تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

النماذج الإرشادية والقيم المحورية في الخطاب الاجتهادي للسيد فضل اللَّـه

إدريس هاني

ليس كل نص يتاح لنا فهمه من خلال ظواهر النص أو ما يُغري به ظاهر المعنى طبقاً للقاعدة الأثيرة في المنهج الظاهري الآبي لكل معنى يتوارى خلف الظهور، أو القاعدة الأثيرة عند جمهور الأصوليين من اعتبار الظهورات في المعنى طبقاً للعنايات العرفية، حيث لا يُصار إلى الخفي من المعنى إلا استثناءً مع توفُّر القرائن الصارفة، مع فقر في تصور هذه القرائن وامتداداتها مما يضيّق على المعنى ويحصر النصوص. ففي كل ذلك ما لا يتفق مع المسالك الجديدة لفهم النص والتقنيات الأثيرة في استكناه المعنى، تلك التي تجعل النص أغنى من أن يظهر ظهوراً واحداً، كما تجعله أوسع احتمالاً من أن يستثني ما يحبل به من المعنى دون إعمال النظر والتأمل فيما يظهر؛ حيثما يظهر أحياناً يصبح عائقاً للمعنى الآخر أو أحياناً دالة يضعها المخاطب إن شاعراً بذلك أو غير شاعر به، لمعنى يريد له الخلود أطول أو رسالة مشفرة لمتلقٍّ أنضج وأكثر قدرة على الفهم الأكمل. والكمال هنا في فهم النصوص والتقاط المعنى ليس بالمعنى الحقيقي للكمال، بل بالمعنى النسبي له، فكل قراءة جديدة وفهم جديد هي أكمل من سابقاتها. ومن هنا كان لا بد من تكرار القراءة للوقوف على مستويات من المعنى بعدد القراءات. وحيث أطنب أهل الاختصاص من اللغويين والأصوليين في علاقة النص بالمعنى كلٌّ بحسبه، فإننا نسعى إلى ما هو أبعد من إبراز الحديث في السياقات والظهورات والتأويل وما شابه إلَّا لماماً هنا، لنتحدث عن مسألة هي أقرب إلى فلسفة العلوم منها إلى الأصول وإن أمكن الإفادة منها، أعني مسألة النموذج المعرفي وعلاقته بالمعنى ومكانته داخل الخطاب.

إحدى أبرز الموانع أمام الفهم الكامل للنص والتفهم الكامل لمقاصد المخاطب تكمن في سوء فهم النسق الذي يتحرك فيه المعنى وعدم الوقوف على النماذج المعرفية التي تُشكِّل مداميك قيامه كنص يُعلن معنى هنا بقدر ما يحجب آخر هناك إلَّا بشروط القراءة الكاملة.

إن قراءتنا لنص سهل ومتاح للأفهام العرفية لا يعني أننا قبضنا على تمام المعنى. وهذا الذي نسميه بالقراءة الكاملة للنص، يتوقف على فهم -ليس سياقاته فحسب- بل المُكوِّن الخفي لبنائه، كما يفهم من معنى النماذج المعرفية والقيم المحورية في هذا الخطاب، حيث اعتبرنا تلك قيوداً تخصص المراد. إنها تشكل ظلال المعنى الخفي ومكملاته في أهون الحالات. وذلك انطلاقاً من حقيقة استنبطناها من مجمل هذا الخطاب، مفادها، أنّ النص «الفضللّاهي» بقدر ما يعانق سهله الممتنع في التعبير، فهو يخفي تعقيداً فلسفيًّا كبيراً بما يوحي إليه من آفاق ومعاني حينما نحسن ربطها بهذه النماذج ومجمل النسق الذي يستند إليه في اجتهاده الفقهي وإنتاجه الفكري. إنه نص مغرٍ بجمالية التعبير ومغرٍ أيضاً بسهله الممتنع، لكنه يخفي معنى متمنِّعاً إلَّا بشرط القراءة الكاملة للنص، أي قراءته في ضوء مقوماته النسقية ونماذجه المعرفية.

وليس الغرض من هذه المحاولة هو إحصاء عدد النماذج المعرفية، بقدر ما يهمنا كيفية فهمنا وتدبيرنا لهذه النماذج داخل هذا الخطاب و ربطه بمدركاته المعرفية ومبانيه المعلن منها أو الظاهر في سيرته الفكرية، لغاية تتعلق بضرورة فهم الخطاب وتفهّم المخاطب. ليبق نصًّا مفتوحاً على الاحتمال ومزيد من الإغناء. فالغنى المعنوي للنص «الفضللّاهي» يكمن في أنه أكثر من العناوين العامة، مما جعل نصه قابلاً لأن يفتح آفاقاً أوسع ويتمدد بتفاصيل يحتملها النص أو يوحي بها. إن النص «الفضللّاهي» هو نص لم ينجز بعد، لأنه يفترض كما يستبق قرّاء يتجاوزون سهله الممتنع ليقبضون على معناه المتمنّع. ومثل هذه النصوص التي تؤصّل فيما تدع وراءها آفاقاً للتفريع، هي بلا شك نصوص غنية لا يبليها مرور التاريخ ولا تتوقف على حياة المخاطب، لأنها منحت نصوصها حيوية أطول وإمكانات كبيرة على الصمود والاستمرارية.

هناك إذن، ثلاثة قيود تحدد هدف هذه المعالجة: يتعلق القيد الأول بالنموذج الإرشادي بينما يتعلق الثاني بالقيم المحورية والثالث بالخطاب الاجتهادي. وجماع هذه العناصر المكونة لهذا العنوان المركب يوحي بأننا نقصد إلى تكوين صورة واضحة تبرر المنحى الخاص لخطاب السيد فضل الله، حيث يبدو هذا التميّز واقعاً في ثلاث حيثيات:

الحيثية الأولى: الاجتهاد الجذري

إنه مارس ضرباً من الاجتهاد الجذري الذي لا يمسّ الأحكام وحدها ولا حتى ما كان مستنبطاً من موضوعاتها فحسب، بل تعدى إلى غير المستنبط من موضوعاتها بناءً على الخبرة واستناداً إلى اختصاصات وفنون متعددة، وأيضاً وهذا هو الأهم، تعدَّى إلى العلوم/ الوسائل بفتح أفق أوسع على العلوم الإنسانية. وفي هذه النكتة لم يكن له مبارز من بين نظرائه.

الحيثية الثانية: الاستقامة الفكرية وتناغم الخطاب

إنه وافق بين منحاه الحركي وتصوره الفكري والثقافي ومنحاه الاجتهادي الفقهي وسلوكه الشخصي. إن آراءه واحدة مهما تعددت الحقول التي اشتغل فيها، لأن مقاصده واحدة وواضحة. وفي هذا أيضاً تأكّد تميّزه، حيث قلّما ألفينا له مثالاً من نظرائه.

الحيثية الثالثة: الاستشرافية وسعة الأفق

إنه كرَّس ضرباً من الوفاء للحاضر والمستقبل بالقدر الذي كرَّس غيره ضرباً من الوفاء للماضي فحسب. فقد بات الماضي تراثاً يصلح للانتفاع في تطوير خيارات المستقبل وليس ملاذاً للجمود في زواياه. وهي من أميز خصائص خطابه، لأنه استجمع كل تراث المصلحين وأضاف إليه مهاراته كما أضاف إليه شيئاً من الجرأة والنفوذ.

الحثيثية الرابعة: الجرأة على المعرفة

مهما ثبتت الملكة عند الكثير من الفقهاء والمصلحين إلَّا أنه قلّما وجدت الملكة إلى جانب الجرأة على المعرفة. فاشتداد ملكة الاجتهاد قد يصاحبه ضمور في هذه الجرأة فلا ينتفع بذلك اجتهاد المجتهدين. وتعد الجرأة على المعرفة من خصائص الفكر النقدي الحديث، حيث وجودها يعتبر إحدى القيم والملكات الأساسية في تطور المعارف. وهذه الجرأة لها علاقة بقوة الشخصية وعصيانها على الاحتواء أو التنازل في طلب الإصلاح والتجديد.

الحيثية الخامسة: القلق المعرفي

قلما وجد في الوسط العلمائي من استعار الأحاسيس الأدبية والقلق الفكري إلى حيّز الصناعة الفقهية. وإذ يفعل السيد فضل الله ذلك، فهذا معناه أنه ابتكر من خلال مواقفه وسلوكه أمراً غير متعارف عليه، ألا وهو عنوان الفقيه القلق. فالقلق الفكري مثله مثل القلق الفقهي ضرورة لتطوير الخطاب الفقهي وليس خطراً عليه. إنه القلق الذي يدفعك لإثارة التساؤلات حول ما يبدو مسلماً في عرف الفقهاء لاختبار مدى صموده أمام النقض. وبالتالي لن يكون أمامه من سبيل سوى أن يعلن استقالته أو يدعم نفسه بمزيد من الصمود والاقتدار والمناعة.

وفي هذا الإطار لا بأس من الإشارة إلى جانب لم نرد التطرق إليه في هذه المحاولة، أي ما يتعلق بجانب تساؤلاته حول بعض القضايا المتعلقة بالعقائد. غير أن ما يمكن قوله هنا: إن الوقوف عند هذه المقومات التي ينهض عليها خطاب السيد تؤكد لي أن أكثر تلك الأمور القابلة للفهم خارج التوجسات، كانت تساؤلات قد تنفع مثلما نفعت فيما بعد في إثارة النقاش وتمتين الآراء حتى لا يبقى شيء ضامر في مجال الحجية. إن تساؤلاته في نظري كانت مفيدة لتقوية الحجاج وتمتين الأدلة فيما هو محل اعتقاد؛ أي تجديد النظر إلى تلكم العقائد بناء على مدركات جديدة وذوق جديد بعد أن اكتفت بالتراخي والتسامح في إيراد الحجج. لا ينبغي أن نفهم دائماً من هذه التساؤلات أن تلك الفكرة هي الأقدر بالضرورة أن تصمد في سير الحجاج، بل من شأنها أن تستفز عقل المختلف لكي يجتهد أكثر في دعم وجهة نظره. نحتاج إلى الرأي والرأي الآخر لتطوير آرائنا. فما أُلّف من موسوعات عن الزهراء لم يكن ليكتب في تاريخ المدرسة لولا تساؤلات السيد فضل الله. وما سوف يؤلف حول الولاية التكوينية لن يكتب في تاريخ المدرسة لو تلك التساؤلات. تلك هي وظيفة الفقيه أو المتكلم أن يناقش ويتساءل ويساهم في تحريك الجمود والكسل المعرفي واليقظة الفكرية عند خصمه أيضاً وليس فقط من يملك أن يجيب. ومن هنا بات واضحاً أن الفقيه القلق يسعى ليثير العقل والفكر عند جمهوره ولا يربيهم على أن يكونوا مقلدين حتى في الأفكار. إنه يصنع مفكرين لا مقلدين حينما يشركهم في قلقه المعرفي ويخوض بهم بتساؤلاته ويعلمهم السباحة بعنف وتحدٍّ حينما يرمي بهم في بحر تساؤلاته.

هذه الحيثيات التي سقناها هي وجه من وجوه هذا التميُّز الذي عُدِمَ أن يشاركه فيه أحد أو قلَّما شاركه فيه أحد. عُدِمَ ذلك، لأنه يتعذر وجود هذه المناحي مجتمعة في فقيه واحد. فقد تجد بعضهم منفتح هنا لكنه تقليدي هناك، ولا يجمع التفتح في مناحيه الواسعة؛ أي انعدام التكاملية في التجديد والانفتاح. وقلَّما وُجِدَ مثله، لأن وجود بعض الآراء محل اشتراك مع آخرين لا يعني أن هناك تشابهاً بين أصحابها. بل الأمر هنا يتعلق بضرب من الاستقامة الفكرية التي يحضر فيها التناسب الدائم بين المنطلقات والأهداف، ما يوحي أننا أمام استقامة منهجية تنهض على مبنى واضح وفاعل، كما يوحي بأننا أمام عقل واحد يشتغل على موضوعاته خارج تحكم الفصام. وكلا المنحيين يؤكدان أننا أمام شخصية تتوفر على خاصية الاستقامة الفكرية والمنهجية والتناسب وعدم الانتقائية في ممارسة الخطاب العقلاني. إذا تأملنا ذلك أدركنا أننا أمام مناحٍ تُحدِّد فرادة خطاب السيد فضل الله الذي شكَّل خطابه نبرةً واحدةً وماءً واحداً وهاجسا واحداً قوامه الجرأة على السائد والانفتاح على الواقع. وهذه هي أهم النقاط التي دار حولها خطابه الاجتهادي.

هناك كما ذكرنا ثلاثة قيود تشكل مجتمعة، المعنى المركب الذي نقصه والذي يقيد كلامنا. إن الأمر يتعلق هنا بالنموذج الإرشادي بالمعنى الذي يحيل عليه مفهوم الباراديغم وهو المفهوم الأكثر حيوية في التداول المعاصر في حقل نقد العلوم وفلسفتها. ووجبت الإشارة هنا إلى جملة من الأفكار لتخصيص معناه في معالجتنا هذه؛ أي ما نستقل به في فهمنا للباراديغم عن واضعه توماس كون. إننا نقصد بالنموذج الإرشادي تلك المفاهيم والأفكار التي تُشكِّل عناصر ثابتة لتبرير خطاب ما أو إعادة إنتاج المعنى داخل النسق نفسه. بحيث لا يتصور فكاكاً عنها بالسهولة التي يقر بها المجتمع العلمي، حيث الخروج منها معناه الخروج من النسق كلية. هذا هو الحد المشترك في تعريفه، ولكننا أيضاً لا نقر بهيمنة الباراديغم المعرفي مطلقاً على الخطاب لأن إمكانية التّفلّت منه رهينة بصمود النظرية الجديدة وقدرتها على الدفاع عن مصداقيتها وما تحمله من عناصر جذب تضمحل أمامها محاولات الصد أو الاحتواء. وفي هذا الإطار ندفع آفة تساوي الأدلة التي شكَّلت واحدة من لازمات هذا المفهوم. ومن هنا يبدو أن السيد تفرد في خطابه تفرداً باراديغميًّا من حيث إنه وإن شاركه البعض في بعض الآراء التجديدية إلَّا أن تلك الشراكة تظل شراكة أفكار لا شراكة نموذج. والمسألة هنا دقيقة للغاية. فالشراكة في الأفكار قد تجمع بين رأيي حكيمين أحدهما ينتمي للمشاء والآخر للإشراق.. وقد تجمع بين رأيي فقيهين أحدهما ينتمي لمحفل الأصوليين والآخر للأخبار.. وقد تجمع بين رأيي مثقفين أحدهما ينتمي للتيار العقلاني والآخر للتيار التجريبي.. بالجملة، إننا في الأفكار لا نمنح أهمية للتشابه، طالما أن الأمر في حدود الأفكار أشبه ما يكون في نظرنا بالقاعدة الفيزيائية التي ترى أنه لا شيء جديد ولا شيء منعدم ولكن كل شيء يعاد تركيبه. وأيضاً نضيف أن الإبداع في نظرنا ليس هو إبداء الفكرة بل في نجاعة وضع الفكرة في النسق المناسب. كل الأفكار تتشابه قديماً وحديثاً. كل إنسان يمكن أن يقبل بكل فكرة طالما تخدم النسق مهما نأت عن مذاقه، كما أن كل إنسان قد يكره فكرة مهما دنت من مذاقه، إذا أحس بأنها تهدد نسقه. الإبداع في الأنساق هو سر التميّز الباراديغمي. والفكرة تكسب أهميتها وقوتها ليس من حيث هي فكرة، بل من حيث هي فكرة قادرة على إحراج النسق أو تدميره. ومن هنا نعتقد أن قوة الخطاب الفقهي للسيد فضل الله، تكمن في قدرته على خلق جدل وتوتر داخل المجتمع العلمي، وهي صفة من صفات التميز الباراديغمي وليس مجرد التميز الفكراني. فإذا تأكد أن التميز الذي يسم خطاب السيد فضل الله هو تميز باراديغمي، تعيَّن في مرحلة ثانية أن نسعى في عملية استقراء واقعي أو عقلي لأهم هذه النماذج التي تشكل الأسس الداعمة لهذا الخطاب.

وحيث لا مجال للاستقراء الواقعي، حيث الأمر هو دقيق يتعلق بمقولات عقلية غير محدودة الأثر والمعنى تعيَّن الاستناد إلى شبه استقراء عقلي قوامه ما يمكن أن نسميه مبدأ الاختزال القيمي. لن أتحدث عن مغزى القيد (قيمي) الآن، ولكن نشير إلى أن مبدأ الاختزال معناه أننا نكتفي بقيمة واحدة ثم نجعل الباقي يتفرع عنها بحسب فعاليته الوظيفية في ظرف ما محكوم بشروط سياقية محددة. بمعنى أوضح، قد نتحدث عن جملة العناصر التي تميز خطاب السيد من دون الربط بينها ولا بيان علاقة بعضها ببعضها كما لو تحدثنا عن الواقعية والحركية والعقلانية والانفتاح وما شابه. وهي عناصر قد تكون وظيفية تندمج في مقولة كبرى فلا حاجة لإفرادها، حيث استقلاليتها لا تؤدي الغرض. فهناك أيضاً من الفقهاء من تحضر عندهم الحركية لكن من دون قيد العقلانية المشروطة بالواقعية. وهناك من تحضر عندهم الواقعية لكن من دون شرط الحركية وهلم جرّا. إن خاصية العقلانية «الفضللّاهية» هي عقلانية واقعية حركية -عقلانية مقيدة أو مركبة وليس عقلانية لا بشرط أو بشرط لا-، فإذا انفك عنها قيد من القيود المذكورة صارت محل اشتراك لا محل امتياز. فثمة من القيم والمقولات الفرعية الصغرى ما ليس له قيمة إلا بترادفه وفعاليته النسقية. وحيث حديثنا عن النسق والباراديغم فلا مجال إلَّا للحديث عن تراتبية هذه القيم نفسها بحسب أدوارها وفعالياتها والقيم الكبرى التي تختزلها.

في هذا الإطار كان بالإمكان أن نتحدث عن قيمة الإنسان التي كان لها دور محوري في خطاب السيد فضل الله، ومنها يمكن تفريع باقي المقولات والقيم بدءاً من الحركية والواقعية إلى آخر قيمة في منظومة القيم التي تهيمن على هذا الخطاب. فالعقلانية هي في طول الإنسانية وكذا الواقعية وغيرها كما سيظهر من لسان خطابه. فليست العقلانية في عرض الإنسانية بل في طولها وكذا الواقعية والحركية وغيرهما.

إن القيمة التي تصلح هاهنا نموذجاً بالمعنى سالف الذكر تتعلق بمدى فعاليتها؛ أي إنها القيمة القادرة على خلق فهم منسجم ومناسب ومسبق لكل النتائج التي يحرزها هذا الخطاب. ليس كل فكرة قادرة أن تبرر كل النسق، فقط وحدها الفكر الباراديغمية التي تفعل ذلك. بينما كل أفكار السيد يمكن أن تفسر في ضوء هذه النماذج. كان الأصوليون يستعملون عبارة المباني في تفسير كل نتائج النظر الاجتهادي والفتاوى. فالمبنى هو مرجعية لتفهيم الفكرة وتفسيرها. وأعتقد أن الأصوليين سبقوا إلى استعمال مفهوم الباراديغم قبل طوماس كون وغيرها، ودوره في تفهيم نتائج البحث وقوام الأنساق، إذ ليس أمامهم سوى أن يطوروا مفهوم المباني في ضوء مفهوم الباراديغم لينطلقوا أبعد مدى في فهم هذه النكات شديدة المنفعة والدقة في مجال المعرفة. غير أن النزعة التقدمية والتوسعية في رؤية الأشياء عند السيد فضل الله لا تقف عند بعض النزوعات التي يقع فيها مفهوم الباراديغم والتي وقف عندها كثيرون، أعني لم يجر عليه منها ما جرى على دعاة تكافؤ النظريات وتساوي الأدلة. بل يكاد يلتقي معه مفهوم الدحض عند كارل بوبر، لأنه يطالب باستمرارية الدليل وبأن كل اجتهاد جديد من شأنه أن يسحب المصداقية والشرعية من اجتهاد قديم بمقدار ما يتحقق من الأدلة.

إذا اتضح ذلك، عدنا إلى معنى القيم المحورية في العنوان التي جاءت في سياق عطف على النماذج المعرفية، باعتبار أن أكثر النماذج التي شكَّلت مداميك ومباني لخطاب السيد فضل الله، هي أيضاً قيم من حيث مفاعيلها النفسية والاجتماعية والإنسانية عموماً. فالواقعية والعقلانية والحركية وما شابه هي في الوقت نفسه قيماً عملية. وحيث نعتبر أن القيم تتصل ببعضها على نحو متتاليات يفرضها فعاليتها داخل النسق. وبأن فاعليتها هي الأخرى نسقية وليست جزافية. وذلك مذ اعتبرنا أن قليلاً من القيم في نسق مضبوط يؤثر أكثر من كثير من القيم خارج نسق مضبوط وفعّال. وهذا ما جعل العالم الإسلامي يتطوح في معرض تدافعه القيمي مع الغرب، حيث صدم من وجود قيم وراء فعل الإنتاج وعموم الاجتماع المعاصر، لكنها قيم تشبه قيمه التي يملك أن يستعرض منها أضعاف ما يوجد في الغرب لكنها قيم غير فاعلة؛ وذلك لأن الغرب اكتفى بالقليل منها داخل نسق فاعل ولم يتحدث عنها كأخلاق مجردة. فالأخلاق في الغرب هي قيم تطبيقية فاعلة ترقى إلى مستوى القانون وليس نافلة على هامش الصناعة الفقهية. أي أن المعضلة كانت ولا زالت بين درجتين من النشاط القيمي: نشاط عانق المؤسسة والتنسيق ونشاط ظل على جزافيته لم يتمأسس ولم يخلق نسقه الأخلاقي. وعليه، ندرك ما معنى القيم المحورية في خطاب السيد بوصفها معايير لقبول أو رفض الكثير من نتائج الفكر والفقه عند السيد فضل الله. أما ما قصدنا به الخطاب الاجتهادي، فالمراد هنا مجمل الرؤية الاجتهادية الذي تعكسه آراء وفتاوى ومقالات ودروس السيد فضل الله.

الغرض من بسط هذه المنهجية الضرورية هو أن نُسهِّل على قارئ فكر السيد سبيلاً للفهم يتقيد بمبناه ولا ينطلق من مبنى أجنبي عنه. لأننا متى فهمنا المبنى تفهمنا نتائج المعنى. لأننا إذا أخطأنا هذه الحقيقة فإن الفهم سيكون متعذراً والمعنى لن يتضح مهما بدا ظاهراً للعيان ولن يحصل التفهم والتواصل والاجتهاد. إن أبسط خطابات السيد التي تبدو مجرد دردشة على هامش الصناعة كما تبدو للبعض تستند إلى أبعاد باراديغمية وقيم بعيدة ومقاصد كبرى، وحدها تفسر مرجوحاته وتوضح سبب اقتحاماته بغض النظر عن مدى صحتها أو غيرها، لأنه هو نفسه لم يقتحم عالم الاجتهاد إلَّا بعد أن أوجد فيه انقلاباً مفاهيميًّا، إحدى أبرز خصائصه أن المجتهد وفيّ لبيئته وتجربته وأن هذا التأثير ليس متعمداً بل هو تأثير لا شعوري، أي عدم اعتبار المجتهد معصوماً. فالمقصود هنا ليس وضع معايير للتصحيح والتقويم بل معايير للفهم ووسيلة للتّفهم إن حصل عدم الاقتناع، لأن ما هو مهم هنا هو في المباني والقيم التي ينهض عليها الخطاب الاجتهادي للسيد فضل الله.

إن الغرض من بسطنا المنهجي هذا لا يقف عند الغايات التقليدية التي تنوي الإقناع بالفكرة كما هو شأن الأرثوذكسيات. فالسيد لم يكن بصدد بناء نهج أرثوذكسي فقهي أو فكري، بل كان يثير التساؤلات والاحتمالات ليمنح فرصة للعقلانية في أن تشق طريقها في حركة الحياة وتفاصيل الواقع. إن أهم ما في الفكر التواصلي أننا إن لم نفهم فلا يعني ألَّا نبدل وسعاً إضافيًّا لكي نتفهَّم. وإن لم نقتنع أن نقدّر الفكر. وهذا أمر قلَّما سعى إليه الفعل التواصلي الهزيل في عرفنا الكلامي والفقهي الإسلامي القائم على التعصب والتفرد والاستبداد بالحقيقة. إن طفولة الفكر تسعى للاقتناع والإقناع وإلَّا فهي الحرب. أما نضج الفكر فهو يسعى إلى الفهم والتفهُّم ولا شيء غير التسامح. في ضوء الحديث عن النسق والباراديغم يمكننا القول: إن خطأ الفكرة أو صوابها مرتبط بمدى خدمتها للنسق. إذ يمكن أن تتغير الأفكار من أقصى النقيض إلى أقصاه دون أن يهتز صرح النسق، طالما الأمر يتعلق بخطوة استدراكية وتجدد في الفهم والنوايا أو ما يسميه الأصوليون بالقطع.

عن الإنسانية والعقلانية

لا تبرز الإنسانية في خطاب السيد مستقلة متمردة، لأنه خطاب يؤسس لعلاقة مختلفة بين حقائق الناسوت وحقائق اللاهوت. فهو ينطلق خارج مسلمات الصدام التاريخي بينهما، ليفتحنا على علاقة توافق بينهما بناء على ما يمنحه لكل منهما من فهوم لا تخلق الصدام كما لا تخلق القلق بمعناه الفوضوي السلبي. فمعيار الإنساني هو صدق الإلهي عليه. والعكس صحيح. فالإنسانية القلقة هي إنسانية مستقلة حائرة لا تملك أن تتواصل مع الإلهي فتصعد المعركة إلى أقصاها لينقلب ذلك عليها قلقاً مُستداماً. لكن القلق الفكري والفقهي واجب هاهنا لمقام تنزله منزلة الباعث على التجديد والترقي في المدارك والمعارف. بل إن دواعي السلوك والترقي العقلي والروحي تقوم على وجود هذا القلق، فهو قلق الصعود والترقي وليس قلق الحيرة والنكوص والاستقالة. لا يمكن أن تتناول المحاولة الاجتهادية ما هو تراثي دون أن تغفل ما هو من مسلمات تراث الغرب نفسه. وفي هذا الضوء يتعين فهم الصلة والتوفيق التي تصل بين الإلهي والإنساني في خطاب السيد. على أن الإنساني هو معيار لفهمنا للنص الشرعي نفسه بوصف هذا الأخير خطاباً إلهيًّا. إذن فالإنساني لا يظهر بمظهره المستقل والمجرد في خطاب السيد بل هو الإنسان المقيد بقيم تحفظ نوعه وخصوصيته وهي قوام تحقق الحرية والعدالة في الأرض. ثم تأتي العقلانية لتؤكد أن الإنساني هنا مقيد بإحدى أبرز خصائصه وهي العقلانية. وذلك من منطلق أن العقلانية ليست معطى لازماً للإنسانية، بل هي مكسب من مكاسب الإنسان وكدحه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}. ففي مسار هذا الترقي نحو الله تتأكد إنسانية الإنسان بوصفه عصي على التعريف، أو كما يذكر بعض العارفين، بأنه كائن متألّه. وعليه، فالإنساني هنا يعرض بقيد العقلاني وليس لمجرد التقاء النوع بالنوع كما تحدد تعاريف المناطقة. وحيث أن العقلانية نفسها صارت محل التباس مفهومي كان لا بد أن تتقيد هي الأخرى بما يؤدي وظيفتها الإنسانية، وهي جملة المصالح التي تتحقق على الأرض؛ أي حاصل الحركية في الحياة والواقعية في العمل، ما يؤكد أن الأمر لا يتعلق هنا برياضة تعمّق وتعقّد الفكر بقدر ما تضيق من مجاله، بل هي عقلانية بقدر ما ترتد على الواقع بموقف وإنجاز عملي وبقدر ما تتحقق تواصليًّا في عرف الناس في جدل التلقي السمح والمقتصد كما لم تعد تفي به معظم الخطابات الاجتهادية شديدة التعقيد ضيقة الأثر. وهذه لمحة أخرى يجب استيعابها لفهم خطاب السيد فضل الله. فالعقلانية هنا يجب أن تفهم بقيد الواقعية والحركية وليس بقيد التعقيلية التي تقوم على ترتيب المقدمات في أعقد رياضة منطقية وفلسفية. وهنا يقف السيد فضل الله موقف السوسيو-ثقافي والسوسيو-لغوي وليس موقفاً أرسطيًّا أو أفلاطونيًّا هائماً في قسوة الهندسة التجريدية أو التخييلية للأفكار. وكثيرون من أمثال جون كوتنغهام التفتوا إلى أن ما كان يعتبر عقلانية في أوروبا عصر النهضة أو التنوير هو من ضروب المسامحة في الإطلاق. وذلك حينما اعتبر أن العقلانية لم تكن سوى معنى فضفاضاً تُقال على كل من يستعمل العقل والحجة لتحرير الفلسفة من الخرافة والدوغما. بهذا المعنى يكون كل الفلاسفة والمفكرين هم عقلانيون بهذا المعنى غير التقني.

شكَّلت حالقة الأكاني محطة أساسية في تاريخ الفكر الإنساني لحظة النهوض الأوروبي. هذا التراث الذي يعنينا أن ننظر في مفاصيله ومنعطفاته، بما أنه شكَّل حدثاً كونيًّا ارتقت من خلاله الإنسانية إلى آفاق علمية جديدة ومشهودة. وملخص حالقة الأكاني أنها مطهرة وقاصدة في سيرها الفكري لا تروم فيه الإطناب الحاجب للمعنى المضيّق على مسالكه. فما يتم التوصل إليه بدليل واحد لا ينفع معه أن نتوصل إليه بأكثر من ذلك. ربما قد لا تنفع حالقة الأكاني في مجال الحجاج وسُلَّمه الممتد كما عند ديكرو، لكنها في مجال اكتشاف المعرفة تعد قواعده الأثيرة نافعة وموحية. وعلى هدي حالقة الأكاني سارت راحلة المفكرين والفلاسفة وأهل التنوير تجوب آفاق المعرفة بالتأمل والتجريب. فمن ديكارت إلى هيغل إلى كانط، كانت الرحلة تستهدي بطريق أو بأخرى بهدي الأكاني، إذ رامت الاقتصاد في طرائق التدليل والتدقيق في فعاليات العقل المقدور منها وغير المقدور. لنقول بعد ذلك: إن مسألة حالقة الأكاني هي موقف كل المفكرين المبدعين والمصلحين الذين يهمهم ممارسة الاقتصاد في العلم وتحقيق ضرب من الحكامة الجيدة في مناهج التفكير، لأن المناهج المتضاربة أو غير النافعة كثيراً ما تُضِل الباحث عن الحقيقة وتحجب عنه الطريق الأخصر وربما تبلبل فكره وتضعه في مفترق الطرق فتتقطع به السبل. فتحقيق المنهجية ضرورة في العملية الفكرية.

أديب الفقهاء وفيق الأدباء

للسيد ذوق أدبي متكامل. يجمع بين التراثي منه والمعاصر. هو ابن عالم وأجناس أدبية لم يكن لها في التراث أثر مثل الرواية والمسرح وقصيدة النثر والتفعيلة وما شابه ذلك. ليس مطلعاً هاوياً، بل الأدب على لسانه يواكب الفكر وينحت في جمالية العبارة شكلاً من الواقعية لا يهيم به التخييل. في خطاب السيد فضل الله، لا يحتوي الأدب المنطق والواقع، ليس نظراً لواقعية الأدب الذي انفتح عليه، بل لتهذيبه الأدب نفسه لكي يكون فاعلاً واقعيًّا في المجتمع. وقد التفت السيد فضل الله إلى آفة الجمود على اللغة الأدبية التراثية التي اصطبغ بها الخطاب الفكري والأدبي التقليدي. وليس سهلاً أن يقف على معرّة ذلك في أسس النظام التربوي الذي يخضع له تكوين المجتهدين والعلماء، من حيث درس البلاغة واللغة. وحينها ندرك أن ما يميز أدب السيد فضل الله هو المعاصرة الطافحة في أسلوبه وإنشائه، فهو لا يستند إلى البلاغة القديمة في الإنشاء بل على الأسلوب الحديث البعيد عن التكلف والسجع باعتبار أن الانقلاب لا يمس الموضوعات فقط بل بمس أيضاً الأذواق. فالسجع الممدوح قديماً هو محل ازدراء اليوم. فهو ليس من المحسنات البلاغية بل هو من المقبحات. إن واحدة من أبرز أسباب نجاح خطاب السيد فضل الله، تكمن في أسلوبه الذي انفتح على تقنيات تعبيرية جديدة والبلاغة الحديثة القائمة على العمق في الوصف والبساطة في العرض، إنه أسلوب ينأى عن البلاغة القديمة وأسلوب المقامات الممل. ولذا ما فتئ يدعو إلى الانفتاح على تطور البلاغة نفسها. إن شئنا أن نترجم حديث السيد فضل الله إلى مصاديق ونماذج، فإنه يدعونا بطريقة غير مباشرة إلى أن ننفتح في الدرس الحوزوي على السيميائية والسيميولوجيا والهرمينوطيقا وسوسيولوجيا اللغة... أي أن يصبح دوسسور وليفيناس وشومسكي وغيرهم ضيوفاً على الدرس اللغوي والنحوي التقليدي تماماً كما يحضر سيبويه وابن فارس وابن هشام ونحو الكوفة والبصرة وغيرهما... وهكذا قس على باقي الفنون والصناعات الضرورية في تكوين الفقيه والمجتهد. والأمر لا يقف هنا بل يتعداه إلى الانفتاح على الأدب الحديث لفهم أسباب وأسرار التخاطب المعاصر. أي علينا أن نتأدب بالأدب الحديث، ونقرأ لأجناسه لندرك مستويات المقارنة بين حديث الأدب وقديمه؟ إن الأدب نفسه عند السيد فضل الله ليس بمنأى عن العملية الاجتهادية وشروطها القاضية بالتّجدد والتطوير.

تفقيه الخطاب الإنساني

عملية الأنسنة تصل مع السيد مداها الفقهي. إن الأنسنة غدت من قواعد الاستنباط لأنها حاضرة في مقاصده الاجتهادية. ويتشخص ذلك تماماً في المسألة النسائية وقضايا المرأة. تختبر عقلانية الفقيه وعمق خبرويته الثقافية والاجتماعية فيما يتقنه ويحققه في فقه المرأة وقضاياها. فالفقه حينما ينحاز إلى الذكورة أو حتى لما يغضي عن النوازل التي تلم بقضايا المرأة، فهو يعد ذكوريًّا من جهة الشكل والممارسة والثمرة. وقد ظن البعض أن مجرد وضع الذكورة في اشتراط المرجعية والقضاء وغيرها مما سار عليه جمع من الفقهاء التقليديين، هو كافٍ لممارسة الفحولة الفقهية بمزيد من الإغضاء عن تلك النوازل التي ابتُليت بها المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فالثقافة السائدة تؤكد هذه الذكورية التي حجبت الأبعاد الإنسانية من أحكام الفقه لأن السائل وصاحب النازلة هو الذكر. إن التحيز الموضوعي لقضايا الذكور في فقه نوازلها جعل الفقه يتذكّر بطريقة غير مباشرة ويخضع لمؤثرات المحيط «السوسيو-ثقافي» والقيم العرفية الخاطئة التي لم يتسامح معها الإسلام في موارد التنزيل الأولى، بل حقق ثورة عليها. ويحتاج الفقيه إلى ثقافة نفسية واجتماعية كبيرة لإدراك هذه المعضلة التي قد لا تبدو كذلك في بيئة لا تشكل فيها المسألة النسائية قضية حقيقية. ولكي ننزع فتيل الثورة النسائية العارمة لا بد من تحقيق ثورة على هذا الفقه الذكوري بالانفتاح على أفق ثقافي أوسع في مراعاة حيثيات النازلة وفهم حقيقي للتحولات الاجتماعية في عالمنا. وقد برزت أطروحات السيد في صورة مميزة في هذا المجال، لأنه دنا من ثقافة العصر وهمومه وإشكالياته فتلمس جوهر المشكلة ثم تدلّى فقهاً منسجماً من مستوى هذه الخبروية التي جعلته لا يقف عند استنباط الحكم كما ذكرنا ولا حتى ما هو مستنبط من موضوعاتها بل ما كان يحسب من معفيات المكلف في باب الموضوعات غير المستنبطة. ففي أمثلة كثيرة وجب أن ينهض الفقه بثورته ولا يكتفي بسلبيته، أي أن من الموضوعات ما يعتبر استنباطه غير ضروري على المكلف انطلاقاً من قاعدة المعذرية في مورد تشخيص الموضوع، بل إذا تأملناه من جهة المقاصد والملاكات والمصالح فإنه قد يصبح مستحباً إلى واجب بحسب مرتبته في المنفعة أو الإضرار. الإنسان هو الشخصية المحورية التي تكمن خلف عوارض الذكورة والأنوثة. معضلة العلاقة بين الجنسين هي في الحقيقة مشكلة تصادم في الميدان الاجتماعي. إن المرأة لا تحس بالظلم والحيف إلَّا حينما تجد نفسها غير قادرة على التواجد بله المنافسة داخل المجتمع. ويبدو أن العرف الاجتماعي كان قد منح الذكر إمكانات وفرص تعدَّت بسلطاته المشروطه إلى آفاق غير مشروطة جعلته لا يقف عند حدّ ممارسة القوامة بمعناها الفقهي الدقيق الذي لا يعني أكثر من سلطة «الحكامة» الزوجية وليس الحكم بالمعنى التسلطي للعبارة، ليصبح حاكماً ومتسلطاً على الأنثى حتى خارج عصمته. إننا نعتقد أن مداليل التسلط بمعناها الوظيفي الفقهي قد تضر بالمعنى في سياق الصراع القيمي والأيديولوجي وتضارب المعنى داخل تنوع واختلاف المجالات التداولية والمعاجم الاصطلاحية. فالتسلط بمعناه الفقهي هو وظيفة تتعلق بإدارة ومسؤولية وليس بتحكمات هيمنية. ومن هنا فالتسلط هنا قد يجري بين شخصين، يتسلط أحدهما على الآخر في صميم ما يحسنه «قيمة المرء فيما يحسنه». وهذا الفهم آكد في عرف الدولة الحديثة القائمة على مفهوم تبادل الوظيفة التسلطية وتوزيع السلطات؛ كل حاكم في حدود مسؤوليته. ألا يجعلنا هذا للحديث عن حكامة زوجية وليس عن تسلط بالمعنى الملتبس للعبارة في مذاقات المعاجم الاصطلاحية اليوم الآبية لاعتبارة تسلطاً بما تحمله من تاريخ سيئ لا سيما حينما ندرك أن القرآن لم يستعمل الَّا مفهوم القوامة الطافحة بالمسؤولية ولم يستعمل مفهوم التسلط كما درجت عليه بعض الاستعمالات الفقهية. فضلاً عن أن القوامة نفسها محدودة في حدود الزوجية لا في أفق العلاقة الممتدة في الاجتماع بين الذكر والأنثى. ومن هنا تطوّح الفكر الإسلامي التقليدي ورديفه العربي الذي شكَّل فقه المرأة الجانب الأكثر امتعاضاً وامتناعاً وعصياناً على العقل العربي من كل القضايا الفقهية الأخرى. بل بات العقل العربي -إن صح هذا الوصف- متشرعاً في كل القضايا إلَّا في قضايا المرأة فهو وفيٌّ للعرف لا للفقه. وكثيرون أيضاً ممن اهتدوا إلى هذه المسألة من رواد الفكر العربي من أمثال هشام شرابي الذي وقف طويلاً عند النزعة الأبوية -والأبوية في نهاية المطاف هي بنت الذكورية الطافحة في الثقافة العربية- بل وعدها جوهر المشكل العربي، اهتدى إلى أن الإسلامية بأصوليتها كفيلة بتهذيب الثقافة العربية من استفحال هذه الأبوية، إذ لا عامل أقوى على تهذيبها من هذه الحركات. ويستفاد من ذلك -إن أردنا وجه الدقة- أن الفقه متى حكم قضايا المرأة في مجالنا العربي كان حقيقاً بأن يهذب النزعة الذكورية التي صمدت وقاومت مقاصد الفقه في المساواة والحقوق. وفي هذا الإطار قيل الكثير لكن قلَّما بحثت المسألة في جانبها الإنساني الصرف. فثمة من سعى إلى إبراز مكانة المرأة في الإسلام وغيرها من المحاولات التي توحي بأن الفقه الإسلامي متهم أو أن المسألة تتعلق بفقه لا بعرف. وانطلاقاً من قيمة الإنسان الساندة للخطاب الاجتهادي للسيد فضل الله، نقف على تخريج باراديغمي مهم، يتعلق بجدل الذكورة والأنوثة نفسها من حيث إن هذا الجدل في كثير من الأحيان يجعلنا أمام فعل إحلال العرض محل ما بالذات. بتعبير أوضح، فإن الذكورة والأنوثة هنا هما أمران اعتباريان وظيفيان، ولكنهما ليسا هما من يحدد حقيقة الشخص؛ هذا الأخير يتحدد من خلال إنسانيته لا من خلال ذكورته أو أنوثته. في إحدى جوابات السيد فضل الله عن هذه المسألة يقول: «فللمرأة شخصيتان: شخصية الأنثى وشخصية الإنسان. أما شخصية الأنثى، فإن إطارها هو الحياة الزوجية أو الحياة النسائية، وهو الإطار الذي تستطيع فيه المرأة أن تلبس ما تشاء، وأن تتزيّن بما تشاء، ولكن خارج هذا الإطار، ليس لها أن تخرج إلى المجتمعات المختلطة كأنثى، لأن ذلك قد يسيء إلى الجانب الإنساني في النظرة إليها، كما يحصل الآن، وخصوصاً في مجال الإعلام، الذي ينطلق في إعلاناته من اعتبار المرأة موضوعاً للإثارة. وهناك الشخصية الإنسانية، وهي التي يمكن من خلالها أن تقوم بمسؤوليتها في كل شؤون الحياة. وهي في هذه المسألة كما الرجل تماماً، فالرجل له شخصية الذكر، وشخصية الإنسان، أما شخصية الذكر فدورها، خصوصاً في الجوانب الجنسية، محصور في الحياة الزوجية، أما دور الإنسان، فهو يشمل الحياة كلها».

المرأة في نظر السيد فضل الله هي إنسان كامل الإنسانية. وهو تصور ينهض على رفض كونها ناقصة عقل ودين كما فهم من بعض النصوص التي لم تثبت عند السيد فضل الله أو أسيء فهمها. والاعتقاد بنقصان عقل المرأة في نظر السيد فضل الله هو من شأن الثقافات البدائية. فعقل المرأة كما عقل الرجل ينمو بالعلم والتعلم. فالأمور التي تتكامل مع الرجل في إنتاج الإنسان جسديًّا، تتكامل معه للارتقاء به تربويًّا. فالأمومة كالأبوة من هذه الناحية هي رسالة ومسؤولية. ويختزل السيد مسألة عقد الزوجية في المسؤولية الجنسية. فالعقد لا يمنح للرجل سلطة تملك على المرأة بل مسؤولية متبادلة بينهما في موضوع العلاقة الجنسية. وبقدر ما يختزل السيد فضل الله مسألة هدف العقل بينهما في هذه المسألة فهو يحرر المرأة من كل أبعاد تسلط الزوج. فكل عمل تقوم به المرأة في البيت هو مما تستحق عليه أجراً بما في ذلك تربية الأولاد. هذا من الناحية القانونية الشرعية. وإن كان الجانب الإنساني الذي يحث عليه الدين يحرض على كل ذلك، من باب {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.

وهكذا تُعفى المرأة من الناحية القانونية من كل التزام، إنما تقوم بها بسبب الدافع الإنساني في بناء الأسرة وليس الدافع القانوني الذي لا يفرض عليها شيئاً من ذلك بموجب عقد الزوجية. فالمرأة من حقها حتى أن تدافع عن نفسها إذا تعرضت للضرب من قبل الرجل. وذلك في سياق الدفاع المشروع عن النفس، إذا ما أراد الرجل أن يستغلّ ضعفها البدني للاعتداء عليها. فهي مشمولة في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

من المؤكد أن السيد فضل الله يعالج المسألة من الجانب الحقوقي أي الفقهي. وفرق بين أن نتحدث عن مقام البعث والتحريض وبين بيان الحقوق. فبيان الحقوق يعتبر رادعاً للاعتداء. فلو ظهرت حقوق المرأة فقهيًّا لكان ذلك رادعاً للرجل من أن يمارس تعسفه في العلاقة الزوجية على أساس أنها من موجبات العقد. ولكن ما يتعلق بالجانب العاطفي والإنساني فموضوع آخر. ونعتقد أن مسألة العلاقة الزوجية تبدأ من مقام الثبوت وبيان الحقوق والتثقيف على هذا الأساس. فالمهمة صعبة والعرف ثقيل ولكن الأفق يعد بتحولات في القيم العرفية. وذلك ونظائره شكَّل إحدى أهم مصاديق الخطاب الإنساني الذي شكَّل دائماً ركيزة اجتهادية في فكر وفقه السيد فضل الله. رحم الله الفقيه والمفكر الكبير، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة