تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

دريدا وتفكيك علوم الإنسان

الدكتور عبد القادر بودومة

 *

 التفكيك.. أصوات متعددة

عرف التفكيك déconstruction ميلاده عام 1966، السنة التي ألقى فيها جاك دريدا J. Derrida 1930-2004 محاضرته المعنونة بـ: البنية، العلامة واللعب، في خطاب العلوم الإنسانية، والتي تم طبعها ضمن كتاب: «الكتابة والاختلاف» (ص 409-428) في مؤتمر عن البنيوية نظمته جامعة جون هوكينز ببالتيمور، وتمكن دريدا من خلالها قرع نواقيس مجيء فلسفة ما بعد البنيوية، توجَّه بالنقد إلى العديد من الفلسفات: هيغل Hegel، نيتشه Nietzsche، هوسرل Husserl وهيدغر Heidegger.

يحتفي دريدا بصورة مغايرة بالنص باعتباره الفضاء والحقل الذي يحتوي على بنى يقال عنها واقعية واقتصادية وتاريخية واجتماعية مؤسساتية، باختصار كل الإحالات الممكنة. مثل هذا الاحتفاء يضعنا أمام طريقة أخرى للتذكر مجدداً بأنه «لا يوجد ما هو خارج النص»، العبارة التي أساء النقاد فهمها؛ إذ جعلوا منها منطلقهم للهجوم على فلسفة دريدا وعلى مشروعه عامة؛ مؤكدين أنها كانت بمثابة الدعوة إلى الكف عن الالتفاف إلى قضايا الواقع البشري وما يحتويه من قوى متصارعة من آليات فعلية للهيمنة، وكأن الأمر تعلق بدعوة دريدا إلى التواطؤ على استمرار واقع معين مليء بالمعاناة.

لكن خارج النص لدى دريدا يتم دائماً بتسجيله في داخله إلى الدرجة التي يتطابق فيها مفهوما النص والسياق Contexte ويسيران وجهان لعملة واحدة، فعندما نتطرّق إلى السياق لا نفعل سوى أن نتوغّل داخل النص.

التفكيك تمرين على النص ينجز قراءة له من الداخل في الآن معاً، فهو لا يفضّل مغادرة الميدان وتغييره بصورة جذرية ولا يحبذ البقاء بداخل المطلق. لهذا فالتفكيك هو بمثابة استراتيجية تضعنا أمام كتابة جديدة قادرة على النسج والحياكة قصد المغادرة والبقاء في الآن معاً؛ ذلك لأنهما مثلاً لدى دريدا مطلباً أساسيًّا يسير بنا نحو التأكيد على ضرورة الحديث داخل لغات عديدة وإنتاج نصوص هي الأخرى تحمل تعددها؛ لأن الرهان الاستراتيجي الأول الخاص بالتمرين على التفكيك يكمن في خلخلة وزعزعة جذرية لا يمكن أن تحصل إلا من الخارج، خلخلة تلعب داخل العلاقة العنيفة للغرب في كليته مع آخره، سواء تعلق الأمر بعلاقة ألسنية حيث يتم طرح وبسرعة سؤال حدود كل ما يؤدي إلى سؤال معنى الوجود، أو بعلاقة إثنولوجية، اقتصادية، سياسية وحتى عسكرية.

نقصد بالداخل Le dedans ذلك المكون من داخل البيت (أحجاره وأساساته) أي داخل اللغة. ومن أحجاره باعتبارها مفاهيم تنجز تفكيكاً للتعارضات الموجودة بداخله من دون نقل أو تغيير الميدان. أما الخارج Le dehors هو إحداث القطيعة والاختلاف المطلقين مع البيت وذلك من خلال مغادرته والإقامة بصورة عنيفة خارجاً، فالنص يحمل العديد من الممرات وعلى القراءة أن تعي حقيقة ذلك.

إن تفكيك أي نص هو بمثابة مواصلة إنتاج التعارضات القائمة في النص ذاته، أو معاودة ابتكار réinventer الصراع الخلاص بمنطق المعنى والتوضيح بأن النص لا يعي بدقة ما يقوله، ما يعنيه. إن النص هو لا حسمية indécidabilité منفتحة على إمكان اللاممكن أو الممكن المستحيل. والتأسيس لمثل هذه اللحظة هو بمثابة التخطي الميتافيزيقي للغة واتخاذها من النص مسكناً لها. إن النص هو مكان إقامة اللغة ولم تعد هذه الأخيرة مسكناً للكائن كما كان يعتقد هيدغر؛ ذلك لأنه لم يعد ثمة شيء – خارج - النص. هذا ما يؤكّد عليه دريدا، فالتفكيك يشغل نفسه بالنص بوصفه كتابة للميتافيزيقا، إنه الحقل الحقيقي والفعلي لأي تفكيك، والنص هو الممارسة ذاتها للتفكيك. أي أنه صار، مع دريدا، حقلاً champ وممارسة pratique للتفكيك، وخلاف ما يحلو لبعض النقاد حينما يقولون: إن التفكيك ليس سوى ضرباً من الشكية والعدمية فإننا نجد دريدا يؤكد أن التفكيك: «ليس أبداً هدماً أو تقويضاً ولا بناء. إنه هجوم على أنظمة متأسسة ومكرسة، ولا بناء لمثل هذه المؤسسات، فهو لا يدّعي الهدم المطلق للنسق، للميتافيزيقا، كما لا ينجز بناء لها بصورة كاملة. إن التفكيك كمارسة متموقع حيث البرزخية inter؛ ذلك لأنه يمثل الهدم والبناء في الآن معاً dé-construction، فهو يقدم على هدم التعارضات الميتافيزيقية لا ليتخلص منها بصورة نهائية أو لينجز عدماً نهائيًّا لها إنما ليقيم تعارضات أخرى».

إن غرض دريدا من هكذا استراتيجية هو الإبقاء على حياة- النص le sur-vie du texte، فالتفكيك يموضع نفسه ضمن المفصل والإقدام على بنائه في الآن معاً. ذلك لأن الآخر لا يأتي إلى حيث المسكن (النص) إلا وهو محمول بتعدده اللساني وبزخم تراثه وغناه الثقافي واختلافه الأنثروبولوجي؛ «فأن ننجز تجربة للحوار بين هذه العناصر، هذا يعني أن ننجز تفكيراً حول لغة الآخر، كلام الآخر، كتابة الآخر. ذلك لأنه يدعوني باستمرار للمجيء إليه، ولا يمكن لمثل هذه الدعوة أن تحصل على هذه الاستجابة إلا داخل وعبر أصوات متعددة، ومنه يكون التفكيك بمثابة الابتكار ومعاودة الابتكار لما تمّ ابتكاره داخل النص، نص البقاء والديمومة إذ يكفي كتابة نص واحد ليصير بمثابة الطريق المؤدّي حيث اللاأفق، وأن أي ابتكار للنص هو بمثابة معاودة - إنتاج النص ذاته»

ذلك لأن النص متتالية لانهائية ينقسم على نفسه و يتكاثر، إن التفكيك أكثر من لغة لا يشغل ذاته بالنصوص التي تمنح نفسها طواعية لأوّل قادم (قارئ) إليها، وإنما التفكيك يتوجه دائماً إلى النصوص التي تمنع نفسها عن كلّ قارئ طارئ، فالنص يفضل مباغتة قارئه إما بأن يفرض عليه ضيافة إيتيقية لامشروطة أو ضيافة دركية مشروطة.

ولعل الضيافة الأولى هي الوحيدة القادرة على الإبقاء على حياة النص، ولهذا وجب عليه إخلاء السبيل أمام كل قارئ-طارئ وافد مقدم ملبٍّ نداء الضيافة اللامشروطة.

إنّ الذي يشغل تفكيك دريدا هو تلك المفارقات الموجودة داخل النصوص المغلقة على نفسها، الرافضة أن تكون موضوعاً للابتكار والإنتاج، أو الرافضة الذهاب إلى حيث استراتيجيات البحث والتحليل. ومن هذا المنطلق يستوجب على كلّ قارئ-طارئ امتلاك ترسانة منهاجية تمكّنه من سحب النصوص طواعية أو قسراً نحو مخابر التحليل وورشات التدبير والتمرين؛ إذ وأمام عجز الخطاب النسقي المحصن داخل الكهف الأفلاطوني، وأمام صلابة النص وامتناعه عن الفتح، وأمام عجزه عن فهم التصدّعات وعدم مكنه في التحكم من منابع نمائه؛ كان ضروريًّا تقديم استراتيجية التفكيك باعتبارها ممارسة، أي استراتيجية عامة تتحدث عن النص وعن النسق في الآن معاً، على الرغم من اعترافها بوجود بوناً بيّناً بينهما. إنّ دريدا حينما يتحدّث عن إمكان ابتكار النص لم يقصد من وراء هذه العبارة أنه ثمة كان يقيم حيث الغياب أو كان مختفياً وتمّ ابتكاره، وإنما يتعلّق بابتكار الابتكار ذاته، أي أن يبتكر النص وما يضمره من نصوص: «الابتكار ظاهرة يتجلى عنها إمكان إيجاد أو اكتشاف الشيء وأن أي ابتكار يتطلب توقيعاً من طرف الآخر قصد التمكن من منحه الشرعية، وهذا الآخر هو الأب أو من يعتقد أنه صاحب النص الأصلي، هنا تبدأ، في اعتقاد دريدا، تراجيديا الترميز إذ كلّ حديث عن الابتكار هو بمثابة الحديث عن معاودة-ابتكار، أي معاودة ابتكار الابتكار عينه»، فقط بإمكاننا الإشارة إلى أن سؤال معاودة-ابتكار النص أو معاودة ابتكار طبقاته وترسباته هو بمثابة سؤال الغيرية، فالتفكيك لن يكون، في اعتقادنا، مجرّد ممارسة للتحليل، فهو وبالإضافة إلى ذلك يتجه بعيداً عن القرار النقدي ذاته، أي أنه لا يمثل نقداً أو نقداً للنقد كما يحلو لدى مفكرينا وبالأخص علي حرب الذهاب إلى تأكيد ذلك، فنحن نجد أنفسنا دائماً أمام إزاحة جذرية للتفكيك عن باقي الممارسات التي تعتقد بقدرتها على الإمساك بالمعنى وإمكان الظفر به.

إن التفكيك لا يعرف وجوده إلَّا في اللحظة التي يكون محرّكه الأساسي قائماً على المحبة philia، فهو لن يكون أبداً مثلما يشير إلى ذلك دريدا دون حبّ، فممارسة التفكيك ممارسة مفرطة في العشق، والمفكك لن يكون إلا عاشقاً محبًّا، فحين نتوجه إلى التفكيك سنجد نوعاً من الأنس مع هذا المتعذّرعن الإمساك.

أن نفكك يعني أن نحبّ، التفكيك قرين المحبّة، فبين ما هو موجود وما هو متبقٍّ بداخل النص ثمة دائماً ذلك الذي لم يتم التفكير فيه بعدُ، والتفكيك يمدّد من حظوظ النص في البقاء، إذ لا يمكنه البتة أن يدّعي قدرته على تفكيك معنى النص في شموليته، فالتفكيك ممارسة تُرجئ وتؤخّر دائماً قول النهايات، وهذا ما يميزه بالطبع عن باقي المناهج التي تبنّتها الفلسفات الأخرى، وبالأخص تلك الممارسة داخل فضاء العلوم الإنسانية، الإثنولوجيا واللسانيات والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا...

من هذا المنطلق سيكون النص عالماً مفتوحاً على ممارسة التفكيك، والانفتاح هنا لا يقرّه التفكيك ذاته؛ ذلك أن النص في حدّ ذاته يكون مغلقاً، غير قابل للقراءة، ونحن من يعمل على فتح مغالقه، فالتفكيك لدى دريدا: «لا يقدّم نفسه باعتباره منهجاً مكتملاً أو ممكناً، إنه ممكن المستحيل le possible de l’inpossible إلى الدرجة التي يمكننا من خلالها الإشارة إلى أنه لن يفقد شيئاً حينما يعلن عن لا إمكانه». فالخطر كل الخطر الذي قد تواجهه مهام التفكيك هو أن يصير ممكناً؛ إذ في بلوغه ذلك يكون قد عجّل عن نهايته المحتومة بكلّ ما تحمله النهاية من دلالة الحد والاكتمال. يصرّ دريدا على أن يبقى التفكيك عن المنهاجوية فهو لم يكن أبداً مجموع إجراءات جاهزة ومعقّدة بالتطبيقات المنهجية. تكمن غاية التفكيك في أن يمتلك القدرة على أن يصير تجربة لا ممكنة، وقوة ورغبة التفكيك هذه متوقفة على مدى إحالتنا إلى بعض تجارب اللاممكن، أي على مدى قدرتنا على إحداث انعطاف نحو الآخر، إذ في تجربة الآخر يحصل ابتكار اللاممكن، يتساءل دريدا، عمّا يجعل حركة التفكيك التي كثيراً ما تم توصيفها سلباً من حيث إنها مجرّد ممارسة تدميرية للمعنى؛ أن يصير على خلاف ذلك، ممارسة مبتكرة في ذاتها حقيقتها الخاصة، أي يتمكن من اكتشاف وكشف حقيقة ذاته. علينا أن نبتكر، فالابتكار الذي نحن مطالبون به لن يكون أبداً خلقاً ولا تخييلاً ولا إنتاجاً ولا تأسيساً، وإنما بالأحرى ودائماً ابتكار الابتكار، ابتكار/الاكتشاف/، ابتكار/الإنتاج، ابتكار/التخييل».

لا يعلمنا التفكيك إذن قراءة النص من خلال استحضاره كلغة، وكنتاج للمعاني من خلال الاختلاف والمغايرة، ومن خلال لعبة معقدة لاقتفاء الأثر. ليس كل هذا وحسب، بل يمكّننا من استجواب الفرضيات الفلسفية والسياسية الخفية للمذاهب النقدية القائمة، والتي غالباً ما تحكم قراءتنا لنصٍّ ما. وفي التفكيك ثمة من يتحدّى كلّ مؤسسة تعليمية. طبعاً لن يكون هذا بمثابة الدعوة لتدمير مثل هذه المؤسسات، ولكنه يجعلنا بالأحرى أكثر وعياً بما نقوم به عندما نؤيد طريقة مدرسية ما في قراءة النص دون مدرسة أخرى، ويجب ألَّا ننسى أن التفكيك بذاته شكل من أشكال الأدب أو نص أدبي يجب قراءته، كما يقول دريدا، مثل النصوص الأخرى، «وتأويل مفتوح على تأويلات أخرى مختلفة ومتعددة، وبناء على هذا يمكن لنا القول: إن التفكيك متواضع جدًّا وطموح جدًّا في آن معاً،. طموح إذ يضع نفسه موضع متكافئ مع النصوص الأدبية، ومتواضع إذ يعترف بأن مجرّد تأويل نصي واحد ضمن تأويلات عديدة يكتب بلغة لا تحكمها قوة مركزية أو تسيطر عليها، يكتب بلغة لها سيادة فوق وعلى لغة الأدب».

تفكيك علوم الإنسان.. معبراً لإنسانية جديدة

لقد صار للتفكيك تاريخ، سواء بداخل فرنسا أو خارجها منذ أكثر من أربعين سنة، وأمسى مساراً مثله مثل الاستراتيجيات التي تعرف في ذاتها تنوعها، واختلافها من بلد إلى آخر، من لغة إلى أخرى، من نص إلى آخر، ثمة تنوع جوهري في لفظة التفكيك، وهذا ما حاولنا تناوله بالبحث والتحليل سابقاً، ولا يجب أبداً أن نغض الطرف عما يحققه من فتوحات جليلة داخل لغات عديدة، إلى الدرجة التي يمكن معها القول: إن التفكيك لا يمكن الحديث عنه إلا داخل الجمع، (تفكيكات). إنه كتابة تنحدر من الكتيبة. يرفض دريدا كتابة التفكيك بالحرف البارز «D»، فهو لن يكون مذهباً ولا منهجاً ولا علماً ولا حتى فلسفة، لكنه هو دائماً الممكن المستحيل، فإذا كان ما يحدث ينتمي دائماً -كما يقول دريدا-: «إلى أفق الممكن أو حتى أفق أدائي ممكن فإن هذا لا يحدث بالمعنى الكامل للكلمة، ذلك لأن وحده المستحيل، هو الذي يمكن أن يحدث، وعندما كنت أذكر دائماً أن التفكيك كان مستحيلاً أو هو المستحيل وبأنه لم يكن منهجاً أو مذهباً أو تأملاً، فو-فلسفيا hyper-philosophique، لكن هو ما يحدث. والأمثلة التي حاولت من خلالها بيان ذلك كانت كثيرة: الهبة Don، الغفران Pardon، الضيافة hospitalité، الصداقة Amitié، الابتكار invention... تؤكد كلها هذا التصوّر عن الممكن المستحيل، عن الممكن كمستحيل، عن الممكن-المستحيل. إنه فكر «لربما» (Peut-être)، إذ قد يخطئ من يحاول وضع برنامج معين أو نهائي لاستراتيجية التفكيك.

إن الإيمان بالعلوم الإنسانية الجديدة سيرتبط لدى دريدا بالقدرة على تفكيك العديد من المؤسسات الدوغمائية والتي كانت في حدّ ذاتها نتاج فلسفات هي الأخرى نسجت أسيجة ميتافيزيقية حاولت الإعلاء من قداسة الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً. قلت سيرتبط هذا الميلاد بالعلوم الإنسانية الجدية، بهداية الإيمان التي تتمتّع بها الجامعة الموسومة بالحرية غير المشروطة. الجامعة المقصودة هي تلك التي كانت وليدة الأزمنة الحديثة والتي كانت تتمتع بدورها بالحرية ذات الطابع الديمقراطي، «والأمر لم يكن له علاقة بالحرية في البحث العلمي وحسب، وإنما مسّ حتى الحرية غير المشروطة في التساؤل والاقتراح، وأن يتم القول وبصورة علنية كل يقتضيه البحث والمعرفة والتفكير في الحقيقة لتغدو هذه الأخيرة المهنة الحقيقية للجامعة. ولقد ارتبط مفهوم الحقيقة بالنور والتنوير والإيضاح والوضوح، وهي مفاهيم ارتبطت هي الأخرى بمفهوم الإنسان، في إطار ما يميّزه كإنسان، وهذا ما أدى إلى إقامة النزعة الإنسانية Humanisme والفكرة التاريخية عن العلوم الإنسانية» يأتي التفكيك إذن ليحاول لغز وسر هذا التواطؤ الضمني أحياناً والمعلن عنه أحياناً أخرى بين النزعة الإنسانية وبين ميلاد علوم الإنسان؛ ذلك لأن التفكيك -كما أشرنا- يعتبر بمثابة الممارسة النقدية الجذرية، «إنه مبدأ المقاومة غير المشروطة، وهو الحق الذي ينبغي على الجامعة نفسها أن تتأمله وأن تخترعه وأن تفرضه سواء قامت به أم لا عبر كليات الحقوق أو كليات العلوم الإنسانية الجديدة القادرة على أن تشتغل بهذه القضايا الخاصة بالحق، قضايا الإنسان وحقوق الإنسان والجريمة ضد الإنسانية»، كلّ هذه القضايا من المفروض أن نوجد لها مكاناً ومكانة داخل الجامعة باعتبارها معقل المقاومة النقدية القادرة على مواجهة كلّ أشكال الأصوليات الدوغمائية.

إن تاريخ مفهوم الإنسان لم يسبق له، يقول دريدا، وإن تمّ تناوله بالبحث والدراسة من حيث وضعه موضع مساءلة، إذ كلّ شيء كان يحدث وكأنّ الإنسان لم يكن له أي أصل ولا أي حدّ تاريخي ولا ثقافي ولا ألسني ولا حتّى حدّ ميتافيزيقي، فعمر النزعة الإنسانية «من حيث الظهور والانتشار لم يصل قدامته بعد، وبدأت هذه النزعة تعرف توسّعها، والبدء في التفكير فيها في اللحظة التي عرفت العلوم الإنسانية توسعها من حيث الهيمنة والغرابة في الآن معاً داخل الحقل الفلسفي تحديدا».

لقد شكّل التناهي Finitude لدى كانط سلطة معرفية في اللحظة التي انبثقت فيها الأنثروبولوجيا Anthropologie، فالذي يأخذ أهميته البالغة لديه حينما حاول إقامة ميتافيزيقا الخلاق ابتعاده كلية عن الأنثروبولوجيا، إذ من المتعذّر في تصور كانط إقامة هكذا مشروع انطلاقاً من الإنسان، ومنه كانت الدعوة الملحة إلى استقلال التفكير المحض للنهاية، أي النهاية في ذاتها عن كل أنثروبولوجيا، وهذا ما جعل كانط يقدم على نقد، وبصورة جذرية، النزعة الأنثروبولوجية، إذ لا يمكننا البث في اعتقاده التأسيس دائماً لميتافيزيقا الأخلاق واستنباط مبادئها انطلاقاً من المعرفة الطبيعية للكائن المتميز والمسمى: إنسان، لكن من جهة أخرى يشير دريدا على هامش «هوامش الفلسفة» أن خصوصية الإنسان تكمن في ماهيته باعتباره عاقلاً، حيوان عاقل Zoon logon ekon، خصوصية لا تعلن عن نفسها إلا انطلاقاً من تفكير النهاية في ذاتها حيث تعلن عن نفسها كنهاية في ذاتها، أي كنهاية لا نهائية بما أن الفكر اللامشروط هو أيضاً الفكر الذي يسمو عن التجربة أي عن التناهي».

من هذا المنطلق نلمس لدى كانط ومن خلال قراءة دريدا لدلالة الأنثروبولوجيا أنه ثمة نوع من الالتباس تجاه هذه الأخيرة وتجاه النزعة الإنسانية، فهو، أي كانط، متردد بين الأخذ بها أو رفضها، لكونها كانت محكومة بمنطق التأسيس الخاص بالفلسفة المحضة التي تخلو من تدخّلات الأهواء والمشاعر البشرية، فعلى الرغم من نقده للنزعة الأنثروبولوجية أبقى على الإنسان باعتباره المثال الأوحد أو الحالة الوحيدة في أن يكون الكائن العقلاني وفي أن نتمكن من تفكيره في اللحظة نفسها عندما يكون إنسانيًّا، وعند حدّ هذا الفعل ستكون الأنثروبولوجيا أمام استرجاع أساسي لسيادتها داخل الفلسفة الكانطية، السيادة التي سبق وإن اعترضت عليها، «أقول: الإنسان هو على العموم الكائن العاقل المتواجد كنهاية في ذاتها وليس أبداً كمجرّد أداة... ومن هذا المبدأ ستكون كلّ من الإنسانية وكلّ من الطبيعة العاقلة منظوراً إليها باعتبارها نهاية في ذاتها».

لقد حدد هيغل الأنطولوجيا كمنطق مطلق، وقام بتجميع كلّ تحديدات الوجود بوصفه حضوراً، وعزا إلى حضور العقائد الأخروية الخاصة برجعة المسيح والخاصة باقتراب الذاتية اللانهائية من ذاتها، إذ نجده في عمله «فينومينولوجيا الروح» 1806، يميّز هذا العمل عن الأنثروبولوجيا بصورة كلية، فعندما نتناول دريدا بالقراءة نجد التأكيد التالي: «إن هيغل لم يلتفت، أو بالأحرى لم يهتم أبداً بما ننعته بالإنسان؛ ذلك لأن علم تجربة الوعي وعلم بنيات الروح لا يُحمَل إلا على ذاته، ففينومينولوجيا الروح تلي الأنثروبولوجيا وتسبق السيكولوجيا وتعالج الأنثروبولوجيا الروح المتمثلة تحديداً في الحقيقة الطبيعية بما هي نفس Seele ou naturgeist أما تقدّم النفس فإنه يمر من خلال النفس الطبيعية مثلما ترسم الأنثروبولوجيا ذلك بواسطة النفس الحاسة Fühlende seele بواسطة النفس الواقعية أو المؤثّرة wircklishe seele ويكتمل هذا التقدم ويعرف إنجازه الحق لحظة انفتاحه على الوعي».

إن الوعي الفينومينولوجي يمثّل إذا حقيقة النفس أي ذلك الذي يمثّل بالتحديد موضوعا أنثروبولوجيا: «إن الوعي يعكس لدى هيغل حقيقة إنسان، وإن الفينومينولوجيا هي حقيقة الأنثروبولوجيا، الحقيقة هنا يجب فهمها بالمعنى الهيغلي الصارم، إذ وبفضلها يحصل الاكتمال الحق للميتافيزيقا. إن الوعي هو حقيقة الإنسان، يقول دريدا، بقدر ما يظهر هذا الأخير في ماضي وجوده في ماضيه المتجاوز والمحتفظ به والمتغيّر».

الوعي هو نهوض النفس أو الإنسان، فالفينومينولوجيا إبدال relève، للأنثروبولوجيا. الأنثروبولوجيا التي لم يحصل لها التواجد بعد، ولكن لا تزال مجرّد علم بالإنسان، وبهذا المعنى فإن البنيات الموجودة من قبل فينومنولوجية الروح هي بنيات ذلك الذي حلّ محلّ الإنسان لتبقي ماهيته قائمة بداخل الفينومينولوجيا، هذه العلاقة الملتبسة للإبدالية relevance من دون شكّ بنهاية الإنسان، إنسان الماضي، وفي الوقت ذاته التي تشير إلى اكتماله من خلال امتلاكه لماهيته. ذلك لأن إبدال الإنسان هو غاية telos أو نهائية eskaton، ونجد وحدة هاتين الغايتين للإنسان قد تمّ التعبير عنهما داخل الفكر الإغريقي: وحدة موته واكتماله، معبّر عنها في خطاب حول الغائية téléologie الذي هو أيضاً خطاب حول الصورة eidos والجوهر subtantia والحقيقة alétheia ومثل هذا الخطاب نجد هيغل يلحقه بالغائية، أي بالنهاية إلى الثيولوجيا وإلى الأنطولوجيا وعليه بإمكاننا القول -كما يشير دريدا- إن فكر نهاية الإنسان كان دائماً وبصورة سابقة محدد وبداخل الميتافيزيقا، داخل فكر حقيقة الإنسان.

لقد كان النقد الموجه إلى النزعة الأنثروبولوجية من طرف هوسرل Husserl بمثابة العنصر المؤسس للفينوميولوجيا الترانساندانتالية ذلك أن بنيات هذه الخيرة يقول دريدا الموصوفة من طرف الرّد الترانساندانتالي réduction transcendantale لم تكن أبداً بنيات مرتبطة بالكائن الضمن حياتي inter-mondain المسمى بالإنسان؛ ذلك لأنها لم تكن متصلة لا بالمجتمع ولا بالثقافة ولا باللغة ولا حتى بالنفس، نفس الإنسان، إلى درجة نتمكن كما يشير إلى ذلك دريدا دائماً تخيّل الوعي من دون نفس وبالكيفية نفسها بمستطاعنا تخيل الوعي بدون إنسان.

وعليه فإنه يبدو وكأن الإنسان داخل الفينومينولوجيا الهوسرلية كان يقيم خارجاً بعيداً عن التساؤل الفينومينولوجي حتى وإن وجدنا هوسرل يعمل على التأكيد عكس ذلك خاصة في أعماله المتأخرة.

ففي عمله «أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانساندانتالية» سيقوم هوسرل بتفعيل وتطوير تأمّله حول علاقة الأنا بالعالم واضعاً إياها في صورة نظرية للتاريخ وللعالم الثقافي، فوحدها نظرية الثقافة ستمنح لهوسرل إمكان معاودة تأهيل فكرة الإنسان. ذلك لأن الإيغو ego هو المؤسس الحقيقي للتاريخ، وهو الذي حمل القدرة على ضمّه فداخل مشروع لا نهائي لهذا جاء عمل الأزمة ليؤسس الفلسفة الجديدة، الفلسفة المؤسسة بدورها لإنسانية أوروبية هي الأخرى جديدة. وتكمن أهمية تيمة الإنسانية والإنسان بما هو كائن ثقافي في المرحلة المتأخرة من تفكير هوسرل باعتبارها شهادة لا جدال حولها للطبيعة الإنسانية المحمولة بها فلسفته. أي أن فلسفة هوسرل ستغدو منذ الأزمة فلسفة إنسانية الماهية، على الرغم من أن ربط موضوع النزعة الإنسانية باسم هوسرل يبدو أنه أمر لا علاقة له به، خاصة ونحن نعلم جيد بأن الفينومينولوجيا لم تتوانَ منذ الإعلان عن تأسيسها مع «الأبحاث المنطقية» recherche logiques 1900-1901 بممارسة النقد الجذري على كلّ النزعات الوضعية داخل العلوم الإنسانية الناشئة، وكانت آنذاك النزعة النفسية psychlogisme من النزعات الأكثر هيمنة على قول اليقين والمطلق، بالإضافة إلى التاريخانيةhistoricisme والنزعة الأنثروبولوجية anthropologisme.

يؤكّد هوسرل في الأبحاث المنطقية أن الحقائق المنطقية مستقلة بصورة كلية عن الرّوح الإنسانية وبإمكانها التواجد من دونها لكونها لم تكن أبداً نتاجاً نهائيًّا وفعليًّا لنشأة تاريخية ولا لتوجّه سيكولوجي. لكن ما يُلحظ أنه سرعان ما صارت أسئلة الغائية téléologie واللاهوت théologie بمثابة العلامة الدّالة على التوجه الجديد نحو إقامة ميتافيزيقا جديدة بحيث صارت ذات أهمية بالغة داخل مشروع هوسرل الفلسفي، وسيصير كلّ من اللاهوت والغائية بمثابة المواد الوحيدة الجديرة بالاهتمام من قبل الأنثروبولوجيا. إن غياب الإنسان في المراحل الأولى لنشأة الفينومينولوجيا، كان ملازماً وغياب الإله، بما أن هذا الأخير تمّ إقصاؤه للأسباب نفسها التي تم من خلالها إقصاء الإنسان. لم يعد هذا الأخير مجرّد إيغو سيكولوجي حياتي، وإنما صار موضوعاً للتفكير الغائي، أي صار كائناً ثقافيًّا وتاريخيًّا.

سينجز هوسرل في عمله «الأزمة» تأهيلاً لفكرة الإنسان بحيث سترتبط كلية بالإنسان بما هو كائن ثقافي، أي بما هو كائن تراثي، وعليه سيبقى هوسرل حسب دريدا وفيًّا للتعريف الميتافيزيقي للإنسان الموروث عن الفلسفات الكبرى، التي رأت دائماً في الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً vernunft wessen، ولكن تمّ ربط العقل وبصورة حميمية مع التاريخية، ولم يعد الإنسان أبداً اسماً لحقيقة حياتية ولا اسماً لحقيقة طبيعية، فالتاريخ لدى هوسرل صار يحمل دلالة تاريخ الفلسفة مثلما هو عليه الحال داخل فلسفة هيغل، لكن بالطبع من دون نهاية لتاريخ.

من هذا المنطلق يكون هوسرل قد واصل تفكير الإنسان في توافقه مع التقليد الميتافيزيقي كاتحاد ما هو حسي بما هو عقلي، فالعقل هو التاريخ، وأن هذا الأخير لا يمكن أن يُعرف له وجود إلا في حضرة العقل. «إذا كان تاريخ الوقائع عموماً وخاصة ذلك الذي ابتدأ ينتشر في الزمان الأخير بكيفية شاملة فعلية في البشرية بأسرها أصل المعنى، فإنه لا يمكن أن يتأسس إلا على ما سميناه هنا تاريخاً داخليًّا، ومن حيث هو كذلك على أساس القبلية التاريخية الشاملة، إنه يقود بالضرورة إلى السؤال الأعلى المشار إليه، عن غائية العقل الشاملة، ويبرز تحديد مثل هذا الشمولي للتاريخ في أن كلّ نمط بشري، وكل نمط اجتماع بشري يجد جذوره داخل التركيبة الأساسية الإنسانية الشاملة، الجذور التي من خلالها يعلن عن عقل غائي يعبر من جهة أخرى كلّ التاريخية.

إن تأمل الذات ووعي الذات الإنسانية له مكان بداخل عنصر اللغة، ومن خلال التفاعل اللغوي، ومثلما يؤكّد على ذلك هوسرل في عمله «أصل الهندسة» والذي تناوله دريدا بالترجمة مرفقاً إياه بمدخل مطوّل وعميق في تفكيك فكرة الأصل، الأساس، التاريخ والهندسة. ويشير هوسرل أنه من خلال التفاعل اللغوي تتمكن الإنسانية من الوعي بذاتها. إن هوسرل وهو يوضّح أن العقل دينامي حركي أو غائي ينطوي على إحالة بالنسبة إلى اللغة وأن الإنسانية بإمكانية أن تغدو عقلانية لا لشيء إلا لكونها تحمل لغة، يكون بذلك قد وضع علامة جديدة للتحديد الأرسطوطاليسي للإنسان باعتباره zoon logon ekon، حيوان ناطق، في الحالة التي تعني فيها لفظة اللوغوس العقل واللغة في الآن معاً، أما الصورة الجديدة للإنسان بما هو كذلك، أي إنسان فلسفي الصورة المنبثقة من فلسفة هوسرل المتأخر، إلا معاودة تأهيل الإنسان الميتافيزيقي ذاته، مثلما يشير دريدا إلى ذلك في عمله «نهايات الإنسان» مؤكداً أن الفينومينولوجيا الهوسرلية وهي تحيي النزعة الإنسانية تقيم الفكر بكيفية ميتافيزيقية، ومنه فهي لا تتخطى حدود التقليد الفلسفي، ذلك لأن الإنسان لا يزال يقيم داخل المركز، لكن وبما أنه كائن ترانساندانتالي فإنه يدشن مملكة التاريخية واللانهائية.

ستكون الفينومينولوجيا الترانساندانتالية بمثابة التحقق الشامل لغائية العقل الذي يعبر البشرية، هذا ونشير إلى أن هوسرل حسب دريدا قد ميّز بين ثلاث مراحل من التاريخية، الثقافية والتراث باعتباره اجتماع بشري عموماً، الثقافة الأوروبية: المشروع النظري، ثم ارتداد الفلسفة إلى الفينومينولوجيا، إلى نقد النزعة الأنثروبولوجية التجريبية، لم يكن إلا إثباتاً لإنسانية ترانساندانتالية، «فالإنسان هو ماله علاقة بنهايته بالمعنى الغامض للكلمة، إذ لم تعرف النهاية الترانساندانتالية ظهورها إلا تحت شرط الفنائية mortalité، وعليه فإن اسم الإنسان تمّ تسجيله بصورة دائمة داخل الميتافيزيقا ما بين هاتين النهايتين إذ لا يمكن أن يحصل على معناه إلا بفضل هكذا وضعية نهائية-غائية».

حاول هيدغر، وعلى خلاف المشروع الهوسرلي، التوجه بأنطولوجيته التأسيسية نحو تفكير الإنسان، ومنطلقه في ذلك نقد جذري للنزعة الإنسانية باعتبارها نزعة كرست مركزية زادت من تمديد عمر الميتافيزيقا التقليدية. ميتافيزيقا الحضور النسّاءة للسؤال الأساسي، المتمثل في سؤال المعنى وحقيقة الوجود، فنجده في «رسالته حول النزعة الإنسانية» 1947، التي بعث بها إلى صديقه جون بوفريه J. Beaufret يؤكّد أن الأنثروبولوجيا والنزعة الإنسانية لم يكونا ضمن الاهتمامات الفلسفية لديه، إذ لم يحدث أن شكَّلتا لديه أفقاً لأسئلته، ولا مبدأ لتفكيره، والأهم من ذلك كله فإن تقويضه destruction للميتافيزيقا وللأنطولوجيا الكلاسيكية توجه مباشرة إلى النزعة الإنسانية. ذلك لأن كل نزعة إنسانية تتأسس مثلما يذهب إلى ذلك هيدغر على أساس ميتافيزيقي أو تمثّل في ذاتها أساسها الحقيقي، وكل تحديد سبق وإن تمت الإشارة إليه سواء بعلم أو من دون علم بماهية الإنسانية فإن التأول الكائن من دون طرح سؤال حقيقة الوجود هو بمثابة تحديد ميتافيزيقي.

من هذا المنطلق فإنه إذا أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي تمّ من خلالها تحديد ماهية الإنسانية فإنه كان خاصًّا بل ميتافيزيقا، أي أنه لم يخرج أبداً عن الحلقة التقليدية للميتافيزيقا، ومنه بالإمكان القول بأن كلّ نزعة إنسانية تبقى ميتافيزيقية، فمنذ «الوجود والزمان» Sein und Zeit 1927 سيرجع هيدغر إلى استعمال لفظة existenz الوجود للدلالة على أسبقية الوجود الخاص بالإنسان، ونجده هنا يعيد تأويل هذا المفهوم مبتدئاً بإبعاد معنيين شائعين لهذه الكلمة، فهو لا يعني أبداً الوجود exitentia كما فهمته الفلسفة المدرسية، أي الوجود الفعلي لشيء ما بمعنى حضوره وقيامه واقعيًّا في مقابل essentia الماهية التي تعني مجموع السمات المميزة لكائن ما، بغض النظر عن الوجود الواقعي في الوقت نفسه، لا يعني هيدغر بالوجود ما تفهمه الفلسفة الوجودية من موقع اهتمام الإنسان بوجوده الخاص من خلال اتخاذه موقفاً، موقفاً واعياً بذاته ومن محيطه، وحرصه على توجيه حياته بكيفية واعية ومتابعة اختياراته بحرية. في مقابل ذلك يقصد هيدغر بالوجود خروج الإنسان إلى انكشاف الكائن، قيامه وإقامته بإصرار في المجال المفتوح بحيث يكون معرضاً للكائن الذي يتجلى في هذا المجال المفتوح، لهذا يكتب هيدغر EK-sitenz بدل exitenz مستعملاً السابقة EK التي تشير في اللغة الإغريقية إلى الخروج ومنه EK-sitenz تعني الوجود المتخارج، ولا يعني هذا أن الإنسان يمكنه أحياناً أن ينشئ علاقات متنوعة مع موضوعات تقوم في مجال خارجي بالنسبة له. بل إنه يعني أن الإنسان يقوم أصلاً في هذا المجال الخارجي، إنه يقوم منفتحاً داخل انفتاح الكائن في كليته.

إن الميتافزيقا الغربية بوصفها تحديداً لمعنى الوجود في مجال الحضور تنتج نفسها بوصفها سيادة لشكل لغوي معين، والتساؤل حول أصل هده السيادة لا يعني أبداً أقنمة مدلول متعال، ولكنه يعني يقول دريدا: «السؤال عما يكون تاريخيًّا وعن الذي أنتج التعالي نفسه. ويشير هيدغر إلى ذلك في عمله حول سؤال الوجود zur seinfrage وللسبب نفسه لا يجعل كلمة être تقرأ تحت صليب الشطب هدا الصليب ليس علامة سلبية بسيطة. هدا الشطب rature هو الكتابة الأخيرة لحقبة تاريخية، الكتابة بوصفها تحدد الأونطو-ثيولوجياonto-théologie وميتافيزيقا الحضور ومركزية اللوغوس، فإنها أيضاً تكون هي الكتابة الأولى.

يجد الإنسان نفسه -حسب تصوّر هيدغر- يتحرّك في انسجام مع الوجود، إذ من خلال هذا الأخير يظهر سؤال معنى الوجود، والميل الحقيقي نحو مفهومه، فمن المؤكّد «أننا لا نعلم ما الذي يعنيه الوجود لكنه وبمجرّد أن نتساءل عما يكونه نجد أنفسنا منخرطين ومنسجمين مع الـ«يكون» est من دون أية رغبة في السعي من أجل تثبيت مفهوميًّا ما الذي يعنيه الوجود، فنحن لا نعلم حتى الأفق الذي بإمكاننا الانطلاق منه قصد التمكن من تثبيت وفهم هذا المعنى (معنى الوجود)».

لقد أوضح هيدغر الأرض النموذجية التي بإمكان سؤال معنى الوجود الوقوف عليها، المعينة تحديداً بأرض الفينومينولوجيا من خلال مبدئها المحكومة به منذ لحظة تأسيسها والذي وضعه هوسرل في عمله «الأفكار الأساسية» «مبدأ المبادئ» (Principe des principes)، ويمثل حسب دريدا مبدأ الحضور والحضور في الحضور بالنسبة إلى الذات مثلما تتجلى إلى الكائن، ولقد استعار هيدغر هذا المبدأ من هوسرل، والمسمى بمبدأ الحدس العطائي المحض، مقدّماً إياه بالكيفية التالية: «حسبنا من النظريات السخيفة! مهما بدت المبادئ لا تقدر أية نظرية ممكنة أن توقعنا في الخطأ، أعني أن كلّ حدس معطاء أصلي هو مصدر شرعي للمعرفة، كظلّ ما يعطى إلينا في الحدس على نحو أصلي (بفعليته المتجسدة) ينبغي أن يتلقى فقط كما أعطي ولكن دون ان يزيد عن الحدود التي أعطي حينها في نطاقها، يتعيّن أن ندرك أن نظرية ما ليس لها أن تستمدّ حقيقتها من غير المعطيات الأصلية. كل منطوق يقتصر على إضفاء العبارة على هذه المعطيات بواسطة التفسير بالدلالات، التي هي مضافة إليها. هو إذا بالفعل كما نبّهنا في صدر هذا الفصل بدء مطلق مدعو بالمعنى الخاص للكلمة أن يكون أساساً ومبدأ Principuim».

إن القطيعة مع النزعة الإنسانية لن تكون أبداً قطيعة نهائية، ومنه كانت الدعوة إلى معاودة قراءتها بواسطة استراتيجية التفكيك والتمرين من خلالها على نصوص آخر الميتافيزيقيين: هيدغر، فهذا الأخير رغم ما تتميز به فلسفته من مقاومة واندفاع وشجاعة، باعتبارها سعت إلى فضح الفكر الغربي المنسي لحقيقته، إلا أنها فلسفة بقيت -في اعتقاد دريدا- مهمومة بشكل واضح بنوستالجيا الإنسانية، بالقرب وبالحضور، فإذا كان هيدغر نفسه مأخوذ بانغلاق هدا الفكر الفلسفي الغربي داخل منطق الهوية الذي لا يعرف أن يتيح مكاناً للانفتاح على الآخر؛ فإنه بإمكانه أن ينجز إذن تحرراً منه. فسواء حددنا الإنسان بما هو حيوان عاقل أو حددناه بما هو حيوان سالب أو مقوم، إنه لا ينبغي أن ينفلت عن الأنظار ثمة لفظ ضئيل يتردد هو «فعل» الإنوجاد est في قولنا l’homme est الإنسان هو، والحال أن هذا الفعل الضئيل مثَّل لدى هيدغر الاهتمام المركزي، ومدخلاً بالنسبة إليه إلى قضية الإنسان، وإن التعريفات السابقة تكون قد نسيت حسب هيدغر أهمية «فعل» الإنوجاد هذا وتغافلته، وحتى من ذكر ديكارت مبدأه الشهير: «أنا أفكّر أنا موجود» فإن ما استغرق اهتمامه هو أنا أفكر أي فعل «الفكر»، بينما هو أهمل الإهمال كله فعل «الوجود» أو «الإنوجاد» أنا موجود. وبالتالي يكون هيدغر قد أيقظ فعل الإنوجاد هذا من ردم رماده ومكّنه من الانبعاث.

تفكير الميتافيزيقا الإنسان «انطلاقًا من الحيوانية animalitas ولم تفكر فيه من جهة إنسانيته humanitas، وتنغلق الميتافيزيقا، يقول دريدا، على التصوّر الأساسي أن الإنسان لا يظهر في ماهيته إلا إذا كان مضطلع عليه من قبل الوجود»؛ إذ وفقط من خلال هذا الاضطلاع تمكّن من إيجاد مكان إقامة ماهيته، وانطلاقاً من هذه الإقامة كانت له اللغة، «فعندما تأتي هذه الخيرة بصفتها القول إلى الكلمة، فإنه يتم تجربتها كبيت للوجود»، حيث إن الوجود يترك الكائن يكون ككائن، إنه في ماهيته، أي في حدوثه هو الانفراج الحر الذي يحرر كحضور وغياب في الوقت نفسه الكائن. أي ما يخص ماهيته. إنه اللغة تتخلل وتهيكل كقول وبيان المجال الحر لهذا الانفراج الذي يتبدى داخل ويقال كلّ حضور أو غياب، إنها بذلك، أي اللغة، الراعي الذي يوكل إليه كلّ حضور وغياب وبذلك البيت الذي يمكن داخله أن يجد الكائن ماهيته. تجمع اللغة حدوث اللاخفاء.

يقيم الإنسان لدى هيدغر بالقرب من الوجود، إنه جاره، وكأننا أمام إقامة سابقة للوجود من قبل الإنسان، فموطن الإقامة التاريخية هذه هي الجوار، Proximité، جوار الوجود، ففي ماهيته التاريخ-أنطولوجية سيكون الإنسان هو هذا الكائن المستند وجوده المتخارج على أنه سكنى بجوار الوجود والوجود المتخارج هو السكن الإكستاتيكي بجوار الوجود ex-tatique.

هذا ما يمنح التفوّق الملازم لاستعارة الفينومينولوجيا لمفهوم الفاينيستاي phainesthai الظاهرة من حيث هي لمعان، إبانة، إيضاح وفتحة... إن فينومينولوجية هيدغر من هذا الموقع سيكون شأنها شأن فينويمنولوجية هوسرل تحاول هي الأخرى تكريس الوجود في حضوره المطلق، وإن بدا لدى الأول من خلال الوعي ولدى الثاني من خلال الدازاين، فالأمر سيان، وهذا ما يفتح الفضاء على الحضور والحضور على الفضاء المستوعبان ضمن تعارض القرب-البعد، فإذا كان «الوجود هو ما يكون أكثر قرباً، مثلما يشير هيدغر، فإنه علينا القول حسب دريدا: إن الوجود هو القريب من الإنسان، وإن الإنسان هو الأقرب من الوجود، فالقريب هو الخاص والخاص هو الأكثر قرباً من الإنسان، هو خاص الوجود الذي يتكلم إليه بالقرب منه»، وعليه تكون الأسئلة التي فتحها الوجود والزمان هي نفسها أسئلة الفينومينولوجيا الترانساندانتالية الهوسرلية، وإن كان طرحها يبدو أكثر جذرية.

إن مركزية الإنسان إذن هي ميزة الإنسان الغربي، أي ميتافيزيقاه القائمة على التعارضات كأن نقول مثلاً عقلي في مقابل حسي والداخل في مقابل الخارج والكلام في مقابل الكتابة، إنه التمييز الذي يتأكد في مركزية العقل، فلا فكر أي من الميتافيزيقيين الذين تمّ التطرّق إليهم تمكن من زعزعة اللوغوس، وحقيقة الوجود بوصفهما مدلولاً أوليًّا بل عملت كلّ هذه الأسماء: كانط، هيغل، هوسرل، هيدغر على ترسيخ مضامينهما (اللوغوس والحقيقة).

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة