تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الفكر الإسلامي وإشكالية التحديد المنهجي

الدكتور محمد بنيعيش

 

[1]

قبل الحديث عن ضوابط البحث المنهجي عند المسلمين وخاصة فيما يتعلق بالجانب العقدي والنفسي الأخلاقي بالدرجة الأولى، قد يتبادر إلى الذهن تساؤل ملح يفرض نفسه فرضاً موضوعيًّا على النحو التالي:

ما هو المنهج الذي ينبغي أن يُسلك ويُوظف لاستخلاص المنهج الصحيح بضوابطه التي وظفها المفكرون المسلمون في بحوثهم حتى تتطابق آراؤنا مع مفاهيمها العلمية بكل عناصرها وخلفياتها وأبعادها الحقيقية، ودون إسقاط أو تحريف، أو تحميل للمصطلح والمضمون غير ما يحتمله واقعاً معرفيًّا وتموضعاً تاريخيًّا؟

إن هذا التساؤل قد يطرح أزمة شاملة ليس على مستوى معرفة النفس كنموذج فقط، وإنما على المستويات المعرفية بصورة شمولية. مما تطرق إليه علماء الأمة الإسلامية في زمن تاريخي ما زالت امتداداته مسترسلة إلى يومنا هذا.

هذه الأزمة، يمكن تلخيصها في كلمة مختصرة وهي: أزمة المنهج في كشف المنهج! أي أزمة المناهج الحديثة في كشف المناهج القديمة في الفكر الإسلامي وضبطها بصورة علمية وموضوعية...

أولاً: الفكر الإسلامي بين قدسية النص وخصوصية التاريخ

قد يبدو من السهل حل هذا الإشكال بطرح الطرق الفكرية العادية والمتداولة في العصر الحديث، وهي مؤسسة إما على المنهج الاستردادي التاريخي[2] المرتكز على النقد الداخلي والخارجي للنصوص التاريخية، وإما على المنهج الاستدلالي والتحليلي بخلفياته المادية[3] وشقيها الشيوعي والرأسمالي، التي تنضوي تحتها رؤى نفسية واجتماعية تتشكل بحسب التوجه الذي يميل إليه أنصار الشيوعية أو الرأسمالية، كالسلوكيين والتحليليين في مجال علم النفس الحديث، وكذلك أصحاب الأسلوب العقلي أو الأسلوب الكلي، وأصحاب الأسلوب الأمبريقي أو الجزئي في مجال علم الاجتماع.

وإما أن يتم التعامل مع الفكر الإسلامي بمناهج تدعي الحياد والموضوعية، لكنها سرعان ما تنجرف في إسقاط الفكر اليوناني وغيره على الفكر الإسلامي، حتى لتكاد تسلبه كل أصالة وهوية فكرية مستقلة وإبداعية[4].

وقد يتعامل معه من مبدأ الإقصاء من الحاضر بدعوى المعاصرة واستحالة استعادة التراث وتوظيفه كعنصر فعال ومواكب للمستجدات الحضارية والإنسانية، وقد يتم هذا صراحة أو تهميشاً مقصوداً غير معلن، بحيث يصير علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، وكذا علم السياسة والعمران حكراً على الفكر الغربي أو الأوروبي الحديث  في نظر أصحاب هذا الاتجاه.

فيمنعون منعاً باتًّا أن يسمى العطاء الفكري عند المسلمين في بعض جوانبه بمصطلحات قد تعتبر وليدة العصر في نظرهم، بدعوى أن علم النفس لم يعرف بصورته التجريبية والموضوعية سوى في القرن التاسع عشر، والشيء نفسه بالنسبة إلى علم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك من العلوم التي تسمى بالعلوم الإنسانية.

وقد يكون اللجوء في التعامل مع النص سواء كان نصًّا دينيًّا -قرآناً وحديثاً- أو نصًّا فكريًّا مترتباً عن النظر في النص الديني وتدبره إلى القياس اللغوي المحض عوض القياس العقلي، أي بمعنى تحكيم اللغة المتوارثة في تحديد مفاهيم النص القرآني والحديثي أو النص الفكري التابعي التراثي.

ولربما قد يلجأ إلى تكامل المناهج كحل باستعمال هذه الطرق في التعامل مع النص الإسلامي بشقيه الأصلي والتابعي المتولد عنه، غير أن الجانب اللغوي يبقى دائماً في مقدمة هذه الأساليب، لأن التعامل أولاً وأخيراً يكون مع النص لاستكناه مراميه وأبعاده.

بعد ذلك يأتي دور توظيف العقل، ثم يطبق المنهج التاريخي في نسبة القول إلى صاحبه ومحيطه إذا كان الأمر يتعلق بالنص التابعي والذي قد نسميه بالفكر الإسلامي.

من هنا فلا مجال لفصل اللغة عن الفكر، أو الفكر عن التاريخ، أو التاريخ عن اللغة.

وإذا كان هذا الترابط شبه تلازمي بين هذه العناصر المؤسسة للمعرفة الصحيحة، فإن تطور كل عنصر لا يمكن أن يستقل عن الآخر، فاللغة إذا تطورت فبالفكر والتاريخ، والتاريخ إذا تمرحل فباللغة والفكر، والفكر إذا تبلور، فباللغة والتاريخ.

لهذا فإن دراسة الفكر الإسلامي باعتبار ارتباطه بالثابت والمتغير ينبغي أن تراعى فيه هذه العناصر التلازمية مجتمعة قبل أن توظف أو يطبق عليه أي منهج من المناهج الحديثة، وبعيون غير التي تتوافق مع عيون هذا الفكر.

فالفكر الإسلامي من جهة تأسيسه مرتبط ارتباطاً وجوديًّا وفرعيًّا بالنص الديني، وهو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهذا النص ثابت وغير قابل للتغير في صياغة مفاهيمه، ولكنه مع ذلك مطور للمفهوم اللغوي الذي كان سائداً قبل وروده[5]، وبالتالي قد فتح المجال للتطور اللغوي والفكري والتاريخي بسبب تميزه عن النصوص التي كانت قبله، وتساميه على التي تولدت بعده.

وهذا الفصل بين ما كان قبل وما أتى بعد قد كان له دور كبير في تحديد التاريخ وتغيراته المضبوطة والمنضبطة، على مستوى التصاعد أو التنازل أو التموج، وذلك على كل الحقب التي يضمها الحقل التاريخي.

فالنص الديني قد كان وما يزال نصًّا منتجاً، بدليل أنه فصل بين مرحلتين من مراحل التاريخ، أولهما قد تميزت بالسلبية الطاغية والانحسار الفكري واللغوي والتاريخي، والثانية قد اتصفت بالإيجابية الشاملة[6] بتوسيع آفاق التفسير والإيضاح ومد الجسور بين المرحلتين التاريخيتين بواسطة النص وعلى مستوى اللغة بصفة خاصة[7].

لكن، ورغم هذا التواصل بين المرحلتين فإن الفكر الذي نتج عن النظر في النص الديني قد حافظ على خصوصية الارتباط به، وذلك بالعمل على صياغة مفاهيمه وتصوراته من خلال إخضاع اللغة العادية الموروثة تاريخيًّا إلى اللغة الدينية التي هي فوق التاريخ والفكر اللغوي المتداول.

لأن النص الديني هو الذي يحدد التاريخ وليس العكس[8]. ونظراً لهذا الإنتاج المتكامل الذي أفرزه في دفعة واحدة، وهو اللغة والفكر والتاريخ، فإن تعامل المسلمين مع المواضيع المعرفية بشتى حللها قد كان يتم داخل النص وظلاله، وهذه الظلال هي التي أعطت لنا ما يصطلح عليه بالفكر الإسلامي.

لهذا فحينما كانت تصدر عن بعض المسلمين صور من الممارسات أو التعابير المنكفئة إلى المرحلة التاريخية ما قبل ورود النص الديني فإنه -في صورته القرآنية الإلهية والحديثية النبوية- قد كان دائماً يذكر بالرجوع إلى ظله وحدوده والأمر بالابتعاد عن سلبيات مرحلة ما قبل وروده.

كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) لبعض أصحابه لما كادوا أن يبتعدوا عن بعض ظلال النص الديني منبهاً إياهم: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم» الحديث، وكذلك قوله لأحد أصحابه لما انتكس في بعض تصرفاته إلى ما قبل مرحلة الإيجابية الشاملة، محدداً الفاصلة بين المرحلتين، وواصفاً إياه تحذيراً بقوله: «إنك امرؤ فيك جاهلية»[9].

وكفصل حاسم بين المرحلتين شمل حتى الإطار الخارجي للظواهر السلوكية عن الإنسان وتحديد طريقة تعامل الأشخاص مع ذواتهم لتحقيق الوحدة المميزة للمرحلة التي أنتجها النص على أرض الواقع، نجد قول الله تعالى صريحاً في فصل هاتين المرحلتين شكلاً وجوهراً: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[10].

فالجاهلية الأولى قد تعني مرحلة ما قبل ورود النص. وبتعبير لفظة الأولى يكون النص قد نصب نفسه حكماً على كل مراحل التاريخ من حيث اقترابها أو ابتعادها عن النص، لأن الجاهلية الأولى قد تضاف إليها الثانية، وذلك عند اختراق حدود النص وظلاله.

وطالما أن الجاهلية الأولى قد حددها تاريخيًّا وجود لنص الديني فإنه نفسه سيحدد الجاهلية الثانية والثالثة وهكذا.

أي أنه كلما غُيِّب النص عن التحديد ممارسةً وواقعاً، ترتبت جاهليات متعددة تتشكل بحسب تموضعها التاريخي واللغوي والفكري والإنساني عموماً.

إذن، فالفكر الإسلامي الذي نعني هو ذلك الفكر الذي يستظل بالنص الديني في تفريعاته، ويرتكز عليه في تأسيسه، وذلك على شتى المستويات والمجالات المعرفية التي أمكن لهذا الفكر استلهامها من النص وتطبيقاته[11].

فهو منهجاً ومعرفة مرتبط بالنص، وهذا النص واصل وفاصل في آن واحد بين مرحلتين تاريخيتين متميزتين، قد يتمثل وصلهما الأساسي في الامتداد اللغوي[12] المحدود والبشري المعدود.

أما الفصل فله جوانب متعددة أغلبها ذات طابع جوهري إما على مستوى المعرفة بصفة عامة، أو العقيدة والمعرفة النفسية والسلوكية بصفة خاصة، وهو يتحدد ما بين التعميم للمخصص، والتخصيص للمعمم، والتقييد للمطلق، والإطلاق للمقيد، والتثبيت للجزئي، والإقصاء للكلي أو العكس، والتعديل للناقص، والتبديل المبتذل...[13]

ولهذا فحيثما اصطلحنا بالفكر الإسلامي فذلك يعني أننا نتعامل مع فكر متميز، من جهة هو فوق التاريخ، ومن جهة هو التاريخ، ومن جهة هو المؤرخ للتاريخ. مما يعني أننا لا نستطيع أن ندرس التراث الإسلامي دون ربطه ابتداء بالنص الديني، وتحديد مستوى علاقته به واستظلاله به، وكذلك دون أن نحدد تطوره التاريخي وأداءه فيه باعتباره فكراً تاريخيًّا تطور مع الزمان والظروف.

فكان كل زمان له فكره الخاص وطريقة تعامله مع النص ومع الواقع ومتطلباته، مما أفرز تاريخاً متميزاً ومحتوياً لكل النشاط الإنساني بمراحله المختلفة وتفاعلاته.

وأيضاً فإن مادة هذا الفكر لابد وأن تلصق بالتاريخ بصفتها المحددة لمراحله بحسب الإنتاج المعرفي والمعطيات الفكرية التي ميزت عصراً دون آخر تصاعداً أو تنازلاً أو تموجاً، وذلك إما التزاماً بالنص ومدلولاته أو ارتماء في غياهب الفكر المتسيب واختلالاته.

لهذا فلقد عرف الفكر الإسلامي مناهج متعددة في التعامل المعرفي من حيث الشكل سواء مع النص الديني أو النص الإنساني، أو مع الواقع الملموس بشتى تحملاته واحتواءاته.

هذه المناهج مهما اختلفت طرق صياغتها وأدواتها فإنها ستبقى في تأسيسها، لكي تسمى إسلامية، مرتكزة على النص الديني بكل إناراته وإشعاعاته.

فمهما بدت وكأنها -أي المناهج- ذات استقلال ذاتي نسبي، فإنها حتماً ستبقى تحت ظل هذا النص الذي -كما بيَّنا- قد كان الحد الفاصل بين مرحلة السلبية الطاغية والإيجابية الشاملة.

إذ المرحلة الأولى ملغاة من حيث اعتبارها ذات فعالية إنتاجية، والمرحلة الثانية ناتجة عن إشعاع النص وامتداداته فتبقى مقررة.

لهذا فقد يكون من الغلط التعامل المنهجي مع هذا الفكر من باب القياس العادي بينه وبين الإنتاجات الفكرية قبله أو التي لا تستظل بمستظله، لأن هذا القياس سيؤدي بنا إلى إسقاطات وتناقضات لا مفر منها.

إذ كل فكر يستظل بمصدر خاص به، وهذا الظل له خصوصياته ومميزاته التي تتحدد بحسب الأداة أو المصدر الذي أفرز هذا أو ذاك، ومن ثم فإن الظلال تختلف طبائعها وفعالياتها بحسب مصدر الظل وأداته، وطبيعة المستظل وظروفه.

ومن المستهجن منهجيًّا أن يدرس الفكر الإسلامي عند كل بحث باعتباره يمثل امتداداً لفكر إنساني سابق عليه[14] أو أنه تأثر تأثراً جوهريًّا بهذا الفكر أو ذاك، كيفما كان نوعه ومصدره[15]، وخاصة الفكر اليوناني بالدرجة الأولى أو الهندي أو الفارسي وما إلى ذلك.

إذ الفكر الإسلامي -كما قلنا- له ارتباط ذاتي وتكويني بالنص الديني في أبعاده وامتداداته، وهذا الارتباط مؤسس على مرتكزات عقدية وتصورية تجعله دائماً، مهما نأى في سباحاته وتفرعاته، يستظل بظل النص، لأنه اشتمل على كل احتياجاته، وهذا مما يجعله واضعاً الحواجز بينه وبين أي استلاب أجنبي، سواء كان في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.

لهذا فقد يجانب الصواب كثير من البحاثة حينما يريدون أن يدرسوا الفكر الإسلامي بأدوات غير التي تتأسس على العقيدة الإسلامية في أصولها ابتداء وانتهاء.

فأكثر ما وقع الغلط هو حينما نظر البعض إلى الفكر الإسلامي من خلال بعض مجالاته المعرفية باعتباره مزيجاً من الثقافات المختلفة، ولربما قد ذهب البعض الآخر إلى الادعاء بأن بعض أعلام الفكر الإسلامي يكونون قد انغمسوا في الثقافة الأجنبية كلية كما هو عليه حال بعض معاصرينا من العرب المستغربين. فراحوا بعد ذلك إلى تطبيق العملية التوفيقية بينها وبين النص الديني الإسلامي على صورة متوازية ومتناظرة.

ومن هنا فإن أفكارهم -حسب هذا الطرح المتوهم- لم تكن سوى مادة أجنبية تعرض في سوق داخلية، مع سلبها اسمها أو نوعها المحدد لمصدرها، مما قد يغرر بالمشتري لينخدع في السلعة فيأخذها على اعتبار أنها من منتوج محلي وليس بمستورد!.

بل قد يتعدى الأمر بالبعض حينما لا يجدون المطابقة الكلية بين ما طرحه المفكرون المسلمون من آراء وتحاليل وبين ما طرحه اليونانيون مثلاً إلى اعتبار هذا الاختلاف بمثابة تشويه للفكر اليوناني وتحريف وعدم فهم له[16]، ولربما أدى الأمر بالآخرين إلى اتهام بعض المفكرين المسلمين الناقدين للفلسفة اليونانية بالتدليس عليهم وعرض أفكارهم بصورة ركيكة...[17]

إننا لا ننكر حضور الفكر اليوناني في الثقافة الإسلامية، لكننا نعترض على اعتبار أنه قد مثل مادة استلابية[18] بالنسبة إلى المفكرين المسلمين بكل توجهاتهم، سواء على المستوى الفقهي أو الصوفي أو الكلامي أو حتى الفلسفي.

ولئن وُجد حضور مكثف لهذا الفكر لدى بعض المفكرين المسلمين في كتاباتهم دون البعض فإنه لم يكن جزافيًّا أو أعمى، ولكنه كان مفحوصاً فحصاً دقيقاً، ومخلصاً من كل الشوائب والرواسب التي قد يمكن أن تتعارض مع النص الديني كأساس الاعتقاد لديهم[19].

من هنا فلا ينبغي الالتفات كثيراً إلى بعض الانحرافات التي قد تكون ظهرت على بعض المنتمين إلى الساحة الإسلامية، والتي من خلالها ربما قد يبدو بعض مرتكبيها وكأنهم يبتعدون نسبيًّا عن ظلال النص الديني، إذ سرعان ما يحدث الاعتراض على أصحاب هذه الانحرافات الفكرية، ويُذكَّرون من طرف أهل العلم الملتزمين بظلال النص.

فما يكون من أولئك الشاذين نسبيًّا إلا أن يحوروا أفكارهم ومنقولاتهم إلى تعابير وصياغات تتقارب والمفاهيم الواردة في النص الديني.

وما قصة طه حسين ومشكلته مع الأدب الجاهلي، والشعر الجاهلي، وتراجعه عن آرائه بصورة موضوعية ودون تمادٍ أو ميل نحو التحدي بالخطأ -كما قد يفعل بعض الشاردين العبثيين في عصرنا الحالي!- بعدما انزلقت به صيغة أو مضموناً عن ظلال النص الديني بوجه من الوجوه؛ سوى صورة حديثة وجزئية لما كان عليه الفكر الإسلامي في الماضي من الالتزام بروح النص ومدلولاته، ولما كان عليه من الرقابة الموضوعية للحيلولة دون أي وجه من الاستلاب أو الشرود.

ولكيلا يترتب عن الممارسة المتواصلة للنظر في الفكر الخارجي من انفلات عن الأصالة والهوية الراسخة بواسطة النص فقد كان يلجأ البعض إلى سلوك المنهج التوفيقي إما تصريحاً[20] أو تلميحاً.

وهذه العملية قد طغت في مجملها أو أغلبها على الفئات التي اصطلح عليها بأهل الفلسفة من المسلمين، كمجموعة الكندي والفارابي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد... وغيرهم من الأسماء المشهورة تاريخيًّا في هذا الميدان، أو التي لم تكتب لها شهرة.

لكن هؤلاء، رغم تعلقهم الشديد بالفكر المستورد من الخارج، فإنهم قد ظلوا دائماً أوفياء،من حيث التزام أصول المسائل التي خاضوا فيها، للمعطى الذي ناولهم إياه النص الديني.

إذ كانت عقيدتهم في الله وصفاته أبعد كل البعد عن الشوائب والنزعات الوثنية التي شابت الفكر اليوناني في مجمله تقريباً، وكذلك حينما كانوا يتحدثون عن المجتمع وتأسيسه، والنفس وقواها أحوالها. بحيث إن طرحهم -أي المفكرين المسلمين- لمفهوم المدينة الفاضلة كان مغايراً شكلاً ومضموناً لمفهوم المدينة الأفلاطونية وجمهوريته كما سنرى، والشيء نفسه سيحدث عند التعرض لموضوع النفس، التي على قواها تتأسس هذه الجمهورية.

كما أن التصور الذي صاغه المسلمون، وخاصة الفلاسفة، قد كان يضع في حسبانه الأسس الدينية التي يتم بواسطتها الاجتماع البشري على وجهه الأسلم، بينما جمهورية أفلاطون وغيرها حينما يطلع عليها الباحث قد يجد تصورات لدى أصحابها مخالفة كل المخالفة لمقتضيات العقيدة والشريعة الإسلامية.

ثانياً: ضوابط الانفتاح في الفكر الإسلامي

فيما يتعلق بالعقيدة كأساس للمعارف التبعية فنجد أفلاطون مثلاً قد ابتدأ محاوراته بالتصريح بعقيدة وثنية مسلَّمٍ بها لدى الجمهور اليوناني، إما على لسانه أو على لسان أستاذه سقراط.

فيقول في مقدمة جمهوريته: «بالأمس هبطت إلى بيرايوس مع جلوكون بن أرستون لأؤدي فروض الصلاة إلى الآلهة: كما أردت في الوقت نفسه أن أرى كيف يحتفلون بالعيد إذ إنهم كانوا يحتفلون به للمرة الأولى، ولكم سررت بمرأى مواكب السكان. غير أن مواكب التراقيين لم يكن يقل عنه جمالاً، وبعد انتهاء الصلاة ومشاهداتنا الحفل صعدنا إلى المدينة»[21].

وهذا النص فيه الكفاية اللازمة للتمييز بين الفكر اليوناني العقدي والفكر الفلسفي عند المسلمين، إذ إن هؤلاء الأخيرين لم تصبهم لوثات الوثنية اليونانية بأي وجه من الوجوه، مما يعني أن تعاملهم مع الفكر اليوناني لم يكن تعامل التبعية، وإنما تعاملوا بالمنهج الانتقائي[22] والائتلافي والتحويري، ثم بعد ذلك وظفوا المنهج التوفيقي[23].

فكنموذج على هذا التحوير العقدي والتوفيق بين عقيدة فلاسفة اليونان وعقيدة التوحيد عند المسلمين نجد مثلاً هذا الموقف، الذي سيتخذه الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» من عقيدة بعض زعماء الفلاسفة، معاكساً للادعاء المروج حول تأثر المسلمين باليونان، إذ رأى أن الفلاسفة اليونان هم من قد تأثروا بالكتب السماوية وأخذوا عقيدتهم التوحيدية عنهم.

ومن هنا فلقد كان النص الديني الإلهي عبر التاريخ مصدر المعرفة الغيبية والتأسيس العقدي الصحيح عند البشرية جمعاء.

فنراه يقول عن طاليس، أول الفلاسفة السبعة المشهورين في التاريخ اليوناني وعلاقته بالكتب السماوية وتأثره بها: «وفي التوراة في السفر الأول مبدأ الخلق هو جوهر خلقه تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه، فصارت ماء ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السماوات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر، فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. وكان تاليس الملطي، إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية، والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية، إذ فيه جميع أحكام المعلومات وصور الموجودات والخبر عن الكائنات. والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاء} أي كما ورد في القرآن الكريم»[24].

وعلى هذا التوفيق التحويري يعترض علي سامي النشار في كتابه «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام»، باعتبار أن أقوال طاليس أبعد ما تكون عن هذا المفهوم للماء الوارد في التوراة والقرآن. إذ الماء في التوراة والقرآن مخلوقان، كما أن طاليس لم يتكلم عن عنصر أول أعلى هو منبع الصور وعنصر يحاكيه في عالم الأجسام هو الماء. والأول هو اللوح المحفوظ والثاني هو مادة الموجودات»، كما يرى النشار أن الفلاسفة المسلمين هم الذين أضفوا على فلسفة طاليس طابع التوحيد، وليس أن آراءه تحمل طابع هذه العقيدة، إذ إن فكرته الرئيسية في تفسير أصل الوجود تتلخص في أن المبدع الأول هو الماء، وأن الماء قابل لكل صورة ومنه أبدعت الجواهر كلها: السماء والأرض وما بينهما. وهو علة كل مبدع، وعلة كل مركب من العنصر الجسماني. وأنه حين جمد الماء تكونت الأرض، وحين انحل تكون الهواء، ومن صفو الهواء تكونت الكواكب، هذا هو مذهب طاليس حقًّا -كما يرى النشار-»[25].

من هنا فإنه قد يصرح ويعلل بأنه من العجب أن يحمل طاليس كل هذا، وأن يُجعل منه فيلسوف يؤمن بالتوحيد، وقد نقلت هذا النص -حسب تعبيره-لكي يتبين للقارئ بوضوح محاولة النقلة، ثم من يدعون فلاسفة الإسلام أن يصوروا آراء الفلاسفة بصورة توحيدية حتى يتقبل المجتمع الإسلامي هذه الآراء، وحتى لا يقف منها موقف العداء...[26] وهكذا انقلب طاليس، في نظر مؤرخي الفلسفة الإسلاميين، مسلماً موحداً وأرسططاليسيًّا أحياناً، وأفلاطونيًّا أحياناً أخرى، وأفلاطونيًّا محدثاً في نهاية الأمر»[27].

لكن تعجب النشار هذا قد سبقه به الشهرستاني نفسه في النص الذي نقله عنه من دون أن يشير إليه عند الاعتراض. وذلك عند قوله: «والعجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول هو الماء...»[28].

وهذا يعني أن عمل الشهرستاني الذي اعترض عليه فيه النشار لم يكن إجراء تعسفيًّا، أو تحميلاً للكلام غير ما يحتمل، ولكنه قد كان عملاً انتقائيًّا وتحويريًّا، مؤسساً على المنهج الإسلامي في استخلاص المفيد ورفض الضار، مما يعني اعتبار جانب من الفكرة المستفادة من تلك الفلسفة مقبولة لدى المحكمة الإسلامية، وأن المعرفة المستوردة قد انتقيت بمصفاة إسلامية، وأن مبدأ التأثير المفيد للاستلاب أو تمازج المتناقضات مرفوض في الفكر الإسلامي، إلا ما كان من بعض الشواذ الشاردين، والشاذ لا يقاس عليه.

فعند هذا الانتقاء يتجلى عنصر الإبداع الواعي ومظاهره في الفكر الإسلامي، بحيث قد يستطيع أن يستل الترياق من السم ويحوله إلى دواء نافع قابل للتداول والعلاج.

وهذه، في الحقيقة، قد تعتبر أهم عملية تحويلية وتحويرية انتقائية للمفاهيم والأفكار، وأول كيمياء نظرية طبقت على أوسع نطاق في تاريخ الفكر البشري جميعاً.

كما أن هذا التحويل أو التحوير لم يكن تشويهاً للحقائق كما يحلو للبعض من المستشرقين أو المستغربين أن يصفوه بها، لأن التشويه لا يكون إلا بنقل الفكرة من مستواها الراقي إلى مستوى دوني لغَطِي فاسد. بينما العكس هو الذي قد حدث لدى المفكرين المسلمين، إذ حولوا الفكرة اليونانية من مستوى مشوب بالوثنيات والوهميات... إلى معنى توحيدي خالص ومؤسس على حقائق برهانية وضوابط معرفية صارمة، وهي مرتكزة على مبدأي التوفيق والتوقيف كل في حدوده[29].

وهذا العمل قد مثل تطويراً جوهريًّا وليس شكليًّا أو عرضيًّا لما عرضه اليونان أو غيرهم من آراء وفلسفات في شتى المجالات المعرفية والعلمية، عقدية كانت أم طبيعية...

وبهذا فقد مثل الفكر الإسلامي في تعامله مع الفكر التاريخي المستورد، أهم مدرسة علمية للتطوير والتحوير المعرفي، أو ما يمكن الاصطلاح عليه بالكيمياء النظرية.

وهذا التوفيق المؤسس على مبادئ التطوير والتحوير والائتلاف، الذي مارسه بعض المسلمين، بين النص الديني فيما أعطاه من مفاهيم وبين الفلسفات الإنسانية المختلفة بتصوراتها وآرائها قد بقيت في أغلب الأحيان معرضة للنقد والمخالفة[30] كلما ظهر على بعض عناصرها مجانبة لمقتضيات البرهان النصي أو العقلي أو الحسي، رغم غربلتها وعرضها على مجهر الموازنة المؤسسة لمبادئ التوفيق المقبول.

لهذا فقد تميز تعامل الفلاسفة المسلمين بصفة خاصة، مع أفكار اليونان بأنهم -كما يقول ابن خلدون-: «خالفوا كثيراً من أراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده ودوَّنوا في ذلك الدواوين، وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم»[31].

ومن خلال هذه النزعة التوفيقية والتحويرية، أمكن للفلاسفة المسلمين، وكذلك بعض المتكلمين وغيرهم، أن يتوصلوا إلى صياغات وتعاريف علمية مخالفة جوهراً ونصًّا لما تأسس عليه الفكر اليوناني وغيره، إذ احتفظوا بمفهوم الألوهية كما أعطاه لهم النص الديني ولم يتورطوا في وثنية اليونان وإسقاطاتهم العقدية[32].

ولهذا فالاعتراض على الفلاسفة المسلمين من طرف العلماء المسلمين الأكثر التزاماً بالنص الديني معنى ومبنى، لم يكن اعتراضاً على مستوى تحديد الوجود الإلهي أو الوحدانية فيما يخص العقيدة في الله سبحانه وتعالى، وإنما كان اعتراضهم يصب دائماً حول الصفات الإلهية، وخاصة من جانب كيفية الخلق أو الفعل، والإرادة والقدرة...

وحتى حينما انجرف البعض من المفكرين المسلمين، وخاصة الذين سموا بالفلاسفة المشائين أو الإشراقيين وغيرهم، في بعض المسائل العقدية فإن انجرافهم هذا لم يكن ذا طابع مناقض لأصول الاعتقاد في الإسلام، وبالدرجة الأولى: أصل الأصول الذي هو إثبات وجود الله ووحدانيته.

من هنا -كما سبقت الإشارة- فلم تتلوث عقيدة الفلاسفة المسلمين بلوثات الوثنية اليونانية رغم اعتقاد اليونان في افتقار الكون إلى خالق -كما ورد عن أهم فلاسفتهم أرسطوطاليس- والذي قد أضفوا عليه صورة سلبية جعلت من الكون مادة مستقلة عن تصرف الخالق وتأثيره عليه إيجاداً وإعداماً، حركة وسكوناً، تطويراً وتغييراً...[33]

وهذا الاعتقاد المخالف لعقيدة المسلمين شكلاً ومضموناً لم يجد مكانه في الفكر الإسلامي، اللهم إلا ما كان من بعض الشذوذات الواردة في بعض كتب المتعاطين للفلسفة.

وحتى هذه قد كانت فرعية ولا تمس أصل الأصول في العقيدة وإنما هي عبارة عن تطفل على عالم الغيب من حيث النظر في تحديد طريقة الخلق وترتيب الكائنات على سلم وهمي، مثل ما أورده الفارابي حول العقول العشرة ومسألة الفيض...

وهذا طرح قد رفضه أهل الفلسفة أنفسهم سواء كانوا ممن يعتبرون من المشائين أو ممن يدخلون في حكم علماء الكلام، حتى إن الغزالي قد اعترض على رأي الفارابي هذا، بقوله ما معناه: «لو أن امرأ حكى هذه الأشياء على أنه رآها في المنام لاستدل به على سوء مزاجه»[34].

وهذا تعبير صادق وعنيف قد يمج من خلاله كل شيء لا يدخل في حكم النص الصحيح ولا في حكم مصفاة العقل السليم المؤسس على ثوابت مضبوطة ومفيدة للبرهان.

فالموقف هنا لم يكن موقف الغزالي فحسب بل هو رأي فئة عريضة من المفكرين المسلمين الذين أبانوا من خلال دراساتهم وأطروحاتهم الفكرية أنهم ليسوا بذوي تقليد أعمى للفكر الخارج عن منظومتهم.

كما أن مصدر معارفهم، المتمثل في النص الديني بالدرجة الأولى، قد كان كفيلاً بإغنائهم عن كل استدعاء لمدد خارجي، وهذا ما أكده الواقع فرضاً مكانيًّا وزمنيًّا.

بحيث إن الفكر الإسلامي قد بقي مدة طويلة -تزيد على قرنين من الزمن- وهو لا يتغذى إلا مما يوفره له النص القرآني والحديثي بحسب استعداد الأشخاص وتهيؤهم، وكذلك بسب ما يتوصل إليه بالعقل السليم والمشاهدة والتجربة الحسية المسددة.

في هذه الفترة ستصل المعرفة إلى أقصى مستوياتها، فقد مثلت قمة الهرم المعرفي في تاريخ الإنسانية جمعاء، كما أن التدوين للمعارف سيتم على شتى المستويات والعلوم، ومع ذلك فلم يكن هناك أي علم مستورد، ولم تكن توجد فلسفة يونانية أو هلينية أو هندية أو فارسية... قد تمت ترجمتها، وهذا يعني أن المسلمين كانوا قد قطعوا أشواطاً علمية كبيرة وأسسوا أهم ما يمكن أن يعتبر منهجاً معرفيًّا منتجاً، قد بيَّن ذلك الشهرستاني كنموذج بقوله: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنًّا من فنون العلم وسمتها باسم الكلام. إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان. فكان أبو الهذيل العلاف شيخهم الأكبر وافق الفلاسفة في أن الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاته...»[35].

وهذا النص يؤكد ما صبونا إليه، وهو أن التأسيس المعرفي والمنهجي عند المسلمين قد كان قبل ورود الفلسفات الأجنبية، وأن المعتزلة كانوا يوظفون مناهج خاصة بهم قبل أن توجد فلسفة أو فلاسفة[36].

كما أن التطابق الفكري النسبي بين بعض آراء المسلمين وآراء اليونان لم يكن يمثل الاستلاب أو التأثر الجوهري الذي يستدعي التبعية الكلية من اللاحق للسابق[37]. وإنما كان يتم على مستوى الموافقة والخيارات الفكرية الشخصية بالدرجة الأولى، والمعللة بالأدلة العقلية والتأويلات اللغوية للنص الديني والتي يتوخى منها مطابقة المعطى العقلي لمقتضيات النص ومحكماته في مسألة ما.

ورغم ورود الفلسفة اليونانية وترجمتها في عهد المأمون[38] فإن هذه العملية قد كانت في بداياتها منحصرة في دار الخلافة والمحيط الأقرب إليها، ولهذا فلم يطلع عليها المفكرون المسلمون بمتكلميهم وصوفيتهم وفلاسفتهم إلا بعد أن مضى دهر طويل، نظراً لاتساع رقعة البلاد الإسلامية وبطء المواصلات المعمول بها آنذاك.

ولكنه رغم ذلك فقد كان الفكر الإسلامي في عمل وإبداع مستمرين، وذلك على أعلى مستويات الغوص المعرفي، وخاصة بالأندلس التي كانت من أبعد المحطات التي لم تصل إليها العلوم اليونانية إلا بعد ردح من الزمن ليس بهين، وهو ما صرح به ابن طفيل، معتبراً أن المراقي المعرفية التي وصل إليها المسلمون قد كانت فوق ما تعطيه الفلسفات المستوردة ذات الأداة العقلية الصرفة، وإنما هي تدخل في حكم الولاية وخصوصياتها.

وعن هذا يقول في قصة حي بن يقظان: «ولا تظن أن الفلسفة التي وصلت إلينا من كتب أرسطو وأبي نصر، وفي كتاب الشفاء تفي بهذا الغرض الذي أردته، ولا أن أحداً من أهل الأندلس كتب فيه شيئاً فيه كفاية، وذلك أن من نشأ بالأندلس من أهل الفطرة الفائقة قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها، قطعوا أعمارهم بعلوم التعاليم، وبلغوا فيها مبلغاً رفيعاً ولم يقدروا على أكثر من ذلك. ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم بشيء من علم المنطق فنظروا فيه ولم يفض بهم إلى حقيقة الكمال فكان فيهم من قال:

برح بي أن علوم الورى     اثنان ما فيهما من مزيد

حقيقة  يعجز  تحصيلها      وباطل تحصيله ما يفيد[39]

فعلم المنطق قد وظفه المسلمون أيضاً باعتباره أداة منهجية محايدة[40] رغم أنهم استعملوه في الاستدلالات على المسائل العقدية، وهذا التوظيف كان مؤسساً ومرتكزاً على منهج إسلامي، وذلك بعدما أزيحت عنه رواسب الفكر اللاهوتي اليوناني المشوب بشوائب وثنية وأوهام أسطورية لا تليق بعقيدة التوحيد، وبعدما أصّل بأصول إسلامية سليمة مستخرجة من نصوص دينية قرآنية وحديثية، كما فعل أبو حامد الغزالي في كتابه القسطاس المستقيم وغيره[41].

لكن بالرغم من هذا العمل الانتقائي الذي سلكته فئة من المفكرين المسلمين قد نجد معارضة لإدخال المنطق اليوناني إلى الساحة الفكرية الإسلامية من طرف فئات أخرى تتأسس على الملاحظة نفسها التي لاحظها عليه الانتقائيون، لكنهم رفضوا توظيفه سدًّا للذريعة وخوفاً من الانجراف وراء المقدمات والمرتكزات ذات الخلفيات المادية أو الوثنية[42] من التي تأسس عليها المنطق، مما قد يؤدي لزوماً بعد التسليم بها إلى اعتبار النتائج المترتبة عن البحث بواسطتها كاستنتاجات برهانية ومقررة، وذلك تأسيساً على مبدأ «لازم المذهب مذهب».

إلى هذا الخطر كان قد تنبه ابن تيمية عند مناقشته لموضوع الحدود المنطقية وسبب وضعها على هذه الصيغة، فذهب إلى عرض تاريخ علم المنطق كانتقال تسلسلي بقوله: إن «اليونان الوثنيين المشركين حينما كانوا يعتمدون الكواكب للسحر والشعبذة والتنجيم كانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها، وما بين بعضها من الاتصالات مستعينين بذلك على ما يرونه مناسباً لها.

ولما كانت الأفلاك مستديرة ولم يكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة، وأحكام الخطوط المستقيمة والمنحنية، تكلموا في الهندسة لذلك ولعمارة الدنيا، فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو -لم يكن- بذلك فرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير لم تكن هذه حدوداً لحدود تلك الأشكال لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول، وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريقة البعيدة! والله تعالى يسر للمسلمين من العلم والبيان والعمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان»[43].

وسواء كان الموقف من المنطق أو الفلسفة اللاهوتية عند اليونان انتقائيًّا توفيقيًّا، أو كان اعتراضيًّا ورافضاً، فإن الموقفين قد يلتقيان عند اعتبارات موضوعية كلها ترتكز على المنهج المعرفي العلمي الذي استنبطوه من القرآن الكريم والحديث النبوي، استنباطاً اجتهاديًّا، كل له مبرراته.

فكان تعاملهم مع المعرفة، أيًّا كان مصدرها، لا يمكن أن يقرر إلا بعد حكم محكمة النص الإسلامي بالجواز أو المنع أو الكراهة أو الاستحباب أو الوجوب... وهذا يعني التعامل أولاً وأخيراً بالمنهج الإسلامي وموقفه من الاكتساب المعرفي، ويظهر خاصة عند تحديد المواقف من المنطق لما له من ارتباط بالمسائل العقدية أو اللاهوتية في الفكر اليوناني حسب وضعه الأولي.

فنجد تصويراً مختصراً وجامعاً لهذه المواقف، مع ارتباطها كلها بالمنهج الإسلامي في متن السلم للأخضري حيث يقول:

والخلف  في جواز  الاشتغال       به    على   ثلاثة   أقوال

فابن الصلاح والنووي حرما       وقال  قوم  ينبغي أن يعلما

والقولة المشهورة  الصحيحة       جوازه    لكامل   القريحة

ممارس    السنة    والكتاب        ليهتدى  به إلى  الصواب[44]

فرغم تعارض القابل والرافض للفلسفة اليونانية داخل منظومة الفكر الإسلامي، ورغم تباين المتحمس والناقد فإن الجميع قد كان خاضعاً للمنهج الإسلامي. فابن حزم مثلاً في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» ناقد ومؤيد وقابل ورافض، والغزالي في «تهافت الفلاسفة» قابل وناقد ورافض، وابن رشد في «تهافت التهافت» قابل ومحور ومؤيد، وابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» أو «الرد على المنطقيين» ناقد ومتحفظ ورافض.

فكل هؤلاء وغيرهم قد كانوا يعتمدون منهجاً لا يجدون عنه بديلاً ولا يركنون سوى للاستظلال بظله رغم اختلاف لهجاتهم وطرقهم في البحث والتحليل قبولاً ورفضاً، نقداً وتأييداً، كما أن هذا الاختلاف في المواقف قد بيّن خصوصية المنهج الذي اعتمدوه كأصل لكل بحوثهم، المتمثلة في إعطاء الفكر حريته في النظر والكشف، والتحليل والتركيب وعدم تقييده إلى حد التقوقع والتقزم، أو إطلاقه إلى حد الشرود والتسيب.

ومن ثم فقد كان للفكر الإسلامي طابع متميز عن الفكر اليوناني وغيره تميزاً جوهريًّا متسامياً مما أضفى على هذا الأخير تطهيراً وتنقية لم يكن لينالها لولا أن المسلمين حوروه كما رأينا، واستلوا منه ما يمكن اعتباره معرفة صحيحة ولفظوا ما لا يدخل في حكم العلم النافع.

ولقد كان ابن رشد من أبرز الذين سعوا إلى هذا التحوير والتحويل وذلك بسبب النقد الذي تزعمه الغزالي للفلسفات اليونانية بشتى صورها، وسيتجلى هذا خاصة في المسائل الثلاث التي كفر فيها الفلاسفة الذين خالفوا فيها أصولاً عقدية شرعية، وهي:

أولاً: مسألة قدم العالم، وقولهم: إن الجواهر كلها قديمة.

الثانية: قولهم: إن الله تعالى لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص.

الثالثة: إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.

فهذه المسائل الثلاث لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها معتقد كذّب الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وأنهم ذكروا ما ذكروه على سبيل المصلحة تمثيلاً لجماهير الخلق وتفهيماً.

وهذا هو الكفر الصراح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين.

وعند هذا الاعتراض الذي شخصه الغزالي سيتبين بوضوح التوجيه الإسلامي في الانتقاء المعرفي عند المفكرين المسلمين، بحيث قد اعتبر أن رفضه للمسائل الثلاث، إنما يتأسس بالدرجة الأولى على المقياس الإسلامي، ورأى أنها قد لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها معتقد كذّب الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.

فعدم ملاءمة المسائل الثلاث للمعتقد الإسلامي هو الذي كان وراء رفضها، كما أن تحويرها إلى معنى آخر من طرف ابن رشد قد كان من أجل العمل على ملاءمتها لهذا المعتقد نفسه. لكن إذا تلاءمت غير تلك المسائل مع العقيدة الإسلامية فهي إذن مقبولة لدى الطرفين دون اعتراض أو تحوير، ومعترف بها كمعرفة إسلامية أصيلة، إذ يوجد لها حكم بالجواز في النص الديني هو نص فوق التاريخ والفكر واللغة.

 



[1] * كلية أصول الدين - جامعة القرويين المغرب.

Email:benyaich_tetouan@yahoo.fr

 

[2] حسام الألوسي: دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1، ص9.

 

[3] حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية. دار الفارابي، ج1، ص31.

 

[4] سمير أيوب: تأثيرات الأيديولوجية في علم الاجتماع، معهد الإنماء العربي ط 1، ص184.

 

[5] الدكتور محمد الكتاني: جدل العقل والنقل في مناهج الفكر الإسلامي. دار الثقافة - الدار البيضاء ط1، 1412 - 1992، ص140 - 141.

 

[6] أحمد أمين: فجر الإسلام. دار الكتاب العربي - بيروت، ط10، ص 139.

 

[7] المصدر السابق نفسه، ص143.

 

[8] الكتاني: جدل العقل والنقل، ص777.

 

[9] جزء من حديث أبي ذر الغفاري. رواه البخاري في كتاب الإيمان.

 

[10] سورة الأحزاب آية 33.

 

[11] محمد علي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. دار المعارف بمصر ط 7، ج1، ص59.

 

[12] أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة. تحقيق عبد الله دراز. المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط 2 ، 1390 - 1975، ص 82 - 88.

 

[13] أحمد أمين: فجر الإسلام، ص 227.

 

[14] النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص22.

 

[15] محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية. منشورات عويدات - بيروت. ط1، 1970، ص351.

 

[16] ت. ج. ديبور: الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، 1377 - 1957، ط4، ص48.

 

[17] أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة: تحقيق سليمان دنيا. دار المعارف- مصر، ط5، ص25.

 

[18] ت. ج. ديبور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص49.

 

[19] محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص352 - 353.

 

[20] ابن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال دار الشروق - بيروت، ط4، ص33.

 

[21] أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة فؤاد زكريا. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974، ص178.

 

[22] النشار: الفكر الفلسفي في الإسلام، ص23.

 

[23] أحمد فؤاد الأهواني: التربية في الإسلام أو التعليم في رأي القابسي. دار إحياء الكتب العربية - القاهرة، 1955، ص225.

 

[24] الشهرستاني: الملل والنحل. دار المعرفة للطبعة والنشر، 1400 - 1980، ج2، ص63 - 64.

 

[25] علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص115.

 

[26] المصدر السابق، ص116.

 

[27] المصدر السابق، ص117.

 

[28] الشهرستاني: الملل والنحل، ج2، ص62 - 63.

 

[29] النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص33.

 

[30] القفطي: تاريخ الحكماء. مكتبة المثنى بغداد. مؤسسة الخانجي - مصر، ص332.

 

[31] ابن خلدون: المقدمة. مكتبة محمد عاطف، ص358.

 

[32] محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص503.

 

[33] عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. دار الكتاب العربي - بيروت، ط3، 1386 - 1966، ص51.

 

[34] الغزالي: تهافت الفلاسفة. تحقيق سليمان دنيا. دار المعارف - مصر، ط5، ص146.

 

[35] الشهرستاني: الملل والنحل، ج1، ص32.

 

[36] حسن حنفي: التراث والتجديد، دار التنوير للطباعة والنشر - بيروت، 1981، ط1، ص132.

 

[37] محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص481.

 

[38] ابن تيمية: مجموع فتاوى. المنطق. مكتبة المعارف - الرباط، ص265.

 

[39] ابن طفيل: حي بن يقظان. تحقيق محمد أمين، مؤسسة الخانجي - مصر 1958، ص61.

 

[40] ابن خلدون: المقدمة، ص347 وما بعدها.

 

[41] المصدر السابق نفسه.

 

[42] ابن تيمية: مجموع فتاوى. المنطق، ص266.

 

[43] المصدر السابق نفسه، ص129 - 130.

 

[44] الباجوري: متن السلم في المنطق. مجموع المتون الكبرى، مطبعة الاستقامة - القاهرة، 1378 - 1958، ص388.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة