تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

نقد العقل التعارفي ( محاولة أولى )

رسول محمد رسول

إذا كان مفهوم (النقد)، وكذا مفهوم (العقل)، قد أخذا حيزاً كبيرا من الاهتمام التحليلي والتوصيفي والتفسيري بل والتأويلي والبنائي، فإن ما يُحمل على أحدهما أو يركَّب مع غيرهما من المفهومات على غرار مفهوم (نقد العقل التعارفي)، الذي نقترحه في محاولة تركيبة منّا له، لم يلق الاهتمام الفاعل في أغلب ما كُتب عن إشكالية التعارف الحضاري أو الثقافي خلال السنوات الماضية؛ لذا يحتِّم الاجتهاد الدخول في معترك بناء وصناعة المفهوم ضمن بنية مركبَّة علَّها تضاعف الدلالة وتأخذنا إلى فضاء آخر ربما من شأنه التوَّقُف عند وهمٍ ما، أو خطلٍ ما، أو فتحٍ جديد ما، يُعاضد ما نصبوا إليه من معالجة جديّة وإبداعية لإشكالية التعارف.

 

ما هو النقد؟
 

    لا أفهم (النقد) هنا بوصفه القدرة على التحليل أو منح قيمة، بل ولا حتى مجرَّد التفكيك لشرعة ما أو موضوعة أو ظاهرة فكرية أو ذهنية أو عيانية، فبلا ريب أن النقد هو كل ذلك في وجوه عدة؛ لكنَّ ذلك ليس منتهى القصد، فالنقد هو فتح لإمكان المعنى، ولمسارات الدلالة فيه، وضمن علاقة ليست فقط ذهنية أو فكرية، بل أيضا واقعية وأحيانا ملموسة؛ ذلك أن اليقين لم يُعدُّ مُتراصا في معنى أُحادي أو واحديّ، كما أن كل شيء سائر إلى التداخل والاشتباك والتكامل في معرفة الوجود والعالم، وفي ضوء ذلك سيتم الانصراف إلى فتح إمكان (العقل التعارفي العربي )، ومن البديهي أن التعارف في هذا العصر الذي نعيش فيه ليس مجرَّد عاطفة أو إحساس أو فهم يتطلّب ذهنا، إنه كل ذلك معا، لكنه في النهاية خطاب عقلي يتطلَّب إدراكا واعيا لمعطيات الخارج، ويُعامل بوصفه مجالا ًللتفكير والمعاينة الفكريّة، وهذا الخطاب العقلي يتعرَّض اليوم إلى تحديات عدة في ضوء تعقُّد واشتباك الواقع العالمي من جهة، والعربي  من جهة أخرى، وتحوّلات العلاقة بينهما لكون التعارف يعتمد (العلاقة) أساسا لظهوره وتجلياته بغضِّ النظر عن شكله ونتائجه، الأمر الذي يُحتِّم نقد هذا الخطاب وفتح إمكانه في وقت يطرح هذا الخطاب إمكانه على نحو ضاغط في راهن العلاقة بين الأمم والشعوب.

 

تداول المفهوم

 عى رغم الجهود الفكريّة الكبيرة التي بذلها المفكرون العرب في استيضاح مفهوم (التعارف الحضاري)، خصوصا خلال السنوات الأِِِخيرة من القرن العشرين، ومن خلال أكثر من منظومة تفسيرية وفكرية ومرجعية دينية ووضعية، فإن هذا المفهوم ما زال عرضة للفهم العام من جهة، ولما ثوى في المخيال الفكري العام والبسيط المتعلق بفهم مصطلح (الحضارة)،  وهو الأمر الذي  ينعكس وينطبق على مفهوم (تعارف الحضارات)!

المعروف أن  دلالات هذا المفهوم العملية ظهرت قبل أي تسمية مفهومية له، ومنذ غابر الأزمان حيث البحث عن الألفة بين الناس والحاجة المادية بينهم، ولم يختلف الأمر في عالمنا المعاصر، فالحاجة المادية والبحث عن الألفة كلاهما يشد الإنسان إلى مثيله في الحياة، ولم تكن التسمية، تسمية الأشياء والأحاسيس والتصورات، سوى تعبير عن هذه الألفة وتكريس لتلك الحاجة، وفي التسمية كان الاختلاف في الفهم والتمثُّل والتعبير، والواضح، إنه مهما كان الاختلاف في التسمية قائماً بوصفه حالة من التنوِّع المرجعي، فإنه يبقى طريقا للاصطلاح والاتفاق على دلالة المعنى المُراد تسميته؛ ذلك أن المرجعيتين، الدينية والدنيوية، لا تختلفان على ضرورة التعارف بين  الناس في الأمم والشعوب؛ لكنهما يختلفان بشأن طريقة التعبير عن معنى التعارف، وسيكون الأمر أكثر تعقيداً إذا ما تمَّ تحميل (التعارف) بحامل دلالي مرَّكب من قبيل (الحضاري، أو الثقافي، أو الديني) من مثل: ] التعارف الحضاري، أو التعارف الثقافي، أو التعارف الديني [ ، وسيكون الأمر مشتبكا أكثر إذا ما نُظر إلى هذه المفهومات المركبة في سياق الظرفية التاريخية، وفي إطار فلسفة العصر السائدة، والنظريات العلمية الغالبة فيه، وبالمرَّة إلى معارف العصر التي تُميِّزه على غيره.

 

التعارف إذن، وبغض النظر عن شكله أو طبيعة ظهوره، هو حقيقة موضوعية غير قابلة للدحض مثلما هي غير قابلة للتأكيد المكرَّر، لكن لو وضع التعارف الحضاري في سياق تاريخي، وضمن إشكاليات العصر، فإن الدحض والتأكيد المكرَّر سيتطلبان المزيد من المناقشة وإعادة النظر في التأثير الذي تتركه مقاربة المفهوم في سياق هذه الإشكاليات. وهنا، وفي الظرفية التي يعيشها العالم المعاصر بسبب تعقيدات عديدة، وبسبب ظهور معطيات تاريخية وفكرية جديدة، يجد أحدنا من المحتَّم عليه أن يمسك بالإشكاليات والمفهوم معاً في ضوء سياقهما الذي يظهران فيه، وُيصبح التوجُّه إلى المُساءلة، ربما الجذريَّة، أمراً مرغوبا فيه لإعادة التأسيس من جديد وتوجيه الرؤية إلى المفهوم وإشكالياته، وإلى دلالاته وسياقاته، نحو فهم آخر لا يغفل عن التاريخ والفكر سواء بسواء، لكن متغيرات الواقع غالبة أكثر في تأثيرها على تحولات وتموضعات المفهوم وخطابه، كذلك على منظومة الفهم العربية الراهنة له، وعلى ذهنية هذا الفهم، ومن ثمَّ على الخطاب الذي ينتجه العرب في فضاء التعارف الحضاري، وهو ما نعيشه راهنا في ضوء ظهور الجديد من متغيرات العصر العلمية، والثقافية، والسياسية، والدينية، فقد بات العقل التعارفي العربي في مواجهة حرجة مع ضغوط الواقع العالمي من ناحية، ومع إمكاناته الذاتية من ناحية أخرى.

 

المتغير الاتصالي والمعلوماتي

على الصعيد العلمي، توافر العالم المعاصر، وتحديداً منذ منتصف القرن العشرين، على نُظم معرفيّة جديدة تعتمد (الحاسوب) وسيلة للتوصيل والإبلاغ ولتركيز كم هائل من المعلومات في نقاط ضوئية، ومن ثمَّ تحقيق قدر مهول من السرعة في استجابتها حال الاستدعاء. ثمَّ لحق ذلك توافر المجتمع الحاسوبي على نظم جديدة من تداول المعلومات عبر وسائل اتصال جديدة عابرة للجغرافيات والحدود هي (الانترنيت)، وبالتالي ظهور المرئيات العابرة أو ما تسمّى بالتلفزة الفضائية التي وفرت للإنسان المعاصر مساحة بصريّة عابرة تعلو على سلطة المكان وشروطه الاجتماعية والسياسية، المحلية والجهويَّة، وكل ذلك مثلَّ صفحة جديدة من المعارف بقدر ما مثلَّ وسائلية مغايرة مضافة إلى وسائليات  تحصيل المعرفة التقليدية مثل الحواس البشرية، فضلا عن العقل، والذهن، والنفس، والقلب،  أو اشتراك عدد من هذه الوسائل في إنتاج أو توليد المعرفة.

    إن معطيات عصر المعلومة والثورة الاتصالية أثَّرت مباشرة في طبيعة العلاقة بين الناس في المجتمع الواحد، وفيما بين المجتمعات المحلية الصغيرة، وبالمرة أثرت في الشعوب والأمم بالعالم المعاصر، فهي قرّبت المسافات الجغرافية، وانعكس ذلك على طبيعة العلاقات البينية، التجارية والسياسية والاجتماعية، وعلى أدائها في التبادل المعلوماتي بزمن مُختَزَل، بل وغيرَّ من مفهومي الثروة والقوة، فالمعلومات أصبحت قوة في نفوذ الدول من ناحيتي المناورة السياسية واللعبة الاقتصادية، وقوة فائقة للتميُّز في المجتمع المعلوماتي، وهو ما وفَرَّ مناخاً خصباً للتعارف المجتمعي، وفضاءً للتعارف الثقافي والحضاري، وأرضية لرقمنة المخيال المؤدلج والسلوك المتطرِّف الذي وجد في الفضاء المعلوماتي ووسائله حقلا يتوافر من خلاله أصحاب هذا السلوك على تحقيق ما يطمحون إليه في حدود العلاقة مع الآخر الذي يتواصل معه بعلاقة توتُّر وبوازع من الرغبة بالصدام والثأر، وإذا كان هذا التداول لا يُعدُّ سوى استثناء، فإن القاعدة فيه هي الغالبة، ذلك أن التوافر المذهل على المعلوماتية، والإقبال على تطويعها وتبيئتها في المجتمعات العربية والإسلامية بدا مؤثراً خلال السنوات الماضية في طبيعة النظرة إلى الآخر تلك المتأتية من المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، لكن هذا التطلع والإقبال غالبا ما يواجهان مشكلات عدة تعاني منها هذه المجتمعات، فعلى رغم أن خطط التنمية العربية الحكومية والخاصة تعكف على تضمين خططها إقبالا على توطين البيئة المعلوماتية والاتصالية، فإن هذا هو الآخر غالباً ما يرتطم، في البلدان العربية، بشروط الخطاب السياسي المحلي وعلاقة الدولة مع المجتمع من جهة، وجملة الضغوط التي تواجه الحكومات العربية من الخارج عليها من جهة أخرى، فضلا عن ثُلّة من المشكلات البنيوية المتأصلة في المجتمعات العربية، ومن ذلك مثلا نسبة الأمية المتفشية لدينا، والجهل العلمي الواضح في التعامل مع أنماط المعارف الجديدة، وهو ما ينعكس على طريقة تلّقينا للآخر في معارفه وعلومه ووسائله في التعارف والاتصال. ولعلَّ الأهم من ذلك هو ما يرتبط بغياب رؤية فكرية عربية أو فلسفية للتعامل مع نمط المعرفة الجديد في ضوء سياسات النبذ المتبعة في أكثر من دولة عربية لكل ما هو فكري أو معرفي أو فلسفي وتغييبه عن التدريس في المعاهد والجامعات العربية، ولكن كيف تهتم مؤسساتنا العربية التعليمية بأنماط المعارف الجديدة في الوقت الذي تشهد مناهجنا التعليمية إلغاء لتدريس مادة الفلسفة، مثلا، أو فلسفة العلوم أو تدريس نظرية المعرفة والقيم المعرفية الجديدة أو ما يدخل في مجال المعارف المحدثة التي تمتُّ بصلة ما إلى ما هو معرفي أو فكري أو رؤيوي؟

 

المتغير الثقافي والمعرفي

 لقد توافر العالم المعاصر، في ضوء نزعتي المعلوماتية والاتصالية، على كمٍ هائل من المعلومات، وقد رافق ذلك تحوّل واضح في بنية الثقافة المعاصرة، إذ أخذ نمط الإنتاج الثقافي يتأثر، على نحو أو آخر، بهاجس ما هو عابر وسريع من المعرفة من جهة، والإقبال على الثقافة البصريّة وثقافة الصورة، أو ثقافة عصر الشاشة والوهج اللوني، ومن ثمَّ على ثقافة الإعلام (الميدياء) من جهة أخرى، ولما كانت هذه الثقافة ممكنة التلّقي عبر الوسائلية الجديدة، فإنها ممكنة الاتسام بميسمها حيث هيمنة المرئي والأثيري على المقروء التقليدي، والشكلي على غيره من المعتاد، على أن نزعة التكامل اللوني والصوتي والقرائي جعلت من مستوى التلقي مرتبطاً بطبيعة هذا النوع من المادة الثقافية وهو الأمر الذي أجال وجهة التأمل والتفكير نحو طريقة مختلفة أصبحت عبئا على نظرية المعرفة المعاصرة، وهذا بالطبع في الغرب، فكيف الحال في بلداننا العربية التي يغيب عن مناهجها تدريس نظرية المعرفة في المناهج التعليمية الجامعية الأولية والعُليا؟

ما يواجه التعارف الثقافي والحضاري أيضا هو شيوع الثقافة السياسية على غيرها من أنماط الثقافة الأخرى أو حقول المعرفة الأخرى المتداولة راهنا، وفي هذا السياق لعبت الحركات الوطنية والقومية العربية والاتجاهات الأيديولوجية في القرن العشرين دورا فاعلاً في تكريس هذه الثقافة حتى أصبحت جزءا من مخيال التلّقي لدى الإنسان العربي، وقد زادت التحوّلات السياسية الصارخة في حضورها من غلوِّ هذه الثقافة في الغرب المعاصر وانعكاسات ذلك على العرب منذ اندلاع حرب الخليج الثانية، خصوصا وأن أغلب الوسائل الإعلامية العربية، وعلى نحو أخص التلفزة، ذات الأثر الفاعل والمباشر في المجتمع، قد لعبت الدور الأعنف تأثيراً في التلّقي العربي، بل وفي رؤية الإنسان العربي إلى الآخر وطريقة التعرُّف إليه. إن الثقافة السياسية باتت متأصلة بوصفها فضاءً يتحكَّم في التعامل مع المختلف، الأمر الذي يعني أن غربلة لا بُدَّ منها لتصفية الحساب مع ما يتطفَّل على المخيال الثقافي العربي المعاصر من محمولات  واجترارات  لما هو عابر وسريع واستهلاكي ذاك الذي يندسُّ عبر التوصيف والتحليل والفهم، ومن خلال الأحكام السياسية القيمية التي تسعى بعض المؤسسات السياسية المُغرضة إلى تكريسها في المجتمع  قصد حشو الذهن العربي  وتعبئة العقل العربي والمخيال الإسلامي بمقولات سياسية ذات طابع إعلامي يجْهز على طاقة الذهن، وعلى قدرة العقل ليسجنهما في أُطر لا ترى ولا تستقبل أو تتلّقى سوى هذا النمط من  الثقافة والمعرفة!

 

المتغير الاستراتيجي

ليس بعيداً عن السياسة، فقد بات في حكم المعلوم أن أكثر من عشرة أعوام مضت، خصوصا بعد عام 1989 حيث تفكك المنظومة الاشتراكية، تركت آثارها في نمو ظاهرة الانفراد بالعالم، تلك السياسة التي تسعى لها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى نحو صاخب، في ظل حكم الرئيس جورج بوش الابن بعد أن أعلن عن استراتيجيته في التعامل مع الدول بالعالم المعاصر (استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة)، وهي استراتيجية تعتمد السلوك المنفرد في تحدي أو معالجة أي سياسة أو سلوك من شأنهما عدم الرضوخ لمنطق هذه الرؤية، والتي جاء في نص تقريرها: (ستبقى قوتنا القوة الكبرى التي تردع جميع خصومنا، وتشلُّ قدراتهم سواء كانوا خصوماً بالفعل أم خصوما محتملين، أم من أولئك الذين يسعون إلى التسابق وإلى التسلُّح ليصبحوا معادلين لنا أو أقوى من قوة الولايات المتحدة). ولقد سوَّغ لهذا التطلع ثلاثة عوامل هي:

1.    رغبة الولايات المتحدة في إعادة تأكيد قوتها الكونية بالعالم بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وضَعف هيمنتها على دول كانت تابعة لها في أكثر عقود القرن العشرين، وظهور نظريات ورؤى سياسية تبرِّر سياسة الانفراد مثل نظرية (نهاية التاريخ) و (صدام الحضارات).

2.    حدث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 الذي أصاب عقر الولايات المتحدة ونال من صميمها، وإحساس الولايات المتحدة بشؤم منطق الإذلال الذي عمدت إليه استراتيجية (القاعدة) عندما لجأت إلى مثل هذا السلوك.

3.    وكتعبير عن هول هذا الحادث، سعت الولايات المتحدة إلى خلق بؤرة حادة لإسقاط ما أُذلَّت به على غيرها فوجدت في العراق (خصماً محتملا)، ومجالاً استعراضِّياً لهذا الإسقاط، وذلك عندما جعلت من النظام السياسي في بغداد، وعلى نحو تبريري، عدوا يهدد أمن العالم من جهة وأمنها من جهة أخرى.

 

الأصولية المتعولمة

في سياق ما هو استراتيجي أيضا، ارتقى الإسلام السياسي المُتزمِّت إلى رتبة المزاحمة الكونية، وذلك عندما كثَّف ذروة عمله وانفتاحه على المعطيات العلمية المعاصرة في مجال الاتصالية والوسائلية والمعلوماتية في مقارعة أعدائه التقليديين وعلى وفق رؤية جديدة قوامها النديَّة المباشرة والمحايثة لقوى النفوذ العالمية الكبرى في العالم المعاصر بعد أن قطع، هذا النوع من الإسلام المزاحم، أشواطا فيما أعلنه من مقارعة للأنظمة السياسية في البلدان العربية والإسلامية التي عجز عن زحزحة أوضاعها أو إزالتها عن مكامنها التي فيها، فكان الخيار هو مقارعة الداعم الرئيس لهذه الأنظمة بالمنطقة، قابضا، في الوقت نفسه، على جوهر المبادرة التي بدأتها الثورة الإسلامية في إيران ورفعت شعارها الاستراتيجي (تصدير الثورة) ومشتقاته المفاهيمية مثل: (الشيطان الأكبر)، هذا الشعار الذي سرعان ما أعاد الإيرانيون النظر فيه بعد أن حطَّت حرب الخليج الأولى أوزارها نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، وصولا إلى دعوتها لحوار الحضارات والأديان.

     إن تبَّني أصول المقارعة بدلا عن فروعها، وإعادة بناء المزاحمة والمواجهة لدى الإسلام السياسي المتعولم يطرح خطابه اليوم بوصفه استراتيجية مغايرة في تداول النديَّة السياسية، وهو ما يشعر به الأمريكان على نحو عميق، جاء في تقرير (استراتيجية الأمن القومي ..): في السابق كان على أعدائنا أن يتوافروا على جيوش قوية وقدرات صناعيّة هائلة لمحاربتنا؛ إلا أنه أصبح بإمكان الشبكات التي تعمل في الخفاء أن تنقل لنا الآلام والدمار ولا يكلفها ذلك ثمن دبابة واحدة، بل أصبح بإمكان الإرهابيين [الإسلاميين] التسرُّب إلى المجتمعات المفتوحة، وأصبحوا يستعملون ضدَّها قوة التقانة العصرية. وفي هذا السياق أكدت التحقيقات الميدانية (الأمريكية ـ الدولية) بأن نشاط الإسلاميين المتعولمين يقوم على استثمار أكثر من جغرافية مكانية للتنفيذ، فقد أعلن المحققون الإندونيسيون في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، وهم المعنيون بمتابعة انفجار مدينة (بالي)، الذي تمَّ في الثاني عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2002، أعلنوا  أنهم حدَّدوا خمسة أماكن متباعدة ومتفرقة بالعالم تمَّ فيها التحضير لهذا الهجوم، وهذه إشارة واضحة إلى ما جاء في التقرير الأمريكي أعلاه في العبارة (الشبكات التي تعمل في الخفاء)، كما تشير هذه العبارة إلى مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال الذين يموّلون التطرُّف الإسلامي، ففي الخامس والعشرين من تشرين الثاني 2002 عممّت الولايات المتحدة الأمريكية أسماء أكثر من عشرة أشخاص من أصحاب الأموال السعوديين على المصارف بالعالم ناصحة الأخيرة بمراقبة رساميل هؤلاء الأشخاص إن لم يكن الحجز على أموالهم، وبررّت ذلك بأن هؤلاء يموّلون شبكة تنظيم (القاعدة)!!

 

موجّهات الفهم العربي

هذا بعض ما يواجه العقل التعارفي العربي ـ الإسلامي من الخارج External أو العالم الموضوعي، إلا أن كل معطيات هذا (الخارج) أو (الموضوعي) بوصفه تمثيلاً لا يبرِّأ الذات، أو الأنا، أو الداخل، أو العالم الذاتي، أو قدرة الفهم العربية ـ الإسلامية من تكريسها لإشكاليات التعارف، ولتعقيد العلاقة مع الآخر أو المختلف، فللعقل العربي مغاليقه وتجليات انطواءه الملتبسة، وللمخيال العربي أعطاله وقناعاته المتأصلة والحاصلة فيه سواء من الموروث الثقافي أو الراهن الفكري والأيديولوجي، إذ على رغم أن المرجعية القرآنية قد رسمت رؤية للتعارف، وأن جانبا كبيرا من التراث العربي الإنسي الذي لم يتضاد مع ثقافة الآخر،فإن هذا لم يحُد من تدشين قناعات سلبيّة لدى المثقف العربي، في الماضي والحاضر، من رسم ملامح تصور سالبي عن الآخر، ولعل في ذلك أسباب، منها:

1.    غياب التعامل مع نظرية معرفة فاعلة ومتداولة بين العامة والخاصة من الناس، بين الجمهور والنخب الفكرية في التاريخ الثقافي العربي ـ الإسلامي، وفي هذا الصدد كان بالإمكان أن يستثمر المثقفون العرب ما وضعه الفلاسفة المسلمون في مباحث تحصيل المعرفة حتى وإن كان هذا الطموح يتشاكل مع الموروث الفلسفي الأرسطي أو الأفلاطوني، وكان بالإمكان أيضا أن يتم بناء رؤية لنظرية معرفة إسلامية فيما لو تمَّت المداخلة بينها والرؤية القرآنية في تحصيل المعرفة، فلما كان الفقه الإسلامي يستمد دوامه النسبي من معطيات ومتغيرات العالم الخارجي في بناء تفسير فقهي لما يحدث ويستجد، فإن هذا وحده كفيل بتنضيد موقف للتعامل مع الخارج ومعطياته على نحو فاعل ربما يرتقي إلى بناء تفسير بشأن العلاقة مع الآخر، إلا أن الانغلاق على النص دون ضوء العقل وتواصليَّة طاقته الموضوعية أحال إلى شيء من الانقطاع بين النص والعالم الخارجي، وهو الأمر الذي أدى إلى غياب التفاعل مع العالم الخارجي ومستجدّاته ومتغيراته، وانعكس ذلك على مجمل الرؤية العربية الإسلامية للعلاقة مع الآخر، وقد خطت بعض المؤسسات الفكريّة الإسلامية من خلال مشروع (أسلمة المعرفة) خطوة طيبة في سبيل الخروج من المأزق الإشكالي وبناء رؤية فكريّة لنظرية معرفة إسلامية تحسم بعض المشكلات الجوهرية إلا أن هذا المشروع بقي معلقاً في الهواء ولم يلق الاهتمام العملي في الوطن العربي والآفاق الإسلامية، خصوصا المؤسسات العلمية والتعليمية مثل الجامعات والمعاهد.

2.    كان لغلبة الثقافة الثورية برؤيتيها العلمانية والدينية أو الإيمانية خلال القرن العشرين أثره الكبير في تأصيل قناعة شرائح كبيرة في المجتمع العربي ـ الإسلامي بنزعة العداء إلى الآخر أو المختلف، لقد كرَّست هذه الثقافة وعياً ضديَّا استطاع خلال هذه الفترة، بل وما زال، أن يؤتي مفعوله وأثره في طبيعة تفكير العقل العربي. ولا ريب، إن عدداً من الدول الاستعمارية أساءت إلى العرب والمسلمين، ولعبت على أوتار ضَعفهم وتناقضاتهم السياسية وتخلفهم العلمي في العصر الحديث، وسلبت مُقدَّراتهم وثرواتهم الطبيعية، وعاثت بمجتمعهم فسادا قيميّا، فيما نالت هذه السيئات القوى حقها من النقد والمقارعة، لكنَّ ما هو مؤسف أن أُنموذج النقد هذا نزل في الوعي العربي والفهم العربي طولا وعرضاً، وأصبح أرضية خصبة وعامة وكلية للنزعة الضديّة لدى الأنا العربي والذات العربي، ومرَّد هذا إنما يعود إلى طبيعة الخطاب الضديّ الذي مارسه المد الثوري، خصوصا التيارين الديني السلفي والقومي المتزمت، كما أن، وفي موازاة ذلك، كان لتطرُّف التيارات العلمانية والليبرالية المتمثل في الانفتاح شبه المطلق على الخطاب القيمي في الثقافة الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين أثرا يضاعف من المحنة أكثر. وفي هذا السياق لعبت حكومات الاستقلال الشكلية العربية دوراً كبيرا في تعزيز النزعة الضديّة لدى أكثر من جيل في المجتمع العربي، ومارس الإعلام الجماهيري، المسموع والمقروء والمرئي، والموجَّه من قبل هذه الحكومات فاعلية لهذا الغرض، ولم تستطع الحركات السياسية الإسلامية، خصوصا المتطرِّف منها، تبرئة خطابها من هذه التوجُّهات، ربما كان لبعضها الحق في مفاقمة النزعة الضديّة لدى الإنسان المسلم ضد الآخر؛ لكن أكثرها لم يخطر على مخياله السياسي النتائج الاستراتيجية التي ستترتب على سلوكه هذا، وكيف أن النتائج ستكون وخيمة في سلبيتها على المجتمع، وهو الأمر الذي خلق حالة من العداء المتورِّم لدى العرب والمسلمين ضد الآخر، ودفع الوعي الإسلامي إلى التورّط  في مآزق عدة كان منها تحوّل النزعة الضديّة في المجتمع إلى سلوك مطلق في قيمته السلبية!

ما العمل؟

 نستطيع أن نقول: إن التعارف، مهما اختلف شكله وتنوّعت مشاربه وطرقه، يتطلّب اليوم قدرة على الفهم ودرجة من الوعي التثاقفي فضلا عن شروطه الفنية أو اللوجستية، ولما أصبح للتعارف فكرا تراكم خلال العقدين الماضيين، وبما يشبه الحقل العلمي الجديد، فإن الأوان قد آن لوضع فكر التعارف أو فلسفة التعارف موضع المساءلة المعارفية أو الابستمولوجية وعلى أكثر من صعيد: العلمي والمعرفي، العربي والإسلامي، الجماهيري والنخبوي، الذاتي والموضوعي. ومن ثمَّ فتح الإمكان الفعلي والإجرائي والتداولي للعقل التعارفي العربي والإسلامي والغربي معا، وفي آن واحد؛ لكون عملية التعارف هي عالمية وإنسانية وإن كانت جهويّة وعرقية ترتبط بالخصوصية والذات مثلما ترتبط بالآخر والغير والمختلف.

·       كاتب عراقي

·       rasmad@maktoob.com

    

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة