تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ضد الجمود والخرافة دراسة في تجربة السيد محمد حسين فضل اللَّـه

حسين منصور الشيخ

*

لم تستقم الحياة الاجتماعية لبني الإنسان على هذه البسيطة منذ أن أنزله الله عليها، إذ كان القوي منهم يستعبد الضعيف، والأفراد مجتمعين يعيشون حالةً من العفوية دون ناظم اجتماعي أو أخلاقي ينظّم حياتهم الاجتماعية، يخطّطون فيها ليومهم وغدهم.

وهي السيرة الاجتماعية التي لو ترك الله الناس عليها لأفنى بعضهم بعضًا، ولكنه تعالى -لطفًا بهم- أنزل عليهم ما ينظّم حياتهم الشخصية والاجتماعية فيما يكون لصالحهم العام، وهو ما يمثّل الأحكام والشرائع التي يجمعها عنوان: «الدين» الذي بُعث به جمعٌ من الأنبياء الذين كانوا النموذج والقدوة في تطبيق هذه الشرائع التي تحكمها المبادئ والقيم المنسجمة والطبيعة الإنسانية.

وكان النبي الذي يبعثه الله تعالى لتبليغ قومه تعاليم الدين وقيمه السامية أول المطبقين والملتزمين بما ينادي به من أحكام ومبادئ عامّة، بحيث لم تكن النبوة حالةً من الزعامة الاجتماعية الصرفة، بل كانت -في عمقها الديني والأخلاقي- حالةً إنسانية عالية تمثّل قمة الالتزام بالقيم والمبادئ التي تبشّر بها، وفي ذلك يقول تعالى على لسان نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾، حيث يشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية إلى أنه أول من يلتزم تعاليم الدين الإسلامي، ليكون النموذج الأرقى في عنوان «المسلم»، إذ «ربما تكون هذه الكلمة [التي هي] من كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أراد الله له أن يتحدّث به ويعلنه من مواقفه؛ لأنه أول من آمن بالإسلام الذي جاء به، فقد كانت دعوته الناس إلى الإيمان بهذا الدين منطلقة من مبادرته إلى الإيمان به، فيكون ذلك إيحاءً بأن أية داعية إلى عقيدة أو فكرة لا بدّ له من أن يعيش فكر العقيدة في نفسه، قبل أن يدعو الناس إليها».

وهذه القيمة الإنسانية التي كان يمثّلها الأنبياء لم يكن ليستوعبها بعض أتباعهم، ذلك أن ما وصل إلينا من التوراة والإنجيل يوحي بهذه الفكرة، إذ يعبر عن الصورة المرتسمة في بعض أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية، بحيث لم يعد النبي -في التوراة أو الإنجيل- ذلك الإنسان الملتزم بما ينادي به من مبادئ وتعاليم إلهية، بل أصبح مجرّد زعامة دينية اجتماعية تتحكم فيها الأهواء والنزعات النخبوية الشيطانية في بعض صورها.

فنبي الله إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) الذي رزقه الله -حسب الرواية التوراتية في سفر التكوين- بولدين، هما: عيسو (الأكبر) ويعقوب (الأصغر)، يختار من يخلفه في النبوة بعده، وهو ابنه الأكبر عيسو، فيطلب منه أن يصطاد له صيدًا يأكله ليباركه قبل أن يحين موته. وفي هذه الأثناء تسمع أمه رفقة التي كانت تحب يعقوب أكثر منه ما دار بينهما، فتطلب من يعقوب أن يسبق أخاه إلى الحصول على البَرَكة، فينتحل شخصية أخيه، ويقبل على أبيه الذي كُلَّ بصره، فيأتيه بالطعام، ويحصل على البركة جرّاء ذلك، وحين يأتي المسكين عيسو بالصيد فرحًا يريد رضا نبي الله إسحاق وبركته لا يحصل عليها، ويتولّد الحقد بينه وبين أخيه الذي سرق بركته المُستَحَقّة له، ويخرج إلى ديار الله هربًا من انتقام أخيه عيسو.

إن ما تقدّمه هذه القصّة من فكرة حول الآلية التي يتمّ من خلالها اختيار النبي الذي يتحمّل مسؤولية تبليغ الرسالة، ومن ثَمَّ تطبيقها غير مبنية على أسس وقيم إنسانية منطقية، فالنبي السابق (إسحاق) هو من يختار سلفًا من يكون بعده نبيًّا، وأساس الاختيار لا علاقة له بمميزات وصفات تحتاجها عملية التبليغ والدعوة، كما أنّ البيئة التي ينتمي إليها من سيكون نبيًّا لاحقًا بيئة أسرية متفكّكة، والعلاقة فيها مبنية على المصالح، والنبي حينها سيكون مجرّد زعامة دينية اجتماعية تتحكم فيها أهواؤه ونزعاته الشيطانية في بعض صورها.

وهذا بخلاف الصورة التي يقدمها القرآن الكريم حول الأنبياء، منذ اختيارهم وحتى نجاحهم في الدعوة وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى، حيث يمثّل الالتزام القِيَمي الصفةَ الأبرز في خط الدعوات النبوية فيما يستعرضه القرآن الكريم منها، وهي النقطة التي سينصبّ عليها حديثنا حول منهجية السيد محمد حسين فضل الله (رحمه الله).

بعث الأنبياء من أجل ترسيخ القيم والرقي بالطبيعة الإنسانية

عندما ندرس موضوع النبوة في مفردات علم الكلام الذي يتناول الأصول والأسس الإسلامية العامّة -وفق المنهجية العقلية- لا بدّ من أن يشار هناك إلى أهمية النبوة من الناحية العقلية الصِّرفة، حيث يبحث علماء الكلام أهمية هذه الظاهرة للإنسان الفرد والمجموع، فيتناولون الحاجة الاجتماعية لوجود نظام وقانون يتوافق والطبيعة الإنسانية يتحاكم ويتحرّك الإنسان على أساسه وضمنه، ومن يملك الأهلية لوضع هذا القانون هو الخالق جلّ وعلا الأعلم بطبائع الإنسان وما يتلاءم وهذه الطبائع، وفي ذلك تكمن الحاجة إلى مبلِّغ لهذا القانون/ الدين، وهم الأنبياء، حيث ستكون الحياة البشرية -بدون هذا النظام- عرضةً لأنظمة توضع من أجل مصالح فئات على حساب بقية الفئات الإنسانية الإخرى.

ولكن هذا التوجيه الذي يذكر لشرح أهمية الحركة النبوية يمكن أن يلاحظ عليه أنه يتعلّق بأصل وأساس الدين، وأنه موجّه لمعالجة أهمية وجود الدين الإلهي في حياة الإنسان، حيث يكفل له مصالحه العامّة وسعادته، وكان ينبغي أن يبحث في أصل التوحيد وليس في أصل النبوة، فهو لا يعالج الآلية التي يبلَّغ بها هذا الدين للإنسان، أي إنه لا يجيب عن السؤال التالي: هناك طرق وآليات عدّة لإبلاغ الدين للإنسان، فما وجه الأفضلية لظاهرة النبوة على بقية الوسائل الأخرى؟

وهنا نجد في بعض المصادر من يجيب عن هذه النقطة، وإن لم يكن الأمر بالتوسع المطلوب، يقول الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي حول هذه الفكرة: «من أهم العوامل التي لها تأثيرها الفاعل في التربية وفي رشد الإنسان وتكامله: وجود القدوة في العمل،... والأنبياء الإلهيون الذين يمثلون الإنسان الكامل، والذين نشؤوا في ظلال التربية الإلهية، يقومون بذلك خير قيام، إنهم -بالإضافة إلى التعليمات والمعلومات التي يزودون بها البشرية- يقومون بمهمّة تربية الناس وتزكيتهم».

ولا يغفل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي عن الإشارة إلى هذه النقطة، فيقول: «نحن بحاجة إلى التربية الأخلاقية على يد مُربٍّ، وإلى «الأسوة» الذي علينا أن نحاكيه في الأقوال والأفعال ونحذو حذوه،... فمَنِ الحقيقُ بأن يكون المربي والقائد غير نبي معصوم؟

لهذا فإن الله القادر الرحيم لا يمكن أن يحرمنا من أمثال هؤلاء الأنبياء المربين الهداة».

لذلك فإن المسلم -وفق التصوّر القرآني- لا تنفك لديه القيم التي بشّر بها الدين الإسلامي عن واقعه وحياته اليومية، وذلك انطلاقًا من الصورة النقية التي يصورها القرآن الكريم عن الأنبياء (عليهم السلام)، حيث يمثلون -وفق هذه الرؤية- الإنسان النموذج في تطبيق الدين بما يحمله من روح تنظيمية منسجمة والطبيعة الإنسانية، وبسبب امتلاكهم لهذه الملكة التي يصطلح عليها -كلاميًّا- ﺑ«العصمة» يصطفيهم البارئ جلّ وعلا، فالمعصوم هو من يمتلك قدرة عالية في الانضباط القِيَمِي، بحيث لا تغريه المصالح في حال تعارضت مع القيم التي يدعو ويؤمن بها.

فهم الدين من خلال دراسة حركة الدعوة

لا يمكن فهم الدين من خلال النصوص الدينية الموروثة فقط، فالواقع الذي ظهرت فيه هذه النصوص له مدخلية كبيرة في فهمها، كما أن السيرة العملية للأنبياء (عليهم السلام) والقيادات التي خلفتها توجّه فَهْمَنَا لكثير من هذه النصوص.

والقرآن الكريم -باعتباره المصدر الأول للتشريع ولفهم القيم والأسس الإسلامية العامّة- لم يتعرّض لكثير من تفاصيل حركة الدعوة المحمّدية -كمثال لظاهرة النبوة العامّة-، فكانت مصادر الحديث والسيرة من تكفلت بهذه المهمّة، ومن هنا تأتي أهمية الأمانة والدقّة في نقل تفاصيل السيرة النبوية، وذلك لكونها المقياس الأول في تطبيق الأحكام الإسلامية من قبل الشخصية الإسلامية النموذج الأمثل.

لقد اهتمّ المسلمون بتدوين الكثير من تفاصيل السيرة النبوية، سواءً الحياة العامّة في تعامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه وخصومه، أو في حياته الخاصّة وتعامله مع أهله، ولأن هذه المصادر كانت تعالج السيرة النبوية صاحَبَها شيء من القداسة وعدم الجرأة على النقد، مع أنها -في بعض مصادرها- احتوت على بعض التناقضات أو بعض ما يتعارض والرؤية القرآنية، وذلك بسبب ما تسرّب إليها من عدم الدقّة في النقل أحيانًا، أو عدم الأمانة أو الدسّ المقصود أحيانًا أخرى.

ولعل تاريخ النبوات السابقة كان أكثر تشويهًا للصورة النموذجية التي كان يمثلها الأنبياء، ومن هنا تأتي أهمية هذا النوع من الدراسات التي تعيد الاعتبار لهذه الشخصيات على مستوى القيم التي كانت تمثّلها في حركتها، فالأنبياء قد لا نعدم في مجتمعاتنا الدينية من يقدسها، وهو التقديس الذي انقلب من تقديس الفكرة والمبدأ الذي يبشّر به هؤلاء الأنبياء إلى تقديسٍ للذات دون وعي حاضر ومتحرّك في واقعنا العملي لما كانت تتمتع به ذواتهم (عليهم السلام) من صفات ومؤهلات على أساسها اصطفاهم البارئ جلّ وعلا لقيادة مجتمعاتهم نحو رسالات تسمو بالإنسان الفرد والمجموع.

منطلقات دراسة التاريخ الرسالي عند السيد فضل الله

في دراسته لتاريخ النبوات والرسالات الإلهية ينطلق السيد محمد حسين فضل الله من منطلقات عدّة، نشير إلى بعضٍ منها، وهي:

أ- حضارية إحياء التاريخ واستحضاره في الواقع

عندما يقوم الباحث بدراسة تاريخ الرسالات الإلهية، فإنه يقوم بدور حضاري، ذلك أنه يدل على تجذّر العلاقة بين إنسان الحاضر وهذه النبوات التي كان لها الأثر الفاعل في التاريخ البشري، وبخاصّة أن حاضر الإنسان لا يمكن فصله عن ماضيه، وهي قيمة يلتفت إليها السيد فضل الله، فيقول حولها: «إن مسألة استعادة التاريخ عن طريق إحياء ذكراه هو أمر إنساني حضاري تحافظ عليه الشعوب والمجتمعات على اختلاف اتجاهاتها وثقافاتها، حيث نجد العالم كله يحتفل في كل سنة بذكرى قد تتصل بانتصار وطني أو قومي في معركة قد ترقى إلى مئات السنين،... وليست احتفالات الاستقلال التي تحييها الدول إلَّا شاهدًا ودليلاً على تجذّر هذا السلوك في الوجدان الإنساني العام.

ثم إن الحاضر -في كل مواقعه- لا يعيش انفصالاً عن التاريخ، حيث نجد أن الإنسان الذي يحاول أن يؤكّد نفسه ويؤصّل مرحلته ويركز خطواته في الاتجاه الذي يريده في تقدّمه وتطوّره، يشعر بأن في التاريخ نقاطًا مضيئة تبقى حاجة لكل مرحلة يعيش فيها نوعًا معينًا من الظلام، أو أن فيها درسًا يرتبط بالحياة كلها ولا يقف عند مرحلة معينة،... كل ذلك يجعل من مسألة استفادة التاريخ أمرًا حيويًّا ذا فوائد كثيرة في حياة الإنسان».

ب- التاريخ مصدر للفكر وليس للخرافة

بسبب ارتباط الدين بالوجدان الشعبي العام، فإن الفكر الديني السائد -بما يحمله من سِيَر تتناقلها المجتمعات- لا يمكن ضبطه بقواعد علمية، بل تشوبه الكثير من المغالطات، لذلك قد يكون في كثير من الأحيان التاريخ الديني مصدرًا للخرافة والأساطير غير الواقعية، وما يدعو إليه السيد فضل الله أن يكون التاريخ الديني مصدرًا للفكر، وذلك من خلال دراسته دراسة نقدية علمية، يقول في ذلك: «إذا كان التاريخ مصدرًا للفكر والمعرفة، فإننا ملزمون بدراسة التاريخ دراسة نقدية، فلا يكفي أن نأخذ التاريخ كما نقله إلينا الناقلون، بل علينا أن ندرس التاريخ لنرى هل إن أحداثه تنسجم مع المعقول أو لا تنسجم؛ لأن بعض الناس قد ينقل لنا التاريخ الخرافي على أنه حقيقة، ثم هل ينسجم هذا التاريخ مع وقائع الأشياء ومع الظروف الموضوعية التي أحاطت بالحادثة التاريخية أو لا ينسجم؛ لأن الكثير مما ينقله الناس من التاريخ -ولا سيما التاريخ الذي يملك في نفوس الناس بعض القداسة العاطفية- ربما إذا درسته دراسة تحليلية نقدية رأيت أنه لا ينسجم مع طبيعة الظروف التي أحاطت به،...

ثم إذا كان ما يُنْقَل لنا تاريخًا واقعيًّا صادقًا خارج نطاق الخرافة واللامعقول، فإننا بعد كل هذا نتعاطى معه على مستوى العبرة والعظة والاستذكار مما يمكن أن يبقى في الحياة ليكون درسًا في الحياة ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ويستنتجون ليأخذوا الدرس بعد ذلك، ﴿وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ﴾،... إن مسألة الفكر هي من المسائل التي تمثّل مسؤولية الإنسان في فهم نفسه، وفي فهم التاريخ، وفي فهم الواقع من حوله، وفي فهم الظواهر الكونية».

- الرسالة مقدَّمة على الرسول

لفهم واقع الحركة النبوية يشير السيد فضل الله (رحمه الله) إلى نقطة مهمّة، وهي أهمية التركيز في دراسة هذه الظاهرة على الرسالة لا على الرسول الذات، فيقول (رحمه الله): «إننا نلاحظ أننا ندرسه [تاريخ الرسالات الإلهية] بشكل تقريري جامد، ينقل القصة من خلال استيحاء قداسة الرسول لا قداسة الرسالة، أو بالأحرى من خلال تنفيذها بشخصية صاحب الدعوة، من غير التفات إلى حركة الرسالة وشخصيتها كسيرة ذاتية للرجل لا للرسول، حتى إن الرسالة تمثل -في طريقة العرض- حدثًا من أحداث حياته الخاصة، أما أخلاقه وأساليبه في العمل فهي من مميزاته الفريدة التي لا يمكن لأحد أن يبلغ شأوها، أو يقترب من مستواها، فلذا لا مجال -لدى هذا الاتجاه- من الاحتجاج على أتباع الإسلام بأخلاق النبي وأعماله؛ لأن تلك المميزات من خصائصه الذاتية، وليست ميزة إسلامية يمكن للآخرين أن يحتذوها ويقتدوا بها في حياتهم العامّة كمسلمين يعملون على التدرّج في مدارج الكمال.

وقد شارك هذا الاتجاه في تركيز العلاقة بين الأنبياء وأتباعهم على أساس شخصي، مما جعل التقديس الروحي يتّجه إلى الأشخاص، أكثر مما يتّجه إلى الرسالة».

ويضيف في موضع آخر، فيقول: «إن التركيز على الرسالة في دراسة تاريخ أبطال الإسلام أهم، وذلك لتكون الدراسة سبيلاً إلى معرفة تأثير الرسالة على حياتهم وسلوكهم وقيمته ومقداره، وأثرهم في حركتها وقوتها وتطورها، مما يجعل مفتاح الدخول إلى حياة الشخص رسالته، وليس العكس... وقد نستطيع بذلك أن نفهم أبطالنا فهمًا جديدًا لا يبتعد عن الواقع ولا يقترب من الأسطورة، مما يؤدي إلى فهم جديد لبعض مفاهيم الرسالة وأوضاعها من خلالهم، ويغلق الباب أمام عبادة الشخصية لدى المسلمين».

د- دراسة الحركة النبوية لاستيضاح ما يفصل بين النظرية والتطبيق

الدين الإسلامي -نظامًا وقانونًا- الذي يحتكم إليه المجتمع الإسلامي يحتوي على العديد من الأحكام والأسس والقيم والمبادئ التي يمكننا أن نستمدها من نصوصه الشريفة في القرآن والسنة، ولكن الآلية الصحيحة لوضع هذه القوانين والمبادئ موضع التنفيذ تحتاج في ضبطها وتطبيقها تطبيقًا صحيحًا إلى نموذج نحتذي به، وتاريخ الحركة النبوية خير معين على هذه النقطة، وفي هذا يقول السيد فضل الله (رحمه الله): «وربما تظهر قيمة هذه الدراسة في تحديدنا الخطوط الفاصلة بين النظرية والتطبيق، فقد تنطلق التجربة في سلوك النبي من حيث هو مشرِّع يرسم خطًّا عريضًا لا يخضع للحدود المعينة التي تحدّد الفكرة في إطار المناسبة، وقد تنطلق في سلوكه، من حيث هو داعية ينطلق في حركته من دراسة المبدأ والواقع في عملية تطبيقه تستمد عناصرها من الظروف والأوضاع الآنية المحيطة بالتجربة.. وقد تتمثّل في التجربة سلوكية الحاكم الذي يتحرّك من خلال السلطة التنفيذية الممنوحة له من الله بما رآه من وجه الحق في القضية».

ثم يشير في هذه النقطة إلى مسألة مهمّة، إذ يقول: «إن علينا أن ندقّق كثيرًا في هذه الجوانب عندما نريد أن نقرّر أي حكم أو مفهوم أو موقف على أساس التجربة لئلَّا نقع في خطأ الخلط بين جهات انطلاق التجربة من حيث الصفات المتنوّعة التي تحكم شخصية النبي الذي اجتمع له ما لم يجتمع لنبي قبله من الصفات العملية، فقد كان يتحرّك من خلال صفة الرسول والداعية والمشرِّع والحاكم، ولكل واحدة من هذه الصفات أسلوب يختلف عن أسلوب الآخر، وحكم يختلف عن حكمه».

- الأنبياء بين عظمة الشخصية والبطولة الأسطورية

كانت «معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء أمثال: عمر نوح، وفوران التنور بطوفانه، وتحوّل نار النمرود مع إبراهيم إلى برد وسلام، وقصّة قصر بلقيس، وعصا موسى، وكذلك خلق الكون وإلخ.. فإن جميع هذه وأمثالها كانت قبل التاريخ المدوَّن، ولم نعثر على ما يشير إلى شيء منها من آثار، وإنما تعرفناها من الكتب الدينية والحكايات الأسطورية، وهي بهذا تدخل إطار الغيبيات».

بسبب هذا التداخل بين الغيبي الخارج عن المألوف والطبيعي وبين مجموعة من الحكايات الشعبية الأسطورية، أصبح المتدينون يتناقلون صورةً عن النبي والولي أشبه بصورة البطل الأسطوري، ولذلك عندما ندرس الحركة النبوية يشدّد السيد فضل الله (رحمه الله) على أهمية التمييز بين صفات العظمة وبين ما ينسب إلى النبي من أمور أسطورية لا يمكن قبولها عقليًّا أو أخلاقيًّا أو دينيًّا، يقول في ذلك: «وربما كان من الإخلاص لهذه الدراسة أن نترك الطريقة التي اعتمدناها في دراستنا لأبطال التاريخ الإسلامي من حيث التأكيد على الجانب الذاتي، واعتبار الجوانب الرسالية مجرّد صفات ذاتية ترفع من مستوى البطولة فيه.. مما قد يؤدي إلى قبول أي حديث مهما كان ضعيفًا إذا كان متعلِّقًا بجانب من جوانب العظمة الشخصية في حياته، حتى ولو كان على حساب القيم الإسلامية، كما تراه في الأبحاث التي تتوفر على دراسة السيرة لكثير من أبطال هذا التاريخ من الأئمة والصحابة وغيرهم، فينسبون إليهم بطولات لا أساس لها، وفضائل وكرامات لا مبرر لها، استنادًا إلى أحاديث ضعيفة يرويها الكاذبون والوضاعون والغلاة ممن لا يخافون الله فيما يروون وفيما يحدّثون».

ثم يشير إلى خطورة شياع هذه الظاهرة في دراسة الحركة النبوية، فيقول: «وليست القضية كما يزعم هؤلاء من أنها لا تشكّل خطورة على الإسلام، بل ربما كانت الخطورة فيها بشكل أكبر وأشد؛ لأن الارتباط بالأشخاص من خلال هذه القيم المفتعلة الموضوعة يوجب ارتباطًا بكل ما يفكرون به ويعملونه أو يقولونه، ولأن افتعال القيم يفسح المجال لولادة تقييم منحرف ينعكس على طريقة الحكم على الأوضاع والأشخاص مما يوجب الإساءة إلى بعض الذين يفتقدون هذه الصفات، وإعطاء الذين يجدونها أكثر مما يستحقون».

و- منطلق للعمل الإسلامي المعاصر

«لم يكن العمل الإسلامي بدعًا من الأعمال لنبحث له عن جذور جديدة، أو بالأحرى لنعمل من أجل أن نمدّ له جذوره في أعماق الحياة، بل هو امتداد للعمل الرسالي الذي تمتدّ جذوره إلى الأعماق البعيدة في غور التاريخ؛ لأنه يرتبط بتاريخ الرسالات والنبوات الغنية بالتجارب العملية في مجال الدعوة، أسلوبًا وحركةً وجهادًا وتضحيةً في سبيل الله، ويرتبط بالرسالة الإسلامية في حركتها المنطلقة في حياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته وجهاده وتضحيته وطريقته في الحياة وفي أسلوب العمل وطريقة التبليغ، وفي حياة الأئمة والصحابة والمجاهدين والعلماء العاملين والدعاة المسلمين في كل زمان ومكان،...

ولا بدَّ لنا أن نلتفت إلى كل التجارب الماضية في مجال الحركات الرسالية، ولا نغفل ما رافقها من نكسات وانتصارات وما تبعها من أرباح وخسائر، وما طرأ عليها من مفاهيم موافقة للخط الرسالي أو مخالفة له... فقد يكون لذلك كله تأثير على طبيعة العمل في إطار الفكرة أو على طبيعة الحركة في إطار الأسلوب، أو على طريقة الممارسة في نطاق التطبيق؛ لأن ذلك يمثل بعضًا من ثقافة أفراد الأمة ومن انتماءاتها ومن رواسبها المختفية في اللاشعور التي تترك بصماتها على حركة العمل المعاصر».

وفي موضع آخر يقول: «علينا أن ندرسه [تاريخ الأنبياء] بالروح التي تعمل على أن تستلهم تجاربه الناجحة في تجاربنا العملية، ونستوحي من خطواته المتعثرة ما يجنبنا من الوقوع في عثرات الخطوات المماثلة، مع استبعاد القضايا التي تخضع لحدود الزمان والمكان، فلا تمتدّ إلى غير مرحلتها الزمانية، ولا تتسع لغير ظروفها المكانية... لتبقى لنا النتائج العامّة الشاملة التي تحتضن كل تطورات الحياة، وتظل في عناصرها الأساسية فوق قوانين التغيُّر والزوال، لا تخاطب الإنسان في حدود إنسانيته وجوهرها الأصيل».

مفردات دراسة حركة الدعوة لدى السيد فضل الله

المصدر الأول لدراسة تاريخ الأنبياء وقصصهم هو القرآن الكريم، حيث يمثّل -في الثقافة الإسلامية- أوثق وثيقة مكتوبة تؤرّخ لحياة الأنبياء، وهي رواية موجَّهة قائمة على مبادئ محدّدة، حسب السيد فضل الله، الذي يرى أن ما تورده الآيات القرآنية حول القصص النبوي إنما لأخذ الدرس والعبرة في مسيرة التهيئة الفكرية والروحية للإنسان الفرد والمجموع، وهي نقطة سنوردها لاحقًا.

ولذلك عندما نريد أن نتعرّف المنهجية التي يتبعها السيد فضل الله في دراسة حركة الدعوة عند الأنبياء سيكون مصدرنا في مثل هذه الدراسة هو تفسيره القيّم «من وحي القرآن»، وهي الدراسة التي اتبع فيها خطوات محدّدة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أ- التركيز على موضع العبرة من القصّة

القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ لحركة الأنبياء، بحيث يستغرق في ذكر جميع تفاصيل سِيَرِهم المباركة، وإنما أشارت الآيات القرآنية إلى مورد العبرة والفائدة منها، وانطلاقًا من هذا المبدأ اقتصر السيد فضل الله -أثناء استعراضه أحداث القصّة- على ما ذكرته الآيات، دون أن يخوض في مناقشة تفاصيل القصّة التي ورد كثير منها في مدوّنات الحديث، وأشارت إليها كتب التفسير الآخرى، يقول في شرحه للآية 108 من سورة البقرة: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ﴾: «تدل الآية على أن قوم الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه شيئًا مشابهًا لما سأله قوم موسى، ولكنها تُجمل طبيعة ذلك الشيء، فهل هو أن يروا الله جهرة كما عن البعض، أم هو أن يضع لهم إلهًا على صورة آلهة الكفار كما ذكره بعضهم، أم أن يحقق لهم بعض الطلبات التعجيزية...؟ ونحن لا نريد أن نسترسل كثيرًا فيما استرسل فيه المفسرون من الحديث عن هذا الأمر؛ لأننا لا نجد الجانب التفصيلي في هذه القضايا موضع أهمية لاستيحاء الفكرة أو أخذ العبرة، فنجمل ما أجمله الله من القصة التي لم تتحدّث إلَّا عن طبيعة هذا السؤال، وعلاقته باستبدال الإيمان بالكفر».

وفي حديثه عن قصة طالوت وجالوت الواردة في سورة البقرة في الآيات 246 - 252 يقول: «وهذه قصة أخرى من القصص القرآني، الذي أريد به التأكيد على بعض المفاهيم التربوية العامة في الحياة العملية للإنسان، وقد أفاض المفسرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلقة بالأشخاص والأحداث والأشياء. ولكننا نتّبع الأسلوب القرآني في طريقة تناولنا للقصّة، فنجمل فيما أجمل، ونفصل فيما فصّل فيه الحديث؛ لأن القضية في هذه القصّة -وفي غيرها من القصص- هي قضية الفكرة التي توحي بالهدف، لا السرد الذي يدفع إلى أجواء الملهاة، فلا بدّ من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج، فيما نتناوله من تفاصيلها».

ونراه -في مثال ثالث- يتحدث حول الآية 155 من سورة الأعراف: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾ فيعدّد الآراء حول سبب طلب موسى من الله أن يراه جهرة، فيقول: «ورأى بعضهم أن هذا ما جعل موسى يطلب من الله أن يمكّنه من النظر إليه استجابةً لطلبهم منه ذلك، فإذا استجاب الله ذلك فسيرونه معه؛ لأنهم كانوا حاضرين هناك. وحاول البعض مناقشة بعض تفاصيل ذلك، وحملها بعض على المحامل الأخرى البعيدة لبعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، ولكننا لا نجد كبير فائدة من الدخول في مثل هذه التفاصيل؛ لأن القرآن أجملَ القصّةَ لابتعاد خصوصياتها عمّا يريده من أغراض، وهو تأكيد العقاب الإلهي لمن تمرّد وانحراف، وتقرير الفكرة التي تربط الحاضر بالماضي في قضايا الإيمان والانحراف».

ب- شرح أحداث القصة مع رفع الملابسات عن بعضها

ما يعتقده المسلمون في أنبياء الله (عليهم السلام) أنهم معصومون، فلا يصدر عنهم أيّ معصية يخالفون فيها أوامر الله أو نواهيه، ولذلك عندما ترد إحدى القصص القرآنية حول أحد الأنبياء يقوم المفسر بشرح الآيات التي تسرد بعض تفاصيل القصة محاولاً معالجة بعض ما يرد فيها مما قد يفهم بأنه مخالف للعصمة أو أنه معصية للخالق جلّ وعلا، وفي هذه النقطة كان السيد فضل الله (رحمه الله) له رؤية فيما يرتبط بمسألة العنصر البشري في الرسول، إذ يرى أن الأنبياء لا يختلفون عن بقية البشر فيما قد يتعرّضون إليه من ضعف بشري في تحمل أعباء الرسالة أو خطأ في تقدير بعض الأمور، يقول (رحمه الله) أثناء شرحه للآية 150 من سورة الأعراف التي تتحدث عن النبي موسى عندما رجع من ميعاد الله له فوق الجبل فوجد قومه يعبدون العجل: «وتبقى حول فكرة العصمة بعض التساؤلات: كيف يخطئ هارون في تقدير الموقف وهو نبي؟ أو كيف يخطئ موسى في تقدير موقف هارون وهو النبي العظيم؟ وكيف يتصرّف معه هذا التصرُّف؟ ولكننا قد لا نجد مثل هذه الأمور ضارة بمستوى العصمة؛ لأننا لا نفهم المبدأ بالطريقة الغيبية التي تمنع عن الإنسان مثل هذه الأخطاء في تقدير الأمور، بل كل ما هناك أنه لا يعصي الله فيما يعتقد أنه معصية، أما أنه لا يتصرّف تصرُّفًا خاطئًا يعتقد أنه صحيح مشروع، فهذا ما لا نجد دليلاً عليه، بل ربما نلاحظ في هذا المجال أن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء ونقاط ضعفهم يؤكّد القول بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري من حيث الخطأ في تقدير الأمور».

وفي شرح السيد فضل الله لأحداث القصص النبوي الواردة في القرآن يحاول تفسيرها بما يتلاءم والإيمان بعصمة الأنبياء التي تعني عدم تعمّد النبي في أي حال من الأحوال الإقدام على ارتكاب المعصية، دون أن يعني ذلك أن يذهب إلى شرحها بمعنى بعيد عن سياق ومنطوق الآية، مستفيدًا ومناقشًا لـ«بعض الإفكار الواردة في بعض الدراسات التفسيرية والفكرية، ولا سيما ما ورد في تفسير الميزان للعلاّمة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي (رحمه الله)، الذي يعدّ من أفضل التفاسير الحديثة ثراءً وتنوّعًا فكريًّا وتفسيريًّا، ولذا فقد حاول درس بعض أبحاثه درسًا نقديًّا بناءً على مستوى أسلوب التفسير أو مواد الفكر».

ومن أراد أن يتبيّن نظرية السيد فضل الله حول العصمة في المفهوم الإسلامي عليه بتتبّع دراسته وكيفية معالجته لمواقف الأنبياء الواردة في الآيات القرآنية التي شرحها في تفسيره من وحي القرآن، وقد أولاها السيد عبد السلام زين العابدين في كتابه «مراجعات في عصمة الأنبياء» شيئًا جيدًا من الاهتمام، وهو من المصادر المهمّة في هذا الاتجاه.

- الدروس العملية المستفادة

كنا قد أشرنا -في حديثنا عن منطلقات دراسة حركة الدعوة لدى السيد فضل الله- إلى أن من بين تلك المنطلقات أن هذه الدراسة تمثّل منبعًا للعمل الإسلامي وغذاءً روحيًّا وفكريًّا له، وتأسيسًا على ذلك كان يحرص (رحمه الله) أن يخرج من أي قصّة قرآنية بفوائد يمكن أن ينطلق منها العاملون الملتزمون بالعنوان الإسلامي العام في حركتهم وأنشطتهم الاجتماعية والثقافية، وهذا أمر لم يكن منحصرًا على مواطن القصّة في القرآن الكريم، بل نجده يحرص على ذلك نهاية شرحه لمعظم المقاطع القرآنية التي وحّدها ضمن عنوان واحد، ذلك أنه يؤمن بحركية القرآن في جميع آياته القصصية والأخلاقية والوعظية والفقهية والعقائدية، يقول حول هذه الفكرة أثناء شرحه للآية 32 من سورة الفرقان: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾: «وإذا أردنا أن نطلق الآية في حركية الدعوة والعمل في سبيل الله، فنستطيع استبدال تدريجية النزول للآيات بتدريجية تحرُّك الآيات في مواقع العمل والجهاد وفي منطلقات الدعوة بطريقة دقيقة، نوزّع فيها الآيات على المسيرة، فتكون هذه الآية في نقطةٍ هنا، ونقطةٍ هناك، وتكون السورة في مرحلةٍ أولى، لتكون السورة الأخرى في المرحلة الأخرى، ليكون القرآن ثقافة الأمة في كل مواقع السير، حتى يعرفوا الفكرة في مواقع الحركة، فلا تبعد المسيرة عن آفاق الإسلام في فكره وشريعته»، فالسيد (رحمه الله) يستفيد من كيفية نزول آيات القرآن الكريم، حيث نزلت متدرّجة حسب ظروف وأحداث الدعوة الإسلامية، أن القرآن حركيّ، تحرّكت آياته مع جميع مفاصل وأحداث الدعوة، وهو ما يجعله يذهب إلى القول بحركيته في واقع أمتنا اليوم على اختلاف مواقع العمل فيها.

وكانت هذه الفوائد التي يستفيدها السيد من القصص القرآني النبوي تتنوّع بين العقائدي الذي كان كثيرًا ما يرتبط بعصمة الأنبياء أو بعض نواحي النبوة كالمعجزة أو بعض صفات الأنبياء، والفقهي، وبخاصّة ما يرتبط منه بأحداث الدعوة الإسلامية التي يترتب عليها بعض الأبحاث الفقهية التفصيلية، والأخلاقي والعملي والفكري. ولا مجال هنا للاستشهاد بها، وبخاصّة أنها تتوزّع على أجزاء التفسير بكامله، يمكن لمن أراد أن يراجع أي جزءٍ منها ليطّلع على بعض النماذج.

د- ترسيخ القيمة في مقابل الخرافة

مما كان يتميّز به السيد فضل الله في دراسته لحركة الدعوة النبوية هو استنطاق أحداثها فيما ترمز إليه من قيم إنسانية عليا ومبادئ فكرية سامية تبشّر بها، وهي النقطة التي استهدفناها من خلال مقالتنا هذه، لذا سنترك الحديث عن هذه النقطة إلى العنوان التالي المخصص لها.

ترسيخ القيم في دراسة حركة الدعوة عند السيد فضل الله

كنا قد ذكرنا أن السيد فضل الله -في دراسته لحركة الدعوة عند الأنبياء- كان يقتصر على موضع العبرة فيها، وذلك التزامًا منه بالمنهج القرآني فيما يرتبط بالتفصيل والإجمال في القصص القرآني، وكذلك انطلاقًا من مسألة أهمية التركيز على إبراز الجانب القِيَمي في السلوك النبوي العام، بما يعطي الصورة المشرقة لتاريخ الحركة النبوية التي تشوهت بسبب الإغراق في تفاصيل قد يكون كثير منها أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع، ومركزًا على مواطن الاقتداء بما تحمله هذه الآيات من تبشير بقيم نبويه سامية كفيلة بالنهوض بالإنسان إلى مراتب الكمال.

وقد وجدتُ من المناسب توزيع القيم التي أبرزها السيد فضل الله (رحمه الله) تحت عناوين خمسة رئيسة، هي:

1- ما يرتبط بأساس الرسالة الإلهية.

2- ما يرتبط بالنبي وصفاته وتعامله مع الآخرين.

3- ما يرتبط بحركية الدين في واقع حياة الإنسان وعلاقته بأتباع الأديان والمعتقدات الأخرى.

4- ما يرتبط بمعالجة بعض أحداث الدعوة.

5- ما يرتبط بقيم وهوية الفئات المقابلة الرافضة للدعوة.

ولضيق المساحة، رأيتُ الاقتصار على العنوانين الأولين إذ سيطول البحث فيما لو تم استعراض بقية العناوين الأخرى.

أولاً: هدف الرسالات إعلاء القيمة في المجتمع

كنا قد أشرنا مطلع هذا البحث إلى أن الله بعث أنبياءه بالدين بهدف تنظيم حياتهم العامّة والخاصّة بما يتلاءم وطبيعتهم الإنسانية، ويحقّق لهم مصالحهم العامّة، والدين -بهذا المعنى- مجموعة من القيم والمبادئ والأحكام التي تحقّق للإنسان السعادة والعيش بكرامة، وهو المعنى الذي ربما غاب في كثير من الدراسات الكلامية والفكرية، أو كان حاضرًا بصورة مختصرة.

وما يميّز دراسة السيد فضل الله لحركة الدعوة الدينية عن مثيلاتها هو تركيزه على هذه المفاهيم التي جاءت الديانات الإلهية لتبشّر بها، وقد أحببتُ تنظيمها في عناوين فرعية، هي على النحو التالي:

أ- الهدف من الدين/ الرسالة تنمية القيم المعنوية

وهب الله الإنسان قدرةً عقلية استطاع بها أن يطوّر في أنماط وأساليب حياته اليومية، والإنسان لا يزال مستمرًّا في تطوير وتنمية هذه الأنماط والأساليب التي غيرت حياة الإنسان من شكلها البسيط والعفوي، إلى أنظمة حياتية معقّدة ومتداخلة، وذلك بفضل العديد من المخترعات الصناعية التي تمسّ اليوم معظم الجوانب الحياتية.

والإنسان الذي أبدع في هذا المجال أيما إبداع لا يزال يعاني من الإخفاق في إيجاد نظام عام يكفل السعادة والعيش بكرامة لكافة طبقات وشرائح المجتمع، ذلك أن الإنسان كما يحتاج إلى ما يشبع حاجته المادية، يحتاج كذلك إلى ما يُنمِّي الجانب المعنوي والروحي، وهو الأمر الذي تكفّلت به الديانات الإلهية وبشّرت به، وهي نقطة يشير إليها السيد فضل الله (رحمه الله)، حيث يقول في شرحه للآية الكريم 53 من سورة البقرة ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ -مركزًا على المقطع الذي ختمت به الآية ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾-: «ونستوحي من هذه الآية أن على الدعاة أن يركزوا على طبيعة النعم التي أنعم بها الله على الإنسان، فلا يقتصرون على النعم الحسية التي يمارس الإنسان من خلالها شهواته ولذاته ومطامحه الذاتية، بل يثيرون أمامه النعم التي تتصل بفكره وخطواته العملية ومصيره في الدنيا والآخرة فيما يتّصل بقضايا الحق والباطل من القيم الروحية والإنسانية الكبرى، التي ترتفع بمستوى الإنسان الروحي والاجتماعي».

وتمثيلاً للفكرة التي يطرحها في شرحه لهذه الآية نراه في تناوله للآيات 125 - 129 من سورة البقرة التي تتحدث عن بناء إبراهيم مع ابنه إسماعيل B للكعبة المشرفة نراه يركّز على هذه المسألة التي كانت حاضرة في أدعية النبي إبراهيم (عليه السلام) الواردة في الآيات، حيث كانت مفعمة بالأجواء الروحية الطيبة، يقول (رحمه الله): «أما ما نستوحيه من هذه الآيات، فهو الجو الروحي الذي ينبغي للعاملين الإسلاميين أن يعيشوه وهم يعملون في بناء المؤسسات؛ ليبقى للعمل جوّ العبادة والواجب والمسؤولية، فلا يتحوّل إلى غاية بعد أن كان وسيلة».

ب- الرسالة أصل والقيادات حملتها

كان من أهم المبادئ التي ركّز السيد فضل الله أثناء مسيرته الفكرية والعملية أهمية الارتباط بالخط والفكرة بدلاً من الارتباط أكثر بالقيادة التي تبشّر بهذه الفكرة أو الرسالة، فحينما نرتبط بالإسلام، علينا أن نرتبط به دينًا ورسالةً وتشريعًا يحوي مجموعة من المبادئ والأسس، وعندما نرتبط برجالاته الذين يأتي نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقدمتهم علينا أن نرتبط به حاملاً لهذه الرسالة، لا أن يكون ارتباطنا وتقديسنا له شخصًا وذاتًا، وقد كانت هذه النقطة مما أثارها أثناء دراسته لظاهرة الدعوة النبوية، حيث يقول معلّقًا على الآيتين 79 و80 من سورة آل عمران ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾: «إن الله لا يبعث من ينحرف بالناس عن فطرتهم التي فطر الناس عليها، بل يبعث من يقويها ويدعمها ويحرّك فيها كل المفردات التي تجعل الإنسان مستقيمًا على درب التوحيد في فكره وعمله.

وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراستنا وأبحاثنا التي ندرس فيها حياة الأنبياء والأئمة والأولياء، فنستغرق في الجوانب العملية من حركة الإسلام في حياتهم الشخصية والعامّة، لنبقى في خط الارتباط بالشخص من خلال الفكرة والرسالة والعمل، فيزيدنا ذلك ارتباطًا بالخط الصحيح، وابتعادًا عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق، ولا نستغرق في الأسرار الخفية الغامضة التي يثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك ممن نعظّم من شخصيات الأنبياء والأولياء».

وفي السورة نفسها (آل عمران) عندما يتناول الآية 144 منها التي تتحدث عن قصة معركة أحد حينما شاع بين المسلمين نبأ وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية الكريمة: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يعلّق على هذه الحادثة بقوله: «في هذه الآية تأكيد قرآني على أحد المبادئ الإسلامية الإيمانية، وهو أن غياب القيادة -مهما كانت عظيمة- لا يوقف المسيرة ولا يلغي الرسالة/ المبدأ؛ لأن عظمة القائد -في حساب الرسالات- لا تجمدها عند حدود حياته لتنتهي بانتهاء حياته، بل تمثّل -بدلاً من ذلك- خطوةً أولى نحو الانطلاقة المستمرّة في الدرب الطويل،... فالرسالة هي الأصل والقاعدة، والقيادات المتتابعة تمثل دور الحَمَلَة لها، فقيمتهم بمقدار ما يقدمون لها من خدمات وتضحيات».

بل إن السيد فضل الله يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعطي للقاعدة دورًا وقيمةً مهمّة في مسيرة الدعوة، ذلك أنه يرى أن القيادة مع ما تحمله من رسالة ومبدأ لا تتكاملان إلَّا في ظل مجتمع متفاعل مع قيادته، يقول -معلِّقًا على الآية 29 من سورة الفتح ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾-: «إن الله يريد أن يثير أمامنا قاعدة رسالية تطال علاقة القيادة بالقاعدة، وهي أن القيادة لا تلغي دور القاعدة، ولا تأثيرَها في عملية صنع القوة وتحريك النصر، فالقيادة ليست هي كل شيء، ليكون الدور كله لها، بل إن للقاعدة دورًا يتأكّد على أساس التكامل مع القيادة، والتفاعل مع حركتها، والاندماج بأخلاقيتها الرسالية، ليشكلا معًا مجتمعًا موحَّدًا.

هذا ما ينبغي لنا أن نتمثّله في وعينا الحركي في خط الرسالة، فلا نستغرق في الشخص إلَّا من خلال الفكرة التي يحركها ويقود الحياة من خلالها ويطلّ من نافذتها على الآخرين، بحيث يكون الشخص بطل الخط ولا تكون الرسالة خط البطل».

ولذلك يؤكّد في موضع آخر على مسألة أخرى مرتبطة بهذه النقطة، وهي أن الارتباط القائم بين النبي وأتباعه يجب أن يكون ارتباطًا قائمًا على الإيمان بالفكرة والمبدأ، وليس ارتباطًا قوميًّا أو عشائريًّا، فها هو يعلّق على الآيات 49 - 54 من سورة البقرة التي تتحدّث عن قوم موسى عندما واعده الله أربعين ليلة، فيقول: «من خلال هذه الآيات المتقدّمة [49 - 54] نستطيع استيحاء موقف يرى أن قوم موسى لم ينطلقوا معه من موقع الإيمان برسالته والوعي لمفاهيمها التي تفرض عليهم مسؤولية الفكر والحركة، بل كانوا يسيرون معه من موقع الانتماء القومي من جهة، ومن موقع الحاجة إلى التخلّص من ظلم فرعون من جهة أخرى، ولم تكن قضية الإيمان إلَّا وسيلة من وسائل تأكيد هاتين الجهتين بعيدًا عن كل اعتبار للحقيقة في الموقف، مما جعلهم ينحرفون عند أي منعطف للانحراف، ويبتعدون عن الجوّ لدى أول غيابٍ لموسى (عليه السلام) عنهم،... وهذا ما يُظْهِر تراجعهم السريع وشعورهم العميق بالذنب عند مواجهتهم لموسى بعد رجوعه من ميقات الله».

- المجتمع البشري ودور الدين في تعدّده

لإظهار أثر الدين في واقع حياة الإنسان يشير السيد فضل الله (رحمه الله) إلى نقطة مهمّة أثناء حديثه حول الآية الكريمة: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾، إذ يقول: «وهكذا ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، أي على ملّة واحدة، أو جماعة واحدة مرتبطة بالفطرة التي لا تنطلق في خط التفاصيل الفكرية المنفتحة على المنهج العملي في الخط الواحد، بل كانت تتحرّك من خلال العفوية الطبيعية في حركة الفعل وردّ الفعل، فلم يكونوا مهتدين أو ضالين في مصطلح الهدى والضلال في الرسالات؛ لأنهم لم يكونوا قد التقوا بها»، ثم يبيّن أن الغاية من الرسالات أن «تكون حكَمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور الحياة الخاصّة والعامة»، بمعنى أن الله حينما بعث الأنبياء مبشرين ومنذرين إنما بعثهم ليغيروا من واقع المجتمعات البشرية التي كانت تعيش حالةً من الفطرية التي قد تنفجر فيها المشاكل دون ناظم وكافل لحلها، وهي نقطة يوضحها بصورة أفضل في موضع أخر من التفسير، وذلك عند حديثه حول الآية 19 من سورة يونس ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ﴾، إذ يشير هناك إلى أن الوحدة التي خلقهم الله عليها هي الوحدة الفطرية التي «تقودهم إلى التوحيد وتبعدهم عن خطّ الانحراف، إذا انطلقت في خطها المستقيم بعيدًا عن التلوّث والتشويه الذي يبعدها عن وضوح الرؤية للأشياء، ولكنهم أخذوا من دنياهم شيئًا من هنا وشيئًا من هناك، فيما يتّصل بالأطماع والشهوات».

وما نستفيده من المقارنة بين شرح هاتين الآيتين أنه (رحمه الله) يرى أن الوحدة السابقة على بعثة الأنبياء كانت وحدةً تنحو نحو الفطرة السليمة، إلى أن انحرف البعض عن الخط المستقيم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فاستجاب بعضهم إلى نداءات الدين المنسجمة مع الفطرة، فيما أصرّ البعض الآخر على عناده وعصيانه، فاختلف الناس بين مهتدٍ وضال.

وتتميمًا للفكرة، نقرأ ما يذكره تفسيرًا للآية 36 من سورة النحل: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾، إذ يقول هناك: «لا تختلف الرسالات -ولا الرسل- في الخط العام الذي يحكم دعوتهم، فهناك خط إيجابي يتعلّق بالموقف من الله، وهو أن يعبدوا الله وحده، بكل ما تعنيه العبادة من التزام بإرادة الله وأوامره ونواهيه في كل شيء، مهما كان صغيرًا، وهناك خط سلبي يتعلّق بالموقف من الناس، وهو أن يجتنبوا الطاغوت، بكل ما توحي به الكلمة من نهج الطغيان في الحكم والشريعة والمنهج والموقف والشخص».

فالوحدة التي كان أساسها تعامل بعضهم مع بعض على أساس الفطرة السليمة، كان قد انحرف عنهم جمع من الناس، حيث تمكنوا من التسلط على إخوانهم من بني البشر، ما نشرَ حالةً من العدوان والطغيان ﴿لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، إلى أن دعت الحاجة إلى بعث النبيين والمرسلين مبشرين ومنذرين بهدف الرجوع إلى مبادئ وقيم الفطرة السليمة التي تستقيم والخضوع للخالق جلّ وعلا وترفض الخضوع لغيره من بني الإنسان، وبخاصّة الطواغيت والظلمة منهم.

ولذلك فإن أحسن الأعمال في المنظور القرآني هي الدعوة إلى الله الذي يحقق في المجتمع الإنساني هذه الغاية والقيمة «ألَّا يبغي بعضهم على بعض»، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾، وذلك انطلاقًا «من موقع الإيمان الذي يعيش عمق العقيدة في العقل والوجدان، ويتحرّك في حياة الإنسان من موقع المسؤولية في خطّ الدعوة، عاملاً على فتح عقول الناس وقلوبهم على الله ليعرفوه ويؤمنوا به ويتحرّكوا في طريق طاعته، وكان ذلك همّه الأساس الذي يحول العقيدة إلى حالةٍ في الذات، وحركة في الرسالة».

وقبل أن نختم الحديث عن دور الدين في تعدّد وتفرّق الناس إلى جماعات وأيديولوجيات متعدّدة، يجب إثارة مسألة الحروب الدينية التي اتّقدت بين بعض المجتمعات بسبب الانتماءات الدينية، هل الدين هو أساس هذه الحروب؟

انطلاقًا من الآية الكريمة: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾، يثير السيد فضل الله (رحمه الله) نقطة مهمة حولها، وهي أن اختلاف خصائص الرسل التي تفاضلوا بها لا يثير أي نوع من التحدي بينهم، ومن ثمّ بين أتباع الديانات التي يدعون إليها، بل إن هذه الرسالات تتكامل فيما بينها -كما سنبين ذلك لاحقًا-، والرسل يُصَدِّق بعضهم بعضًا، وتتميمًا لهذه النقطة يبحث مسألة علاقة الدين بنشوء الحروب الدينية، فيقول: «ربما يثير الكثير من الناس أن الدين هو العنصر الحادّ السريع الاشتعال في الوجدان الإنساني لما يتضمّنه من حسِّ القداسة الغيبية التي تدفعه إلى التحرّك من أجل إلغاء الآخر؛ لأن هذا الجوّ الغيبي المنفتح على الإيمان بالله يمنع من الوصول إلى أيةِ تسوية مع الكفر به ويجعل من الإنسان الكافر إنسانًا لا يستحق الوجود، فلا بدّ من إزالته من الحياة ليبطل تأثيره في إضلال الناس عن خط الإيمان، لتكون مواجهته ثأرًا لله وللرسول وللدين، فلا مجال للحوار معه؛ لأن القضية تفرض نفسها على الواقع الحي من خلال وضوحها الذي لا يلتقي بأية شبهة في احتمالات الخطأ، ليكون هناك مجال للجدل من خلالها، وبذلك يتحوّل المؤمن بالدين إلى شخصية عدوانية ساحقة ضد الإنسان الآخر الكافر،...

ولكن، ليس معنى ذلك أن الروح الدينية تنطلق من فكرة إلغاء الآخر، بل هي، في مضمونها الرسالي، تدفع بأتباعها إلى الانفتاح على الآخر بالدعوة القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن بالأسلوب الذي يعمل على الدخول إلى عقله وقلبه والنفاذ إلى واقع حياته، ومناقشة فكره باحترام في عملية أخذ وردّ، بالطريقة التي يملك فيها حرية المناقشة بلا حدود أمام الهدف الذي يحوّل الأعداء للرسالة والقضية والموقع والموقف إلى أصدقاء لها،...

ولكن الجهل والتخلف اللَّذين يسيطران على بعض المجتمعات المتدينة أو الأشخاص المتدينين، هما اللذان يدفعان بالإنسان إلى مواجهة الفكر الآخر بالانفعال والحماس المضاد والأسلوب العاطفي الذي لا يفكر بعقل واتزان؛ لأنه لا يملك العقل الذي يواجه العقل الآخر والاتزان الذي يلتقي من خلاله بالخلفيات التي يتمكن في قناعات الفئات المضادّة، فلا يملك في هذا الجوّ شجاعة المجابهة العقلانية، فيحول الموقف إلى المجابهة العدوانية».

ثانيًا: الأنبياء من التلقي إلى حركية الدعوة

شخصية النبي عندما سجّلها المنتمون للشرائع التي أرسل بها هؤلاء الأنبياء كانت بين إفراط وتفريط، فبينما نجد العديد من صور التشويه والانحراف لهذه الشخصيات العظيمة، قد نجد في المقابل العديد من صور المبالغة والأسطورية، وبين هذه وتلك لا نعدم من وُفِّق لتقديم صورة واقعية تعكس مقدار العظمة التي بلغها أنبياء الله (عليهم السلام) دون أن يضطّر إلى إدخال عنصر البطولة الأسطورية القريبة من الخرافة، وكان من بين هؤلاء السيد فضل الله (رحمه الله)، حيث مثّلت دراسته لشخصية الأنبياء نموذجًا مهمًّا في تقديم وعرض القيم التي كان يتّسمون بها في مجال قيامهم بواجب الدعوة إلى الديانات الإلهية الموحاة إليهم، وذلك في عناوين عدّة، نذكر منها التالي:

أ- النبوة ميثاق بين الله وبين أنبيائه

«لم تكن النبوة امتيازًا ذاتيًّا يمنحه الله لبعض الناس من خلال التشريف الشخصي، بل هو عهد بينهم وبين الله بأن يتحمّلوا مسؤولية الدعوة إليه، ويخلصوا في التزامهم بالمسؤوليات التفصيلية فيما يستلزمه ذلك من عذاب واضطهاد وآلام ومشاكل وصبر على ذلك كله، وانفتاح على الناس من الباب الواسع من خلال الكلمة الطيبة والأسلوب الطيب والموعظة الحسنة».

هذه النقطة التي يثيرها السيد فضل الله لعلها تطبع خطاب السيد فضل الله حول هوية دور الأنبياء فيما يرتبط بعلاقتهم بتبليغ الدعوة، ومن ذلك ما نقرؤه له حول الآيتين الثانية والثالثة من سورة الانشراح ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، حيث عبّرت الآيتان عن الرسالة بأنها ثقل، وذلك فيما يستقربه السيد (رحمه الله) من «أن المراد به ثقل الرسالة فيما كلّف الله به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بذل الجهد الكبير في سبيلها وتحمّل المصاعب من أجلها، ومواجهة التحديات الكبيرة القاسية في طريقها، ثم بدأ الثقل يخف كلما كثر المسلمون وانتصروا على قوى الشرك، عندما دخل الناس في دين الله أفواجًا، فتحمّلوا عن رسول الله الكثير مما كان يبذله من جهد وما كان ينوء به من عبء الرسالة».

فالرسالة وفق هذا المفهوم تكليف وعبء أكثر منها مكانة ومنصب تشريفي، حيث يختار الله من عباده من يجد فيه الأهلية لتحمّل مثل هذا العبء إلى حيث نهاية المشوار، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالاصطفاء، يقول تعالى: ﴿قَالَ: يَا مُوسَى، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾، وللاصطفاء مبرر يشرحه السيد فضل الله في تناوله لهذه الآية الكريمة، فيقول شارحًا لها: «اخترتُك من بين الناس لما تملكه من صفاء الإيمان ووضوحه وعمقه، ومن قوّة العزيمة، وصلابة الإرادة، وصدق الموقف، وصبر المعاناة، وهذا ما يجعل للأنبياء صفة مميزة يستحقون بها اختصاص الله لهم برسالاته؛ لأن الذي يحمل الرسالة لا بدَّ أن يعيش روحيتها وأخلاقيتها وأفقها الواسع، ويمتلك الخصائص الفكرية والعملية التي تجعل من تجربته -في خط الرسالة وحركتها- تجربة ناجحة على مستوى القدوة العظيمة في حساب النتائج الرسالية للحياة».

ولذلك عندما يصطفي الله نبيًّا من الأنبياء يحمِّله عبء تبليغ الرسالة التي يكون ملزمًا بتطبيق أحكامها كاملةً كما هو الحال مع من يُبْعَث إليهم، فلا ميزة قانونية له، بحيث يُعفَى من الالتزام بتطبيق الشريعة، وحول هذه النقطة يتحدّث السيد فضل الله -منطلقًا من الآية الكريمة: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾-، فيقول: «ولعلّ في هذا الأمر الموجّه للنبي وللمؤمنين معًا، إيحاءً بأن النبي لا يختلف عن المؤمنين في المسؤوليات التفصيلية لخطّ السير؛ لأنه يتحرّك في حياته، بصفته المسلم الأول الذي لا بدّ أن يطبق الإسلام على نفسه قبل أن يدعو إليه، ليكون الداعية بالقدوة، قبل أن يكون الداعية بالكلمة، وبهذا يمكننا استيحاء الردّ على الذين يفرضون للنبي تكليفًا غامضًا يختلف عن تكليف بقية المسلمين، فيرون أننا لا نستطيع اعتبار أي عمل يقوم به، لا سيما في خط الجهاد، لأنه أعرف بتكليفه الشرعي الذي قد لا نعرفه».

ب- تنوع الأنبياء وتعدّدهم

خلق الله الإنسان وفطره على التوحيد، ولكن الإنسان فيه من النوازع الداخلية التي ينحو -بسببها- نحو الشرّ وعصيان الله ومخالفة ما فُطِرت عليه نفسه الإنسانية، وبخاصّة عندما تتوفر البيئة الحاضنة لمثل هذه النوازع الشريرة، وعندما يصل الأمر بالمجتمعات الإنسانية إلى أن تكون الظاهرة العامّة فيها نوازع الشرّ والطغيان، يرسل الله من يحيي في ضمائر الناس نوزاع الخير والألفة والمحبة على يد أحد أنبيائه، فيتبعه البعض ويُعرض عنه آخرون.

وبعد فترة من الزمن قد تخفت في المجتمعات البشرية نداءات الخير في ضمائر أفرادها، ليرسل الله لهم من يحييها في نفوسهم، وهكذا.. حتى كانت نبوة رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتمة الرسالات والنبوات.

وهؤلاء الأنبياء كان كل فرد منهم يؤيّد من سبقه ويكمل مسيرته، ذلك أن «النبوة الجديدة لا تلغي النبوة القديمة؛ لأن النبوات ليست منطلقة من شخص النبي في ذاتية الفكرة، بل من وحي الله الذي يشرع للحياة كلها وللإنسان كله، في الخط العام الذي تتكامل فيه الرسالات وتتوزع فيه الأدوار، إلَّا ما يختص بمرحلة النبي في الزمن الذي يعيش فيه الناس الذين أرسل إليهم والأوضاع التي قد يعرض عليها التغيير، وهكذا كان كل نبي مصدِّقًا لمن قبله في رسالته وفي الكتاب الذي أنزل عليه».

إذًا ما كان يتغيّر هي الأدوار التي كان يؤديها الأنبياء والوسائل التي كانوا يتوسلون بها من أجل إنجاح الدعوة التي لم تكن موضع خلاف بين الديانات في جوّها وأحكامها ومبادئها العامة، لذلك فإن «إبراز دور معين في شخصية هذا النبي أو ذاك لا يعني تحديد هذه الشخصية، بل كل ما يعنيه هو تميّز المرحلة التي يعيشها بهذا الدور، للحاجة الواقعية إليه... وبذلك فلا مانع من اشتراكهم في مستوى حمل المسؤولية أمام الله اتجاه الناس، وفي الصفات الذاتية التي تمثّل العمق الروحي في طبيعة الشخصية، وفي الحركة العملية في الدعوة إلى الله، وفي الجهاد في سبيله.

إن التنوّع في الخصوصيات الذاتية تابع لتنوّع الأدوار والظروف التي يعيشها الإنسان في ساحة الواقع».

إن مسألة تعدّد الأنبياء وتنوّع تجاربهم، ومن ثمّ تنوّع الأدوات والوسائل المستعملة في تبليغ الدعوة وطريقة التعامل مع الجماعات المواجِهة تعدّ مسألة إيجابية، وذلك لإغناء التجربة النبوية، بحيث يستفيد اللاحق من السابق، وهي فكرة يثيرها السيد فضل الله، وذلك بقوله -معلِّقًا على قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾-: «ليعيش [النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)] التاريخ الرسالي في حركته الروحية، وفي نماذجه المميزة، كما لو كان في زمانهم، فتنطلق التجربة الحية في رسالته، لتكون منطلَقًا للسموّ والصفاء، وانفتاحًا على العبرة الواعية التي تمنح الحاضر درسًا متحرِّكًا في تجربته من خلال الماضي في عملية تواصل بين الزمانين كمظهر للتواصل بين الرسالات».

فالنبوات الإلهية -بهذا المعنى- تتكامل لا لتكوّن حلقات في سلسلة واحدة فحسب، بل تتكامل فيما بينها إذ يستفيد اللاحق فيها من السابق، فالتجارب النبوية السابقة زادٌ عملي مهمّ يتعامل معه الأنبياء بالاستفادة منه.

وبخصوص تعدّد الأنبياء تطرح مسألة الأفضلية فيما بينهم، وذلك انطلاقًا من إثارة القرآن لهذه الفكرة، وذلك في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، وهو أمر لم يغفل السيد فضل الله (رحمه الله) الإشارة إليه في تفسيره القيم ومعالجته وفق الرؤية القرآنية، حيث يؤكّد في بحثه لهذه الفكرة على أن اختلاف الخصائص بين الأنبياء لا ينبغي أن يثير أي نوع من التحدي، فيقول هناك: «إن الله قد تحدّث عن اختلاف الخصائص والدرجات في هذه الآية من دون أن يثير أية حالةٍ من حالات التحدي التي تربط القضية بالجانب الذاتي للنبي، بل اعتبرها أمورًا واقعية يتميّز بها الرسل في حركتهم الرسالية.

وفي ضوء ذلك، لا بدَّ لنا من أن نلتفت إلى الجهود الكلامية المضنية التي يبذلها علماء الكلام وغيرهم في إقامة البراهين على أن هذا النبي -لا سيما نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)- أفضل من هذا النبي أو ذاك أو من كل الأنبياء، كما لو كانت القضية من القضايا الأساسية التي تتعلّق بالجانب الحيوي للعقيدة،...

إن علينا أن نتعلم من القرآن أسلوب التعامل مه القضايا الفكرية والعملية وكيف نُجْمِل الأشياء التي لا تحتاج إلى تفصيل، ونفصل الأمور التي تحتاج إلى ذلك في نطاق العقيدة والعمل».

- الأنبياء في تلقي الرسالة ونشرها

كنا قد أشرنا أعلاه إلى أن النبوة ميثاق بين الله تعالى وبين من يصطفيهم من عباده لحمل أعباء نشر الرسالة، وهي المهمّة التي يشعر فيها النبي بثقل المسؤولية في صعوبة تحمّل أدائها على أكمل وجه، وكنا قد أشرنا إلى هذا المعنى استشهادًا بالآيتين: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾ اللتين تتحدثان عمّا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعانيه من ثقل تبليغ الدعوة، وهذا لا يعني بحال أن أنبياء الله كانوا يؤدون هذه المهمّة بنوع من التكلّف غير المرغوب فيه لولا الواجب الملقى عليهم في ذلك، بل يصور لنا السيد فضل الله النفسية التي يتوجّه الأنبياء بها في تبليغ الرسالة، حيث يؤدونها بأسلوب وديع نابض بالمحبة، فهاهو يتحدّث عن دعوة نبي الله عيسى لقومه، فيقول: «واستمرّ عيسى (عليه السلام) في دعوته إلى الله بأسلوبه الوديع النابض بالمحبّة، من أجل أن يقودهم في رحلة الإيمان إلى الله في العقيدة والشريعة، ليعيشوا قصّة الإيمان فكرة وشعورًا وممارسةً... ولكنهم أغلقوا آذانهم عن الاستماع إليه».

كما نقف مع نموذج نبوي آخر يذكره السيد فضل الله في تفسيره القيم، وهو نبي الله نوح (عليه السلام)، الذي «نستشعر فيه المعنى الإنساني الذي ينطلق به الرسول، ليوحي إلى الناس أنه ليس إنسانًا يفكّر بطريقة جامدة ورسمية، تتوسل المفردات القانونية في حساب الجزاء، بل هو إنسان يتحدث معهم بلغة الإحساس والشعور والعاطفة،... إذ يناديهم فيما يشبه اللهفة الملتاعة ليرجعوا عن غيهم وكفرهم لئلاَّ يلاقوا العذاب الشديد».

ولذلك فإن دعوة الأنبياء لا تخرج عن كونها عرضاً لقيم ومبادئ يبشرون بها أقوامهم بإخلاص عالٍ لما يؤمنون به من مبدأ يمثلون فيه أعلى درجات القدوة في الإخلاص والتضحية من أجل القيم والمبادئ، وهم في ذلك لا يطلبون أجرًا ولا أي مقابل مادي أو معنوي يكافأون عليه، ذلك أن «هدى الله الذي سار عليه الأنبياء كان يقدِّم نفسه إلى الناس منحةً وعطيةً من دون أجر، بكل محبّة وإخلاص؛ لأن الله أراد للحقيقة أن تعيش في حياة الناس كالنور والماء والهواء، لينفتحوا عليها، بكل بساطة وعفوية، لتلامس أرواحهم وأفكارهم ومشاعرهم من دون حواجز أو عقبات؛ لأن الإنسان الذي يشعر بأنه يدفع الأجر لمن يدعوه إلى اتباع ما يحمله من رسالة، قد يعيش الشعور السلبي بالمعنى التجاري للرسالة، فيما تعنيه التجارة من معنى السلعة للمعوّض ومعنى الثمن للعوض، ومعنى التاجر لمن يقدِّم السلعة، ودور المشتري لمن يدفع الثمن،... إن الله يريد للرسالة أن تدخل في وعي الناس من خلال روحية الرسول الذي يعيش العطاء بدون مقابل ليعيش الناس الإحساس بأنها حقهم كما هي مسؤوليتهم».

ولتأكيد مسألة الحرص والمحبة التي ينطلق منها الأنبياء في تبليغهم للدعوة نقف مع السيد (رحمه الله) فيما صوّره من جوّ إيماني مُحِبّ كان يمثّله أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، الذي لم يكن يفكر في حاضره وزمانه فقط، بل كان يشغل فكره إيمان الأجيال القادمة، وذلك في قوله تعالى حاكيًا عنه (عليه السلام): ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾، حيث يلتفت (رحمه الله) إلى هذه النقطة، فيستنتج منها أهمية أن «يعيش العاملون بالله الحُلُم الكبير فيما يحلمون به لمستقبل أولادهم، وذلك بالتركيز على أن يكونوا مؤمنين بالله، عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم والأمة المسلمة، فتتحوّل التربية في هذا الجوّ إلى التخطيط العملي، الأمر الذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطًا رساليًّا يتحرّك في نطاق الحركة الرسالية، لا في موقع العاطفة الذاتية التي تحلم وتفكّر لهم بالنجاح المادي في الدنيا بعيدًا عن النجاح الروحي في الدنيا والآخرة».

إن النبي الذي يؤدّي الرسالة بهذه الروحية العالية لا ينسب الدين إلى نفسه، ولا يقيم نفسه مقام صاحب الشريعة الأصل، وهو الله تعالى، بحيث لا تغريه المكانة الاجتماعية التي قد يحصل عليها لانتسابه للدين، فلا يدّعي أمورًا غير واقعية، وإنما يكون صريحًا بأنه مجرّد بشر ينزل عليه الوحي، ويؤدّي مهمّة محدّدة، وهي البلاغ الواضح المبين لهذه الرسالة، فلا يجبر أحدًا على قبولها، وفي حال قبل البعض دعوته أو رفضها البعض الآخر فإنه لا يملك لهم جميعًا نفعًا ولا ضرًّا، فصاحب السلطان والتصرف المطلقين هو الله تعالى، وحول هذه المعاني نقرأ الآية التالية: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾، التي يعلّق عليها السيد فضل الله (رحمه الله) بقوله: «هذه هي الصورة المشرقة الواقعية للشخصية النبوية التي يريد الله للنبيّ أن يقدِّم بها نفسه إلى الناس، فهو لا يريده كائنًا غيبيًّا يبرز إليهم من خلال الجوّ الغيبي الضبابي الذي يوحي بكون ذلك سرًّا خفيًّا مقدَّسًا بعيدًا عن التصوُّر البشري الطبيعي، ولا يريد له أن يبدو في نظرهم شخصية أسطورية تملك في حوزتها كل خزائن الله الذهبية والفضية ونحو ذلك مما يدخل في عالم التقييم المادي،... ولا يريده إنسانًا يقف بين الناس ليتحدّث عن أسرارهم الكامنة في صدورهم وعمّا ينتظر كل واحد منهم من أحداث المستقبل، على أساس ما يحمله من علم الغيب الإلهي، كما هو دور النبي في تصور الكثيرين، الذين يربطونه بشخصية الكاهن الذي كان يمثّل بعضًا من ذلك،... ولا يريد له الشخصية الملائكية ليأخذ بألباب الناس فيدهش العقول بأجنحته المتنوّعة المتعدّدة، وقدرته الأسطورية الخارجة عن كل حدّ؛ لأنّ الله يريد للناس أن يؤمنوا به من خلال رسالته بعيدًا عن كل أشكال الضغط النفسي أو المادي، وعن كل أنواع الإغراء أو الاستعراض،... وهكذا أراده أن يقف بينهم عبدًا خاشعًا بين يديه، لا يملك أية مقوّمات ذاتية كبيرة، أو أية قدراتٍ شخصية مطلقة، رسولاً أمينًا على الدور الذي أوكله الله إليه، فهو ينتظر أمر الله ووحيه في كل صغيرة أو كبيرة ليتّبعه ويبلّغه للناس، وربما كان الحديث عن الاتّباع موحيًا بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته ليكون في ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله والاستغراق في دور العبد المطيع الذي يتمثّل حركة العبد/ النبي، في شخصية العبد/ المؤمن».

وفي حركة التبليغ التي يقوم بها النبي، يتحرّك في أدائها مبَشِّرًا ومرغِّبًا في الجنّة، ومنذرًا ومرهِّبًا من دخول النار، وهو ما توحيه الآية الكريمة: ﴿وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾، حيث نجد أن «قضية الرسالات تتحرّك من أجل إيجاد تفاعل فكري وروحي وعملي بين الرسل والناس من خلال الرسالة التي تبشّر بالنتائج الطيّبة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وتنذر بالنتائج السيِّئة للمكذّبين بآيات الله، لينطلق الناس في عملية فكر وتأمّل وحوار من أجل مواجهة مصيرهم الذي يتحدّد بالموقف الإيجابي أو السلبي من الرسالة».

إن الأنبياء في أدائهم لمهمّة الدعوة والتبليغ لا تكون الطريق أمامهم ممهّدة، بل تواجههم صعوبات كبيرة، وبخاصّة عندما تكون البيئة ضمن سيطرةٍ وسلطانٍ متمكّنين، كما هي الحالي مع أنبياء الله: إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، فكانت دعوتهم وسط مجتمعات يسيطر فيها الحاكم على جميع مفاصل المجتمع، بلغت في بعضها أن يدّعي هذا السلطان الألوهية -كما هي الحال مع نبي الله موسى (عليه السلام)-، وهذا ما يجعل تحرّك النبي في تبليغ الدعوة تشوبه العديد من العوائق والصعوبات، وبخاصّة ما قد يواجههم من مسألة التعتيم أو التشويه الإعلامي، إذ غالبًا ما تكون السلطة الإعلامية بيد الحاكم، ولذلك كان يستعين الأنبياء في حركة الدعوة بالمعجزة، ذلك أنها تحقّق لهم غرضين مهمّين يساهمان في تبليغ الرسالة، أولهما: أنها دليل واضح على ارتباطهم بعالم الغيب والقدرة المطلقة التي تستطيع منفردةً القيام بهذا النوع من الإعجاز، وثانيهما: أنها وسيلة إعلامية بارزة، يستطيع النبي من خلالها أن يجمهر الناس حوله ليقول لهم ما يريد، وبخاصّة مع ما تحاوله أجهزة السلطة آنذاك من أن تمنع وصول أقوال وأفعال النبي إلى سائر الناس.

وانطلاقًا من هذه الفكرة، يمكننا أن نفهم عدم ظهور معاجز في سير الدعوة الإسلامية، فنبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تحرّك في محيط لا تحكمه سلطة متمكّنة، وإنما هو مجموعة من أشتات القبائل المتناثرة، استطاع أن يكسب ولاء وإيمان بعضها، ولم تفلح جهوده مع بعضها الآخر.

ولذلك فإن السيد فضل الله -عندما يتحدّث عن المعجزة التي كان يطالب بها المشركون نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)- يعلق على هذه الفكرة بقوله: «ويبقى الهاجس الذي يطوف بخيالات المشركين في حديثهم عن النبي هو المعجزة الخارقة التي تدهش النظر بتغيير المألوف من الظواهر الكونية من حولهم، تمامًا كما كانوا يسمعونه من عصا موسى (عليه السلام) وإبراء عيسى (عليه السلام) الأكمه والأبرص وإحياء الموتى،... ولكن المعجزة ليست عملاً استعراضيًّا يقوم به النبي من أجل إبراز قدرته التي تصدم الحسّ، وتلهب الخيال، بل هي وسيلة من وسائل إقامة الحجّة على الناس، فيما يعتبر بيّنة للرسالة في حالات الشكّ والريب في صدقية النبي ورسالته».

وتأسيسًا على ذلك، كان بعضهم يرى في كل من يدعي النبوة أنه ستكون من ضمن أحداث سير الدعوة لديه: القيام بأمر خارق ومعجز، لدرجة أن البعض منهم قد يعطيه صفات تخرجه من البشرية، ولذلك كان سلوك الأنبياء في مثل هذه المواقف هو الإصرار على البشرية والانطلاق مع أتباعهم وغيرهم بالواقعية وعدم المبالغة في تصوير ذواتهم وكأنها ذوات خارقة قادرة على كل شيء، يقول (رحمه الله) حول هذه الفكرة: «﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾، ويريدون بها المعاجز البارزة الظاهرة التي تمثّل الإعجاز في حركة الأشياء الطبيعية بتبديلها إلى غير ما هو معتاد ومألوف،... لأن تفكيرهم مرتبط بالمعروف لديهم من معاجز الأنبياء الخارقة للعادة، ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ﴾؛ لأن مسألة المعجزة مرتبطة بالله القادر على كل شيء، وهو قادر على أن ينزل آية،... فهو بيد الله يتصرّف به كيف يشاء، فلا أملك أمره في قليل أو كثير».

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة