شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
*
تمهيد
يندرج هذا البحث في إطار الاهتمام الذي أولاه العلماء المسلمون للديانات عموماً، وللديانتين اليهودية والمسيحية على وجه الخصوص. ويعود هذا الاهتمام إلى سببين هاميّن: أوّلهما التقاطع الجغرافي والاجتماعي بين هذه الديانات، وثانيهما حرص كلّ ديانة على تمثيل ما تعتبره النهج الإبراهيمي السليم. وقد استوجب السبب الثاني صراعاً ماديًّا وفكريًّا تأسس في جانب كبير منه على نفي الآخر لإثبات الذات. ولعب العلماء المسلمون دوراً هامًّا في إحياء هذا الصراع الذي هدأت أطواره بين اليهوديّة والمسيحيّة ظاهريًّا على الأقلّ، بسبب عامل التاريخ. والمُلاَحَظُ أنّ وعي المسلمين بخطورة هذا الاختلاف مع الآخر تطوّر مع مراحل اتساع رقعة الدولة الإسلامية التي اتَّجهت نحو مناطق ينتشر فيها اليهود والمسيحيون وغيرهم من أصحاب الديانات غير السماويّة .
وقد سمحت هذه الظروف للعلماء المسلمين بالخوض في علاقة الإسلام بغيره من الأديان. كما أسهمت بعض الحقوق التي ضمنها الإسلام لغير المسلمين بانخراط مفكّري هذه الديانات في الجدل الدائر، وقد ساعدهم في ذلك تمكّنهم من اللغة العربيّة، خاصة في بلاد الأندلس. ولم يكن المشرق الإسلامي بمعزل عن هذه التطوّرات، إذ شهدت ساحاته الفكريّة مناظرات حاميّة بين المسلمين وغيرهم، من أشهرها تلك التي أدارها علي بن موسى الرضا (203هـ) في مجالس المأمون (218هـ) وبمباركة منه. ثم تطوّرت هذه المجالس لتصبح كتباً مختصّة في مقارنة الإسلام بغيره من الديانات.
وتكمن أهميّة البحث حول نظرة القدامى لتعدّد الظاهرات الدينيّة فيما توفّره من آليات تساعد على تَمَثُّلِ مرحلة التعدّديّة المذهبيّة التي عرفتها الساحة الإسلاميّة. كما تندرج هذه الدراسة ضمن مبحث أعمّ نهتمّ من خلاله بفهم بعض خصوصيات الفكر الإسلامي وخاصة المبكّر منه، لتبيّن كيفيّة تشكّله وتطوّره، والوقوف على طبيعة العلاقات بين مختلف مكوناته. كما يعود التركيز على هذا الموضوع لشدّة تأثير القرون الخمسة الأولى في بقيّة مراحل الفكر الإسلامي كمًّا وكيفاً، باعتبارها مرحلة تأسيسيّة أصابت ما بعدها من فترات بالجمود والتكلّس والانغلاق والتبعيّة خاصّة داخل المنظومة السنيّة.
وفي هذا السياق جلب انتباهنا كتاب «الإعلام في مناقب الإسلام» لمحمد العامري أحد أعلام القرن الرابع للهجرة بأسلوبه في الحديث حول تعدّد الأديان، ومنهجه في المقارنة بينها. ويجدر بنا أوّلاً أن نعرّف بصاحب الكتاب الذي لفّه النسيان، وصار مجهولاً مثل العديد من رجال الفكر الإسلامي ممن لم يستطيعوا إجبار الذاكرة الحضاريّة على تخليدهم.
I- من هو محمّد العامري؟
هو أبو الحسن محمد بن أبي يوسف العامري النيسابوري، لم تحدّد «كتب الرجال» تاريخ مولده، لكنّها حددت تاريخ وفاته الذي وافق سنة 381 هجري . نشأ العامري بنيسابور التي مثّلت في زمنه مركز خراسان الثقافي ومعدن الفضلاء ومنبع العلماء . ودرس الفلسفة على يد أبي زيد البلخي (322هـ). وكان محبًّا للسفر والترحال وملاحظة أحوال الأمم والشعوب. وقد دفعه شغفه بالعلم إلى التردّد على المراكز الثقافيّة الكبرى، مثل بغداد والريّ وبخارى. وتذكُر بعض المصادر أنّ علاقته بالبغداديين لم تكن جيّدة بسب المنافسة العلميّة التي عرفها القرن الرابع للهجرة بين العراق وخراسان، يقول التوحيدي في هذا السياق: «ولقد ورد -يقصد العامري- بغداد سنة أربع وستّين وثلاثمائة في صحبة ذي الكفايتين [أبو الفتح بن العميد (376هـ)]، فلقي من أصحابنا البغداديين عنتاً شديداً ومناكدةً، وذلك لأنّ طباع أصحابنا معروفة بالحدّة والتوقّد على فاضل يُرى من غير بلدهم» . ويرى أحمد عبد الحميد غراب محقّق «كتاب الإعلام بمناقب الإسلام» موضوع بحثنا، أنّ التوحيدي يعني بالعنت الشديد ما واجهه العامري من عبارات مهينة في مناظرته مع أبي سعيد السيرافي (368هـ) النحوي المشهور، في مجلس أبي الفتح بن العميد سنة 364هـ، وقد روى التوحيدي بعضها في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» .
وصنّف الشهرستاني في ملله أبا الحسن العامري مع كبار فلاسفة الإسلام، أمثال الكندي (252هـ)، الفارابي (339هـ) وابن سينا (428هـ). وتذكر المصادر أنّ اهتمامات العامري بالفلسفة سبّبت له الكثير من العداوات. وقد دفعه ذلك في العديد من الأحيان إلى طلب الحماية من رجال السياسة مقابل إهدائهم بعض أعماله، متأسّياً بكبار شعراء البلاطات الإسلاميّة في عصره. وما يؤيّد هذا الكلام ما ذكره العامري نفسه في مقدّمة «الإعلام بمناقب الإسلام» من أنّه أهدى الكتاب إلى أبي نصر الذي ساعده وأخذ بيده. وعبّر في الخاتمة عن رغبته في الحصول على مكافأة بقوله: «وتقديري فيه -الكتاب- أنّه سيوافق رضا الشيخ الرئيس بسط الله في المعالي ذكره. فإن صدق ظنّي نفذ إليّ فضله، وإن نسبني إلى التقصير فالخير أردت، ولكلّ امرئ ما نوى».
وألّف العامري العديد من الكتب ذكرها في مقدّمة كتابه «الأمد على الأبد» وأهمها:
- الإبانة على علل الديانة.
- في الإعلام بمناقب الإسلام .
- في الإرشاد لتصحيح الاعتقاد.
- في النسك العقلي والتصوّف الملّي.
- في الإتمام لفضائل الأنام.
- في إنقاذ البشر من الجبر والقدر.
- شرح كتاب البرهان لأرسطو طاليس.
- الفصول في المعالم الإلهيّة.
- السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية.
وتجاوزت العناوين التي نُسبت للعامري العشرين كتاباً، أغلبها في الفلسفة والدّين. ولا غرابة من سعة اطِّلاع الرجل باعتباره سليل مدرسة الكندي الفلسفيّة التي نهلت من أقدم الثقافات الإنسانيّة مثل اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة، وأعطت لهذا التلوّن الفكري طابعاً إسلاميًّا.
ويتكوّن كتاب «في الإعلام بمناقب الإسلام» من مقدّمتين:
مقدمة أولى قصيرة، ذكر فيها العامري أسباب وضع الكتاب. ويتمثّل أوّل الأسباب في إعراض العامة عن الحكمة ورفض الإصغاء إليها نتيجة تقصيرهم في طلبها، فكان الكتاب محاولة لإعادة التواصل بينهم وبينها. أمّا السبب الثاني فهو على حدّ قوله، ما وجده من الشيخ الفاضل الرئيس أبي نصر من رغبة وتحفيز لخدمة العقل وأهله. ويُعتبر السبب الثاني التزماً من العامري بمنهج عصره في وضع الكتب. وجرت العادة أن يكون التأليف بطلب من أحد أعيان الفكر أو السياسة على غرار كليلة ودمنة والبخلاء وغيرهما من الكتب.
أمّا المقدّمة الثانية فجاءت طويلة، وتعرّض فيها العامري إلى حاجة الإنسان لمعرفة الحق، وربط ذلك بالعقل والحكمة. واتخذت هذه المقدّمة طابعاً سجاليًّا طرح من خلالها صاحب الكتاب ما اعتبره مسائل خلافيّة تطرقت لها فرقة من الفلاسفة وطائفة من الباطنيّة . وأكّد العامري أيضاً على أهميّة المعرفة في حياة الإنسان بوجهيها النظري والتطبيقي، لأنّ المعرفة التي لا تفيد الإنسان في مجالات حياته لا قيمة لها ولا جدوى، وعلى حدّ تعبيره يحتاج الإنسان المعرفة النافعة له كفرد، والنافعة له كعضو في المجتمع، والنافعة لسياسة الناس كجماعة.
II- تمثّل العامري للعلاقة بين الأديان
ليس من العسير أن ينتبه الدارس لكتاب «الإعلام بمناقب الإسلام» إلى الخلفيّة الفلسفية لما طرحه العامري من مسائل. وعادةً ما يقترن الحديث في الفلسفة بالحديث عن العقل باعتباره المصدر الأوّل الذي فاضت عنه بقيّة الأشياء فيما نقلته الفلسفة الإسلاميّة عن الفلسفة اليونانيّة. ولم يحد العامري عن هذه الخصوصيّة، إذ انتقد منذ المقدمة بُغضَ العامّة للحكمة والإعراض عنها، بسبب ضعف عقولهم وعجزهم عن إدراك نورها.
ويتلمّس المطّلع على طريقة تنظيم الكتاب وعياً جادًّا من قبل صاحبه بقيمة العقل والعلم، فعنون الفصل الأوّل مثلا بـ«القول في مائيّة العلم ومرافق أنواعه» . والعلم عند صاحب «المناقب» هو «الإحاطة بالشيء على ما هو عليه من غير خطإ ولا زلل» . وتكمن أهميّة هذا التعريف في تركيزه على مسألتين هامّتين في الدراسات العلميّة للظواهر اليوم هما على النحو التالي:
أوّلاً: ضرورة الإحاطة بالموضوع المدروس حتى يكتسب الدارس شرعيّة الحديث حوله والقدرة على إبداء الرأي فيه. وإذا كان العامري لم يحدّد بدقّة معنى الإحاطة بالظاهرة، إنْ كانت على المستوى النظري الذي يتسلّح فيه الدارس بالعقل والمنطق اليونانيين، أم أنّه مطالب بإسناد النظري بالتطبيقي، فإنّنا نرجّح الفرضيّة الثانيّة استناداً إلى تعريفه للمعرفة كما جاء في المقدّمة، إذ رفض صاحب «المناقب» حصرها في الجانب النظري، وأكّد أنّها تتأسس على النظر والتطبيق معاً حتى تكون معرفة متكاملة، ومرتبطة بحياة الإنسان، ولها بعدٌ تطبيقي نفعي. وإذا صحّ ترجيحنا يكون العامري صاحب فضل في التأسيس للبحوث الميدانيّة التي نادى بها علماء الأنثروبولوجيا (Anthropologues les) مع الثورة التي شهدتها العلوم الإنسانيّة. وصارت هذه العلوم اليوم مدخلاً لا غنى عنه لدراسة الظواهر الدينيّة والثقافيّة والاجتماعية وغيرها ممّا يعرفه الإنسان من ممارسات.
ثانيًّا: درس الظاهرة على ما هي عليه مع الحرص على تجنّب الخطإ والزلل. وفي هذا الاشتراط التزام بالحياد والموضوعيّة بوصفهما عاملين أساسيين يُكسبان الدراسة المصداقيّة والقوّة لدى المتقبّل. ولا يقلّ هذا الشرط أهميّة عن الشرط الأوّل، بل يكمّله ويشكّل معه مبدأ سليما تفقد الدراسة صفة العلميّة في غيابه.
وفي تقديرنا يمثّل هذا التعريف أساساً لمنهج العامري في دراسة الظاهرات الدينيّة التي تعددت وتنوّعت في عصره. ولا غرابة في ذلك خاصة وأنّ الرجل يتسلّح بثقافة موسوعيّة امتزج فيها العربي بالفارسي واليوناني تحت مظلّة الإسلام. وساعده ترحاله بين الأمصار على إغناء معارفه بمزيد من الممارسات والتمثلات النظريّة والتطبيقية للظاهرات الدينيّة. وهذا التنوّع والاختلاف الذي أذكاه صراع النفوذ بين العراق وخراسان كما ذكرنا سابقاً، طوّعه العامري ليُصبح مصدراً للثراء المعرفي وحافزاً للنظر الدقيق والمتوازن عند دراسة الأديان المنتشرة في مجاله الجغرافي.
ويقسّم أبو الحسن العلوم إلى علوم فلسفيّة وعلوم دينيّة على ما ورد في قوله: «وهو ينقسم [أي العلم] إلى الملّي والحكمي . وأرباب العلوم المليّة هم المُصطفون من الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرباب العلوم الحكميّة هم المرتضون من الحكماء، وكلّ نبيّ حكيم وليس كلّ حكيم نبيّ» . وكغيره من فلاسفة المسلمين لم يجد العامري تعارضاً بين الدين والفلسفة، بل يقرّ في هذا التعريف بإمكانية تقاطع الوحي والفلسفة، مع رفع لمكانة النبيّ على مكانة الفيلسوف. ويجعل هذا الموقف الفلسفة تابعة للدين ولاحقة به آليًّا.
ولم يكتفِ صاحب «المناقب» بالتعريف العام للدين والفلسفة وإنّما التزم بوضوح بمبدإ الإحاطة بالموضوع المدروس الذي اشترطه عند تعريفه للعلم، فقسّم العلوم الدينيّة إلى صناعات ثلاث على حدّ تعبيره «إحداها حسيّة: وهي صناعة المحدّثين، والثانية عقليّة وهي صناعة المتكلّمين، والثالثة مشتركة بين الحسّ والعقل وهي صناعة الفقهاء» . ولم يُغفل الرجل دور اللغة في بناء هذه الفروع الثلاثة للعلم الديني. فأكّد أنّها تمثّل مسألة خطيرة في قراءة النصوص الدينيّة باعتبارها العامل الأهم في صناعة الاختلاف والتمايز بين الفرق والمجموعات. وقسّم العلوم الحكميّة أو الفلسفيّة إلى حسيّة ويمثّلها الطبيعيون، وعقليّة ويمثّلها الإلهيون، ومشتركة بين الحسّ والعقل ويمثّلها الرياضيون. وجعل هذه الفروع الثلاثة تتأسس على المنطق .
ولم يقف العامري عند حدود التدقيق في مكوّنات العلوم، بل تحدّث عن ظاهرة التخصص العلمي، وأقرّ بأهميّة هذه المسألة وامتدحها واعتبرها من نعم الله على خلقه. وبرّر ذلك بطبيعة الإنسان القاصرة على الإحاطة بالحقيقة في كليّتها . وفي تقديرنا يمثّل هذا التعريف للعلم موقفاً ثوريًّا في تاريخ العلوم، وآليّة كان بإمكانها تغيير مجرى التاريخ الإسلامي أثناء فترة الركود والتراجع التي عرفها بعد القرن الخامس للهجرة. وقد حرص العامري على استثمار هذا المنهج في تعامله مع واقعه متعدّد الألوان والأطياف، وعند تعامله مع الآخر المخالف في تمثّل الحقيقة الدينيّة.
1- موقف العامري من ثقافة الآخر
تميّز موقف أبو الحسن من الثقافات الأخرى بالإيجابيّة والتسامح. وعقد لهذا الغرض فصلاً في كتابه بعنوان «القول في فضيلة الإسلام بإضافته إلى المعارف». ورغم الانحياز الواضح للإسلام منذ العنوان، فإنّ أبا الحسن شرّع لإمكانيّة الإفادة من معارف غير المسلمين. ورغم أنّ هذا الانفتاح مشروط بحصره في نواحي التقدّم المتعلقة بمجالات الحياة المتعدّدة، فإنّ العامري لم يستثنِ المجال الدّيني بقول صريح، وإنّما دافع عن علاقة الدين بالفلسفة حين هاجم بعض المعترضين عليها بقوله: «إنّ العلوم الحكميّة قد طعن عليها قوم من الحشويّة وزعموا أنّها مضادة للعلوم الدينيّة، وأنّ من مال إليها وعُني بدراستها قد خسر الدنيا والآخرة. قالوا وليست هي إلاّ ألفاظاً هائلة، وألقاباً مُزخرفة...وليس الأمر كذلك. بل توجد أصولُها وفروعُها عقائدَ موافقة للعقل الصريح، ومُؤيّدة بالبرهان الصحيح..» . وأكّد أبو الحسن في الفصل العاشر أنّ المفكّرين والعلماء المسلمين استفادوا كثيراً من الثقافات الأجنبيّة مثل اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة في قوله: «ثمّ وجدنا الألبّاء من أهل الإسلام قد سعدوا مع ذلك -بحسن توفيق الله تعالى- لنقل الكتب المنسوبة إلى ذوي الشهرة من حكماء الروم، وحكماء الفرس، وحكماء الهند وحكماء يونان، واستقصوا تأمّل معانيها، وحلّوا مواقع الشبهة منها، وتولّوا شرحها وإذاعتها، وتأدّبوا في أبوابها بكمال تأديب الله تعالى جدّه بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18). واستعملوا قول الرسول عليه [الصلاة] والسلام: «العلم كثير، فخذوا من كلّ شيء أحسنه» . إذن يمتدح العامري الانفتاح على ثقافة الآخر، والتفاعل معها ايجابيًّا. وهو بهذا الموقف يشرّع لعمليّة مثاقفة واسعة تقوم على الأخذ والعطاء والتأثّر والتأثير، أسوة بمنهج مسلمي القرنين الأوّل والثاني الذين ترجموا الكتب الأجنبيّة ودرسوها وشرحوها، وأضافوا إليها وأخذوا منها .
واعتبر العامري هذا النهج تعبيراً عن روح الدين الإسلامي والتزاماً بثوابته. ولا تكمن أهميّة هذا الموقف في فتح باب الإفادة للمسلمين من غيرهم فحسب، وإنّما يُحدث هذا الإعلان رجّة في الجدار الذي شُيّد بين المسلم والآخر باعتباره رمزاً للكفر والشرك، لا يمكن التواصل معه إلاّ بأسلمته أو فرض الجزية عليه. وبهذا الرأي يكون العامري قد أعاد الروح والحرارة إلى الرابطة الإنسانية التي يمكن أن تكون أحد آليات الاجتماع البشري، خاصة إذا كانت تستند إلى العقل وتهدف إلى الإفادة والنفع. وعندما تتأسس العلاقات بين الأمم -باعتبارها مطلباً إنسانيًّا- على العقل يمكن للمجموعات البشريّة المتحاورة أن تحافظ على خصوصياتها، بل إنّ هذا التقارب يكون أجدى وأفضل في دعوة غير المسلم للإسلام.
ومن نتائج انفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم والثقافات، استفادة العلوم الدينيّة بدرجة أولى، بتحوّل جانب منها إلى فلسفة في الإلهيات، أو كما سمّاها العامري «صناعة الإلهيين»، وجعلها على رأس العلوم الفلسفيّة . ودعا أبو الحسن إلى ضرورة إعمال العقل الفلسفي لإدراك الذات الإلهيّة بأكثر وضوح وتجلٍّ. وبهذا المنهج في التعامل مع الدين يكون صاحب «المناقب» قد أسهم في وضع أسس قويّة لحماية الذات «الإسلاميّة» من الذوبان والتراجع أمام الآخر من جهة، وفي ذلك طمأنة لمعارضي الانفتاح من المسلمين. ومن جهة ثانيّة يكون قد وجّه رسالة إيجابيّة لغير المسلمين ممن يُنظر بريبة لتوسّع جغرافيّة الإسلام، سواء من كان في الداخل أو في الخارج أيضاً.
2- موقف العامري من بقيّة الأديان
حرص العامري على أن يكون موقفه من بقيّة الأديان مؤسَّساً على ما جاء في النص القرآني باعتباره المرجع الذي لا يعلوه رأي في الموقف الرسمي للمسلمين. وقد انطلق من الآية الثامنة عشرة من سورة الحج ليحدّد مادّة درسه. وتحدّثت الآية عن ستّة أديان هي: الإسلام واليهوديّة والمسيحيّة والصابئة والمجوس والمشركون . وبشجاعة الباحث العلمي يقرّ العامري أنّ هذه الأديان هي واقع يجب التعامل معه لا رفضه وتغييبه. وأكّد أنّ التلاقي بينها لا يقتصر على الأركان الأربعة فقط، وإنّما تشترك هذه الأديان أيضاً في الوجود الفعلي في التاريخ في شكل ممارسة وسياسية كما يتّضح في قوله: «فغير بعيد أن يعلم العاقل بأدنى الرويّة أنّ ليس ولا واحد من الأديان الستّة التي لها خطط وممالك إلاّ وله اعتقاد بشيء يجري سعيه إليه، ومنهج في العبوديّة يتحرّى بالتزامه إقامة الطاعة وأوضاع في المعاملات ينتظم بها معاشهم، ورسوم في المزاجر يتحصّن بها عن البوائق والأشرار» . وبذلك يكون أبو الحسن قد كسر المحضور الفقهي الذي يحذّر حتى من مجرّد الاطِّلاع على كتب الآخرين، مسخّراً في ذلك رواياته للحديث النبوي الذي نهى فيه الرسول عمر بن الخطّاب عن قراءة غير القرآن من الكتب السماويّة. ويدعو العامري صراحة، الناظر في بقيّة الأديان إلى «أن يتحقق رُجحان ما يؤثره من الأبواب الأربعة على ما يزُنُّه [أي يزينه] منها، لا بحسب الاقتداء بالسلف بل بمقتضى العقل الصريح» .
وبذلك يسحب صاحب «المناقب» البساط من أصحاب الوصاية على النص القرآني، ويوكل مهمّة النظر في حقيقة القضايا التي يطرحها إلى العقل. وتتمثّل قيمة هذا الطرح في كونه يعيد للنص مكانته، ويحصر مهمّة النظر فيه للآليّة المثلى لدراسته وهي العقل. وحذّر العامّة من خطورة الانكفاء تحت وصاية صنف من الفقهاء عجزت عقولهم عن تبيّن مقاصد الآيات، وأمرهم أن يتأمّلوا في «معنى قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف:23) .
وبهذا الموقف يكون العامري سبّاقاً في التأكيد على أهميّة الجانب العملي للأديان التي قارن بينها. لذلك دعا العاقل إلى المقارنة بين الأركان المشتركة في الأديان الستّة ليتحققّ رجحان ما يقبله عقله على ما يرفضه. وقد حاول الرجل التزام الموضوعيّة العلميّة التي حدّدها في تعريفه للعلم كما سبق وذكرنا. فعمد إلى وصف الأركان التي عليها مدار كلّ واحد من هذه الأقسام الأربعة: ويعني الأركان الاعتقاديّة، والأركان العباديّة، والأركان المعامليّة، والأركان المَزاجريّة ليتمكّن بها المتديّن من مقابلة كلّ ركن مما يدين به بنظيره الذي أطّرحه من الأديان .
وأكّد العامري على الأرضيّة المشتركة لهذه الأديان الستّة وهي على النحو التالي:
- الاعتقادات، وجعل مدارها على خمسة أركان هي: الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
- العبادات، وجعل مدارها على خمسة أركان أيضاً وهي: العبادة النفسيّة كالصلاة، والعبادة البدنيّة كالصيام، والعبادة الماليّة كالزكاة، والعبادة الملكيّة كالجهاد. ويعتبر أبو الحسن أنّ الحجّ عبادة مشتركة بين الأديان محتجاً في ذلك بآية من سورة الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} .
- المعاملات، وجعل مدارها على خمسة أركان، هي المعاملات كالبيع والإجارة، والمناكحات كالتزوّج والطلاق، والمخاصمات كالدعاوى والبيّنات، والتركات كالوصايا والمواريث.
- المَزَاجر، وجعل مدارها خمسة أركان أيضاً وهي مزجرة قتل النفس كالقود والدية، ومزجرة أخذ المال كالقطع والصلب، ومزجرة هتك الستر الجلد والرجم، ومزجرة ثلب العرض كالجلد مع التفسيق، ومزجرة خلع البيضة كالقتل عن الردّة .
3- منهج العامري في المقارنة بين الأديان
1- التسامح والنقد الهادئ
حاول العامري إشاعة روح التسامح تجاه الآخر بصفة عامّة، والآخر الدّيني بصفة خاصّة في لغته ومنهج تفكيره. واتضح ذلك من خلال حرصه على ضرورة الاعتراف بشرعيّة غير المسلم، في وقت دأبت أغلب الأدبيات الفقهيّة الإسلاميّة على رفضه وإقصائه رغم ما ضمنه له النص القرآني من حقوق عرفت أفضل تطبيقاتها في بلاد الأندلس. ويكتسب هذا الاعتراف بالآخر قيمة أكثر حينما يكون من الطرف الأقوى تجاه الطرف الأضعف كما هو الحال بين المسلمين وغيرهم في تلك الفترة. وقد سبّب توسّع المسلمين على مناطق جغرافيّة شاسعة في الشرق والغرب خلال القرون الهجريّة الأولى حالة من الريبة لدى أصحاب الديانات الأخرى. ودعّمت تصنيفات بعض المسلمين لغيرهم من أهل الديانات الأخرى هذه المواقف.
وتأسّست تصنيفات المسلمين لغيرهم على مجموعة من الثنائيات التي توحي بالتعالي على الآخر ورفضه، من قبيل دار الكفر ودار الإيمان، وأهل الحقّ وأهل الباطل، والمشركين والمؤمنين وغيرها. ولم ينظر غير المسلمين إلى الظاهرة الدينيّة الجديدة، إلاّ من خلال قوّتها العسكرية وعظمة نظامها السياسي الذي صنّفهم مواطنين من درجة ثانيّة أو ثالثة في غالب الأحيان. وقد تفطّن العامري إلى خطورة هذه المسألة، فحاول التصدّي لها بالتفسير والتبرير. وتعامل مع بعض مواقفها كشُبُهات، أي مواقف خاطئة لم يُحسن أصحابها استقراء خصوصيات الديانة الإسلاميّة وفهمها، وأهمّها أربع:
الشبهة الأولى: وهي أنّ الإسلام لم يكن ديناً للحقّ والرحمة، بدليل أنّ الدّاعي إليه ظهر على الخلق بالسيف، وتعسّف في أملاكهم بالسّلب، واسترقّ ذراريهم بالسبي . وردّ العامري على هذه الشبهة في فصل اعتبر فيه أنّ استعمال السيف والسوط حينما يكون لهدف الجهاد يصير مَحْمَدَةً لصاحبه، ورحمة للعالمين. أمّا إذا كان يهدف استعماله لمجرّد الفتنة والتصعلك، يصير مذمّة لصاحبه ومحنة على الناس . واستعمل العامري في ردّه أسلوباً حجاجيًّا هادئاً في مجموعة من الأسئلة للمشتبهين في الإسلام، تولّى الإجابة عنها بنفسه قائلاً: فاستقصينا تتبّع ذلك فوجدناه مفتتحاً -أمام مناوشته- إظهار دعوة مخالفة لأهل الأرض، وهو عارف بضعف حاله، وموقن أنّه لا عداوة في الخلق أشدّ من عداوة الدّين... فكان غرضه [الرسول] في استلال السيف على من ناوأه لصرفه عن عبادة الشيطان، ومقابلة مولاه بالغموض... فلم يكن منه ذلك قساوة بل مأثرة ورحمة . فالغاية برّرت الوسيلة عند العامري. والقتل بالسيف ليس هدفاً وإنّما وسيلة في تقديره، والدليل أنّ استعماله يأتي بعد مرحلة الدعوة السلميّة ثم مرحلة المطالبة بدفع الجزية. واستعمال السيف مثل استعمال الكيّ بالنار عند المتطبّبين القدامى، لا يهدف الطبيب من خلاله إلى تعذيب المريض، وإنّما إنقاذه من العذاب الذي يؤدّي به إلى هلاك لا صلاح بعده. ويؤكّد العامري بوضوح أنّ التقوية لأسباب الدين والدعاء إليه قد تكون باليد وقد تكون باللسان، إلاّ أنّ الحاجة إلى تقويته بقوّة اللسان أمسّ منه إلى تأييده بقوّة اليد، بل لا يُستعان باليد في إقامة الدعوة إلاّ بعد المبالغة في الإعذار والإنذار، وبعد اليأس من تأثير الهداية والإرشاد .
الشبهة الثانية: وتحوم حول طبيعة النص القرآني الذي يتأسس عليه الإسلام. ويشكّ المشتبهون في صدقيّة النصّ الذي أدّى بأتباعه إلى التضاغن، والتعادي، وتشتّت الأهواء، وافتراق الكلمة، وسفك دماء بعضهم بعضاً بالإقدام على ذبح الأطفال مثلاً . ويردّ العامري على هذا الاشتباه بخطاب فلسفي متماسك قائلاً: إنّ الحقّ لا ينقلب باطلاً لاختلاف الناس فيه، ولا الباطل يصير حقًّا لاتفاق الناس عليه . فما يراه المشتبهون من صراعات في صدر الإسلام لا يعود حسب صاحب «المناقب» إلى طبيعة موضوع الخلاف وإنّما يتعلّق الأمر بطبيعة القارئ للموضوع، وقدرته على تمثّل خصوصياته وأهدافه. وبالتالي تبقى الحقيقة حقيقة ولو حملها فاهمها على الباطل. ويضيف العامري أنّ الحق ليس بوسعه قهر النفس على الإقرار به، وتسخيرها للاعتراف بصدقه . وقد حمّل بوضوح مسألة الانشقاقات في الأديان عامّة والإسلام خاصّة لطبيعة الإنسان المجبولة على الخطإ والأنانيّة. فما وقع فيه المسلمون من انقسامات هم يتحمّلون مسؤوليّته، لا الدين الذي جمع بينهم وكانوا أشتاتاً. فعندما كانت قراءة النص سليمة وخالية من الأهواء والمصالح، صلُح الواقع وخمدت الفتن.
الشبهة الثالثة: وتتعلّق بطبيعة الخطاب الأدبي للنص القرآني. ومفادها أنّ كثرة الحُجَج التي زُخرف بها النصّ هي الحجّة على عدم تماسكه، والدليل أنّه لم يقنع حتى أنصاره الذين أوقعتهم تناقضاته في صراعات دمويّة وعداوات لا حدود لها. وبذلك يبطل في نظر المشتبهين القول بأفضليّة الإسلام على بقيّة الأديان . ويرُدُّ العامري على هذا الرأي بأنّ النصّ الذي لا يُحسَنُ فهمه لا يعني بالضرورة ضعفه وعدم تماسكه. وإنّما يكمن الإشكال في تقصير دارسه، وعدم قدرته على حسن تمثّل الأشياء. بل أكثر من ذلك يمثّل قصور الإنسان على فهم النصّ واستيعابه دليلاً على أهميّة النص وإعجازه الذي يجب أن تقف عنده العقول وتتبيّن وجوه الإبداع في انتظامه .
الشبهة الرابعة: وتتعلّق بصاحب دعوة الإسلام الذي ادَّعى صدق خبره، وصحّة أمره، وأصرّ على أنّ الكتب المنزّلة قبله شهدت له بالنبوّة. فالرسول يبشّر بهذه البشارة، وأصحاب الكتب أنفسهم ينفونها ويفنّدونها ويروْا أنّهم الأحقّ بالإخبار بمضامين كتبهم . وردّ العامري على هذه الشبهة بأسلوب تحذيري يهدف إلى تعليم المشتبهين كيفيّة قراءة الأخبار والظواهر. وأرجع موقف هؤلاء إلى تقصيرهم في إعمال العقل، وإخضاع موقفهم إلى الرأي والهوى. وأعاد التأكيد على صحّة البشارة برسول الإسلام في كتب المعترضين، وأرجع عدم قدرتهم على تبيّن هذه البشارة إلى قصورهم الذهني الذي مردّه مرتبتهم الإنسانية التي لا تخوّل لهم الاطلاع على الغيب مثل الرسل. واستبعد صاحب «المناقب» أن تكون ألفاظ البشارة بالرسول واقعة في هذه الكتب على التصريح والإفصاح. وبرّر هذه الفرضيّة بحجة منطقيّة في تقديره، مفادها أنّ التصريح بهذه البشارة يعرقل معرفة أصناف العباد وتفريق الذكيّ من الغبي، والمجتهد من المقصّر. كما أنّ التصريح بها من شأنه أن يسبب الفتنة بسبب اختلاف التأويلات. وبقطع النظر عن مضمون هذا الردّ يكون العامري قد نجح في تأسيس خطاب يتسم بالعقلانيّة والهدوء، ويقطع مع تهميش الآخر الدّيني وإقصائه، والأهمّ من ذلك بناء جسر تواصل معه ينبني على الحوار والحجّة. وحتماً سيساعد هذا المنطق الجديد في التعامل المخالف على تقليص الهوّة التي اتسعت مع كلّ توسّع لجغرافيّة الديانة الإسلاميّة. والملاحظ أنّ هذا الخطاب لم يكن موجّهاً فقط إلى المُشْتبهين من خارج المنظومة الإسلاميّة، وإنّما خاطب العامري أيضاً مجموعات من المسلمين حاولت البحث عن ألفاظ صريحة في التوراة والإنجيل تبشّر بظهور رسولهم.
2- الواقعيّة في المقارنة
حاول العامري أن يكون واقعيًّا في منهج تعامله مع بقيّة الأديان. وأوّل مظاهر الواقعيّة المنهجيّة، التزامه بمقارنة العناصر المشتركة بين الأديان الستّة دون غيرها. وهذا الالتزام يعطي منهجه بعداً عمليًّا يمكنّه من الخروج بنتائج قابلة للاستقراء من قَبِل الجميع. كما يضمن هذا المبدأ حق المشاركة لمن كانوا يشعرون بالتهميش والإقصاء لعقود من الزمن. والمقارنة بين ما يسميه العامري «الأشكال المتجانسة» هو الكفيل بإنجاحها، إذ من الخطإ في تقديره أن نقارن الأصل بالفرع، أو نقارن جانب مهمّ في دين، بجانب أقلّ أهميّة في دين آخر.
وقد حدّد العامري الأركان التي وجدها مشتركة بين الأديان الستّة وهي كما سبق ذكرها «الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر» . وقد استند صاحب «المناقب» في هذا التصنيف إلى الجانب العملي في الأديان، ففي تقديره «من الواجب أن نعلم أنّ أفضل أصناف الأركان الدينيّة هي الخمسة الواقعة تحت جنس الاعتقادات، فإنّها معدودة من حيّز العلم، والأصناف الأُخر هيّ معدودة من حيّز العمل. وليس يُشكُّ أنّ نسبة العلم إلى العمل مضاهية إلى نسبة العلّة إلى المعلول، أو لنسبة البدء إلى التمام» . ويعكس هذا الرأي وعي صاحبه بالوظيفة الاجتماعية للأديان التي تؤكّدها البحوث العلميّة الحديثة. إذ تساهم الظاهرة الدينيّة -حسب الدراسات الحديثة- في دعم استقرار المجتمعات وتهدئة الضغوطات التي يعيشها أفرادها شرط أن تكون المجموعة المتديّنة تحتكم إلى المبادئ والقوانين نفسها وإلاّ كانت الوظيفة عكسيّة تماماً، وتاريخ الظاهرات الدينيّة حافل بهذه الشواهد.
ويُصِرّ العامري على ضرورة ربط النظري بالتطبيقي في دراسة الأديان حتى تحصل الفائدة، ويكون للجهد معنى؛ لأنّ «الشيء متى فسدت علّته واختلّ بدؤه لم يلحقه الصلاح أبداً، والشيء إذا بطُل تمامه فقد لحق الخلل بدؤه لا محالة» . ولا نستبعد أن يكون منطلق العامري إنسانيًّا أكثر منه دينيًّا في تحديد أركان المقارنة بين الأديان الستّة، رغم دفاعه المستميت عن أفضليّة الإسلام إزاء بقيّة الأديان، واستناده إلى أركان الإسلام الخمسة في تحديد النقاط التي بنى عليها مقارنته بينها. واعتبر العامري أنّ الجانب العملي في الأديان هو وسيلة للتعبير عن الشكر، وسمات للخضوع والطاعة . وربط في هذا السياق المُلك بالدين، وجعله لاحقاً به عند جميع الأمم. ففيما يعتقد، لو أقدم أحد الملوك على تعطيل حدّ من الحدود لما وجد عند أهل الإسلام من الاستعظام لأمره ما يوجد عند إهماله. وكذا حال النصارى في تركه سنّة المعموديّة، وحال اليهود في تحليله حُرمة السبت . يتحدّث العامري عن بقيّة الأديان بخصوصياتها دون أن يبدي رفضاً لهذه الخصوصيات، ولم ينعتها بما تعوّد المسلمون على استعماله من أوصاف حادّة تكرّس القطيعة مع الآخر، وتحفّزه للمقاومة والرفض.
3- التدقيق في مفهوم الدين
تَمثّلَ العامري جيّداً مسألة التعدّديّة داخل الدين الواحد، وما قد تطرحه من إشكالات. فكانت أوّل استنتاجاته أنّ الحالات المنفردة والقراءات الخاصّة لا يمكن أن تُعدّ تعبيراً عن الديانة في كلّيتها. ولم يُنكر هذه المسألة ولا اعتبرها مظهراً من مظاهر الضعف والخطإ في الأديان، وإنّما أعادها إلى طبيعة الإنسان ومدى قدرته على تمثّل الظاهرات المعقّدة مثل الظاهرة الدينيّة. وأكّد أن الكل معرّض للخطإ، وعلى الإنسان أن يسعى إلى الحقيقة بقدر طاقته، ويقول في هذا السياق: «وأنا الآن متشفع إلى كل من نظر فيه، وتتبع حقائق معانيه أن يصحح بكمال عقله مواضع الخلل منه، ومواقع الزلل فيه، ويحسن بي الظن فيما ألقاه صحيحاً، ويؤهلني لصالح دعائه فيما وجده قويماً، فإنه باب يدق مأخذه، ويصعب الإقدام عليه، والنقص البشري مُسْتولٍ على جبلَّتنا، والضعف الطبيعي مستحوذ على عقولنا، والتوفيق بقدر الاجتهاد» .
ويرفض العامري أن تكون هذه الانقسامات حالة خاصة بالإسلام، وأكّد بوضوح أنّ «كلّ دين لم يوجد على هذه الصفة [أي كما يطبّق]، بل أُسّس على مثال» . ويعكس هذا الكلام وعي الرجل بتاريخيّة الأديان، وتحوّلها مع تقدّم الزمن واختلاف الأجيال، من أصل إلى مجموعة من الصور، وأحياناً من دين إلى مجموعة من الأديان تحت المسمّى نفسه . وتتجسّم هذه الوضعيّة أكثر في الديانات التي تنتسب إلى إبراهيم. ويعيد صاحب «المناقب» اختلافات أهل الديانة إلى العصبيّة التي تتفرّع إلى أربعة أسباب:
إحداها -كما يقول- أن يعجب المتديّن بعقله ويغترّ بذكائه فيركّب نوعاً من المقاييس الفاسدة فينتج نتيجة كاذبة، وهو يخالها صادقة فيعتقدها ديناً ويدعو الناس إليه جهلاً .
والثانية أن يولع الإنسان من نفسه بالإغراب والتعمّق ويستهتر باستثارة معنى بديع لم تنتجه له خواطر الناس، فيسعى لأن يصير قدوة ويوطّد لنفسه الذكر والسمعة.
والثالثة أن يكون قصد الإنسان عناد جميع ما يسمع من الأقوال الصادقة والمذاهب الحقيقيّة. ويسعى بفكره هذا إلى استهداف طبقات العامّة باعتبارها سهلة الانخداع.
والرابعة أن يتعمّد الفرد تزييف الدّين وتوهين أساسه إمّا لتعصّب ملكيّ، أو لتعصّب نسبيّ. فيجتهد في تزوير الأخبار وينسبها إلى أئمّة أصحاب الحديث أو إلى أحد رؤساء العامّة . ويعتبر العامري أنّ هذه الطرق للآفات المتواترة على الأديان والملل وليست مقصورة على دين الإسلام، بل هي مشتملة على جميعها. ويقدّم أمثلة على ذلك.
4- موقف العامري من التعدّديّة في الإسلام
لم يخص أبو الحسن العامري الإسلام بفصل خاص للحديث عن التعدّديّة المذهبيّة وأسبابها وأهدافها، ولم يقلّد مفكري عصره في اصطفافاتهم الفكريّة، وتسخير قدراتهم لإذكاء الفتن المنتشرة، وإنّما وقف موقف العالم الذي ينطلق من الواقع ليبني فرضياته، ولم ينطلق من فرضياته الخاصة ليبني الواقع. لذلك وجدناه تحدّث عن التعديّة المذهبيّة باعتبارها ظاهرة دينيّة. وقد أبدى الرجل قدراً هامًّا من الاطِّلاع على خصوصيات بقيّة الأديان وفرقها. وجاءت قراءته للظاهرة في توازن ومنطقيّة.
ورغم تلميحاته إلى رفض بعض المواقف الشيعيّة، فإنّ خطابه كان معتدلاً، قاطعاً مع خطابات التجريح والتكفير المتبادلة بين أغلب الفرقاء. وهذا الأسلوب في النقد من شأنه أن يجعل الدارس يُقرّ أنّ مواقف الرجل من بعض المذاهب إنّما تأسست على منطلقات علميّة وقناعات فكريّة كان قد ألزم نفسه بها، ولم تستند إلى خلفيات قبليّة ومصالح سياسيّة مثلما هو رائج في واقعه، والدّليل أنّه نقد أكثر من مذهب في نقطة واحدة كما في قوله: «ثمّ إنّ صنفاً من الإماميّة، وطائفة من الحنابلة عابوا صناعة الفقه، ونسبوا أربابها إلى ارتكاب البدع، وقالوا....» . وكما يتضح من هذا الشاهد، لا ينطلق العامري في نقده لمسألة ما، من رؤية مذهبيّة معيّنة ويقيّمها من خلال أخرى، وإنّما يُخضع كلّ المواقف تجاه تلك المسألة لمنهجه الفكري الذي حدّده، بل إنّه يحدّد الجهة المنقودة بكلّ دقّة، فلم يلجأ إلى التعميم عند اعتراضه على رؤية بعض المدارس الإسلامية لصناعة الفقه، وإنّما ذكر تحديداً «صنفا من الإماميّة وطائفة من الحنابلة».
وفي تقديرنا هذا هو وجه الطرافة والجدّة في موقف الرجل، باعتباره استطاع أن يجعل لنفسه تصوّراً خاصًّا، ورؤية محدّدة تتخذ من العقل مرجعاً ومن الصرامة العلميّة منهجاً. وقد تفرّع عن هذه الخصوصيّة في النظر إلى ظاهرة تعدد الأديان، خصوصيّة في التعامل مع تعدّديّة الداخل الإسلامي، إذ تجاوز العامري الوقوف عند مصطلحات سنّة وشيعة وخوارج ومعتزلة، وجعل منطلقاته فكريّة تعالج تمثّلات هذه الفرق لمفاهيم مشتركة بينها مثل علم الحديث وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم اللغة. وقد خصص أبو الحسن لهذه المسألة الفصل الثالث من كتابه سمّاه: «القول في فضائل العلوم المليّة» .
موقفه من علم الحديث
يعتبر العامري علم الحديث صناعة حسيّة ، ويعكس هذا التصنيف موقف الرجل من الجدل الدائر في عصره حول دور المحدّثين في بناء المعرفة الإسلاميّة. وكما يذكر صاحب المناقب ثمّة «طائفة من المتكلّمين اتفقت على تهجين صناعة الحديث، ولقّبوا أربابها بالحشو والطغام، بل أخرجوهم من جملة العلماء» ، وحجتهم كما يقول العامري أنّ علم الخبر نظير لعلم المُدرك بالبصر، وبالتالي كما لا يجوز أن يُسمّى عالماً برؤية الأبصار، لا يجوز أن يسمّى عالماً بسماع الأخبار. ويردّ العامري على أصحاب هذه المواقف بعنف، مؤكّداً أنّ الحديث علم لا يقتصر جمعه على إدراك الأصوات وفهم تنظيمها، وإنّما هو «نظير الكتابة المُشتملة على المعاني» . فالحديث ليس مجرّد سماع أخبار، وإنما كتابة تستند إلى منهج وقواعد تجعل منها علماً كسائر العلوم الإسلاميّة بل أخطرها وأهمّها. وتكمن خطورته في مضمونه المنقول «إمّا من الكتب المنزّلة أو من الرسل والأئمّة، أو من الحكماء المتقدّمين أو من الأسلاف الصالحين» .
أمّا أهميّته فتعود لكون هذا المضمون يمثّل مصدراً أساسيًّا للتشريع في الإسلام إلى جانب القرآن من ناحية، وأداة تحفظ سيرة الرسول باعتباره قدوة المسلمين الأولى من ناحيّة ثانيّة. ويرى العامري أنّ المسلمين مطالبون بحفظ ذاكرتهم من التلف والضياع، شأنهم شأن بقيّة الأمم مثل «بني إسرائيل [الذين] يتبجّحون بالتابوت المشتمل على بقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون» . وأثنى صاحب «المناقب» على ما عدّه مجهودات جليلة يبذلها علماء الحديث، إذ هم في تقديره «المعنيون بمعرفة التواريخ العائدة بالمنافع والمضارّ، وهم العارفون لرجال السلف بأنسابهم وأماكنهم ومقادير أعمارهم. وهم المتحقّقون لما يصحّ من الأحاديث الدينيّة، وما يسقم منها وما يقوى ويضعف... بل هم المجتهدون أن يصيروا نقّاد الآثار، وجهابذة الأخبار، فيعرفوا الموقوف منها والمرفوع، والمُسند والمرسل، والمتصل والمنقطع، والنسيب والملصق، والمشهور منها والمدلّس...» .
وبهذا الإطراء يكون العامري قد حافظ عل نهجه التسامحي، ليس تجاه المخالف دينيًّا أو مذهبيًّا فحسب، وإنّما أسس لتسامح فكري كامل وشامل لا حدود له في جغرافيته الطبيعيّة والفكريّة. كما دعم بتعداده لمجهودات المحدّثين المواقف التي تدافع عن الحديث كعلم له منهجه وأساليبه التي تميّزه عن سائر العلوم .
موقفه من علم الكلام
شهد القرن الثالث هجري عودة قويّة للإخباريين المدافعين عن مدرسة الحديث في وجه المدرسة الاعتزاليّة التي هيمنت مع حركة الترجمة . واتخذ دفاعهم منحى خطيراً وصل إلى حدّ التكفير، والاتهام بالشرك. وقد انعكس هذا المناخ سلباً على الحياة الفكريّة من جهة تعميق الانقسامات اللاحقة بالاصطفافات المذهبيّة. وفي هذه الظروف استطاع العامري أن يحافظ على قناعاته الفكريّة المراهنة على العقل والمنطق، فرفض الحملة الشرسة التي تستهدف علماء الكلام من قبل مدرسة الحديث ، ودافع عن موقفه في منهج حجاجي محكم، نوّع فيه القرائن انطلاقاً من القرآن والسنّة، دون أن يغيّب منطقه وعقله، كما في حجّته الثالثة . فالدين -على حدّ تعبيره- ينقسم إلى فروع وأصول، وعلماء الكلام يعالجون في جدلهم الفروع باعتبار أنّ الأصول من المسلّمات عند أغلب المسلمين. وانطلاقاً من ذلك اعتبر العامري أنّ مجهودات المتكلّمين تنصبّ على إثبات الأصول وتركيزها بمنطلقات عقليّة. وهذا المجهود في تقديره يمثّل الدور الحقيقي للمسلمين في مرحلة ما بعد تثبيت أركان الدعوة، ودخول غير العرب من أصحاب الثقافات العريقة والديانات القديمة. وامتدح العامري أهداف مدرسة الكلام التي تميّزت في جهودها لتثبيت عقيدة التوحيد بقوله: «لم نجد أهل دين من الأديان عُنُوا بتقديم المقدّمات العقليّة لاستخراج النتائج النظريّة في استخلاص توحيد الله تعالى من شبهات المعاندين ومغالطات المغالطين» .
وانطلاقاً من هذه القناعات لم يجد صاحب «المناقب» فرقاً بين دفاع المتكلّمين عن الإسلام بالفكر والكلمة والموعظة الحسنة، وبين قتال المسلمين الأوائل بالسيف لتركيز الدعوة . إذ بعد أن استقرّ الإسلام ديناً لغالبيّة سكان الحجاز وما جاورهم من أمم، صار ضروريًّا مراعاة خصوصية الوافدين الجدد على الإسلام من المحمّلين برواسب فكريّة متنوّعة، لا قدرة للسيف على تغييرها وتطويعها، بل إنّ الآليّة المثلى لذلك هي العقل الاعتزالي المتسلّح بالمنطق اليوناني والحكمة الفارسية.
موقفه من علم الفقه
ما يهمّنا في هذا الموقف هو طريقة تعامل صاحبه مع ما هو موجود من مدارس وتوجهات. فالعامري لا يفرّق بين مذهب وآخر في تمثّله لما اعتبره علماً للفقه. لذلك توجّه بالنقد إلى أغلب المدارس الموجودة في عصره، فنقد صنفاً من الإماميّة وطائفة من الحنابلة، وعارض إبراهيم النظام رأس المعتزلة. وخاطب العامري كلّ من يراه جَانَبَ الصّواب في التعامل مع صناعة الفقه. وحتى إن كان قريباً من الحنفيّة كما يتضح من خلال دفاعه عن أبي حنيفة النعمان (150هـ)، فإنه بنى موقفه على أسس منطقيّة، والمنطق لا يعني دائماً سلامة الرأي.
وحتى يكون العامري وفيًّا لمنهجه، أكّد في النقطة الرابعة عند دفاعه عمّا سمّاه علم الفقه، على القيمة العمليّة له، فربطه بسياسة الأمّة، واعتبره إلى جانب علم الكلام، دعامة للملك. وحذّر الملوك من الإعراض عن دور الفقهاء، لأنّ الأحكام التي يستنبطونها تسهّل فرض النظام والاستقرار بين الرعيّة في مجتمع يعتبر الدّين مرجعيّته العليا.
5- إصلاح العلوم الدينيّة
مثّل دفاع العامري عن العلوم المليّة دفاعاً عن مبدإ رهانه على العلم والعقل. لذلك لم يدخل في تفاصيل المذاهب ولا خصوصياتها، رغم نقده لبعضها. وقدّ ذكر ذلك بوضوح في آخر الفصل الثالث قائلاً: «وإذ قد ظهرت لنا خاصّة كلّ واحد من العلوم الدينيّة في استحقاق الفضيلة، فمن الواجب أن نصرف القول إلى ذكر الأبواب اللازمة [لإصلاح] كلّ واحد من هذه الصناعات الثلاثة» .
وقد اشترط العامري في المحدّث أن يكون عارفاً بطبقة الروّاة باعتبارهم المصدر الذي تأسست عليه أغلب فروع المعرفة عند المسلمين، وأن يكون طاهر العفاف بريًّا من التجوّز في صناعته، رافضاً لغريب الأخبار التي ترده. والأهم أنّ العامري يحذّر المحدّثين من الانجرار وراء الأغراض النفسيّة الناتجة عن الصراعات الفكريّة والمذهبيّة . وتكمن أهميّة هذا الشرط الأخير في حرصه على ضرورة الفصل بين العلم والحقيقة من جهة، وبين الصراعات و «الأدلجة» المذهبيّة والعرقيّة والقبليّة من جهة ثانية.
أمّا ما تُستصلح به صناعة الكلام على حدّ عبارته، فهي المعرفة بأبواب القياس، ومُثُل الاجتهاد، والقدرة على تأليف المقدّمات لاستخراج النتائج، مع شرط آخر أكثر أهميّة وخطورة، هو ألَّا يسعى المتكلّم إلى مغالبة الخصم بدل تحصيل الحقيقة. وبذلك يكون العامري قد قرن في إصلاح علم الكلام بين الجانبين المعرفي والنفسي، ولعمري أنّه أحسن الاشتراط في هذه المسألة، خاصة في مثل الظروف التي عاشها المسلمون في عصره.
وفيما يتعلّق باستصلاح صناعة الفقه، يشترط العامري قدرة لدى المحدّث على دراسة الأخبار، بتمييز المتواتر من الآحاد، والمجمل من المفصّل، مع تدقيق درجة الإجماع حولها. وهذه الشروط مجتمعة كفيلة حسب صاحب المناقب، بتخليص الوضع الذي عاشته مدارس الحديث من ضبابيّة لفّته تحت وطأة الأحداث السياسية والعسكريّة التي شهدها القرن الأوّل للهجرة.
الخلاصة
في تقديرنا لا توجد خلاصة واحدة من هذا الكتاب المغمور رغم ثوريّته في بناء معرفة إسلامية تستند إلى العقل والمنطق، بل توجد خلاصات ليس هذا مجال تناولها. لكن يمكننا الخروج ببعض الفوائد:
أوّلها: توصّل المسلمين القدامى إلى درجة هامة من القدرة على استيعاب أنشطة عصرهم الفكريّة، بطريقة فلسفيّة تضاهي ما سبقها وما لحق بها من تجارب في القيمة والتنظيم.
وثانيها: أنّ مجهود محمد العامري في كتاب «المناقب» مثّل نموذجاً لمجهودات إسلاميّة بُذلت في عصره لتحويل التناقضات والصراعات مع الآخر ومع الذات إلى آليات للإثراء والتميّز في مجالات الفكر الدّيني.
أمّا ثالثها فهو تفريط المسلمين في السبق لتأسس علم لمقارنة الأديان والحضارات بسبب قطعهم مع مجهودات مفكّرين من أمثال محمد العامري، ابن حزم، أبي الريحان البيروني، الكندي الفيلسوف، النوبختي، أبي الحسن الأشعري، الباقلاني، الشهرستاني، وغيرهم.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.