تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإسلام والعقلانية

نجلاء مكاوي

 

[1]

الإسلام والعقلانية

جمال البنا

القاهرة، دار الفكر الإسلامي

عدد الصفحات: 429 صفحة من القطع الوسط

 

خروجاً وتفرداً عن معظم ما تحويه مكتبتنا الإسلامية من المؤلفات الكلاسيكية في الفكر الإسلامي، والدين وقواعده، ودوره في حياتنا، جاء كتاب «الإسلام والعقلانية» للكاتب والمفكر جمال البنا، الذي صدّر لنا في مقدمته الركيزة الأساسية التي بني عليها موضوع الكتاب، وهي الاختلاف عن كل ما كتب في علاقة الإسلام بالعقل، وأثر وقيمة الدين في الحياة الحديثة، ومحاولة إخراجه من عباءة الرمز الخاص، والممثل الأزلي للتراث، ولعلاقة الإنسان بربه فقط، دون إفراد موقع رئيسي له في أجندة المواجهة الإنسانية مع مشكلات الحياة الحديثة، واعتباره وصفة لعلاج أمراض المجتمع الحديث البورجوازي أو الاشتراكي. من هذا المنطلق كتب جمال البنا عن النظرة العقلانية للإسلام، وبدأ كتابه الذي يتكون من مقدمة، وثلاثة أبواب بها عشرة فصول، ففي المقدمة دعا بدايةً إلى رؤية جديدة للدين عامة والإسلام خاصة، وموقفه من العقلانية، وتأييده للنظر العقلي، واستشهد البنا «ببطل أبطال التنوير» الدكتور طه حسين في طرحه لما سمي بالمذهب الثالث كمذهب وسطي بين الرأسمالية والشيوعية؛ للمواءمة بين الحرية والعدل من جهة، والدين من جهة أخرى، ولاتخاذ الدين أساساً لحياة إنسانية جديدة ترتفع فوق المادة، وترقى إلى المثل العليا، وفي المقدمة يستعرض البنا الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها كتابه، وكيف أنه يفند في الكتاب دعوى مخالفة الإسلام للعقلانية، وإبعاده عن كل شؤون الدنيا، وقصره على علاقة العبد بالرب؛ ولذلك فالكتاب أيضاً يعالج الموقف بين النقل والعقل، وأثر القلوب (أوعية الإيمان) على العقلانية، ومجابهة القضايا الأربع التي تطرحها العقلانية على الأديان وهي: وجود الله تعالى وتنزيهه، وخلود الروح بعد الموت، والحساب: ثواباً أو عقاباً في جنة أو نار، والنبوَّات ودور الوحي فيها. ويؤكد البنا في مقدمته أن الكتاب ناقش هذه القضايا مناقشة مستفيضة دون أن يسمح للجزئيات بأن تحجب الكليات، وأنه عالج الموضوع بأسلوب يختلف تماماً عن كل ما كُتب فيه، وهو ما سيتضح من خلال عرض أبواب الكتاب وفصوله. وكيفية تناول البنا لرؤيته وفكره في هذا الموضوع، شديد الأهمية والحساسية.

* الإسلام والخط الفاصل

في الفصل الأول من الباب الأول، وتحت عنوان «الإسلام يؤذن بالعقل» حاول البنا التأكيد على وجود خط رئيسي يفصل بين ما قبل الإسلام وما بعد الإسلام، ومقارنة هذا الخط الفاصل في عالم الأديان بالخطوط الفاصلة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وأعطى عدة أمثلة على ذلك، كالخط الذي آذن بحضارة المصريين القدماء؛ فالخط الذي بدأ الحضارة اليونانية؛ فظهور روما والحضارة الرومانية، ووضع بذرة الحضارة الأوروبية، وهدف البنا إلى توضيح فكرة أن هذا الخط الفاصل دائماً ما يؤذن بنقله حضارية تقدم إضافة للبشرية، وفي علم الأديان هناك خط فاصل يميز الدين قبل الإسلام عنه بعد الإسلام؛ فقبل الإسلام كانت الآلهة محلية ومجسمة، وكانت صورة الله ترتبط بخصائص المحلية، ففي مصر، كان الثور، والقطط، وقرص الشمس، وفي اليونان الآلهة كالبشر، ولكن لديهم قدرات الآلهة، واليهودية أيضاً تأثرت بطابع المحلية؛ فجعلت إلهها إله بني إسرائيل خاصًّا دون الأمم، أما المسيحية، فلأنها هاجرت من مهبط رسالتها؛ فقد خرجت من نطاق المحلية.

ويرى البنا أن السمة الأهم للأديان قبل الإسلام اعتمادها على المعجزات في اكتساب إيمان المؤمنين، وعدم اقتصار هذه المعجزات على رسول الديانة، وامتدادها إلى أتباعه كالحواريين المسيحيين، فكانت المعجزات جزءاً من الدين وأساساً لمصداقيته والإيمان به. أيضاً أشار البنا إلى اقتران الأديان بالمؤسسة الدينية، كالمعبد الفرعوني وكهنته، والهيكل اليهودي وأحباره، والكنيسة المسيحية وإكليروسها، واتفاق ذلك مع مصلحة البعض مثل الكهنة الذين أعطوا صفة الوساطة بين الناس والله، وذلك لما يخصص لها من أموال، الأمر الذي جعل الملوك والحكام يعقدوا الصفقات مع الكهان والإكليروس للهيمنة على الناس. كل ذلك باعد بين الدين والعقل، وجعل صورة الله لاهوتية معقدة؛ فكانت هذه المقومات مكونات أصيلة للدين جعلت المفكرين والفلاسفة يصدرون عليه أحكاماً قاسية.

لهذا كان الإسلام ثورة جذرية في عالم الأديان قضت على المقومات السابق ذكرها؛ فجاء الإسلام ليدعو الناس بقوة «الكتاب»، وكان الناس ألفوا أن يأتي كل دين بمعجزة تحملهم على الإيمان؛ فطالبوا الرسول بهذه المعجزة، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}[2].

لكن القرآن كان هو المعجزة، يقرأ على الناس فيؤمنون؛ فأنقذ الإسلام الإيمان من قبضة المعجزات، وبعد أن كانت المعجزات هي التي تصنع الإيمان، أصبح الإيمان هو الذي يصنع المعجزات، وأصبح النقل يخضع للعقل بعد أن كان الثابت في الأديان هو خضوع العقل للنقل، وفي لحظة نزول جبريل برسالة (اقرأ) بدأ التلاقي بين الإسلام والفكر.

جاء الإسلام ليحل القضية الصعبة المتعلقة بصورة الله تعالى التي يتقبلها العقل، فصورها القرآن دون تعسف أو تكلف؛ لتتشربها النفوس، وتطمئن إليها، وتستلهم منها معاني الحرية والرحمة والحق والجمال. وبذلك يعرض صورة الله تعالى كأفضل ما تصوره الفلاسفة في المثل الأعلى، بالإضافة إلى الحياة والقدرة والإرادة والكمال، وفي الوقت ذاته لم يجعله مجرد معلومة تفهم فهماً يُقضى عليه؛ فأوجد القدر المطلوب من المعلوم، والقدر المطلوب من المجهول الذي لا يناقض العقل، ويبقي على روح الاستشراف والاستطلاع والشوق.

ينتقل البنا إلى الخصوصية الثانية للإسلام، وهي عدم قيامه على مؤسسة، وجعله العلاقة بين الفرد والله دون واسطة، ومحاربته سلطة الأحبار والرهبان، فكان الإسلام في حقيقته هدماً شاملاً لفكرة المؤسسة الدينية، كما أن المسجد يختلف تماماً عن الكنيسة بكل تقاليدها، وطبيعة الدور الذي يلعبه رجالها، واختلافه أيضاً من حيث التركيب البنائي جعل الصلاة فيه تميزه، وتختلف اختلافاً كليًّا عن الأديان الأخرى.

خلص الكاتب في نهاية الفصل إلى أن الإسلام قضى على مقومات الأديان السابقة عليه، تلك المقومات التي قاومت الفكر والعقل، فكان الإسلام ديناً مفتوحاً لا يرفض فكراً ولا يرفضه فكر، كان نقلة من الظلمات إلى النور (من الجهل إلى العلم).

طرح الكاتب في نهاية الفصل سؤالاً على جانب كبير من الأهمية، وتولى الإجابة عنه، وهو: لماذا كان الإسلام إيذاناً بالعقل، ولم يرجع هذا الإيذان للفلسفة اليونانية في عهد سقراط وأفلاطون وأرسطو؟ وجاءت الإجابة معبرة عن رؤية الكاتب في قضيته المطروحة في الكتاب، وهي أن الإسلام فقط، وليس غيره هو من آذن بالعقل للبشرية كلها، والعقلانية الإسلامية هي التي تقبلت البشرية كلها، وليست عقلانية أثينا أو العقلانية الأوروبية.

* الكنيسة والتعارض بين العقل والنقل

قام الكاتب في بداية فصله الثاني «بين العقل والنقل» بتوضيح الأرضية التاريخية التي أسس عليها التعارض بين العقل والنقل، معتبراً هذا التعارض ميراثاً كنسيًّا أوروبيًّا، وفكرة من مسلمات الفكر الأوروبي لم يعد من السهل تغييرها، أو تقبل ما يخالفها، فظهرت الكنيسة كممثل وحيد للمسيحيين محتكرة المهنة الدينية، وممارسة للاضطهاد ضد كل ملحد، وإزاء كل حركة عقلية.

سرد الكاتب بعض الأمثلة على اضطهاد الكنيسة للمفكرين، والفلاسفة، والعلماء، وجمعيات البحث العلمي، والأكاديميات التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي، في باريس، ولندن، ونابولي، وفلورنسا، ومراقبة الكنيسة على المطبوعات، وفرض العقوبات على من يطبع شيئاً دون إذن رسمي. ثم جاء تدخل آباء الكنيسة في القضايا التي أثيرت مع ظهور الأبحاث الحديثة في علم الفلك، مثل تكوين الله للأرض، فكان موقف الكنيسة منها أبرز أشكال اضطهاد العلم والعقل، وانتقلت هذه الفكرة الكنسية الأوروبية في أصلها إلى كل الأديان كقاعدة مقررة، نقلها دون وعي المفكرون الإسلاميون الذين استلهموا الفكر الأوروبي على علاته.

الفكر الإسلامي والعقل

انتقل جمال البنا للإسلام ومفكريه بعد إبرازه دور الكنيسة الأوروبية في قضية العقل والنقل؛ فأشار بدايةً للفقهاء المسلمين الأوائل، وعدم حساسيتهم بالنسبة لمضمون العقل، وتأكيد بعضهم على أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، واتفاقهم على أن الاعتقاد بالله متقدم على الاعتقاد بالنبوات، أي أنه لابد من الإيمان بوجود الله أولاً، ثم الإيمان بالرسل والكتب المنزلة، وأخذ الكاتب في رصد آراء الفلاسفة والمفكرين المسلمين أمثال محمد عبده، والشيخ مصطفى المراغي، وابن تيمية في موضوع التعارض بين العقل والنقل، وتوقف البنا أمام المذهب الزيدي الذي وضع أصوله الإمام زيد بن علي «زين العابدين» بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ فأوضح أن هذا المذهب هو أشد المذاهب، وأكثرها اعترافاً بمنزلة العقل، وفسر قضية العقل المقدمة، كما جاءت في المذهب الزيدي من أن العقل قدم على الكتاب، لأن الكتاب والرسول يعرفان بالعقل بينما لا يعرف العقل بهما، حتى أصبح تقديم العقل نهج الزيدية في أصول الفقه، على خلاف معظم المذاهب، بما فيها المعتزلة، والأشاعرة الذين رجحوا العقل، إلا أنهم لم يعتبروه مصدراً للتشريع، لذلك فالمذهب الزيدي هو أكثر المذاهب الإسلامية صراحةً في تقديم العقل على النقل، حتى لو كان هذا النقل هو القرآن الكريم نفسه.

وفق الكاتب في عرض الموضوع من الوجهة الأخرى، عندما انتقد الفلاسفة المسلمين الذين أخطؤوا في استخدام تشجيع الإسلام للفكر العلمي، وإعمال العقل، وساعدوا على تسلل الأسلوب الفلسفي المنطقي إلى «عقر دار العقيدة»، في محاولة منهم للجمع بين النص ومذهب أهل العقل؛ فقال البنا: إن تجربة الفكر الإسلامي في هذا المجال لم تكن موفقة، وإن النقل فيما يتعلق بصفات الله تعالى وذاته أجدى كثيراً من العقل، الذي أفرز علماً جديداً كان خلاصة أبحاث العلماء المسلمين، وهو علم الكلام، القائم على أصول الفلسفة اليونانية، واستشهد البنا بعرض الدكتور محمد البهي لتفسير ابن سينا لبعض آيات القرآن الكريم، ورأيه في اتخاذ المفكرين المسلمين الفلسفة، وخاصة الفلسفة اليونانية، دليلاً على وجود الله.

تطرق الكاتب بعد ذلك لقضية الموازنة بين المتن والسند، والموازنة بين التقليد والاجتهاد؛ فأوضح أن التقليد ساد طوال عشرة قرون مستمرة، وأغلق باب الاجتهاد، ولم توجد أجهزة، ووسائل تنظيمية في المجتمع العربي الإسلامي؛ فاستقر الأمر على التقليد، وكانت نتيجة إغلاق باب الاجتهاد هي إغلاق باب العقل، والأخذ بأقوال الشيوخ، وإيثار أقوال الأجداد، والكهنة، والمتكسبين بالدين.

اختتم الكاتب الحديث عن العقل والنقل بأن العقل ليس وحده هو الأداة الحاكمة في مجال الدين، وفي القضايا التي لا يستطيع العقل أن يثبتها بوسائله، ويعجز أمامها، لا يعني الاستسلام لمعطيات تناقض أصوله، لأن الاتفاق على العقل أو على الأقل عدم مخالفته هو أصل لا يمكن التنازل عنه. وبعقلانية شديدة، أنكر الكاتب على العقل إنكاره لقضايا مثل وجود الله، والبعث، والحساب، والعقاب؛ لأنها لا تتناقض مع أصول العقل، بل إنها تتفق مع أفضلية مبدأ الوجود على العدم، كما أكد الكاتب أنه لا يجوز للعقلانية الافتيات على الدين، أو رفض الوحي لمجرد أنها تعجز عن التدليل عليه بقوة وسائلها الخاصة، وأيضاً لا يجوز للدين أن يفتات على العقل بأن يفرض وقائع تتناقض مع أصول العقل والعلم.

* القلب والعقل

تحت عنوان «أثر القلب على العقل»، جاء الفصل الثالث، وفي بدايته عرض لآيات قرآنية تستخدم كلمة «القلب» كأداة للفكر والفقه، وكأوعية للإيمان والتقوى والسكينة، ورفض الكاتب تفسير بعض العلماء لكلمة القلب في القرآن بأنها تعني العقل، مؤكداً أن القرآن لا يستخدم الكلمات اعتباطاً، وموضحاً تفسيره الخاص للكلمة في القرآن دلالةً على العاطفة التي تختلف عن العقل، ولكنها مكملة له؛ فالإنسان يستشعر ويتجاوب بحكم وجدانه أولاً، ثم يأتي دور العقل لكي يقر بعض المشاعر، ويرفض بعضها. وفي هذا السياق استخدم الكاتب تشبيهاً بليغاً اتسم بلغة أدبية رفيعة فقال: «إن الإنسان أشبه بقارب، القلب منه هو الشراع، ما أن امتلأ بالعواطف والأحاسيس، حتى ينتفخ ويندفع القارب على صفحة الماء بقوة وسرعة، أو بهدوء واتزان طبقاً لدرجة انفعال القلب بالعواطف، والعقل هو «الدفة» في هذا القارب التي تحول دون أن يتجه نحو الصخور، ويتحطم عليها، أو يتيه وسط خضمّ الماء دون أن يهتدي إلى شاطئ النجاة».

استعرض الكاتب بأسلوب شيق رؤى بعض علماء الغرب مثل العالم الألماني «ماكس بلانك» والمفكر البريطاني C.E.Joad عن علاقة القلب بالعقل والعلم والمعرفة، وعدم وجود تعارض بين المشاعر والملكات والحدس، وبين العقل، ثم استشهد بالقرآن الكريم الذي خص القلوب أكثر من العقول بالجانب الإيماني في عملية الفكر، وأشار للقلوب كأوعية للإيمان أو الكفر، الخير أو الشر، كما أن الله أنزل الأديان على القلوب ووكل حملها إلى الأنبياء، وليس الفلاسفة، بالإضافة لتأكيد هذا المعنى في كثير من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم). وخلص البنا من ذلك إلى أن إشارة القرآن للقلوب، ودفعها للإسهام في عملية الفكر والفقه يعطي الفكر دفعة الإيمان والرسالية؛ ليكفل له البقاء والاستمرارية، كما أن القلوب مصادر للفنون والآداب التي تثري الحياة منبثقة عن (فقه القلب).

* الفكر والإيمان

عن مقومات العقلانية الإسلامية تحدث الكاتب في الباب الثاني، بادئاً الفصل الرابع بأول هذه المقومات وهو: «إعمال الفكر سبيل الإيمان»، وأخذ في سرد الآيات القرآنية التي تدعو للتفكير والتدبر؛ قاصداً توضيح إلحاح القرآن على اللجوء للعقل، بل والعلم، وإبراز أهميته وقداسته. ودلل الكاتب بالآيات القرآنية على أن القرآن لم ير في الشك نقيضاً لليقين، ولكن مرحلة نحوه، إلا أنه فرق بين الشك الذي يستهدف الوصول للحقيقة، وتشكيك هدفه هدم الإيمان. ويتفق مع جعل الفكر والعلم طريق الإيمان، أن يكون الأنبياء والرسل معلمين يتلون الكتاب على الناس، ويعلمونهم ما لا يعلمون، ويستخدمون كافة الوسائل ويعتمدون على العقل والمنطق السليم؛ لبيان وشرح وإيضاح ما كُلفوا به من الله عز وجل.

ثم ذهب الكاتب لإبراز أهم المداخل التي يسلكها القرآن، ويجعل بها التفكير طريق الإيمان، وهو اعتباره الخلق أكبر الأدلة على الخالق وقوته وكماله، وقد يسوق القرآن الخلق كمجرد ظاهرة أو آية تثير التفكير ضمناً، وقد ينبه إلى هذه الإثارة ويربط ما بينها وبين الخلق، وإن من المستحيل وجود هذه المخلوقات دون خالق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[3].

يستبعد القرآن العبثية، أي العشوائية والتخبط، ويؤكد الغائية، أي الإرادة والفكر والنظام والتسلسل المنطقي من وسيلة إلى غاية، وقيام النتائج على مقدمات، باختصار «العقل»، والشكل الكلي والأعظم والحي لهذا العقل يعود إلى الله تعالى، الذي خلق ونظم هذا الكون طبقاً للسنن التي وضعها، كما يستخدم القرآن الأمثال ليقرب الأفكار والمعاني للفهم بأشياء محسوسة.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[4].

يدعو القرآن لتوظيف الحواس؛ لاستثارة الفكر، ووجه الناس لاستخدام حواسهم؛ لاستشفاف الحقيقة، فهو خلقها لذلك، وليتوصلوا إلى درجة من الفهم والمعرفة، {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}[5].

أيضاً من القسمات التي عُني القرآن بإبرازها خلال استثارته للفكر، حرية الاعتقاد، وقد استنكر الكاتب عدم التجاوب مع هذه الفكرة، رغم صراحة القرآن وتشديده، وتكراره لها بعبارات قاطعة، فقال: إنها تخالف ما يدعو إليه أصحاب المصالح الذين نصبوا من أنفسهم قضاة على الناس، وحكاماً في شؤون إيمانهم، ونجحوا في إيجاد رأي عام يستبعد حرية الاعتقاد، التي أصبحت شيئاً يعاذ منه ويتعجب له.

* الموضوعية والسنن

تحدث الفصل الخامس عن المقوم الثاني من مقومات العقلانية الإسلامية، وهو الموضوعية والسنن، فقد عبر القرآن عن الموضوعية تعبيراً خاصًّا به، وهو «الحق»؛ فيدعو للحق، ويحرم كل صور الأنانية والذاتية، ويرى الكاتب أن تعبير الموضوعية فقير ومجرد أمام التعبير القرآني الحي القوي «الحق»، فقد حرص القرآن على الحقيقة، ولا يحس القارئ أية حساسية في خفايا النظم القرآني عند إشاراته إلى الأنبياء السابقين، والكتب السماوية؛ لأن القرآن من الله والله تعالى هو الذي أنزل كل الكتب المقدسة، وأرسل كل الأنبياء، فليست هناك حساسية، وإنما تكون الحساسية لو أن الإسلام كان من عند غير الله؛ إذن لنزع النزعة الذاتية، فثمة آيات قرآنية لا تنم عن التحيز أو الحساسية تجاه الأنبياء السابقين، ودعوة المسلمين لعدم التفريق بين أنبياء الله، وهو أمر لا يوجد في دين آخر، واختص به الإسلام لغلبة الموضوعية والحرص على الحقيقة.

أما بالنسبة للسنن فإن القرآن يبرز سنناً وضعها الله لتطوير المجتمع الإسلامي، وهي ثابتة لا تتغير، كما أنها بمثابة علامات ومؤشرات وقوانين يمكن للفكر الإسلامي أن يهتدي بها، ويستفيد منها دون أن يحاول تغييرها أو القضاء عليها، والسنن التي وضعها الله تعالى لهذا الكون؛ لكي يسير محكماً ومنظماً، ولكي تؤدي دورها وتتماسك مع غيرها، فإنها ذات أهمية خاصة في كتاب عن عقلانية الإسلام؛ لأنها بلغت الغاية من الإحكام الذي جعل كثيراً من كبار علماء الطبيعة يقفون مذهولين أمامها، ودفعت بعضهم لاعتناق الإسلام. إن لله قدرة وإرادة أبعد مما يمكن أن نفهم وأعظم من أن نحكم عليه، لأن كل منطقنا وعقلنا محكوم بقوانين الكوكب الأرضي، والأرض ليست إلا كوكباً صغيراً في المنظومة الشمسية، وإرادته عز وجل لا يمكن أن تقيد بمنطق بشري، فهو واضع السنن للأرض والكون والناس.

* العقلانية الإسلامية والتزام الخير والصلاح

المقوم الثالث من مقومات العقلانية الإسلامية، هو توخيها الخير والصلاح، وربطها بين التوصل إلى المعرفة، وحسن استخدامها بما لا يسبب ضرراً أو بسوء نية، وفي هذا السياق يناقش الكاتب فكرة حرية الفكر والقيود عليها، مؤكداً أن الإسلام لا يضع قيداً على الفكر لأنه سبيل الإيمان، وهو الذي يوضح الحق من الباطل، ولكنه يتعامل مع الفكر بالفكر نفسه، فيدع الفكر السليم يفند الفكر السقيم. ولعل الفارق بين الإسلام والمجتمعات العقلانية الأوروبية، هو أن الإسلام في توجيهه وسياسته، يعتمد على وازع القرآن أكثر مما يعتمد على وازع السلطان لضبط الأهواء، لكن العقلانية الأوروبية عجزت عن أن تلزم العقل الوقوف عند الخير، وعدم تجاوزه للشر، فانطلقت دون ضابط، وعاثت في الكون فساداً، فجميعنا يرى أن التقدم المذهل للعقل البشري في مجالات النفس البشرية بلغ مداه في تهديد المجتمع الإنساني، وكوكب الأرض وما عليه بالفساد والتدهور.

انتقد الكاتب دعاة الفصل بين السياسة والدين، والاقتصاد والدين مثل ميكافيللي، وآدم سميث، ومن خلفهم معتبراً أفكارهم سبباً رئيسيًّا في تعميق المفاهيم التي تعتبر الخير أو الطيبة في مجالي السياسة والاقتصاد نوعاً من السذاجة أو البلاهة، ورؤية دوائر الفكر الشيوعي للعاطفة على أنها سبة وضعفاً؛ فأكد البنا على أن ذلك لا يكون من العقلانية بالضرورة، وأي عقلانية تستبعد الطيبة والخير من ضوابطها لابد أن تلقي بأيديها إلى التهلكة.

* وجود الله وذاته

انتقل البنا إلى الباب الثالث من كتابه، وقد أخذ عنوان: «القضايا الأربع التي تطرحها العقلانية على الأديان»، وهي كما ذكر في بداية حديثه من الثراء لدرجة أنها تحتاج في دراستها لكتب مستقلة، هذه القضايا هي:

أ - وجود الله تعالى وما يتصل بهذه القضية من صفات الله وذاته.

ب- خلود الروح والبعث بعد الموت.

جـ- وجود دار آخرة... ثواب وعقاب... جنة ونار.

د - النبوات وقيامها على الوحي.

بدأ الكاتب بمناقشة أولى هذه القضايا في الفصل السابع وهي: وجود الله تعالى وذاته، مشيراً في البداية إلى انقسام هذه القضية إلى شقين: الأول وجود الله، والثاني: ذاته وصفاته، فكل المجتمعات -من الإنسان البدائي- توصلت إلى وجود الله، واهتدت إلى فكرة وجود خالق، واستبعدت فكرة الوجود التلقائي، ولكنها أخطأت في تصوير ذات الله، فالعقل الإنساني عجز عن التصور الإيجابي الكامل لذات الله؛ لذلك جاءت الأديان السماوية والوحي، لينقل للإنسان شعاعاً من شمس الإلوهية الباهرة التي لا يستطيع هو التوصل إليها.

انطلق الفلاسفة إلى التسليم بوجود الله «كعِلّة أولى»، أو قوة خفية لخلق الكون، لكن كان ثمة مشككون في ذلك، فظنوا أن الإيمان بوجود الله عند عامة الناس إنما يعود لجهالتهم بالأسباب؛ فينسبون إلى الله الظواهر الطبيعية؛ لعدم استطاعتهم تفسيرها تفسيراً علميًّا، وكان من هؤلاء الفلاسفة، أوجست كونت، الذي حاول وضع أسس ديانة إنسانية تقوم على المعنويات، وتستهدف التقدم، ولا تدين لكنيسة أو تؤمن بإله فوق البشر.

عرض البنا أفكار بعض الفلاسفة بالنسبة لقضية وجود الله، فتناول الفكر الديكارتي بالشرح، واعتبره المفكر الذي نهج الوصول إلى الحقيقة، نابذاً وراء ظهره كل الموروثات، وجاعلاً الشك طريق اليقين، ورائداً للعقلانيين جميعاً، فلم يكن هدفه إثبات وجود النفس والله أصلاً، إنما الإعداد للمعرفة؛ ولهذا فإن ما ذهب إليه هو منهج علمي ثوري يخالف كل المناهج السابقة، التي كانت تستبعد الميتافيزيقيا من إطار الاستدلال العلمي، وقد حدد ديكارت تصوره لله في أنه قائم بذاته، محيط بكل شيء، قادر على كل شيء، خالد ثابت، خلق الإنسان وجميع الأشياء، وقد ذكر ديكارت ذلك في كتاب «تأملات في الفلسفة الأولى»، الذي كان مصدر جمال البنا في تحليله لرؤية ديكارت في هذا الموضوع.

ثم انتقل البنا إلى وليم جيمس صاحب نظرية «البراجماتيزم»، الذي ساقه فكره النفعي للدخول للأديان من باب المنافع والمصالح، ورأى الكاتب أن دفاع جيمس عن الدين من هذا المدخل يعد دليلاً على صحة الأديان وسلامتها، وكانت خلاصة فكره فيما يتعلق بالله تعالى، أن العالم الخلقي المستقر المنظم الذي يبحث عنه الفيلسوف الخلقي، لا يمكن أن يوجد كاملاً إلا حيث توجد قوة مقدسة ذات مطالب عامة شاملة، وينبغي على الفلاسفة من أجل تحقيق غايتهم من إيجاد نظام أخلاقي واحد، أن يفترضوا وجود الإله، وأن يتمنوا انتصار الدين على اللادين.

أما عن دور العلم الحديث في إثبات وجود الله، فقد عرض البنا لتتابع البحث العلمي في مجالات مختلفة، والإضافات التي أضافتها العلوم كدلائل على وجود الله، فقد أثبت العلم أن الانفجار العظيم وما تلاه، وتكوين الكون أنما أريد به وجود الإنسان، ولما كان لا يمكن تصور عدم وجود أي شيء على الإطلاق من قبل الانفجار العظيم، كما أنه لا يمكن أن يكون ماديًّا لأن للمادة بداية، ولما كانت الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل، فالفرض الوحيد أمامنا أن المادة هي من خلق عقل أزلي، أي باختصار، الله. ولعل دليل القرآن الكريم كما وصفه البنا أنصع الأدلة، وأكثرها بساطة ونفاذاً إلى النفوس، وأقواها وأكثرها منطقية، فهو دليل يفهمه أبسط الناس حتى الجهلاء ويرتضيه أكثر الفلاسفة والعلماء تبحراً وتفقهاً، وقد جاوز في تأكيده وقوته مرحلة الإثبات إلى مرحلة التحدي، مرتكزاً على حقيقة ثابتة وهي «الخلق»، فهل يعقل أن يكون كل ما في الكون خلق دون خالق؟ أو وجد نفسه بنفسه؟ فمن ينكر أن الله هو الخالق فليخلق هو ولو حتى ذبابة.

هاجم البنا في نهاية الفصل المنكرين لوجود الله والمتشككين في وجوده، وأكد أن فكرة الله تعالى متغلغلة في الفطرة البشرية، فآمنت أغلبية العلماء والفلاسفة بوجود الله وشذت أقلية، فوقف بعضها عند الشك، بينما لاذ بعضها الآخر بتعبيرات بديلة عن تعبير الله، مثل الطبيعة أو التطور، حتى ينجو من الملابسات التي أحاطت بفكرة الله، وربطتها بالأديان والمؤسسات الدينية.

* الموت وخلود الروح

عن مفرّق الجماعات، وهازم اللذات، بدأ الكاتب فصله الثامن عن القضية الثانية، وهي الموت وخلود الروح؛ فتحدث عن الخشوع أمام الموت ورهبته، مبرزاً أنه قضية الأحياء وليس قضية الموتى. وموقف الإسلام منه وتقبله والتسليم به، أيضاً العقلانية تتقبل الموت كواقعة ضرورية لابد أن تقابل بالرضا والتسليم، ولكن الإسلام يقدم ما تعجز عنه العقلانية ألا وهو «خلود الروح»، الذي يعد من أكبر القضايا التي تطرحها العقلانية على الإسلام، فالعقلانية تنكر خلود الروح شكًّا في أن الموت هو النهاية. ووصف الكاتب قضية خلود الروح بأنها «غُصة» في حلق العقلانيين، ورغم ذلك فقد آمن بها معظم الفلاسفة القدامى والمحدثين، مستشهداً في ذلك برؤى بعضهم لقضية خلود الروح، والتي أكدت أنها فكرة عميقة الجذور.

ثم تطرق الكاتب لمناقشة البحوث العلمية، وكيفية إثباتها وتأصيلها لفكرة خلود الروح علميًّا سواء من منظور علم الأحياء أو من منظور طبي، وانتقل إلى فكرة الاتصال بالأرواح، وقدّم عرضاً موجزاً لبعض الكتب، والمقالات، والباحثين الذين تحدثوا عن جلسات الأرواح، وإحضارها للاتصال والمخاطبة مع الشخصيات بعد موتها. وفي عرضه ذكر البنا شيرلي ماكلين كنموذج، وهي راقصة ومغنية وممثلة أمريكية، ولعله أمر غير مألوف أن يرد هذا المثال في كتاب عن الإسلام، ولكن البنا رفع شعار «المقولة» لا «القائل»؛ فالمهم هو مدى صواب المقولة، وليس من قائلها، وجاء ذكر شيرلي في إطار الحديث عن التجارب الروحية، وما ألفته من كتب، خاصة كتاب «الرقص في الضياء»، الذي تحكي فيه تجربة مثيرة لها، عندما ذهبت للمكسيك لتُعالج على يدي سيدة متخصصة في العلاج النفسي عن طريق الإبر الصينية، وقد عرض الكاتب بأسلوب رائع خلاصة ما جاء في الكتاب، وفي هذه التجربة دون استفاضة مملة، محاولاً ربط ما روته شيرلي بالموضوع، والحقائق التي خلصت إليها والتي تتفق مع ما جاء في القرآن الكريم عن القضية، فكانت الفكرة الرئيسية التي سعى لإبرازها الكاتب من إشارته لتجربة شيرلي، هي اتفاق العلم والدين بالنسبة لقضية الروح والله تعالى، وأنها تؤمن إيماناً قويًّا في وجود الله وخلود الروح، وإيمانها ينبثق من العلم والدين معاً، وهي تأخذ منطلقها من الطاقة التي يمكن أن تكون وعياً وروحاً، كما يمكن عندما تتجمد أن تصبح مادة وجسماً.

استطرد البنا في استخلاص نتائج تجربة شيرلي منتهياً بسؤال نفسه على لسان القارئ عن علاقة عالم الأرواح بالإسلام، والمفهوم التقليدي لعالم ما بعد الموت في التراث الإسلامي، حيث إن ما عرضه من نماذج كان لأوروبيون مسيحيين، وتفصيلاً قام البنا بالإجابة عن هذا السؤال، ملقياً الضوء على قضية كثيراً ما اختُلف عليها، وهي كيف يحاسب أتباع المسيحية في أمريكا وأوروبا بعد الموت؟ أيحاسبون على أساس المسيحية التي هي ديانتهم، وتظل حتى تبلغهم رسالة الإسلام، علماً بأن معظمهم يؤمن بإله واحد، ولا يفقهون من لاهوت التثليث الكنسي شيئاً، وقد تكون أخلاقهم أقرب إلى خلق الإسلام من كثير من المسلمين، ومعاملاتهم أشد إتقاناً، ونظمهم السياسية أقرب إلى القيم الأدبية والمعنوية التي هي في أصل الأديان جميعاً، أم أنهم يحاسبون على أساس الإسلام الذي لا يعرفون عنه شيئاً؟ واستشهد البنا برأي الإمام الغزالي القائل: إن من لم تبلغهم دعوته، ولم يسمعوا به أصلاً «مقطوع في الجنة»، ومعظم الأوروبيين، والأمريكيين، والآسيويين يدخلون في هؤلاء، إذا لم يدخلوا في الفئة الثالثة التي «يرجو لها الجنة». وأنهى البنا الحديث عن هذه القضية بقوله «.... على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا غيرهم، وليدعوا غيرهم إلى الله لأنه تعالى هو الذي يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون».

* الجنة والنار

القضية الأبرز التي ترفضها العقلانية ولا تستسيغها، هي وجود جنة عرضها السماوات والأرض، ونار تشوي الوجوه، والسؤال المطروح قديماً وحديثاً، هو كيف يبعث الله تعالى العظام وهي رميم؟ وقد ردّ القرآن عليه، ولكن ليس القرآن وحده، بل اليهودية والمسيحية؛ فتعبير القيامة موجود في المسيحية، والكيفية التي تبعث بها الأجساد في المسيحية قريبة من بعث الأجساد في الإسلام، أما فكرة «الدار الآخرة» في الإسلام؛ فإن السبب الأعظم لوجودها، هو استكمال العدالة التي عجزت الحياة الدنيا عن أن تحققها، فالفكرة الرئيسية في الدار الآخرة هي إثابة المحسن، وعقاب المسيء، ولذلك أوجب الله تعالى الدار الآخرة، وقرن بها الجنة والنار.

تميّز تناول البنا لهذه القضية بطرحه للعديد من الاستفسارات والتساؤلات، التي كثيراً ما تثيرها عقول متخبطة، أو حتى عقول متأملة لعلاقة الإنسان بالله، وقضية الموت والحياة، وقام بالرد على كثير من هذه التساؤلات بلغة سهلة ومنطقية تبسط الفكرة، وتسعى للإقناع، وليس لمجرد التفسير والتحليل، من هذه الأسئلة على سبيل المثال: لماذا سمح الله تعالى بكل هذه المظالم في الحياة الدنيا؟ ما الداعي إلى استئناف الحياة بعد الموت، وإقامة العدالة في الدار الآخرة؟ لماذا كان الثواب والعقاب متمثلاً في جنة للأول وجحيم للثاني؟.

ثم تحدث البنا عن عذاب النار من خلال تفسيره لدلالة الآيات القرآنية التي تصف عذاب النار، مؤكداً أن هذه الآيات المروعة، والأوصاف الرهيبة كان لابد أن ترد؛ لأن هناك من لا يفهم إلا هذه اللغة، ولا يتأثر إلا بها، كما أن آيات العدل والرحمة واستبعاد الظلم، جاءت جنباً إلى جنب مع آيات عذاب النار؛ لأن القرآن يكمل بعضه بعضاً، والله تعالى يحكم بالعدل أولاً، ثم يتلطف بالرحمة. كما رد البنا على المستشرقين الذين يثيرون قضية النار في الإسلام، موضحاً أن التشريع الإسلامي يستبعد الحرق بالنار من عقوباته، فوجود النار في الدار الآخرة أبعدها من الحياة الدنيا، وكانت آخر الإجابات في هذا الفصل الشائك عن سؤال شائك أيضاً كثيراً ما يدور في ذهن بعض الناس وهو: أين هي النار؟ وأين هي الجنة؟، والإجابة عند البنا.

* إنكار النبوات

اختتم البنا فصول كتابه بآخر وأهون ما تطرحه العقلانية على الأديان، وهي إنكار النبوات، وإنكارها الذي عادة ما ينصب على نقطة «الوحي»، أي العلاقة التي لا تفهمها العقلانية بين النبي والله، وكيف يتلقى النبي رسالته من الله تعالى، وأرجع الكاتب إنكار العقلانية لنبوات الأنبياء إلى إنكارها في الأساس لوجود الله، فإذا كانت تجحد الأصل، فجحدها للفرع طبيعي، ولو آمنت بالله فلن يكون هناك ما ترفضه في وجود وحي، فالأقرب إلى المنطق عناية الله بمخلوقاته من إهماله لها. ودلَّل البنا على صدق الأنبياء بأن حياتهم كلها، وأفعالهم كانت مصداق دعواتهم، وهو دليل يفترض أن يتقبله العقل أكثر من غيره، فقد كانوا نماذج للخلق الكريم والصدق، والأمانة، والشجاعة، والتضحية، كما أن الدعوات التي دعوا إليها هي من أعظم العوامل في هداية المجتمع الإنساني، وهي التي أعطته القيم الحضارية التي تميّزه، وتعد أفضل وأثمن ما تعتز به البشرية.

أما عن الوحي فهو حل للكثير من المشكلات التي لا يمكن حلها إلا به، فالفلاسفة والمناطقة استطاعوا التوصل إلى ضرورة وجود الله باعتباره واجب الوجود، ولكن رسائلهم في البحث عجزت عن أن تضفي على الله تعالى صفات الحياة والحكمة وغيرها، وكان لابد أن يتم ذلك عن طريق الوحي. وانتهى البنا إلى أن إنكار النبوات هو أوهى ما تثيره العقلانية في مواجهة الأديان؛ لأن تميز النبوات على بقية الدعوات، والحركات، وتفوق الأنبياء على القادة والفلاسفة والمفكرين يتطلب «الوحي»، كحل وحيد لهذا التميز الذي لم يسبق أو يلحق للأديان والأنبياء.

أخيراً فإن (الإسلام والعقلانية) هو نموذج فريد من نوعه في الكتابة عن الإسلام والعقل، وعلاقة الإنسان بالله، والقلب ودوره في توازن الفكر، فقد قدّم البنا في كتابه العديد من التحليلات، والتفسيرات لقضايا شائكة، وقضايا متفق عليها لدرجة جعلت الخلاف حولها خروجاً على قواعد الدين وأسسه، لكن البنا كان قوي الحجة، لغته المنطق، تخاطب العقل أولاً وقبل أي شيء؛ لذلك فإن القارئ يجد نفسه أمام خطاب مباشر مع عقله، فيتواصل بدرجة كبير مع ما يطرحه الكاتب من فكر، حتى لو اختلف معه في ثوابته ورؤاه، كما جاءت لغة الكاتب غير مركبة أو معقدة، ولم توجد مصطلحات للمتخصصين فقط يصعب على القارئ العادي فهم دلالتها، بل كانت اللغة أقرب إلى عقل الإنسان البسيط الذي هو الهدف الأساسي من طرح قضايا الكتاب، الإنسان المسلم الواقع في جدل دائم مع عقله للوصول إلى إجابات للكثير من الأسئلة؛ فقد حاول الكاتب، ونجح، في الإجابة عن معظمها إجابة عقلانية لا تتعارض مع ثوابت الإسلام في قلب وعقل كل مسلم، وهذا لا ينفي عن لغة الكاتب ثقلها وتوازنها و مخاطبتها لأهل التخصص سواء كانوا مفكرين أو فلاسفة أو علماء.

جاءت فصول الكتاب متوازنة إلى حد كبير، إلا أن الباب الثاني الذي يحتوي على عدد فصول أقل من الباب الأول، استحوذ تقريباً على نصف صفحات الكتاب، وربما استفاض الكاتب في هذه الفصول؛ لأنها تحتاج كما ذكر في بداية الباب إلى كتب مستقلة بذاتها، وهي الفصول التي ناقشت القضايا الأربع التي تطرحها العقلانية على الأديان. أما بالنسبة لمراجع ومصادر الكتاب، فمعظمها مصادر أصيلة من الدرجة الأولى، خاصة ما يتعلق بآراء الفلاسفة في الأفكار التي ناقشها، فكان دائماً ما يرجع إلى الكتاب الأساسي في عرض فكر هذا الفيلسوف أو ذاك. وتميز منهج البنا في عرضه لكل قضية بالتحليل والاستنتاجات المنطقية المبنية على مقدمات واضحة ومفسره، كما أنه، وإلى حد بعيد، تحرى الموضوعية.

وأخيراً فإن (الإسلام والعقلانية) لجمال البنا، إضافة للمكتبة العربية والإسلامية، ونقطة جديدة تحسب لحركة التجديد في الفكر الإسلامي، التي نحتاج للكثير من المؤلفات فيها؛ كي نستطيع الخروج من دائرة التقليد، والجمود، إلى الانطلاق نحو فكر جديد، ينير لنا الطريق بالعقل والمنطق، وروعة، وسماحة، وعظمة الدين الإسلامي الحنيف.

 

 



[1] كاتبة من مصر.

 

[2] الإسراء: 90 - 93.

 

[3] آل عمران، الآية 190.

 

[4] الإسراء، الآية 89.

 

[5] الأعراف، الآية 185.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة