تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

أفق الديمقراطية الإسلاميّة في العالم العربي

علي آل طالب

 

*

الكتاب: الديمقراطيّة في بلد مسلم

المؤلف: مجموعة مؤلفين.

محرر الكتاب: د. توفيق السّيف

الناشر: أطياف للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى 2007م

كتاب من القطع المتوسط يقع في 176 صفحة

صادر عن مركز آفاق للدراسات والبحوث

 

«الدِّيمقراطيَّة الدِّينيَّة - الإسلاميَّة» عنوانٌ بات يتصدر الأدبيات المعرفيّة بعد سلسلة من التراكم النظري السياسي وإرهاصات الفعل الاجتماعي في آن معًا، باعتباره مفهوماً لا ينفصل عن المفاهيم التأسيسيّة في الفكر السياسي للإسلام المعاصر؛ وبإمكاننا أن نحدد اتصاله الاصطلاحي بالمنظومة المعرفيّة الحديثة، وحداثته كمفهوم موجبة للإحاطة بكل أبعاده ومبانيه وما يترتب عليه من آثار منعكسة على الواقع، من أجل أن يساهم كل ذلك في تحديد القواسم المشتركة بين «الدِّيمقراطيَّة الإسلاميَّة» وسائر المفاهيم المناظرة له، وكافة مؤشرات التمايز التي تفصله عنها.

وتوليفة اندماج «الدين والديمقراطيّة» ما كانت لتتبلور -معرفيًّا- لولا ما يتمتعان به من خواص داخليّة مؤهلة للعمل سويةً لبناء منظومة إدارية ناجزة لا تغادر الأصيل من خزائن التراث، وتدنو -في الوقت نفسه- من عالم يضج بما هو حديث، وذلك وفق التجربة البشرية ومدى الحاجة الماسة للإنسان المعاصر. وهذه التوليفة «الدِّيمقراطيَّة الإسلاميَّة» تنتظم بل تتناظر مع النماذج الأخرى التي يمثل فيها مصطلح الدِّيمقراطيَّة حجر الزّاوية، مثل «الدِّيمقراطيَّة الليبراليّة، والدِّيمقراطيَّة الاشتراكيّة». وعلى الرغم مما نلمسه من فوارق جوهرية وتطبيقيّة لكل من هذه النماذج إلا أن «الدِّيمقراطيَّة» تظل المائز المستحق والمشترك لكل منها، خاصة إذا ما كان الأمر منوطًا بتنظيم العلاقة ما بين الدولة والمجتمع، أي المبادئ والمعايير التي تحدد كيفية عمل النظام السياسي، وهي ولا شك تُعد السمة المشتركة بين كافة الديمقراطيّات على اختلاف نماذجها.

الدكتور السَّيف ومن خلال هذا الكتاب أراد أن يؤسس إلى مناخ يُعالج فيه إشكاليّة العلاقة ما بين الدين من جهة والديمقراطيّة من جهة أخرى، طمعًا في حلحلة كافة الصعوبات التي تقف عائقة أمام الصيرورة الديمقراطيّة في العالم الإسلامي والعربي خاصة والمتعلقة بالهويّة والشؤون الثقافيّة منه، والسّيف نفسه أشار في مقدمة الكتاب إلى أن «محور النقاش هنا هو العلاقة الإشكاليّة بين الدين والديمقراطيّة والإمكانات المتوفرة لاستنباط حلول تسمح بتطوير نظام سياسي يجمع بين قيم الدين الحنيف وفضائل الديمقراطيّة»[1] معتقدًا بأن مناقشة مثل هذا الأمر يسهم بشكل كبير في معالجة أزمة التخلف المزمن الذي يعانيه العالم الإسلامي نتيجة لتحجر الأنظمة السياسية فيه، وهذا من شأنه أن يسهم في توسيع الهوة بين الدولة والمجتمع، وبالتالي تنعدم الإرادة الشعبية العامة، وتتضاءل الحريات، ويصبح المجتمع يعيش في الهامش السياسي إذ لا حول له ولا قوة!. وما ينبغي أن يُقال في هذا الصدد أن معظم المجتمعات الإسلاميّة تعيش -اليوم- تحت وطأة ضغط خانق على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، حيث لا تمتلك أدنى مقومات الحياة الطبيعيّة بالرغم من جميع الإمكانات والثروات الطبيعيّة التي تتمتع بها هذه المجتمعات.

ولا شك في أن الديمقراطيّة كمفهوم تؤشر في مقاصدها الجوهرية إلى تحقيق «حكومة الشعب» والتي تولدت نتيجة إرهاص سياسي ساد (أثينا) في القرن الخامس قبل الميلاد، وتطورت حتى أصبحت تجربة سياسية ناهضة تحتفي بها معظم الدول الغربية حسب معطيات العالم الحديث، ولا استثناء لأي دولة من الدول العربية، بل إن «فكرة الديمقراطيّة ليست جديدة على العالم الإسلامي فقد جربتها عدد من المجتمعات المسلمة ونجح قليل منها وأخفق أكثرها. وإن تكرار تعثر التجارب الديمقراطيّة في البلدان الإسلاميّة هو -في أحد الوجوه على الأقل- ثمرة لغربة النموذج الديمقراطي وتباعده عن النسيج الثقافي الخاص بهذه المجتمعات، أي التباين الثقافي بين الذهنية العامة للمسلمين والأرضية الفلسفيّة التي تقوم عليها فكرة الديمقراطيّة نفسها»[2]، وبهذا المسعى يحاول السّيف نفسه عبر هذا الكتاب التأكيد على ضرورة خلق نموذج ديمقراطي مُعدَّل حسب مواصفات محليّة تتناسب وطبيعة البيئة بكل مكوناتها الخاصة، بحيث يكون قابلاً للتفاعل مع المضمون الثقافي الخاص بالمجتمعات الإسلاميّة، وفق بلورة ذهنيّة تجسد التفاعل الإيجابي بين الفرد ومحيطه، وتساهم في خلق مناخ يدفع الأمور باتجاه المناقدة والتبادل المعرفي والتنافس السلمي على مستوى الشعب نفسه، فإن عرقلة مشروع الديمقراطية في العالم الإسلامي يعني بالضرورة استمراراً للدكتاتورية والأنظمة الشموليّة. بيد أنَّ السّيف في جوانب أخرى يؤكد أن «الديمقراطيّة ليست وعدًا بالمدينة الفاضلة، ولا هي الحل السحري لجميع المشكلات، بل هي ببساطة وسيلة لتنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، وقد أثبتت التجارب وعلى امتداد من الزمن ليس بالقصير، أنها الأنجح والأكثر قابليّة للتطور والتكامل بين جميع نماذج الحكم الأخرى». ويستطرد الكاتب أيضاً ويقول: «الديمقراطيّة مفيدة لأنها توفر الفرصة للناس العاديين كي يعيشوا بسلام، ويسعوا في الارتقاء بحياتهم في ظل قانون واحد يتعامل معهم كمواطنين أكفاء لبعضهم، متساوين في الحقوق والواجبات»[3]. وبالتأكيد هذا كله مرهون برفع مستوى الوعي الاجتماعي إلى أقصى درجاته من أجل تهيئة الفعل الثقافي للدخول في العالم الحديث بعد وضع نهاية للتأزم السياسي الذي يتوارثه المسلمون جيلاً بعد آخر.

ربما الحاجة للديمقراطيّة بات يدركها العرب والمسلمون على وجه التحديد، لكنَّ المشكلة لا يمكن معالجتها بهذه السهولة كما نتوقع، خاصة والديمقراطيّة إن اتسقت في جوهرها مع بعض المضامين الدينيّة إلا أنها وكتجربة بشرية وغربية فهي لا تلتقي في مخرجاتها وتطبيقاتها مع العديد من الخواص الدينية على وجه التحديد، ومن هنا يأتي جوهر الحوار الذي يقيمه الدكتور السّيف عبر مجموعة من الدراسات والبحوث ضمّنها في هذا الكتاب؛ لأجل المناقشة على أعلى مستوياتها المعرفيّة والتي تولي اهتمامًا بالغًا للمؤتلف منها والمختلف ما بين الدين من جهة والديمقراطيّة من جهة أخرى. ومما لا يدع مجالاً للشك بأن مجرد الإقدام على مثل هذه الخطوة يسترعي الانتباه إلى الكثير من الجوانب المهمة المتعلقة بالذات بالنظرة الدينية تجاه العديد من التجارب التي تسهم بشكل كبير في تنظيم الحياة العامة للإنسان، بمعنى أنَّ الدِّيمقراطيّة كتجربة إنسانيّة قدمت نجاحات عديدة في مضمار ضبط هذه العلاقة؛ بين الحاكم والمحكوم من جهة، أو ما يتعلق بالشق الحضاري والتنموي، على اعتبار أن الديمقراطيّة كتجربة ساهمت بشكل كبير في إحداث التنمية والتطوير للإنسان المعاصر سواء كان على صعيد الفردانيّة (=الليبراليّة) أو كان يتعلق الأمر بالصورة الكليّة والجماعية (=الاشتراكيّة الاجتماعيّة) إذ لا يقتصر الأمر عند هذا الحد فحسب.

إنّ إشكاليّة العلاقة بين الدين والسياسة ليست جديدة في الفكر السياسي المعاصر، فهي ملازمة له منذ نشوء الفلسفة اليونانيّة حين اقتصر الأمر على محورين اثنين: الدين من جهة والأيديولوجيات (=الأفكار والمعارف) من جهة أخرى، فالدين بوصفه القاعدة الأعمق للإبستومولوجيا ولتحديد السلوك أيضاً، أما الأيديولوجيا -المسار والحراك- فقد ساهمت بشكل كبير في تقويض سلطة الكنيسة بعد أن كرَّست مفاهيم العلمانيّة ومعايير التمثيل والانتخاب؛ لتكون بديلاً عن معايير القداسة التي تمنحها للحاكم. والمتتبع للصيرورة الغربية لا يغيب عنه ما آل إليه فضاؤها الثقافي من ترهصات، فقد ظهرت إشكاليّة أخرى لا تقل أهميّة عن سابقتها، وهي العلاقة بين الدولة والمجتمع، والتي نجحت الديمقراطيّة بشكل كبير في ضبطها كعلاقة حيوية منذ القرن التاسع عشر إلى الوقت الراهن، إذ يتبدى ذلك فيما آل إليه العالم الغربي اليوم من تطورات ملموسة على كافة الصعد الحيوية والاستراتيجية، مع تفاوت نسبة النجاح أو الفشل من بيئة اجتماعيّة إلى أخرى. إلا أننا لا نستطيع إلا القول: إن هذا العالم يدخل عصر الحداثة بكل اقتدار، فما هو موقع (الدين) بالنسبة لهذا العالم أمام الديمقراطيات المعاصرة!؟. إذن النظام الدِّيمقراطي: هو الثمرة الطبيعية للتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لهذه المجتمعات. والضرورة العلمية لمسار البحث يقتضي وقبل الشروع في عرض بحوث الكتاب مناقشة العلاقة بين (الدِّين والدِّيمقراطيّة) في الحيز الإسلامي، لأن الرهان العلمي البحثي يعي تمامًا مستوى الفارق ما بين القواعد والأسس التي بُني عليها النظام السياسي في ظل الدولة الإسلاميّة وما بين الدول الغربية.

من هذا المنطلق جاء هذا الكتاب ليضع أمامنا دراسات ست بالتحديد، انتقاها الدكتور السّيف بكل عناية وحرص، لا لأنها تضاهي في متانتها العلميّة بحوثًا أخرى فحسب، بل لما تتمتع به من امتياز خاص يسلط الضوء على مدى العلاقة ما بين (الدّين والدّيمقراطيِّة) وما يؤسس عليها من قانون يضمن ضبط النظام العام ما بين الحاكم والمحكومين أو بين الدولة والمجتمع، وقد وضعت معظم هذه الدراسات التجربة الإيرانيّة في نظام الحكم محوراً للمناقشة والمدارسة منذ الثورة الدستورية (1905 - 1906) حتى ما آلت إليه الأمور في الواقع المعاصر، وهنا نستحضر ما تطرق إليه المفكر الإيراني محمد مجتهد شبستري حين عزا تمييز الإيرانيين لطبيعة النظام السياسي؛ إلى أن التفويض الإلهي يختلف اختلافًا كليًّا عمَّا للشعب، بل إن طبيعة هذا النظام هي ثمرة لعاملين -القول لشبستري-، العامل الأول: هو التَّطور التَّاريخي الخاص بالمجتمع الإيراني نفسه، ولاسيّما انعكاسات الثَّورة الدستوريِّة التي شهدت للمرة الأولى في تاريخ المسلمين تنظيرًا فقهيًّا لسيادة الشعب، باعتباره صاحب السلطة ومصدر شرعيتها. أما العامل الثاني: فهو التركيب المزدوج للنخبة التي قادت الثورة، من فقهاء يميلون إلى نمط الحكم المتعارف في التّراث الدِّيني، ومفكرين يميلون إلى الدِّيمقراطيّة الليبراليّة أو الاجتماعيّة. ويستطرد شبستري نفسه ويقول: إنه وبسبب هذين العاملين فقد اشتد النقاش حول دستور الجمهوريّة الإسلاميِّة الذي أُقرَّ في العام 1980م؛ إذ طرح مفاهيم جديدة لم تكن متداولة قبل ذلك في المجتمع الدِّيني أو على الأقل لم تكن من موضوعات انشغاله، ومن بين تلك المفاهيم على سبيل المثال: الإرادة العامة، الجمهورية، تقسيم السلطات، حاكميّة القانون، المواطنة والحقوق الدستورية... إلخ.

وقد أشار السّيف في مقدمة الكتاب إلى حصيلة مناقشات كانت تدور حول طبيعة الحكومة الإسلاميّة إبَّان انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م، وكان من جملة ما نقله أنّ «الدّيمقراطيّة لم تكن مطروحة كنموذج محتمل لنظام الحكم المراد إقامته، بل كان الجميع متفقًا على أن حكومة إسلاميّة سوف تكون البديل الأفضل عن كل ما سواها. مثل كل المفاهيم الجديدة، فلم يكن مفهوم «الحكومة الإسلاميّة» الذي طرح يومئذ واضحًا ومحددًا، وكان الميل في أول الأمر إلى نظام يقوم بشكل كامل على سيادة الشعب مع دور إشرافي للفقهاء، حيث دعا بعض زعماء الثورة في تلك الآونة إلى ما يشبه بالدّيمقراطيّة الاجتماعيّة، التي كانت واقع الحال، مع الالتفات أن الإسلام كمنظومة فقهية لا يحتمل غير نظام شديد التمركز على رأسه فقيه يجمع بين يديه كل خيوط السلطة. وفي نهاية المطاف جرى وضع دستور يتسع لجميع هذه الخيارات فثمة دور محوري للنخبة الدينية أي الفقهاء، وثمة تأكيد على سيادة الشعب وكونه مصدر السلطة»[4]. وهذا ولا شك لا يتوافق مع نظرية الحكم عند الشيعة الإماميّة لأن النظام السياسي الديني يتمثل حصرًا في حكومة يرأسها إمام معصوم، وإن قال بعضهم بإمكانيّة حلول الفقيه الجامع لشرائط الاجتهاد والعدالة في مكانه، وأيضاً قال آخرون بإمكانيّة ترك الحكم للسياسيين ومنح الفقهاء دورًا رقابيًّا ولوجستيًّا أشبه ما كان عليه الحال للكنيسة في أوروبا. وهذا ما أكده الدكتور السّيف في كتاب له صدر في بيروت عام 2002م بعنوان (نظرية السلطة في الفقه الشيعي)، لكنه مع ذلك أراد أن يقول شيئًا آخر يجده لا يقل أهميّة، وهو إشارته إلى أن جوهر الجدل في كل تلك المناقشات تهميشها لدور الشعب أمام مركزية النقاش في الدولة والسلطة، كذلك عدم اختلاف ما عليه الحال إزاء أهليّة الشعب في المشاركة بإدارة الحكم ما بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم الشيعة، حتى أن نموذج الخلافة التي كانت قائمة حتى الربع الأول من القرن العشرين، كانت محصورة على حد قوله في (الحاكم) عن مؤهلاته وكفاءاته وصلاحياته، على اعتقاد بأن شرعيّة الحكم مستمدة من السماء، وعلى الناس طاعته لأن الله عزَّ وجلَّ أمر بذلك، لا لأن الناس اختاروه أو رضوا به.

لا غرو في انحصار محور الحديث في اتصال الدِّين بالسياسية أو انفصالهما، فالخيط رفيع جدًّا بينهما ولمجرد الميل يميناً أو شمالاً؛ فيؤول إلى انزياحات معرفيّة شديدة، ومما لا يدع مجالاً للشك أن الأدبيات المعاصرة تسمي فصل الدّين عن السياسة بالعلمانيّة، واتصالهما يعني الوقوف عند ثلاثة أشكال محتملة، كان للتأريخ -الشرقي والغربي- سطوته في ذلك البناء، الشكل الأول: تفوّق السياسة على الدين، وهذه سمة مشتركة بين الشرق والغرب طوال التأريخ. الشكل الثاني: العلمانيّة، وقد سبق وأشرنا إلى أنها فصل من فصول التاريخ السياسي الغربي بامتياز واضح وجلي، هذا لا يعني بالضرورة أن التأريخ السياسي الإسلامي كان بمنأى عن تطبيقات العلمانيّة -حسب الرؤية المعاصرة- بأنماط مغايرة عمَّا عليه واقع اليوم في الغرب برمته، وإنه لمجرد التعمق في هذا الحديث لا محال سيدخلنا في الإغراق المُخل، خاصة وهذه القراءة تحتاج لتتبع تاريخي دقيق يضطرنا للوقوف عند كل مفصل ناجز لها. الشكل الثالث: الديمقراطيّة (=حكومة الشعب) وكما ورد ذكرها في (المعجم النقدي لعلم الاجتماع): «بأنها طريقة في الحكم تسمح للآراء بأن تعبر عن نفسها بحرية، كما تسمح للفاعلين الاجتماعيين بالمشاركة في الحياة السياسية، وبالتالي تقليص المسافة بين الحكام والمحكومين»[5]. أيضا نستطيع القول بأن «القاعدة المفهوميّة الأولى للنظام الدّيمقراطي هي: أن الدّولة ليست ملكًا للحاكم أو النخبة الغالبة، بل هي مؤسسة اجتماعيّة تديرها الحكومة نيابة عن المجتمع ولمصلحته، وأن النظام يقوم على عقد اجتماعي بين أعضاء المجتمع أنفسهم من جهة وبينهم وبين حكامهم من جهة أخرى، وبعبارة أخرى فإن الدولة في المفهوم الدّيمقراطي ليست ملكًا لشخص أو فريق معين كي يستأثر به دون سائر خلق الله، بل هي هيئة أقامها المجتمع كي تدير مصالحه المشتركة كوكيلة عنه وممثله له. ورجال الدولة موظفون عند المجتمع؛ مسؤولون أمامه وليسوا سادة له أو جبابرة فوقه. يصل الحكام إلى مناصبهم بإرادة الناس ويحصلون على سلطاتهم وصلاحياتهم وفق تفويض علني واضح ومحدد الموضوع والزمان. قد يحكم رئيس الدولة أو حكومته أو نواب الشعب أربع سنين أو خمس أو أقل أو أكثر، لكنهم في نهاية المطاف بحاجة إلى تجديد وكالتهم وتفويضهم، فإن رضي الشعب بهم وإلا نصب غيرهم في محلهم»[6]. إلا أنه لا وجه للمبالغة إن قلنا: إن الدّيمقراطيّة حسب مضمونها المشار إليه آنفاً؛ لم يبصر النور -حتى اللحظة- بكل تفاصيله الدقيقة في العالم الإسلامي والعربي، وإن بدت بعض ملامحها في أكثر من بلد إسلامي، إلا أنها لا تعتبر تجربة ناجزة للديمقراطيّة بتفاصيلها الحضارية، سواء في مجملها أو تفصيلها. فهل يا تُرى يعود السبب للارتباط الوثيق ما بين السلطة الدينية من جهة والسياسية من جهة أخرى أم لأمور أخرى لم تتكشف لدينا لغاية اللحظة!؟ وهذا ما لا يتوافق مع مسار العلمانيّة والدافع الليبرالي السياسي الغربي أيضاً.

وكما ذكر محرر الكتاب في معرض حديثه أن الكِتَاب يتألف من مساهمات (=دراسات) لستة كُتَّاب، تدور جميعها حول محور إحداث التناسب بين الدّين والديمقراطيّة، وكلٌّ يُعالج هذا المحور من زاويته الخاصة، على أنهم قد ركَّزوا في بحوثهم على فكرة (حاكميّة الشعب) معتبرين ذلك جوهراً لمفهوم الديمقراطيّة الذي قد تبنوه فيها. إلى الحد الذي يتكفل مسار البحث الدوال المكملة لها أو الناتجة عنها، كالمشاركة الشعبية، وحاكميّة القانون، والحريات المدنيّة، والعدل والمساواة. ومن الجدير بالذكر أن المجمل من هذه البحوث جاء ليميّز ما بين المصدر والمعنى والمسار التأريخي في كيفيّة التعاطي معها، إن كان نصًّا ثابتًّا أو معنىً مختلفًا باختلاف الأفهام وتفاوت العقول، فضلاً عما أولوه أهميّة من المؤثرات ومجالات الدّرس والاشتغالات الناتجة عن ذلك، كل ذلك وحسب العنوان العام (الدِّيمقراطيَّة الدِّينيَّة) الذي افترضته -هذه البحوث- كتركيب من الممكن تطبيقه على المستويين النظري والعملي، وبكلام آخر: إنه من الممكن إقامة نظام سياسي يجمع ما بين المبادئ الكبرى للديمقراطيّة والقيم العليا للإسلام، نظراً لما يتمتع به مفهوم الديمقراطيّة من مرونة تسمح له بالتناغم مع الإسلام كما هو الحاصل بالنسبة لتمازجه مع الليبراليّة والاشتراكيّة معًا، وهذا ما سبق الإشارة إليه.

وبعبارة أخرى -والقول للدكتور السّيف- فإن التوصل إلى تمازج مناسب للدّين والديمقراطيّة يحتاج إلى فهم للدين يسمح بهذا التركيب، كما يحتاج من جهة ثانية إلى تعديل في مفهوم الدّيمقراطيّة كي يتناسب مع المضمون الديني الذي سيصبح جزءًا من المنظومة القيميّة للنظام السياسي. وأظنه -أي الدكتور السّيف من خلال هذا القول- يدفع الأمور باتجاه قراءة جديدة للدين في شقه السياسي بالذات، وهذا ولا شك ما كان محل بحث وجدل وتجاذب للدراسات الست التي تضمنها هذا الكتاب. فهي بالقدر الذي تُؤسس إلى قراءة جديدة ذات منهجيّة مغايرة عن القراءات الموروثة والتقليدية، هي بالقدر نفسه تؤانس للرؤى الفقهيّة مع حركة تطور الإنسان وتعزيز دوره في الحياة، لا سيّما وأن الاعتبار التقليدي للفقه ما يبرح متخذًا من التدين اللازمة الوحيدة في التهافت إزاء التجارب الحيوية للإنسان وفق تطور منظومة الحياة الجديدة. وهنا يُلفت انتباهنا الدكتور السّيف إلى ما قد تغيب عن أذهان المهتمين في هذا المجال وهو: أن الفقه كونه أحد الأجزاء الرئيسيّة للدين، هذا لا يعطيه المكانة بأن يحوي كل الدين، بكلام آخر: إنّ الدّين أوسع من أن ينحصر في حدود الفقه، لذا ليس من المستغرب إن اعتبرت مثل هذه البحوث الستة الدين باعتباره جزءًا أساسيًّا في تشكيل الهوية، ومصدرًا للأخلاقيات والمثل العليا التي تغني الحياة الإنسانيّة برمتها، أن يصبح لازمة ضرورية لأي نظام سياسي في أي مجتمع مسلم، وحسب تعبير المفكر عبد الكريم سروش فإن أي حكومة في مجتمع ديني لابد أن تكون دينيّة، كي تكون ديمقراطيّة، لأن معاني الحكومة الديمقراطيّة هو تمثيلها لثقافة المجتمع وقيمه وتطلعاته.

الدِّراسة الأولى: الدِّيمقراطيَّة كحاجة للحياة الدِّينيَّة

د. محمد مجتهد شبستري[7]

وجدتُ في دراسة الدكتور شبستري أنها لم تُولِ اهتمامًا تفصيليًّا لمدى حاجة العالم الإسلامي للديمقراطيًّة، لأنه سلفًا يرى فيها العلاج الناجع لأبرز مشكلات هذا العالم المتعطش للقيم الإنسانية كالحرية والعدالة والمساواة، التوّاق لمنظومة تكفل له بقاءه بكل جدارة واقتدار، أمام عالم لا يعترف إلا بلغة القوة -الحضارية وليس الماديِّة فقط- إذ ليس من المستغرب على الدكتور شبستري أن يبذل مساعيه من أجل بسط المناقشة إزاء حاجة هذا العالم إلى النِّظام الدِّيمقراطي، طمعًا في الحصول على تطمينات حول قدرة هذا النظام على إيجاد كافة السبل لمعالجة أمهات المشكلات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصادية في عالمنا الإسلامي، لكنه أيضاً يؤكد أن تكون هذه الديمقراطيّة على قدر كبير من الملاءمة مع معتقداتنا الدينيّة، أي أنه يحاول إحداث أشبه ما يكون بتآلف بين (الدِّين والديمقراطيّة) بحيث لا يفتقد كل منهما خواصه الجوهرية التي جاء من أجلها، وهذا ولا شك بقدر ما يحتاج إلى درجة عاليّة من الدّقة والتتبع بالقدر نفسه وربما أكثر يستدعي بناء قناعة متماسكة كفيلة بصمود فكرة هذا التوليف الخاص.

إلا أن المتتبع للذَّاكرة الدِّينيّة يُدرك تمامًا ما الذي تعنيه الدِّيمقراطيّة في مكوناتها الخاصة التي ربما يصرُّ البعض على أنها على نقيض في بعض تصوراتها مع الدّين، مما حدا بالدكتور شبستري إلى الإشارة إلى أن مثل هذه النظرة لا تقتصر على الديمقراطيّة فحسب، بل تنسحب على مجمل العناوين الحديثة الأخرى ذات المنحى المُجرب والمؤنسن، وكأنه يُريد أن يقول: إنَّ المسلمين باتوا بأمس الحاجة إلى إعادة إنتاج الفعل الثقافي لديهم، وهذا يساعدهم على الدخول في الواقع المعاصر بكل كفاءة واقتدار، وإلا فـ«الديمقراطيّة هي سؤال واحد فقط من أسئلة كثيرة مطروحة بإلحاح على المسلمين المعاصرين وعلى الفكر الإسلامي، وبقاؤها مطروحة لزمن طويل يدل صراحة على أن هذا الفكر يفتقر إلى منهجيّة مناسبة لاستيعاب ومعالجة التحديثات النظرية وغير النظرية التي تولدت عن تطور الفكر الإنساني في العصور الأخيرة»[8]، لكنه في الوقت نفسه اتخذ طريقًا آخر للوصول للعلاج من واقع تخصصه في الفلسفة وعلوم الكلام، فقد أوثق العرى ما بين الغايات والوسائل، بعد أن استجار بمنهج الهرمينوطيقيا [علم التّأويل] وهو واحد من مناهج فهم النص الديني، وإنه منهج ذاع صيته في أوساط الفلاسفة في أوروبا منذ بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر، وهو منهج لا يقف عند فهم النص وفق مسار واحد أخذ به الأسلاف بل لا بد من الاستمرار في عناصر الكشف والتأويل عن أفهام أخرى عبر مسارات عديدة، بمعنى تطوير آليات وأدوات البحث، وذلك من أجل الوصول إلى أقصى حد من مضمون الرسالة الداخليّة المستخلصة من النص لا من بنيته اللغوية أو الرمزيّة، وبالتالي يرى أنَّ معرفة الله وتعاليمه تكون على الدوام معرفة إنسانية، بمعنى أنها ليست الحقيقة المطلقة لدى الفهم البشري. فهو بذلك قد هيأ المناخ لكثافة من الأسئلة بغية الحصول على أكبر قدر من المعاني، حيث إنه يكثف التكرار في استنطاق النَّص قدر الإمكان، إلا أنه يرى ضرورة أن يكون المتأوّل على بينة واعية قدر الإمكان من افتراضاته. وهذا من شأنه ينسحب على الفقيه نفسه الذي إذا ما أراد أن يصدر حكمًا شرعيًّا لا بد أن يكون على معرفة بموضوع حكمه. وهو ما يشترط في العالم أن يكون قادرًا على الاستناد إلى معارف عصره وذلك بأن يكون مطلعًا على العلوم الحديثة، ذلك أن الاستناد إلى ملخصات التشريعات التقليدية غير كاف للإيفاء بالغرض.

من هذا المنطلق -والإشارة للدكتور السّيف- «يشدد شبستري على الحاجة إلى منهج جديد في الاجتهاد والاستنباط وفهم القواعد والقيم الدينية وتفسيرها، يتمحور حول غايات تلك القيم والقواعد وليس إطارها الشكلي أو صورتها الخارجية»[9]، وهنا يستنبت الدكتور السّيف تساؤلاً مستوحىً من إسهاب الدكتور شبستري لينطق الأول عن الأخير: أين يمكن للمسلم أن يعيش حياته الدينية بصورة أفضل، في ظل حكم يضمن حقوقه وحريته أو يكون تحت ظل حكم استبدادي يحرمه من تلك الحقوق والحريات!؟. مثل هذه التساؤلات صار من الضرورة بمكان إعارة الانتباه إليها ليس لأنها حاجة إنسانيّة فحسب، بل إن ذلك من جوهر الدين نفسه، فلم يكن الدِّين إلا من أجل إحداث حالة من النِّظام والضبط الإنساني الوظيفي ونظرته للحياة، ولو أن هناك العديد من التفسيرات الدينية التي تتضارب مع بعضها البعض إزاء الحداثة بكل صيروراتها، وهذا ليس حصراً على النظرة الإسلاميّة الدينية بل إن «التفكير الديني في مختلف العالم كان متخلفًا أو منفصلاً عن الحراك العلمي والتطور العقلي الذي أوجد المدنيّة المعاصرة»[10]، مع ذلك فقد رسم الدكتور شبستري خطوطه العامة تجاه المشكلات الثقافية التي تعصف بالعالم الإسلامي على وجه التحديد، وهي كثيرة ومعقدة، بعد أن أوضح أن ذلك نجم عن أسباب عدة وجد من المفيد الإشارة إلى ما اختزلته عبارته التالية: «كثير من مشكلاتنا الثقافية هي نتاج لترددنا في تطوير مناهج الفهم والاستدلال التي يتعارف عليها العلماء باسم الاستنباط أو الاجتهاد، لا سيّما التردد في الأخذ بالمناهج الجديدة في فهم النص واستنطاق مضمونه. وللأسف -والقول لشبستري أيضًا- فعلى الرغم من توفر هذه المناهج ورغم قدرتنا على تطويرها إلا أن الاهتمام بهذا الأمر في مجامعنا العلميّة ضئيل أو ربما معدوم. في سنوات الثورة الإسلاميّة الأولى أتاحت الظروف السريعة التغيير مجالاً للدعوة إلى تجديد الفكر الديني ولا سيّما مناهج الاستنباط، ومساءلة أولئك الذين يتصدون للاجتهاد والفتوى عن منهجهم في البحث، والمعايير التي يقررون على ضوئها خياراتهم، لكن هذه الدعوة واجهت في كل الأحوال معارضة غير منصفة، وواجه أصحابها أنواعًا من العنت حتى اضطروا إلى السكوت عنها»[11]، بهذا انتحى الدكتور شبستري بجرأته المعهودة جانبًا مهمًّا وجوهريًّا من الفكرة الأساس، وهي التوليفة ما بين الدّين من جهة والدّيمقراطيّة كنظام سياسي من جهة أخرى، عازياً سبب ذلك لتردد الفضاء الفقهي برمته من ركوب موجه التطوير فيما يتعلق بمنهجيّة الاستدلال واستنباط الأحكام، وإحجامهم عن منهجيّة البحث العلمي الحديث في ذلك، ولم يكتفِ بذلك بل ارتأى أيضًا أنه لا يمكن -وفي ظلِّ المناهج الموروثة- التَّوصل إلى جواب شافٍ ووافٍ حيال هذه التوليفة التي باتت سهلة وطيِّعة لدى عوالم أخرى تنعم بفضاء الحرية والعدالة والمساواة، وما زالت معقدة ومتشعبة في الفضاء الديني والإسلامي، «ومن هنا فإنه لا الديمقراطيّة ولا القيم والأفكار الأخرى التي أنتجتها المدنيّة المعاصرة، قابلة للفهم أو الملاءمة مع تفكيرنا الديني الذي يستمد طاقته الاعتبارية من تلك المناهج الموروثة»[12].

ومن اللافت في الأمر عندما أشار شبستري نفسه إلى أن الهدف الرئيس من المناقشة في هذا الأمر ليس من أجل تخليق مفهوم جديد للديمقراطيّة بحيث تكون بمنأى عن المفهوم المعاصر له، بل تبنَّى الديمقراطيّة (=سلطة الشعب) كما هي عليه في العالم الحديث ولو أضفى عليها بعض التغييرات التي لا تذهب بجوهرها الحقيقي الذي جاءت من أجله. لأنه يرى أن الديمقراطيّة بكل مقوماتها الفلسفيّة ومكوناتها الأخلاقيّة لا تستمد طاقتها إلا من خلال القانون الطبيعي (=الفطرة) التي فطر الله النَّاس عليها، أي أن قيمة الدّيمقراطيّة هي خلاصة إنسانيَّة اجتماعيَّة مبنيّة على حالة من (التوافق) بين مختلف أعضاء المجتمع بكل ملامحه الاعتبارية. وهذا التوافق قادهم إلى تعاقد، أي إلى قانون اجتماعي عام، جعلهم منصهرين في نسق معين بطوع إرادتهم. إذن (التّوافق الاجتماعي) هو حجر الزَّاوية لبناء مجتمع متكامل يتخذ من الدِّيمقراطيّة قانونًا ينظم حياته ويساهم في تلبية متطلباته وطموحاته، فلا غرابة إن جعل الدِّكتور شبستري من فكرة (التَّوافق الاجتماعي) الخطوة الأولى والأساس والتي بإمكانها أن تمهد لقيام حكومة ديمقراطيّة. مع إدراكه المناسب أن حالة التوافق المشار إليها لا يمكن أن تكون خلاصة للتأمل الفكري المجرد، بل هي نتيجة لتحولات اجتماعيّة عميقة لا تخلو من الأزمات والتحديات التي وإن لم تئد هذه التحولات فإنها ولا شك ستساهم في إعاقتها وعلى فترات طويلة.

لم يكن غرضه من الإشارة إلى فكرة التوافق ليقف عند هذا الحد، بل كان الغرض هو الوصول إلى ما هو أبعد من ذلك، فما فكرة التوافق إلا قنطرة إلى بلوغ (التعاقد)، وهذا ما يتماهى مع «جان جاك روسو» وفكرة (العقد الاجتماعي) والتي تدور حول وحدة الجسم الاجتماعي وتبعية المصالح الخاصة للإرادة العامة، وهو عقد يتحد بموجبه كل واحد مع الكل، أي إبرام عقد مع المجموع أنفسهم بأنفسهم، وما ينتج عن هذا التعاقد هو بنفسه الإرادة العامة التي هي إرادة الأعضاء الذين يؤلفون هذه المجموعة، بمعنى أن القانون والسيادة هما نتيجة عقد اجتماعي مبني على توافق المجموع أولاً، فإن اكتمل كل ما من شأنه أن يُنشئ كيانًا ونظامًا نستطيع أن نؤكد من خلال ذلك أن الديمقراطيّة اتضحت معالمها الصريحة في هذا الكيان، وقد صار هناك وطن وقانون ومواطنة، وأيضاً حقوق وواجبات، وإرادة شعبية، وحرية وعدالة ومساواة، أي قيم الديمقراطيّة أخذت صورتها الكاملة في هذا الكيان. لكنه -شبستري- لا يجعل من القيم الدينيّة في مصاف قيم الدّيمقراطيّة من حيث معيار (التَّوافق أو التَّعاقد) لأنها لم يكُنْ منشؤها التمظهر الاجتماعي وتوافقاته، بل هي ناشئة من الاعتبار الديني والأخلاقي، بكلام أكثر دقة: إن الدّين لا يصوغه المعيار البشري أو الاجتماعي بالتحديد، خلافًا للقيم الديمقراطيّة التي تتمأسس تحت ظل التوافق والتعاقد الاجتماعيين.

إذن الدِّيمقراطيّة حسب رؤية شبستري هي: «منظومة قيميّة تقوم على أرضية التوافق الاجتماعي، فالإرادة العامة للمجتمع هي مصدر شرعيتها ومعياريتها، خلافًا لهذا فإن القيم الدينية مستمدة من الإيمان الديني، وهو ليس قائماً على توافق بين الناس، بل ثمرة للاتصال بين الفرد وربه. حتى لو قلنا بأن الدين هو تجربة روحيّة، فإنها أيضاً لا تخرج عن ذلك الوصف، ذلك أن التجربة الروحيّة هي في نهاية المطاف تجربة فردية وليست موضوعًا للتوافق»[13].

وعلى الرغم من قناعة شبستري بأن الديمقراطيّة قد تولدت من رحم التجربة البشرية إلا أنه لم يتوانَ وبأسلوب متميز في وضع تصورات مقنعة في كيفية البحث عن دليل بين النصوص الدِّينيّة، فهو لم يكن بحاجة للقيام بمثل هذا الأسلوب لولا قناعته بأن ذلك قد يساهم في دفع العقول الكسولة إلى النهوض وكل ما من شأنه أن يحرك البوصلة باتجاه القيم الدِّيمقراطيّة ومدى حاجة المجتمع الإسلامي إليها، وسرعان ما يضع النتيجة بأنَّ الدِّين كنصوص مقدسة ليس فيه ما يؤصل لهذه الدِّيمقراطيّة، لكنه يجدها في روح الدِّين والقيم الدِّينيَّة والفعل الثقافي للمجمعات الإسلاميّة مما يستوجب مراجعة وتغيير لمنظومة القيم الخاصة بالثقافيّة الإسلاميّة نفسها، وذلك من أجل استيعاب القيم الجديدة وهضمها وإدراجها ضمن منظومة القيم الخاصة والاستثنائيَّة وفق الحاجة. إذ لا يجد -الدّكتور شبستري- في هذا المسعى ما يمنع من الوجهة الشرعيّة أو العقليّة ما يحول دون مراجعة القيم التي نرجع إليها في تنظيم حياتنا تحت ظل النظام الإسلامي، هذا إن لم يعتبر هذا الأمر حسب وجهة نظره بأنه موطن الاجتهاد في معناه الدقيق.

ولو حاولنا أن نضع خلاصة ما توصلنا إليه من البحث نجده يكمن في أن التوليف ما بين الدِّين والدِّيمقراطيّة ليس بالأمر الصعب، إلا أنه يحتاج إلى مرتكزات تستقي طاقتها من جوهر الدِّين في روحه وقيمه، ومنتهجة لمنهج عقلاني إنساني في فهمه وتفسيره، لا يتخذ من آراء العلماء رافدًا وحيدًا للفهم والإدراك، خاصة والمنهجيّة التقليديَّة المتوارثة ما تزال تأخذ طريقها الوحيد في عملية الاستنباط والاجتهاد، وكأنه يؤسس إلى رؤية جديدة للدّين تستوعب كافة التحديات المعاصرة وتستجيب بالقدر الذي يفي بحاجة المسلم دون إحداث أي انفصام مع الدّين في جوهره، أي أن يعيش المسلمون عصرهم ويحافظوا في الوقت نفسه على إيمانهم.

الدِّراسة الثانيّة: الدِّيمقراطيّة والدِّيمقراطيّة الدّينيّة: المبادئ الأساسيّة

د. محسن كديفر[14]

ينبئ عنوان هذا البحث إلى عقد مقارنة بين الدِّيمقراطيّة من وجهتها العامة والديمقراطيّة الدينيّة التي تعد محور الحديث بشكل خاص، بعد أن بذل الباحث مساعيه الجادة في تعريف النموذجين، الأول وهو: نموذج الدِّيمقراطيّة حسب الرؤية والتطبيق الغربيين، والآخر هو: النَّموذج الإسلامي وهذا ما يطمح إليه الباحث لتبنيه كرؤية وتطبيق أيضاً في الفضاء الإسلامي. وقد أخذ على عاتقه النظرة في قياس حجم التناظر في اقتران الديمقراطية بالأيديولوجيات، مما حدا به أن يضع وليفة (الدَّين والدَّيمقراطيَّة) في قبال الدِّيمقراطيات الأخرى كـ(الدِّيمقراطيّة الليبراليّة أو الدِّيمقراطيّة الاشتراكيَّة أو غيرها)، متخذًا من مفهوم الدِّيمقراطيّة محور الحديث في كل هذه الدِّيمقراطيات، باحثًا عن الأسباب الجوهريِّة التي جعلت من هذا المفهوم يتسق مع كل الأيديولوجيات مع نسبة الفارق سواء كان ذلك في مستوى الرؤية أو في مستوى التطبيق.

ثم جاء ليضع إجابات ثلاث، بل أنظمة ثلاثة، للحكم بعد مجموعة من التساؤلات التي تدور حول الديمقراطيّة: ما هو النظام الأفضل لإدارة البلاد والعباد؟ وما هي الجهة المسؤولة عن تدبير الأمور في المجال العام؟ ومن صاحب السلطة العامة في البلاد؟ وجاءت إجاباته على النحو التالي:

أولاً: نظام حكم فردي Autocracy أي حكومة الفرد المطلقة والمركزية، حيث لا تخضع لأي رقابة أو قانون، بمعنى أن الحاكم فوق القانون، وغالبًا ما يكون الحاكم قد وصل للسلطة بالقهر أو التوريث.

ثانيًا: نظام حكم نخبوي أرستقراطي Aristcracy أي حصر السلطة في طبقة من المجتمع تعتبر نفسها الطبقة الأعلى بين سائر الناس، بحيث لا تستطيع بقية شرائح المجتمع وطبقاته المشاركة في الحياة السياسية البتة، وتظل الحكومة غير خاضعة لأي رقابة وعلى كافة المستويات.

ثالثًا: نظام تمثيلي ديمقراطي Representative Democracy يُؤمِّن المشاركة المتساوية لجميع أفراد الشعب في صناعة السياسة واتخاذ القرار، والوصول إلى المناصب العامة أو انتخاب من ينوبون عنه فيها، أي أن الحاكميّة تكون للشعب بعد أن يتحقق الحد الأعلى من رضا العامة وليس رضا شخص واحد أو طبقة خاصة.

فالحكومات المعاصرة في العالم لا تبتعد عن هذه الأنظمة الثلاثة، فإما حكومة فرد، أو حكومة أقليّة، أو حكومة الشعب كل الشعب، وهو بهذا استبعد (الحكومة الإلهيّة - الفقهيّة) من هذا التصنيف، لأنه لا يرى أن يكون مثل هذه الحكومة قابلاً للتحقيق، وفيما لو تحققت فإنها أيضاً لا تخرج عن الأطر الثلاثة المذكورة أعلاه، فعندما تكون الديمقراطيّة في كنف الدين، يصبح شأنها شأن الأنظمة الشموليّة التي لا تعترف بالحد الأدنى باستقلال المجال الدِّيني عن السياسي، وهذا ما اتُّفق على تسميته بالأنظمة الثيوقراطيّة، أي حين يسود الاعتقاد بأن الخالق عزَّ وجلَّ قد فوّض تدبير الأرض في كل زمان إلى صنف خاص من علماء الدين باعتباره الامتداد الطبيعي للرسالة، فنحن بالتالي نتحدَّث عن حكومة النخبة الدينيّة (الثيوقراطيّة) والتي تُناظر حكومة آباء الكنيسة أو حكومة الروحانيين أو الفقهاء، إذ لا نبالغ بالقول بأن مثل هذه الحكومات ولو إنها اختلفت طبيعة بيئتها فهي صورة طبق الأصل عن الحكومات الشموليّة التي هي معول هدم يقف أمام كل ما من شأنه أن يطور من قدرات شعوبها إزاء كافة القيم الديمقراطيّة المتعددة. وكذلك الأمر ينسحب على نموذج (الدِّيمقراطيّة الشعبويَّة) التي وإن بدا ظاهرها مبالغاً في تمجيد الشعب، وتصوير مطالبه على أنها الحقيقة المطلقة، لكنها في الأساس تستبطن حكومة الفرد المستبد، وهذا ما لم يخرج عن دائرة التحذير منه أيضًا من قبل الشيخ كديفر.

كان لزامًا ومن أجل أن يُصار البحث للعلميّة، وقبل أن يتطرق الباحث للمبادئ الكبرى للدِّيمقراطيّة، نجده قد استنفد مختلف الصور للدِّيمقراطيَّة وأشكالها المتعددة، أو بالأحرى كافة أنظمة الحكم المتعددة، سواء كانت متمترسة بالدِّيمقراطيّة أو اتخذت منهجاً جليًّا من الدِّكتاتوريَّة، جدير به واستكمالاً للدقة العلميّة أخذ الدكتور محسن كديفر على عاتقة مناقشة الأسس والمرتكزات التي ينبغي أن يتحلى بها النظام الديمقراطي الحقيقي من مقومات عديدة كـ«الأصيل من المساواة، وسيادة الشعب، والمشاركة الشعبية من خلال تحقيق الرضا العام، وسيادة القانون، والأخذ بمبادئ حقوق الإنسان»، فهذه الأصول الخمسة تمثّل بامتياز المبادئ الأساسيّة للنظام الديمقراطي وهي ما تميزه عن سائر الأنظمة السياسية في الواقع، ولم يقف عند هذا الحد بل جاء بالتفصيل لآليات التطبيق لهذه الأصول، وهذا ما تداعت إليه معظم الأدبيات التي تكلَّمت عن سيرورة الديمقراطية وكيفية تطبيقها.

ولأنه أراد أن يؤسس إلى ما أسماه بـ(الدِّيمقراطيّة الدِّينيَّة) جاء ليناقش أيضاً مستوى تجاذب الدِّيمقراطيّة ذاتها مع الأيديولوجيات المتعددة، ومدى ما يتمتع به المفهوم الدِّيمقراطي من مرونة، سرعان ما تجعله منسجمًا مع طبيعة البيئة المعرفيِّة والأيديولوجيِّة، أيًّا كانت هذه الأيديولوجيِّة مختلفة وذلك حسب طبيعة اختلاف البيئة، مع الإشارة إلى أنَّ «إضافة اللمسة الأيديولوجيَّة لا تعني استبدال آليات الدِّيمقراطيّة ومبادئها الأساسية بأخرى مستقاة من الأيديولوجيا، لأن النظام سيفقد في هذه الحالة صفته الدِّيمقراطيَّة، بمعنى أن الدِّيمقراطيَّة قابلة للتشكل حسب طبيعة الأيديولوجيات دون أن تفقد الأولى مضمونها الجوهري من مقوماتها الرئيسية»[15]. لذا لا ضير إن حملت التجارب البشرية عناوين مركبة، بحيث تكون الدِّيمقراطيّة فيها جزءًا لا يتجزأ كالدِّيمقراطيّة الليبراليَّة، أو الاشتراكيّة، أو المسيحيَّة، أو اليهوديَّة، أو الإسلاميّة أيضًا.

وبالعودة إلى عنوان الديمقراطيّة الدينيّة أو الإسلاميّة فإنه قد عَمَدَ إلى فرضيتين اثنتين:

الأولى: ترى أن ثمة تمايز ما بين الدِّين والدِّيمقراطيّة، أو بالأحرى هناك بونٌ شاسعٌ بينهما، على اعتبار أن الدِّين هو منظومة من القيم الشاملة، في حين أن الدِّيمقراطيّة بالإمكان حصرها في نظام الإرادة السياسيَّة للمجتمع. لكنهما وحسب وجهة نظر الباحث على الرغم من تمايزهما كمفهومين إلا أنهما غير متنافرين في الوقت نفسه. وهذا يستلزم العمل لإحداث حالة من التوافق إذا ما أراد المسلمون تلمُّس مدى الحاجة من هذه التوليفة التي تستدعي ولا شك قواعد جديدة وقراءة معينة للنص الديني، وهنا لا يعني إخضاع الدين إلى عملية قهرية لا يكون ضحيتها الدين فحسب، بل أيضًا الإنسان ومجموعة نظمه في الحياة، «من هنا فمن الأسلم القول بأن الدين المقصود، أي الذي يمكن أن يقوم على أرضيته نظام ديمقراطي، هو الدين الذي لا يتعارض -على أقل التقادير- مع أصل ومبررات سيادة الشعب»[16]. وتجدر الإشارة إلى ما تخلص إليه توليفة الدِّيمقراطيّة والدِّين، بحيث إن طغيان أحدهما على الآخر يؤدي إلى اختلال التوازن في التطبيقات، بالتالي الدِّين دون أدوات الدِّيمقراطيّة فإن الممارسة الدِّينيَّة لن تُظهر الدِّين بصورته النَّقيّة، لأن أي نظام ثيوقراطي وغير ديمقراطي لا يعود بالفائدة على الدِّين بشيء، بل تَصير المظاهر الدِّينيّة مجرد شعارات حين تعمد الدَّولة الدّينيِّة إلى استعمال القوة والقهر في سبيل إقامة الشعائر الدِّينيّة ورعايتها وفق التصور الدِّيني الرَّاديكالي. وكذلك الانزياح بالدِّيمقراطيّة عن التعاليم الدينيّة سيكرر عناوين أخرى كالدِّيمقراطيَّة الليبراليّة أو الاشتراكيِّة أو أي تجربة ديمقراطيّة تنأى بذاتها عن الدِّين تحت مسميات الفصل بين الدِّين والسياسة.

كيف يصبح النظام الديمقراطي إسلاميًّا!؟

قبل أن يبادر للإجابة عن مثل هذا التساؤل عمد الباحث إلى استعراض مستفيض لمجموع القراءة الدّينيّة الرَّافضة للدِّيمقراطيّة بوصفها محققة لسيادة الشعب وحاكميته، وهذا ما يمثل غصبًا وعدوانًا لحاكميّة الله عزّ وجلّ. ثم تطرق إلى الرأي الآخر والقراءة الدِّيمقراطيَّة للدِّين والتي تتكئ على عدم فصل الدّين عن الكاتب أو الباحث نفسه، وما يتعرض له من هموم وتحديات فضلاً عن تأثره بالبيئة الثقافيّة المحيطة، كما أنها في الوقت نفسه لا تقبل بالفصل بين الحكم الشرعي وبين أحكام العقل ومقتضيات العدالة، انطلاقًا من قاعدة أن الغرض من الدِّين هو انعتاق الإنسان وليس استعباده!.

على أثر ذلك يجيب الباحث عن هذا التساؤل ليقول: إنَّ «الدِّيمقراطيَّة الإسلاميّة هي نظام للحياة السياسيَّة للمسلمين في العالم الحديث، وليس المراد من نسبتها إلى الإسلام استنباطها من القرآن الكريم والسنّة المطهرة، بل الإشارة إلى أنها منهج عقلاني لا يتنافى مع قيم الإسلام، وأنها وسيلة يمكن للمسلمين الأخذ بها لتنظيم حياتهم، وأن الفكر الإسلامي قادر على توفير المباني الفلسفيّة للديمقراطيّة الدينية. ومن ناحية أخرى -والقول للباحث- فإن الديمقراطيّة الإسلاميّة هي نوع من أنواع الحكومة الدينيّة، فالحكومات الإسلاميّة يمكن أن تكون ديمقراطية تستند إلى سيادة الشعب، ويمكن أن تكون فردية أوتوقراطيّة أو نخبوية أو أرستقراطيّة»[17]، وكما يبدو ومن خلال هذا العرض فقد أجمل ما قد فصَّله لاحقًا في دراسته عندما تطرق إلى جوانب عدة من خلالها يمكن أن يتعزز ما كان يدفع إليه دائماً للخلوص بنسق جديد يضمن حالة التناغم بين الدين والديمقراطية مع احتفاظ كل عنصر بخواصه الجوهرية، ولم يكتفِ بهذا القدر بل بذل ما في وسعه للتفريق ما بين الديمقراطيّة الدينيّة وسائر الديمقراطيات الأخرى حين وضع الخواص المميزة بكل تفاصيلها المتشعبة واحتمالاتها التي تدعو المتتبع للتوقف عندها طويلاً.

الدِّراسة الثّالثة: الدِّيمقراطيّة الدّينيّة،
حاكميّة العقل الجمعي وحقوق الإنسان

د. عبد الكريم سروش[18]

صورة العالم تتغيّر حسب المنظور العلمي الحديث، هكذا بدأ سروش بحثه بعد أن سلّط الضوء على ما ساد من تصورات بشريّة حتى القرن السادس عشر، حيث قال: «كان الأوروبيون يفهمون الكون على ضوء نظرية (أرسطو) الذي اعتقد أن الطبيعة منظمة طبقًا لمنظومة وظيفية متصلة ببعضها ومتجهة نحو غاية أسمى أو Telos حسب التعبير اليوناني، ويقوم فوق هذا النظام كائن أعلى هو مصدر الخلق (الله). كان تغير هذه الصورة التيليولوجيّة هو نقطة التحول إلى ما سُمّي بالعلم الجديد، الذي نظر إلى العالم نظرة ميكانيكيّة تفسر الظواهر الطبيعيَّة إضافة إلى السياسية والفكر الإنساني كسلسلة من المقدمات والأسباب والنتائج، بغض النظر عن غرضها أو وظيفتها النهائية. موازيًا لهذا التحول الفكري ظهور الإصلاح الديني البروتستنتي الذي رفض فهم العالم كنظام هرمي قائم على رؤية ميتافيزيقيّة تعرف هوية الأفراد تبعًا لمكانهم في النظام»[19] بيد أن العلم الحديث لا يُنكر وجود الله، وهو بالتحديد لا يجد ثمة ضرورة لافتراض وجوده، لأنهم يجدون في العلم ما يوفر لهم صيرورة الفهم، فالمجتمعات الليبراليّة المعاصرة خير شاهد على ذلك، حين يكون النظام الإداري الحاكم يمارس سلطته كما لو أن الله غير موجود، وكأنهم ليسوا بحاجة لذلك أبدًا، بمعنى أنه لم يعد مثل هذا الموضوع محل اشتغال بالنسبة لهم، سواء كان على صعيد الفعل الثقافي السياسي أو الأدبيات والأخلاقيات التي تأخذ بها مثل هذه الأنظمة والحكومات، بكلام أكثر دقة: ليس ثمة سعي لإرضاء الخالق بقدر ما يتكرَّس سعيهم باتجاه رضا المخلوقين، أي إرضاء المجتمع الذي تمثله وتحكمه.

وبناءً على ذلك عقد سروش مقارنة ما بين الحكومات الليبراليّة - الديمقراطيّة المعاصرة ونظيراتها من الحكومات القديمة كما كان عليه الحال بالنسبة لسلطة بابوات الكاثوليك في أوروبا وعهد الخلافة الإسلاميّة، فإن «كانت الدَّولة القديمة تدّعي أن غرضها هو تأمين رضا الله عزّ وجلَّ قبل كل شيء، وربما اهتمّت بالمخلوقين كوسيلة لرضا الخالق لا كغاية قائمة بذاتها. في المقابل فإن الدولة الحديثة اهتمّت أولاً وأخيرًا برضا المخلوقين بغض النظر عن خالقهم!»[20]، وهذا لا يخرج عن إطار فكرة تجاذب الدِّين مع السياسة سواء كان قبولاً أو رفضًا، وهنا نستحضر ما ذكره أحد الرُّهبان في ذروة عصر الأنوار، وهو «رينال Raynal»[21] عندما استعرض (المبادئ الصحيحة) فيما يتعلق بإدارة المقدسات وذلك في عام 1770م، وقد ورد ما فيه تلخيصًا للفكرة بأن الدَّولة لم يكن إقامتها ومن وظيفتها خدمة الدّين (اللاهوت)، بل من أجل الشعب وحسب. ثم يستطرد الدكتور سروش مشيرًا إلى الأزمة الحقيقيّة التي تعانيها الحكومات الدّينيّة الدّيمقراطيّة كامنةً في عدم ضمانها معادلة سياسيّة شفَّافة وواضحة وكفيلة في الوقت نفسه للجمع ما بين رضا الخالق ورضا المخلوقين، بشكل متوازن ما بين داخل الدين وخارجه، والذي من شأنه أن يسهم في ضبط الفعل السياسي إلى أقصى حد بحيث يحفظ الحق للخلق والخالق معًا، ويصون الحريّة للإنسان وكماليّة الدِّين.

لا شك في أن سروش، ومن خلال تناوله لبعض الأفكار التي ربما يعتبرها البعض مثيرة للجدل، لم يكن مقصده ذلك، بقدر ما كان يبتغي أن يسهم في بث الوعي تجاه حاجة المجتمعات الإسلاميّة إلى نظام يصل بها إلى أبعد ما يكون إلى صناعة القرار السياسي، وأعتقد هذا ما تضمنه الدِّيمقراطيّة كتجربة بشرية ناجحة، لا عما عجز عنه المؤدلجون الدينيون طوال فترة تاريخية طويلة جدًّا، وبالتالي قد انزاح سروش إلى وضع مقترح يدفع الأمور باتجاهين اثنين: الأخذ بفهم جديد للدين يقوم على الجمع بين العقل والشرع معًا هذا من جهة، والالتزام بحقوق الإنسان الطبيعية والدستورية من جهة أخرى. هذا إذا ما بلغت بنا القناعة كمسلمين إلى أن الحاجة للدّيمقراطيّة كالحاجة للماء والأكسجين. بيد أنه أعار اهتمامًا كبيراً لحقوق الإنسان باعتبارها حقًّا طبيعيًّا له، لم يكفلها الدّين فحسب، بل أيضًا سائر الأدبيات البشرية، بل ذهب إلى اعتبارها لا تقل حرمة ومكانة من احترام الإنسان لحقوق الله عزّ وجلّ، فهو بهذا الطرح بالقدر الذي كانت عيناه على فكرة رضا المخلوقين وفق التجربة الدّيمقراطيَّة، أيضاً لم يُغفل سعيه لرضا الخالق حسب المقصد الدّيني الذي كما يبدو لا يتجاوزه ولا يطوي عنه كشحًا. تجلى هذا الأمر عندما أورد ثماني نقاط، أوجزت أهم نقاط الاتصال والانقطاع في الوقت نفسه؛ لتحقيق ما من شأنه رضا الخالق والمخلوقين معًا. حتى انتهى به القول إلى أن الخيار المنطقي والوحيد يكمن في إقامة حكومة ديمقراطيّة دينية في مجتمع ديني، بمعنى أن الحكومة الدّينيّة الديمقراطيّة لابد أن تكون مسبوقة بمجتمع ديني أو على الأقل تقوم على أسس تناسبه وتتناغم مع قناعاته. وإلا بالضرورة أن أي حكومة غير دينية هي ليست ديمقراطيّة؛ لأنها لا تعكس حينئذ ثقافة المجمع وهويته، بل همومه وتطلعاته أيضًا.

ونخلص بالقول إلى أن «الحكومات الديمقراطية هي التي تجعل العقل الجمعي حكماً في النزاعات ووسيلة إلى حل المشكلات. أما الحكومات الدينية فهي التي تجعل الدين هو الحكم. كما أن الحكومات الديكتاتورية هي التي تفوّض الحكم وحلّ النزاعات إلى شخص الحاكم من دون مشاركة الشعب أو تحكيم الشرع»[22]. وأحسبه ينطلق من هذا المنحى ما بناه من قاعدة فسلفيّة في التفريق ما بين (النص الديني والفهم البشري له)، إذ لا يعني تحويل الحكومة الدينية إلى (دينية ديمقراطيّة) مُلزمًا إياها أن تتملص من الدِّين، ولا أن تدير ظهرها لفكرة رضا الخالق، بل إن الديمقراطيّة الدينية سعيها يبقى حثيثاً لأن يكون الدين هاديًا وحكمًا في المشكلات والمنازعات، وأن يكون موفرًا لمناخ يساعد على تحرك الفهم الاجتهادي للدِّين بما يتلاءم والعقل الجمعي، وهذا يؤهلها إلى أن تكون على مسافة واحدة ما بين رضا الله ورضا المخلوقين. وهذا ما يؤسس له سروش من خلال بحثه، وهو ما يتعارض مع مسار الديمقراطيّة الليبرالية أيضاً في الوقت نفسه، فهذه الأخيرة على الرغم من أنها من حيث الجوهر لا تُنكر وجود الله، لكنها لا تجد ضرورة في افتراضه في الحياة، بمعنى أن دوره انتهى وبدأ دور الإنسان فقط.

الدِّراسة الرَّابعة: من المدينة الفاضلة إلى مدينة الإنسان:
الدِّيمقراطيّة الدِّينيَّة مثالاً

د. علي رضا علوي تبار

ليس ثمة أدنى شك في أن الدِّيمقراطيّة الدِّينيَّة لا يمكن توطينها في الواقع الإسلامي دون إزالة العوائق (الذهنيّة) و(الفكريّة) لدى المجتمع الإسلامي التي تقف في طريق إرساء دعائم الدِّيمقراطيّة وتفاعلها مع الفعل الثقافي والمعرفي. هكذا يبدأ الدكتور تبار دراسته التي تتخذ من نظرية الحكومة الدِّيمقراطيّة الدِّينيَّة - الدكتور عبد الكريم سروش- محوراً رئيسيًّا من شأنه أن يوجد صيغة مناسبة ما بين الدِّيمقراطيَّة وقيم الدِّين. «وفي هذا الإطار فهي تعرض آراء الدكتور سروش في العلاقة ما بين النظريات المثاليّة والاستبداد، وإشكاليّة الظرف التاريخي لتطور النموذج الديمقراطي، والتعدد المعرفي في الإطار الديني، إضافة إلى دور المجتمع ومكانته كجزء محوري في النقاش حول الحكم الديني»[23]. ولزامًا وبعد أن وضع النقاط العريضة لأهميّة الديمقراطيّة بوصفها قيمةً عصريةً وتطلُّعاً إنسانيًّا حديثاً، طالما بقيت رهان المجتمعات التوّاقة لنمذجة حياتها بصورة أفضل، بعد أن أصبحت بمثابة الحلم والأمل للإنسان المعاصر، «على أنه من الإنصاف التأكيد على أن الديمقراطية ليست (المدينة الفاضلة) التي تخيَّلها قدماء الفلاسفة، فلها عيوبها ومشكلاتها، لكن الأكثرية الغالبة من عقلاء العالم وأهل الفكر فيه مقتنعون بأنها أقل نظم الحكم التي جربتها البشرية ضررًا وأكثرها منفعة»[24]. والدِّيمقراطيّة كما الحضارة لا تأتي عن قرار سياسي، بل لا تأتي إلا عن تراكم للفعل الاجتماعي والسياسي معًا، بمعنى أنها بحاجة إلى زمن مناسب كي تصل إلى مراحل الإنضاج، أي تتشكل عبر مسار تحول تدريجي، تبدأ من الصغر إلى أن تبلغ ذروتها، عندها تكون العلاقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة وصلت للحد الذي نستطيع أن نسميه بالبناء الدّيمقراطي الحقيقي. وتحت هذا الإطار يتسنى للأنظمة السياسيّة أن تبذل قصارى جهدها في تسريع عملية التَّحول الدِّيمقراطي، ليس بإصدار الأوامر والقرارات فحسب، بل ربما يعد ذلك خطوة ناجزة، لكن الأهم من كل ذلك هو الشروع الحقيقي في التغييرات الإصلاحيّة البنيوية، وإلا مجرد الرغبة في التحول الديمقراطي لا يكفي أبدًا.

ومن الجدير بالذكر ما أسس له الدكتور تبار عندما وضع مشخصاته للظرف الاجتماعي المساعد على التحول الديمقراطي في أي مجتمع كان، إلا أن محور حديث يتركز على المجتمع الإسلامي بالدرجة الأولى، وقد حدد ذلك في أربعة مستويات رئيسيّة[25]:

البعد الأول: مستوى النمو الاقتصادي - الاجتماعي، الذي يشمل المعدل العام للدخل الفردي، وسعة الطبقة الوسطى الحديثة، سعة انتشار وسائل الاتصال الجمعي (الصحافة والإعلام ومصادر المعلومات).

البعد الثاني: مستوى الانسجام بين أطياف المجتمع الثقافية والدينية والعرقية.

البعد الثالث: الثقافة السياسية السائدة بين أعضاء المجتمع والنخب السياسية والقوى الفاعلة في الشأن العام.

البعد الرابع: مستوى التنظيم المؤسسي للمجتمع ولا سيّما في الجانب السياسي، ويشمل (حاكميّة القانون واستقلال القضاء والدستور وتوفر جمعيات سياسية وتمثيليّة...).

من هذا المنطلق فإنه قد وضع التصورات الماقبليّة -إن جاز التعبير- للديمقراطيّة، على الصعيدين السياسي والاجتماعي، مشترطًا -في الوقت نفسه- لنجاح عملية الانتقال إلى الديمقراطيّة توفر ذهنيّة مساعدة كـ(النيّة/ الرغبة/ القرار/ القناعة). ومثل ذلك لا يأتي إلا بعد عمل مكثف للترويج لقيم الديمقراطيّة ومحاولة البلوغ بالمجتمع إلى مستوى مناسب من القناعة بفائدتها وجدوائيتها. في الوقت الذي تتنادى الأصوات المتنورة إلى أن الدّيمقراطيّة هي أفضل المناهج التي عرفتها التجارب البشرية سواء كان في طريقة اتخاذ القرارات أو في إدارة المجتمع بمختلف مكوناته. من هنا وجد الدكتور تبار، ومن خلال مسار بحثه، أن يعزز الفائدة التي يجنيها المجتمع الإسلامي فيما لو أخذ بالدِّيمقراطيّة كنظام معالجة لأبرز مشكلاته العديدة والمتفاقمة، لذا فقد أفرد عنوانًا خاصًّا بالديمقراطيّة وناقشه مفهومًا وتطبيقًا في النسق السياسي، متخذًا من أبحاث الدكتور عبد الكريم سروش ونظرياته الفلسفيّة المتعددة محل نقاش وجدل في سبيل الوصول إلى تطبيقات توافقيّة تُمهِّد الطريق إلى الديمقراطيّة في المجتمعات الإسلاميّة، واضعًا ما توصل إليه الدكتور سروش من طرائق نصب عينه، نظرًا لما لها من مساهمات جادة في عملية فك الأزمات المعقدة فيما يتعلق بهذا المجال. ولعلّ من اللافت أن نظرية (القبض والبسط) للدكتور سروش هي التي استحوذت على الشق الأكبر من الحوار والبحث. مع إسقاط النظرية ذاتها وبمرتكزاتها الرئيسية -(النص/ وفهم النص)، المعرفة الإنسانيّة - التعددية الدينيّة- على مسار البحث، ومدى علاقة كل ذلك وما توفره من فهم ووعي بالديمقراطيّة.

ومن أجل إرساء دعائم الديمقراطية في البلد المسلم (إيران وغيرها مع الاعتبار بالفارق) فإنه قد ناقش باستفاضة مفيدة في الصورة النهائية للفعل السياسي الناجم عن علاقة تفاعليّة بين القوى الثلاث الكبرى في المجتمع (الدولة، المجتمع المدني، الشعب) بحيث يكون (المجتمع المدني) -في النظام السياسي ومن خلال ما تتيحه قوانينه- هو الجزء المنظم لهذه العمليّة التفاعليّة. بهذا يدفع الدكتور تبار إلى أن (العقل الجمعي) هو أصوب الطرق لبلوغ الأثر، بمعنى كلما كان العمل يأخذ طابعًا (جمعويًّا) فإن الأثر يكون بالحجم الذي يتناسب مع الفعل الدِّيمقراطي بصورته الإسلاميّة. لذا هو -الدكتور تبار- يستحضر كلامًا للدكتور سروش في هذا المضمار، حيث إنّ «الحكومة الدِّينيَّة هي الوليد الشَّرعي والطبيعي للمجتمع المدني، كما أن الحكومة الاستبدادية هي الوليد الطبيعي للمجتمع الجاهل والمنكر للحقوق والقابل للظلم والمتأخر وغير الصناعي والمغلق والقبلي، كذلك فإن الحكومة الديمقراطيّة هي الوليد الطبيعي للمجتمع المتعلم والصناعي الذي يؤمن إيمانًا كاملاً بحقوقه والذي تتوافر له آليات للمشاركة في الحقوق والشؤون العامة، مهما أرادت الحكومة فهي في نهاية المطاف مولود الشعب وهي معه وفي صفه وهي من جنسه وعلى شاكلته. الحق أن الحكومة الدينية قائمة على المجتمع الديني وهو سابق عليها وممهد لها، هي تناسبه وتمثله. في مجتمع ديني فإن أي حكومة غير دينية هي بالضرورة غير ديمقراطيّة. بطبيعة الحال فإن الحكومة الدينية المنبعثة من المجتمع الديني والمعتمدة عليه ستكون ديمقراطيّة أيضاً إذا جمعت بين رضا الخالق ورضا المخلوقين، والتزمت بما هو خارج الدين وما هو داخله، وراقبت حرمة العقل والأخلاق السابقة للدين بقدر ما راقبت حرمة العقل والأخلاق المسبوقة بالدين»[26].

ما نستطيع أن نؤكده في نهاية قراءتنا لهذا البحث المميز أنه بالإمكان الخروج بتوليفة ما بين الدِّين والدِّيمقراطيّة على مرتكزات عديدة، تطرق إليها الباحث بصورتها المتعددة والمتشابكة، مستعينًا بالرؤى الفلسفيّة التي أقامها الدكتور سروش في معظم أبحاثة ودراساته المتعلقة بالديمقراطية الدينية، وأراه في هذا الصدد قد استعرض فرضيات أربع؛ أولها: نفي العلاقة بين الدين والنظريات الشموليّة. ثانيها: التأكيد على نسبيّة المعرفة باعتبارها خاضعة للتحول والحركة. ثالثها: التركيز على المجتمع بدل الدولة كموضوع للبحث في الحكم الديني. رابعها: الفصل بين تقييم الديمقراطية كنظام إدارة وبين تقييم الإطار التاريخي الذي ولدت فيه.

الدِّراسة الخامسة: في معنى الوصف الدِّيني للدِّيمقراطيّة

د. علي بايا[27]

بدأت هذه الدِّراسة بسؤال مركزي وهو: مدى جدوائية (الديمقراطيّة الدينيّة) على الصعيدين النظري والتطبيقي؟ وكما يبدو أنها كدراسة اعتمدت على المنحى التاريخي الفلسفي لفكرة «المبنى الاجتماعي» من حيث طبيعتها ووظائفها، إضافة لذلك تجادل هذه الورقة بأن الديمقراطية هي واحد من المباني الاجتماعية التي يمكن أن تأخذ أشكالاً وأطرًا شتى تبعًا للوظائف والقيم التي يضيفها المجتمع إليها، مشترطًا لأمر تطبيقها والعمل بها احتفاظها بخواصها ومقوماتها ووظائفها الأصلية، وإلا فهي عرضة الانزياح عن المقوم الأصيل الذي جاءت من أجله. ولم يكتفِ الباحث بذلك بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقد عمد إلى شرح جميع المباني الاجتماعية بكافة تفاصيلها، مثل المكائن والتقنيات التي يخترعها الناس لأجل تسيير حاجاتهم الاجتماعية، بيد أنه سلك هذا المسار في البحث على اعتبار أن ثمة تعددية لفهم الإسلام وليس مقتصراً على فهم محدد أو نمط وطريقة معينة، و «طالما كان ممكنًا تصور أفهام متعددة للإسلام فإنه من الممكن بنفس الدليل تصور أشكال متعددة من تركيب (الديمقراطيّة) و(الإسلاميّة) وليس شكلاً واحدًا. التحدي الذي يواجه المفكرين المسلمين هو تطوير تركيب مناسب للديمقراطية الإسلامية، تركيبًا وافيًا بأغراضه الأصليّة، أي إقامة نظام حكم كفء وفعَّال، نظام يتناسب مع ثقافة وظرف المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة، ولا يقل أهميّة عن النماذج المماثلة في المجتمعات المتقدمة»[28]. إلا أنه -الدكتور علي بايا- لم يستسلم لمثل هذا التحدي بعد أن بذل مساعيه في وضع الخطوط العريضة عن نموذج مقترح للديمقراطية الإسلامية بالاستناد إلى قراءة عقلانيّة تحليليّة عن الإسلام.

أتت الدِّراسة على واقع الحال في إيران، ومدى تجاذب فضاءات الحوار وطاولات النقاش للديمقراطيّة الدينيّة، ولم تكن النخبة الدينية مستثناة عن هذا الفعل الثقافي الحواري، بل احتضنت نقاشات واسعة وعميقة نجدها أثمرت عن العديد من الكتب المدافعة عن الدِّيمقراطيَّة والدعوة إليها، ولعلَّ من اللافت في هذا الشأن كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملّة) للميرزا النائيني، وهو من أبرز الفقهاء المؤيدين للدستور خلال الثورة الدستورية، ولا نبالغ إن قلنا: إن مثل هذا الكتاب كان بمثابة الحجر الملقى في الماء الراكد، بمعنى أنه أعاد إنتاج المجادلات حول الديمقراطية فضلاً عمّا استجد من التجارب البشرية ومدى انفتاح إنسان اليوم على هذا المفهوم، إذ لا غرابة إذا ما انطلق الباحث من خلال دراسته بأن يكون مقتربًا من البعد الفلسفي للأمور، ومناقشًا لأبعاد ومرتكزات وجد من المناسب النظر إليها قبل الدخول في عملية التآلف المرجوة ما بين الديمقراطيّة من جهة والدين وقيمه من جهة أخرى، فقد اعتمد على أن التغيير والمتحول ثابت أبدي، وركّز على أن الفرد منظومة من الإرادات الكامنة والمتحركة، إضافة إلى أن مجموع هذه الإرادات تتشكل في نهاية مطافها بإرادات أسماها الإرادات الجمعية، وعرّفها بأنها الجهة المسؤولة عن خلق الحقائق الاجتماعية والكينونات التي هي منتجات اجتماعية وكذلك الحقائق الموسوعية، وخلص الباحث بالديمقراطيّة كبعد رابع مناقشًا خواصها وفق البنية الاجتماعيّة ومدى مساهمة الإنسان فيها من حيث التأسيس والتطوير، على اعتبار أن الدِّيمقراطيَّة واحدة من عديد من المباني الاجتماعية التي أبدعها الإنسان لتسهيل حياته الاجتماعيّة، ولا سيّما إدارة الأمور (السيواجتماعي) المشتركة، أي هي نظام يمتلك من القابلية ما يجعله يتطور وينمو حسب متغيرات الزَّمان والمكان، بمعنى أن الفهم يخضع إلى عملية أشبه ما تكون بإعادة إنتاج، مما يقتضي الأمر لإضافة وظائف جديدة ومعدلة على حساب ما هو أقل وظيفة وكفاءة.

بناءً على هذا التأسيس تكون الدِّيمقراطيّة في خواصها ومكوناتها بمثابة النظام لإدارة الشؤون العامة للدَّولة والمجتمع، ومن هذه الزاوية تصبح على مسافة واحدة من التناظر لنماذج أخرى في الحكم مثل الجبرية، الشموليّة، السلطانيّة مع الفارق الأيديولوجي والوظيفي لهذه النماذج، والباحث د. علي بايا قد وضع مستويات ثلاثة ارتأى أنها تساهم في الحدود المتقاطعة ما بين هذه النماذج. المستوى الأول: التوافق السلوكي الاجتماعي. والثاني: بناء القناعة المشتركة. والثالث: الالتزام الاجتماعي بالدستور الذي هو محل رضا القاعدة الاجتماعيّة.

ولا شك في أن للمجتمع -لأي مجتمع- صورًا وأشكالاً متعددة، من خلالها يُستطاع تحديد المحاور الرئيسية التي يدور حولها المجتمع ويتم تحديد توجهاته، ويصطلح عليها بالأعراف والقيم، إلا أن الدكتور بايا قد حصر الأمر في نوعين اثنين. الصنف الأول: جميع المباني التي يمكن اعتبارها أدوات بحته، أي المرتكزات الأساسيّة. الصنف الثاني: المباني التي بإمكان المجتمع نفسه أن يبتكرها ويطورها وفق عامل الزمن. لذا هو يقيس على الاعتبار الأخير الديمقراطيّة نفسها والتي تحاكي في خواصها كافة التصورات المتغيرة والقابلة للتطوير، فـ«فهناك نماذج عديدة من الديمقراطيّة، كمثال فإنه يمكن الحديث عن (ديمقراطيّة ليبراليّة) أو (ديمقراطيّة اجتماعيّة) أو (ديمقراطيّة ليبرتارية) وما إلى ذلك. كل واحدة من هذه المكائن تشترك في عدد من الوظائف والخواص الأساسيّة التي تسمح بتصنيفها جميعًا كنموذج ديمقراطي في المقام الأول، لكنها تتمايز فيما بينها بالنظر إلى كفاءتها الوظيفيّة Instrumental أو القيم المضافة إليها»[29]، وحسب هذا الاعتبار يُؤانس الدكتور بايا بين الدِّين و الدِّيمقراطيّة، على أن تكون هذه الأخيرة نفسها محور مشترك ما بين كافة النماذج الدِّيمقراطيَّة الأخرى، بحيث يكون الدِّين أو الإسلام يختزن في ذاته القيم الثابتة ويخضع لقراءة تحليليّة فاحصة ومتعقلة. وهذا يعني بناء صورة عقلانيّة تجاه التآلف بين هذه الثنائية ( الدِّيمقراطيّة الإسلاميّة) بحيث لا يلغي أحدهم خصوصيّة الآخر، فلا يُنقل مكوّن قدسي إلى المبنى الجديد فتسقط بالتالي المقومات والأسس جراء هذا العنوان باعتباره ضرورة اجتماعيّة وسياسية.

إذن التحدي يكمن في إنتاج نموذج صالح للحكم يضمن المصالحة بين القيم المحليّة والخاصة بالإسلام من جهة والقيم الكونيّة الحديثة من جهة أخرى. ليتسنى للدكتور بايا أن يضيف بُعدًا سادسًا بعنوان: الدِّيمقراطيّة الإسلاميّة كبرنامج بحث متصاعد أو متناقض، مستعينًا بالتَّحشيد الإيجابي لكافة أطياف المجتمع، بغية إحداث مشاركة نشيطة وبنَّاءة في كافة مناحي الحياة، وهذا يخضع إلى برنامج بحثي متواصل وفق خطة مبرمجة تحمل أهدافاً كبرى وساميّة، وكأنه يرمي إلى تراكم الوعي لأجل الوصول إلى رأي عام يتسالم عليه كافة أبناء المجتمع الواحد. ثم يأتي ليضع تساؤلاً مهمًّا: ماذا نفعل إذا ظهر تعارض بين الخواص الأصليّة لماكينة الديمقراطيّة والمنظومة القيميّة التي أضافها المجتمع إلى تلك الماكينة!؟ ما هو المعيار للخروج من المأزق؟ حيث تجدر الإشارة إلى أن الدكتور بايا قد وضع احتمالات التعارض كما لم يغب عن بحثه مسارات التوافق ما بين الديمقراطية والإسلام، أي إخضاع عملية التوالف ما بينهما إلى أصول نقدية تستمد طاقتها من كافة الاعتبارات العلميّة والموضوعيّة، بهذا قد وضع بايا بُعدًا سابعًا خصَّه بالتقييم النقدي للديمقراطيّة الإسلاميّة حيث عمد للإجابة عن السؤال بمقارنة المشكلة مع إشارة الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) حين تحدث عن كيفية الخلاص من الشك المطلق، بمعنى ألَّا يكون الشك من أجل الشك وحسب، بل ألَّا يتجاوز بنا هذا الشك إلى لعب أدوار الهدم أكثر من البناء، وعلى الرغم من أن لعبة الشك بحد ذاتها تُعد لعبة خطرة، لكنها تسهم بشكل كبير في تحشيد الكثير من التساؤلات وبالتالي العديد من احتمالات الحل. إذ لم يتوانَ الباحث من إطلاق فكرته حين يبادر بانتشال العقل من زحام الشك عبر الرجوع إلى معايير ما تقتضيه المصلحة، أي العودة إلى الموازين البروغماتية هي فعل العقل حين يصل إلى طريق مسدود، وهذا ما هو معهود في المسار الفلسفي. وهذه الفكرة من شأنها أن تحدد الخطوط العامة حين تتعارض خواص الديمقراطيّة ويتعذر القبض على الحل عندها يكون اللجوء للمسار الذي يعود بالمنفعة العامة وهذا ما هو معهود من الديمقراطيّة باعتبارها النظام الخلَّاق في الديناميكية الاجتماعية.

ثم جاء ليُفرد بُعدًا ثامنًا لمناقشة حدود الإسلامية، أي صفة الإسلاميّة واقترانها اللغوي والمعنوي مع التقنيات الاجتماعية وتجارب الإنسان، وقد أعمل ما لديه ليوضح انتساب (الإسلاميّة) للتسميات المعاصرة كالديمقراطية أو الليبراليّة أو الرأسماليّة إلى حين وصل إلى النظام الاقتصادي وسبغ سمة الإسلاميّة عليه، مُفرِّقًا ما بين العلوم التجريبية والأيدلوجيات، باعتبار أن هذه الأخيرة بالإمكان تطويعها حسب البيئة والتقنيات الاجتماعيّة، في حين تبقى كافة العلوم في حاضرتها العلميّة ينهل منها الناس كافة دون تردد أو خشيّة منها، ذلك لأنها تخضع لقوانين واضحة لا يختلف عليها العقل البشري البتة، وهو بهذا الرأي قد صنّف الاقتصاد وتقنياته من المكاسب الاجتماعيّة التي تتمدد وتنكمش حسب الفعل الإنساني، بالتالي لا ضير أن يكتسب الاقتصاد الحديث سمه (الإسلاميّة) أسوة بالعنوان العريض (الدّيمقراطيّة الإسلاميّة)، لكنه قد اشترط أن يسبق هذا العنوان الأخير حتى يستطيع الاقتصاد الإسلامي المولود من رحم تلك الديمقراطيّة البقاء والاستمرار.

وخلصت الدِّراسة بمقترح وتصور لنموذج الدِّيمقراطيّة الإسلاميّة منطلقًا من الفلسفة العقلانيّة التحليليّة لأنها ترى الإيمان موضوعًا شخصيًّا وليس وثيق الصلة بالمجتمع، وتجدر الإشارة إلى أنه أراد تطبيق هذا المقترح على الواقع في إيران باعتبارها بلدًا إسلاميًّا يكون فيه الإيمان مقدسًا ليس على صعيد الفرد وحسب بل كافة المنظومة الاجتماعية التي تُلقي بظلالها على تجاذب العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد. و «إذا ما أردنا تطبيق المنظور العقلاني التحليلي على ظرف إيران الخاص، فإن صيانة النظام الإقليمي للبلاد هو شرط مسبق لأي مسعى يستهدف إقامة نموذج ديمقراطي إسلامي، في هذا الإطار فإن التركيبة المتنوعة لسكان البلاد دينيًّا ولغويًّا وثقافيًّا تمثل تحديًا عسيراً أمام التوصل إلى إجماع على المبادئ الأساسيّة التي سيقوم عليها النظام الديمقراطي. بل سوف يتطلب الأمر جهدًا كبيرًا ومركزًا لصياغة وترسيخ أعراف ديمقراطيّة، ومناهج عمل ومؤسسات، تؤمِّن وتدعم التحول نحو نظام ديمقراطي قابل للحياة والاستمرار»[30]. وبالتأكيد وحسب هذا المنظور فإن الديمقراطيّة الإسلاميّة تضمن التعددية الثقافية كمجتمع مثل مجتمع إيران حيث تتعدد الديانات والمذاهب والتيارات الفكرية العميقة الجذور، وهذا ليس كافيًّا ما لم يتجلَّ الحوار كوسيلة ضامنة لإجماع وطني يتم ترجمته على الواقع بأعمال مشتركة تتخذ طابعًا تعاونيًّا على مختلف التمظهر الوطني العام إلى الحد الذي يكون الدين فيه في قائمة مختلفة من الأولويات!. لذا كان لزامًا أن يختم دراسته بأن المقترح يظل يعاني من نتوءات كثيرة ربما لو أخذت الدولة على عاتقها تبنيه عندها نستطيع أن نتوصل لأغلب المشاكل بل ولأفضل الحلول أيضاً.

الدِّراسة السَّادسة: جدل فقهي حول الدَّولة الحديثة

د. توفيق السيف[31]

يدور البحث حول الدولة الحديثة باعتبارها النتاج النهائي لعوامل التطوير للنظام السياسي في العالم العربي والإسلامي، بعد أن باتت الديمقراطيّة محل تجاذب المهتمين والمطالبين بالتغيير، وكان من الطبيعي أن يتخذ المطالبون النسخة الغربية نموذجاً مثاليًّا لصورة الدولة التي يطمحون إليها؛ نتيجة لما تبدو عليها من تماسك وقوة هذا من جهة، وما يجدونه من قوانين تُؤمِّن الحد المناسب من حقوق الإنسان كي يكون الإنسان حُرًّا كريمًا وهذا من جهة أخرى، ناهيك عن كل ما يسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي والنهوض العلمي. يأتي هذا في ظل الوهن والضعف الذي يستشعره المواطن العربي العادي إزاء مكونات سياسيّة ليس لها إلا الاستئثار وتضييع الثروة، وبالتالي تكون معظم هذه الدول عرضة للاختراق وضعيفة أمام تهديد الأجانب، فضلاً عن التخلف الشامل الذي صار ماركة مسجلة يُثبت حالات العجز على مختلف الصُّعُد. و«صحيح أن بعض الإعجاب الذي تولَّد في نفوس المسلمين بالظاهرة الأوروبيّة هو من نوع انبهار المغلوب بالغالب، لكن هذا يعكس الحقيقة كلها، فالمثقفون والسياسيون الذي أُتيحت لهم زيارة أوروبا، وأولئك الذين قرؤوا عنها، وغيرهم ممن اطَّلع على ما بلغه المسلمون في أوج حضارتهم وقارنه بما آلوا إليه من انحطاط في القرن التاسع عشر، كل هؤلاء كانوا على يقين بأن تطور الحياة السياسية في أوروبا مقابل تخلفها في عالم الإسلام، هو أحد العوامل الحاسمة إن لم يكن العامل الرئيس في تشكيل الفارق بين عالمهم بمجمله وعالم الأوروبيين. ولهذا فإن الرغبة في احتذاء التجربة الأوروبية لم تكن -في كل الحالات- مجرد تقليد سطحي، أو محاولة هروب سيكولوجي من الواقع المؤلم، بل كانت أحيانًا محاولة جادة وعقلانيّة لاكتشاف مخرج أمين من الأزمة الشاملة»[32].

وكما يبدو وعلى هذا التأسيس، يضع الباحث معظم رهانه على النخبة العلميّة ومدى تفاعلها الإيجابي مع المفاهيم السياسية الحديثة بعد أن أثبتت التجربة تلو الأخرى بأنها عاجزة كل العجز عن بلورة رؤية ثقافيّة مناسبة، إلى الحد الذي تتحاشد كافة المكونات المجتمعيّة تجاه السعي لإيجاد أكبر قدر ممكن من مساحة الاتساق والتوافق بينها، مما يهيئ المناخ الاجتماعي العام إلى ثقافة ناهضة تسهم بالقدر الكبير في البناء السياسي للدولة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة بحيث يكون حراكًا اجتماعيًّا له الصفة الخاصة والمستقلة عن الدولة نفسها، «نشير إلى هذا ونحن نتذكر سلوك المسلمين في ذروة مجدهم حينما تعاملوا بإيجابية وعقلانية مع ثقافات اليونان والفرس والصين وغيرها، فتعرفوا عليها واستوعبوها وأعادوا إنتاج ما رأوه مفيدًا في تطوير حياتهم وعلومهم، فأصبحت تلك العلوم المستوردة بالتدريج جزءًا من نسيج التراث الإسلامي الذي نذكره اليوم بالفخر والاعتزاز»[33]. والباحث هنا يستحضر الفعل الثقافي من خلال سلوك المسلمين آنذاك تجاه الآخر الحضاري، وكأنه يريد أن يدعونا إلى مقاربة ذلك المشهد مع الواقع المعاصر عبر استدعاء تلك الثقافة بطابعها العام ومحاولة تطويعها مع رهانات العالم الحديث بكافة تداعياته، إذ يبقى الطموح كما هو، أي التطلع إلى دولة إسلاميّة سواء في صورة نظام الخلافة المطور الذي طالب به مفكرو أوائل القرن العشرين، أو بالصورة الحديثة أي (الديمقراطيّة الدينيّة) التي نادى بها مفكرون معاصرون[34]. بهذا يلفت الدكتور السيف إلى مسألتين اثنتين: الأولى أن معظم الأبحاث المعاصرة حول إسلاميّة الدولة يتم ترجمته عبر سؤال مهم: ما هو الذي يقبله الإسلام من الدولة الحديثة وما هو الذي يرفضه؟. وكأنه يريد أن يجعل من هذا السؤال رافعة للتوصل إلى نظرية خاصة نتيجة توليفة مناسبة لعلّ من المستطاع تسميتها بـ(الديمقراطيّة الدينية). أما المسألة الثانية: فإن هناك أبحاثاً -ولو قليلة بالجملة- اهتمت بإعادة عرض الصور الموروثة عن النظام الإسلامي القديم باعتبارها الثابت المقدس، وبالتالي لا يكون لتداعيات الواقع الحديث أي دور بالإمكان البناء عليه!.

ومن الجدير بالذكر ما أشار إليه الدكتور السيف للآراء المحصلة من الفقهاء الإيرانيين والمؤيدين للثورة الدستورية (=المشروطة) عام 1905م، والتي وصفها بالآراء الجادة التي بالإمكان التأسيس عليها فيما يتعلق بشأن الدولة المعاصرة حسب الرؤية الفقهية الإسلاميّة، مستعرضًا بذلك الخلاصة منها، وهذا ليس من قبيل الاجترار والتكرار بقدر ما كان مقصده أن معظم تلك الآراء وإن لم تكن على وفاق العصر فهي بالتالي تشكل نواة حقيقية للانطلاق منها، بالقدر الذي يمنحنا التحرر من الماضي ويعيد واقعنا بصورة مشرفة، حتى لو كان الأمر يتطلب إعادة النظرة في مصدر للدولة الحديثة باعتبارها ليست شرًّا مطلقًا، ولربما تحمل في محتواها الحقيقي الخلاص الذي طالما انتظره المسلمون عامة، والدكتور السيف هو يقرأ الثورة المشروطة بكل تفاصيلها المؤتلفة والمختلفة، وهو في الوقت نفسه يستفيد منها من أجل اللحظة الراهنة، لأنها تتقاطع في صورها مع العديد من الواقع المعاصر فيما لو أراد المسلمون بالتحديد النظر الجاد في صياغة حديثة يكون فيها المجتمع والدولة في نسق حداثوي واحد، وهذا من شأنه أن يعزز الدور الذي بالإمكان أن تلعبه الشريحة الفقهية العلمائية في عملية التغيير، إيجاباً وسلبًا، بحيث إنه من غير المبرر لموقف العلماء الذين عارضوا الإصلاح الدستوري في تلك الفترة، لأنهم لم يكونوا محل قلق إزاء الحكم القهري الاستبدادي بقدر ما كانت خشيتهم من المجهول القادم، وكأن التأريخ يعيد نفسه هنا، بمعنى أن هاجس الخشية من المجهول، هو المدعاة للتقاعس والدعة، على الرغم من أن المبشرات الكثيرة للأنظمة الحديثة من كفالة الحرية والعدالة والمساواة وتأمين الحد الأوفى من الحقوق الإنسانيّة والعمل بقاعدة (التقاعد الاجتماعي) باعتبار أن المجتمع هو المالك الحقيقي للدولة وليس العكس، ومن المفترض هذا ما يجعل من الفقهاء المعاصرين في خانة متقدمة من المواجهة بصورة أكثر حضارية ممن سبقهم من الفقهاء.

ولأنه عزا تحقيق الديمقراطيّة إلى سيادة الشعب بكل مقوماتها الحضارية فإنه -أي الباحث- قد أولى فكرة (سيادة الشعب) أهميّة كبيرة؛ لما لها من محايثات جدليّة على الصعيدين التشريعي والقانوني، على اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطة. «فقد جادل الفقهاء المعارضون للدستور -إبّان الثورة المشروطة- بأن التشريع ووضع القانون حق خاص لصاحب الشريعة، وهو الخالق سبحانه، الذي لم يهمل شيئًا في بيانه وبيان رسوله عليه الصلاة والسلام. وبالتالي فإنّ القول بحق أحد غيره في التشريع يمثّل مزاحمة له وتعديًا على حدوده»[35]. وحسب هذه الرؤية يكون الفقهاء هم الجهة الوحيدة المخولة دون غيرها باستنباط الأحكام العمليّة من القواعد الشرعيّة أو النصوص بوسائل الاستنباط المعروفة في الفقه، تأتي مثل هذه الرؤية في الوقت الذي تتسابق الرؤى الأخرى المنازعة لمثل هذه الرؤية والتي إن لم يُتح المجال ليس لتمريرها ميدانيًّا فحسب، بل ربما اعتقد البعض أن مجرد النقاش في فك الارتباط الاحتكاري لعمليّة الاستنباط لمن هم خارج الجوقة الفقهيّة فذلك يُعد تجاوزًا للمثاليّة وللنظم المتعارف عليها.

واستدل الباحث باعتراض الشيخ فضل الله النوري[36] صاحب كتاب (حرمت مشروطة) على المادة (12) من دستور 1906م، والتي تنص على أن «لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب القانون»[37]، ويضيف النوري نفسه: «هذا الحكم مخالف للمذهب الجعفري حيث المرجع للحوادث في زمان الغيبة هم الفقهاء ومجاري الأمور بيدهم، وهم الذين يقومون بإجراء الحدود وإحقاق الحقوق، وليس لأحد غيرهم شيء من ذلك». وعلى هذا التأسيس يحول الفقه الجعفري من أن توكل السلطة إلى الشعب لما لذلك من تعارض جذري مع روافع الفقه الجعفري حول قضية السلطة والحاكميّة الشرعيّة. وقد عاضد الدكتور السّيف الدليل السابق ببرهان آخر جاء عن الشيخ عبدالرحيم الأصفهاني (1367م) في إشارة إلى لا شرعيّة للحكومات بكل أشكالها، إذ يقول: «من ضروريات مذهب الإماميّة أن السلطة والحكومة في غيبة الإمام غاصبة وباطلة، وعليه فالسلطنة المستبدة والحكومة الدستورية كلاهما باطل وخلاف الحق»[38]، ولم يقتصر الأمر عند هذا الأمر بل شكَّك العلماء أيضاً في شرعية انتخاب الشعب لمجلس الشورى وتمثيل النواب للشعب أو أن يمارسوا سلطاتهم باسم الشعب، إذ يقتضى ذلك بطلان التعويل على رأي الأكثرية في صناعة القرار واتخاذه.

وقد انسحب أثر السابق من القول على تطارح الحرية والمساواة بين كافة أبناء الوطن بغض النظر عن ديانتهم أو مذهبهم أو توجههم الفكري والسياسي، وقد اعترض الشيخ النوري في حينها على المبدأ الدستوري الذي يمنح الإيرانيين -كل الإيرانيين بمختلف دياناتهم ومذاهبهم وعرقهم المتعدد وتوجههم الفكري المتنوع- حق المساواة أمام القانون، كما تحفَّظ أيضاً الشيخ الأصفهاني على اعتبار أن المواطنة قاعدة للحقوق المدنيّة، مما تُعطى كل الفرصة للنصارى والمجوس واليهود في الحق الانتخابي، وهذا ما رفضه أيضاً الشيخ مرندي، بل ذهب بالقول إلى أن منح المواطنين حقًّا متساويًا في الوصول إلى المناصب السيادية والسياسية بالضرورة سيؤول إلى فتح الباب على مصراعيه أمام تسيّد الفاسقين وتنافس غير المتكافئين. ومن الخطورة بمكان القول: بأن ثمة حالة من القلق تنتاب العلماء والفقهاء جراء كافة الفرص الدستورية التي يكون الشعب له القول النافذ في تشكيل الحكومة، في حين تخف حدة ذلكم القلق لديهم فيما لو بسطت السلطة سيادتهم على كل مقدرات الدولة!.

ثم ختم الدكتور السّيف هذا البحث بمعالجات قدَّمها الفقهاء المؤيدين للنظام الدستوري (الحكومة الدستورية)، والتي عكست واقعًا مختلفًا عمّا تطرق إليه الفقهاء المعارضين، وهذا من شأنه يكشف عن تباين فقهي عميق بينهما لم تستطع الأحداث آنذاك ردمه؛ إذ لم يحسم الخلاف الدائر تجاه المكون السياسي المثالي الذي لا يحدث القطيعة مع المسار الفقهي كما يتيح المجال لإقامة علاقة وثيقة مع الواقع حسب حاجات الإنسان ومتطلباته المتجددة. و «يكشف التأمل في الجدل الذي دار بين مؤيدي الحركة الدستورية ومعارضيها عن معالجات لمسألة السلطة تتمايز في جوانب كثيرة عن التصوير التقليدي الذي تحفل به كتب الفقه القديمة منها والجديدة. ذلك لأن هذا الجدل دار على خلفيّة واقعة محددة فرضت على أطراف النقاش تحديد موضوع النقاش والابتعاد عن الآراء المطلقة والمجردة»[39]. وقد أعزى السّيف هذا التغاير الفقهي لمستوى الحرية التي يتمتع به مسار البحث الفقهي الجعفري بشكله الخاص، بلحاظ أن الحرية في مثل هذه الأمور تؤسس إلى حالة من التطور ما كان لها أن تنشأ دون تراكم مكثف من المناقشات الجادة خاصة فيما يتعلق بالسلطة والسياسية. وقد اختتم -السّيف- بحثه بمعالجات عدة أبرزها وباختصار:

1- أعادت رسائل الفقهاء الدستوريين تعريف الدولة باعتبارها هيئة اجتماعيّة مدنيّة وغير محصورة بالإمام المعصوم.

2- أن الدولة مُلك للمجتمع، وأن الشعب هو مصدر السلطة، والمواطنة هي أساس العلاقة بين المجتمع والدولة.

3- على الرغم من أن مفهوم التشريع وعمل نواب الشعب في البرلمان ما تزال محل جدل فقهي مكثف، إلا أن ثمة تأكيدًا على فصل المجالين (الديني) و(السياسي المدني). وهذا يجعلهم -أي الفقهاء- على تساوٍ وطني مع كافة أبناء الشعب أمام عملية الانتخابات.

4- كذلك وبالرغم من منح فرصة التدخل للعلماء في الحياة السياسيّة، إلا أنهم ينضوون تحت كنف الدولة مثلهم مثل الآخرين، أي أنهم على تساوٍ مع كافة أطياف المجتمع أمام القانون، فكما يكفل هذا القانون لهم الحقوق يخضعهم أيضاً إلى واجبات مشتركة مع الناس كافة.

 



[1] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. ص (7). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[2] المصدر السابق نفسه. ص (7 - 8).

 

[3] المصدر السابق نفسه. ص (8).

 

[4] أموي، بهمن. الاقتصاد السياسي والجمهورية الإسلاميّة. طهران، 2003م، ص (42).

 

[5] ر.بودون - ف. بويكو. المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ص (314).

 

[6] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. ص (16). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[7] محمد مجتهد شبستري، 1936م قم المقدسة: أستاذ محاضر في الفلسفة الإسلاميّة، جامعة طهران، يدرِّس فلسفة الدين وعلم الكلام الإسلامي. بين كتبه الأكثر أهمية (باللغة الفارسية): كتاب: هرمينوطيقا [علم التأويل] الكتاب والسنَّة، وكتاب: الإيمان والحرية، وكتاب: نقد القراءة الرسمية للدين في إيران (تُرجِم إلى العربية ونشر في صحيفة الحياة). وله دراسات باللغة الألمانية نُشِرَتْ في عديد من المجلات الألمانية - ذلك أنه يُتقن الألمانية، وقد ترأس المركز الثقافي الإسلامي في هامبورغ مدة تسع سنوات.

 

[8] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. ص (27). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[9] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. ص (18). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[10] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة كحاجة للحياة الدينيّة. ص (28). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[11] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة كحاجة للحياة الدينية. ص (29). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[12] المصدر السابق نفسه. ص (29).

 

[13] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة كحاجة للحياة الدينية. ص (33). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[14] محسن كديفر، ولد عام 1959م، درس الهندسة الإلكترونية بجامعة شيراز، طالب علوم دينية في قم، دكتور في الفلسفة الإسلاميّة، مدرس جامعي، من أهم كتبه (نظريات الحكم في الإسلام).

 

[15] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة والديمقراطيّة الدينيّة: المبادئ الأساسيّة. ص (52). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[16] المصدر السابق نفسه. الديمقراطيّة والديمقراطيّة الدينيّة: المبادئ الأساسيّة. ص (54).

 

[17] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة والديمقراطيّة الدينيّة: المبادئ الأساسيّة. ص (62). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[18] عبد الكريم سروش، ولد في طهران في عام 1945، دكتور في الكيمياء التحليليّة، درَّس الإسلام والديمقراطيّة والدراسات القرآنية والفلسفة الإسلاميّة في القانون، كان أستاذًا زائرًا في جامعة هارفارد بأمريكا، أبرز كتبه «المعرفة والقيمة»، وقد كتب دراسات في التعددية الدينية، التسامح، التفسير.

 

[19] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة الدينيّة: حاكميّة العقل الجمعي وحقوق الإنسان. ص (69). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[20] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة الدينيّة: حاكميّة العقل الجمعي وحقوق الإنسان. ص (70). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[21] لابانوس رينال Raynal Lapanouse  ولد في 12 نيسان / أبريل 1713 وتوفي في باسي في 6 آذار / مارس 1796 ، مفكر وكاتب فرنسي.  وما كانت دراساته الطويلة في اليسوعية الكهنوتية إلا رغبة في التقدم الاجتماعي وتوسله بطرائق الاقناع الحقيقية والمتعددة. وفي 1746 تم تعيينه لكنيسة سانت في باريس من أجل تحسين دورتها العادية.

 

[22] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. الديمقراطيّة الدينيّة: حاكميّة العقل الجمعي وحقوق الإنسان. ص (82). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[23] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. من المدينة الفاضلة إلى مدينة الإنسان: الديمقراطيّة الدينية مثالاً. ص (89). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[24] المصدر السابق نفسه. ص (90).

[25] المصدر السابق نفسه. ص (91).

 

[26] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. من المدينة الفاضلة إلى مدينة الإنسان: الديمقراطيّة الدينية مثالاً. ص (102). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

[27] علي بايا، أستاذ للفلسفة في جامعة العلامة الطباطبائي، طهران/ الجمهورية الإسلامية في إيران. أستاذ زائر في جامعة وستمنستر ، بريطانيا. عضو في مركز بحوث التعليم العالي في إيران. أسس مركز الدراسات المستقبلية وعلومه.

 

[28] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. في معنى الوصف الديني للديمقراطيّة. ص (110). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[29] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. في معنى الوصف الديني للديمقراطيّة. ص (126 - 127). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[30] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. في معنى الوصف الديني للديمقراطيّة. ص (137). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[31] مفكر وباحث. متخصص في الشؤون الدينيّة والسياسيّة. المملكة العربية السعودية.

[32] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. جدل فقهي حول الدولة الحديثة. ص (141 - 142). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[33] المصدر السابق نفسه. ص (143).

[34] انظر العروي، عبدالله. مفهوم الدولة، بيروت 1998م، ص (137).

 

[35] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. جدل فقهي حول الدولة الحديثة. ص (153 - 154). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

[36] الشيخ فضل الله النوري رحمة الله عليه أحد الشخصيات العلمية القيادية التي ساهمت في تفعيل فتوى الإمام الشيرازي عندما حرَّم استعمال التنباك آنذاك، وأصبح المرجع الثاني بعد الميرزا الاشتياني. مارس رحمه الله الضغط على الموقف السياسي بتأييده المشروطة يعني الانتخاب مقابل النظام الملكي، إلَّا أن هذه الجهود آتت ثمارها ونجح الشعب بفضل فتاوى العلماء وفي مقدمتهم فتاوى الشيخ فضل الله النوري في استحصال أمر ملكي آنذاك بإجراء الانتخابات، وهذه الخطوة تعتبر الأولى من نوعها لهزيمة الشاهنشاهية المستبدة. قُبض عليه وأودع السجن المركزي في طهران في أوائل شهر رجب عام 1327، وعُرضت عليه عدة عروض لترك البلاد أو التراجع عن أفكاره، فرفض وعملوا له محكمة عرفية صورية وحُكم عليه بالإعدام في 13 رجب عام 1327، وتعمدت القوى العميلة أن يكون تنفيذ حكم الإعدام في ميلاد أمير المؤمنين، وأُعدم شنقاً في أحد ميادين طهران.

[37] النوري، فضل الله. حرمت مشروطة. ص (166).

[38] المصدر الصابق نفسه. ص (222).

 

[39] السّيف، توفيق. الديمقراطيّة في بلد مسلم. 2007م. جدل فقهي حول الدولة الحديثة. ص (174). صادر عن مركز آفاق للبحوث والدراسات/ سيهات، السعودية.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة