تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

النهضة بعيون الرحّالة:مطالب الإصلاح من خلال تجارب الرحلة رفاعة الطهطاوي نموذجاً

إدريس هاني

[1]

 

*

لعل أهم ملاحظة يجدر الالتفات إليها قبل الوقوف على مضمون الرحلة الطهطاوية، هو الجانب الشخصي لهذه الرحلة. إن السيد رفاعة الطهطاوي هو أولاً وقبل كل شيء، رجل دين منتدب من قبل الحكومة المصرية كإمام للصلاة والوعظ مع بعثة من الشباب أوفدتهم الحكومة إلى أوروبا قصد تلقي العلوم الحديثة، حسب الزركشي. ومع ذلك فإن جميع من أرخ للطهطاوي ورحلته، لا ينكر أنه أحد أركان وأعمدة النهضة العلمية العربية. لقد كان رجل دين مميز، وهو أيضاً لما غادر مع هؤلاء الشباب كان شاباً غضًّا لم يتجاوز بعد الـ 25 سنة من عمره. نتساءل بعد ذلك إن كان تاريخ النهضة في مصر والعالم العربي يذكر شيئاً عن أولئك الذين ذهب الطهطاوي في رفقتهم، لتحصيل العلوم واكتساب الخبرات الحديثة من الديار الأوروبية. لكن التاريخ خلّد ذكر هذا المرافق الشاب، ورجل الدين بامتياز، بوصفه ركناً من أركان النهضة المصرية والعربية الحديثة ومحرر تجربة البعثة ومعقلن آفاقها الفلسفية والأيديولوجية.

اتجهت اهتمامات الطهطاوي منذ البداية صوب العلوم الاجتماعية والآداب والفنون. كما كان حريصاً على التحقيق في البحث والتدقيق في النظر في كل ما صادفه أو رآه في هذه المدنية. كان ممتلئاً بالشعر والأدب والاطلاع الواسع على اللغة الفرنسية وعلى علوم أهلها في السياسة والاجتماع والنفس والتاريخ والجغرافيا. لقد كتب وترجم عنهم الكثير من النصوص.

كانت الانطلاقة من القاهرة يوم الجمعة 8 شعبان 1241هـ/ 17 مارس 1826م وتمت العودة في رمضان 1246 (فبراير/ مارس 1831). نحن إذن أمام 5 سنوات من عمر هذه الرحلة التي استطاع الطهطاوي أن يحولها إلى بؤرة استشكال مقارناتي ذي طابع إصلاحي وتغييري، هو الأهم من نوعه في تاريخ مصر الحديثة وتاريخ المنطقة العربية. وتبدو قيمة الرحلة الطهطاوية بلحاظ نظائرها في كونها أكثر ثراءً وتحليلاً، وأكثر تدقيقاً وتحقيقاً. فهي لا تقف عند الأدواء بل تتعداها إلى التعليل وبيان المقاصد وسعة الاطلاع على الفنون والثقافة الحديثة. وليس غريباً أن طريقته في وصف باريز في كتابه العمدة في المقام: تخليص الإبريز في تاريخ باريز -الذي له عنوان آخر أكثر شاعرية: الديوان النفيس في إيوان باريس-، ظل مرجعاً لكل من أقدم على وصف باريس بعده من رحالة نهاية القرن (19) أو بداية القرن العشرين.

ليس من الإنصاف أن نرى في رحلة الطهطاوي مجرد انبهار بالحضارة الأوروبية. فمثل هذا يتعذر التسليم به متى تأملنا المقاصد التي شغلت بال رحالتنا، وهواجس الإصلاح والنهضة التي شكَّلت عنواناً بارزاً ومقصداً بعيداً لتدوينه للرحلة الباريسية. بل هو وصف دقيق، قد يشط أحياناً في ذلك النوع من الدهشة، وهذا أمر طبيعي، لكنه كان على وعي ويقظة مما يصفه تباعاً. إذن ليس المطلوب أن نقرأ تلخيص الإبريز مجرد قراءة انتشائية فحسب، بل تعين أن نحسن قراءته قراءة مقاصدية أيضاً.

كثيرون ممن مارسوا الرحلة لم يكن تدوينهم لوقائع الرحلة سوى نوع من الفضول لا يتعدى حدود الاستئناس. ولكن الطهطاوي قبل ذلك كان قد أشير عليه بتدوين تلك الرحلة من قبل شيخه العطار. فضلاً عن أن الرحالة لم يكن بصدد نقل دهشته بل كان يروم الإدهاش؛ فالدهشة إنسانية وهي المعبر الأول للتقدم وعامل من عوامل تبديل الحال واللحوق بركب المتبارين في ميادين الحضارة. أو بتعبير الكواكبي: الشوق إلى الترقي. ولقد صمّم أن يكون وصفه موضوعيًّا و دقيقاً، لا يدع أمراً يفوته ولا استسلم لما يوحي بالإهمال، حتى أنه قال: «ما قصرت في أن قيدت في سفري رحلة صغيرة نزهتها عن خلل التساهل، والتحامل، وبرأتها عن زلل التكاسل والتفاضل (...) فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع، والحق أحق أن يتبع»[2].

بل إن موضوعية الطهطاوي ودهشته لم تأت لمجرد التسلية، بل جاءت مصحوبة بحسرة على الفارق الموضوعي بين عالمين؛ فيقول: «ولعمر الله إني، مدة إقامتي بهذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه».

يدرك الطهطاوي شدة الفجوة بين العالمين.. ويدرك أن ما قصه في رحلته قد لا يصدق من قبل من لم يشاهد ما شاهده. ومن هنا قوله: «وإياك أن تجد ما أذكره لك خارقاً عن عادتك، فيعسر عليك تصديقه فتظنه من باب الهذر والخرفات، أو من حيز الإفراط والمبالغات. وبالجملة، فبعض الظن إثم، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب»[3].

إن أغلب ما استوقف رحالتنا كما سيستوقف كل الرحالة الذين كتبوا في هذا الجنس الخاص من الأدب، هو معالم المدينة الباريسية. فوصفها وصفاً شاعريًّا دقيقاً، فيه من الدقة والإيجاز أيضاً لمظاهر التنظيم الاجتماعي وحسن الإدارة والتدبير والحرية والقوانين والعلوم ما يجعلنا قادرين على الوقوف على هذه المظاهر التي تعكس حجم الفجوة بين المجالين كما وصفها الطهطاوي. فباريس هي مدينة تفوق كل مدائن الدنيا عمراناً، وهي كبرى مدائن أوروبا وهي «كرسي بلاد الفرنسيس وقاعدة ملك فرنسا»[4]. بل كما يبدو أن محور الكتاب: «تخليص الإبريز في تلخيص باريس»، هو وصف لمدينة باريز؛ وصفاً لم يكد يغادر صغيرة ولا كبيرة في النظم والهياكل والعمارة والعادات والشرائع والفنون وهلم جرّا. وصفاً جعل من باريز نموذجاً للرقي وحسن العمارة وموطن الحضارة يفوق الخيال، حتى وإن عاد الرحالة مرات ليقول: إن وصفه جاء مجملاً، وإنه لا يستطيع أن يصف كل ما رأى. لكن يبدو للوهلة الأولى أن الرحالة المصري كان مأخوذاً بالعجب حتى الثمالة في وصف باريس بلغ أن قال فيها شعراً:

لقد ذكروا شموس الحسن طرّا      وقالوا إن مطلعها بمصر

ولكن  لو  رأوها  وهي  تبدو       بباريس لخصوها بذكر[5]

بل يمكن القول: إنه كتاب في وصف باريس حسب ظنه، «لم يضم باللغة العربية، على حسب ظني شيء في تاريخ مدينة باريس، كرسي مملكة الفرنسي أولاً في تعريف أحوالها وأحوال أهلها»[6].

لقد بدا له فيها كل شيء غريب حتى مظاهر الطبيعة فيها. غرابة تفسر إلى أي مدى بلغ الوصف هجّاسه الشاعري:

ـ «أغلب النباتات الغريبة يوجد بهذه البلدة»[7].

ـ «كالحيوانات الغريبة ببلادهم»[8].

ـ «ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر»[9].

ـ «وتعهد الفرنساوية تنظيف بيوتهم وملابسهم أمر عجيب»[10].

لكن هذا لا يمنع من أن مراد الرحالة في الوصف، وإن احتفظ بموقف سلبي من بعض الأمور، أن يحرض الهمم ويشوقها لاقتفاء طريق القوة والتمدن وعدم جعل الغفلة مانعة عن الأخذ بسنن الترقي كما تجلت في العمران الأوروبي. فما يبدو من هذا الوصف شديد الانبهار أنه شيء يفوق مسطور الرحلة. لا سيما وأن الطهطاوي فضَّل ألَّا يذكر في الكتاب إلا ما كان موضع إعجاب. وتجنب الحديث قدر الإمكان عمَّا من شأنه تنفير القارئ العربي من أسباب المدنية على طريق الحداثة الأوروبية. فما يميز هذه الرحلة أنها تستدعي ذلك الفارق بين مصر والعالم الإسلامي تارة وبين بلاد الإفرنج وباريس تارة أخرى. فلم يصف إلا شيئاً مفقوداً أومعدوماً في هذه البلاد، ليؤكد أن الأمر يتعلق بعملية مقارنة بامتياز. نعم، ربما أحياناً غلا في الوصف وأخذ من حيث لم يكن يشعر بعواطفه لتجاوز التوازن المعقول. فهذا في ظني لا يضر، لأن المقام شعري وليس برهانيًّا. ولأن الأمور بمقاصدها حتى أن الغاية هنا تبرر الوسيلة. فهي أشبه بضرب من التسامح في أدلة السنن لأن الغاية من ذلك كانت ولا ينبغي إلاّ أن تكون تحريض الناشئة على الترقي وإذكاء شوقها لطلب الكمالات المدنية وتقوية دعائم العمران. ولو شئنا استطراداً أن نقف على مواقع هذا الشطط الانفعالي في الوصف، لوقفنا عند بعض من العبارات التي عانقت العنصرية وداعبت مواقف قد تبدو لا أخلاقية في مذاهب تقييم الحضارات. ظهر ذلك على أقل في ثلاثة موارد:

ـ قوله أولاً: «على أنه لا يحسن عند الفرنساوية استخدام جارية سوداء في الطبخ ونحوه، لما ركز في أذهانهم أن السودان عارون عن النظافة اللازمة»[11].

ـ قوله ثانية: ثم إن لون أهل باريس البياض المشرب بالحمرة، وقلَّ وجود السمرة في أهلها المتأصلين بها، وإنما ندر ذلك لأنهم لا يزوجون عادة للأبيض أو بالعكس، محافظة على عدم الاختلاط في اللون حتى لا يكون عندهم ابن أمة. قال الشاعر:

في الهند طير ناطق    سبحان مولى الأمة

يقول   في  تغريده     ابن الأمة ما الأمه[12]

بل لا يعدون أنه قد يكون للزنج جمال أصلاً، بل لون السواد عندهم من صفات القبح، فليس لهم في المحبة مذهبان، ولا يحسن عندهم قول الشاعر في غلام أسود:

فيه  معنى  من  البدور  ولكن       نفضت صبغها عليه الليالي

لم يشنك السواد بل زدت حسناً       إنما  يلبس  لسواد  الموالي

بل لسان حالهم دائماً ينشد قول الآخر:

ألا إن عندي عاشق السمر غالط      وإن الملاح البيض أبهى وأبهج

وإني لأهوى  كل  بيضاء  غادة      يضيء لها  وجه  وثغر  مفلج

وحسبي أن أتبع الحق في الهوى      ولا شك أن الحق أبيض أبلج[13]

ـ قوله ثالثة: «ثم إن جميع هذه التحف يكمل الأنس بها بحضور سيدة البيت، أي زوجة صاحبه التي تحيي الضيوف أصالة، وزوجها يحييهم بالتبعية، فأين هذه الأوضى بما احتوت عليه من اللطائف من أوضنا التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق الدخان من يد خادم في الغالب أسود اللون»[14].

وهذا يؤكد أن الأمر هنا لا يقف عند حد وصف ثقافة الآخر العنصرية، بل يتعدّى إلى تبني الموقف نفسه من قبل الواصف.

نبوغ الرّحالة

تتميز رحلة الطهطاوي بخصائص شخصية الرحالة نفسه بوصفه طالب علم وعاشق معرفة وحامل همّ التّرقي. فهو مثقف واسع الثقافة وله فضول تجاه المعارف والفنون لا يحد ولا يقاوم. إن وصفه للعلوم يدل على خبرة واسعة واستيعاب كبير لشتى فنونها. وهذا حدّ العبقرية والنبوغ في شخصية الطهطاوي انعكست على صفحات الرحلة الباريزية وأينعت ثمارها بحسن الوصف وبعد النظر وعميق الفكرة. ويبدو هذا واضحاً من خلال حديثه عن اللغة الفرنسية التي تعرّف عليها وأتقنها وأكسبته قدرة على استيعاب الفوارق الموضوعية بين النكات اللغوية في الفرنسية والعربية سواء بسواء، وقد بادر إلى ترجمة بعض الأعمال الأدبية والفكرية الكلاسيكية منها أيضاً. وذلك بعد أن درس كتباً نفيسة وكلاسيكيات في حينها واطلع على أعمال كبرى. ففي الأدب اطلع على كتب من قبل رسائل فارسية لروسوا وروح القوانين لمونتيسكيو. وقرأ الفلسفة وتاريخ الفلسفة والأدب واللغة والعسكرية. وكان متابعاً للصحافة والسياسية بشكل دقيق، حيث يصف ذلك: «وقرأت كثيراً في كازيطات العلوم اليومية والشهرية، وفي كازيطات السياسات اليومية التي تذكر كل يوم ما يصل خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة البوليتيقية، وكنت متولعاً بها غاية التولع»[15].

لهذا السبب كانت آراؤه فيها من حسن التفهم لثقافة الآخر، ما قد يحسبه البعض بمثابة انبهار أجوف، لكنه في الواقع ارتقاء في الذوق وخروج منهجي عن مقتضى العوائد في مجال معرفة إحساس وشعور الآخر، بما يجعل لموضوعية التشخيص معنى ناضجاً يفيد قارئ الرحلة لتكوين صورة موضوعية عن الآخر بقلق معرفي مطلوب وليس بهواجس انفعالية مرفوضة. هذا يعني أن هاجس الإصلاح كان هو المحرك الأساسي لردم الهوة بين الآخر المتقدم والأنا المتخلف في مربع استيعاب قوانين التقدم والتحديث والإصلاح. وهما غاية الرحالة. فهو يقول:

«وأقول حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا فهي أولى وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة»[16].

بل إنه يتحدث حسرة عن المطلوب ويذكر أن الهدف من عرض الضائع المطلوب هو تعريف أهميته للدول ولزومه لها. بالتأكيد على أن هذه الفنون هي «واهية في مصر أو مفقودة بالكلية»[17]. وعليه فإن النظرة الحقيقية تؤكد أن هذه المعارف والفنون تامة عند الإفرنج مجهولة تماماً عندنا. وحينئذ لا محالة سيظل الجاهل بهذه العلوم في نظر رحالتنا مفتقراً لمن أتقنها. بل، إنه «كلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئاً مات بحسرته»[18]. فالمطلوب أن نتحرر من هذا الافتقار بطلبها والنضال من أجل إحرازها. وقد بات واضحاً أن وصف الرحالة وانبهاره بالعمران الباريزي هو من باب التحسر على أن العالم العربي والإسلامي هو أولى من الإفرنج بهذه المنجزات نظراً للمجد التاريخي والأخلاقي والديني الذي يميز هذا المجال. فهذه «المدينة العامرة بالحكمة والفنون والعدل العجيب والإنصاف الغريب الذي يحق أن يكون من باب أولى في ديار الإسلام وبلاد شريعة النبي (صلى الله عليه وآله سلم)»[19].

فالطهطاوي يرى أن الخروج من سباق الإصلاح والتحديث ليس فقط سيكسب مصر تخلفاً كما سائر بلاد العالم الإسلامي، بل سيحولها إلى قطيع من العبدان بل البهائم المسخرة لخدمة الإفرنج. فلو «تعهدت وتوفرت فيها أدوات العمران، كانت سلطات المدن ورئيسة بلاد الدنيا، كما هو شائع على لسان الناس من قولهم: مصر أم الدنيا»[20]. بل إنهم بانزياحهم عن طريق الإصلاح والأخذ بسنن الترقي صيّروا «الأمم أشباه البهائم إلى ملة النصرانية، وكان الإسلام أولى بتلك المزية»[21].

هذا إنما يؤكد أن الرحّالة وحال المصلحين من معالم الحداثة، أنهم يتمنونها لأنفسهم، ويتمنون لو كان لهم عليها سلطان، ولكانوا هم من يمسك بناصيتها ولهم باع في تهذيبها كما هذّب من سبق من الأسلاف معالم الحضارات السابقة.

في ذكر معالم العمران الإفرنجي

الوقوف عند تفاصيل هذا العمران ركن ركين في هذا الإنشاء الرحلاتي. لكن ينبغي ألَّا يفوتنا التعليل الذي يؤسس للمطلوب. من هنا فإن كل مظاهر العمران في العمارة أو الزراعة وما شابه ذلك، ليس أمراً طبيعيًّا ينبت على فطرته كما لو كنا في براري وحشية، بل مرد ذلك إلى حسن التدبير وفنون العناية. لذا وجب إسناد كل هذه المظاهر إلى التدبير العقلاني، إلى نجابة الباريسيين.

ويبدو أن أهم ما لفت نظر الرحّالة هو هذه العقلانية العملية التي شكلت أهم ميزة لأهاليها. العقلانية التي تعدت إلى مجالات مختلفة، أهمها انتشار التعليم. فالباريسيون يتميزون حتى عن باقي النصاري في نظر الطهطاوي بالذكاء والعمق و«غوص ذهنهم في العويصات». ما يعني أن المسألة لا تتعلق بخصوصية اعتقادهم الديني. بل توحي هذه المقارنة إلى أن جميعنا في الهم شرق. فالأقباط المصريين في نظر رحّالتنا يعانون ما يعانيه غيرهم في هذه الربوع. ومن هنا يقوم الفارق بين نصارى فرنسا ونصارى بلادنا. فهم ليسوا «مثل النصارى القبطة في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة»[22].

وهو يصف عقلانيتهم بوصف كلامي، ينزلهم منزلة أهل الاعتزال من تراثنا. يتعاطى معهم كما يتعاطى كتاب الملل والنحل عندنا مع الفرق والمذاهب الكلامية. فأهل الإفرنج هم الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل[23]. وفي مورد آخر يصفهم: «وقد أسلفنا أن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين»[24].

قوة انتشار المعارف والفنون

بالتأكيد، إن لهذه النزعة العقلانية ما يسندها من انتشار أسباب العلم التي تكاد تفوق في هذه الديار كل البلدان والمدائن الأخرى. يعزى انتشار المعارف والفنون في هذه البلاد الراقية إلى الحضور العقلاني المكثف. يصف الطهطاوي شهرة مسيو جومار: «تفضيل القلم على السيف، لأنه يدبر بقلمه ما لا يدبر غيره بسيفه ألف مرة. ولا عجب، فبالأقلام تساس الأقاليم. وهمته في مصالح العلوم سريعة، كثيرة التأليف والأشغال. والغالب أن هذه الخصلة في سائر علماء الإفرنج.. فإن مثل الكاتب كالدولاب إذا تعطل تكسر، والمفتاح الحديد إذا ترك ارتكبه الصدأ. وجناب مسيو جومار يشتغل بالعلوم آناء الليل وأطراف النهار»[25].

فالباريسيون يعشقون الاستزادة من المعارف ويرفضون التقليد ويتطلعون إلى الإبداع. وقد انعدمت فيهم الأمية حتى غدا عامتهم متعلمين. وعلومهم مدونة بعناية في كتب تفننوا في صناعتها. فالعوام هنا متعلمون يغوصون أيضاً في العويصات وليسوا كما وصفهم الطهطاوي أنعاماً كعوام أكثر البلاد المتبربرة[26]. وقد تعدى الأمر عوامهم من الرجال إلى النساء. فهنّ وخلافاً لما هي عليه أوضاعهن في بلادنا، متعلمات ينافسن الرجال في طلب المعرفة وإحراز العلوم. بل للنساء منهم تآليف عظيمة فيها من براعة السبك وحسن العبارة وجودتها ما يؤكد على نبوغهن. وقد غيرت التسوية في التعليم ذلك النوع من التنميط السائد بين جمال المرأة وعقلها. فقد غدا جمال المرأة أيضاً في عقلها:

«ومن هنا يظهر لك أن بعض أرباب الأمثال» جمال المرء عقله وجمال المرأة لسانها» لا يليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها»[27]. فهنّ كالرجال هناك، متولعات بحب المعارف والوقوف على أسرار الكائنات والبحث عنها[28].

ومن مظاهر انتشار المعرفة والتعليم انتشار المكتبات وخزانات الكتب، وتعميم التعليم وشيوع القراءة والكتابة ومحو الأمية وازدهار تجارة الكتاب وتراكم التأليف والإبداع الأدبي. وهذا الذي أثار انتباه الطهطاوي لا يزال مطلباً إصلاحيًّا لم يتحقق حتى اليوم في بلداننا التي تواجه عجزاً في تعميم التمدرس ومحاربة الأمية والتشجيع على العلم والتعلم. وهو حظ نظامنا التربوي الذي لم يتحقق معه ما تم وصفه بعناية من أمر إفرنجة ذاك الزمان. وهو كافٍ لوضعنا أمام واقع تخلفنا وحتمية انهزامنا الحضاري أمام أمم هكذا أسست لانطلاقتها في رحاب المدنية. وهذا التميّز زاد عند الفرنساوية الذين فاقوا أقرانهم من الفرنجة حتى استحقوا أن يصفهم الطهطاوي حينها:

«وقد تقرر أن الملة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعلقها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدباً وعمراناً»[29].

ولعله من دقة التحليل وبُعد النظر أن أدرك الطهطاوي سر هذا الانتشار السلس للمعارف والعلوم، وجعل من بين أسباب ذلك سهولة اللغة. وهذه من بين الملاحظات الذكية والمبكرة التي لفتت انتباه الطهطاوي وجعلته بذلك رجلاً تربويًّا بامتياز، وفي غاية الاقتدار على المعالجة الإصلاحية ومقاربتها الشمولية. إن مشكلة اللغة العربية ليس في قدرتها على التكيّف مع التطور العلمي كما يسعى خصومها في بلادنا. فالعربية من هذه الناحية لها قدرة على التكيف لا تُضاهى. لكن ما يشير إليه الطهطاوي هو مشكلة صعوبة تحصيلها بالنسبة للناشئة بحيث تتأخر الاستفادة من التعرف عن طريقها على المعارف. فهي تستهلك من عمر متعلميها وجهدهم ما لا تستهلكه لغات أخرى مثل الفرنسية. وهذا ما جعل «ما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان، حيث إنه لا التباس فيها أصلاً فهي غير متشابهة»[30].

فلا يحتاج المعلم إن أراد أن يدرس كتاباً أن يحل ألفاظه، فهي واضحة بينة. وليس لكتب الفرنسيس شراح، ولا حواشي إلا نادراً، وقد يذكرون تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة. فالمتون من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها. فإن شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم، تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده دون محاكة الألفاظ، فيصرف همته في البحث عن موضوع العلم، وإما غير ذلك فهو ضياع. ليس لهذا الولع بالعلوم والمعارف حد؛ بل هو شامل لكل الأشياء.. وهم يهتمون بالمعارف وفي كل علم وضعوا قاموساً لشرح المصطلح الخاص بذلك العلم. وقد بلغ ذلك حسب الطهطاوي حدّ «الهوس»[31].

هذا الوصف يؤكد المشكل التربوي وعدم القدرة على تصيير اللغة وسيلة سهلة لتحصيل المعارف. وعليه فإن سبب الإغراق في الحواشي والشروح هو ضعف اللغة مما يدخلنا في مأزق تواصلي لا زال نظامنا التربوي يعاني منه. ويبدو أن الطهطاوي أدرى من غيره بما ينتج عن الإغراق في هذه الشروح على المتون التي أرهقت العقل العربي وقيدت انطلاقته في رحاب الإبداع وحولت مشكلته المعرفية إلى مآزق لغوية. ثم إن ما يشير إليه الطهطاوي أن العناية بالمعارف والفنون لم تقف عند إكراهات النظام التربوي بل تحولت لسهولة تحققها والتفنن في بلوغها متعة العامة والخاصة، بلغ بهم حدّ الهوس في اكتساب العلوم. وهذا تفرّع ليشمل فنوناً كنا نعتبرها حتى ذلك الحين من الخبرات الدنيا التي لا تتطلب عناية ولا فنًّا. أستطيع التعبير عن مراد الطهطاوي بأن الفرنساوية استطاعوا تفنين كافة القطاعات والنشاطات الاجتماعية بما فيها الأدنى. لقد شمل ذلك حتى علوم السوقة، فإن لها مدارس كمدرسة الطباخة إلا أن هذا «الهوس» «يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة»[32]. التعليم هنا والفن شائع في المجتمع. والاستيعاب يشمل كافة الأشياء. وجلّهم يحيط بقضايا مختلفة حتى أنك لو جاريته في الحديث وجدته يحدثك حديث العلماء. لا مجال للدهشة هنا. وصغارهم ينشؤون منذ الصبا على هذه البراعة. إنهم حسب الطهطاوي «لهم تربية عظيمة»[33].

وضعية المرأة

لعله من الفضول أن يتعرف الرحالة أو من يطلع على كتابه على صورة «المرأة» عند الآخر. فهل الطهطاوي لمس في مظاهر التقدم المدني الإفرنجي تحولاً في وضعية المرأة وحقوقها؟

ما يضيف أهمية على هذا الوصف الدقيق لأحوال الاجتماع الفرنساوي وعموم الإفرنجي عشية قيام نهضتهم وتخلف مجالنا العربي والإسلامي، أنه استوعب وضعية المرأة هناك خارج أحكام القيمة ذات المنشأ الانفعالي الذي يظهر فيمن كتب عن أحوال المرأة في بلاد الفرنجة من كتّاب الرحلة أنفسهم. فحس الإصلاح جعل الطهطاوي يرى الجوانب الأكثر أهمية حيث يبدو أنه كان يثق في قدرة العالم الإسلامي على تنقية وتهذيب مظاهر المدنية الحديثة. لكن هذا الانفلات الذي بدا للطهطاوي نفسه وهو ابن مرحلة وجيل وثقافة من شأنها أن تعيق رؤيته عن بلوغ ما هو أهم وإيجابي من مظاهر هذه المدنية.

إن الطهطاوي لم يقف فقط عند ذكر بعض مظاهر الحقوق والتسوية التي حظيت بها المرأة في بلاد الإفرنجة، بل حاول أن يصف الثقافة الإفرنجية بخصوص المرأة، ويهيم بالوصف لكل مظاهرها ولباسها وعاداتها حتى جمالها الطبيعي الذي ليس للمدنية يد فيه ولا للنهضة دخل في تفصيل محيّاه. لكن الجوهري هنا أنه تناول المرأة من الجهة الحقوقية ومن الجهة الثقافية بمزيد من الاهتمام. فهو لما كان يصف النساء الإفرنجيات وهو في طريقه إلى باريس، يذكر ذلك:

«ثم إن الظاهر في هذه القرى والبلاد الصغيرة أن جمال النساء وصفاء أبدانهم أعظم من ذلك في مدينة باريس، غير أن نساء الأرياف أقل تزيناً من نساء باريس كما هي العادة المطردة في سائر بلاد العمران»[34].

امتدت يد الوصف إلى ما كان مائزاً في ثقافة الفرنجة، لا سيما ما يجوز للرجل دون المرأة والعكس. ومنها اختصاص المرأة بالوقاية من الشمس بالمظلات دون الرجل، ويجوز له ذلك فقط في الوقاية من المطر: «وفي الحر تمشي النساء بالشمسيات، ولا يمكن للرجل ذلك أبداً»[35]. وهذا وصف يظهر قوة الملاحظة وذكاءها. بل أذكى وأقوى من ذلك وصفه للأوض ومخفي البيوت. فالطهطاوي قدم تحقيقاً وتقريراً من الداخل ومن الخارج لم يترك تقليداً ولا عرفاً إلاّ وسلط عليه الأضواء لتكتمل الصورة ويجعل القارئ يحيط بالمجتمع الباريسي وبالتالي الفرنجي من كل الجهات. يكفي أنه أشار إلى ظاهرة افتراق الزوجين في المبيت وانفراد كل منهما بأوضة خاصة به. وذلك يحدث حينما يتقادم الزواج[36]. وليس ذلك إذن غريب فيما يتعلق بمكانة المرأة في بلاد الفرنجية وتحديداً باريس، فالمرأة هنا بلغت في التسوية مكانة مرموقة تعدت الحدود أحياناً. ولذا كان لا بد أن تسأل هي الأخرى عن عقلها مثل الرجل وليس عن جمالها. ما يؤكد أن علاقة الرجل بالمرأة في بلاد الإفرنج تختلف اختلافاً كبيراً عنها في البلاد العربية. فالمرأة هنا مكرمة مدللة ولها المقام الأول حتى قيل: إن باريس جنة النساء وأعراف الرجال وجحيم الخيل[37]. والرجال بين الخيل والنساء هم عبيد النساء. يكفي دليلاً على ذلك أن الإنسان يحرم نفسه وينزّه عشيقته[38]. فالرجال هناك عبيد النساء وتحت إمرتهن ولا يهم إن كنّ جميلات أم لا.

هذه النظرة إلى المرأة التي بسبب التسوية تجاوزت الأنماط التقليدية حتى أن جمال المرأة غدا في عقلها، تحيل إلى ذلك الموقف الذي تمثله زوربا من السيدة هورتانسيا فيما يرويه كازانتزاكي، مفاده أن تمسكه بهذه العجوز المسنة التي لا زال قلبها يفيض حيوية وشباباً، إنما لأنه رغم ذلك يرى فيها الأنوثة وجمالها. ومثل هذا الوصف حقيقة لا يمكن أن يوجد إلاّ في بلاد الفرنجة ومع بلوغ المرأة مكانة مميزة في المجتمع بسبب الارتقاء في التسوية. وهذا وحده يظهر معنى ما ذهب إليه الطهطاوي من خلال هذا الوصف. حينما يصبح جمال الجنسين معاً في العقل. فالنساء -إذن في نظر الطهطاوي وحسب ما يقال أيضاً- هنّ معدات للذبح عند الهمل من الشعوب المتوحشة، ومتعة البيوت عند أهل المشرق في حين هنّ عند الإفرنج مدلعات كالصغار[39]. وأما من جهة الحقوق، «فهن كالرجال في جميع الأمور»[40]. هذا يؤكد أمراً عجيباً. فإذا كانت المرأة بلغت مكانة في التسوية كما يذكر، وإذا كانت حقوقها مثل الرجل في جميع الأمور، وإذا كان معيار اختيار رفقة المرأة والزواج بها هو عقلها لا جمالها، فلم إذن تدلل كالأطفال؟! ربما الوصف الشاعري فيه هنا بعض الغلو. ولكنه غلو غير ضار كما قلنا؛ لأن المقصود يتعدى زوائد القول. فالمرأة في بلاد الفرنجة هي كذلك، كما وصفها الطهطاوي. لكنها لا زالت مستعبدة في جمالها نفسه. ففي كل مرافق الحياة الاجتماعية والمحال التجارية والوظائف العامة تختار المرأة أحياناً لجمالها. بل ظل حظها في التمثيل النيابي والنشاط السياسي أقل من الرجل رغم الحديث عن انعدام كل أشكال التمييز ضد المرأة. وإذن يبدو الحديث هنا شاعريًّا ومجملاً وفيه من الزوائد التي تجاوزت الوقوف على المظاهر النقيضة في هذا المجتمع. فلا زالت بلاد الفرنجة حتى اليوم ساحة تكتظ بالنشاطات النسائية ولا يزال الملف المطلبي النسائي مفتوحاً هناك على آخره. ولا يزال نظام الكوطة معمول به في كثير من البلاد الأوروبية حتى اليوم. وحتى من لم يعمل بنظام الكوطة في الانتخابات، يستند إليه في قطاعات أخرى من المجتمع. ومع ذلك لا يجوز القول أن لا شيء تحقق في مجال حقوق المرأة في أوروبا كما وصف رحّالتنا. وحتى لا يقال: إن الطهطاوي ظل مأخوذاً بالدهشة دون أن يلفته ما كان يرافق ذلك التحول الكبير في وضعية المرأة، حاول أن يرصد حظها من العفة والأخلاق. وقد بدا على الكثير ممن وصف أحوال بلاد الفرنجة يومها وحتى اليوم الاستسلام للنزعة العدمية، فلا يرى في وضعيتها ما هو جدير بالتقدير. وليس ها هنا مجال لذكر أمثلة على أولئك الذين بالغوا في حجب الصورة الموضوعية عن المرأة في بلاد الغرب. وهو أمر توقف عنده الطهطاوي بالوصف الموضوعي والتعليل المعقول. لقد حاول الطهطاوي أن يكون موضوعيًّا إلى أقصى حد في وصف ثقافة النساء الإفرنجيات. لكنه حافظ على وجهة نظره في كثير من العادات. إنه يشرح ويعلل أحياناً لكنه لا يبرر. وهنا يبدو أنه كان يميز تمييزاً دقيقاً بين المعقول واللامعقول. ولا يسمح أن تستفزه صور المجون الكثيرة لكيلا يرى الصورة الإيجابية التي هي مطلوب رسالة النهضة والإصلاح. فخطاب الهوية يكاد يغيب في نظر الطهطاوي لأنه مهجوس بسؤال النهضة والإصلاح والترقي. وكل من احتك بالعرف الأوروبي الاجتماعي يدرك أن رفاعة الطهطاوي كان على درجة من الاستيعاب والتفهم قلّ أن تجده فيمن أتى بعده وأسس لوجهة نظر أكثر سلبية ورفضوية لمظاهر التمدن الأوروبي. فما يظهر في أعرافهم أن الرجال هناك لا يعيشون على سبيل سوء الظن تجاه نسائهم. ومهما بلغت أخطاؤهن فإن حلم الرجال على النساء هناك كبير. «ولا يظن الإفرنج بنسائهم ظنًّا سيئاً أصلاً، مع أن هفواتهن كثيرة معهم»[41]. غير أن ذلك لا يعني أن لا غيرة لهم على نسائهم ولا إحساس لديهم بوقع الخيانة. فالمسألة تتعلق بطبيعة الثقافة الحاكمة على سلوكهما. فكما في كل الدنيا هناك أيضاً معنى للنبل والشرف. «ففي نساء الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك»[42]. وهذا الصنف الأخير هو الأغلب نظراً «لاستيلاء فن العشق في فرنسا على قلوب غالب الناس، ذكوراً وإناثاً، وعشقهم معلل لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك، إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج»[43]. لقد جعلوا إذن من العشق حصانة ضد الخيانة. وهذا واضح لأن العلاقات هناك تقوم على المحبة لا على سواها. فيصعب اختراق سياج المحبة. فالخيانة هي ناتجة عن روابط هشة لا تستقوي بقوة الحب والعشق، ما يجعل وصف الرحالة دقيقاً وبالغ المعنى هنا. لكن ثمة ما هو معدود في نظر الطهطاوي من الرذائل. وطبيعي أن يرى ذلك، لأن للمدنية سلبياتها وإيجابياتها. وما يعرض على العمران البشري المتمدن من سلبيات هو مما تعرض له ابن خلدون في تراثنا العربي والإسلامي. ومن هنا كان طبيعيًّا أن يلاحظ الطهطاوي عليهم هذه الرذيلة. فأكثر النساء هناك رغم كل ما قيل قليلات العفة. وأن غيرة الرجال عليهن لا يكون فيما يكون «عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة»[44]. الغيرة هناك موسعة بمدلولها الإسلامي والشرقي والعربي. وهي هنا في بلاد الفرنجة مضيقة تخلو منها الكثير من التصرفات. وإلا فإن ثمة نوعاً من الغيرة شديد عند رجالهم فيما لو ثبتت الخيانة. ولكن الطهطاوي يميز تميزاً دقيقاً إلى حدّ النكير على ما قاله من سماهم ببعض أهل المجون الفرنساوية: «لا تغتر بإباء امرأة إذا سألتها قضاء الوطر، ولا تستدل بذلك على عفافها، ولكن على كثرة تجربتها»، «كيف والزنا عندهم من العيوب والرذائل لا من الذنوب الأوائل، خصوصاً في حق غير المتزوج»[45]. يعترف الطهطاوي بوجود قدر من الغيرة لدى رجالهم. ولا يرى أن لا عرض لهم لمجرد عدم وجود غيرة لهم. فالعرض في نظر رحالتنا أشمل من الغيرة. فمع افتقادهم لهذا المعنى من الغيرة يظل لهم حرص على أعراضهم. فلو علموا على نسائهم شيئاً كانوا أشر عليهم وعلى من خانهم في نسائهم. «غاية الأمر أنهم يخطئون في تسليم القياد للنساء، وإن كانت المحطات لا يخشى عليهن شيء»[46]. يبدو أن موقف الطهطاوي هنا دقيق إلى حدّ يكون نجاحه في تفسير حالة المرأة في بلاد الفرنجة نجاحاً لكامل فصول الرحلة. فقلّ من يدخل في هذا المفصل دون أن يفقد موضوعيته وصوابه. لكن ذكاء الرحالة وسعة اطلاعه واحتكاكه وتفهمه ومقارباته تمكنه من حسن التمييز. فالحديث عن العفة هنا والغيرة فيه ما هو خاص كخروج بعض أشكال السلوك من مشمولات الغيرة عند الفرنجة كالمصاحبة وما شابه مما هو محلها في ديار الإسلام. كما هناك ما هو عام في سلوك المرأة لا تشذّ عنه أمة من الأمم. ومن هنا يعتقد الطهطاوي بالجملة أن سائر الأمم تتشكّى من النساء. ويعزو سبب ما سماه بـ«اللخبطة» فيما يتصل بعفة النساء، في أسلوب التربية. فالعفة هناك أصبحت أمراً آخر لا علاقة له بالستر أو الكشف، بل يتعلق بالتربية الجيدة والخسيسة، «والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة، والالتئام بين الزوجين»[47]. ومن هنا يبدو طبيعيًّا أن العفة تكون ملازمة للطبقة الوسطى لا إلى نساء الأعيان ونساء الرعاع. فنساء هاتين الطبقتين متهمات في الغالب[48]. ليس الطبقة الوسطى إذن حارسة الاستقرار الاجتماعي من منظور اقتصادي فحسب، بل للطبقة الوسطى امتياز حماية القيم أيضاً. وهذه المقاربة الطبقية السوسيو-أخلاقية مهمة إذا أخذنا بعين الاعتبار السياق الذي كتبت فيه الرحلة وخصائص شخصية الرحالة نفسه. لكن وجب البحث عن مربع تشابه بين القيم، مما يمنحها بعداً كونيًّا أيضاً. ليست نظرة الفرنساوية وعموم الفرنجة للعرض تختلف عنها عند العرب. فثمة مشترك في الموقف والإحساس تجاه قيم المروءة. يصف الطهطاوي ذلك ويعلل على النحو التالي:

«فمادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب، هو اعتبار المروءة وصدق المقال وغير ذلك من صفات الكمال، ويدخل في العرض أيضاً العفاف، فإنهم ثقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب والمركوزة في طباعهم الشريفة، وإن كانت الآن قد تلاشت فيهم واضمحلت، فإنما هو لكونهم قاسوا مشاق الظلم ونكبات الدهر، وأحوجهم الحال إلى التذلل والسؤال، ومع ذلك فقد بقي منهم من هو على أصل الفطرة العربية عفيف النفس على الهمة»[49].

اختلاف الثقافة بين الاعتراف وعدمه

لقد وقف الطهطاوي على مظاهر التمدن الإفرنجي ووفاها حقها من العرض والمديح. كما حاول أيضاً أن يتفهم ما هو محل خلاف، ويبرز وجهة نظر الآخر منه دون أن يحاكمه انطلاقاً من ثقافته. وهذا غاية الموقف الإيجابي من تعدد الثقافات. وقد وقفنا على بعضٍ من ذلك في حديثه عن المرأة الإفرنجية وعلاقة الرجل بها مما أظهر فيه بالغ التفهم رغم نزول بعض عوائدهم منزلة المظنون به ظن السوء في ثقافتنا. ولا يتردد في تعليل ما يحتاج هنا إلى التعليل لتقريب الواقع من القارئ المختلف تقريباً يؤسس لمعقولية الحوار بين المختلفين. وحدّ الحوار بين المختلفين أن يكون عقلائيًّا قبل أن يكون أخلاقيًّا. بل لا يتحقق الأخلاقي منه إلاّ بتحقق المعقول منه. وهذا ما يفيد معنى التعارف لاشتماله على المعرفة والمعروف معاً، وهما قوام العقل نفسه. لذا يعزو كل هذه المظاهر النسائية في بلاد الفرنجة لاختلاف الثقافة وتنوع القيم المدنية. «فالأنثى دائماً في المجالي معظمة أكثر من الرجل. ثم إن الإنسان إذا دخل على بيت صاحبه، فإنه يجب عليه أن يحيى صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت»[50].

كما تطرق إلى موضوع الرقص عندهم، محاولاً إخراجه عن موضوع الرقص عندنا لما يشتمل عليه هنا من معنى خارج مفهوم الفسق، في حين أنه في بلادنا يحمل معنى المجون لذا كان خاصًّا بالنساء. «وقد قلنا: إن الرقص عندهم فن من الفنون (...) فهو نظير المصارعة في موارنة الأعضاء ودفع قوى بعضها إلى بعض (...) ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من العياقة والشلبنة لا من الفسق، فلذلك كان دائماً غير خارج عن قوانين الحياء بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء، لأنه لتهييج الشهوات، وأما في باريس، فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبداً»[51].

حظهم من النظافة

البلاد والعباد عند الفرنجة على نظافة ظاهرية فائقة. والطعام والمشروبات على الطرقات غاية في النظافة. وعلينا أن نفهم ماذا يقصد شيخ وفقيه كالطهطاوي من عبارة النظافة الظاهرية. صحيح أنها نظافة لا تكفي لرفع النجاسة بالمعنى الشرعي، لكنها تظل نظافة ظاهرية ولو أنها غير شرعية بالمدلول الفقهي للعبارة. ويصل الهوس بالنظافة بالمجتمع أن لباسه ليس في الغالب ذا زينة بل هو في غاية النظافة. ولا يكاد يظهر من أثر العمل ونحوه شيء إلاّ عند من اشتد به الفقر[52].

حظهم من الأخلاق

حاول الطهطاوي أن يحافظ على ضرب من التوازن والوفاء بالموضوعية حتى في عرض ما يبدو من أخلاقهم محل خلاف. بل إنه كثيراً ما بحث عن المشترك خلف ما يبدو أمراً خلافيًّا كما رأينا بعضاً منه وكما سنرى. على الرغم من أنه تحدث عن ضعف الكرم في هذه الديار، إلا أنه لم يعتبر ذلك مخلًّا بطباعهم، بل مرده إلى أحوال معاشهم. بل إن ذلك لا ينفي كونهم أهل نجدة ومواساة على طريقتهم: «وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبة إلا إذا وثقوا بالمكافأة. وهم أقرب للبخل من الكرم، وقد ذكرنا علة ذلك في ترجمتنا مختصر السير والعوايد في ذكر الضيافة»[53]. ولكنهم في الوفاء بالحقوق ملتزمون: فمن أوصافهم توفيتهم غالباً بالحقوق الواجبة عليهم[54]. الوفاء في العمل وعدم الإهمال: «وعدم إهمالهم أشغالهم أبداً، فإنهم لا يكلون من الأشغال، سواء الغني والفقير، فكأن لسان حالهم يقول: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما»[55]. وهم في ريائهم وحب السمعة ليس أهل كبر، حتى أنك تجدهم يقولون في مدح أنفسهم: «أخلص قلوباً من الغنم عند ذبحها، وإن كانوا في الغضب أشد افتراساً من النمور. فإن الانسان منهم إذا غضب يؤثر الموت على الحياة. فقل أن يفوت زمن من غير أن يقتل إنسان نفسه، خصوصاً من داء الفقر أو العشق»[56].

كما أن من طباعهم الغالبة قيم الوفاء بالوعود واستقباح الغدر والخيانة والصدق والاعتناء كثيراً «بالمروءة الإنسانية»[57]. ولذا تراءوا لرحالتنا أقرب شيماً بالعرب في كثير من مظاهر المروءة. ومن ذلك استقباحهم وعدم ميلهم للأحداث والتشبب بها وهو في حكم المنسي عندهم والنافرة منه طباعهم وهو غاية الفحش عندهم. ومع أن الطهطاوي لا يعلم ما سارت به أوضاع العمران الفرنجي في هذه السلوكيات التي عُدَّت يومها كذلك فيما بدت اليوم في حكم الصناعة المسندة بقوانين وحقوق وأعراف تحميها وتشجّع عليها، إلا أن ما ذكره الرحالة يومها كان صحيحاً. وهو أيضاً يتميز في أحكامه عن الكثير من بني جيله. إن الطهطاوي لم يقرأ عن أحوالهم أو فقط نقل ما سمعه من صفاتهم، بل هو يقدم ما كان من صميم تأمله واحتكاكه. ومن هذا المنطلق حكم على أخلاقهم ورفعها لمصاف أخلاقنا المحلية في أمور كثيرة. فلقد «ظهر لي، بعد التأمل في آداب الفرنساوية وأحوالهم السياسية، أنهم أقرب شبهاً بالعرب منهم للترك ولغيرهم من الأجناس، وأقوى مظنة القرب بأمور كالعرض والحرية والافتخار ويسمون العرض شرفاً ويقسمون به عند المهمات، وإذا عاهدوا عليه ووفوا بعهودهم»[58].

حظهم من الدين

لم يهمل الطهطاوي المسألة الدينية أثناء وصفه الدقيق والمفصل لأحوال الفرنجة في اجتماعهم وإفرادهم. بل إنه طالما عبر عن وجهة نظره وعن تراجع هذا الوازع الديني عند أهل الإفرنجة وهو أسوأ ما رآه. فلقد أعجب بباريس أسمى إعجاب، لم يخفيه طيلة وصفه لها في الرحلة. وحينما يقارنها بمصر التي أحبها وتغنّى بها في المهجر، كان المائز هنا أن مصر لم تكن كباريس امرأة كفر:

لئن  طلقت  باريساً  ثلاثاً       فما هذا لغير وصال مصر

فكل منهما عندي عروس       ولكن مصر ليست بنت كفر[59]

وعلى الرغم من أن الطهطاوي كان يهدف الوقوف على العجيب المدهش في عمران الفرنجة وفرنساوية باريس دون المكث في ذكر مثالبهم، إلا أن نظرته الإصلاحية كانت بين الفينة والأخرى تضع اليد على مواقع الانحراف. وهذا حظه من الموضوعية في التعرض إلى ما ليس من لوازم المعقول في هذه المدنية. فقد تعرض لمظاهر الفساد في ديار الفرنجة واعتبرها الوجه الآخر القبيح لهذا العمران. وحتى دون أن يسقط في التفصيل قال: «وبالجملة فهذه المدينة كباقي مدن فرنسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات، وإن كانت مدينة باريس من أحكم سائر بلاد الدنيا، وديار العلوم البرانية وأثينة الفرنساوية»[60]. لكن ما استوقفه حقًّا هو فساد الاعتقاد لا سيما وأن الفرنجة في ذلك ساروا على مذهب اليونانيين القدامى على منحى التقليد لا الإبداع. فحق للطهطاوي وهو ابن المجال العربي والإسلامي ألَّا يساير الفرنجة في اعتقاد موروث عن الإرث الفلسفي والأدبي اليوناني وقد كان محل نقد وتهذيب من حضارتنا. بل إنهم تعرفوا على ذلك الإرث من خلال العرب والمسلمين الذين عرفوه وعرّفوا به الأمم الأخرى بعد فعل التهذيب. وإذا كانت العلوم هناك في بلاد الفرنجة مهمة على ما وصف رحّالتنا وأطنب، فهي من حيث اللغة تستند إلى الإرث اليوناني الجاهلي نظير قولهم: إله الجمال أو إله العشق. فمع استملاحه لأشعارهم إلاّ أنه رأى ألفاظهم كفرية صريحة وإن رأى أنها لا تعدوا في الحقيقة مجرد تمثيل وأنهم لا يعتقدون بما يقولون[61]. وكما في ألفاظهم كذا في سلوكهم، حيث بما أنهم غير منشغلين بالطاعات والعبادات، فهم خارج أشغالهم منهمكون في أمور دنياهم وفي مظاهر اللهو حيث بلغوا قدراً كبيراً من التفنن فيها[62]. لقد تطرق إلى وضع بعض المتنصرين ممن خرجوا مع الفرنساوية من مصر والشام وهم أطفال، بعضهم مات على النصرانية وبعضهم حافظ على الإسلام. وقد قال في ذلك شعراً:

كل دين إن فاتك الإسلام       فمحال  لأنه  أوهام

وعلى الرغم من أنه تحدث عن صور التسامح وعرض وجهات النظر الأخرى من الدين، إلا أنه ظل معتزاً بأفضلية الإسلام. فهو يذكر أنهم يرون أن الأديان جاءت لترشد إلى المعروف والصلاح ونبذ سواهما، وأن السلوك الأخلاقي المتمظهر في حسن المعاملة والظرافة والآداب تسد مسد الأديان. وأن «الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية»[63]. لكن هذا لا يمنع من محاكمة بعض العقائد الفاسدة من وجهة نظر المعرفة الدينية. وهي محاكمة ليست جديدة بل لأنها مما سبق واعترض به المسلمون قبل قرون على العقائد الموروثة عن الأغارقة وغيرهم مما تبدو مخالفة للمعقول الديني: «ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعم أعضاء من عقول الأنبياء وأذكر منها. ولهم كثير من العقائد الشنيعة، كإنكار بعضهم القضاء والقدر، مع أن الحكيم العاقل من يصدق بالقضاء، ويأخذ بالحزم في سائر الأشياء»[64].

وهذا لا يمنع من أن يعقد مقارنة بين وضع العلوم الدينية والجامعات الدينية. فالعالم في بلاد الإفرنجة ليس هو عالم الدين؛ بل هو من يعلم فنًّا آخر. فهذا عالم دين وليس عالم بالمعنى العام. ولكن ما هو مهم هنا، أن العلوم تزدهر وتتقدم هناك بشكل عجيب تخلو بلادنا من نظائره. والجانب المهم فيما تعرضت له رحلة رفاعة هو حسن التدبير والدستور والنظام وقوة الاهتمام بالفنون والعلوم والحرية والعدالة «لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم، فلا تجد فيهم من يشكوا ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران»[65].

لقد فصل الطهطاوي القول في قوانينهم السياسية والاقتصادية والقضاء والإدارة وما شابه، ليعطي بذلك صورة متكاملة عن أوضاع الفرنساوية وعموم بلاد الإفرنجة الناهضة. وهذا يؤكد أن نظرة الإصلاحي ليست هي نظرة غيره إلى الآخر. إن موضوعية الطهطاوي في وصف حال وأحوال الفرنجة استجابة لسؤال النهضة وثقل المقارنة بين وضعية الآخر المتقدم ووضعية الأنا المتخلفة. وحيث إن المطلوب وطبيعة المتلقي هو من يتحكم في نمط الخطاب، فإننا متى كان مطلبنا التّرقي كما هو النموذج المهيمن على خطاب الإصلاح يومها كانت موضوعية وصف الإيجابي عند الآخر الذي نسعى لتمثل روح تقدمه أقوى. وحيث يكون المطلب هو مواجهة النموذج وتكريس الهوية يكون التوقف عند مثالبه هو الأقوى. إن قيم الاعتراف بمظاهر تقدم الآخر هي فضلاً عن أنها روح الموقف العقلاني والأخلاقي، هي ضرورة نهضوية وإصلاحية لا مفر منها. وكما تحدث الطهطاوي، إن الرحلة كانت مقصودة، لتكوين مجموعة من الأطر مثَّلها الذين شملتهم البعثة، وقد ذكرهم الكاتب وافتخر بأنهم ضارعوا الإفرنجية في الأعلمية والخبرة. وقد ظهر أن نبوغهم شمل فنوناً متعددة في تدبير الأمور الملكية والسياسة المدنية والإدارة العسكرية والبحرية والطب والكيمياء والطبيعيات وعلم الزراعة والنباتات والصناعة. الرحلة كانت علمية استكشافية تكوينية.. والطهطاوي عالم وشيخ أزهري ومثقف راكم على خبرته فنوناً وعلوماً أخرى. أي لم يقف عند كونه مرافقاً دينيًّا للبعثة، بل لم ينس نصيبه من الاستزادة من العلم والإطلاع على شتى فنونه. إنه كما في القضايا الدينية والأخلاقية حاول أن يكون موضوعيًّا وأبرز الجانب السلبي من بعض أخلاقهم وطباعهم وتراجع الوازع الديني بشكل ملفت للنظر، مع ذلك فإنه لم يفته أن يحتج ويزدري موقف رئيس الوزراء «بولنياق» في زهوه وفرحه بعد أن انتهى إليه خبر وقوع بلاد الجزائر في يد الفرنساوية. غير أنه لم يلحق شماتته بالفرنسيين، لأنه سرعان ما حدث الانقلاب على الملك الفرنسي «وكان هذا هو عاقبته على تجارته على بلاد الجزائر بأسباب واهية لا تقتضي ذلك»[66].

كثيرة هي الأمور التي تغيرت منذ ذلك الحين. والكثير من تلك الأخلاق والطباع انقلبت رأساً على عقب. وذلك أن تطور الأوضاع أفسد الكثير من تلك الأخلاق، وعلاقات أوروبا بالخارج إبان مرحلة الاستعمار أظهرت الكثير من الإجرام واللا إنسانية. لكننا ندرك أن الطهطاوي كان عميقاً في الوصف موضوعيًّا إلى أقصى حد. لم يكن مهجوساً بما رآه مما يخالف الطبائع والأخلاق والدين المحلي. بل حاول أن يركز على ما هو مفقود عندنا وما هو سر في تقدم العمران الإفرنجي، كما لو كان يقدم إجابات مسبقة عن السؤال الأرسلاني المتأخر: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم. تظهر المحاولة الطهطاوية، أن موضوع الترقي والنهضة يتطلب تسامياً عن كل مظاهر المدنية الصادمة لأخلاق المحلي ودينه الذي يجد فيها مبرراً للتراخي عن الأخذ بأسباب القوة والتقدم، والقبض على مكامن القوة. حيث يمكن التفكيك بين مكامن القوة ومظاهر الثقافة. الضروري وغير الضروري. إنه يريد القول: إن هذه البلاد تقدمت بأسباب، حري بالمسلمين أن يدركوها. وأن المطلوب اليوم هو القبض على روح الترقي لا على التداعيات السلبية للعمران المدني. لكن ما هو ملفت حقًّا للنظر هو أننا لا زلنا لم نجب عن التساؤلات التي تطرحها رحلة الطهطاوي إلى الديار الباريسية. وما وصفه خلال القرن التاسع عشر لا يزال لم يتحقق منه القليل في بلداننا التي لا زالت تجد في مطالب الإصلاح والنهضة كما بدت من نظرات الطهطاوي ليست فقط معيقات موضوعية تجعل الأفق قريب المنال، بل بدا أننا كلما ازددنا شوطاً جديداً في تخلفنا، بدا لنا حينما نقرأ تخليص الإبريز في تلخيص باريز أننا بصدد قراءة كتاب وضع لأجيال قادمة وليس لجيل النهضة العربية. إن النهضة في عين رحّالتنا واضحة ومطلوبة أكثر مما تنكر لها واقعنا المعيش!



[1] في الأصل مقطع مطور من محاضرات ألقاها الكاتب ضمن سلسلة دروس مقدمة لطلبة مرحلة الد?توراه فرع «الف?ر السياسي الإسلامي» في جامعة باقر العلوم بمدينة قم، في موضوع «التحديات النظرية المعاصرة في العالم الإسلامي» ابتداءً من تاريخ 9 أبريل/ نيسان من عام 2007م.

* hani_dr@maktoob.com

 

[2] رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص 13، ط 1، 2002، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

 

[3] م. ن، ص 14.

 

[4] م. ن، ص 76.

 

[5] م. ن، ص 75.

 

[6] م. ن،ص 13.

 

[7] م. ن، ص 82.

 

[8] م. ن،ص 82.

 

[9] م. ن، ص 113.

 

[10] م. ن، ص 134.

 

[11] م. ن، ص 99.

 

[12] م. ن، ص 99.

 

[13] م. ن، ص 99.

 

[14] م. ن، ص 131.

 

[15] م. ن، ص 211.

 

[16] م. ن، ص 274.

 

[17] م. ن، ص 32.

 

[18] م. ن ص 33.

 

[19] م. ن ص 47.

 

[20] م. ن، ص 85.

 

[21] م. ن، ص 36.

 

[22] م. ن، ص91.

 

[23] م. ن، ص43.

 

[24] م. ن، ص 98.

 

[25] م. ن، ص 45.

 

[26] م.ن، ص 91.

 

[27] م. ن، ص 110.

 

[28] م. ن، ص 133.

 

[29] م. ن، ص 129.

 

[30] م. ن، ص 178.

 

[31] م. ن، ص 110.

 

[32] م. ن، ص 110.

 

[33] م. ن، ص 179.

 

[34] م. ن، ص 72.

 

[35] م. ن، ص 82.

 

[36] م. ن، ص 132.

 

[37] م، ن، ص 100.

 

[38] م، ن، ص 100.

 

[39] م. ن، ص 95.

 

[40] م. ن، ص133.

 

[41] م. ن، ص 96.

 

[42] م. ن، ص 133.

 

[43] م. ن، ص 133-134.

 

[44] م. ن، ص 97.

 

[45] م. ن، ص 97.

 

[46] م. ن، ص 276.

 

[47] م. ن، ص 278.

 

[48] م. ن، ص 278.

 

[49] م. ن ص 278.

 

[50] م. ن، ص 142.

 

[51] م. ن، ص 143.

 

[52] م. ن، ص 137.

 

[53] م. ن، ص 93.

 

[54] م. ن، ص 93.

 

[55] م. ن، ص 93.

 

[56] م. ن، ص 93.

 

[57] م. ن، ص 93.

 

[58] م، ن، ص 275.

 

[59] م. ن، ص 75.

 

[60] م. ن، ص 98.

 

[61] م. ن، ص 110.

 

[62] م. ن، ص 139.

 

[63] م. ن، ص 98.

 

[64] م. ن، ص 98.

 

[65] م. ن، ص 116.

 

[66] م. ن، ص 239.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة