تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

د. توفيق السيف

 

[1]

مدخل

السؤال الأساسي في هذا البحث هو: هل يمكن الحديث عن العقد الاجتماعي كأساس للتنظيم السياسي في بلاد المسلمين اليوم. وإذا كان بعض المفكرين الإسلاميين قد أنكر النظرية بكليتها، أو رفض بعض عناصرها، فهل يستحق الموضوع إعادة تفكير؟.

طُرح هذا الموضوع خلال السنوات القليلة الماضية من جانب مفكرين وسياسيين مسلمين، في سياق الدعوة المتصاعدة إلى مراجعة شاملة للتفكير الإسلامي في مسألة الدولة والتنظيم السياسي. وهي دعوة عززها تصاعد الاتجاه إلى الديمقراطية والحريات المدنية والتداول السلمي للسلطة، وانخراط معظم دول العالم في هذا التيار، وبقاء الأقطار الإسلامية، بعضها على الأقل، أسيرة لتنظيمات سياسية قديمة قائمة على الجبر والتغلب وحرمان الأكثرية الساحقة من المواطنين من المشاركة الفاعلة في تقرير السياسات التي تؤثر في حاضرهم ومستقبل أبنائهم. لا بد من التذكير هنا بالفقر الشديد في العالم العربي للدراسات المتعلقة بالفلسفة السياسية، وإلى القيود المتنوعة المفروضة على البحث والنشر في هذا الجانب، الأمر الذي صرف النقاشات حول الطروحات السياسية للتنظيمات وأهل الفكر والسياسيين إلى الجوانب السطحية والآنية. ومن انعكاسات هذا الفقر ما نراه من تجنب المفكرين الإسلاميين لمناقشة الإشكاليات الأصلية، مثل إشكالية المجتمع التعاقدي ونظام الحكم الذي يقوم على أساسه.

إن تطور مفهوم العقد الاجتماعي وفروعه ضمن الإطار المعرفي الأوروبي لا يجعله أوروبيًّا في المبتدأ والأخير، فهو -مثل كل الأفكار الشبيهة- منتج إنساني، يستطيع كل مجتمع الاستفادة منه أو من بعض عناصره بحسب حاجاته وظرفه التاريخي. من المتوقع بطبيعة الحال أن أي معالجة نقدية لنظرية العقد الاجتماعي سوف تؤدي إلى تعديل في صيغتها المعروفة في الفكر الأوروبي من أجل إنتاج صيغة تتناسب والشروط الثقافية/ الاجتماعية لمجتمع المسلمين المعاصر.

عوداً على السؤال الذي بدأنا به هذه الفقرة، نقول: إن إمكانية الاستفادة من نظرية العقد الاجتماعي (في صيغتها الأصلية أو مع تعديلها) كأساس للتنظيم السياسي في بلاد المسلمين، مرهون بتنسيج عناصرها ضمن الثقافة السائدة، الثقافة التي ورثها المسلمون من أسلافهم أو تلك التي طوروها كتعبير عن ظرفهم الاجتماعي الحاضر. يقتضي الأمر إذن استعراض العناصر الأساسية التي تشكل في مجموعها فكرة العقد الاجتماعي، كمفهوم، كقيمة، وكفلسفة عمل. وقد عالجنا في المقالة السابقة فكرة العقد وتطورها التاريخي وكيفية تأثيرها في الشرعية السياسية. وسوف نعالج في الصفحات التالية احتمالات التوافق بين مكونات العقد الاجتماعي والقيم الإسلامية، وبالتالي إمكانية تأسيس فكرة العقد على أرضية فلسفية لا تتعارض مع القيم الدينية، ثم وعلى نحو خاص حق المجتمع وأهليته لإنشاء عقد من ذلك النوع. يمثل العقد الاجتماعي أساساً نظريًّا لفكرة السلطة المنبثقة من المجتمع والخاضعة لإرادته. موضوع العقد هو موضوع عمل السلطة السياسية نفسه، أي إدارة المصالح العامة المشتركة بين أعضاء الجماعة. وسوف نعرض هنا المصدر الذي تستمد منه الجماعة حقها في التعاقد والمشاركة في القرار، ونركز على ملكيتها للموارد العامة وكون الفرد مالكاً لنفسه ونتاج عمله. كما سنناقش أهلية الأفراد والمجتمع لإدراك وتقرير تلك المصالح، ونركز على فكرة التحسين والتقبيح العقليين المتداولة عند الأصوليين.

أغراض العقد الاجتماعي

السؤال الأول بداهة: كل عقد له غرض معلوم، فما هو الغرض الذي يراد تحقيقه من وراء العقد الاجتماعي؟.

العقد الاجتماعي هو القاعدة الفلسفية والقانونية التي يقوم عليها النظام السياسي. تمثل الدولة أحد أبرز أركان هذا النظام ووظيفتها الرئيسية هي إدارة الشأن العام، أي الأمور المشتركة بين أعضاء الجماعة. وطبقاً لسلفادور دي مادارياجا فإن غرض الدولة هو إدارة المصالح الجمعية التي كونتها مجموعة من البشر، تولدت بينها خلال مسار تاريخي من العيش المشترك على أرض محددة، مشاعر تضامن مشترك[2]. الفارق الرئيس بين الدولة وغيرها من المنظمات الاجتماعية يكمن في تمتع الدولة بحق احتكار وسائل الردع والقوة الضرورية لفرض سياساتها على الجميع، وكون هذا الاحتكار مشروعاً[3]. إذن فالعقد الاجتماعي -من هذه الزاوية على الأقل- ينطوي على تنازل المتعاقدين، أي مجموع أفراد المجتمع، إلى الدولة التي تمثلهم، عن حقهم في استعمال العنف لحماية أنفسهم أو فرض مراداتهم. هذا التنازل يولد ما يوصف في علم السياسة بشرعية السلطة أي حقها في الأمر والنهي واستعمال الوسائل الجابرة في إدارتها للشأن العام. من الضروري إذن تحديد المقصود بمصطلح «الشأن العام» كي نرى إن كان أطراف العقد، أي أعضاء الجماعة، يملكون الحق والأهلية في التصرف في الشأن العام، بما فيه الدخول في تعاقدات أو اتفاقات أو تفويض هذا الحق إلى جهة محددة -الحكومة مثلاً- كي يكون تصرفها فيه مشروعاً.

يمكن تلخيص الوظائف المندرجة تحت عنوان الشأن العام في أربعة رئيسية:

1- صيانة السلام الداخلي: الضمان القانوني لحياة وأملاك الأفراد وحقوقهم الأخرى بحيث تغنيهم عن استعمال قوتهم الشخصية في حمايتها.

2- صيانة الأمن الوطني: حماية الجماعة ضد العدوان الخارجي.

3- التقسيم العادل للموارد المادية المشتركة مثل المعادن، المياه، ومصادر العيش الأخرى بين أعضاء الجماعة.

4- تحسين حياة الجماعة من خلال إدارة النشاطات التي لا يستطيع كل فرد لوحده القيام بها على وجه الكمال، مثل تعليم الأطفال والخدمات الصحية والمواصلات.

هذه الوظائف هي أعمال عقلائية تستهدف ضمان مصالح أو دفع أضرار وعللها واضحة وحكمها جلية وليس فيها شيء غائب أو خفي، وبالتالي فهي قابلة للإدراك والفهم والتعديل والتطوير من جانب أعضاء الجماعة. واذا كان للشارع من نظر فيها، فمحوره الفلسفة العامة والمعايير الأساسية التي يركز الشارع المقدس على رعايتها ودعوة الناس للالتزام بها مثل رعاية العدل والإنصاف وما أشبه. أما أصل إقامة الوظيفة فهو أمر عقلي ضروري، أمضاه الشارع وأكد عليه في سياق أمر للجماعة بها، أو توجيه إليها، أو بيان الحكمة من ورائها، مثل قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} وقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}... إلخ. وقد لاحظ مفسرون أن الآيات الواردة في هذا السياق موجهة جميعها إلى المجتمع كوحدة واحدة لا إلى الأفراد أو طبقة خاصة منهم.

موضوع العقد الاجتماعي

موضوع العقد الاجتماعي هو إقامة نظام عام للعلاقة بين أفراد الجماعة يحقق الأغراض المذكورة آنفاً. أبرز أجزاء هذا النظام هو الحكومة التي تنوب عن المجتمع في تنفيذ مقتضياته. وقد اشرنا سابقاً إلى أن ما يميز الحكومة عن سائر الهيئات الاجتماعية هو توسلها بالجبر في إنفاذ سياساتها. ويتضمن عملها بالضرورة تصرفاً في أموال الناس وأنفسهم. أموالهم الخاصة أو المشتركة. ومعنى التصرف هو تحديد كيفية استعماله أو فرض ضرائب أو اقتطاع بعضه لأغراض معلومة. وهذا هو الموضوع الرئيس للتعاقد. إن دخول الأفراد في عقد اجتماعي يتضمن -بالضرورة- قبولاً بذلك التصرف. نعرف بداهة أن الإنسان يتعاقد حول شيء يملكه، فيتنازل عنه أو عن بعضه إذا شاء. لكنه لا يستطيع التصرف في ملك الغير. فهل يملك الإنسان نفسه حتى يمنح المجتمع أو الحكومة حق التصرف فيها. وهل يملك أو تملك الجماعة حق التصرف في الموارد المشاعة والمشتركة في الأرض التي تُقيم عليها كي تتنازل عن هذا الحق للحكومة؟.

يدور النقاش إذن حول عنصرين:

الأول: ملكية الإنسان لنفسه، وكونه منفرداً بالولاية عليها وأن أحداً غيره لا سلطة له عليه إلا برضاه.

الثاني: ملكية المجتمع كمجموع للأرض التي يقيم عليها، بما فيها من موارد طبيعية ومستجدة، مما لم يختص به واحد على وجه التعيين.

كنت قد ناقشت بعض أطراف المسألة بالتفصيل في الباب الثالث من كتابي «نظرية السلطة في الفقه الشيعي» وعرضت هناك تعريفات للمسألة وآراء الفقهاء فيها. ولهذا سوف أعرضها هنا مختصرة جدًّا. سوف أناقش لاحقاً أهلية الفرد والجماعة لتحديد المصالح والمفاسد والدخول في تعاقدات عامة. وآمل أن يساعدنا هذا في تحديد مرجعية إسلامية للنقاش حول العقد الاجتماعي.

هل يملك الإنسان نفسه؟

قد يرى القارئ هذا السؤال سخيفاً. ربما لأنه يجد ملكية الإنسان لنفسه مسألة بديهية، فإذا لم يكن مالكاً لها فلا بد أن يكون مملوكاً لفرد آخر، أي عبداً. أو لأنه ينظر إلى المسألة من زاوية أخرى، فهو ينطلق من حقيقة أن الإنسان مملوك لله سبحانه، وبهذا المعنى فإن الفرد لا يمكن أن يكون مالكاً لنفسه.

أما الغرض من السؤال فهو تحديد الأرضية المفهومية التي يقوم عليها مبدأ الاختيار والإرادة الفردية وحق التصرف في الذات وما تملك. فإذا كان الإنسان مالكاً لنفسه، فإنه حر في التصرف في نفسه وفي أملاكه، لأن الملك هو أقوى مصادر الحق. هذا الملك بذاته يحجب حق الآخرين في أي تصرف يطال الفرد وأملاكه من دون رضاه، لأنه يعتبر حينئذ تعدياً على حق الغير. وإذا قلنا بأن الإنسان لا يملك نفسه، فإنه بالقدر نفسه ليس حر التصرف في نفسه وأملاكه، فالتصرف عائد للمالك.

لا جدال في كون الإنسان مملوكاً لخالقه جل وعلا. وهي ملكية أصلية بالتكوين يترتب عليها خضوع وطاعة على المستوى التشريعي. لكن هذا ليس موضوع النقاش في السياسة ولا في الفلسفة. النقاش في العلوم جميعاً يتعلق بالمستوى الأرضي الدنيوي وليس بالخلق والتكوين. وهو يركز خصوصاً على خيارات الإنسان وإرادته. وبالتالي فإن ملكية الله للإنسان ليست منظورة في السؤال أعلاه. الكلام إذن في ملكية الإنسان لنفسه في مقابل ملكية غيره من البشر له. مع هذا التوضيح فالجواب الأولي الممكن على السؤال هو: نعم، الإنسان هو المالك الوحيد لنفسه.

لكن هذا الجواب قد لا يكون قطعيًّا أو نهائيًّا عند بعض الناس، لواحد من سببين: أولهما أن ملكية الله للإنسان يتفرع عنها وجوب الالتزام بأوامره ونواهيه في الحياة اليومية، وخضوعه بالتالي لمن يوصل إليه هذه التعاليم أو من هو مكلف بالإشراف على تنفيذها مثل الرسول والإمام والحاكم... إلخ. هذه التعاليم تؤدي بالضرورة إلى تحديد حرية الإنسان على المستوى السلوكي والواقعي. السبب الثاني: حتى لو قبلنا بملكية الإنسان لنفسه، فإن هذه الملكية ليست مطلقة، لأنه لا يملك حق التصرف في نفسه تصرفاً مهلكاً مثل الانتحار أو إيقاع أذى جسيم، أو إهمالها كليًّا، وهذه من المسلمات العقلية التي لا جدال فيها.

لو قبلنا بهذين الاعتراضين، فإن المبدأ السابق، أي ملكية الإنسان لنفسه، سيبقى قائماً لكنه لن يكون مطلقاً. بعبارة أخرى سوف نحتاج إلى صياغة جديدة للفكرة على الوجه التالي: إن الإنسان مالك لنفسه وأملاكه ملكية تامة إلا في حالتين: الأولى: إذا تعارضت هذه الملكية مع الحقوق الثابتة للخالق سبحانه، والقائمة بدورها على قاعدة أعلى من ملكية الإنسان لنفسه، وهي الخلق والإيجاد والسيطرة على المصير النهائي (الموت أو البقاء حيًّا). الثانية: إذا كان تصرف الإنسان في نفسه مؤدياً إلى زوالها أو إيقاع ضرر جسيم عليها، لما في ذلك من تعارض مع مبدأ الوجود. نستطيع القول إذن: إن ملكية الإنسان لنفسه قائمة ضمن دائرة الوجود وليس فوقه.

أما الاعتراض القائل بأن التعاليم الإلهية تؤدي بالضرورة إلى تحديد لمالكية الإنسان لنفسه فهو غير وارد، لأن الإنسان مختار في قبوله للتشريعات والتعاليم الدينية والتزامه بها. ولا يترتب على رفضه لها عقوبات دنيوية من جانب الخالق، بل عقوبات أخروية أي خارج إطار الوجود الدنيوي. أما العقوبات الدنيوية التي قد تفرضها سلطات دينية فهي من أنواع القانون المدني الذي يعتبر أيضاً من أشكال تحديد الحرية التي لا تتنافى مع مالكية الإنسان لنفسه، وهي مرتبطة بالنظام الاجتماعي أو السياسي وتخضع للمعايير نفسها التي تحكم جميع قوانين المجتمع. ولهذا حديث آخر في غير هذا المكان.

يتضح إذن أن ملكية الإنسان لنفسه ثابتة. وأنه -بموجب هذه الملكية- حر التصرف في نفسه وفي أملاكه، حرية لا ينازعه فيها أحد وإلا عُدَّ باغياً ظالماً. يترتب على القول بملكية الإنسان لنفسه أثر سياسي واجتماعي بارز، وهو اعتبار الإنسان ذا سلطة تامة على نفسه وهو ما عبر عنه فقهاء المسلمين بالولاية[4]. وأود الإشارة قبل ترك هذه الفقرة إلى ملاحظة لا تخلو من فائدة، وردت على لسان الشيخ الأنصاري عند بحثه في الولاية. وقد قال: إن معظم الفقهاء الآخرين قد غفل عنها أو أغفلها. يتفق الفقهاء على أن ولاية الإمام والحاكم الشرعي هي بمثابة التكميل لنقص المولى عليه. وهم يمثلون لذلك بولايته على القاصر والعاجز والمجنون والسفيه إلخ.. وخلفية استدلالهم هو الآية المباركة {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} حيث تشير الآية إلى الوجه الاجتماعي للمال والملك الفردي. يجادل الأنصاري بأن ولاية الحاكم متعلقة بمال المولى عليه لا بنفسه، فهو ولي له في ملكه لا على شخصه، وغرضها ضمان الإحسان في الإنفاق والحفظ[5]. ومنه نستنتج أن ولاية الإنسان على نفسه غير مزاحمة أو مجروحة حتى على القول بالولاية العامة للحاكم الشرعي.

ملكية المجتمع للموارد العامة

نعود الآن إلى الوظائف المندرجة في عنوان «الشأن العام». فهي جميعاً قابلة للاتصاف بوصف «المصلحة العامة»، وهي جميعاً مما اتفق العقلاء في كل الأزمان والأماكن على وجوده في كل مجتمع إنساني متحضر، بل إن غيابها عن مجتمع يلقي عليه وصف «مجتمع الغاب». إقامة هذه الوظائف تحتاج بطبيعة الحال إلى مصادر مالية، تتأتى من أحد طريقين: أولها: استثمار الموارد الطبيعية أو الجديدة المتوفرة أو القابلة للتوفير في البلاد، ومنها مثلاً المعادن والمياه. وثانيها: تقسيم الكلفة على المواطنين، ضمن ما يعرف اليوم بنظام الضرائب على الدخل أو الرسوم على الخدمات العامة. في كلا الحالين فإن معيشة الناس وما يتوفر لديهم من فائض مال وما يدفعونه إزاء استفادتهم من الموارد أو الخدمات العامة، إنما يأتي من كد أيديهم وعقولهم أو استثمارهم لموارد طبيعية أو مستحدثة في أرض البلاد.

وقد نظر الفقهاء إلى هذه المسألة عند بحثهم في باب الخراج الذي كان يشكل في العصور القديمة المصدر الرئيس لميزانية الدولة، ويشمل الاستثمار المباشر للموارد الطبيعية والرسوم التي تفرض على استثمار الأفراد لتلك الموارد. والسؤال الذي يهمنا الإجابة عنه هنا هو: من يملك الموارد العامة والثروات الطبيعية.. هل هو المجتمع أو الدولة التي تمثله، أو الحاكم بصفته الشخصية، أم تملكها الحكومة بصورة مستقلة عن تمثيلها للمجتمع، أم أنها من غير مالك على الإطلاق؟.

أهمية هذا السؤال تكمن في أنه إذا ثبت أن تلك الموارد مملوكة للمجتمع ككل، فإن تصرف الحكومة فيها سواء لإقامة الخدمات العامة أو أي شأن آخر هو تصرف في ملك الغير (أفراد المجتمع)، فهو إذن غير مشروع إلا برضاهم، ولا بد عندئذ من وضع صيغة تضمن رضا المالكين. أما المورد الثاني المذكور أعلاه، أي تقسيم الكلفة على المواطنين من خلال نظام الضرائب فأمره أوضح من كل بيان، وسيتضح مغزاه خلال البحث.

الموارد العامة أو الأموال العامة هي كل مال أو مصدر للمال لا يملكه شخص معين، ضمن أراضي الدولة الإسلامية أو امتداداتها، أو يملكه مجموع المسلمين لنوعهم، أو لخصوص منطقة يسكنونها. ويستفيد الأفراد من تلك الموارد بطريقتين: الأولى: الانتفاع بما ينتج منه من خلال العمل مثل الصيد في البحار والأنهار والرعي في الغابات والصحارى فهذا متاح ومفتوح لكل فرد من دون إذن الحاكم. الثانية حيازة جزء منه حيازة دائمة تمنع تصرف الغير، مثل ملكية الأرض أو تحويل ماء النهر أو تملك المناجم أو آبار البترول، وما أشبه. فهذه تتوقف على إذن الحاكم الذي قد يأذن بها مجاناً أو يفرض عليها رسماً معلوماً من المال. وقد بحثت المسألة من جانب الفقهاء تحت عنوان الخراج والزكاة والخمس والمشتركات وإحياء الموات والأنفال، وكل منها كما هو واضح من المسمى، يشير إلى نوع من هذه الأموال، ويرجع تركيز الفقهاء على الأراضي إلى طبيعة الاقتصاد القديم في العالم الإسلامي، الذي كان في الغالب زراعيًّا أو مرتبطاً بالأرض[6]. وصنف الفقهاء الأرضين المتعلق بها الخراج إلى نوعين، وسوف نلحق بها صنفاً ثالثاً يعرف بالمشتركات، لتوضيح كيفية تقريرهم لكونها مالاً عامًّا مملوكاً لمجموع المسلمين:

الأول: الأراضي المفتوحة عنوة. فالعامر منها ملك مشاع للمسلمين قاطبة إلى يوم القيامة من غير تفاضل بينهم باتفاق العلماء[7]. وقال بحر العلوم: إن رقبتها للمسلمين ملكاً مشاعاً، يرجع عائدها لكل مسلم، وحيث يتعذر التوزيع والقسمة بين الكل، تعين الصرف في المصلحة الراجعة إلى الكل، كحفظ الثغور والأمن، ورواتب الولاة والقضاة، وبناء المساجد والطرق، فهذه منافع معلومة لكل واحد منهم، بل هي من ضرورات الاجتماع. وقال الأردبيلي: إن ملكية المسلمين لهذا النوع من الأرض ليست ملكية حقيقية، بل هي من نوع الوقف على ما هو مصلحة عامة لهم[8].

الثاني: الأنفال. وتشمل الأراضي التي فتحت سلماً، والأراضي الموات، وتركة من لا وارث له، والآجام والمفاوز، وبطون الأودية ورؤوس الجبال وقطائع الملوك[9]. وترجع إدارتها والتصرف فيها إلى حكومة المسلمين[10]، كما يجوز تمليك بعضها للأشخاص بوسائل التمليك المختلفة[11]

الثالث: المشتركات. وتشمل ما هو ضروري للمصالح العامة والعمران، مثل الطرق ومصادر المياه ومطارح القمامة وقنوات الري ومراعي الماشية، والغابات، ويدخل فيها المباحات الأصلية، التي لا تملك بالشراء ولا بالإحياء ولا بأي طريقة أخرى لضرورته للعمران ومنافع المجموع[12]. وهي ملك لمجموع المسلمين، ويدل عليها الحديث النبوي «المسلمون شركاء في ثلاث: فِي المَاءِ وَالكلأِ وَالنار وَثمنهُ حَرَامٌ»[13].

ويستدل على ملكية الناس لتلك الموارد، بآيات التسخير مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..}[14]، وآيات الخلافة، مثل {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}[15] والتي يفهم منها جميعاً أن الله سبحانه، قد وضع هذه العناصر تحت تصرف الإنسان بما هو مخلوق لله، وخليفة له في أرضه[16].

وقد ذكر المال العام في القرآن الكريم، منسوباً إلى المخاطبين، أي مجموع المسلمين، وخصوصاً في الأمر بصيانة هذا المال، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[17]، وقال الطباطبائي في تفسيره للآية الأولى: إن تقييد الحكم الوارد في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم} بقوله: {بَيْنَكُم } فيه دلالة على أن جميع الأموال لجميع الناس، فهي كالشارحة لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} فالأصل أن ما خلقه الله على هذه الأرض ملك للناس، وقد تكرر ذكر هذا الأصل في الآيات القرآنية في أكثر من 100 مورد بألفاظ مختلفة، مثل الملك والمال والاستخلاف ولام الملك[18]. ويستنتج أن مالكية مجموع الناس لمجموع المال «حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام وقوانين هامة» من قوانين الحياة والعمل في مجتمع المسلمين[19].

وتظهر الدراسات التاريخية أن المجتمعات في كل الأزمنة أوكلت المهمات المشتركة، مثل دفع الأعداء وحفظ الأمن وعمارة البلد بشق الطرق وبناء السدود وتنظيف الأنهار، إلى هيئة السلطة، وسمحت لها بالإنفاق على هذه المهمات من الموارد المشتركة، فإن لم تكفِ فمن الضرائب التي تفرض على عامة الناس، وعلى هذا سار الفقهاء، حيثما احتيج إلى المال لدفع ملمات تهم المجتمع كله[20].

يتضح إذن أن المال العام ملك لعامة الشعب، وإنما وضع في عهدة الحكومة لأنها -نظريًّا على الأقل- ممثل ووكيل عن الشعب. فحيازتها لتلك الأموال هو نوع من الأمانة التي تسمح لها بالتصرف لمصلحة المالك الأصلي. ولهذا لا يجوز للحاكم أو موظفي الحكومة امتلاك شيء من المال العام. كما أن سلطتهم في التصرف تنتهي فور تنحيهم عن الوظيفة بالموت أو التقاعد أو العزل، ولا تبقى تحت أيديهم كما لا تنتقل إلى ورثتهم[21]. ومن بين الأدلة على عدم كون الحكومة مالكاً حقيقيًّا، هو اتفاق الجميع على ضرورة أو على الأقل جواز محاسبة أصحاب السلطة على تصرفهم فيما تحت أيديهم من مال، في حين لم يقل أحد بجواز محاسبة المالكين الشخصيين على تصرفهم في مالهم.

ربما يعترض على هذا القول بأنه لو صحت ملكية الناس للمال العام لجاز لكل منهم التصرف فيه دون استئذان أحد، في حين أن الثابت أن تصرفه متوقف على إجازة الحاكم. وهذا قول مردود بأن الملك مشترك على وجه الشياع، فكل تصرف من فرد يقع على ملك غيره، فيحتاج إلى إذنه، ولأن استئذان الجميع مستحيل فقد جاز استئذان وكيل الجميع وهو الحكومة. فالإذن هنا ليس دليلاً على عدم ملكية الإنسان الموجب لمنع تصرفه، بل لمنع تصرفه في ملك غيره.

زبدة القول إذن أن المال العام، أعيانه ومنافعه، مملوك لجميع الناس أو جميع المسلمين. وهم يمنحون حكومتهم حق إدارته والتصرف فيه بما يحقق الأغراض المستهدفة من العقد القائم بين أفراد الجماعة. هذا العقد يقيم علاقة بين المالك (المجتمع) والمستأمن على الملك (الحكومة) يمكن وصفها بالوكالة، فالحكومة هنا وكيل عن الشعب تتصرف في أمواله لمصلحته وبرضاه. ذلك العقد هو الأساس الذي يجعل تصرف الحكومة في الموارد العامة وفي أموال الأفراد شرعيًّا ومجازاً. ومن دونه يعتبر تصرفها بغياً وعدواناً لا إذا رضي المالكون به فرداً فرداً.

موقف الشارع

قارن بعض الباحثين بين العقد الاجتماعي و «البيعة» المتعارفة في التجربة التاريخية الإسلامية. على المستوى النظري البحت تتضمن البيعة في صورتها المثلى شكلاً من التعاقد بين المجتمع والحاكم. لكن من المهم التأكيد على أن العقد الاجتماعي يتضمن اتفاقاً بين أعضاء الجماعة أنفسهم كما يقود إلى تعاقد بينهم كمجموع وبين الحكومة التي تمثلهم. كان يمكن لمفهوم البيعة أن يتطور إلى عقد متكامل الأركان، لكن التجربة التاريخية لمجتمع المسلمين، ولا سيما منذ نهاية الخلافة الراشدة حولت «البيعة» إلى ممارسة شكلية جوهرها تأييد المتغلب بغض النظر عن إرادة المجتمع أو خياراته. ولهذا فقد يكون البحث في هذا الجانب مضيعة للوقت طالما أننا لا نملك صيغة محددة تقرن شرعية السلطة بتعاقد متكامل الأركان بين المجتمع ككل والمرشحين لتولي السلطة، تعاقد سابق لتوليهم مقاليد الأمور وسيطرتهم على مصادر القوة.

عوداً على موضوعنا نقول: إنه بموجب العقد تتصرف الحكومة بصفتها وكيلاً عن المجتمع ومنفذاً لإرادته. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل يملك أطراف العقد، أي أعضاء الجماعة، الحق والأهلية في القيام بالوظائف الأربع التي ذكرناها في أول المبحث، بأشخاصهم أو بإيكالها إلى آخرين؟ أم أن الشارع حدد أشخاصاً أو هيئات خاصة لانجاز تلك الوظائف بدلاً عن الجماعة أو لمصلحتها أو نيابة عنها؟.

نحن الآن بين ثلاثة احتمالات: إما أن الشارع سكت عن هذه الوظائف باعتبارها ضرورات حياتية يستطيع العقلاء اكتشاف ضرورتها ويقدرون على ترتيبها. أو أن الشارع عرفها كواجبات لكنه لم يحدد كيفية خاصة للقيام بها وفوض المكلفين اختيار الكيفية الأصلح لإنجاز التكليف. أو أنه حدد كيفيات معينة وأشخاصاً أو هيئات محددة وكلفها القيام بهذه المهمة من دون تدخل عامة المكلفين. وإذا كان قد ترك للجماعة اختيار الطريقة، فهل يعتبر موقف الشارع هذا دليلاً على مشروعية ما اختارته الجماعة، أي كونه عملاً صحيحاً (أو -على الأقل- غير باطل).

من الجلي أن الشارع المقدس قد تحدث عن تلك الوظائف إجمالاً أو تفصيلاً. وأنه حدد لبعضها كيفيات أو شروطاً، مثل كلامه في العقوبات والحدود التي غرضها ضمان النظام العام. لكنه سكت عن بعضها أو سكت عن كيفياتها، مثل قيام الدولة بالخدمات العامة أو مقدار الضرائب والرسوم التي يجوز فرضها إزاء الاستفادة من الأملاك أو الخدمات العامة. والواضح أن ما يقصده الشارع ليس الوظيفة بذاتها بل ما تؤدي إليه. وهذا أحد الفوارق الهامة بين العبادات التي اتفق الفقهاء على كونها محددة شكلاً وموضوعاً (أو توقيفية حسب اصطلاحهم)، والمعاملات التي ينظر فيها إلى الغاية والغرض وليس الشكل والكيفية. بعبارة أخرى فإن كل تكليف ديني يمثل مركباً من عدة أجزاء: الأمر الإلهي به وهو يحدد منزلته بين واجب، محرم، مستحب أو مكروه، ثم المكلف به: الأفراد أو الجماعة أو أشخاصاً محددين بصفاتهم، ثم كيفية التكليف، وأخيراً الغرض المقصود من التكليف والذي يمثل فلسفته وحكمته.

واتفق المسلمون جميعاً على أن الأحكام الشرعية وليدة مصالح ومفاسد في المتعلقات ولو أن العقول استشرفتها واطلعت على واقعها لأقرتها دون تردد[22]. وهذا أوضح ما يكون في الأحكام الناظمة للمعاملات بين الناس. بل إن ارتباط الأحكام بالمصالح الواقعية هو أحد أصول العقيدة -كما رأى معرفت-. علم الخالق بالمصالح والمفاسد ورحمته الواسعة بعباده تقودنا إلى «اليقين بمصالح كامنة وراء التكاليف وأن الأحكام الشرعية إنما هي حدود مضروبة دون سيادة الفوضى وشيوع الفساد في الأرض»[23].

وفي السياق نفسه يرى فخر أن المصالح العامة القابلة للإدراك من جانب العقلاء هي أرضية الأحكام الخاصة بالسياسة العامة، وأن «تقييمنا لأحكام الفقه يتقرر على ضوء ما تحققه من أهداف»، فلو أصدر فقيه حكماً ثم تبين أنه لا يحقق الغاية المنشودة، فعليه أن يشكك في استنباطه[24]. يمكن التمثيل على ذلك بالأحكام المقررة في موارد القصور الشخصي التي صنفها الفقهاء ضمن «الأمور الحسبية» مثل حفظ مال القاصر والعاجز ورعاية حقوق من لا يستطيع القيام بحقه ولا يجد من أهله من يقوم بشأنه مثل المتوفى في بلد غريب ونحو ذلك. وهذي من الموارد التي أكثر الفقهاء من الكلام فيها واتفقوا جميعاً على إحالة المسؤولية عنها إلى الحاكم الشرعي (القاضي أو المجتهد) أو من ينيبه، أو من يقوم بها بإذنه، فإن لم يوجد الحاكم أو تعذر الوصول إليه انتقلت مسؤوليتها إلى عدول المؤمنين ثم عامتهم[25]، لان المقصود بالحكم هو حفظ مصلحة القاصر أو العاجز. والأمر نفسه يقال في تصرف الوالي في الموارد العامة. طبقاً للشيخ الأصفهاني، فإن الإمام العادل هو المفوض بالتصرف فيها، لكن لو تعذر الرجوع إليه، قام بها الحاكم الفعلي وإن كان متغلباً «لأن فوات مصلحة قيامه -الإمام العادل- بالأمر لا يسوغ تفويت مصالح المسلمين»[26].

وقد ذكر كثيرون -وهذا رأينا أيضاً- بأن أحكام الشارع المتعلقة بالمصالح العامة ليست في معظمها إنشاءات غير معروفة للعقلاء، بل هي إمضاءات لما سبق أن أقره العقلاء أو أنها تأكيد على الغايات والمقاصد المستهدفة من وراء التصرفات العقلائية. ومن هنا نستنتج أن المعيار الرئيس لما نعتبره صحيحاً أو فاسداً من التصرفات هو:

1- عدم مخالفته لنص ثابت واضح الدلالة.

2- تأمينه لمصلحة عقلائية بينة.

وهذا لا يشمل آراء الفقهاء لأنها اجتهادات وليست أحكاماً ملزمة، كما لا يشمل الأحكام الخاصة بموضوعات موقوتة مما يصنف ضمن الأحكام الولائية. واعتمدنا النص السلبي «عدم المخالفة» تحرزاً من الطريقة الأخبارية التي تقصر المشروعية على ما سبق ذكره أو تعريفه في نصوص الشارع. ذلك أن موضوع بحثنا يتعلق في معظمه بقضايا جديدة لم يرد فيها نص تفصيلي وإن أمكن إرجاعها في المقصد والفلسفة العامة إلى النصوص أو روح التشريع.

ستجد بطبيعة الحال فقهاء يذكرون ما يسمونه بمصالح خفية وراء بعض التكاليف، أي عللاً أو غايات لا يستطيع الناس إدراكها. لكن هذا القول لا يجري في المصالح العامة، لأنها في الأغلب من إنشاءات العقلاء التي أقرها الشارع، كما أن القول بخفاء العلل والمصالح لا طائل وراءه، فتكليف الناس به في معاملاتهم يعتبر تعسيراً يتعارض مع أصالة التيسير الثابتة في الشرع.

سلامة التعويل على العقل الفردي أو الجمعي في تعريف المصالح

بعض من أنكر حق المجتمع في صياغة نظامه السياسي احتج لرأيه بأن عامة الناس غير قادرين على إدراك المصالح، التي منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي لا يعرفه إلا واضع الشريعة أو أهل العلم فيها[27]. وقد أوضحنا في السطور السابقة أن المصالح العامة التي هو موضوع عمل النظام السياسي ليست من الغيبيات، بل هي قضايا عقلائية، وأنها في الأعم الأغلب ليست من إنشاءات الشريعة الإسلامية، بل من إنشاءات العرف التي أمضاها المشرع، وإن المعيار في وضعها أو رفعها هو تحقيقها للمصلحة المرجوة منها.

نأتي بعد ذلك إلى الحجة الثانية وهي قابلية الفرد أو الجماعة لإدراك حقيقة المصلحة، وأهليتهم -بالتالي- لتقرير ما هو صحيح وما هو خطأ. السؤال المطروح هنا هو: هل يتمتع الإنسان العادي بالأهلية العقلية والروحية التي تسمح له بتشخيص المصالح والمفاسد وإدارة حياته بصورة سليمة. ويترتب عليه سؤال أوسع خلاصته: هل تستطيع الجماعة، أي مجموع الأفراد، تشخيص المصالح والمفاسد واكتشاف الحقائق واختيار الطريق السليم لإدارة ما هو مشترك بينها. أم أن قدرات الفرد العقلية دون هذا كله، وأنه بحاجة -على الدوام- إلى ولي ومرشد ينير له الطريق ويكشف له الحقيقة أو يعينه على كشفها؟.

وينحل هذا السؤال إلى سؤالين آخرين:

معايير الحسن والقبح والصلاح والفساد، هل هي حقائق موضوعية، أم هي مفاهيم صنعها البشر وتوافقوا عليها فتحولت إلى مسلمات بمرور الزمن وتكرار التجارب، أم هي أحكام شخصية مشروطة بظرفها الخاص؟.

على أي من القولين، هل للفرد دور في تقرير ما هو حسن وصالح له، أم أنه مطالب بالتسليم، في كل الأحوال أو بعضها، للمعايير الموضوعة فطريًّا أو بتوافق المجتمع؟.

موضوعية الحقيقة

من المفيد ابتداء عرض رأي الفيلسوف المعاصر كارل بوبر الذي يقسم المعرفة إلى ثلاثة عوالم:

العالم الأول: هو الكون المادي الذي يألف من حقائق واقعية. يعيش الناس في هذا العالم ويسعون إلى فهمه وتصويره على شكل نظريات وأوصاف، فيفلحون أحياناً ويفشلون أحياناً أخرى.

العالم الثاني: هو تصوراتنا الشخصية وتجاربنا وتأملاتنا في ذواتنا أو في الكون المادي المحيط. وهي تشكل في مجموعها رؤيتنا للعالم وعلاقتنا به وموقفنا من عناصره ومكوناته. هذا العالم هو الذي تعمل فيه عقولنا حين نفكر في وجودنا وما يطرأ عليه من متغيرات. المعارف الشخصية والتأملات والذاكرة الشخصية هي بعض تمثيلات هذا العالم. وهي جميعاً قائمة على أرضية الوعي الشخصي والرغبات والميول والهموم ومتفاعلة معها.

العالم الثالث: هو مجموع منتجات العقل الإنساني المجردة، أي القائمة بذاتها كموضوع منفصل عن شخص المنتج أو الأشخاص الآخرين. ونراها عادة في إطار أعمال علمية أو تطبيقات تقنية مثل الكتب، الآلات، النظريات، النماذج، الحاسبات، الشبكات.. الخ.

يمكن للمعرفة أن تتولد في العالم الثاني، لكن تمثلاتها المادية (أو مصنوعاتها) تحفظ في العالم الثالث. هذه العوالم الثلاثة متمايزة لكنها مترابطة ومتفاعلة. فالعالم الأول يوفر إمكانات الوجود والحركة للعالم الثاني، في حين يسعى العالم الثاني لإدارة العالم الأول والسيطرة على حركته وتوظيفه. من جهة ثانية فإن العالم الثاني ينتج العالم الثالث، في حين يسهم العالم الثالث في حفظ منتجات العالم الثاني وتطوير قدراته. يفسر العالم الثالث العالم الأول ويتنبأ بما يحتمل أن يجري فيه لاحقاً. في حين يقدم العالم الأول المنطق والدليل الذي يقوم عليه العالم الثالث.

من المفهوم طبعاً أن العالم الثاني يتكون من بشر، ونحن نستطيع طبعاً استعمال أحاسيسنا في اختراق الحدود وملاحظة واختبار العلاقات والتبادل القائم بين العالم الأول والثاني. من هنا فإن المعرفة التي تحيط بنا (العالم الأول) تصبح جزءاً منا (العالم 2) ثم نخزنها نحن في محتويات وظروف تاريخية (مصنوعات العالم 3).

نحن إذن إزاء نوعين من المعرفة أو الأفكار:

* المعرفة بالمعنى الشخصي subjective، التي تتألف من حالات ذهنية أو إدراكات cognition تشكل خلفية للتصرف أو رد الفعل. في هذا النوع يشكل شخص العارف جزء من المعرفة. العارف قد يتبنى فكرة أو رأياً بناء على قناعة علمية أو بناء على تأمل أو ميل خاص لا يستند بالضرورة على دليل علمي قابل للقياس. من ذلك مثلا الاعتقادات الدينية والإيديولوجية، والمواقف الشخصية إزاء قضايا المجتمع، وآراء الناس في الجماليات والفنون، ونظرتهم إلى الأشخاص وعلاقاتهم معهم. صحة هذا النوع من المعرفة يقاس بأدوات شخصية، أو بالنظر إلى تماسك الفكرة وتكاملها، أو بنيتها المنطقية، أو جدتها.

* المعرفة بالمعنى الموضوعي objective، تتألف من تعبيرات نظامية وغير شخصية عن المشكلات والنظريات والاحتجاجات. وهي مستمدة من فحص ومراقبة واختبار عناصر الكون المادي أو القضايا القابلة للحساب والنقد على أساس معايير موضوعية ومقبولة من مختلف العارفين. المعرفة في هذا المعنى مستقلة كليًّا عن أي شخص، أنها معرفة من دون عارف.

قبل أن ننتقل إلى الفقرة التالية أود الإشارة إلى موقع «القيم» والأعراف والمثل النبيلة والأخلاقيات. وهو من القضايا التي كانت موضوعاً للجدل الفلسفي، ولاسيما لجهة اعتبار تلك القيم شخصية أو إجماعية أو موضوعية. إن كثيراً مما يصنف ضمن النوع الأول (الشخصي) يرجع إلى قيم أو أعراف أو مثل أخلاقية يتبناها الشخص ويرجع إليها كمعيار في مواقفه وآرائه. ومن هنا فقد جرى الاصطلاح على اعتبار شريحة واسعة من القيم معارف إجماعية intersubjective، وهي تضم المعارف التي تنتمي في الأصل إلى النوع الأول (الشخصي)، لكنها وقعت موقع القبول عند عدد كبير جدًّا من الناس حتى أصبحت مسلمات في زمن معين أو في أزمان متوالية. وتقاس بالرجوع إلى تكاملها مع بقية المعارف المماثلة، قابليتها للإقناع، وضوحها، ومستوى تأثيرها الظاهر. ويمكن أن تضم بعض القيم إلى هذا الصنف.

إلى جانب ذلك يميل أكثر الفلاسفة والأخلاقيين إلى اعتبار العديد من القيم السامية، قيماً موضوعية، أي أنها ترتقي إلى مرتبة الحقيقة الكاملة، حتى لو اختلفنا في تطبيقاتها أو المفاهيم المتفرعة عنها. من ذلك مثلاً قيمة العدل والإنصاف والحرية والتعاطف والنظام... إلخ. فهذه ليست مجرد قناعات شخصية وليست مفاهيم توافقية بين أعضاء مجتمع محدد أو أمة معينة في زمن أو أزمان خاصة، بل هي بَدَهِيَّات ذات طبيعة كونية يسلم بها جميع العقلاء في جميع الأزمان. وهي ضرورة لمعايرة حياة الإنسان والجماعات، ومن دونها لا يمكن التوصل إلى أي حكم سليم. ويميل الاتجاه العام في الفلسفة إلى اعتبار هذه القيم السامية من نوع المعارف المتسامية على الدليل والتجربة، التي يأخذ بها الإنسان على نحو الاعتقاد والإيمان بغض النظر عن أي دليل أو تجربة، أو يعتبرها الدليل الأخير الذي يقاس عليه كل شيء، فهو يدل على غيره كما يدل على ذاته ولا يحتاج إلى دلالة غيره عليه.

لا بد من التنبيه هنا إلى الفارق الدقيق بين المعرفة والقيمة، ولعلها واضحة لكثير من القراء. فالمعرفة هي مجرد وصف أو تفسير لشيء أما القيمة فهي حكم على ذلك الشيء. أنت قد تصف بيتاً بأنه متين البنيان أو ربما تعلل متانته بتصميمه الهندسي أو استعمال مواد خاصة في بنائه، فهذا من تطبيقات المعرفة التي يمكن إثباتها بدليل يتفق عليه جميع الناس. لكنك أيضاً قد تصف هذا البناء نفسه بأنه جميل أو قبيح أو مزعج أو مريح، فهذا حكم على البناء وليس وصفاً أو تفسيراً. وفي هذا يختلف الناس بحسب أذواقهم وثقافاتهم، بل قد يختلف رأي الشخص الواحد إذا رأى البناء في مكان أو رآه في مكان آخر بحسب موضعه بين بقية الأبنية. القيمة إذن ليست مجرد معرفة مرتبطة بالموضوع بل هي أيضاً حكم أو أساس لحكم عليه.

التقييم والحكم

بناء على التقسيم السابق يتضح أن الحقائق النظرية أو المادية قد توجد مستقلة بذاتها وقد توجد منسوبة إلى شخص أو فريق من الناس. بالنسبة للحقائق المستقلة فإنها قد تكون بَدَهِيَّة يستحيل الخلاف فيها وهي قائمة بغض النظر عن اتفاق العقلاء حولها، مثل قولنا: إن الكل أكبر من الجزء، أو قولنا باستحالة اجتماع النقيضين. وقد تكون إجماعية يتفق عليها جميع العقلاء مثل قولنا: إن العدل حسن والظلم قبيح. الفارق بين تلك وهذه يكمن في أن اتفاق العقلاء هو مصدر قيمتها في حين أن الأولى قائمة بذاتها. وهذا مذهب بن سينا ومعظم الأصوليين الشيعة[28].

يتعلق نقاشنا في معظمه بقضايا تنتمي إلى شريحة القيم الإجماعية، أو الأحكام المشهورة التي تبانى عليها العقلاء في مختلف الأمكنة والدهور فأصبح القبول بها سمة من سمات العاقل وإنكارها مما يستغرب صدوره عنه. مثل قولهم بحسن العدل وقبح الظلم.

وأصل المسألة هو قولهم بوجود حسن وقبح ذاتي في الأفعال وقابلية العقل لاكتشافهما والحكم على الفعل بناء عليهما. وهذا يطابق ما وصفناه آنفا بموضوعية الحقيقة، أي كونها قائمة بذاتها وبغض النظر عن رأي الناظرين إليها، وإن هذه الحقيقة قابلة للكشف بالعقل حتى لو لم يسبق تعريفها من قبل الشارع. وقد بحثت هذه المسألة عند المتكلمين والأصوليين المسلمين تحت عنوان «التحسين والتقبيح العقليين». ويبدأ البحث بسؤال: هل لأفعال الإنسان قيمة في ذاتها، أم أن قيمتها مستمدة من الفاعل أو الإطار الذي يجري فيه الفعل؟. القول بالقيمة الذاتية للفعل يعني أن بعض الأفعال حسن في ذاته وبعضها قبيح في ذاته بغض النظر عن تحسين الشارع وتقبيحه لها، وبغض النظر عن فاعلها. ويترتب عليه: إذا كان الحسن والقبح منطويين في الفعل ذاته، فهل يستطيع العقل -بمفرده- كشف هذه القيمة والحكم على الفعل بناء على ذلك الكشف؟.

مال معظم الأخباريين وقبلهم الأشاعرة إلى عدم احتواء الفعل على قيمة ذاتية، وقالوا: إن القبح والحسن ليسا عائدين إلى أمر حقيقي حاصل فعلاً قبل ورود بيان الشرع، إنما أصبح الفعل قبيحاً أو حسناً لأن الشارع وصفه على هذا النحو. ومال معظم الأصوليين إلى أن الفعل ينطوي على قيمة ذاتية سابقة لبيان الشارع. وإنما جاء الشارع لتصديق ما حكم به العقل.

لكن النقاش قاد إلى تفريعات في معنى الحسن والقبح، تشبه ما ذكرناه آنفاً، وخلاصتها ثلاثة معان:

الأول: الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقص، ويراد بهما وصف الأعمال الاختيارية التي يقوم بها الإنسان ويتفق الجميع على أنها كمال للنفس أو نقص لقيمتها مثل العلم (والتعلم) والجهل (وترك التعلم)، والإنصاف والحيف وتطبيقاتهما. والظاهر أن لا أحد يخالف في هذا المعنى لأنه أقرب إلى اليقينيات التي يصدقها الواقع الخارجي. وهي تطابق ما أسميناه سابقاً بالموضوعي.

المعنى الثاني هو الملاءمة للنفس، مثل القول بأن الشراب لذيذ والبرد قارس، أو بالنظر إلى عواقبها مثل القول بأن كثرة العتاب تجلب العداوة، فهذه جميعاً ترجع إلى ملاءمة الشيء أو الفعل لنفس معينة، ويختلف الناس فيها بحسب أذواقهم ومشاربهم وأوضاعهم. وهذا يطابق ما وصفناه سابقاً بالشخصي أو الذاتي.

أما المعنى الثالث، وهو أكثر المعاني التي دار حولها الجدل فهو التحسين والتقبيح بناء على رد فعل العقلاء عليه، فما حسَّنه عموم العقلاء فهو حسن وما قبَّحوه فهو قبيح.

وينقسم المعنى الثالث بدوره إلى ثلاثة أقسام نذكر اثنين منها:

فالقسم الأول هو الحسن والقبح الذاتي، وهو يتعلق عادة بالقيم المطلقة مثل قيمة العدل والظلم والإنصاف والحيف والعلم والجهل إلخ.. ففعل العدل والعلم والإنصاف -من دون تقييد- لا يكون إلَّا حسناً وفعل الظلم والحيف والجهل -من دون تقييد- لا يكون إلا قبيحاً. هذه الأفعال تأخذ قيمتها مباشرة ومن دون واسطة.

القسم الثاني هو الحسن والقبح العرضي، ويتعلق بالأفعال التي تؤدي -عادة- إلى تحقيق القيمة السابقة الذكر. فالفعل الذي يؤدي بطبعه إلى العدل يعتبر حسناً، حتى لو كان يؤدي أحياناً إلى الظلم القبيح، مثل مساعدة الأخ الذي يعتبر من أنواع التعاطف الحسن، مع أنه يؤدي أحياناً إلى ظلم الغير وهو في هذه الحالة قبيح. لكن المعول على الوصف العام لا الاستثناءات. فهذه الأفعال تأخذ قيمتها إذا تركت على طبعها الأولي[29]. ويشبه هذا التقسيم تقسيم أرسطو للأفعال إلى فعل هو في ذاته غاية praxis وفعل هو وسيلة لنيل غاية منفصلة عنه poiesis، فالأول قيمته فيه، والثاني قيمته فيما يؤدي إليه[30]. ويميل معظم الأصوليين إلى القول بأن «الحسن والقبح صفتان واقعيتان يدركهما العقل، كما يدرك سائر الصفات والأمور الواقعية»[31]، لكنهم ربما اختلفوا في إمكانية تأسيس حكم شرعي على أساس الكشف العقلي.

أهلية الفرد لإدراك الحقيقة

منذ قديم الزمان دار نقاش ولازال محتدماً حول قدرة الفرد على اكتشاف الحقيقة بحواسه ومداركه الخاصة إضافة إلى تجاربه الحياتية. موضع الإشكال هنا هو قدرة العقل البشري على كشف الحقيقة والحكم بناء عليها، وقدرته على التحرر من مسبقاته الذهنية والنظر بحياد في الحقائق الخارجية. ويميل جميع الفلاسفة المعاصرين تقريباً إلى قبول الفرضية التي جرى تطويرها على يد الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596 - 1650) ثم من بعده على يد فلاسفة بارزين مثل جون لوك (1632 - 1704) وتوماس ريد (1710 - 1796). تتلخص تلك الفرضية في أن البحث عن الحقيقة مسألة فردية بحتة. ذلك أن الفرد قادر -منطقيًّا- على أن يفكر بصورة مستقلة عن تراثه الماضي وعن تفكير الجماعة التي ينتمي إليها. صحيح أن تجربة الإنسان الثقافية، تربيته وبيئته الاجتماعية ودائرة المصالح التي يعيش ضمنها تضع حدوداً لما يفكر فيه وتؤثر في رؤيته إلى الأشياء من حوله، لكنه مع ذلك قادر على الانفصال عن ذلك التراث والتفكير في الأشياء بصورة منطقية وموضوعية. بل إنه سيكون أقدر على كشف الحقيقة إذا تحرر من القيود الثقافية لذلك التراث.

تستند هذه الرؤية إلى فرضية سابقة فحواها أن للحقيقة وجود موضوعي مستقل، بغض النظر عن قبول الناس أو رفضهم لها، وأنها قابلة للكشف من جانب أي إنسان يستعمل عقله، وأن العقل البشري قادر على كشف الحقيقة[32]. يمكن لجميع الناس أن يتفقوا على مفهوم واحد للحقيقة، لكن هذا الاتفاق ليس قيداً على الحقيقة ذاتها، فهناك دائماً فرصة لفردٍ ما كي يصل إلى مفهوم آخر أو يكشف وجهاً آخر للحقيقة مختلفاً عما اتفق عليه الجميع من قبل. يتمتع الأفراد بقابليات ذهنية متفاوتة ويعيشون تجارب حياتية متمايزة. كل تجربة تمثل مصدراً محتملاً للمعرفة وقد تقود إلى كشف حقيقة جديدة أو وجهاً جديداً لحقيقة معروفة. القبول بفردية التجربة يعني بالضرورة القبول بأن كشف الحقيقة هو عمل فردي، وأن ما يتوصل إليه الفرد يتمتع بالدرجة نفسها من الثقة والاعتمادية التي يتوصل إليها الآخرون كأفراد أو كمجموع. صحيح أن استنتاجات الفرد وخلاصة تجاربه ليست ملزمة للغير، لكنها -بالنسبة إليه على الأقل- تعتبر موثوقة وصالحة كأساس للمعرفة. بعبارة أخرى فإن للفرد الحق في اتخاذ جهده العقلي الخاص وتجربته الشخصية كأساس للمعرفة والالتزام وله الحق في وضع استنتاجاته في مصاف الحقائق. مثل هذه الرؤية تتوقف بطبيعة الحال على الإقرار بقيمة الإنسان في ذاته وقيمة جهده الذهني وقدرته على أن يكون مستقلاً، متمايزاً عن غيره.

بعبارة أخرى فإن الحقائق موجودة في الواقع الخارجي وإن عقل الإنسان قادر على كشفها، لكن هذا الكشف قد لا يكون كاملاً بالضرورة، فثمة وجوه عديدة أو أوضاع مختلفة للحقيقة الواحدة، فقد يكون الكشف كاملاً وقد يكون جزئيًّا وقد يكون نسبيًّا. ومن هنا فإن ما يكشفه عقل واحد لا يصح أن يعتبر نهاية العلم. ثمة على الدوام فرص لكشف جوانب أخرى من الحقيقة ذاتها التي كانت موضوعاً للكشف الأول.

يتمايز الإسلاميون عن نظرائهم الغربيين في اعتبار الوحي مصدراً للمعرفة. لكن الطرفين يتفقان على اعتبار العقل مصدراً صحيحاً ومقبولاً للمعرفة وأنه قادر على كشف الحقيقة. وذهب مكارم الشيرازي إلى أن التكيلف الإلهي للإنسان بالطاعة والعبادة ليس ممكناً من دون هذا الاعتبار[33]. لقد منح الخالق سبحانه للإنسان قدرة التشخيص والعقل والضمير اليقظ كي يميز بين الفجور والتقوى، ونقل عن بعض المفسرين اتخاذهم الآية المباركة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} دليلاً على موضوعية الحقيقة، أو ما يطلقون عليه ذاتية الحسن والقبح في الأفعال، وقدرة العقل على كشفهما[34].

يرد على هذه الرؤية أنها تقود إلى المساواة بين الصحيح والخطأ، فإذا توصل شخصان إلى نتيجتين مختلفتين في مسألة واحدة، فلا بد أن أحدهما خاطئ، والقول بأن هذه النتيجة تحمل قيمة الأولى نفسها معناه أن الصواب والخطأ في منزلة واحدة. والجواب عليه أن القبول بموضوعية الحقيقة ووجودها الخارجي المنفصل عن فهم الناس لها أو تصورهم عنها يقتضي بالضرورة اعتبار الفهم الفردي نسبيًّا أو مشروطاً أو مؤقتاً أو جزئيًّا. ولهذا السبب نجد العلماء في كل فن يتوصلون إلى آراء ومواقف تخالف غيرهم الذين بحثوا ذات المسألة. وهذه طبيعة المعرفة، فكل عقل ينظر للموضوع الواحد من زاوية مختلفة أو بتأثير عوامل مختلفة فيصل إلى تصور مخالف لسابقه. هذا لا يعيب الحقيقة ولا يعيب الفهم المتحصل عنها. ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن كل فهم شخصي لا يصح إلزام الغير به إلا بدليل ثانوي، مثل موافقة ذلك الغير على اتِّباع الرأي المطروح أو تبنيه من جانب جهات لها صلاحية الإلزام مثل الدين أو القانون أو توافق المجتمع أو ما أشبه. بعبارة موجزة فإن الحقيقة لها وجود موضوعي خارجي لكن فهمها وتصورها يكون في الغالب شخصيًّا أو نسبيًّا.

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

حسناً.. إذا كان الفرد قادراً -بعقله- على كشف الحقيقة، أي كشف المصالح والمفاسد الكامنة في الأفعال، فهل لهذا الكشف قيمة دينية؟. وهل يصح اعتباره أساساً لإلزامات شرعية؟. بحثت هذه المسألة عند الأصوليين تحت عنوان الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وذهب أكثرهم إلى أن حكم الشرع تابع لحكم العقل. فكل فعل اتَّفق العقلاء على حسنه فلا بد أن يكون رأيهم هذا مطابقاً لحكم الشارع لأن الخالق سبحانه وتعالى هو العقل الكلي وخالق العقل وهو لا يحكم إلا بما اتفقت عليه العقول. وحسب المظفر فإن أمر الشارع في الموارد التي تصنف كمستقلات عقلية (أي بدَهِيَّات عند العقلاء وأبرزها التحسين والتقبيح العقليين) هو في مقام تأكيد حكم العقل لا تأسيس قيمة جديدة[35]. ويستدلون على الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل بأن من يفترض ضرورة حكم العقلاء بحسن الإحسان وقبح الظلم مثلاً، فلا بد أن يتوصل إلى مدح المحسن وذم الظالم. ولا معنى للمدح والذم الشرعي غير الثواب والعقاب وهذا هو حكم الشارع.

ونقل السبحاني رأياً متحفظاً لكنه جدير بالتأمل للسيد صدر الدين الرضوي القمي (ت 1747م) الذي يرى الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، لكنه يقول بأن «المكشوف عن طريق الملازمة لا يسمى حكماً شرعيًّا، ولا يترتب عليه الثواب والعقاب... إذا أدركنا العلة التامة لحكم العقل بوجوب شيء أو حرمته مثلاً، يصح أن يحكم عليه بأن الشارع حكم أيضاً مثل حكم العقل عليه، ولكن لما فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا لا يترتب عليه الثواب وإن كان يترتب على نفس الفعل شيء من قرب وبعد، فلا يكون واجباً أو حراماً شرعيًّا»[36]. ويبدو أن هذا هو أيضاً رأي الحكيم الذي يميز بين المدح والذم العقلي وبين الثواب والعقاب الشرعي، ويميل إلى ربط الثاني بوصول البيان الشرعي[37].

يجب الانتباه هنا إلى أن الفقهاء لا يرون تطبيق المعادلة السابقة في الحالة المعكوسة. بعبارة أخرى فإن ما حكم به العقل حكم به الشرع، لكن قد يحكم الشرع بشيء لم يحكم به العقل بالنظر إلى حكمة أو مصلحة لم يدركها العقلاء في وقت معين أو في سائر الأوقات. والمفهوم أن هذا لا يبطل دعوى التلازم الذي ذكرناه آنفاً.

أحد الإشكالات التي قد ترد على التفسير السابق هو القول بأن المساواة بين حكم العقل وحكم الشرع، مع احتمال وقوع الخطأ أو النقص من العقل هو بمثابة تجويز الخطأ والعيب في الإلزامات الشرعية، والأجدر بالشارع أن يعصم شرعه من أسباب النقص والعيب. والجواب عنه أن افتراض الخطأ والعيب لا يتعلق بالشرع بل بفهم الناس وإدراكهم لحقيقة خطاب الشارع. وطلب الكمال من الناس تكليف بما لا يطاق فالكمال لله سبحانه دون الخلق. ثم إن غاية ما يتوقعه المكلف عند أدائه للتكليف الشرعي هو العذر عند الله سبحانه وليس إنجاز التكليف بالمعنى الدقيق، ويتحقق العذر عند التزام المكلف بأداء التكليف بحسب استطاعته المادية والذهنية وعقده النية على التقرب بالعمل إلى الله سبحانه. فإن كان التكليف على الوجه المراد من قبل الشارع فبها وإن لم يكن فهو معذور أمام ربه لأنه بذل المستطاع لأداء التكليف ونيل الرضا. وهذا بالمناسبة هو أحد الاحتجاجات التي يوردها الأصوليون لتجويز اتِّباع المجتهد مع احتمال خطئه في استنباط الحكم، وفيه يقول الحكيم: إن العقل يحكم «بلزوم قبول اعتذار الإنسان إذا عمل على وفق الحجة الملزمة وأخطأ الواقع، وليس للآمر معاقبته على ذلك» ما دام قد اتبع الطريق الذي ألزمه بالسير فيه، أو كان ملزماً بحكم العقل بالسير عليه[38].

يتضح إذن أن الرأي السائد بين الأصوليين هو اعتبار المصالح والمفاسد أموراً موضوعية قابلة للكشف بالعقل، وأن هذا الكشف يعتبر تمهيداً صحيحاً لمنح الفعل المتناسب معه قيمة دينية أو دنيوية. ونحن مع هذا المذهب في مبرراته، لكنا نرى أن الحكم المستنبط من هذا الطريق ذو قيمة أخلاقية دنيوية، لا يترتب على خلافه عقاب رباني أخروي. لكن ربما يترتب عليها ثواب تحت عنوان آخر مثل التعاون على الخير وحفظ الجماعة والنظام.. إلخ.

خلاصة

يمثل العقد الاجتماعي أساساً فلسفيًّا للرابطة الاجتماعية والنظام السياسي في الدولة الحديثة. وهي نظرية مطروحة على المفكرين المسلمين كأحد الخيارات الممكنة لتطوير نظرية في السلطة والنظام السياسي تلائم القيم الدينية من جهة وتلبي حاجات المسلمين في عصرهم الحاضر من جهة أخرى. وقد اتبعنا في النقاش طريقة تقوم على تفكيك الفكرة وتفصيل مكوناتها، ثم مقارنتها مع التعاليم الإسلامية الواردة في السياق الموضوعي نفسه. العقد الاجتماعي هو مصدر مشروعية السلطة وحقها في إدارة الشأن العام. وقد بدا البحث بشرح لمفهوم «الشأن العام» ثم ناقش السؤال الافتراضي عن حق أفراد المجتمع لإنشاء توافق أو الدخول في توافق حول إدارة الأمور المشتركة في مجتمعهم. وارجع هذا الحق إلى ملكية الإنسان لنفسه وكونه وليًّا منفرداً عليها وعلى أملاكه. كما ناقش حق المجتمع كوحدة واحدة وأرجعه إلى ملكية الجماعة للموارد والأموال العامة التي تشكل الموضوع الأساس للعلاقة بين أفراد الجماعة وعمل السلطة السياسية. وعرضنا في هذا السياق عدداً من النظريات الفقهية لفقهاء بارزين.

ثم ناقشنا أهلية المجتمع لكشف المصالح والمفاسد وسلامة التعويل على العقل الفردي والجمعي في الحكم على الأفعال رجوعاً إلى ذلك الكشف، والقيمة الدينية لهذا الحكم، وقد عرضنا في هذا الصدد نقاشاً عن موضوعية الحقيقة وكونها قابلة للإدراك العقلي، ثم لخصنا النقاش الدائر بين الأصوليين المسلمين في مسألة الحسن والقبح العقليين، التي تقود إلى القول بصحة التعويل على الحكم العقلي في إنشاء الأحكام، لا سيما تلك الخاصة بالأمور التي لم يرد فيها نص محدد، والتي بحثها الأصوليون تحت عنوان الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

ويظهر مما سبق أن فكرة العقد الاجتماعي وإن كانت قد ظهرت وتطورت في الإطار المعرفي الغربي، بل وجاءت في سياق التباعد بين الفلسفة السياسية وبين الديانة المسيحية في القرن السابع عشر وما بعده، إلا أنها قدمت -كمفهوم وكفلسفة عمل- أداة مناسبة لتصحيح العلاقة بين المجتمع والدولة وإعادة بناء النظام السياسي على أساس يجعل الحكومة خادماً للمجتمع لا سيداً له أو قاهراً فوقه. ويتضح من البحث أنه يمكن تجريد المفهوم من الشروط التاريخية التي ظهر فيها والتعامل معه كنظرية قائمة بذاتها. كما يتضح أن هناك فرصة لتفكيك النظرية وإعادة تركيبها ضمن الشروط الثقافية الخاصة بمجتمع المسلمين. وأنه يمكن مقارنتها بالعديد من المقولات الراسخة في التراث الفقهي والفلسفي الإسلامي.

 

 



[1] كاتب وباحث سعودي.

 

[2] Salvador de Madariaga, The Heresy of State Finality, in Waldo R. Browne, Waldo R. Browne: Leviathan in Crisis, Viking Press, New York, 1946. pp 135-140, p. 138.

 

[3] Max Weber, The Vocation Lectures, trans: D. Owen, T. Strong, R. Livingstone; Hackett, 2004. P. 33.

 

[4] جعفر السبحاني: معالم الحكومة الإسلامية، دار الأضواء، بيروت 1984، ص 212.

 

[5] مرتضى الانصاري: المكاسب 1/412. لتفاصيل أوفى انظر توفيق السيف: نظرية السلطة في الفقه الشيعي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 288.

 

[6] انظر مقدمة د. محمود البستاني لرسالة المحقق الكركي: قاطعة اللجاج. في الكركي وآخرون: الخراجيات، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ص 24.

 

[7] يوسف البحراني: الحدائق الناضرة، تحقيق محمد تقي الأيرواني، ط3، دار الأضواء بيروت 1993، 18/ 256.

 

[8] الأردبيلي: مجمع الفائدة والبرهان، صححه آقا مجتبى العراقي وآخرون، جامعة المدرسين بالحوزة العلمية، قم 1403، 7/471.

 

[9] علي الكركي: قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج، في الكركي وآخرون: الخراجيات 55.

 

[10] ناصر مكارم الشيرازي: الأمثل في تفسير الكتاب المنزل 5/325 في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ..} ط1 مؤسسة البعثة، بيروت 1413.

 

[11] محمد حسن النجفي: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1988، 38/15.

 

[12] النجفي: المصدر السابق 38/34.

 

[13] علاء الدين المتقي الهندي: كنز العمال، تحقيق صفوة السقا وبكري حياني، مؤسسة الرسالة، بيروت 1989. 4/82 ح 9635.

ونقله النوري بلفظ (الناس شركاء ..) وهو يفيد ما هو أعم من المسلمين. النوري: مستدرك الوسائل 17/114 ح 20914 والحديث ضعيف لوجود عبد الله بن خراش في السند. ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني: سنن ابن ماجة 2/826 ح 2472 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي 1975، لكن الشوكاني يرى أن أحاديث الباب تنهض بمجموعها فتدل على الاشتراك في الأمور الثلاثة مطلقاً، ولا يخرج شيء من ذلك إلا بدليل يخصص به عمومها . العظيم أبادي، محمد شمس الحق: عون المعبود شرح سنن أبي داوود ج 18 حديث 3547 . أيضاً الشهيد الأول: الدروس 294 كتاب المشتركات.

 

[14] لقمان 20.

 

[15] الحديد 7.

 

[16] محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1997، 4/176.

 

[17] البقرة 188.

 

[18] الطباطبائي: المصدر السابق 2/53.

 

[19] الطباطبائي: المصدر السابق 4/177.

 

[20] جعفر كاشف الغطاء: كشف الغطاء، نشر مهدوي، أصفهان 394.

 

[21] أبو الصلاح الحلبي: الكافي في الفقه، تحقيق محمد رضا أستادي، مكتبة امير المؤمنين العامة، أصفهان 1403، ص261.

 

[22] محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن، ط2 مؤسسة اهل البيت، 1/269.

 

[23] محمد هادي معرفت: ولاية الفقيه أبعادها وحدودها، الفصل الثالث: طريقة انتخاب الرئيس. ن. ا.

http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/feqh/wolaya/maktabah/book/Alfikeralislami/013/7.htm

 

[24] علي سادات فخر: العوامل المؤثرة في تطور الفقه، في كتاب الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة، مجموعة مؤلفين، معهد الرسول الأكرم، 2003. ص 201.

 

[25] النجفي: المصدر السابق 22/273.

 

[26] محمد حسين الأصفهاني: حاشية المكاسب، قم، 1/216.

 

[27] مصباح يزدي: نظريه سياسي إسلام (قم 2001) ص 150.

 

[28] للمزيد انظر محمد رضا المظفر: أصول الفقه 1/207 . ايضا: جعفرالسبحاني: رسالة في التحسين والتقبيح العقليين، ص 38.

 

[29] جعفر السبحاني: التحسين والتقبيح العقليان، ص 11.

 

[30] للمزيد حول مفهوم الفعل عند ارسطو، انظر:

Freeland, S., ‘Aristotelian Actions’, Noûs, vol.19, no. 3. (Sep., 1985), 397-414, p. 397.

لمطالعة نقدية في ذلك المفهوم، انظر:

Ackrill, J.,‘Aristotle on Action’, Mind, New Series, vol. 87, issue 348, (Oct., 1987) pp. 595-601.

 

[31] محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول 2/248.

 

[32] Daniel Shanahan, Toward a Genealogy of Individualism, 1992, p. 18.

 

[33] ناصر مكارم الشيرازي: الأمثل 20/219.

 

[34] ناصر مكارم الشيرازي: المصدر السابق 20/237.

 

[35] محمد رضا المظفر: أصول الفقه 1/218.

 

[36] السبحاني، المصدر السابق ص 129، عن الرضوي القمي: مطارح الأنظار 263.

 

[37] الحكيم: الأصول العامة، 1/271.

 

[38] الحكيم: المصدر السابق، 1/23.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة