بوبر الصيغة المشهورة لكوزويتز التي تقول: " إن الحرب لن تكون إلا استمرارا للسياسة حسب وسائل أخرى"@(6)#، لهذا يشكل النقاش والنقد مخرجا معقولا لتعايش الأفراد والجماعات والمجتمعات، فهو يقول عن نفسه: "إنني عقلاني، وأسمي عقلانيا ذلك الذي يرغب في فهم العالم والتعلم بتبادل الحجج مع الغير"@(7)#، ولا يدافع بوبر عن الفكرة الخاطئة التي مفادها أن الناس هم كلية أو إلى حد ما عقلانيون، بل يقصد "بتبادل الحجج مع الغير" نقده وتقبل انتقاداته، لأن فن النقد بديل لفن المعركة، حيث تأخذ الكلمات مكان السيوف، والنقاش يعمل على أنسنة الأفراد والجماعات الذين ينهون خصوماتهم بواسطة القوة، وينقل عنف الفعل إلى الكلمة، مغيرا بهذا، المعارك الدامية والمواجهة المريرة إلى مجادلات ومناظرات حجاجية. إنه ليس شيئا آخر إلا عقلنة النزاع وإقصاء بعده المميت، و"لم يكن بوبر طيلة حياته في العمق إلا مستفزا ومزعجا وعدوا شرسا للامتثالية والإجماع"@(8)#، إنه لا يعتقد في الاعتقاد كما يقول، ففي قلب المجتمع حيث الأفراد والجماعات ينتظمون بصفة عامةحول أنظمة وقيم متعددة، وحتى متناقضة. فالنقاش يجب أن يفضل دائما على الصراع العنيف، لأن المجتمع المفتوح يفضل التبادل والنقاش على المواجهة والحرب. وإذا كان النقاش النقدي بين الأفراد والجماعات والمجتمعات يشكل خميرة السيرورة المحضرة، فإن الأمر يتعلق بأمل أكثر منه من واقع يومي. يتعلق الأمر بأفق غير مستقر لم يتم بلوغه بعد، وقابل لأن يتكدر دائما نظرا لوجود "حوارات الصم" و"نقاشات لاتنتهي"، مع افتراض أن النقاش يجب أن يتغلب على استعمال العنف، لأنه"إذا لم يوجد برج بابل، كان ينبغي بناء واحد"@(9)#.

هكذا يمكن للمجابهة أن تكون مناسبة لتطور خصب ومنبعا للحياة، ويمكنها أن تؤدي إلى ازدهار ثقافة فريدة من نوعها، مثل ثقافة الإغريق التي اصطدمت بالرومانيين الذين تبنوها، والتي عاشت مجابهات أخرى خاصة مع الثقافة الغربية@(10)#. ويشيد بوبر بالفلاسفة ما قبل السقراطيين الذين فتحوا أولى الثغرات في صرح الميتولوجيا بنقدهم للتقليد وللأفكار المكتسبة، وخاصة بسقراط الذي يعترف بجهله لأنه لا يعرف شيئا، ولكنه قادر على اكتشاف الحجة الخادعة لخصمه ولدوغمائيته، ودعوته الناس لاتخاذ قراراتهم بحرية لأنهم مسؤولون عن اختياراتهم وأفعالهم، وب يتحملون نتائجها. وهذا ماشكل فضاء عاما لمداولات المواطنين. ويستثني بوبر من هذا التقليد النقدي كلا من أفلاطون وأرسطو، فهو يعتبر أن الفلسفة الأفلاطونية لنظرية الأفكار وجمهوريته المبنية على العبودية والتراتبية دوغمائية بامتياز، فقد حاول أفلاطون إيقاف الحركية المجتمعية والانفتاح على النقد، لأن إدخال ا لنقاش والنقد يقلق التصور السائد للنظام الطبيعي للأشياء، ويثير المخاوف وينعش الحنين إلى المجتمع الأبوي المنسجم والآمن. ويعتبر بوبر فلسفة أفلاطون تعبيرا عن هذا الحنين القبلي. أما أرسطو فلم يكن إلا تابع لمعلمه، لأنه فاقم أخطاء أفلاطون بمنطقه "الماهوي" الذي بموجبه أن الإسم أو تعريف الأشياء يتضمن "ماهيتها". وأن الخطوات المنطقية لا يمكنها إلا أن تؤكد ذلك وتوضحه، وبهذا تجعل المسلمات كل نقاش نقدي مستحيلا، وتؤدي إلى الجدال الفارغ، وفي النهاية إلى اليأس من العقل، ولهذا كانت الفلسفة الأفلاطونية تراجعا بالمقارنة مع موقف سقراط. والفلسفة الأرسطية عائقا أمام النقاش النقدي. وإذا كان هذا التقليد النقدي ضاع مع ظهور الأرسطية، وبقي عبر العصور والقرون مهددا أو سهل الغزو، فإن هذه الثقافة ما لبثت أن انتعشت في عصر النهضة خاصة مع جاليلي@(11)#. لأن العقل يعرف دائما كيف يشق طريقه وسط الحواجز والألغام. وهذه الثقافة نتج عنها مايسمى الآن بالثقافة الغربية، يعني حضارة أوربا وأمريكا، واستطاعت أن تغير كل الثقافات الأخرى بعد مجابهات@(2)#.

ومع ذلك، يطرح بوبر التساؤل : هذه الثقافة الغربية, هل هي شيء جيد يستحق الإكبار؟

يعترف بوبر بأنه من الممكن أن توجه انتقادات واعتراضات لهذه الثقافة، لأسباب معقولة، مادام أنه لا يتخذها إطارا مرجعيا، وينتقد وجهة النظر التي تقول بأن "نقاشا عقلانيا ومثمرا مستحيل إذا لم يتقاسم المشاركون فيه إطارا مرجعيا مشتركا للتوافقات على مبدأ، أوعلى الأقل إذا لم يتفقوا على هذا الإطار المرجعي لتسويغ النقاش، هذه هي الأسطورة التي سأنتقدها"@(13)#. لا يؤمن بوبر بالأطر المرجعية سواء في ميدان الاكتشاف العلمي أو في مجال الحياة الاجتماعية. فالارتباط المبدئي بأنساق القيمة يشكل عائقا كبيرا أمام المواجهة المثمرة للمواقف، لذلك يجب على الأطراف أن تنفتح على فهم متبادل للقيم الخاصة، وبصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بتبادل ومواجهة الثقافات المختلفة. وقد استنتج بوبر من تجربته البيداغوجية أنها ليست الاختلافات الحضارية هي التي تشكل عوائق عند المواجهة الفكرية. ولكن على العكس من ذلك، فأنماط التفكير الدوغماتية هي التي تسجن الأفراد داخل يقينياتهم، " كان عندي طلاب أتوا من مختلف أجزاء أفريقيا والشرق الأوسط والهند وجنوب شرق آسيا والصين واليابان، ووجدت أن الصعوبات يمكن التغلب عليها مع شيء من الصبر من الجانبين، ففي كل مرة وجد فيها عائق كبير ينبغي التغلب عليه، كان (هذا العائق) بصفة عام نتيجة توجيه من طرف الأفكار الغربية، فالتعليم الدوغمائي اللانقدي في مدارس سيئة وجامعات متغربة، خاصة الانجذاب نحو الإطناب ونحو الأيديولوجيات الغربية، كانت في تجربتي عوائق أكثر ضررا على النقاش العقلاني من أي فارق ثقافي أو لغوي"@(14)#. ويشبه بوبر الأطر المرجعية بسجون فكرية يتذرع سكانها ضد الشك أو الروح النقدية، ويرفعونها في وجه من يعتبرونهم كفارا، ويدعو سكان هذه المدن الموبوءة إلى الفرار من أجل بدء حوارات خصبة، والتخلص من أغلالهم الفكرية، فالعدو الحقيقي للمجتمع المفتوح هو ذلك الذي يفضل التخلي عن واجبه في التحذير والتنبيه، ويرتبط بعقائد بدلا من تذوق ثمار العقل النقدي. من هنا تتجلى الأهمية التي يعطيها بوبر للنقد، هذه الضرورة تقريبا البيولوجية" لعمل السلب" "لنفكر نقديا"@(15)#، والاحتراز من الدوغمائية وإظهار استعداد قوي للنقد، والرغبة في التعلم من الغير، وليس العمل من أجل البناء الفكري للأنساق.

وإذا كان بوبر يجل "المعجزة اليونانية"، فليس ذلك بسبب تناغم أخلاقي أو خصوصية إقليمية، ولكن فقط لأن أرضا وجدت على أطراف بحر إيجي كانت مسرحا عرضيا لبذرة تجربة فكرية، ولم يفته أن يسجل انحراف وضلال الإمبريالية الرومانية. إن"الأسوأ كان بلا شك تدمير قرطاج في لحظة لم تشكل فيها هذه المدينة خطرا لروما، إنها حرمت الإنسانية من إسهامات حضارة" @(16)#. فرغم أن بوبر يرجع أصول الحضارة الغربية إلى اليونان، فإنه يعتب أن تدمير حضارة أفريقية خسارة لا تعوض بالنسبة لباقي الإنسانية، ويكون النقاش أكثر غنى كلما كانت المواقف متباعدة، فـ"الخصوبة ستتوقف تقريبا على الفارق الأصلي بين آراء المشاركين في النقاش، وكلما كان الفارق كبيرا، فمن الممكن أن يكون النقاش أكثر خصوبة، مع الافتراض طبعا أن مثل هذا النقاش ليس مستحيلا تماما، كنا تؤكد ذلك أسطورة الإطار المرجعي"@(17)#. ويوضح بوبر أن "تجاربي لقنتني أن صراع الثقافات يمكنه أن يفقد جزءا من قيمته إذا اعتبرت إحدى الثقافات التي تدخل في صراع نفسها كمتفوقة، وحتى أكثر إذا اعتبرت كذلك من طرف (الثقافة) الأخرى: هذا يحطم القيمة الكبرى لصراع الثقافات، لأن القيمة الكبرى لهذا (الصراع ) تقوم في كونه أنه يمكنه أن يثير موقفا نقديا"@(18)#، يعترف بشرعية وجهة نظر الخصم والتخلي عن القناعات الخاصة.

فقد حاولت كل الحضارات التي نعرفها فهم العالم الذي نعيش فيه، وفهم أنفسنا ومعرفتنا بما أنها تشكل جزءا من هذا العالم، ولذلك تصبح "المهمة الكبرى للعلوم والفلسفة(... ) هي رسم صورة متماسكة ومفهومة للكون"@(19)#، والانشغال الأساسي " يجب أن يكون هو البحث عن الحقيقة"@(20)#. لم تتحقق إلا في الحضارة الغربية الضرورة الأخلاقية لحرية الأشخاص، بالإضافة إلى ضرورة المساواة أمام القانون، والحفاظ على السلم، وذلك بتجنب ما أمكن اللجوء إلى العنف، إنها "الأكثر حرية والأكثر عدلا والأكثر إنسانية، أفضل ما استطعنا معرفته في تاريخ الإنسانية، إنها الأفضل لأنها الأكثر قدرة على أن تغير ما بنفسها"@(22)#. إنها من بين الحضارات المولعة بالنقد الذاتي وبالإصلاح، تلك هي الأسباب التي من أجلها يعتبر بوبر أن الثقافة الغربية هي أفضل عالم موجود اليوم، وهذا لا يمنع من أنها تتطلب التحسين دائما، لأنها غير كاملة، وب فالمجتمعات الغربية غير كاملة لأن "مجتمعا كاملا شيء مستحيل". فكل القيم التي يجب على مجتمع ما أن يحققها تصطدم بقيم أخرى. فحتى الحرية مثلا، وهي القيمة الأكثر سموا، ربما من بين كل القيم الاجتماعية والشخصية، يجب أن تكون محدودة، فلا ينبغي لحريتي أن تصطدم مع حرية جاري. ويستشهد بوبر بقولة قاض أمريكي خاطب متهما يطالب بحريته: "حريتك في اللعب بقبضة يدك محدودة بواسطة أنف جارك". وهذا ما يعبر عنه موقف كانط الذي يبين أن مهمة المشرع هي العمل على "تعايش أكثر حرية ممكنة لكل واحد مع أكثر حرية ممكنة بالنسبة لكل الآخرين، وبعبارات أخرى، ينبغي مع الأسف أن تكون الحرية محدودة بواسطة القانون، يعني بواسطة النظام والنظام هو ضد قيمة ضرورية للحيرة ـ ضد ـ قيمة تقريبا ضرورية منطقيا"@(23)#، ومفارقة الحرية هي تعبير عن استحالة ترك كل واحد يتصرف بلا حدود بحريته، لأن هذا يؤدي إلى اضطهاد الفقراء من طرف الأقوياء، وهذا يسري على كل القيم.

ويوجد مثال آخر، هو مثال السلم الذي نريده أن يتحقق اليوم، ولهذا يجب علينا أن نعمل كل شيء من أجل تجنب أو على الأقل الحد من الصراعات، لأن مجتمعا بدون صراعات سيكون مجتمعا لا إنسانيا، ولكن مجتمع نمل، وعلينا ألا نجهل أن كبار السلميين كانوا أيضا محاربين كبارا. فالماهتا غاندي كان محاربا، ولكنه حارب بدون استعمال العنف. فـ"المجتمع الإنساني يحتاج إلى السلم، ولكنه أيضا بحاجة إلى صراعات حقيقية للأفكار: قيم وأفكار نستطيع أن نحارب من أجلها"@(24)#. ذلك أننا نستطيع أن نحارب بالكلمة بدل الأسلحة. وأفضل الأسلحة هي الحجج العقلانية. ولا توجد بالأساس إلا وسيلتان: النقاش أو استعمال العنف. يعني محاولة الوصول إلى توافق معقول، أو البحث على تحطيم الخصم. والمنهج الذي يمليه العقل يقوم في الاستعداد للتبادل واتخاذ موقف منفتح. ولا يمكن إجراء نقاش عقلاني مع من يفضلون صرعك، لأن مثل هؤلاء يجيبون على الحجج بواسطة الأسلحة. وإذا كانوا مستعدين لسماع الحجج بدون أسلحة، فإقامة الحجة ليس عبثا، مادام أن الخصم يسمع"@(25)#.

المجتمع الكامل إذن مستحيل، وأشكال التنظيم الاجتماعي يوجد منها الأفضل والأسوأ. والحضارة الغربية في نظر بوبر اختارت الديموقراطية كشكل لمجتمع يمكنه أن يتغير بواسطة الكلمة، وبحجج معقولة يعني بواسطة نقد معقول، محتواه موضوعين بواسطة تفكير نقدي لا يحمل طابعا شخصيا. وما يميز الحضارة الغربية منذ الإغريق حسب بوبر هما الديموقراطية والعلم، فالديموقراطية منحت للغرب إمكانية تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واختبار هذه الإصلاحات وإخضاعها للحكم النقدي من أجل التحسين الضروري، وفرصة توقع ما يمكن تجنبه. والعلم يبحث عن الحقيقة بواسطة النقد الذاتي، الذي يجعلنا نكتشف مع كل اكتشاف جديد كم كنا نعرف شيئا قليلا، كم أن جهلنا كبير لا حدود له. كل المفكرين الكبار كانوا واعين بجهلهم اللامحدود، وقابليتهم للخطأ. لقد "كانوا مفكرين متواضعين"@(26)#، فسقراط كان واعيا بجهله "أعرف أنني لا أعرف شيئا"، (ولا أحد يعرف أكثر من هذا). ويعبر بوبر عن أمله في أن تصبح هذه الفكرة السقراطية المتواضعة لجهلنا نعيما فكريا مشتركا، وقد تقاسمها مفكرون كبار. فجليلي في حواره {اليوم الرابع} يتحدث عن الكلمة "المتواضعة لا أعرف"، ونيوتن قال: " لا أعرف كيف يمكنني أن أظهر في عيون العالم، ولكنني كونت لنفسي انطباعا أنني لم أكن إلا طفلا يلعب على شاطئ البحر ويتلهى لاكتشاف هنا أو هناك حصبة ملساء أو محارة أجمل مما هو معتاد، فيما يمتد أمامي المحيط الكبير اللامنكشف للحقيقة"، وأكد أنشتاين أن المعرفة التي "تنصب على الواقع ليست أكيدة"@(27)#.

2 ـ التقليد النقدي:

تشهد الإلياذة والأوديسا في نظر بوبر عن صدام الثقافات، وتجعلانه موضوعهما، كما تشهدان على فكر منشغل بالتفسير العقلاني. هذا الفكر المتنور والنقدي نجده في الكتابات التي يمجد فيها الإغريق فكرة الحرية في صراعهم من أجل حريتهم ضد الهجمات الفارسية. فأعمال إشيل وهيرودوت لا تمجد حرية أمة، ولكن حرية الإنسان وحرية الديموقراطية اليونانية مقابل لا حيرة رعايا الملك العظيم للفرس، و"الحرية هنا ليست إيديولوجيا، ولكنها شكل للوجود يعطي للحياة جودة أكثر وقيمة"@(28)#. فالحرية مثلا بالنسبة لسقراط وكانط لا تعني فقط غياب الإكراه، ولكنها أسلوب في العيش. كما أن "دفاع سقراط وموته سمحا بانبثاق تصور جديد للحرية الفردية"@(29)#. إن كلا من إشيل وهيرودوت كتب كشاهدين عن صدام هذه الثقافات الغربية والشرقية، ثقافات الحرية والاستبداد، وكلاهما سيشهدان على الأنوار التي أشاعها. فـ" اليونان لم يحققوا (معجزتهم) هذه إلا في صراع مزدوج مع العنصر الشرقي في ثقافتهم وضد الخطر الشرقي الخارجي متمثلا خاصة في فارس التي دخلوا معها في حروب طويلة هي ماعرف في التاريخ بالحروب الميدية، والتي استطاع الغرب(اليونان) أن ينتصر فيها على الشرق (فارس) في معركة حاسمة هي معركة "الماراتون"@(30)#.

لقد سمح هذا الصدام للإغريق بإصدار حكم مبني على الوعي، واتخاذ مسافة نقدية تجاه ثقافتهم الخاصة. وهذا حكم عقلاني ونقدي على الأساطير التقليدية، الشيء الذي أدى في أيونيا آسيا الصغرى إلى الكوسمولوجية النقدية، أي نظريات تأملية ونقدية حول هندسة الكون، ومنها إلى علوم الطبيعة من أجل البحث عن التفسير الصحيح للظواهر الطبيعية. ويمكن القول حسب بوبر إن علوم الطبيعة ظهرت تحت تأثير المناقشة العقلانية والنقدية للتفسير الأسطوري للطبيعة. ويقصد بوبر بالنقد العقلاني النقد الذي يعمل من وجهة نظر الحقيقة، من وجهة نظر الذي يسأل "هل صحيح؟"، "وهل هذا من الممكن أن يكون صحيحا؟"، فبتصديهم للتفسيرات الأسطورية للظواهر الطبيعية عبر مسألة الحقيقة نحت الإغريق، النظريات الممهدة لعلوم الطبيعة، وبتصديهم للحكايات الأسطورية لعهود التاريخ السحيقة عبر مسألة الحقيقة، وضع الإغريق اللبنة الأولى للعلم التاريخي"@(31)#.

اكتشف هيرودوت قيمة الدرس النقدي لصدام الثقافات، وبصفة خاصة الثقافات الإغريقية والمصرية والفارسية القديمة، ويبين أن الإنسان العاقل يجب عليه أن يتعلم ما يلي: ما يظهر له في بداية الأمر أنه مسلم به تماما، يمكنه أن يوضع موضع تساؤل. وهذا من خلال هذه الحكاية: سأل داريوس الإغريق بأي ثمن يمكنهم أكل آبائهم الميتين؟ فأكدوا له أنهم لن يفعلوا ذلك بأي ثمن، ونادى داريوس على الهنود الذين يسمون الكلاتيس، والذين يأكلون آبائهم الميتين، فسألهم بأي ثمن يقبلون حرق آبائهم الميتين، وذلك بحضور الإغريق الذين صاحوا وتضرعوا لداريوس بألا يتفوه بكلمات الشؤم. هذه هي قوة التقليد في هذه الحالة، وهذه الحكاية ليس الهدف منها فقط "ترسيخ احترام العادات الغربية عنهم، ولكن كذلك بهدف تطوير الحس النقدي إزاء كل ما يملك بالنسبة لهم قيمة بديهية"@(32)#. فهناك حسب بوبر موقفان من التقليد، الأول هو قبول التقليد بطريقة غير نقدية، وأحيانا بدون وعي، بحيث نقوم بعدة أشياء متأثرين بتقاليد نجهلها، فـ" بعض الشعوب (بصفة خاصة الشعوب البدائية والأطفال) يرتبطون بصفة عامة بكل ما هو منتظم في حياتهم، أو يمكنه أن يصبح كذلك. هكذا يرتبط هؤلاء بالأساطير وبكل ما يمثل طابع انتظام في سلوكهم الخاص، قبل كل شيء
لأنهم يخشون اللاانتظام والتغير، ويخافون ب أن يكونوا هم أنفسهم مسؤولين"@(33)#. وهذا ما يفسر جزئيا اللاتسامح المتشدد ذي الطابع العاطفي الذي يميز كل تقليدية. والثاني نقدي يتجلى في القبول أو الرفض أو التوافق، قبل نقد تقليد ما ينبغي علينا معرفته وفهمه. ورفضه يجب أن يكون على أساس حجج عقلانية، "لأنه من المستحيل إذن البداية بأياد فارغة، ولأنه إذا لم يكن عندكم شيء تغيرونه وتحولونه، فلن تذهبوا أبدا إلى أي مكان"@(34)#. وإذا كان التقليد ضروريا في كل حياة اجتماعية، ويلعب دورا هاما في المجتمعات، فلا ينبغي تقبله كمعطى بسيط دون تحليل عقلاني، وقد أبدع بعض الفلاسفة الإغريق في نظر بوبر تقليدا جديدا يقوم على تبني موقف نقدي من الأساطير ومناقشتها، و"تعويض لا تسامح التقليديين بتقليد جديد، تقليد التسامح، وبصفة عامة، إحلال محل الموقف الذي يحترم الطابوهات موقفا آخر يعتبر أن التقاليد هي هنا لتثير النقد"@(35)#. لأن هناك من يجعل من التقليد سلاحا خطيرا ضد العقلانية. والعنصر الحاسم هو الموقف النقدي. وقد وجدت في اليونان تنقل التقليد الذي هو مذهب المؤسس، نعلمها الأول إلى الجيل ، والمهمة الأساسية لبلوغ هذا الهدف تقوم في الحفاظ عليه في صفائه الأصلي. وتعتبر الأفكار الجديدة بدعا لأنها تثير الانقسامات. ومن البديهي أنه لا يمكن أن يوجد نقاش عقلاني في مدارس من هذا النوع. فهي نموذج دوغمائي، مثل المدرسة الإيطالية التي "أغرق أحد أعضائها هيبا صوص ميتل بونت في البحر لأنه أفشى سرا"@(36)#، في حين أن مدارس أخرى انتشرت فيها أفكار جديدة، كانت ثمرة النقاش النقدي والفحص العقلاني، وذلك لانبثاق تقليد يسمح بالتبادلات النقدية ويشجعها بين مختلف المدارس. وحتى في قلب نفس المدرسة، مثل المدرسة الأيونية، مما يسمح بنقد تصورات المعلم، وأولى علامات ذلك، هو وجود موقف نقدي وحرية فكر جديدين، ظهرا من خلال نقد أنكسماندر لطاليس. ولا نجد أثرا لانقسام أو خصام أو عنف. ويعتبر بوبر أن طاليس هو مصدر هذا التقليد للحرية الجديدة، لأنه تسامح مع النقد، بل أكثر من ذلك شجع تلميذه أنكسماندر لكي يكون له موقف نقدي. وأسس بذلك تقليدا جعل من النقد حقا، ففي قلب هذه المدرسة ولأول مرة انتقد التلاميذ معلميهم جيلا بعد جيل. وهذا ما شكل قطيعة مع التقليد الدوغمائي الذي لا يسمح إلا بمذهب واحد، وليحل محله تقليد منفتح على النقد، وعلى تعدد المذاهب والأفكار الذي هو شرط ضروري لكل نقاش عقلاني. وذلك بفضل سيرورة النقاش النقدي. فكل شيء قابل للنقاش والنقد. إن معرفتنا من "طبيعة تخمينية تتكون من افتراضات، فرضيات، وليس من حقائق أكيدة ونهائية"@(37)#. كما أن سقراط وضع الثقة في العقل واعتبر أن أساس المعرفة هو النقد و"علمنا (... )أن نحترس من الدوغمائية"@(38)#. إن إبداع النقاش النقدي ذو أهمية كبرى لأنه يقدم لأعضاء الجماعة إمكانية أن يتواجهوا دون أن يتقاتلوا، يعني يدخل المجتمعات الانسانية في نطاق الحضارة، وكما هو الحال عند فرويد، تبدأ الحضارة بجريمة، لكن الأمر هنا يتعلق بجريمة فكرية وليست شخصية، فالفكر النقدي يسمح بإقصاء نظرية دون إقصاء حاملها. إن ما يؤخذ بعين الاعتبار هو الحجة وليس الناطق بها، وأحد المبادئ الأساسية للعقلانية النقدية هو الاهتمام بالنظريات وغض الطرف عن واضعيها. هذه المواقف في نظر بوبر شقت الطريق لتقليد نقدي كان أصل المنهج العقلاني النقدي في الثقافة الغربية.

هكذا يخبرنا بوبر أن الغرب تعلم احترام الناس كأناس، واحترام آرائهم، واحترام حقوقهم، وحتى تقديم تضحيات من أجل الآخرين، "تعلمنا ليس فقط أن نكون متسامحين تجاه الغير، ولكن أن نتساءل بالجدية الضرورية عما إذا لم يكن الغير أكثر على حق (... ) أفضل منا نحن أنفسنا، استوعبنا هذه الحقيقة الأخلاقية الأساسية أنه لا يمكن أن يكون في نفس الوقت حكما وطرفا، وهذا بلا شك علامة على نوع من النضج الأخلاقي"@(39)#. بالإضافة إلى خطيئة الاكتفاء الذاتي، يؤمن بوبر بسلطة الأفكار بما في ذلك سلطة الأفكار الخاطئة والضارة التي يدعي أصحابها أنها تعبر عن الحقيقة أو تعكسها. ويؤمن أيضا بما يمكن تسميته بحرب الأفكار. ويؤكد أن المواجهة الفكرية هي من إبداع الإغريق، وهي إحدى أهم الإبداعات في التاريخ. ويعتبر أن إمكانية الصراع بالكلمات وليس بالأسلحة هي عمق الحضارة الغربية، خاصة في المؤسسات القضائية والتشريعية، في حين أنه في أماكن أخرى مازالت الأسلحة تقتل، ولم تعوض الكلمات الأسلحة "يكفي لنرى إلى أي درجة أصبحت الأفكار قوية منذ العصر الإغريقي القديم، وألا ننسى أن كل الحروب الدينية كانت مواجهات أفكار، وأنه في كل الثورات كانت الأفكار هي التي تجد نفسها في مدار الصراع، حتى وإن ظهرت هذه الأفكار أحيانا خاطئة وخطيرة"@(40)#.

كان نقد التقليد حافزا حاسما للتقدم الاجتماعي والأخلاقي في الغرب. فالعقل النقدي هو أيضا هذا النوع من النظافة الذهنية التي تسمح للفرد بالانفلات والتحرر والانعتاق من نير العادات والتقاليد، والانعتاق هنا ليس مرادفا للإدانة والإقصاء، بل هو تأويل عقلاني للتقليد، كما أن العقل النقدي هو فضح السلطات الدينية في مطالبتها بامتياز المعرفة، وادعائها امتلاك الحقيقة، ورفض استبداد الحقائق المنزلة، والشك في الكهنة الأكثر احتراما.

3 ـ الحقيقة بين التجلي والخفاء:

شكلت النهضة والإصلاح في نظر بوبر لحظتين تاريخيتين، تجسدان تعارضا بين فكرة الطابع الجلي للحقيقة وفكرة طبيعتها الخفية. فحسب الفكرة الأولى، تعتبر الحقيقة كتابا مفتوحا لكل فرد يرغب في معرفتها. وحسب الفكرة الثانية، وحدهم المصطافون في مستوى كشف الحقيقة. فكتاب الحقيقة لا يمكن أن تفك رموزه إلا من طرف كاهن الكنيسة، ووحدها السلطة التي تعينه تسمح له بتأويله. وقد أدى الموقف الأكثر شكا بخصوص الحقيقة إلى تعزيز سلطة الكنيسة، وأراح أشكال سلطوية أخرى. فإذا لم تكن الحقيقة جلية، فلا يمكن أن يترك لكل واحد مهمة تأويلها، لأن هذا يؤدي بالضرورة إلى الفوضى، وإلى تفكك النسيج الاجتماعي، وإلى الانقسامات وإلى حروب دينية. لذا ينبغي أن توجد سلطة معترف بها تتكلف بإعطاء تفسير للكتاب، و"إذا كانت كلمة كتاب تعني في بداية الأمر التوراة، فإنها أصبحت فيما بعد تعني "كتاب الطبيعة". وكان هذا بالنسبة لبيكون كتابا مفتوحا، وألئك الذين يقرأونه قراءة سيئة تضللهم الأحكام المسبقة والتسرع و"العجلة". وفي اللحظة التي تتم فيها قراءته بدون حكم مسبق، وبالأناة الضرورية (... ) فلن يقع الخداع"@(41)#، ما دمنا قد قمنا بعملية "تطهير العقل"، ولذلك فالخطأ ينسب إلينا دائما لأننا نرفض أن نرى الحقيقة الجلية المعروضة لأنظارنا. ورغم أن هذا التمثل الساذج للطابع الجلي للحقيقة مغلوط، فإنه في نظر بوبر ألهم تقدم المعارف في الفترة الحديثة، وشكل أساس العقلانية الحديثة بالتعارض مع عقلانية الإغريق المطبوعة أكثر بالشك. وفي ميدان الأفكار الاجتماعية، انفتح هذا المذهب على مفاهيم المسؤولية الأخلاقية والفكرية للفرد ولحريته، بحيث ولد الفردانية والليبرالية العقلية، وجعل السلطة الروحية للكنيسة وتأويلها للحقيقة غير مجد وحتى ضار. ونتج عن ذلك تعارض بين العقلانية الفردية والتقليدية السلطوية، وتعلق الأمر في نفس الوقت بالاختيار من جهة بين الإيمان في الإنسان وفي طيبوبته وفي عقله، ومن جهة أخرى الحذر تجاهه. وقد بدأ أفول السلطة والتقليد في المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة، "إننا نعيش في مجتمع بدون سلطة، أو يمكن القول بدون أب" @(42)#. لأن هذا المجتمع أصبح يحكمه الوعي الفرداني، وحكم التاريخ شاهد على التجارب المرعبة التي شكلتها الحروب الدينية والثورات مثل: الثورة الفرنسية والثورة الروسية، مما أدى إلى الإيمان بالإنسان وبعقله. و"بتشديده على الوعي الفردي، أقال الإصلاح، الله من مهامه في حكم عالم الناس: إنه لا يمكنه أن يسود إلا في قلبنا ومن خلاله"@(43)#، كما أن الإصلاح البروتيستانتي هاجم سلطة البابا والكنيسة الكاثوليكية، وأدخل في قلب المسيحية "قابلية الخطأ"، "فإذا لم نقبل الوصايا المسيحية للتسامح وحرية الوعي إلا بسبب أصلها الروحي، فإننا نوجد فوق أرض غير مستقرة"@(44)#. ويرى بوبر أنه على الديانة المسيحية أن تنفي ذاتها كديانة موحاة، لأننا نحن، أنتم، وكلنا من يتحمل مسؤولية العالم، ولا يطابق بوبر بين التقليدية والدين، مع أن ديانات كبيرة غذت التقليدية، فقد استعملت الإمبراطورية الرومانية المسيحية، واستعملت وسائل وحشية للقضاء على الملحدين واللامبالين. وينتقد بوبر ما يعني أن كل فكرة تعتبر خالية من المعنى إذا لم تستند على الحكمة القديمة لأرسطو أو الإنجيل، وقد اعتقد أنصار السلطة والتقليد أن مجتمعا غير سلطوي، وبدون أب، سيعني بالضرورة انهيار كل القيم، لكن في مجتمعات مثل المجتمعات الغربية، حلت ثلاثة مكونات محل السلطة التي جردت من شرعيتها، يحددها بوبر ك:

" الأول، هو الاحترام الذي تلهمنا إياه سلطة الصحيح: سلطة حقيقة لا شخصية، بين ذاتية، موضوعية، نملك ميلا لإيجادها، ولا نملك سلطة تغييرها أو تأويلها على ما يوافقنا.

الثاني، هو الدرس الذي استخلصناه من الحروب الدينية (... ) أخطاؤنا علمتنا فعلا (... ) تعلمنا أن عقيدة دينية، وكل نوع آخر من القناعة لا تمتلك قيمة إلا عندما نعتنقها بحرية وصدق، وأن من العبث البحث على إجبار الكائنات الإنسانية على اعتناقها، لأن أولئك الذين بذلوا مقاومة لهذا النوع من المبادرة كانوا بالضبط الأفضل والوحيدين في الواقع الذين كان تصورهم قيما. تعلمنا إذن ليس فقط التسامح مع المعتقدات التي تختلف عن معتقداتنا، ولكن أن نظهر لها الاحترام مثل احترام الناس الذين يعتنقونها عن حسن نية. وعرفنا كذلك أن نميز الصدق عن تصلب الرأي أو البلادة الدوغمائية، وأن نسلم بهذه الحقيقة الكبرى أن الحقيقي ليس جليا، وأنه لا يظهر ببساطة لكل أولئك الذين يتمنون بشوق إدراكه، ولكنه من الصعب الوصول إليه، ونعرف من الآن فصاعدا ليس هناك ما يدعو إلى استنتاج من هذه الحقيقة نتائج ذات إيحاء سلطوي، لكن ينبغي على العكس من ذلك الشك في كل أولئك الذين يعلنون أنهم مرخص لهم بتعليم الحقيقة.

العنصر الثالث هو : تعلمنا أيضا أنه بسماع بعضنا بعضا، وبنقد بعضنا بعضا بواسطة التبادل، نملك فرصة الاقتراب أكثر من الحقيقة"@(45)#، لأن الحقيقة منيعة، فهي ليست سهلة المنال، و"أنه ينبغي أحيانا أن نعاني من أجل بلوغها"@(46)#. وهذا التأكيد يفسر بمقياس ما الحروب الدينية التي تتواجه فيها تصورات متنافسة فيما يخص وسائل نحت عالم أفضل.

ورغم انتماء بوبر للثقافة الغربية، فهو يتخذ مسافة إزاءها وينتقدها من داخلها، ويعري أخطاء العقلانية الدوغمائية التبريرية التي يرجع أصحابها إلى بديهية أولية، إلى نقطة بداية. إنها الفلسفة التي تعتقد أنها قادرة على تبرير ذاتها بواسطة وسائلها الخاصة، مثل دوغمائية "الكوجيطو الديكارتي"، و"مبدأ السبب الكافي" لليبنتز. ويدعو بوبر إلى معايير عقلانية بينذاتية لإظهار الأخطاء المرتبطة بقناعاتنا ونظرياتنا، وقناعات ونظريات الغير، فهذه المبادرة للنقد المتبادل تسمح للإنسان بتجاوز الفهم الذاتي للعالم، وبتخطي الحدود الذاتية نحو الغير، وتجعل الإنسان مسؤولا أخلاقيا وفكريا. ويتجلى البعد النقدي لعقلانية بوبر في الاقتناع أنه لا يوجد طريق ملكي للمعرفة، فالنظريات التي يصوغها رجل العلم، والحجج التي يقدمها الفيلسوف، والإصلاحات الاجتماعية التي يباشرها المشرع، ليست إلا تخمينات، تقريبات تجد نفسها في صراع مع ما يناقضها. فمن الوهم إرادة بأي ثمن بناء معيار أخير للحقيقة، لأنه ينبغي أن يكون لدينا وعي حاد بجهلنا الخاص، من خلال الممارسة المدققة لنقد النظريات الموجودة، والاستعداد للتبادل والتسامح مع الاعتراف بالدور التصحيحي للخطأ الذي ليس عيبا، ولكنه فضيلة. ويعتبر بوبر أن هذا الشكل للعقلانية النقدية، وقبل كل شيء هذا الإيمان في سلطة حقيقة موضوعية ضروري لوجود مجتمع حر مبني على الاحترام المتبادل. فإذا كانت الأفكار خطيرة، فإن الأخطاء التي نرتكبها تعلمنا طريقة معالجة هذه الأفكار، والتفكير فيها من زاوية نقدية، لأننا قابلون للخطأ، وذلك بواسطة "منهج النقد، إنه منهج المحاولة وإقصاء الأخطاء"@(47)#، لأن كل معرفة هي بالضرورة قابلة للخطأ. وأن "مفهوم الحقيقة يلعب إذن، بالخصوص دور فكرة ناظمة"@(48)#، و"في غياب كل تقليد عقلاني سيكون من الصعب على الفرد أن يقوم بأدنى خطوة على طريق الحقيقة"@(49)#، ولن يحصل ذلك إلا بالتوفيق بين العقلانية والشك والنقد.

4 ـ الدولة الوطنية:

في إطار حديث بوبر عن صدام الثقافات، يتحدث عما يسميه بالمعتقد الباطل الذي ما يزال يمتلك أهمية في الحضارة الغربية، هذا المعتقد الباطل هو الوطنية المرعبة، أو بالتحديد أيديولوجيا الدولة الوطنية. وهو المذهب الذي يتم الدفاع عنه كضرورة أخلاقية، والذي بموجبه أن تخوم الدولة يجب أن تتطابق مع تخوم الأرض المعمورة من طرف الأمة. والعنصر الخاطئ في هذا المذهب أو في هذه الضرورة "هي فرضية أن الشعوب والأمم سابقة في وجودها على الدولة ـ كالقبائل مثلا ـ بمثابة أجساد طبيعية يجب على الدولة أن تمنحها لباسا على المقاس، في حين أنه في الواقع، الشعوب والأمم هي منتوجات الدولة"@(50)#. وإذا كان للوطنية بالطبع روادا، لكن لا الثقافة الرومانية ولا الثقافة اليونانية كانتا وطنيتين، لقد ولدتا من صدام مختلف الثقافات المتوسطية والشرق أوسطية" @(51)#، ولهذا فمبدأ الدولة الوطنية غير قابل للتحقق، ويعتبره بوبر تضليلا، ويتساءل لماذا لا يمكن أن يتحقق مبدأ الدولة الوطنية؟ هذا السؤال يقوده إلى موضوع صدام الثقافات، ويتخذ أوربا نموذجا، ويؤكد ماهو معروف عند كل واحد، وهو أن الساكنة الأوربية هي نتيجة هجرات أتت من السهوب ومن آسيا الوسطى، فقد تتابعت الموجات البشرية منذ الماضي السحيق، وتوزعت بين المهاجرين القدامى في الجنوب، وفي الجنوب الشرقي عبر منافذ الجبال والفجوات البحرية القريبة من شبه الجزيرة الأسيوية التي تسمى أوربا. و"نتج عن ذلك فسيفساء من اللغات والإثنيات والثقافات: مستودع، ركام من المستحيل تمييزه"@(52)#. فاللغات هي عبارة عن لهجات تقريبا محلية أو طبيعية، ولغات ذات انتشار واسع، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي ظهرت فيها، وهي لهجات ظهرت بفضل امتيازها، كما تبين ذلك بوضوح مثلا حالة اللغة الهولندية، واللغات الأخرى كالفرنسية والإسبانية والبرتغالية والرومانية. إنها منتوجات غزو الرومانيين، والذي حدث بواسطة العنف، فما هو صاف مثل ماء الرصد هو بلبلة اللغات، والتي لا يمكنها أن تكون مرشدا صالحا للاشتغال على البلبلة الإثنية، الشيء الذي يظهر بوضوح بخصوص الألقاب. ففي النمسا وألمانيا مثلا عوضت العديد من الألقاب السلافية بألقاب ألمانية، وبذلك محت آثارا كثيرة، الشيء الذي لا يسمح بمعرفة أكثر عن الأصل الإثني، "فوسط هذا الخليط الأوربي ولدت الفكرة الشاذة لمبدأ الوطنيات"@(53)# كوحدة، وبصفة خاصة تحت تأثير فلاسفة مثل روسو وفخته وهيجل، ذلك "أن كل وحدة ليست كذلك إلا بما هي تنظيم وتعاضد، مثلما هو الأمر عندما تشكل جماعة بشرية أمة ووحدة"، فهي إذن تقابل فوضى الذرات، وهي تنطوي على بنية هيمنة، ينطوي مفهوم الوحدة إذن على مفهومي الهيمنة والخضوع"@(54)#، ويتم الانخراط في الشيوعية أو في الوطنية مثل الانخراط في أخلاقية أوفي عقيدة، وهنا توجد كل قوتها، لأنه من وجهة نظر عقلانية هذه المذاهب تتاخم اللامعقول، كما أن الوطنية ترتبط بمبدأ حق تقرير المصير.

5 ـ مبدأ حق تقرير المصير:

لايحيل بوبر هنا إلى الميتولوجيا العنصرية لهتلر، ولكن إلى هذا الحق الطبيعي المزعوم للإنسان والذي هو حق كل أمة في أن تقرر مصيرها بنفسها. وقد تم جعله أحد الحقوق الطبيعية للإنسان، وهذا ما يحث على الاحتراز. وتظهر اللامعقولية العميقة لمبدأ تقرير المصير الوطني لمن يفكر فيه حسب منظور نقدي، "لأن الأمر يرجع إلى ضرورة أن تكون كل دولة، دولة وطنية: بأن تكون موجودة في تخوم طبيعية، وأن هذه الهيئة تطابق زرع جماعة إثنية، بحيث ستكون الجماعة الإثنية، "الأمة" هي التي تحدد وتحمي هذه التخوم"@(55)#، والحال أنه لا توجد في نظر بوبر دول وطنية مطابقة لهذا الوصف، فحتى إسلاندا مثلا لا تمثل استثناء إلا ظاهريا، لأن تخومها ليست محددة من طرف الجماعة الإثنية التي تشكلها، ولكن من طرف المحيط الشمالي، وليست الأمة الإسلاندية، ولكن معاهدة المحيط الشمالي هي التي تحميها، وإذا لم توجد دول وطنية، فبكل بساطة لأن الأمم والشعوب المتخيلة من طرف الوطنيين لا وجود لها. لا توجد بالفعل جماعات إثنية متماسكة قائمة منذ زمن بعيد في بلدان محددة بواسطة تخوم طبيعية. فمختلف الجماعات الإثنية واللغوية ـ اللهجات تلعب دور عوائق لغوية ـ هي في كل مكان مختلطة تماما، وإذا كانت مؤسسة مزاريك تستجيب لمبدأ تقرير المصير، فإن السلوفاكيين طالبوا في الحال باسم هذا المبدأ ذاته بأن يتحرروا من نير التشيكيين، وهذه الدولة تحطمت في النهاية دائما باسم هذا المبدأ من طرف الأقلية الألمانية التي تحميها، و"ظهرت وضعيات مماثلة في معظم الحالات التي حددت في تخوم دولة جديدة بتطبيق مبدأ تقرير المصير: في إيرلاندا وفي الهند وفي إسرائيل وفي يوغوسلافيا"@(56)#. وقد استمر قبول مبدأ تقرير المصير كجزء من عقيدة أخلاقية، ومن النادر الاعتراض عليه بطريقة جذرية، والمدافعون عنه يصرحون بافتخار أنهم يقصدون حماية القيم الإنسانية الأكثر قداسة والحقوق الطبيعية للإنسان.

تمثل الوطنية في نظر بوبر ديانة قوية. فكثير من الناس مستعدون للموت من أجل هذه القضية، معتقدين أن ذلك خير وصحيح أخلاقيا. و"قليلة هي في الواقع القناعات التي ولدت كراهية أكثر وفظاعة أكثر ومعاناة لا معقولة أكثر من هذا الإيمان بشرية مبدأ الوطنيات"@(57)#. مما جعل بوبر يبدي اشمئزازه من الوطنية، ويعبر عن عدوانية معلنة تجاهها. فعبادة الأمة أو القبيلة أو المدينة أو الدولة تحرض دائما على أسوء المواقف، مثل إخضاع الفرد لجماعية تقريبا متخيلة، ودعوته للانصهار فيها وتقديسها وتملق رؤسائها. كما أن الوطنية ترتبط بالانطواء والظلامية، وخاصة بالعداء تجاه الأمم الأخرى، الشيء الذي يولد التعصب والعنصرية والتوسع. إنها تراكم كل العيوب التي يجتهد المجتمع المفتوح لإحباطها. ولهذا يعتبر بوبر أن "كل وطنية وكل عنصرية شر، والوطنية اليهودية لا تكون استثناء للقاعدة"@(58)#. ما يمكن التعبير عنه بلا وطنية بوبر ضد مبدأ تقرير المصير، كمبدأ تعترف به الآن كل المنظمات العالمية، لأنه مبدأ يعاني من أسوء الشرور ولا معقول، وب "فمبدأ الوطنيات أو الدول الأمة هو بالأحرى لا يمكن تبريره، فما من معيار إقليمي، عرقي، لغوي، ثقافي أو ديني لا يسمح بتحديد واضح على أي شيء تقوم أمة، وأنه من الخطر بناء نظرية سياسية على وهم أو على أسطورة"@(59)#. ذلك أن كل مذهب وطني هو بالضرورة خادع في اللحظة التي يدعي فيها أنه ينبني على نوع من الأرض متماسك تاريخيا وثقافيا. وقد تكفل التاريخ منذ فجر الإنسانية بمزج السكان وتهجين الإثنيات محطما بذلك الأمل في العثور على ذرية خالصة. وبهذا يبرهن بوبر على أن التأكيد الوطني خال من أي أساس عقلاني، ولا توجد إجراءات حجاجية ولا معيار أكيد للحسم في أصل أو ماهية مجتمع ما، "ذلك أن الفلسفة المثالية التأملية، بعد أن مهد لها الطريق كل من لا يبينتز وكانط هي التي أرست للهوية أسسها على يد فشته وشيلينج وهيجل"@(60)#. في حين"أن هذه الهوية لا تتمتع إلا بوجود ظاهري مفتعل"@(61)#. لأننا نعيش في "عالم لا مكان فيه للهويات، عالم يمحي فيه التطابق ويذوب"، "في عالم لا تطابق فيه ولا هوية"@(62)#.

6 ـ الفدرالية أو حماية الأقليات:

يميز بوبر بعناية بين حق تقرير المصير الذي هو مبدأ لا معقول بالنسبة له، وبين حماية الأقليات الذي هو مطلب ضروري وهام أخلاقيا. يعني حماية الأقليات اللغوية والدينية والثقافية لكل دولة ضد سوء معاملة الأغلبية، وضد الميز العنصري الذي يمارس باسم العرق أو اللون أو غير ذلك. فإذا كنا "نجد في كل مكان أقليات إثنية، فإعطاؤها كلها "التحرر" لن يشكل هدفا يفي بالمرام. إن الأمر يتعلق على العكس من ذلك بحمايتها كلها، فضغط الجماعات الوطنية هو بلا ريب شر، ولكن تقرير مصير الأمم لا يعطي علاجا عمليا"@(63)#، فضلا عن ذلك، فبريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وسويسرا هي بوضوح دول تخالف من نواح كثيرة مبدأ الوطنيات. وتخومها لم تحدد وفق هيئة جماعة مقامة من قبل. ولكن كل واحدة من هذه الدول نجحت في تحقيق وحدة لمختلف الجماعات الإثنية. فهنا المشكل لا يظهر أن حله متعذر، وإن كان من المشروع أنه في قلب مجتمع متعدد بالضرورة، يجب أن تحمى الأقليات ضد شهوات الجماعات المهنية، فإنه في المقابل من اللامعقول أن هذه الأقليات ذاتها تدفع تحت ذريعة أنها تشكل شعوبا إلى تقرير مصيرها لتقوم كدول مستقلة.

لهذا يرى بوبر أن الفدرالية كما هي في دول مثل أمريكا وكندا وألمانيا وسويسرا تمنح توافقا مرضيا بين التضامن والاستقلال الخاص، بين الإدماج ومبدأ الاستقلال الذاتي، مقترنة بالديموقراطية التي تسمح لأقليات أو لشعوب بأن تتعلم التسامح الفكري والتعايش الاجتماعي، فالفدرالية أفضل نموذج للديموقراطية والانفتاح، على عكس الوطنية التي تسعى إلى سجن الأفراد داخل أراض مسورة، والوطنية حتى عندما تدعي التقدم تبقى عقيمة أمام توحيد الإنسانية. فتاريخيا "مع إمبراطورية ألكسندر اختفت الوطنية القبلية الحقة إلى الأبد من الواقع السياسي. ومنذ زمن طويل كنظرية، لأنه من بعد ذلك كل الدول المتحضرة لأوربا وآسيا أصبحت إمبراطوريات تكلك ساكنتها أصولا مختلفة جدا" @(64)#. فالوطنية لا تمثل إذن على مستوى التاريخ إلا افتراءات قصيرة، وفي هذا الصدد، لا ينبغي نسيان أن أكبر الأسماء في الآداب والفلسفة مثل كانط وشوبنهاور وروكوته، كانوا لا وطنيين، فكانط مثلا "طالب بمجتمع الأمم، بوحدة فدرالية للدول يتوجب عليها في النهاية الإعلان عن السلم الأبدي في العالم والحفاظ عليه"@(65)#. ولن يتم ذلك إلا بوقف الاعتداءات التي ترتكبها بعض الأمم في حق بعض الأقليات والأمم الأخرى، من أجل جماعة أفراد أحرار، هي الجماعة الكونية، وقد كانت الصناعات والفلاحات والتجارات والنقود محرك المجموعة الأوربية في اتحادها، بالإضافة إلى تفوق القيم الديموقراطية والليبرالية في كل أوربا الغربية، واكتساب ثقافة التوافق والتفاوض. كل هذا يواكب ويشجع تطورا نحو فدرالية ليست فقط تجارية، ولكن أيضا سياسية وأخلاقية@(66)#، تسود فيها الحرية الفردية والديموقراطية الاجتماعية.

7 ـ الفردانية الغيرية:

ترتبط الإنسانية والعقلانية عند بوبر بتصور فرداني للحياة الاجتماعية، "فقد علمنا تاريخ المجتمعات المتقدمة أن السيرورة الديموقراطية هي نتاج تطور ونضج كل من المجتمع والفرد"@(67)#. وذلك في قلب ما يسميه بوبر بالمجتمعات المفتوحة. فالمجتمع المفتوح هو ذلك المجتمع الذي "يواجه فيه الأفراد قرارات شخصية"، على عكس المجتمعات المغلقة. لأن المجتمع المغلق هو "المجتمع السحري أو القبلي"@(68)#، والمجتمعات المغلقة هي جماعات مدمجة، عضوية، الفرد تابع لها، ويجد نفسه محروما من كل قدرة تميزه، ويختزل إلى نوع من الوجود البيولوجي، "فهي مجتمعات متمركزة على ذاتها ومغلقة على نفسها، تحكمها نرجسية جماعية تحول بينها وبين الانفتاح على الآخر والقبول به"@(69)#.

ويحذر بوبر من الجماعات الحديثة التي تستعير الشكل المفرط للكليانية الوطنية والعنصرية، أو تتخذ شكل نظام ديني أو مدرسة فكرية أو نموذجا عائليا، فلأنه يعتبرها كانبثاق ثان للقبيلة، وشكلا جديدا من أشكال التخلي عن المسؤولية الفردية، وهذا ما يطرح مشاكل حول الفردانية والجماعية، فكلمة الفردانية كنقيض للجماعية، والأنانية كنقيض للغيرية. فمن لم يضح بمصلحته الشخصية لخير المجموع هو أناني، فتقترن الفردانية بالأنانية عند بوبر، مما يجعلها متهمة باسم المشاعر الإنسانية والجماعية، في حين أن الفردانية عند بوبر يمكنها أن تكون غيرية، يعني أن تقبل التضحية لصالح الأفراد الآخرين. لهذا فهو يميز الفردانية عن الأنانية. إن "حب قريبه هي إرادة جعله سعيدا، كما علم ذلك القديس توما الإكويني. ولكن إرادة سعادة الشعب هي ربما من أخطر المثالات السياسية، لأنها تؤول حتما إلى إرادة فرض سلم من القيم العليا على الآخرين، رأى أنها ضرورية لهذه السعادة"@(70)#. ويعتبر بوبر أن "إرادة سعادة الآخرين هي في أكثر الأحيان تدخل في حياتهم الخاصة واعتداء على استقلاليتهم"@(71)#، فالسعادة بالنسبة له مسألة خاصة، "لنترك للمجال الخاص هذا البحث عن السعادة"@(72)#. ذلك أنه "لكل واحد الحق في أن ينظم هو نفسه حياته في النطاق الذي لا يمنع فيه هذا الغير من الانتفاع بنفس الحق"@(73)#. فالمذهب الإنساني الجديد يأخذ قوته من الفردانية، لأن تحرر الفرد أدى إلى انهيار القبيلة وصعود الديموقراطية، وبين إمحاء الفرد في قلب الجماعة وإخجاله باسم حب مجرد. يؤمن بوبر بالفردانية الغيرية، وبعبارة أخرى، فالفردانية لا تفرز بالضرورة الأنانية أو حب الذات، والاجتماعية لا تتوافق بالضرورة مع الغيرية، لهذا يجب أن تكون الفردانية مقترنة بالغيرية، "وهذا التركيب للفردانية والغيرية أصبح أساس الحضارة الغربية (... ) ومفتاح النظريات الأخلاقية التي ولدت من حضارتنا وأغنتها، إنها أيضا مثلا القاعدة الكبرى لكانط: "اعترفوا دائما بأن الأفراد هم غايات ولا تتخذوهم كوسائل للوصول إلى غاياتكم"@(74)#. إنه تعبير عقلاني عن الأخوة الإنسانية يصالح بين التقدير المشروع للذات، والاهتمام بالغير واحترامه. وينظر بوبر إلى عالمنا ليس كعدد من المجتمعات منفصلة بعضها عن البعض الآخر، ولكن كتجمع من الأفراد الأحرار والمتساوين، فالفرد العقلاني يشكل ذرة كل علاقة اجتماعية. لأن العقل الفردي يمكنه أن يعمل كعقل اجتماعي من خلال التواصل مع الغير. وبهذه الصفة يتعالى على المجاميع المصطنعة التي تشكل الدول والأمم. إنها فردانية غيرية كونية. و"يجعل بوبر من امتلاك واستخدام العقل النقدي الرصيف الذي يقوم عليه مبدأ وحدة الإنسانية"@(75)#.

 

8 ـ مبدأ وحدة الإنسانية:

ينتقد بوبر المواقف التي تفصل الناس إلى نوعين: أولئك القريبون منا، وكل الآخرين، سواء في شكلها البيولوجي أو الطبيعي، والتي تستند على العرق أو الدم. وبالنسبة له، "فالاختيار ليس أبدا بين معرفة وإيمان، ولكن بين نوعين من الإيمان، واحد يجعل الثقة في العقل وفي الفرد، واّلآخر يستسلم لصوفية جماعية، يتعلق الأمر في النهاية بين وحدة الإنسانية وفصلها بين أصدقاء وأعداء، سادة وعبيد"@(76)#. يشكل مبدأ وحدة الإنسانية حسب بوبر الأساس الوحيد الذي من الممكن أن تبنى عليه حضارة إنسانية حقة، "بإيلاء الإنسان مكانة مركزية في المعرفة والتاريخ"@(77)#. فالعقل ينظم الحياة الاجتماعية، ويحث على تأويل عقلاني للأخوة الإنسانية، ويشجع فردانية عاقلة متصالحة مع الكوني، "أي الإنسان عامة دون تمييز في اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة"@(78)#. إنها إنسانية مبنية على كونية العقل. وينبغي الاهتمام بما يقرب الرجال والنساء أكثر مما يفرق بينهم، "فالعقلانية الحقة تعترف بوحدة العقل الإنساني، تظهر بفعل أن مختلف لغاتنا إذا كانت معقلنة يمكنها دائما أن تترجم الواحدة من الأخرى"@(79)#. كما أننا ندين بعقلنا لتبادلاتنا مع أشباهنا، مادام أن الناس هم أساسا متساوون. والعقل هو الرباط الذي يوحد بينهم. فالوقف العقلاني يقوم في الرؤية المساواتية، والإنسانية تعترف بالأساس العقلاني، وتؤمن بالوحدة الإنسانية للنوع الإنساني في قلب مجتمع مفتوح. فأنتفون مثلا، انتقد التقسيم المسلم به بين الإغريق والبرابرة والسادة والعبيد، مناديا بالوحدة الإنسانية، "إغريق أو برابرة، إننا كلنا متساوون، كلنا نستنشق نفس الهواء"@(80)#. وقام سقراط بثورة أخلاقية بتعليمه مبادئ الهندسة لعبد لم يكن يعتبر في زمنه إلا حيوانا. ودعت المسيحية كل إنسان إلى حب قريبه محطمة بذلك الثنائية القديمة للصديق والعدو. وقام كانط بإغناء التقليد الذي يجعل من كل فرد موضع كرامة غير قابلة للتصرف، وجعل من العقل القاعدة الذهبية التي يجب أن تحكم تنظيم المجتمعات الإنسانية. فالعقل يشكل خميرة الوحدة الإنسانية، ولا يجعل بوبر من العقل وحده القاسم المشترك بين كل الناس، بل توجد بينهم أيضا قرابات بيولوجية واجتماعية، "حيث أن وراء الاختلافات والتباينات الجغرافية والحضارية والثقافية الوحدة البيولوجية للنوع الإنساني. فما هو مشترك بين الناس بغض النظر عن فروق العادات والمعتقدات والمؤسسات هو إنسانيتهم ذاتها، وقد عبرت فلسفة كانط بشحنتها الأنوارية عن هذا الجذر الإنساني المشترك بين مختلف الشعوب، حيث نصت في منظومتها الأخلاقية على الإنسان كغاية في ذاته"@(81)#. وما الأنوار بالنسبة لكانط إلا "خروج الإنسان من وصايته التي هو المسؤول عنها بنفسه (... ) من عدم قدرته على استخدام عقله دون توجيه من الغير (... ) لتكن تلك الشجاعة على استخدام عقلك الخاص، هذا هو شعار الأنوار"@(82)#. يبقى العقل إذن هو الخاصية الوحيدة التي يملكها جميع الناس، والذي يسمح لهم بالتواصل، والعمل جميعا دون الخضوع بالضرورة للنظام الإكراهي للبنيات أو الحاجات أو المصالح. فالإنسان ليس ترسا مجهولا متشيعا لقبيلة أو جماعة أو مجتمع، بل إنه قادر على التمييز والاختيار، وبهذا يمكن للإنسان أن يساهم في بناء مجتمع مفتوح. وهذا لكي نفهم جيدا المسافة التي تفصل مجتمعا تقليديا يتشبث بقاعدة مقدسة ثابتة لا تتغير، ويتعذر المس بها. ومجتمعا حديثا يكتفي بتزويد أفراده بالقيم والأطر التي تسمح لهم بأن ينظموا بأنفسهم مبادئ تعايشهم الاجتماعي بكل استقلالية وحرية. فالفلسفات التي تستند على الله أو على الطبيعة أو على التاريخ هي فلسفات اللامسؤولية. و"لن نجعل من أوامر سلطة مهما كانت عليا الأساس الأخير للأخلاق"@(83)#. خاصة وأنه من اللامعقول تماما الأمل في الحصول من مجموعة أعضاء المجتمع على إجماع مطلق ونهائي حول غايات أخيرة للتنظيم الاجتماعي، "ففي مجتمعنا، بالأحرى مجتمع مركب وحديث، ينبغي دائما الأخذ في الحساب حضور قيم ومصالح تتعارض بفعل وضعياتها البنيوية الخاصة"@(84)#.

يتأكد فكر بوبر من خلال ماسبق كفكر كوني كوسموبوليتيكي، يؤمن بالتبادل الثقافي، وبمبدأ وحدة الإنسانية مهما كانت بنياتها الظاهرة، أمما أو أعراقا أو حضارات، والتي ليست إلا أعراضا فيما وراءها يتطور الرجال والنساء الذين يملكون حقا متساويا في الكرامة، وهو لا يسعى إلى كونية مجردة تذيب جموع المجتمعات الإنسانية في قالب واحد. فإن كان التعدد يسمح بالتعبير الحر عن الشخصية، وتطوير الملكات الفردية، فإن اتحاد الدول في دولة كونية سيجرد الفردانية من كل معنى، ويذيب الفرد في الجمهور، لأن الإرادة الفردية هي العامل الأساسي في الواقع الاجتماعي. كما أنه لا يؤمن بنسبية دوغمائية تضمن باسم الاختلاف والتعدد والتسامح ممارسات بربرية، بل يؤمن بإغناء متبادل يمكنه أن يولد من مواجهة مختلف الثقافات على اعتبار أن النقاش والنقد يمكنهما أن يساهما في الانبثاق التدريجي لعالم جديد من التخمينات ومن القيم التي تشارك بدورها في الأنسنة العامة للمجتمعات بحثا عن عالم أفضل.

 

الـهـوامـش:

1- Karl Popper: A la recherche d’un monde meilleur, Anatolia, Editions du Rocher,2000, P: 182.

2- Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Poppet, Jean Baudouin, Presses universitaires de France, 1994, P154.

3- A la recherche d ‘un monde meilleur, P 182

4- A la recherche d ‘un monde meilleur, P 182

5- Karl Popper, Conjectures et Réfutations, Payot, 1985, P: 518

6- Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Popper, P: 124

7- Karl Poppet, le réalisme et la science, Tome 1, Hermann, Editeurs des sciences et des arts, 1990, P: 26

8- Jean Baudouin, La philosophie politique de Karl Popper, P: 159

9- le réalisme et la science, T. 1, P: 26

10- A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 183

11- Conjectures et Réfutations, P: 229

12- A la recherche d ‘un monde meilleur, P 183

13- Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Popper, P: 153-154

14- - Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Popper, P: 172

15- la philosophie politique de Karl Popper, P: 173

16- La société ouverte et ses ennemis, T. 1, Edition du seuil, 1979, P: 245

17- Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Popper, P: 158

18- Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Popper, P: 158

19- Karl Popper, La théorie quantique et le sclisme en physique, T. 3, Hermann, Editions des sciences et des Arts, 1996, P: 3.

20- Karl Popper, La connaissance objective, Flammarion – Aubier, 1991, P: 98

21- La connaissance objective, P: 102

22- A la recherche d ‘un monde meilleur, P 183

23- A la recherche d ‘un monde meilleur, P 184

24- A la recherche d ‘un monde meilleur, P 185

25-11- Conjectures et Réfutations, P: 522

26- A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 186

27- Karl Popper, Les deux problèmes fondamentalaux de la théorie de la connaissance, Hermann, Editions des sciences et des Arts, 1999, P: 11Citation de Newton marge 16.

28 - A la recherche d ‘un monde meilleur, P 189

29 - Conjectures et Réfutations, P: 275

30- علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر، 1985، ص: 131.

31 - A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 190

32 - A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 191

33 - Conjectures et Réfutations, P: 200-201

34 - Conjectures et Réfutations, P: 197

35 - Conjectures et Réfutations, P: 201

36 - Conjectures et Réfutations, P: 226

37 - Conjectures et Réfutations, P: 229

38 - La société ouverte et ses ennemis T. 1, P: 151

39 - Conjectures et Réfutations, P: 541

40 - Conjectures et Réfutations, P: 542

41 - Conjectures et Réfutations, P: 543-544

42 - Conjectures et Réfutations, P: 545

43 - Conjectures et Réfutations, P: 545

44 - Karl Popper, in la philosophie politique de Karl Popper, P: 34

45 - Conjectures et Réfutations, P: 545-546

46- Conjectures et Réfutations, P: 543

47- La connaissance objective, P: 59

48- La connaissance objective, 465

49- Conjectures et Réfutations, P: 546

50- A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 186

51- A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 188

52- A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 187

53- A la recherche d ‘un monde meilleur, P: 188

54- عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، مجاوزة الميتافيزيقيا، الطبعة الأولى، 1991، دار توبقال للنشر، ص: 95، هامش: 16.

55- Conjectures et Réfutations, P: 535

56- Conjectures et Réfutations, P: 536

57- Conjectures et Réfutations, P: 536-537

58- Karl Popper, La quête inachevée, Calmann-Lévy, 1981, P: 151

59- La société ouverte et ses ennemis T. 2, Editions des seuil 1979, P: 35-36

60- أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص89

61- أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص 97

62- أسس الفكر الفلسفي المعاصر، ص98

63- Conjectures et Réfutations, P: 536

64- La société ouverte et ses ennemis T. 2, P: 35

65- Conjectures et Réfutations, P: 275

66- la philosophie politique de Karl Popper, P: 43

67—محمد سبيلا: حقوق الإنسان والديموقراطية، كتاب الشهر 19، سلسلة شراع، 1997، ص: 85.

68- La société ouverte et ses ennemis T. 1, P: 142

69- حقوق الإنسان والديموقراطية، ص: 59

70- La société ouverte et ses ennemis T. 2, P: 160

71- La société ouverte et ses ennemis T. 1, P: 161

72- Conjectures et Réfutations, P: 526

73- Conjectures et Réfutations, P: 528

74- La société ouverte et ses ennemis T. 1, P: 91

75- la philosophie politique de Karl Popper, P: 25

76- La société ouverte et ses ennemis T. 2, P: 165

77- حقوق الإنسان والديموقراطية، ص: 47

78- حقوق الإنسان والديموقراطية، ص: 24

79- La société ouverte et ses ennemis T. 2, P: 161-162

80- La société ouverte et ses ennemis T. 1, P: 65

81- حقوق الإنسان والديموقراطية، ص: 61

82- Kant in Conjectures et Réfutations, P: 266

83- Conjectures et Réfutations, P: 273

84-Hans Albert in la philosophie politique de Karl Popper, P: 31-32

 

 


 

الإسلاموفوبيا

 

بقلم: آلان غريش

ترجمة وتعليق: إدريس هاني

 

 

 

ـ " سوف يمكنك الرب، إلهك من أممه. وسوف يسلط عليهم الخوف الشديد، ليهلكهم. وسيسلمك ملوكهم بين يديك، كي تمحو ذكرهم من تحت السماء، لا أحد يملك الوقوف في وجهك حتى تهلكهم. "!

هل توجد هذه الدعوة إلى الإبادة في القرآن؟ كلا! إنه مقتطف من العهد القديم. (7 ـ 23 ـ 24)

ـ " الرجل سيد المرأة (... ) يجب أن يحلق شعر المرأة إن هي لم ترتد الحجاب (... ). لا ينبغي للرجل أن يستر رأسه: حيث هو صورة عن مجد الرب؛ أما المرأة، فهي مجد الرجل. (... ) ليس الرجل مخلوقا لأجل المرأة، بل المرأة هي من خلق للرجل. هو ذا سبب وجوب وضع المرأة علامة تبعيتها على رأسها".

هل هذه التعاليم الموجهة إلى المرأة، والتي تفرض عليها ارتداء الحجاب والاستسلام للرجل، توجد في القرآن؟ لا! لقد عبر عنها القديس بولس في رسالته الأولى إلى الكورينثيين.

فهل يا ترى، تمثل هذه التعاليم السبب الحقيقي لقيام الحروب الصليبية أو الألف حرب وحرب التي أدمت ـ خلال قرون ـ العالم " اليهو ـ مسيحي"؟ هل هي من أسس لتهميش النساء في هذه المجتمعات ذاتها؟ هذا أمر مستحيل! فلماذا إذن يحاول بعض المثقفين والخبراء، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إقناعنا بكون القرآن هو مصدر الأمراض التي يعان منها العالم الإسلامي: تأملوا في تلك السور المنزلة على (محمد) قبل 14 قرن، كي تفهموا أخيرا سر هذا العالم الغرائبي. فابن وراق وجاي هيبل، يؤكدان على ذلك، قائلين: "إن الإسلام كما هو، ليس دينا منفتحا، وللاقتناع بذلك لا يحتاج اّلمرء سوى قراءة القرآن المحشو بكل صنوف التهديد واللعنات! (... ) فهل يا ترى تساءلتم عن سبب تخبط مليار مسلم كافة تحت وطأة نظم استبدادية يشبه بعضها البعض".

فهل يا ترى، تساءل كاتبنا: لماذا لم تتمكن افريقيا السوداء غير المسلمة من أن تنتزع نفسها من التخلف؟ ولماذا برمانيا والفلبين ـ غير المسلمتين ـ لم تجدا طريقا لانعتاقهما أفضل مما فعلت أندونيسيا وماليزيا؟ فعبر قرون من الزمن ظهرت أمبراطوريات إسلامية كثيرة ـ أموية، عباسية، عثمانية، صفوية، ماغولية.. ـ كانوا أشد تألقا وأكثر تقدما في زمانهم. فهل يا ترى، يعزى حقيقة هذا النجاح إلى القرآن؟

يجب أن يستعمل مفهوم الإسلام، هو الآخر، بحذر. " فحينما نتحدث عن الإسلام، فإننا نقصي بنحو أتوماتيكي، إلى حد ما، المكان والزمان"، كما لاحظ المفكر الأمريكي ـ الفلسطيني، إدوارد سعيد. إذ يقول مدققا: " يحدد مصطلح " إسلام "، نسبيا، علاقة ما بين ما يجري في العالم الإسلامي الذي يغطي مليار شخص ويشمل عشرات البلدان والمجتمعات والتقاليد واللغات، وأيضا، مؤكدا، عددا لا يحصى من الخبرات المختلفة. إنه بكل بساطة، من الخطأ محاولة اختزال كل هذا في شيء إسمه الإسلام"!

ـ لننس التاريخ ومنعطفاته..

تلك هي معرة جاك رولي ـ Jacques Rollet ـ أستاذ محاضر في جامعة روين Rouen، وتيولوجي كاثوليكي، إذ يقول: " لقد كان الإسلام دين غزو، منذ عهد محمد. لقد كان هذا الأخير نفسه محاربا عسكريا، غازيا، هذا في حين المسيح لم يقاتل بالسلاح. الفرق إذن كبير. فمنذ ظهوره في القرن السادس، وخلال زمن يسير ـ قرنان أو ثلاث ـ حقق الإسلام انتشارا مذهلا. وهذه النجاحات العسكرية هي من أكد لمسلمي القرون الوسطى، بأن ديانتهم هي الديانة الحقة. وسوف يحمل الجهاد لفترة طويلة ـ وهي ظاهرة تضخمت بفعل الحروب الصليبية ـ فكرة كون الإسلام لا يمكنه أن يحقق ذاته إلا إذا نجح عسكريا. وعليه، لا شيء ينبغي أن يقف في طريق الامتداد الإسلامي. إنه بمثابة القلب نفسه للقرآن. وهذا ما يجعلنا نفهم جيدا كيف أصبحت " الإسلامية " ـ Islamisme ـ أمرا ممكنا!".

إننا لم نستوعب جيدا كتبنا التاريخية، نحن الذين نعتقد ببساطة، بأن الحروب الصليبية أطلقتها البابوية. وبأن الاستعمار كان عملا " للأمم المتحضرة"، وبأن الحربين العالميتين وإبادة اليهود، كانت تدور على قارتنا الأوربية المجبولة على ذاك السلام " المسيحي " الأكثر بعدا عن العنف من الإسلام. وإذا كانت أعلى الدعوات في العالم الإسلامي قد أدانت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وإذا كان علماء ذووا التأثير الكبير والمقربين من الأوساط المسماة إسلامية، مثل الشيخ القرضاوي، كانوا قد نددوا بذلك، فإنهم، بلا شك، فعلوا ذلك، فقط، كي يخدعوننا، ويخفوا قدرهم الأسود.

من جهة أخرى، يحاسب جاك روليت هؤلاء الإسلامولوجيين الذين " يقللون من الفارق الجذري بين الإسلام والديمقراطية". ففي نظره، أن صامويل هنتنغتون، بكتابه "صدام الحضارات" كان قد وضع اليد على رؤية عالم مختلف ما بين المسيحية والإسلام، فثمة إذن، صدام كبير ما بين ثقافتين؛ إحداهما علمانية ديمقراطية، يمثلها الغرب، وأخرى لا ديمقراطية ولا علمانية يمثلها العالم الإسلامي. لننخرط إذن في حرب صليبية جديدة...

ينخرط ألكسندر ديل فاي هو الآخر، حسب "الفيكارو"، في هذه "الحلقة السحرية للخبراء". فلقد دعي للمشاركة في حلقة تلفزيونية منذ الحادي عشر من سبتمبر. ففي نظره، لا مجال للاكتراث للتعقيد (أف للتعقيد). فالعالم سهل التحليل: " إن مبدأ "رفض القوة الكافرة" يفسر (... ) معظم النزاعات التي تقوم بين المسلمين والكفار، في كاشمير والسودان وأرمينيا والشيشان، بل حتى في كوسوفو ومقدونيا، حيث أصبح المسلمون يشكلون الأغلبية".

ثمة من يستطيع تفنيد ذلك، كون الكوسوفيون، مثلهم مثل الجزائريين، علمانيين جدا. وبأن مطالبهم كانت وطنية. وهذا خطأ، إنهم مسلمون " بيولوجيا"؛ هذا يكفي! فبدفاعه عن الحروب التي شنها " سلوبودان ميلوزوفيتش " ضد المسلمين، والتي شنها الروس ضد الشيشانيين والتي شنتها الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وبترويجه لأطروحة غامضة حول التحالف القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية و" الإسلامية" ضد أوربا، لا يخفي ـ ألكسندر ديل فاي ـ آماله التي أوحت له بها الأزمة الراهنة: أن توقف واشنطن " حربها ضد أوربا الأورذودكسية (هكذا!)".

في زمن مبكر، منذ بدايات التسعينيات من القرن المنصرم، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كان بعض السياسيين والخبراء الأمريكيين قد بدؤوا البحث عن عدو جديد. " لقد أصبحت الأصولية الإسلامية تمثل فورا التهديد الرئيسي للسلم العالمي وللأمن. يمكننا أن نقرأ ذلك في نيويورك تايمز(... ) بأن هذا التهديد يشبه التهديد النازي والفاشي، خلال سنوات الثلاثين من القرن الماضي، أو يشبه الشيوعيين خلال الخمسينات من القرن العشرين". لقد حلت النازية بألمانيا ـ وهي القوة الأوربية الرئيسية ـ كما حلت الشيوعية بالاتحاد السوفياتي وبالصين. فكم يا ترى من "التقسيمات" التي ستنتظم في "الفاشية الخضراء"؟

إذا كان المسلمون في حالة ضعف، ويعيشون تحت سلطة نظم هي أقل تمثيلية ـ أغلبها مدعوم من الغرب ـ، فهل يا ترى هؤلاء المسلمون المجزؤون، هم على اهبة الانفجار؟ كما حدث قديما مع البرابرة؟

يعتمد المسلمون في دسائسهم الخادعة ضد الغرب، على ذلك الطابور الخامس ذي التأثير البالغ. أعني تأكيدا، المهاجرين، لا سيما أولئك الخونة. " كتب ألان جيرارد سلاما ـ أستاذ العلوم السياسية ـ يقول: إنه لمن الصعوبة بمكان عدم الربط بين الضربة التي رجت قبلة الرأسمالية العالمية وبين صلابة الحركات المضادة للعولمة، والحركات الاستقلالية والاتحادية الغالية وكافة المناهضين للدولة الديمقراطية الحرة(... ). حتى اللحظة، لا يشكل من أقصى اليسار (... ) سوى بضعة آلاف. يحتاج المرء إذن، أن يكون أعمى حتى يرفض أن يرى بأي قدر من السرعة يتحرك الشر. "

إن السماد المشترك لدى هذه الحركات ـ يزايد بيير أندري تاكييف ـ " ليس في المناهضة القديمة للإمبرالية على الطريقة العالم ـ ثالثية " و" المناهضة الشيطانية لأمريكا. بل ثمة أيضا، الانتقادات الراديكالية للعولمة النيوليبرالية", دون أن ننسى هذا التشبع "اليهوفوبي" الشديد، الذي يسم قطاعا مهما من اليسار وأقصى اليسار في الأقطار الغربية".

إن الإسلامية ومناهضة العولمة والمناهضة ضد ـ أمريكية ومعادات السامية، ما هي إلا مزيج من الاتهامات المعيبة والخلط. ففي أوج حرب الخليج، كان برنارد بيفوت قد زجر جاك بيرك ـ الإسلامولوجي الكبير ـ بسؤال: " لك ثلاثين ثانية حتى تقول للفرنسيين نعم أم لا: هل القرآن آلة حرب ضد الفرنسيين". لقد مر على ذلك، عقد من الزمان. وقد آن الأوان كي ننتهي من هذه الإجابات المختصرة!

 

 

تعليق: ادريس هاني

 

الإسلاموفوبيا والآخر؛ تشريح الغواية التراثوية والعنف القرائي:

 

يعد " آلان غريش" واحدا من ألمع الكتاب المحللين السياسيين الفرنسيين. ويشكل ـ كرئيس تحرير لجريدة لوموند ديبلوماتيك ـ هو وفريقه وزملؤه من كتاب لوموند ديبلومتيك، أمثال إينياسيو راموني أو إريك رولو.. ما يشبه جبهة إعلامية معارضة للسياسات التصنيفية الغربية. بل لعلهم شكلوا أقوى التيارات الأوربية المعارضة للسياسة الخارجية الأمريكية. وبذلك، يبرزون الوجه الآخر للغرب، وللمثقف المناضل، كما تجسد فكريا وسياسيا في مواقف وتحلايلات سارتر أو بورديو أو دولوز أو ديردا، أو بودريار.. وهو تعبير عن انتلجونسيا مناضلة لها امتداداتها التاريخية والجغرافية. إن تاريخها هو تاريخ مفهوم " المثقف" intellect نفسه، بما يرمز إليه اللفظ المذكور، من دلالة في الوعي الغربي، باعتبار المثقف، هو صانع الأفكار، وطليعة التنوير. وبما تشبع به هذا المفهوم من مواقف تاريخية، لعل في مقدمتها، مسألة " درايفوس" الشهيرة، التي كانت مناسبة لتألق أسماء "إنسية" Humanistes، لكتاب ألمعيين في القرن التاسع عشر، من أمثال أميل زولا ومارسيل بروست وآخرين..

إنه خط المثقف الملتزم كما جسدها سارتر، قبل أن يغشاه اليأس والملل وينسحب من حلبة النضال السياسي، أو المثقف العضوي بحسب اصطلاح المفكر الإيطالي غرامشي. وهي نخب لا يزال بها رمق. ولا تزال بإصرار ناذرتحمل صخرة سيزيف في لعبة الصعود الصعب، في جبال من التمركز الثقافي السياسي والعنصري. ومع ذلك فإن هذه الجبال في نظر هؤلاء الكادحين الثقافيين والسياسيين، تظل جبالا من جليد، حتما ستطلع عليها يوما، شمس النوبة التاريخية الجارفة!

و على قدر هذا الامتداد التاريخي الزاخر بالمواقف الشجاعة، كان لها امتداد في قلب الجغرافيا الغربية، بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية حتى أقصى أوربا، شرقا. ذات الرؤية والإحساس المشترك الذي قد يجمع بين نعوم تشومسكي من الولايات المتحدة، وبورديو أو غارودي أو بودريار أو ايناسيو راموني أو آلان غريش من فرنسا أو أمبرتو ايكو من ايطاليا..

*************************************************

إن ما يدعم قيمة هذه الشهادة حول موضوع ملتبس كـ " الإسلاموفوبيا "، هو كونها شهادة من كاتب يقف على مسافة موضوعية، تشهد على استقامة فكر ملتزم يجتهد في استبيان معطياته وسبر موضوعاته. إن التنصيف المزدوج لكاتب فرنسي المولد والثقافة، يهودي الأصل، قد يكون مرفوضا من قبل الطبقة المثقفة الفرنسية، وربما كان أمرا مستهجنا يعيد الذاكرة الفرنسية إلى محنة " درايفوس ". لكنها لا تمثل الأمر نفسه بالنسبة لقارئ عربي أو مسلم. تتحول شهادة آلان غريش، من شهادة كاتب أجنبي، لصالح الحقيقة، وتقويضا للتجديف ضد الإسلام، إلى شهادة تنتصر لموضوعية ونزاهة كاتب، لا ينتمي إلى ثقافتنا من جهة انتمائه الأوربي ولا إلى ديننا من جهة أصله اليهودي. ينتصر آلان غريش إلى نداء الضمير والعقل ويتحرر من أورباويته " europo ـ centrisme" ومن يهوديته.

و مع أن أغلب القراءات ومعظم التحاليل التي يقدمها هذا الفريق من الكتاب المناضلين في فرنسا، ونظراؤهم في بلاد أخرى، لا تتجاوز ـ أو ربما تسقط في الفخ ـ قراءة اليسار الإسرائيلي، متمثلا في كتلة " العمل "، حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، إلا أنه ومن باب الإنصاف، نجدها مقالات تعكس أجرأ ما يمكن صدوره عن غرب آخر مختلف عن الصورة النمطية المتحكمة في علاقة الإسلام والغرب، وعلى الأقل، مثل هكذا قراءات، من شأنها تقويض التنميط. من حيث أن مسؤولية ذلك متوقفة على قدر من المعاضدة بين العالمين، الغربي والإسلامي معا. كمؤشر على رهان ممكن لخلق جبهة عالمية في أفق ما دعى إليه مفكرون غربيون من ضرورة إعادة تأهيل حقول معرفية بكاملها ظواهرية جديدة على خلفية الحوار الفلسفي واللاهوتي الإسلامي ـ المسيحي، كما هو رهان الفيلسوف الاهوتي الالماني المعاصر، سايرفت، أو دعوة اللساني الإيطالي أمبرتو إيكو إلى انثربولوجيا بديلة.

ـ" الإسلاموفوبيا ".. لماذا؟

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: ما الذي تغير بالفعل؟ فبعد أن كان العالم الإسلامي ملاذا للهاربين من بطش الأمم وإرهاب الغزاة ودواوين التفتيش، أنى له أن يصبح إرهابا ويصبح معه العالم الإسلامي مفرخة للإرهابيين؟

هناك ـ بالتأكيد ـ خطاب إيديولوجي جديد ـ خالي من البراءة ـ يقوم على النسيان، واستبعاد التاريخ كحقل من حقول بناء الحقيقة، التاريخ الذي لا يزال شاهدا على أن الإسلام ظل أأمن دين لأهل الكتاب.. وشاهدا على أن حماية الكنائس والبيع وأعراض أهل الكتاب يهودا ومسيحيين، كانت جزءا من نظام الدولة الإسلامية؛ النظام الذي مكن فيلسوفا يهوديا كابن ميمون، أن يترقى فيه إلى مستوى وزير في الدولة، قبل قرون خلت!

إن المعركة ضد الإسلام، قائمة في الغرب ولها أنصارها. غير أنها معركة لا يتبناها الغرب كله. ولا أدل على ذلك من المقال أعلاه. ففي الغرب يوجد متطرفون أيضا كما يوجد متسامحون ودعات حوار. لم يكن بن لادن وحده من رأى أنها حربا صليبية، فثمة في الغرب وأوربا ـ أمثال ألكسندردي فاي ــ وفي أمريكا ـ وفي مقدمتهم بوش الابن ـ من يتمثل جوهر الخطاب. على أنه وسط هذا الصخب، يطفوا عند الاقتضاء، صوت الاعتدال لدى الطرفيين. وسوف يكون من التعسف أن نتحدث بلسان واحد عنهما. فليس "بوش" كـ " تشومسكي" وليس " برنار لويس " كـ " ماكسيم رودانسون"، وليس " برلسكوني" كـ " امبرتو ايكو"، وبلا شك ليس "خاتمي" كـ " الملا عمر"، ولا " القرضاوي " كـ " أبي سياف"

&الإسلاموفوبيا: الوظيفة السيكو ـ اجتماعية..

ظهر، مصطلح " فوبيا" phobie في حقل الدراسات التحليل ـ نفسية، ليحمل بذلك دلالة " الخوف " المرضي. وهو الخوف غير الاعتيادي الذي تثيره موضوعات حقيقية جديرة بإثارة الإحساس الطبيعي بالخوف. إنه مثال عن الخوف من الأماكن المفتوحة agrophobie أو الخوف من الأماكن الضيقة أو المحصورة claustrophie.. وعليه، فإن الخواف الإسلامي ـ الإسلاموفوبيا ـ التي دخلت حيز التداول في الكتابات الغربية، تجد أساسها فيما تحمل " فوبيا " من المنظور التحليل ـ نفسي أو علم النفس المرضي ما يجعلها مفهوما يؤدي وظيفة ـ سيكو ـ اجتماعية، غايتها، ايجاد جدار لا شعوري سميك ضد كل ما هو إسلامي، كنوع من التحضير النفسي الممنهج، لاستيعاب صدمة المفارقة السياسية والكيل بمكيالين، ولاستيعاب أي سلوك عدواني موجه ضد هذا المجال الحيوي، وقبوله بوصفه ردا للعدوان وليس هو العدوان. أو لنقل، بوصفه ـ في حالة تعذر الحجة ـ حربا استباقية على عدوان متوقع. ولما يصبح الحديث عن "التوقع" بهذه اليقينية العقائدية التي تبلغ أحيانا حد الهذيان، فهذا يستدعي إيجاد اضطراب في التوازن السيكولوجي للمجتمع مثل المجتمع الأمريكي، الذي تفيد الإحصائيات على أنه يواجه حالة إكتئاب قصوى. بل إن ذكاء روح التوقع يتطلب وجود سيكولوجيا ذهانية ذات إحساس كبير بالاضطهاد. ففي خضم هذا الكرنفال "الميديولوجي" المرافق لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجد البعض الموجة مهيئة من اجل تصعيد إيقاع التجديف ضد "الإسلام"، بوصفه المسؤول عما وقع. هكذا أصبح الإسلام دينا، يثير عند الإنسان الغربي خوفا مرضيا (إسلاموفوبيا). على أن الخوف متى ما كان مرضيا، أصبح إحساسا غير طبيعي تجاه الخارج. وهو إحساس يقوم على وعي خاطئ بالواقع. فوراء كل إحساس " فوبيائي" تكمن صورة مغلوطة ومحرفة. تتغدى على متخيل مشحون بالمبالغات وسيكولوجيا مضطربة. ولما كانت " الإسلاموفوبيا" من ناحية، هي شعور مغالط، يترتب عليه منظور تصوري تنميطي. ومن ناحية أخرى، تعبر عن اختلال وهشاشة سيكولوجية، فهو بما يؤديه من وظيفة إيديولوجية ـ وب اجتماعية ـ يكشف عن بعض مكونات " مرض" الخطاب السياسي. لقد كان من المتوقع أن تكون البلدان التي خضعت لوحشية السيطرة الاستعمارية وبطش الإرهاب الإمبريالي، والتي تعرضت لمسلسل من الإعاقة لنموها الطبيعي أو لنهب ثرواتها بموجب قوانين دولية ظالمة؛ البلدان المؤهلة الأكثر لهذا المركب الهذياني. لكن التساؤل لا يزال قائما: كيف أصبح الغالب الأقوى مريضا بالرهاب من مغلوبه؟! هل معنى ذلك، أن الاستعمار هو شر مسيطر على المستعمر ـ بكسر الميم ـ أيضا؟أم هل حقا صدق فرانز فانون وسارتر لما رأيا في دلك ضربا من انقلاب العنف والإضطراب إلى المستعمرـ بكسر الميم ـ نفسه؟! تبرز المفارقة تلك بصورتها الأفضع في مثال الولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمة التي يؤكد أحد كتابها على أنها " أمة في خطر". وهي كذلك بالفعل! فالمجتمع الأمريكي اليوم، وبعد أن أخذ جرعات زائدة من العنف، الذي مارسه حتى غدا حاجة يومية كما تدل عليه معدلات الجريمة المتصاعدة، إلى حد بات للعنف طقوسية تقدم بتقنية جمالية عالية. فالعنف هنا له ثقافة وورمزية احتفالية. وهو بعد هذا كله فن وصناعة لها سوق، وإيديولوجيا تسكن بنية عقل سياسي ظل محدده الرئيس " السيطرة"! أنتج هذا كله متكونا " سيكو ـ اجتماعيا" فصاميا مزدوج الإحساس، في جدل التناوب الهذياني ما بين الإحساس بالاضطهاد والرغبة في العدوان. فالحداثة التي تكشف عن فظاعة عنفها داخل مجتمع لا تمثل السياسة الاجتماعية فيه، سوى أنشودة بائسة، مستعارة من ذلك الإحساس الجمعي المنسي والمقموع في لجة هذا الجبروت الفرداني، تنتج هوامشها الرمزية في أشكال من الاغتراب الديني والطوائفي الذي تزخر به الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تمثل ردات فعل موضوعية وغيتوهات معزولة وب مهيئة لما سنسميه بالشحن " الفوبيولوجي" والكراهية. ما يجعل المجتمع الأمريكي، وهو المثال الأسطع عن الحداثة في حلمها وعنفها اللانهائيين، خاضعا لميكانيزم الاستجابة والتعويض، أي الانقياد المازوخي للعنف الحداثي المحايث، والتصريف التعويضي، لهدا القمع والحصر السيكو ـ اجتماعيين، في صورة عنف "بيني" داخلي، محتوى داخل معسكرات وسجون غدت أشبه ما تكون بجمهوريات أو غيتوهات لساكنة السفح الأمريكي القابع خلف الواجهة. الواجهة المنحوتة بعناية فائقة لعالم حر، لا يكتمل إحساسه بحريته إلا بضمان السيطرة على الآخر. على تلك الوحوش الشاردة خلف الحدود. وأيضا يتصرف ذاك العنف تعويضا، في نهج التدخل والغزو العسكريين. وهناك تحضر هوليود؛ لتشحن المتخيل الأمريكي ـ والعالمي ـ بنماذج من جمهوريات العنف ـ الأمريكي ـ الفاضلة. وهذا ليس افتئاتا. فلأول مرة نسمع عن نمط من الحروب النظيفة، وعن أسلحة نظيفة مهما بلغت قدرتها التدميرية ـ كالقنابل الذرية النظيفة ـ ويظل معيار هذه النظافة هو معدل الضحايا الأمريكيين. فجمهورية العنف الأمريكي الفاضلة تبشرنا بيوتوبيا" صفر ضحية أمريكي " وهو ب ما يكافئه تدمير كامل للآخر. إنها جمهورية فاضلة في محيط من الدم البشري المهدور. يخاف الأمريكيون من الحرب، لكنهم يمارسونها بطقوسية واستعراضية هوليودية، فالحل إذن تعديل في مفهوم الحرب وقيمها؟ إنها الحرب النظيفة، وعلى العالم أن يعتبرها كذلك حتى لو كان من جنس ضحاياها في ضوء هذا المنظور التصنيفي الدارويني للحرب، تأتي هوليود كي توفر "المسكن " الدائم لمرض مزمن. ولترفد هذا المتخيل، بمزيد من الشحن الوجداني لحماية نسق ذهني واجتماعي، بما من شأنه تحقيق إستمراريته. فالعنف كمياء الاستمرارية. فهل يا ترى يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تتصور مستقبلها دون وجود عدو افتراضي ودون وجود سيناريوهات نمطية لتغذية الإحساس بالخوف المرضي؟

&العنف كإسقاط برسم الإسلاموفوبيا

لعل أهم مقومات الإسلاموفوبيا هي تهمة "العنف" التي غدت صفة بنيوية لدين يقوم ـ على ـ ويدعو ـ إلى ـ العنف. فهو ـ إذن ـ على هذا الأساس يتمأزق خارج منطق الحداثة. ظلت هذه الصفة المزعومة ـ والتي قد تصادف بعض السلوك غير المسوغ والذي قد تكون له أسباب اجتماعية ـ لصيقة بإسلام، كان قد قدمه الإستشراق ـ بأغلب أدبياته وليس مطلقها ـ على أنه تهديد بنيوي للثقافة والعقل الغربيين. وعلى الرغم من أن تلك الأدبيات استندت إلى معطيات متناقضة وروجت لصور نمطية، نزلت بالإسلام منزلة شر الشرور، إلا أن المفارقة هنا لها ما يجبر كسر نقائضها ويشفع لمصداقيتها، طالما أنها تؤدي وظيفة إيديولوجية لهذا اللون من الإستشراق الوظيفي، باعتباره المسوغ الإيديولوجي للسيطرة على العقل والمجال الإسلاميين. فكل ما هو عربي، يمثل بشاعة أمة خارج منطق التاريخ والتعايش الإنسي. إن شجاعته ـ أي العربي ـ وفروسيته، وحشية، وكرمه العالي، غباء.. وجمالية شعره حاكية عن شبق مقموع.. وزهده كراهية للحياة.. وغيرته تفاهة ذكورية غالية.. وجغرافيته جذب.. وتاريخه مغالطة لا زمنية.. وعقله لامعقول.. وأحاسيسه فطرة طفولية.. ودينه هرطقة.. هذا الكائن متهم حتى في أصل وجوده في بيئة، لايقوم عليها العمران.. إنه كائن أدنى عرقيا وجغرافيا وتاريخيا وأنثروبولوجيا وأنطولوجيا.. ومع ذلك فهذا الكائن يربض فوق أكبر احتياطي للطاقة. إنها ـ خطيئة الرب؟ ـ أن يجعل هذه الثروة في يد هؤلاء المنبوذين.. والآن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تصحح خطيئة الرب؟!!

لقد وضعهم الإسلام في مأزق، ليس برسم الحداثة التاريخية الحتمية، بل بوصفه دينا عصيا على الترويض. بوصفه دينا لا تقتصر دعوته على تبليغ الإيمان فحسب، بل وأيضا إلى حماية الإيمان وحماية العقل والدفاع عن الكرامة والأوطان. ولأنه دين يقوم على فلسفة الحوار المفتوح على الإمكان، في حين ترفض الحداثة الحوار المفتوح على الإمكان، وتمارس في حقه النسيان. إن العنف الذي يقوم باسم "الإسلام" المغلق هو رد فعل لهذا العنف الذي يمارس باسم الحداثة المغلقة، والغائبون هم طلائع الحوار في العالمين!

لقد تعامل الاستشراق "الوظيفي" مع ظاهرة "الجهاد" بأسوأ قراءة. فالمعطيات التي أسسوا عليها هذا القلب الإيديولوجي، هي معطيات منتقاة بدقة عالية، وإذا كان الغربيون يميزون بين روح الحداثة والثقافة الغربية وبين الواقع التاريخي للممارسة الحداثية التي انتهت منطقيا إلى حركة استعمار مستساغ حداثيا ومبرر بمفاهيم حداثية، فإنهم يرفضون التمييز بين الإسلام كتعاليم، وبين بعض الممارسات التاريخية التي تفضحها تلك التعاليم نفسها.

لقد تضخمت تهمة الإسلام بالعنف إلى حد أصبحت وظيفة ذات وجهين: الأولى تتجه إلى تغذية المتخيل الغربي وتحريضه ـ حيث الكراهية هنا تتصرف كموقف حداثي ـ والثاني، يحجب الجينيالوجيا الطبيعية للعنف بناءا على منطق الاجتماع، وأيضا تحجب مناشئ العنف وآثاره وتداعياته الناجمة عن الوجه التاريخي المتوحش للحداثة الغربية. إن الأحكام التي تمأزق الإسلام خارج الدينامية الحداثية بوصفها حداثة التسامح والتعايش والتفاوض حول "المختلف فيه"، مؤشر على ضرب من الإسقاط تمارسه الحداثة الغربية بوصفها صانعة موضوعات العنف وأدواته، ذلك الجانب من العنف الذي فاق كل ضروب العنف وملامحه التي عرفها تاريخ النوع. أو حسب وليام بلوم، فإن الموازنة العسكرية السنوية تعادل ما مقداره 18000 دولار للساعة منذ ميلاد المسيح حتى الآن.

إنه العنف البنيوي للحداثة، العنف الذي يتصرف تعويضا في شكل سيطرة على الخارج، والتفاف وتآمر على إنماء الجنوب الفقير، الذي غدا فقره آلية حتمية لنسق عالمي مبني بناءا مائلا. فقر الجنوب هنا صمام أمان دون تأرجح نظام قائم على سياسة التتبيع التصنيفية. إذا كان ذلك كله يتم برسم الحداثة فهي إذن حداثة الغرب بما ينزع عنها عالميتها. إنها الحداثة كما تتنزل غربا، وليست الحداثة كما تتنزل في غيره. وإلا كيف سيكون العالم لو حلت به حداثة على هذا الطراز، وأي عنف سيتولد عن حداثات تحمل مركب السيطرة على الطريقة الغربية. والحال أن الغرب يرفض حتى هذا المقدار التنافسي للحداثة. فالغرب فريد لكنه غير عالمي، كما أكد هينتغتون.

&التراثوية ليس غواية بل رد فعل على حداثة فاوستية

تبدو إشكالية التراث هنا بوصفها إشكالية حداثة أدمنت العنف ـ العنف الناعم المؤسسي في الداخل والعنف الوحشي إزاء الخارج ـ فمتى وحيثما تفلتت من يدنا كيمياء الحداثة، إلا وبرز التراث كإشكالية. ليس لأن التراث يداهمنا أو يشغل فضاءات الحداثة الشاغرة، فنحن بشكل من الأشكال نعيش حداثتنا، ونتصرف ككيانات حديثة. إن مشكلة الكيان العربي الإسلامي، هي في كونه يعيش على هامش الحداثة مستباحا، ومعاقا بلا ضمانات. وليس في كونه يعيش باستقالة عن الحداثة. إنه كيان يعيش في مركز الحداثة حلما، وعلى هامشها واقعا. فهو من الناحية الجيوستراتيجية، يمثل رافد للعالم المتقدم بأهم ثروة لا تقوم الحداثة وتقنيتها بدونها؛ أعني الطاقة. بالإضافة إلى ثروات أخرى طبيعية وبشرية. ولكنه في الوقت ذاته يعيش على هامشها حيث لا يملك زمام التحكم أو الشراكة حتى. فهو يبدو، وكأنه يعيش الحداثة كحدث أجنبي وافد، وليس كمعطى ذاتي وتاريخي. إنها الحداثة القائمة بغيره ولغيره، لا لنفسه وبنفسه. إن مشكلة الحداثة حيثما برزت في الأفق، استدعت معها وبإلحاح مشكلة التراث. ومشكلة تراثنا نحن العرب والمسلمين، ليست مشكلة بسيطة، بل هي مركبة. فتراثنا يشكل بالنسبة إلينا تحديا خاصا. ذلك لأننا كنا أقوياء. والقوي لا يرضى ولا يستسلم للهزيمة. من هنا كان من المفترض أن تكون نظرة الناقد العربي إلى التراث، نظرة خجولة، لا نظرة استعلاء وبجاحة. بما أن الناقد العربي لا يملك اليوم أن يحاسب التراث بحداثة لم يساهم في إبداعها. فهو يحاكم التراث بحداثة غيره. هذا بينما يجد الناقد العربي الحصيف نفسه غير ملزم بالنظر إلى تراثه، نظرة عداء أو تهوين، وذلك لأن حداثتنا المقنعة، هي أولى أن تكون مثار سخرية من تراثنا الذي كان مكللا بالمفاخر والروائع. إذا كان الغرب يرى أن القوة والتحرر في حداثته لا في تراثه، بل إنه يرى تراثه مشهدا تراجيديا للتهميش والتخلف إزاء قوة الحضارة العربية والإسلامية حينئذ، فإننا نرى القوة في تراثنا والهزيمة في حداثتنا المستعارة والمعاقة. إن رجوع والتفات العربي والمسلم إلى تراثه، نزوع طبيعي ـ تعويضي ـ لقوة مفقودة ولحداثة معاقة. إنه تعويض لقوة الحاضر المفقودة بالقوة الرمزية الكامنة في تراثه. المشكلة هنا أن قوة الحداثة، قوة تتسم بالراهنية والواقعية بينما قوة التراث هي قوة دهنية خالصة. وهذا ما يعزز داء الفصام في الذات العربية والإسلامية باعتبارها تعيش القوة ذهنا وتواجه الضعف والإحباط واقعا. وبقدر ما يستفحل أمر التهميش في الواقع، يزداد فعل الهروب إلى مراتع الذاكرة، تخفيفا من وطأة الراهن وبؤس المعاش الأمر الذي يساهم في تنامي العنف والكراهية للحاضر، ويزيد من حدة هوس الاسترجاع. فالذين عجزوا عن بناء حداثتهم أو ضيعوها أو حيل دونهم وأسبابها، هم أمام خيارين: إما التنكر للتراث، بوصفه قوة غير قابلة للتحيين والتصريف في شكل حداثة معاشة. وهذا يقتضي تبني خيار الهروب إلى الأمام؛ إلى الحداثة الغربية بوصفها قطيعة مع التراث. وهي في الحقيقة قطيعة مع الثرات الغربي بما كان يمثله من بؤس وتخلف. إن الحداثة حيثما تشخصت، فهي تحمل إيجابات عن أزماتها وتحمل مركب مأزقها الما قبل ـ حداثي. وهذا ما يعني أن الحداثة المشخصة غربا، تجيب عن مشكلات ليس معظمها مما عانينا منه. إن القطيعة مع تراثنا هي قطيعة مع ذهنية الحداثة ذاتها، بما أنها ذهنية الإبداع والعمل والتطوير. ما يعني أن خيار الهروب هو خيار مناقض للحداثة أو لروح الحداثة. لان الحداثة لا تقطع مع الحداثة. والحال أن ثراثنا هو حداثة الماضي بامتياز. وأن روح الحداثة في ثراثنا مفقودة في هذا التمثل والاستدماج الممسرح لحداثة اختزلت في هياكل وطقوسيات وأكسسوارات. أما الخيار الثاني، فهو الهروب إلى الوراء؛ إلى التراث. وهو هروب إن نحن أحسنا دراسته فهو ليس هروبا في الماضي إلا بقدر ما هو هروب نحو القوة والانبعاث والحداثة المفقودة في الواقع. إنها هروب من الحداثة إلى الحداثة. أي الهروب من حداثة الآخر ـ التي من مقتضاها منع حق الحداثة بالنسبة للغير ـ إلى حداثة الذات المفقودة. أو لنقل: من الحداثة المستعارة برسم التبعية إلى الحداثة الحقيقية المكتسبة، تلك التي لا تزال خرائط ممزقة في الأذهان.

إن الذات العربية تعيش فصاماحادا بين زمنين مختلفين، ووضعين متناقضين. فهي تعيش الماضي والحاضر في آن، وتعيش التفوق والضعف معا. إن مشاهد الازدهار العربي الإسلامي التي يعكسها التراث، يعزز من استفحال هذا الفصام. لأن الذات العربية الهاربة إلى التراث، تسعى إلى استحضار هذا التراث ليكون التعويض الرمزي عن الحداثة. إنه يقبل حداثة الماضي. غير أنه يرفض زمنيتها بوصفها غير زمنيته. ولأن زمنية التراث هي عين وجوده، فإن التراثوي يجد نفسه ممزقا. إذ وجوده وهويته تحكمهما مفارقة علائقية قلقة. وقد يجد نفسه حينئذ مكرها بأن يقذف بهويته إلى وجود زمني محايث هو ليس وجوده بالتأكيد. أو يقذف بهويته إلى وجود زمني سابق، وهو أيضا ليس وجوده إلا من حيث هو ماضيه الوجودي، أي بما أنه يجمع بينهما تاريخ مشترك. وفي كلتا الحالتين، ثمة حالة من التمزق: الأول، تمزق في الهوية لكونها شرط الوجود بالذات لا بالغير. فهروب الهوية واستلابها في حداثة الآخر، وإن كان يشاركنا الوجود بالمحايثة، هو استلابها في حداثة الآخر، وإن كان يشاركنا الوجود بالمحايثة، هو استلاب وتمزق. وهروب الهوية إلى حداثة الأنا الماضية المستنفذة، هو استلاب في زمنية الوجود أي الزج بالهوية في زمنية غير زمنيتها، أي ما يؤدي إلى تمزقها التاريخي. ذلك لأن الاستلاب في الزمنية الغيرية، شأنه شان الاستلاب في الوجود الغيري بما أن الزمنية نفسها هي التعبير الآخر عن حركية الوجود. فالهوية مشروطة بزمنية الوجود الآني، وليس بزمنية الوجود المنصرم. فالهوية تبعا للوجود، صائرة متطورة. وهي وإن ظلت ثاوية منحفظة في صلب هذا الحراك، تصبح هوية ثابتة ومتحركة في آن واحد. وهاهنا يجدر بنا أن لا نتحدث عن الثابت والمتحول باعتبارالإثنينية المنفصلة، بل الواقع يؤكد على أن الهوية خاضعة لما يمكننا أن نسميه "الثابت ــ المتحول" هنا تظهر الحركة في الثبات والثبات في الحركة. إن التمزق المذكور بين وجودين، ذهني وواقعي، هو أسمى تعبير عن هذا التمأزق المزدوج، بين زمانين. إن عقدة التراث والماضي تنحل بانحلال عقدة الحداثة. وهذا معناه، أن الذات العربية والإسلامية مطالبة بالكف عن النظر إلى الماضي سوى بمثابته رأسمالا رمزيا لديمومة الطموح وتحيين الثقة بالذات, والإمساك بالروح وتجاوز الهياكل المستنفذة. كما هي مطالبة بالنظر إلى الحداثة كمعطى ذاتي حر وخلاق، وأيضا كمناورة مع الآخر وليس آستسلاما له برسم التبعية. لكن السؤال يظل قائما: من المسؤول عن هذا التمأزق؟

&حينما تصبح الإسلاموفوبيا، حاجبا للامعقول السياسي الأمريكي

تؤدي الوظيفة "الإسلاموفوبية " في الخطاب الأمريكي الراهن الحاجب الرئيسي للعبة الإنزياح في الملف المطلبي الأمريكي اللامعقول. سواء أتعلق الإنزياح، بما يتصل بحق الشعوب في تقرير مصيرها، كما يبدو من التطورات المتعلقة بالملف الفلسطيني أو القضية العراقية أو قضايا أخرى عالقة. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، المؤهل الأول للعب دورصانع التغيرات الجيو ـ ستراتيجية في منطقة بكاملها. ليس بوصفها الوارث الشرعي للإرث الإستعماري البريطاني فحسب، بل لأنها الدولة الغربية الوحيدة التي تمكنت من إبادة شعب بكامله. لتجعل منه في نهاية المطاف أسطورة في ذاكرة البؤساء، حيث لم تحتفظ إلا بطقوسياتهم كجزء من الفرجة التقليدية الأمريكية أو الإحتفاظ بأسماء قبائلهم لمزيد من أسطرة التسلح الأمريكي، كما تفيد توماهوك أو أباتشي، ليس بما ترمز إليه من شكيمة شعب مباد، بل تذكيرا للعالم بأن أقوى الممانعات لن ترد غزو الغرب أو غزو الشرق. وفي أهون الأحوال، حتى لا ننسى عصر الإبادة الأعظم.. فالتاريخ هنا يعيد نفسه بوقاحة.

إن الدعوة الأمريكية إلى تغيير النظم التربوية في العالم الإسلامي، تقع في سياق استهداف العقل العربي والإسلامي، ليس استهدافا بريئا لأجل الدفع به إلى مواقع التجدد والتحرر والإنعتاق من كثير من مواطن الخلل بل استهدافا إلى ترويض العقل االعربي والمسلم وتدجين ثقافته. وبلا شك فلن تؤدي إلى حداثته البتة. وقد تبدو المفارقة ها هنا بارزة في الخطاب الأمريكي، لا سيما ما ظهر من تصريحات الكاتب الامريكي المتصهين "فريدمان". فإذا كان النظام التربوي الأمريكي هو نفسه يشكو من ازمات وإختلالات بنيوية فكيف يصبح نظاما نموذجيا يرى الحق في الدعوة إلى تغيير النظم الأخرى بمنطق "الأمرية". إن النظام التربوي الأمريكي هو في مقدمة النظم التي ترسخ الكراهية والإحساس بالتفوق العرقي. بل يكفي أن يكون هذا في أصله خاضعا لمعادلة اجتماعية طبقية، ليصبح منشأ الكراهية. أما المحتوى الدارويني لهذا النظام، فهو قائم على فكرة التفوق، فإذا كان أصغر طالب في الوطن العربي والعالم الإسلامي يستطيع دونما عناء تحديد موقع أمريكا أو اليابان على الخريطة، فإن خريجين وفاعلين سياسيين كبار في الولايات المتحدة الأمريكية قد يجهلون حتى موقع أقرب البلاد الحليفة لهم، على هذه الخريطة. ومن ثمة، فلا غرابة أن يجيب جورج بوش الإبن على سائله عن " الطالبان " بأنها فرقة موسيقية. ولقد كشفت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بأن الدولة التي قامت سياستها الخارجية على أساس التدخل، يجهل أبنائها من يكون العرب أو الفلسطنيين أو أفغانستان... وهذا النسيان أو التجاهل في النظام التربوي الأمريكي هوأهم شرط في بروز حالة الكراهية. هذا ناهيك عن النظام التربوي الصهيوني الذي لا يزال يحتفظ ببؤر أسطورية لإنتاج الكراهية والتشجيع على التفوق وحق إبادة المختلف القومي واستحماره. فإذا كان الفلسطيني حتى في أحلك الظروف، يتعلم بأن اليهودي غير المحارب حرام دمه وماله، وهو من أهل الكتاب الذين في عنقه واجب حسن الجيرة والإختلاف إليه بالعيادة والنصرة والاحترام، فإن الصهيوني يعلم أبناءه في المدارس، بأن العربي أو مطلق "الغوييم" هم من صنف أدنى. وأن علة وجودهم فقط، أن يكونوا خداما لشعب الله المختار. وإلا، فقتلهم وقتل أبناءهم وتدمير بيوتهم وبقر بطون نسائهم، مما دلت عليه تعاليمهم "المقدسة". وقد يكون من حسن حظنا أن الأيديولوجية التصنيفية للبيولوجية الداروينية تخطئ نقاوة الدم اليهودي,طالما أننا نحن جميعا في الهوى سوا: فجميعنا ساميون..

&حينما تصبح أسلحة الدمار الشامل ذريعة لسياسات قذرة.

إذا كانت مسألة الدمار الشامل لوحدها عنصر رهاب في السيكولوجية الغربية والأمريكية. تحديدا، فكيف إذا انضاف إليها عنصر "الإسلاموفوبيا". هذا ما يفسر التصعيد الجديد ضد ما أطلق عليه بش الإبن "محور الشر". الذي ما بدأ يكشف عن أن أهم ضلع في هذا الثالوث اليوم، تمثله إيران. وهنا لايصلح أن يكون امتلاك الكيان الصهيوني لوسائل الدمار الشامل مثالا يبرر انتشاره. بل على الرغم من ذلك، فإن تعميم حذر امتلاك هذا السلاح، شامل للمنطقة برمتها. ولاشك أن للأسلاموفوبيا علاقة بهذا التركيز المكثف على الملف النووي الإيراني. فليس امتلاك الأسلحة هو صلب المشكلة، بل السؤال هو: من يحق له امتلاك هذا السلاح. إن وجود أسلحة دمارشامل لدى كيان صهيوني تقوم عقيدته السياسية والحربية على الإبادة والترحيل والكراهية، لايشكل خطرا ولامشكلة حقيقية للولايات الأمريكية. أما التبرير، فهو جاهز وبسيط: إنهم لم يوقعوا على اتفاقية الحذر، وليسوا أعضاءا في النادي النووي؟؟

قد يكون من مفارقات الخطاب السياسي لدولة الغطرسة، أنها هي الدولة الأولى التي صنعت هذا الجيل من أسلحة الدمار الشامل، وهي أول من جعله جزءا من العقيدة الحربية المعاصرة. بل هي أول من أقدم على استخدامه ضد النوع. الأمر الذي يؤكد أن نهج احتكار التقنية النووية واحتكار الإرهاب والخواف الذي تنتجه, لايزال هو الخلفية العقدية والسيكولوجية للخطاب الأمريكي. من هنا، يصبح لمفهوم "الإسلاموفوبيا" وظيفة "فوبيولوجية"

&الإسلاموفوبيا والمسألة اليهودية...

بقدر ماساهم الغرب في تقديم الإسلام بوصفه موضوعا"فوبيائيا"، كان ينحت المسألة اليهودية على خلفية تنوء بسيكولوجيا جماعية مثقلة بالنفاق، ليجعل منها استثناءا في جسم ديمقراطية تستنجد علنا بالإستبداد، متى ما تجاوزت الديمقراطية الغربية خطوطها الحمراء، والتي هي المسألة اليهودية. وإذا كانت الديمقراطية في نهاية المطاف، هي أن تقول أي شيء وتخضع أي شيء للنقاش, فإن الديمقراطية الغربية تنظر إلى المسألة اليهودية بوصفها "تابو" المجتمع الحديث. ما فائدة هذا الصمت وهذا الإستثناء الغامض. فقد يكون من المعقول أن تمثل المسألة اليهودية في الغرب حرجا، بل وخطرا... وتعرضك لقمع الدولة وإرهاب الجماعات. لقد ازداد دلال الصهيونية في الغرب، فمن يجرأ على الكلام؟ ومع ذلك لاأحد يشك في أنه في الغرب فقط، قامت الأسطورة الصهيونية وانبعثت من جديد. لقد قالها برنالد لويس ببجاحة واستهتار؛ بأن المحدد الرئيس للهوية في الشرق الأوسط هو "الدين ـ الإسلام" ومع أن المفارقة تبدو واضحة من مستشرق تخونه أدواته المعرفية حيثما لفحته أساطير صهيون، إذ لا معنى لحكم كذلك بالنسبة إلى مستشرق صهيوني، إذا كان الكيان الصهيوني يحدد المواطنة على أساس توارتي. على أن تهمة الاستثناء لاتصلح هنا تهمة بالضرورة. أفلا يعني هذا أن العالم الإسلامي نجح إلى حد ما ـ رغم كل الإكراهات ـ في أن يجعل من الإسلام في عنوانه الحضاري الحاضن للأقليات، أسمى رابطة إقليمية, على الأقل، جنبته السقوط في المآزق التصنيفية والعرقية. بل لعلها الرابطة التي أنقدت المسلمين من عقلية الغيتوهات. وقد يكون ذلك سببا رئيسا، جعل العرب والمسلمين في أروبا وأمريكا ـ رغم حضورهم وتواجدهم القديم ـ أعجز عن خلق "لوبي" إسلامي على الطريقة اليهودية. إن ذلك نابع من الروح الإندماجية التي يتحلى بها المسلم داخل المجتمع الإنساني. وإذا كان الغرب مستعدا لكي يستقبل ضحايا" الترنسفير"الفلسطيني, في جو من التشجيع المعلن والمبطن للهجرة اليهودية الغربية إلى الأراضي الفلسطينية, فهذا إنما يعني أن في عمق الإحساس الغربي، يكون الوجود الفلسطيني قابلا للتعايش والإندماج أكثر من الوجود اليهودي. ففي صلب هذه المفارقة، يتضح أن "الإسلاموفوبيا" كوظيفة سياسية، تحجب الإحساس الغربي بخطورة الغيتو اليهودي داخل الغرب. ومع ذلك لا أحد يدري إن كان برنار لويس، بعد إعلان شارون عن "الدولة اليهودية" في شرم الشيخ، سوف يلغي حكم الإستثناء ذاك. على أن المحدد للدولة الصهيونية، هي دعوة لطرد الغريب.

&من المسؤول عن المسألة اليهودية؟

لم يشهد العالم العربي والإسلامي قضية إسمها "المسألة اليهودية ". إنها إنتاج للاجتماع السياسي والديني الأوربي. وهي المسألة التي ستبلغ أوجها في التواطؤ النازي ـ الصهيوني، على المسألة اليهودية. وقد جاء وعد بلفور لكي يذكرنا بتلك الحقيقة التي تجعل من الوعد الأنغلو ـ صهيوني نفسه حلا لأوربا وليس حلا للمسألة اليهودية. إن وعد بلفور بتشكيل كيان قومي لليهود، هو مؤامرة أنغلو ـ صهيونية جديدة جوهرها أن لا مكان لليهود في أوربا بعد اليوم؟ أو بالأحرى هي إطار سياسي لتسويغ وشرعنة نوع من الترنفسير الذكي الذي تم بأشكال مختلفة، بالتضليل تارة وبالإغواء تارة أخرى، وتحت عنوان " العودة " إلى أرض الميعاد. وهكذا تصبح " أسطورة " الشرق أوسطية، الجديدة ـ الجنة الموعودة التي بشر بها بيريز وأعاد إخراجها الغرب السياسي المتواطئ ـ مفارقة في سجل سياسة الترنسفير الذكي والناعم. إن العبقرية اليهودية التي كثر عنها الحديث في أوربا، والولايات المتحدة الأمريكية إلى حد اعتبار الحضارة الغربية حضارة "يهو ـ مسيحية", العبقرية التي تبرر عادة بوصفها الطبيعة العبقرية للأقلي، أو تبرر بأنكى من ذلك، بصورة تصنيفية، بوصفها عبقرية شعب مختار، إن هذه العبقرية اللآفتة، لا يمكن بأي حال من الأحوال ـ أن يتخلى عنها الغرب ـ وهو المحترف في اقتناص العبقرية والعقول وكل أشكال النبوغ الفكري والعلمي ـ إلا إذا كان هناك ما يدعو عقلا براغماتيا غربيا، إلى أن يرى في الترنسفير والاستغناء عن العبقرية اليهودية فشلا غربيا في حل المسألة اليهودية، وعنوانا للعنصرية السياسية. هذا إذا لم نعتبر ذلك واقعا في إطار الإستراتيجية الانغلوساكسونية الرامية إلى توسيع حدود إمبراطوريتها، على إيقاع المناوبة التاريخية والسياسية في السيطرة على الشرق الأوسط ما بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الشرق الأوسط كامتداد حيوي للنفوذ "الأنغلو ـ أمريكي"، عبر الكيان الصهيوني. وهو كيان من شأنه أن يرعى الأمن والمصالح القومية الغربية، لاسيما الانغلو ـ أمريكية. وأيضا، ككيان مراقب لمسلسل النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذا المجال الحيوي الغني بالطاقة وبالإرث الحضاري والثقافي الواعد. وكمراقب للسقف الممكن لتنمية شرق أوسطية لا ينبغي أن يفلت زمامها باتجاه الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي. والحل إذن: شرق أوسطية يديرها عقل "صهيوني" بالوكالة. ليس بوصفه انشطارا وظيفيا لعقل يهو ـ مسيحي(Judeo-critien) يعاد استدماجه وتركيبه في صورة إلحاق للمنطقة وتتبيع سياسي، حيث القاعدة السوسيولوجية لهذا الكيان الصهيوني ترتبط بالثقافة الغربية. وهو ما يشكل مقدمة لاندماج المنطقة في العهد الشرق أوسطي، بوصفه عهدا "صهيونيا" منشطر سرعان ما يطلب استدماجه التاريخي، اليهو ـ مسيحي. لتصبح الخدعة واضحة للعيان، تذويب "يهو ـ مسيحي" غربي، لمنطقة الشرق الأوسط، لن تكون فلسطين فيه إلا مفتاحا لخارطة طريق طويلة الأمد:

شرق أوسط، نعى عليه بر نار لويس أن يكون الإسلام رابطة له. ليرهص إلى شرق أوسط يهو ـ مسيحي مندمج في حضارة الغرب (=بوصفها يهو ـ مسيحية). وقد يكون العرب والمسلمون في هذه اليوتوبيا، قطعانا لتشكيل أوسع قاعدة للشغيلة أو مستلبين في ملهيات مجتمع الاستهلاك ومنظومته المغلقة. فإلى أي حد يمكننا اعتبار الاسلاموفوبيا ملهية من ملهيات مجتمع الاستهلاك ومنظومته المغلقة. فإلى أي حد يمكننا اعتبار"الاسلاموفوبيا" تعويضا يخفي وقائع، لعلها الأشد خطورة على المجتمع الغربي.. وإلى أي حد يمكننا اعتبار الاسلاموفوبيا بديلا حاجبا"لليهوفوبيا".

&الاسلاموفوبيا والـ"نحن"

إذا كان للاستشراق، والإعلام المعادي الإسلامي في الغرب دورا كبيرا في خلق هذا الوهم المتنامي(=أي الاسلاموفوبيا)، فهل هذا يعني أننا نحن العرب والمسلمين، لا يوجد لنا رصيد من هذا التمأزق؟ لا مجال لتبرير الصورة الخاطئة والغالية التي يقدم بها الإسلام اليوم إلى العالم. لقد مضت قرون أليمة على عالمنا العربي والإسلامي، كان كل شيء مرفوض وقبيح، يتم باسم الإسلام.

فالتخلف والاستبداد والعنف والجهل.. كلها آفات وجدت من يبررها أو يحاكمها باسم الإسلام. وبينما ظل النظام التربوي في كثير من بلاد العالم العربي والإسلامي يشكو من الخلل، ومن مخاطر التصنيف والكراهية والطائفة، بما ينتجه من اختلالات اجتماعية وآثار سلبية على السلم المجتمعي، لم تتبلور الإرادة السياسية لمثل ذلك، حتى داهمتنا التحديات والإملاءات والاقتراحات الأجنبية. لتؤكد على أمر ظل مطلبا تاريخيا لطلائع الإصلاح والتنوير وعموم الشعب العربي والإسلامي. على أن القوى التي حمت معرات هذا النظام التربوي، هي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، التي حمت ودعمت الاستبداد والأمية ووجرائم الحرب وفساد النظم في بلاد كثيرة من العالم.

&نحو تأكيد حضور فاعل للعقل العربي والإسلامي

"لنكن أولا نكون"

وفي اعتقادي، أننا سنكون شاؤوا أم أبوا. لكن السؤال: كيف سنكون؟

ثمة مسلسل مما نسميه "العنف القرائي" الذي لم يغز أدبيات الاستشراق الوظيفي فحسب بل اجتاح العقل العربي نفسه محتويا إياه في أغبى مفارقة، لعقل أكد على فصامية ناذرة وعن انقسام أسطوري أشبه ما يكون بانقسام شفة الأرنب البري في الأسطورة الهندية. هذا الإنشرام الذي أمكن شتراوس من مقاربته لموقعية هذا الإنشرام الأسطوري الرمزي في متخيل قد يمتد من مثنوية الخير والشر المتاخمين أو المندمجين في المجال السوسيو ـ ثقافي الوحشي وحتى لحظتنا الحداثية الفاوستية الموسومة بالإنشطار المذكور، وبامتياز. الإنشرام هنا، ليس تجادلا مثنويا على غرار"أهورا مازدا وأهرمن" الثنويين, بل الأمر هنا له علاقة بعقل "مستقيل " لكنه يملك أن يحاكم نفسه، بوصفه عقلا في أزمة.

إن عنفا "قرائيا" كهذا، يهدف تحقيق الإبادة الرمزية لكل ما هو (من وإلى) الكائن العربي. إذا كان العنف القرائي ينزع عن العربي عقله، ليستبدله بعقل يوناني أرسطي، تغييرا للثقافة العربية وتمزيقا للخريطة الجغرو ـ سياسية للعالم العربي... هو نوع من الإبادة الرمزية، والاستبعاد المعنوي الذي لا يخلو من حالات التدمير المادي عند الاقتضاء، فما علينا إلا أن نؤكد حينئذ على عقلنا ووجودنا، إذ لا وجود من دون حضور عقل ولا عقل من دون وجود. إن التغيير المطلوب إنجازه في مجال الفكر العربي والإسلامي وأحوال العرب في كل الحقول المتصلة بالعمران، هو اللحظة الحاسمة في تحقيق نهضتنا المشروعة، نهضة هي وحدها من يملك إعادة بناء صورتنا في أعين العالم. فالإسلاموفوبيا هي أيضا ـ حتى لا ننسى ـ ضريبة هزالنا في عالم لا يؤمن ولا ينصت إلا إلى درس القوة والتفوق.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة