تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإسلام والمدنية:تقدم وتراجع فكرة المدنية في مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر

زكي الميلاد

[1]

 

- 1 –

فكرة المدنية.. وأزمنة التقدم

عند النظر في فكرة المدنية وعلاقتها بالإسلام والفكر الإسلامي في المجال العربي، من الممكن القول: إن هذه الفكرة قد تبلورت وتحددت ونضجت خلال الفترة ما بين منتصف القرن التاسع عشر وعشرينات القرن العشرين، وهي الفترة التي يصفها الدارسون العرب المعاصرون بعصر النهضة، أو بمرحلة الفكر الإسلامي الحديث.

ولو بحثنا عن النصوص والمواقف والكتابات التي أشارت إلى هذه الفكرة لوجدنا أنها تنتمي كمًّا وكيفاً إلى تلك الفترة المحددة، وهناك كانت البدايات الفعلية التي تؤرخ لهذه الفكرة، ومنها أخذت طريقها في التطور والتراكم الممتد والمتعاقب زمناً وتاريخاً.

وحين تتبع الدكتور نصر محمد عارف بدايات وسير مفهوم التمدن بعد التعرف عليه في النطاق العربي، وجد أن الفهم الذي تحدد حول هذا المفهوم استمر طوال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين، وظلت اللفظة العربية المقابلة له هي المدنية[2].

وحين أراد الدكتور فهمي جدعان تحديد متى ظهرت إشكالية التمدن في المجال الفكري العربي، فإنه حددها في نطاق تلك الفترة، وحسب قوله: «إن الهجمة الغربية على الإسلام من حيث هو تمدن، أو من حيث هي ديانة مضادة للتمدن، قد شحنت الجو الفكري الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بحمى الجدل الإسلامي - الغربي، أو الإسلامي - المسيحي، لما أضافه النقاد الغربيون من أمثال رينان وكوزان وكرومر وهانوتو من القول: إن المسيحية هي المولدة الحقيقية للتمدن، وأن الإسلام مضاد له لا يتفق معه»[3].

وإذا تأملنا النصوص والمواقف والكتابات التي تنتمي إلى تلك الفترة، يمكن القول: إن فكرة المدنية وعلاقتها بالدين والفكر الإسلامي قد تحددت في ثلاثة أزمنة أساسية، شهدت فيها هذه الفكرة تطورات متعاقبة، ومسارات واتجاهات متغيرة ومتبدلة، متأثرة بما كانت تفرضه الوقائع من مقتضيات ومنافع موضوعية، أو من جدليات وإشكاليات فكرية.

وفي هذه الأزمنة الثلاثة ارتبطت فكرة المدنية بنماذج من الأشخاص المعروفين والمؤثرين، وبنمط من الكتابات اللافتة والمميزة، وبنسق من الأفكار اللامعة والجذابة.

ففي الزمن الأول ارتبطت هذه الفكرة، من جهة الأشخاص برجلين معروفين هما الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873م)، والوزير خير الدين التونسي (1822 ـ 1889م)، ومن جهة الكتابات ارتبطت بكتابين هما كتاب (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) للطهطاوي الصادر سنة 1869م، وكتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) للتونسي الصادر سنة 1867م، ومن جهة الأفكار تحددت في التأكيد على أن الشرع الإسلامي لا يمنع ولا يقف عقبة أمام الاقتباس والاستفادة من منجزات المدنيات الأخرى، في إطار ما أطلق عليه طهطاوي بالمنافع العمومية، أو في إطار ما أطلق عليه التونسي بالتنظيمات الدنيوية.

وفي الزمن الثاني، ارتبطت فكرة المدنية، من جهة الأشخاص بشكل أساسي بالشيخ محمد عبده (1849 ـ 1905م)، ومن جهة الكتابات بكتابه اللامع (الإسلام دين العلم والمدنية)، ومن جهة الأفكار تحددت في التأكيد على نفي التعارض بين الدين والمدنية.

وفي الزمن الثالث، ارتبطت هذه الفكر، من جهة الأشخاص ببعض المتأثرين بالشيخ محمد عبده مثل محمد فريد وجدي (1875 ـ 1954م) في مصر، والشيخ مصطفى الغلاييني (1886 ـ 1945م) في لبنان، ومن جهة الكتابات اتصلت بكتاب (المدنية والإسلام) لمحمد فريد وجدي الصادر سنة 1898م، وكتاب (الإسلام روح المدنية) لمصطفى الغلاييني الصادر سنة 1908م، ومن جهة الأفكار تحددت في التأكيد على التلاقي بين الدين والمدنية، وأن مصير تطور المدنية هو الالتقاء بالإسلام بوصفه يمثل ذروة المدنية.

وتتصل بالزمن الثالث أيضاً كتابات أخرى، مثل كتاب (بيان في التمدن وأسباب العمران) للكاتب السوري رفيق العظم الصادر سنة 1877م، وكتاب (مدنية الإسلام.. روح التمدن) للشيخ العراقي أحمد الشاهرودي الصادر سنة 1346هـ، سنة 1925م تقريباً.

- 2 –

الزمن الأول: الدين والاقتباس من المدنيات الأخرى

في كتابه (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) أشار الطهطاوي إلى نص بحاجة إلى التوقف عنده، لكونه يساعد على الاقتراب من مفهوم التمدن، ويسهل تقبله في المجال الفكري الإسلامي.

في هذا النص حاول الطهطاوي تفكيك مفهوم التمدن، وتقسيمه إلى أصلين معنوي ومادي، وحسب قوله: إن «للتمدن أصلين: معنوي، وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، ويعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التي تسعى باسم دينها وجنسها للتميز عن غيرها. والقسم الثاني تمدن مادي، وهو التقدم في المنافع العمومية»[4].

ويكشف هذا النص عن مستوى النضج الذي وصل إليه الطهطاوي في تكوين المعرفة بمفهوم التمدن، ويفهم من هذا التقسيم أن الطهطاوي كان بصدد تحرير وتنقيح هذا المفهوم، وذلك بالإشارة إلى ثلاثة أمور متلازمة، هي:

أولاً: ضرورة عدم الخلط بين الأصل المعنوي والأصل المادي في النظر لمفهوم التمدن، ورفع اللبس الناشئ من جرَّاء ذلك.

ثانياً: التمايز بين المجالين لتحديد ما يُقتبس من الغير وما لا يقتبس، فما يتصل بالأصل المعنوي لا يمكن أن يقتبس من الغير لصلته بالدين والشريعة، وما يتصل بالأصل المادي يمكن أن يقتبس من الغير لصلته بالمنافع العمومية.

ثالثاً: أن لا خشية على الأصل المعنوي للأمة، من اقتباس الأصل المادي للتمدن من الأغيار.

والغاية من تفكيك هذا المفهوم، أن الطهطاوي وجد ضرورة الاقتباس من التمدن الذي وصلت إليه أوروبا في ميادين العلوم والصناعات، وبوصفه شيخاً أزهريًّا وينتمي إلى المؤسسة الدينية، كان على دراية بما يعترض هذا الموقف من حساسيات وإشكاليات، حاول تبديدها، ورفع ما يحيط بها من هواجس ومخاوف نفسية وذهنية.

ومن الواضح أن الذي قاد الطهطاوي إلى هذا الموقف، هي الفرصة التي اتيحت له من الاطلاع عن قرب على المدنية الأوروبية، وفي أحد أكثر نماذجها ازدهاراً وهي فرنسا، حين أمضى فيها خمس سنوات (1826 ـ 1831م)، ملتحقاً بأول بعثة علمية مصرية، مكلَّفاً بدور التوجيه الديني، رجع منها بمعرفة واسعة وراسخة، كشف عنها كتابه الشهير (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الصادر سنة 1834م، حيث جمع ودوَّن فيه مشاهداته وانطباعاته عن الحياة العامة هناك، عملاً بتوصية أستاذه الشيخ حسن العطار (1766 ـ 1835م)، الذي أوصاه بأن يسجل كل ما يرى ويسمع ويخبر. وهو الكتاب الذي اعتبره الدكتور محمد عمارة أنه يمثل أول نافذة أطل منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية الحديثة.

وبهذه التجربة يكون الطهطاوي، في نظر الدكتور فهمي جدعان قد مثَّل حلقة الاتصال بين مدنية الإسلام ومدنية الغرب، ووعى ما بين هاتين المدنيتين من مفارقات في الأحوال[5].

وهذا الذي دفع الطهطاوي وبحماس كبير إلى ضرورة الاقتباس من تجربة التمدن الأوروبية، والتي حددها في نطاق ما أسماه بالمنافع العمومية، التسمية التي بقيت إلى اليوم ترمز وتشير إليه، وتُعرف به وبأدبه وخطابه.

وهي من التسميات التي تمسك بها الطهطاوي، ولفت النظر إليها، حين حاول ضبطها وتحديدها بقوله: «اعلم أن ما عبرنا عنه هنا بالمنافع العمومية يقال له في اللغة الفرنساوية اندوستريا، يعني التقدم في البراعة والمهارة، ويعرف بأنه فن به يستولي الإنسان على المادة الأولية التي خلقها الله تعالى لأجله، مما لا يمكن أن ينتفع بها على صورتها الأولية، فيجهزها بهيئات جديدة يستدعيها الانتفاع وتدعو إليها الحاجة، كتشغيل الصوف والقطن للباس وكبيعهما.

فبهذا المعنى يقابل الاندوستريا وتكون عبارة عن تقديم التجارة والصناعة، وتطلق بمعنى آخر أعم من الأول فتعرف بأنها فن الأعمال والحركات المساعدة على تكثير الغنى والثروة، وتحصيل السعادة البشرية، فتعم التشغيلات الثلاثة الزراعية والتجارية والصناعية وتقديمها، فتكون مجموع فضائل المنافع العمومية وكثرة التصرف والتوسيع في دائرتها»[6].

وحتى لا يعترض معترض بالقول: إن تحصيل هذه المنافع العمومية، التي هي الأصل المادي للتمدن، ستكون سبباً للتجرد والانقطاع عن فضائل السلف، يجيب الطهطاوي بالقول: «لا ينبغي لأبناء الزمان أن يعتقدوا أن زمن الخلف تجرد عن فضائل السلف، وأنه لا ينصلح الزمان إذ صار عرضة للتلف، فهذا من قبيل البهتان. فالفساد لاعتقاد ذلك لا فساد الزمان، كما قال الشاعر:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو في الزمان بغير عيب

ولو نطق الزمان بنا هجانا

 

وإنما حصول مثل هذه الأوهام السوفسطائية، ناشئ من فهم كلام العلماء الراسخين على خلاف المعنى المقصود منه، وأخذه على ظاهره، فليس كل مبتدع مذموماً بل أكثره مستحسن على الخصوص والعموم، فإن الله سبحانه وتعالى جرت عادته بطي الأشياء في خزائن الأسرار، ليتشبث النوع البشري بعقله وفكره، ويخرجها من حيز الخفاء إلى حيز الظهور، حتى تبلغ مبلغ الانتشار والاشتهار، فمخترعات هذه الأعصر المتلقاة عند الرعايا والملوك بالقبول، كلها من أشرف ثمرات العقول، يرثها على التعاقب الآخرُ عن الأول، ويبرزها في قالب أكمل من السابق وأفضل، فهي نفع صرف لرفاهية العباد وعمارة البلاد»[7].

وبهذا الموقف يكون الطهطاوي قد وثّق علاقة الفكر الإسلامي الحديث بمفهوم المدنية، وشكّل محطة أساسية في دراسة تاريخ تطور علاقة الفكر الإسلامي الحديث بهذا المفهوم.

خير الدين التونسي

يتصل بهذا المنحى ويتناغم معه موقف الوزير خير الدين التونسي الذي شرحه في كتابه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، ويعدّ هذا الكتاب أحد أهم المؤلفات التي شرحت في وقته ما وصل إليه التمدن الأوروبي من تفوق وتوسع، يكاد سيله يجرف ما حوله من شدة تدفقه وتمدده، الوضع الذي خشي منه التونسي على الأمة الإسلامية من الغرق حسب وصفه، إذا لم تتنبه إلى ضرورة الاقتباس منه في مجال التنظيمات الدنيوية.

وأشار التونسي إلى ذلك، في نص استوقف انتباه الدارسين لطبيعة تصويره للتمدن الأوروبي آنذاك، وحسب قوله: «إن التمدن الأورباوي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق»[8].

وتوقف الدكتور فهمي جدعان كثيراً أمام هذا النص، ووجد أنه يضعنا حسب رأيه «وجهاً لوجه أمام فهم جديد للتمدن والحضارة، فهمٍ يقطع صلتنا تماماً بما ألمع إليه ابن خلدون من رابطة جوهرية بين الحضارة ونهاية العمران، ويقر في أذهاننا أن التمدن قوة متنامية مطردة التوسع والسيطرة والغلبة والعمران والمعارف لا تحمل بالضرورة في طياتها بذور فنائها، ولا يملك الضعيف بإزائها إلا الانحناء والرضوخ، أو طلبها طلباً حثيثاً باعتبارها وسيلة للنجاة من الغرق»[9].

وحين أوضح التونسي الغاية من كتابه، حدد هذه الغاية في أمرين مترابطين، ينتهيان إلى مقصد واحد، في الأمر الأول كان ناظراً إلى أسباب التمدن، وضرورة التماس الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية وتنمية أسباب تمدنها، ومخاطباً به رجال السياسة والعلم، ومنبهاً له بدافع الإغراء، ونص كلامه «أحدهما إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم، بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية وتنمية أسباب تمدنها بمثل توسيع دوائر العلوم والعرفان، وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة، وترويج سائر الصناعات، ونفي أسباب البطالة، وأساس جميع ذلك حسن الإمارة، المتولد منه الأمن، المتولد منه الأمل، المتولد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأورباوية بالعيان وليس بعده بيان»[10].

وفي الأمر الثاني كان التونسي ناظراً إلى الشرع، وضرورة عدم التمادي في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة للشرع، ومخاطباً به جمهور المسلمين، ومنبهاً له بدافع التحذير، ونص كلامه «ثانيهما تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين، عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر، حتى أنهم يشددون الإنكار على من يستحسن شيئاً منها»[11].

وهذا الموقف يضع كتاب التونسي في صلب تطور العلاقة بين الإسلام والمدنية، ويشرح كيف واجه الفكر الإسلامي آنذاك إشكالية التمدن، وتباين اتجاهات النظر حول هذه الإشكالية بين رجال السياسة والعلم وجمهور المسلمين، الذين خاطبهم التونسي، لافتاً النظر إلى موقف أولئك الذين مانعوا وهجروا الاقتباس من غير المسلمين، وساعياً لإصلاح ومعالجة هذا الموقف، بالتنبيه على أن الاقتباس من التمدن الأوروبي إنما يتحدد في إطار ما أطلق عليه بالتنظيمات الدنيوية، قاصداً من هذه التسمية أن الاقتباسات هذه لها علاقة بالمجال الدنيوي الذي لا يؤثر في المجال الديني.

ويشابه هذا الموقف من التونسي ما أشار إليه الطهطاوي من قبل حين قسّم التمدن إلى أصلين معنوي ومادي، معتبراً أن التمدن المادي الذي يدعو إلى تحصيله من التمدن الأوروبي، إنما يتصل بالمنافع العمومية، الذي لا يؤثر في الأصل المعنوي لتمدن الأمة.

وفي إطار التنظيمات الدنيوية يرى التونسي «أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقاً، ولنصوص شريعتنا مساعداً وموافقاً، عسى أن نسترجع منه ما أُخذ من أيدينا، ونخرج باستعماله من ورطات التفريط الموجود فينا»[12].

وتمسكاً بموقفه دافع التونسي عن فكرة التنظيمات، مناقشاً مزاعم المعترضين على هذه الفكرة، بقـوله: «وينبـغي ألَّا يلتفت أحد إلى مقال بعض المجازفين أن تلك التنظيمات لا تناسب حال الأمة الإسلامية لشُبهٍ ترتد إلى مزاعم: أن الشريعة منافية لها، وأنها من وضع الشيء في غير محله لعدم قابلية الأمة لتمدناتها، وأنها تفضي غالباً إلى إضاعة الحقوق بما تقتضيه من التطويل في فصل النوازل، وأنها تستدعي المزيد من الضرائب بما تستلزمه من كثرة الوظائف لإدارتها المتنوعة.

إن أول هذه الشبه مردود لأنه إذا ثبت أن الشريعة تقتضي التنظيمات وهو أمر ثابت، فإنه يسهل بعد ذلك تبديل كل إجراء مخالف للشريعة يمكن أن ينطوي عليه تنظيم ما.

أما الشبهة الثانية فمجحفة في حق الإسلام والمسلمين لأنه قد ثبت لدينا ولدى غيرنا من المنصفين، رجاحة عقول أواسط عامة أمتنا على عقول غيرها من الأمم، ورقي التمدن الإسلامي السالف، وقدرة المسلمين على أن يكونوا أسرع من غيرهم في مضمار التمدن. وذلك أن الحرية والهمة الإنسانية اللتين هما منشأ كل صنع غريب، غريزتان في أهل الإسلام مستمدتان مما تكسبه شريعتهم من فنون التهذيب»[13].

من هنا يتكشف لنا مدى التلاقي الكبير بين الطهطاوي والتونسي في موقفهما من مسألة العلاقة بين الدين والمدنية، ومن جهة التأكيد على أن الشرع لا يمنع من تحصيل واقتباس أسباب التمدن من الأمم المتمدنة، مثل الممالك الأوروبية في إطار المنافع العمومية، والتنظيمات الدنيوية.

إلى جانب هذا التلاقي، هناك بعض المفارقات أشار إليها بعض الباحثين المعاصرين، مثل ألبرت حوراني الذي اعتبر أن الطهطاوي جعل من الأمة القومية محور تفكيره الخاص، في حين جعل التونسي الأمة الإسلامية هي محور تفكيره، وبذلك أصبح التونسي في نظر حوراني بعيداً عن روح القومية الحديثة التي تعتبر كل أمة فريدة بحدِّ ذاتها[14].

وأشار إلى هذه المفارقة كذلك، علي المحافظة في كتابه (الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة).

ومن هذه المفارقات، ما أشار إليه فهمي جدعان الذي اعتبر أن موقف التونسي كان أكثر نضجاً من موقف الطهطاوي، وأقرب إلى المحيط العربي الإسلامي الذي تمثله ابن خلدون، وأكثر عزماً إزاء سيطرة الثقافة الأجنبية واعتباراتها الفلسفية والأخلاقية[15].

هذا عن الزمن الأول وكيف تبلورت وتحددت فيه صورة العلاقة بين الإسلام والمدنية، وكيف واجه الفكر الإسلامي الحديث إشكالية التمدن.

- 3 –

الزمن الثاني.. نفي التعارض بين الدين والمدنية

في هذا الطور تغيرت طبيعة إشكالية العلاقة بين الدين والمدنية، وتحددت هذه الإشكالية في اتجاهين متصلين، هما:

الاتجاه الأول: يرى عدم التقاء الدين والمدنية وتنافرهما، وأثار هذه الإشكالية بعض المفكرين والسياسيين الأوروبيين آنذاك مثل الإنجليزي كرومر، والفرنسي هانوتو وغيرهما، الذين تحدثوا ونشروا كتابات ومقالات تشير إلى أن الدين يمثل عقبة في طريق التحاق المجتمعات الإسلامية بالمدنية.

الاتجاه الثاني: يرى أن طريق التمدن هو في محاكاة الأوروبيين، وأثار هذه الإشكالية بعض الكتاب والمثقفين من مصر وسورية ولبنان الذين نشروا كتابات ومقالات في هذا المنحى.

وانبرى لمواجهة هذه الإشكالية المزدوجة الشيخ محمد عبده، وبالذات بعد عودته من منفاه إلى مصر سنة 1888م، وهي الفترة التي أظهر فيها الشيخ محمد عبده شخصيته المستقلة عن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، وتحددت فيها اتجاهاته وخياراته الفكرية والإصلاحية الثابتة والنهائية.

وفي هذه الفترة كذلك، تجلت بصورة أكبر مسألة الدين والمدنية في تفكير وخطاب الشيخ عبده، واستحوذت على اهتمامه أكثر من أي وقت مضى، وأخذ يعرف بها عند الباحثين، الذين بدورهم توقفوا عندها باهتمام كاشفين عنها وشارحين لها.

وفي هذا الشأن يرى ألبرت حوراني، أحد المؤرخين لعصر النهضة في المجال العربي، أن تفكير محمد عبده انطوى -حسب قوله- «على توتر دائم بين أمرين، لا يمكن فهم أحدهما فهماً تاماً بالاستناد إلى الآخر، لكن لكل منهما مطلباً خاصًّا به لا مفر منه، الإسلام الذي يذهب إلى أنه يعبر عن مشيئة الله في باب قواعد سلوك الإنسان في المجتمع، وحركة المدنية الحديثة التي لا مرد لها، المنطلقة من أوروبا، والآخذة الآن في الانتشار عالميًّا، والتي تفرض على الإنسان بطبيعة مؤسساتها تصرفاً معيناً. وكان هدف محمد عبده أن يبرهن، بشرحه ما هو الإسلام الحقيقي، أن المطلبين غير متناقضين. وقد أراد أن يثبت ذلك لا مبدئيًّا فحسب، بل عمليًّا أيضاً، بتحليل دقيق لتعاليم الإسلام في الخلفية الاجتماعية، إلا أنه لم يعتقد يوماً أن بين الاثنين توافقاً مطلقاً، أي أن الإسلام يرضى عن كل ما يرضى عنه العالم الحديث»[16].

ووجد بعض الباحثين والمؤرخين في هذه القضية عند الشيخ عبده، مدخلاً لمعرفة كيف تتشكل أنماط العلاقة بين الدين والروح العصرية، ومدى إمكانية تكوين مصالحة بين الأفكار الإسلامية والمدنية الأوروبية الحديثة، وفي هذا النطاق جاءت محاولة تشارلز آدمز في كتابه (الإسلام والتجديد في مصر) الصادر سنة 1933م، ومحاولة هاملتون جيب في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) الصادر سنة 1947م، وهكذا محاولة ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) الصادر سنة 1962م.

وهذا ما يفسر اهتمام الغربيين بأفكار الشيخ محمد عبده، في محاولة منهم لربط «المجتمعات الإسلامية بالمدنية الأوروبية، وإزالة التوترات التي قد تنشأ نتيجة الاحتكاك بين مسلتزمات الهوية عند المسلمين، ومستلزمات الحداثة عن الأوروبيين، وتحييد الدين من أن يكون مصدراً للمقاومة والممانعة، والتحصن أمام تقدم ونفوذ وهيمنة الأفكار الأوروبية في هذه المجتمعات المستعصية دوماً أمام محاولات الاستلاب والاختراق»[17].

ولا شك في أن هذه محاولات توظيفية، تستند إلى مقولات أراد منها الشيخ عبده تأكيد دور الدين في مواكبة تطورات الحياة، وإثبات قدرته على الاستجابة لمتطلبات العصر، ومقتضيات المدنية.

وقد شرح الشيخ عبده موقفه تجاه مسألة الدين والمدنية، في كتابه الذي خصصه لهذه المهمة، وكشف عنه عنوانه اللافت (الإسلام دين العلم والمدنية)، الذي يعد أحد أهم مؤلفاته، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

وعند النظر في هذا الموقف للشيخ عبده، يمكن تحديده في ثلاثة عناصر أساسية، هي:

أولاً: التأكيد على أن الدين في روحه وجوهره لا يتعارض أو يتصادم مطلقاً مع المدنية في روحها وجوهرها، وكما أن الدين يتناغم مع المدنية، فإن المدنية تتناغم مع الدين أيضاً، والإسلام -حسب قوله- «لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبداً، لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفه أهلها»[18].

ثانياً: نقد وجهات النظر التي تصور أن الدين من معوقات التقدم والتمدن لأنه يحد من تطور العلم وتقدمه، وحسب رأيه فإن «المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين سابقوا الأوروبيين في اكتساب العلوم وتحصيل المعارف، ولحقوا بهم في التمدن»[19].

ويضيف في مكان آخر، أن المسلمين «ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم، وأخذهم في الصد عن علمه، فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العقل. وكانوا كلما توسعوا في العلوم الدينية، توسعوا في العلوم الكونية. وأما غيرهم فكلما اتصلوا بالدين وجدَّوا في المحافظة عليه، أنكرهم العلم وتجهمهم واكفهر وجهه للقائهم، وكلما بعدوا عن الدين سالمهم العلم وبشَّ في وجوههم. ولذلك يصرِّحون بأن العلم من ثمار العقل، والعقل لا يصح أن يكون له في الدين عمل، ولا أن يظهر منه فيه أثر، والدين من وجدانات القلب، ولا علاقة بين ما يجد القلب وما يكسب العقل، فالفصل تام بين العقل والدين، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، سامحهم الله فيما يسمونه تسامحاً مع العلم، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل أن يكون بينه وبينه سلم»[20].

ثالثاً: نقد من يصفهم أرباب الأفكار الذين اندفعوا إلى محاكاة الأوروبيين في مظاهر مدنيتهم، وحسب قوله: «إن أرباب الأفكار من الذين يرومون أن تكون بلادنا كبلاد أوروبا، لا ينجحون في مقاصدهم، ويضرون أنفسهم بذهاب أتعابهم أدراج الرياح، ويضرون البلاد بجعل المشروعات فيها على غير أساس صحيح، فلا يمر زمن قريب إلا وقد بطل المشروع ورجع الأمر إلى أسوأ مما كان... ومن المحقق أن بعض المصريين قد اندفعوا إلى محاكاة الأوروبيين في مظاهر مدنيتهم وأعراضها فحسب، كمظاهر الأبهة والترف، دون أن يسألوا أنفسهم عن جوهر تلك المدنية وروحها.. ألا وهو قداسة القانون الأخلاقي، والشعور بالحقوق الطبيعية، وأداء الواجبات الاجتماعية»[21].

ويلتقي هذا الموقف من الشيخ عبده ويتعاضد مع موقف سلفيه الطهطاوي والتونسي، مع أنه لم يأت على ذكرهما، ولكنه يفترق عنهما في اتصال موقفه بالمجال الفكري بوصفه مفكراً وداعياً إلى الإصلاح الفكري والثقافي، في حين يتصل موقفا الطهطاوي والتونسي بالمجال السياسي، بوصفهما كانا على علاقة بالسلطة في عصريهما، وداعيين لإصلاح السلطة والدولة وتعضيد قوتهما.

- 4 –

الزمن الثالث.. المدنية والاقتراب من الإسلام

هذا الطور جاء متأثراً من جهة، ومتمماً من جهة أخرى للطور السابق، لأنه ارتبط ببعض تلامذة الشيخ محمد عبده والمتأثرين بمدرسته الفكرية، والمنتظمين في مسلكه الفكري.

وهو الطور الذي جدد علاقة الفكر الإسلامي بمسألة المدنية، وعرف بها خلال العقود الأولى من القرن العشرين، ولولا هذا الجهد لكانت مسألة المدنية في المجال العربي تتحدد زمنيًّا بصورة أساسية مع نهاية القرن التاسع عشر، ومع وفاة الشيخ محمد عبده.

وتغيرت في هذا الطور كذلك طبيعة إشكالية العلاقة بين الإسلام والمدنية، وتحددت في إطار الدفاع عن أن الدين يمثل ذروة المدنية، والتأكيد على أن الإسلام هو روح المدنية، والتبشير بأن مآلات المدنية الاقتراب من الدين.

ومن الذين تبنوا هذا الموقف وعُرفوا به، محمد فريد وجدي في مصر، ومصطفى الغلاييني في لبنان، وسوف نبدأ أولاً بشرح موقف محمد فريد وجدي، ثم موقف مصطفى الغلاييني.

حين أشار ألبرت حوراني إلى محمد فريد وجدي في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة)، اعتبره وسائر الكتاب المنتمين إلى مدرسة محمد عبده، أنهم -حسب قوله- «اهتموا بأمرين خطيرين ومستقلين: الإسلام بحقائقه وشرائعه الموصى بها من الله، والمدنية بقوانينها المكتشفة بفضل علم الاجتماع»[22].

ومن جهة يرى فهمي جدعان أن محمد فريد وجدي انطلق في أعماله الفكرية من الاعتقاد بأن الإسلام روح المدنية الحقيقية، لذا كان ككتابه الأساسي (المدنية والإسلام) الذي حاول فيه تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية، وأبعد من ذلك حيث يرى أن لا مدنية إلا بالإسلام، وكل ما نقرؤه من قواعد المدنية العصرية ليس بالنسبة إلى قواعد الديانة الإسلامية إلا كشعاع من شمس أو قطرة من بحر[23].

والفكرة التي ينطلق منها محمد فريد وجدي في موقفه من مسألة الدين والمدنية، هي «أن كل ترقٍّ يحصل في العالم، وكل خطوة تخطوها العقول في سبيل الكمال ليس إلا تقرباً إلى الإسلام»[24].

وحين يتساءل هل يمكن أن تتفق المدنية والدين؟ وهل تطبيق المدنية ينافي الدين؟. يُجيب فريد وجدي بقوله: «إن الإسلام فتح باب الارتقاء الروحي ووسّع مداه، كما فتح باب الارتقاء المادي، فلم يُحرِّم علماً نافعاً، ولم يضع للعلوم حدوداً. أنا لا أكتفي بأن أقول بأن المدنية والدين يجب أن يتفقا، بل أعلن على رؤوس الأشهاد أن الدين هو ذروة المدنية، وليس معنى هذا أن كل مدنية قائمة دين، وأن كل دين قائم مدنية، ولكن معناه أن المدنية التي تستحق هذا الاسم بنزاهة أصولها، هي غرض دين الحق الخالص.

إن المثل الأعلى لمدنية فاضلة، إن لم تصل إليها الإنسانية إلى اليوم، فستصل إليها لا محالة تحت تأثير التطورات الأدبية التي لا تفتأ تطرأ عليها.

قد يقول قائل: أنى هذا والعالم يزداد كل يوم إيغالاً في حمأة المقاذر والإسفاف، نقول: هذا صحيح، ولكن تدهوره هذا يصحبه شعور قوي بالتقزز مما هو فيه، يدل على ذلك القلق الذي يساوره في كل حركة من حركاته، وروح السخط المستولية عليه حتى وهو في معمعان لذاته، وهذا أمر طبيعي كائن، كل ما فيه تدعوه للتكمل، وتُهيِّئه لخلافة الله في أرضه، وهو دور من أدوار الحياة ينتهي أمده، ثم يحل محله دور جديد فيلبث حتى ينقضي عهده، ثم يخلفه غيره، وهلم جرّا، حتى تطهر الفطرة البشرية من أقذائها، وإذ ذاك تسير إلى الكمال قدماً، وفي أثناء هذه الانقلابات لا يزال الإسلام مثلاً أعلى للمدنية تتقرب الإنسانية منه يسيراً يسيراً حتى تبلغه»[25].

وهذه الفكرة هي من أكثر الأفكار التي عمل فريد وجدي على تأكيدها وتثبيتها وإشاعتها، ومن هذه الجهة يُعدّ فريد وجدي أحد أكثر المفكرين المسلمين دفاعاً عن علاقة الدين بالمدنية.

والملاحظ بصورة عامة على هذا الموقف أنه محكوم بذهنية الرغبة، وتتغلب فيه الرغبة على الواقع، بشكل يكاد يغيب فيه الواقع بقوانينه وموازينه الموضوعية والتاريخية، ويمكن وصفه بأنه موقف لا زمني ولا تاريخي، بمعنى أنه موقف لا يعرف له زمن، وليست له حدود زمنية، ومن جهة كونه لا تاريخي، بمعنى أن حركة التاريخ تحكمها السنن والقوانين وليس الرغبات والتمنيات.

وفي وقت لاحق، وجد فهمي جدعان أن فريد وجدي أحدث تجدداً في موقفه، وحسب قوله: «وقد عاد فريد وجدي فيما بعد إلى بعض أفكاره هذه، وأجرى عليها بعض التطويرات والتحديدات المتصلة خاصة بموقف المسلمين من التمدن الغربي. ونحن نجد أنه في هذه المرة، أي بعد ربع قرن تقريباً، قد منح المدنية الغربية وضعاً خاصًّا، طالب المسلمين بموجبه بأن يأخذوا بما هو جوهري فيها، ويدمجوه بقيمهم الفكرية والمدنية، أي بأن لا يغلوا في نبذهم للحضارة الغربية»[26].

واستند جدعان في تغيُّر هذا الموقف، على نص أشار إليه فريد وجدي في موسوعته (دائرة معارف القرن الرابع عشر)، ويكشف هذا النص عند فحصه والتأمل فيه، عن ثلاثة مواقف متغيرة، هي:

أولاً: موقف من تلاشي وزوال المدنية الغربية

في هذا الشأن يرى وجدي «أن هذه المدنية حافلة بعيوب جوهرية يمكن أن تنقلب إلى أمراض عضوية، إلا أن هذا لا يعني أنه محكوم على هذه المدنية أن تنحل وتتلاشى، ذلك أن في هذه المدنية من عوامل المقاومة ما يُمكِّنها من التغلب على هذه الأمراض. وما يقوم به فلاسفة الغرب ومصلحوه من نقد تقويمي لهذه الحضارة ومن نشاطات علمية جديدة... كل ذلك يعدّل من الحالة الإلحادية التي تأدَّى إليها الغرب بغلو العلم الطبيعي والقائمين عليه، ويدعم الاعتقاد بأن العلم الروحي التجريبي سيعيد إلى الإنسان جملة الفضائل الأخلاقية والروحية التي فقدها تحت تأثير العلم المادي».

ثانياً: موقف من البديل عن مدنية الغرب

حيث يرى وجدي أننا لا نرى فيما بين أيدينا من حالات الأمم مدنية تصلح لمنازعة المدنية الأوروبية الوجود، والذين يحقرون هذه المدنية ويحكمون عليها بالزوال ويأملون أن تقوم على أنقاضها مدنية تعيد لهم عصراً من عصور التاريخ، فإنهم لا يعبرون إلا عن أماني لا يمكن أن تتحقق، لأنه لا يمكن أن تخلف مدنية، مدنية أخرى إلا إذا كانتا موجودتين معاً وتنازعتا العالم في ميدان واحد، لا أن تكون إحداهما قائمة زاهرة، والأخرى في بطون الكتب أو في غيابات المخيلات.

ثالثاً: موقف من التفاعل وإصلاح المدنية

إذ يرى وجدي أن الأولى بمسلمي الشرق السعي إلى تكميل هذه المدنية، فإنها محصول جهود لا تحصى، لآبائهم منها حظ وفير، بل لا يزال لهم فيها آثار مطبوعة بطابعهم، فإن العلوم التي قام على أصولها صرحها الفخم، تنتهي في حلقة من سلسلة نسبها إلى المسلمين في إبان دولتهم[27].

مصطفى الغلاييني

تناغماً مع المنحى الذي سلكه محمد فريد وجدي، وتواصلاً معه في الدفاع عن علاقة الدين بالمدنية، جاء موقف الشيخ مصطفى الغلاييني، الذي شرحه في كتابه (الإسلام روح المدنية)، ورجع له مرة أخرى في مقالة له بعنوان (الدين والمدنية) نشرها سنة 1910م في مجلة النبراس التي أصدرها في بيروت.

وينطلق الغلاييني في موقفه من الإشكاليات التي أثيرت في عصره من الأوروبيين مثل اللورد كرومر المندوب البريطاني في مصر، ومن المقلدين لهم حسب قول الغلاييني، وتطرق إلى هذه الإشكاليات في معرض الرد عليها.

من هذه الإشكاليات التي جاءت على لسان كرومر في كتابه (مصر الحديثة)، وأشار إليها الغلاييني في كتابه (الإسلام روح المنية)، قوله: إن الإسلام «ديناً منافٍ للمدنية، ولم يكن صالحاً إلا للبيئة والزمان اللذين وجد فيهما، وأن المسلمين لا يمكنهم أن يرقوا في سلم الحضارة والتمدن إلا بعد أن يتركوا دينهم وينبذوا القرآن وأوامره ظهريًّا، لأنه يأمرهم بالخمول والتعصب، ويبث فيهم روح البغض لمن يخالفهم والشقاق وحب الانتقام، ولأنه أتى بما يناقض مدنية هذا العصر من حيث المرأة والرقيق...»[28].

وعلى لسان المقلدين لهم، أشار الغلاييني إلى قول هؤلاء: إن «الدين والمدنية ضدان، وإن من تمسَّك بأصول الدين فقد بعد عن التمدن، لأن الدين عقبة في سبيل ترقي الأمم، فأية أمة تريد النهوض إلى المجد والارتفاع إلى العلى فعليها ترك الدين السماوي والتمسك بدين المدنية الحديثة، وأقرب دليل هي فرانسة، تلك الدولة التي لم تبلغ ما بلغته إلا بعد أن نبذت الدين ظهريًّا ونفت رجاله من بلادها»[29].

وأمام هذه الإشكاليات وردًّا عليها، طرح الغلاييني جملة من الأفكار والتصورات التي تشرح طبيعة موقفه في العلاقة بين الدين والمدنية، ومن أبرز هذه الأفكار والتصورات، ما يلي:

أولاً: إن أصول الدين ومبادئه السامية هي أصول المدنية الصحيحة ومصادرها العذبة، فما من تقدم يُرى، ولا من تمدن يُشاهد إلا وتُرى لهما آثاراً في الأصول الدينية، يعرفها من يعرفها، ويجهلها من يجهلها.

ثانياً: لنفرض أن الدين لا يأمر بشيء من المدنية، فهل فيه ما يخالفها ويناقضها؟ إن جواب من عرف الدين الإسلامي حقيقة هو بطبيعة الحال: كلا. أما القول: إن فرنسا ترقَّت بعد أن تركت الدين الذي كان حاجزاً دون ترقيها، فليس عليه أثارة من العلم والنقد الصحيح. إذ هذه إنكلترا متدينة، وهذه ألمانيا متدينة، فهل هما متأخرتان أم هما قد بلغتا أشواطاً من التقدم والرقي لم تبلغها فرنسا، تلك الدولة التي لا دين لها؟ وإن كان ترك الدين هو السبب الوحيد للترقي، فلِمَ نرى فرنسا متأخرة عن الدول المتدينة[30].

ثالثاً: إن الإسلام دين يرافق العقل جنباً إلى جنب، ويمشي مع المدنية في طريق واحدة، ويصافح الإنسانية يداً بيد. فهو من ناحية قد رفع منار الحقيقة على ذروة لا تنال، ومن ناحية ثانية قد نهض بالإنسانية وأقام بناءها على أساس من العدل والمساواة والأخلاق والتربية والسياسة المثلى، مما يصلح لكل زمان ومكان وكل أمة. ولقد خلَّص هذا الدين الإنسانية من عقيدة الشرك وتكثير الأرباب، وأزال عنها برقع الخرافات المضللة، وكسر عن عقول البشر قيود الأوهام، ونجَّاهم من فساد الأخلاق[31].

رابعاً: إن أوروبا تدين برقيها وتمدنها لما اكتسبته من تآليف علماء الإسلام وآرائهم، التي اقتبسها الأوروبيون بعد الحروب الصليبية، فأفادوا مما فيها من علوم وفنون واكتشافات وتجارب، أصلحوا بعض ما فيها من الخطأ، وطوروا باقيها على نحو ولَّد المدنية الحديثة.

خامساً: إن الطابع التمديني في الإسلام، يتجلى بصورة خاصة في التصور الراقي للتوحيد الإسلامي، وفي الإشارات القرآنية إلى المسائل العمرانية والكونية، وفي تأكيده لمبادئ العدل والمساواة بين الأفراد، وفي نظامه الأخلاقي والسياسي الضامن لسعادة الجماعة والفرد[32].

هذا عن الزمن الثالث، وأبرز ما تبلور فيه من نصوص ومواقف وكتابات تتصل وعلاقة الدين والمدنية.

هذه لعلها هي الفترة الرئيسية التي ظهرت فيها، وتحددت مسألة العلاقة بين الإسلام والمدنية، وكيف أنها مثَّلت همًّا حقيقيًّا في نطاق الفكر الإسلامي الحديث الذي ظل يتابعها في ثلاثة أزمنة متلاحقة، وبصور وأنماط من المعالجات والتقويمات الجدلية والنقدية.

- 5 –

فكرة المدنية.. وكيف حصل التراجع؟

من بعد تلك الفترة تغيرت صورة العلاقة بين الإسلام والمدنية، وتراجع الاهتمام بهذه المسألة، ولم تعد تمثل همًّا حقيقيًّا، أو تراكماً متصلاً كما حصل في الفترة الماضية، والأكثر أهمية في ذلك أنه لم يعد يرتبط بهذه المسألة رجال مصلحون ومفكرون من أمثال الطهطاوي والتونسي ومحمد عبده ومحمد فريد وجدي.

ولعل الاستثناء الوحيد في هذا الشأن، هو ما مثله مالك بن نبي الذي اعتنى بفكرة الحضارة، وأعاد لها الاهتمام، وقدَّم عنها أجود تحليل في مجال الفكر الإسلامي المعاصر.

ومع مالك بن نبي تحول الاهتمام الجاد من فكرة المدنية إلى فكرة الحضارة، وهذا من التغيرات المهمة التي حصلت في المجال الفكري الإسلامي.

والسؤال الجوهري الذي يحتاج إلى توقف ونظر: ما هو تفسير وتحليل هذا التراجع في العلاقة بمسألة المدنية في نطاق الفكر الإسلامي المعاصر؟

هناك نظرية أشار إليها بعض المفكرين المعاصرين يمكن الاستناد إليها في تفسير هذا التراجع، وهي نظرية القطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.

والذي كشف عن هذه القطيعة ما ظهر بين هاتين المرحلتين من مفارقات معرفية كبيرة، أكدتها المقارنات والمقاربات الفكرية والثقافية التي أظهرت أن الفكر الإسلامي في مرحلته الحديثة الممتدة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى عشرينات القرن العشرين، كان على درجة من التميز والتقدم، يفوق ما كان عليه في مرحلته المعاصرة.

وهذا ما تنبه إليه بعض الباحثين والمفكرين الذين اعتنوا بدراسة الفكر الإسلامي في مرحلتيه الحديثة والمعاصرة، ومن هؤلاء الدكتور رضوان السيد الذي حاول في العديد من كتاباته أن يلفت النظر لوجود هذه القطيعة والتأكيد عليها.

وتتحدد هذه القطيعة -حسب رأي الدكتور السيد- في أن الإشكالية الرئيسية للفكر الإسلامي الحديث كانت إشكالية النهوض والتقدم، في حين أن الفكر الإسلامي المعاصر إشكاليته الأساسية هي الهوية ومقتضياتها وأساليب حفظها، وبتأثير هذه القطيعة أصبح الغالب على الحقبة المعاصرة في التفكير الإسلامي -كما يرى الدكتور السيد- هو حالة النكوصية، ويتمثل ذلك عنده في تصوير أن محمد عبده كان متقدماً على رشيد رضا، ورشيد رضا كان متقدماً على حسن البنا، والبنا كان متقدماً على سيد قطب، وقطب كان متقدماً على عمر عبد الرحمن[33].

وتستدعي هذه النظرية، البحث عن أمرين:

الأمر الأول: البحث عن منبع التقدم والتميز في الفكر الإسلامي ومرحلته الحديثة.

الأمر الثاني: البحث عن عوامل وأسباب القطيعة التي قطعت الفكر الإسلامي المعاصر عن مرحلته الحديثة.

بشأن الأمر الأول: هناك نقاش بين الباحثين والمفكرين العرب المعاصرين حول منابع فكرة التقدم التي عُرف بها الفكر الإسلامي الحديث، وهي الفكرة الوثيقة الصلة بمسألة المدنية. فهناك من يرى أن الثقافة الأوروبية هي منبع هذه الفكرة، واكتسبها الفكر الإسلامي الحديث بعد اتصاله بهذه الثقافة، حين وصلت حملة نابليون على مصر سنة 1798م، وتعمقت بعد رحلة الطهطاوي إلى فرنسا سنة 1826م.

وهناك من يخطئ هذا الرأي، وهو الدكتور فهمي جدعان أحد أكثر المفكرين العرب المعاصرين عناية بدراسة فكرة التقدم في المجال العربي الحديث، كما كشف عن ذلك كتابه الشهير (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) الصادر سنة 1979م.

وحين يشرح جدعان رأيه يقول: «وخلافاً لما درج عليه الدارسون المحدثون، أذهب إلى الزعم أن مفهوم التقدم عند مفكري النهضة العرب، لم ينتقل إليهم ابتداء من فلاسفة عصر التنوير الأوروبيين من أمثال فولتير وكوندورسيه ومونتسكيو وغيرهم، وإنما جاءهم من مصدرين أساسيين لم تكن أفكار التنويريين إلا رافداً تالياً لهما.

أما المصدر الأول فهو وعيهم للهوة التي باتت تفصل عالم العرب والشرق والإسلام عن عالم الغرب، الذي لاحظوا أنه يحث الخطى بثبات واطراد في طريق الرقي والتقدم والتمدن.

وأما المصدر الثاني فهو قراءتهم لمقدمة ابن خلدون، التي تحتل فيها مشكلة أفول العمران، أي التقهقر الحضاري، المرتبة الأولى. وبين قراءتهم لابن خلدون ووعيهم لحالة التدني أو التقهقر، لم يكن بد من أن تجد آراء فلاسفة التنوير بعض الرجع والصدى»[34].

وما يعزز رأي الدكتور جدعان في الجانب الذي يتصل بالعلاقة بمقدمة ابن خلدون بوصفها منبعاً لفكرة التقدم، أن مفكري عصر الإصلاح الإسلامي هم أول من تعرف على هذه المقدمة، واكتشفوا ما لها من أهمية وقيمة فكرية وإصلاحية.

فرفاعة الطهطاوي في نظر الدكتور جدعان، هو أول مفكري عصر النهضة العربية الذين اكتشفوا ابن خلدون وتابعوه في إشكاليته، وشجع في منتصف القرن التاسع عشر مطبعة الحكومة في بولاق على نشر مقدمته[35].

وأما خير الدين التونسي، فقد بدا عند ألبرت حوراني أنه وضع كتابه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، في زمنه «وهو على شيء من الاعتقاد بأنه يفعل للعصر الحديث ما فعله ابن خلدون لعصر أسبق، فالمؤلفان التونسيان، وضعا كتابيهما في فترة عزلة عن الحياة السياسية، وعالجا فيهما كلٌّ على طريقته، قضية نشوء الدول وسقوطها. وقد قسَّم كلٌّ منهما كتابه إلى مقدمة لعرض المبادئ العامة وإلى أجزاء عدة. إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد، ففيما يُعنى كتاب ابن خلدون في معظمه بتاريخ الدول الإسلامية، يعنى كتاب خير الدين، في معظمه أيضاً، بتاريخ الدول الأوروبية وتركيبها السياسي وقوتها العسكرية»[36].

وهكذا الشيخ محمد عبده الذي التفت هو الآخر إلى مقدمة ابن خلدون في عصره، وطالب بإدخالها في المنهج الدراسي بالأزهر، وكان متحمساً لهذا الأمر في سياق تفكيره بإصلاح النظام التعليمي بالأزهر، وتقدم بهذا الاقتراح إلى شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الأنبابي، وشرح له الفوائد الكبيرة للمقدمة، التي لم يقتنع بها الأنبابي، فرد عليه: إن العادة لم تجرِ بذلك.

وأما بشأن الأمر الثاني فيمكن تلمس تفسير القطيعة التي حصلت بين مرحلتي الفكر الإسلامي، في سياقين مؤثرين، وهما:

السياق الأول: له طبيعة فكرية ويتصل بالتحول الذي حصل في مسلكيات الشيخ محمد رشيد رضا بعد وفاة أستاذه الشيخ محمد عبده، وذلك بوصفه يمثل من جهة آخر حلقات مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني الإصلاحية، والمرحلة الأخيرة لحركة الإصلاح الإسلامي، ويمثل من جهة أخرى حلقة الاتصال بمرحلة الفكر الإسلامي المعاصر الذي تشكَّل بعد نهاية الدولة العثمانية.

فقد أحدث رشيد رضا قطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، بعد تحوله في الشطر الأخير من حياته، من المسلك الإصلاحي الذي كان عليه الشيخ محمد عبده إلى المسلك السلفي المغاير له.

وهذا التحول أشار إليه معظم الكتّاب والباحثين العرب المعاصرين الذين اقتربوا من تجربة وسيرة رشيد رضا، وبرهنوا عليه بطرق مختلفة، ومن هؤلاء ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) الصادر سنة 1962م، وفهمي جدعان في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) الصادر سنة 1979م، ومحمد عمارة في عدد من مؤلفاته منها كتاب (تحديات لها تاريخ) 1982م، وكتاب (الاستقلال الحضاري) 1984م، وكتاب (تيارات الفكر الإسلامي) 1991م، ومحمد فتحي عثمان في كتابه (السلفية في المجتمعات المعاصرة) 1993م، وأنيس الأبيض في كتابه (رشيد رضا تاريخ وسيرة) 1993م، ورضوان السيد في كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر.. مراجعات ومتابعات) 1997م، والسيد يوسف في كتابه (رشيد رضا والعودة إلى منهج السلف) 2000م، كما أنني عالجت هذه القضية بتفصيل في كتابي (من التراث إلى الاجتهاد.. الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد) 2004م.

وقد رتب الدكتور محمد عمارة، على هذا التحول في مسلك رشيد رضا، إلغاءه من قائمة التيار الفكري الإصلاحي الذي نهض به الأفغاني وعبده، واعتبر أن من يجعلون رشيد رضا في صفوف هذا التيار هو بمثابة «خلط وتعميم، يطمس فروقاً أساسية وهامة بين هذه التيارات، ومن مخاطره أنه يلبس المتخلف ثوب المتقدم، ويزين بعباءة العقلانية والاستنارة، قوماً وقفوا فقط، أو وقفت بهم قدراتهم عند ظواهر النصوص»[37].

ولهذا يرى الدكتور عمارة، أن مسار حركة الإصلاح الديني والتجديد الفكري التي قادها الأفغاني وعبده، أخذت في التراجع التدريجي لصالح الاتجاهات السلفية، بعد زمن التألق والازدهار.

وبتأثير هذه القطيعة لم يتابع الفكر الإسلامي المعاصر الهموم والقضايا التي كانت تشكل اهتمام الفكر الإسلامي الحديث، والبناء على تلك التراكمات والخبرات الفكرية والثقافية المهمة والناضجة.

السياق الثاني: له طبيعة سياسية، ويتصل بتداعيات وتأثيرات ظهور الدولة العربية القطرية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين على مسارات ومسلكيات الفكر الإسلامي المعاصر، حيث كانت سبباً فيما أصابه من تراجع وجمود، وذلك حين قطعت هذه الدولة صلتها الثقافية والمعنوية والمرجعية الشاملة بالإسلام والمنظومة الإسلامية، وارتبطت في المقابل بمرجعيات الفكر الأوروبي التي أخذت منها كل ما يرتبط بتكوين الدولة، وتشكيل مؤسساتها، وصياغة أنظمتها وقوانينها وتشريعاتها، لأنها أرادت متوهمة أن تكون على صورة الدولة الأوروبية الحديثة، ولكي تكتسب وصف الدولة العصرية، أو المغايرة لصورة دولة الولايات السلطانية التابعة للخلافة العثمانية.

لهذا فقد عملت هذه الدولة القطرية على إهمال كل ما يرتبط بالثقافة الإسلامية من مؤسسات ومعاهد وجامعات وأوقاف، وضيَّقت عليها بشكل تحولت إلى مجرد آثار وذكريات تاريخية، كجامعة القرويين في المغرب التي كانت من أقدم جامعات العالم، وجامعة الزيتونة في تونس وغيرها... وذلك على خلفية أن هذه المؤسسات إنما تنتمي إلى عصور التأخر والجمود، وأنها باتت قديمة وتقليدية وبالية، ولا تنسجم أو تتناغم مع مقتضيات ومتطلبات الدولة الحديثة، وكان البديل عنها هو بناء الجامعات، والتي نشأت بدورها أيضاً على أساس القطيعة مع منظومة الثقافة الإسلامية، والارتباط الكلي بمنظومة الثقافة الأوروبية باعتبارها تمثل مصدر التعليم الحديث، ومنبع المعارف الحديثة.

وفي هذا النطاق يرى الدكتور برهان غليون «أن الضربة الأكبر التي تعرضت لها المنظومة الدينية جاءت في الواقع على يد الدولة الحديثة، التي حاولت أن تقضي على أية سلطة اجتماعية مقابلة أو موازية، يمكن أن تؤلف بالنسبة إليها في يوم من الأيام مركز تحدٍّ أو منافسة على الولاء. وقد زاد تدخل الدولة في المسائل الدينية وتحكمها في السلطات والمؤسسات الإسلامية بشكل أكبر على إثر نشوء الدول الوطنية التي أصبحت تنظر إلى الدين، إضافة إلى ما يمثله من منافس ممكن على الولاء، كعقبة أمام التقدم أو كمخزون عقدي مناوئ لعقيدة التقدم والتحديث. وهكذا شنت الدول والنخب الوطنية حرباً غير معلنة حقيقية ضد علماء الدين، وشوهت سمعتهم وصورتهم، واتهمتهم بالوصولية والانتهازية والجهل والارتزاق»[38].

وبسبب هذه الوضعيات التي حصلت بعد تكوين الدولة القطرية، انشغل الفكر الإسلامي المعاصر بإشكالية الهوية، وأصبح مهموماً بها في ظل تبني وصعود الخيارات الفكرية المغايرة.

وبتأثير هذين السياقين حصلت هذه القطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، التي أدت إلى تراجع الاهتمام بإشكالية النهوض والتقدم، الإشكالية التي تقع فكرة المدنية في صلبها وصميمها.

 

 



[1] ورقة مقدمة لمؤتمر اتجاهات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، نظمته مكتبة الإسكندرية، عقد بالإسكندرية في الفترة ما بين 19 ـ 21 يناير 2008م.

[2] نصر محمد عارف. الحضارة الثقافة المدنية دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م، ص42.

 

[3] فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان: دار الشروق، 1988م، ص405.

 

[4] رفاعة الطهطاوي. مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، القاهرة: مطبعة شركة الرغائب، ص6.

 

[5] فهمي جدعان. الماضي في الحاضر، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997م، ص501.

[6] رفاعة الطهطاوي. مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، مصدر سابق، ص129.

 

[7] رفاعة الطهطاوي. المصدر نفسه، ص441.

 

[8] خير الدين التونسي. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تونس: الدار التونسية، ص50.

[9] فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام، مصدر سابق، ص 394.

[10] خير الدين التونسي. أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، مصدر سابق، ص5.

[11] خير الدين التونسي. المصدر نفسه، ص6.

 

[12] خير الدين التونسي. المصدر نفسه، ص4.

[13] خير الدين التونسي. المصدر نفسه، ص 42.

 

[14] ألبرت حوراني. الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة: كريم عزقول، بيروت: دار نوفل، 1997م، ص98.

[15] فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص123.

 

[16] ألبرت حوراني. الفكر العربي في عصر النهضة، مصدر سابق، ص169.

 

[17] زكي الميلاد. من التراث إلى الاجتهاد الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004م، ص88.

[18] محمد عبده. الإسلام دين العلم والمدنية، دراسة وتحقيق: عاطف العراقي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص181.

[19] محمد عبده. المصدر نفسه، ص121.

 

[20] محمد عبده. المصدر نفسه، ص194.

[21] محمد رشيد رضا. تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، ج2، ص122.

 

[22] ألبرت حوراني. الفكر العربي في عصر النهضة، ص170.

[23] فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص406.

[24] محمد فريد وجدي. المدنية والإسلام، القاهرة، ص122.

 

[25] محمد فريد وجدي. المستقبل للإسلام، بيروت: دار الكاتب العربي، بدون ذكر التاريخ، ص125 ـ 126.

[26] فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص409.

 

[27] فهمي جدعان. المصدر نفسه، ص410.

 

[28] مصطفى الغلاييني. الإسلام روح المدنية، بيروت: المكتبة الأهلية، 1930م، ص8.

[29] مصطفى الغلاييني. الدين والمدنية، مجلة النبراس، بيروت، المجلد الثاني، الجزء السادس، 1910م، ص203.

[30] مصطفى الغلاييني. المصدر نفسه، ص204.

 

[31] مصطفى الغلاييني. الإسلام روح المدنية، مصدر سابق، ص10.

[32] مصطفى الغلاييني. المصدر نفسه، ص27.

 

[33] رضوان السيد. سياسيات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997م، ص7.

 

[34] فهمي جدعان. الماضي في الحاضر، مصدر سابق، ص471.

[35] فهمي جدعان. المصدر نفسه، ص501.

 

[36] ألبرت حوراني. الفكر العربي في عصر النهضة، ص97.

 

[37] محمد عمارة. تيارات الفكر الإسلامي، القاهرة: دار الشروق، 1991م، ص286.

 

[38] برهان غليون وآخرون. الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامي، 1991م، ص83.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة