تتميز اللحظة الحضارية الكونية التي تطبع راهن عالم اليوم: بما حققته العولمة باعتبارها نظاماً عالمياً قائماً على التحرير المتناهي للأسواق والفضاءات الاقتصادية والتبادلات التجارية والمالية والخدماتية… على الاختراق المتواتر للخصوصيات والحدود التجارية والسياسية…من هيمنة مادية ورمزية تتصاعد إيقاعاتها باتجاه تكريس المزيد من تنميط العالم وفق منظومة قيمية جديدة ونسق اقتصادي كوني معولم جديد، أو بالتالي في إطار "نظام دولي جديد" قوامه "ثقافة سياسية كونية جديدة" تتخذ كإطار مرجعي لها اعتماد قيم الانفتاح والتحرر والتنافسية والحوار والتشارك والتبادل والتثاقف والتوجه نحو العالمية وتوحيد معايير ومساطر وآليات التعامل والتحرك والأشغال" إلخ، أي ثقافة مشتركة تكتسب فيها المقومات الخصوصية دلالات ومعاني ذات طابع كوني شمولي بعيداً عن التقوقع أو الانغلاق الاقتصادي أو الثقافي أو السياسي أو السوسيوحضاري العام.
وقد حمل معه هذا الاكتساح العولمي الشامل، وكما هو معروف في "أدبيات العولمة"، خطاباً تبشيرياً جديداً مدعماً لهذا المدّ العولمي ومنظراً لأسسه وأهدافه ومآله ووعوده المستقبلية الوردية الجميلة، خطاباً اتُّهمت إزاءَه جل خطابات النقد أو المساءلة أو المناوأة أو التحفظ والاعتراض على ظاهرة العولمة وعلى آثارها ومُحْدَثَاتها وقيمها…بأنها خطابات تقليدية متخلفة مبتذلة أو حتى شوفينية متطرفة ودُوغمائية…لم يعد لها مكان أمام تعاليم التحرر والانفتاح ذات الطابع الكوني الحضاري الجديد.
وإذا كان هذا الخطاب التبشيري المذكور آنفاً قد شكل بامتياز موضوعاً لقراءات ومقاربات تحليلية ونقدية مختلفة المناهج والمرجعيات، بغرض الكشف عن محمولاته ومقاصده وأسُسه وأبعاده الابستمولوجية والفكرية والسوسيوتاريخية…، فإن ما يهمنا منه الآن- نظراً لعدم ملاءمة المقام- هو الإشارة المركزة إلى بعض أنماطه الأكثر رواجاً وتداولاً، وهو ما يمكن تسميته ب " خطاب أو حديث النهايات"، المكرس للقول بنهايات متعددة على صُعُدٍ ومستويات مختلفة، ذلك مثل: "نهاية التاريخ" و "نهاية الدولة أو السيادة الوطنية" و "نهاية الجغرافيا" و " نهاية السياسة" و "نهاية الإيديولوجيا" و "نهاية الديموقراطية" و "نهاية التربية أو المدرسة الوطنية"…إلخ[2] ولعل من أهم ما يُتأسَّس عليه خطاب النهايات هذا هو أنَّ ما حصل من تحول كوني، وخاصة في العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم، والمتمثل في انهيار المعسكر الشرقي، سواء كمرجعية إيديولوجية أو كمنظومة دولية ممثلة في الاتحاد السوفياتي المتفكك، وما كان يدور في فلكه من دول وتكتلات تشهد الآن بدورها تفككاً متواتراً في النظم والقيم والمرجعيات والتوجهات"، مما أفسح المجال للمعسكر الغربي الرأسمالي المتمحور حول قطبه الجاذب الأوحد: أمريكا، كي يتصدّر المشهد العالمي مستفرداً بالعديد من شروط ومقومات وإمكانات الغلبة والهيمنة المادية منها والرمزية، إن هذا التحول هو ما مَنَح الخطاب الآنف مبرر القول "نهاية التاريخ"، وانخراط العالم في مرحلة جديدة تقطع تماماً ماضي الحروب الإيديولوجية ولا سيما بين الاشتراكية والليبرالية، وتؤسس ل "نظام عالمي جديد" ل "عَصر ما بعد الحداثة" أو "ما بعد الإيديولوجية" الذي يتخذ من الليبيرالية المتطورة المتجهة إلى أن تغدو ليبيرالية فائقة الشمولية والاكتمال"، UlTRALIBERALIANE قاعدته الأساسية ومرجعيته التي تَجُبُّ كل ماعداها من التواريخ والنظم والقيم والمرجعيات[3]
ويرى وكلاء هذا "النظام العالمي الجديد" أن ما يدعو إليه (…) هو شكل من أشكال تبسيط العلاقات وتجاوز العقد التاريخية والنفسية، والنظر للعالم باعتباره وحدة متجانسة واحدة، والنظام العالمي الجديد حسب رؤيتهم، هو نظام رشيد يضم العالم بأسره، فلم يعدْ هناك انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية وبين الداخل والخارج وهو يحاول أن يضمن الاستقرار والعدل للجميع "بما في ذلك المجتمعات الصغيرة" ويضمن حقوق الإنسان للأفراد، وهو سينجز ذلك من خلال مؤسسات دولية "رشيدة" مثل هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية والبنك الدولي وقوات الطوارئ الدولية، وبإمكان كل الدول أن تستفيد من الخبرة الدولية في إدارة شؤون الداخل وتكييفه مع النظام العالمي الجديد، وسيتم كل هذا في إطار ما يقال له " الشرعية الدولية" التي تستند إلى هذه الرؤية وإلى المقدرة على تحويلها إلى إجراءات، تماماً كما حدث في حرب الخليج (…)، وقد أدى انهيار المنظومة الاشتراكية والتلاقي (التقارب) "Canvergemce" بين المجتمعات الغربية الصناعية، واختفاء الخلاف الإيديولوجي الأساسي في العالم الغربي إلى تقوية الإحساس بأن ثمة نظاماً عالمياً جديداً وإلى أنه لم تعد هناك خلافات إيديولوجية تستعصي على الحل (…)، ومن المنطقي أن يتصور المبشرون بهذا النظام أن القيادة فيه لا بد أن تكون للقوة الاقتصادية العظمى، أي للمجتمع الصناعي الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية".[4]
لم يتشكل هذا النظام العالمي الجديد دفعةً واحدة، بالطبع، ولا كان بروزه إلى الوجود وليد الصدفة أو الطفرة التاريخية المباغتة، ولكنه نتج – على مستوى خلفية تكونه التاريخي- بفعل ما عرفته المجتمعات الغربية الحديثة من تحولات اقتصادية وحضارية ولا سيما في القرن التاسع عشر وما تلاه، مما جعل من بعضها قوى استعمارية عملت فيما بعد، وفق توازنات وصراعات مصالحها ومطامح وأهداف مشروعها الهيمني، على صياغة نظام عالمي لاقتسام السيطرة والنفوذ والاستغلال والمواقع على المستوى العالمي، صياغة تعود جذورها إلى ما قبل الحربين الأوليين لتستكمل أهم حقوقها بعدهما بشكل خاص. وإذا كان ما يهمنا هنا ليس هو التحليل السوسيوتاريخي لنشأة وتطور وامتدادات هذا النظام، بقدر ما يعنينا ما أفرزته من خطاب للنهايات، ولا سيما في علاقة هذا الخطاب ب "المسألة التربوية" فإنه يبدو لنا مفيداً، وقبل الانتقال إلى معالجة بعض جوانب هذه المسألة منظوراً إليها من زاوية الخطاب ذاك، نود أن نقدم بعض الملاحظات أو الإضاءات النقدية حول مفهوم "النهاية" على الأقل كما نتصوره من إطار منظور سوسيوتاريخي[5].
أولاً: المعقول واللامعقول في مدلول "النهاية" في الخطاب العولمي الجديد: أفكار وملاحظات للنقد والتأصيل.
لقد تباينت أنماط التعامل مع خطاب النهايات الآنف الذكر، قراءةً وفهماً وتموقفاً، ما بين مؤيد مدعّم ومتحفظ منتقد، ورافض معارض…و إذا كانت التباسات اللحظة الحضارية الراهنة وزخم ما تعج به من وقائع وأحداث وتسارع في وتائر التبدل والتحول في ظل "النظام العالمي الجديد" الذي ما يزال يحكم كل هذه العوامل، لم تتضح معالمه وأهدافه وتوجهاته ومكوناته بعد… كما لم تكتمل مقومات مشاهده بشكل جيد… نقول: إذا كان في هذا الوضع الملتبس ما يجد فيه أولائك الأنصار والمتحفظون والمعارضون لطروحات الخطاب المعني بعض ما يبررون به انتقاداتهم أو مواقفهم منه، فإنه يبدو ملائماً من الناحية المنهجية تسجيل بعض الملاحظات النقدية حوله مساهمةً منا في إبراز بعض محمولاته وأبعاده المعرفية والاجتماعية، ونجمل أهم وآكد هذه الملاحظات فيما يلي[6]:
1 – يتضح من قراءة العديد من الأقوال والطروحات التي أنتجت حول العولمة عموماً وحول مقولة "نهاية التاريخ" وأخواتها،أنها قد ظلت في مجمل أشكالها تراوح بين موقفين أساسيين: موقف ستاتيكي ينظر إلى الإنسان والمجتمع والتاريخ كما لو كانت مقولات أو وقائع جامدة قارة، لا يشكل التغير سوى عامل طارئ على طبيعتها الأساسية ألا وهي الثبات والاستقرار، وبالتالي القابلية للتوقف أو الانتهاء عند لحظة زمنية معطاة. وموقف ديناميكي ينظر إلى نفس المقولات والوقائع الآنفة على أنها متحركة ومتغيرة في الزمان والمكان، وفق جدلية ينظمها تداخل وتبادل تكاملي بين السابق واللاحق وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الثابت والمتغير.
وإذا كنا من المتبنّين لهذا الموقف الثاني، فإننا قد أصبحنا نلاحظ الآن ميلاً كونياً متصاعداً باتجاه تكريسه. وذلك لأنه في تقديرنا أقرب إلى الموضوعية العلمية المتزنة، وأكثر تحصناً من الانزلاق نحو المواقف الاختزالية الضيقة والتوظيفات الإيديولوجية المتطرفة.
2- تعتمد بعض أنماط التعامل مع خطاب النهايات ذاك رؤية ذات طابع إطلاقي ميتافيزيقي، تنظر إلى "لانهاية" التي وُسمت بها ظواهر ووقائع ومجالات متعددة مثل التاريخ والتربية. إلخ… كما لو كانت نهاية تامة ومكتملة ونهائية، أو حداً فاصلاً بين زمنين أو مرحلتين تاريخيتين أو ظاهرتين…بين ماض أو تاريخ انتهى كلية وكفَّ تماماً عن الحركة والتطور والتغير، وبين واقع جديد لم يعد له بالماضي الغابر أية صلة من أي نوع . وذلك لأنه وفق هذا التصور، غابر قد "مات" بعد أن انتهى أو أنهى دوره أو "صلاحيته" ولم يعد، بالتالي، قادراً على الاستمرار والبقاء والتطور[7].
3- تقوم هذه الرؤية الإطلاقية لمفهوم النهاية على تصور مثالي لمسألة "القطيعة" التي تحصل بين الظواهر والأحداث والنظم المعرفية والقيمية والأزمنة التاريخية… واعتبارها "انفصالاً" كلياً وقطعياً يتم عبره الانتقال التام أو "الطفرة النقية" من واقع إلى واقع أو من نظام إلى نظام أو من فترة إلى أخرى… بعد التخلص من كل شوائب ورواسب مواضيها وسوابقها. ومعلوم أن المنظور السوسيولوجي والابستمولوجي النقدي لهذا الإشكال يختلف مع هذه الرؤية المثالية السابقة ليتبنى فهماً تاريخياً ونسبياً لمفهوم القطيعة، ذلك أنه حتى في إطار القطائع التي حصلت وتحصل في ميدان المعرفة العلمية، والتي يتم عبرها الانتقال من نسق معرفي إلى آخر مختلف ومتمايز بشكل بارز،فإن هذا الانتقال لا يعني الإلغاء المطلق للنسق القديم، بل يعني بالذات كون النسق المعرفي الجديد تقوم قطيعته مع سابقه على استيعابه واحتواء عناصره الإيجابية وتجاوزه في آن. ذلك ضمن ديناميكية جدلية مسترسلة متقدمة إلى الأمام، تتناظم وتتناغم وتتكامل فيها مختلف عناصر ومعطيات القديم والجديد، بحيث لا يشكل الانفصال أو التغاير بينها سوى قطيعة نسبية.
أما على المستوى السوسيوحضاري حيث ينتظم الظواهر والمجالات والعلاقات والتواريخ…، بأبعادها ودلالاتها النفسية والاجتماعية والقيمية والثقافية… تشابك علائقي معقد، فإن القطيعة على هذا المستوى الشديد الحساسية والتغير يصبح هامشها ومدلولها أكثر نسبية وأوسع انفتاحاً على تجادل وتحاور القديم والجديد وتبادلهما وتطورهما المتساوق ضمن مواصلةٍ ديناميكية لا يمكن منطقياً وموضوعياً تصور انتهائها إلا بانتهاء المجتمع البشري برمته[8]،
4 – لا يتأسس المنحى السابق في التفكير على مايمكن توصيفه ب "عطب معرفي علمي" في تحليل وفهم أبعاد المجتمع والتاريخ، وخاصة في هذه اللحظة العولمية الجديدة- قد لا يكون هذا العطب وارداً في كل الفهوم والأقوال التي نحت نفس التوجه- وإنما يتأسَّس أيضاً وفي بعض نماذجه الأكثر رواجاً ودعائية على "مُبَيَّتٍ إيديولوجي" علني أحياناً ومضمر أحياناً أخرى.وذلك حينما يغدو- كما هو شأن خطاب النهايات – خلفيةً فكرية وسياسية وثقافية لتكريس قوى الهيمنة المتصدرة حالياً على المستوى العالمي، والممثلة بالأساس، في الولايات المتحدة الأميريكية وتحالفاتها المتنفذة. ضمن هذا المبيت الإيديولوجي يصبح القول ب "نهاية التاريخ" وما يوازيها دعاية لما ينعته البعض ب "داروينية اجتماعية جديدة" لا ترى أي حق للبقاء إلا بالنسبة للأصلح، أي الأقوى والأقدر على المجابهة والتحدي وفرض الغلبة وإقصاء أو إلغاء الغير، أي دعاية… بالتالي لأمريكا كقوة كونية عظمى، وللأمركة نظاماً ونمط عيشٍ وتفكيرٍ وسلوكٍ وقيم، ودعوة إلى الاحتماء ب "التأمرك" والاندماج في النسق الكوني الليبرالي المعولم والمؤمرك. وذلك حفاظاً على البقاء وضماناً للاستمرار والتناغم مع القيم الليبرالية الجديدة- المغرية والمتوحشة في آن- والتي لا تبقي للضعفاء أو المنعزلين، حظوظاً في العيش ولا تذر. ولذا فإن مراجعة نقدية لمفاهيم وقيم النظام العالمي الجديد مثل: التنافسية والاستحقاقية والمثاقفة والانفتاح والحوار… إلخ في ربطها بأبعاد وخلفيات ومتضمنات هذه الدراوينية الجديدة تعدّ مهمة معرفية وحضارية بالغة الخطورة والأهمية والراهنية[9].
5- يقتضي الأمر إذن، تعويض النظرة الضيقة الاختزالية والمغرضة أيضاً لمفهوم النهاية بنظرة تاريخية ديناميكية وجدلية منفتحة. نظرة لا تدرك فيها هذه النهاية كتوقف عن الحياة والاستمرار كموت وانتهاء وانقطاع كلي، ولا كاكتمال أو بلوغ الغاية ونهاية المسار، كما تشير إلى ذلك بعض مدلولات أطروحة "نهاية التاريخ"، إن ما تستوجبه مقتضيات هذه الرؤية التاريخية الجدلية هو تنسيب الوقائع والحقائق والمتغيرات… والنظر إلى نهايات التواريخ والظواهر والأحداث… على أنها جزئية فقط، لا تقطع كلياً مع جذورها ومحددات شروطها التاريخية، بل تتفاعل وتتبادل معها بشكل عميق التشابك والتعقيد، في إطار هذا التطور تغدو "نهاية التاريخ أو الإيديولوجية أو التربية" بمثابة لحظات تاريخية من التطور والتبدل والتحول، واستئناف البدءْ في مسار ديمومة قد تخترقها انعراجات ومظاهر انفصال أو انقلاب في الأسس والمضامين والمقومات والمعايير، ولكنها تظل على الدوام متواصلة الحلقات والفترات والأزمنة، مما ينسجم مع "سُنَنِ ومنطق وقواعد التاريخ البشري": تغير في استمرارية حية، واستمرارية ضمن حركية التغير والتحول. أما غير ذلك فلن يؤدي بالنظر والتحليل والفهم وتأويل معطيات التاريخ والمجتمع سوى إلى الوقوع في منزلق عطب فكري أو إيديولوجي كما أسلفنا، لا يخدم في نهاية المطاف- سواء في مقاصده أو نتائجه ووظائفه، وسواء بوعي منه أو بدونه- إلا إيديولوجيا الفكر الأوحد والقوة الواحدة والمسار التاريخي الواحد والمآل الأوحد المغلق المحتوم… أي إيديولوجيا الإلغاء والمحاصرة والإبادة والقتل المادي والمعنوي للآخر، وذلك في أبشع صور هذه الممارسات وأبعدها عن قيم الإنسانية والتعاون والحوار واحترام الديموقراطية وحقوق وكرامة الإنسان… من مثل ما تنادي به ثقافة النظام الكوني الجديد في شعاراتها الأكثر ديماغوجية ودعائية، إذ تعتمد هذه القيم على صعيد النظر والقول، وتضربها في الصميم على مستوى الممارسة الفعلية، فتعمد في سياساتها تجاه "الآخر" غير الغربي بالذات إلى أسلوب الكيل بمكيالين، وإلى التنكيل بالضعفاء، وإلى التنكر لكل المبادئ والمواثيق التي تقوم عليها الشرعية الدولية الدولية، والتي أصبحت الآن "جائرة" بفعل صيغهتا العولمية المؤمركة[10].
وهكذا فإذا كان خطاب النهايات يقوم على فكرة التبشير بدخول العالم الآن في زمن "مابعد الحرب الباردة" و "ما بعد الإيديولوجيا" و "ما بعد الحداثة" إلخ، أي في مرحلة نهاية الكليات والمطلقات والعقديات الشمولية الكبرى، فإنه باعتماده للفهم المشار إليه سالفاً لمفهوم النهاية، ينزلق إلى تصور إطلاقي جديد يتناقض مع ما يفترضه مدلول المابعديات الآنفة من نسبية للمعرفة وللقيم والأنساق، ذلك حين يجعل من منظومة ثقافية معينة، أمريكية بالأساس، منظومة شمولية الهيمنة وإطاراً مرجعياً متفرداّ تقف عند تخوم عالميته كل المرجعيات والأنساق الفكرية والقيمية المختلفة أو المخالفة. أي أنه خطاب ينتقد الإيديولوجيا، في مفهومها الانتقاصي بالذات، ليقع في إيديولوجيا أخرى لا تقل عن سابقاتها جمودية وتحجراً، بل وإطلاقية أيضاً.
وإذا كان لهذا الخطاب عديد من المستتبعات الابستمولوجية والسوسيولوجية الهامة التي تحتاج إلى المزيد من الدراسة أو التحليل النقديَّيْن، فإن ما يفترض أن نركز عليه هنا، انسجاماً مع الموضوع المحوري لهذا العرض وهو علاقة هذا الخطاب ببعض جوانب وأبعاد المسألة التربوية، وهو ما سنعمل على إثارة ومعالجة بعض إشكالاته فيما بعد[11].
ثانياً: المسألة التربوية في خطاب النهايات: تحديات والآثار "ثقافة السوق الكونية" و "الثورة المعرفية الجديدة".
في هذا المناخ الكوني المعولم المبشر بوعود وقيم ومآلات جديدة، والمنذر بنهايات ومخاوف وتحديات مختلفة، أصبح التساؤل مطروحاَ حول مسار ومصير الكثير من القطاعات والمجالات والمؤسسات… التي من بين أهمها المؤسسة التربوية بمفهومها العام.
ما مصير ومآل هذه المؤسسة في مناخ هذا العصر المعولم؟ أي مستقبل ينتظرها فيه؟ ما هي مدرسة المستقبل التي يفترض التفكير في تأسيسها بدءاً من معطيات الراهن المتنفذ؟ وما هي الشروط الفكرية والتربوية والسوسيواقتصادية والحضارية لهذا التأسيس؟ وهل انتهى فعلاً عهد التربية والمدرسة الوطنية بمضمونها الثقافي والاجتماعي، كما انتهى عصر الدولة الوطنية والسيادة الوطنية والتاريخ، إلخ؟ بأي معنى يمكن فهم هذه النهاية؟ وما هي بدائل المدرسة الوطنية الأكثر ملاءمة لهذا الزمن العولمي الجديد…؟ إلى غير ذلك مما يمكن طرحه من أسئلة وتساؤلات وفي هذه الظرفية التاريخية بالذات.
لانزعم ولاندعي أننا سنقدم هنا إجابات وافية وكافية على الأسئلة/ التساؤلات الآنفة فقد، خصصنا وسنخصص أيضاً لبعض ذلك دراسات مستقلة. إن أقصى ما نطمح إليه هو أن نساهم في إبراز ما أصبحت تثيره "المسألة التربوية" من إشكالات ومن جدل تربوي وفكري متعدد الأبعاد والمرجعيات، ولا سيما حين ربط هذه المسألة بخطاب النهايات المتحدث عنه سابقاً.
ولبلوغ هذا المقصد ذي الطبيعة المنهجية بالأساس، يتعين إبراز بعض أهم آثار ومستتبعات وعواقب العولمة على الحقل التربوي، والتي دفعت بالبعض إلى المناداة – على غرار فوكوياما- ب"نهاية التربية" على الأقل في إشكالها وممارساتها التقليدية التي ما تزال معتمدة في كثير من السياقات لاجتماعية رغم كونها قد أضحت متجاوزة على أكثر من صعيد، ولم تعد صالحة لأن يُلقى بها في "سلة مهملات التاريخ"، الأمر الذي أصبح يتطلب التفكير في بناء "تربية أو مدرسة للمستقبل" قادرة على الاستجابة لأهداف وخصوصيات وإكراهات الطلب الاجتماعي والاقتصادي لتربية وتعليم وتكوين الموارد والقوى البشرية، في أوضاع كونية جديدة سريعة التبدل والتغير مليئة بالرهانات والتحديات[12].
وإذا كانت تأثيرات العولمة على نظم التربية كثيرة متشعبة الأبعاد والمفاعيل فلعل من بين أهمها، مما يرتبط تحديداً بموضوع هذه الورقة، عاملان أساسيان مؤثران هما:
1 – الذيوع المتسارع الهيمنة لما يُدعى ب "ثقافة السوق الكونية"، وهي ثقافة ساهمت في إنتاجها وإعادة إنتاجها وترويجها عولمة اقتصادية شمولية، داعمة لتعميم العديد من قيم وأساليب الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والتبادل وأنماط العيش ونماذج السلوك الفردي والجماعي… مما وسمنا بعضه آنفاً- حسب بعض التصنيفات والمواقف النقدية بأنه "ثقافة جديدة مؤمركة"، وقد انعكست بعض الآثار السلبية لهذه الثقافة على التعليم، خاصة في دعوات خوصصتة وتمهينة وإلحاقه بالاقتصاد، سوقاً وإكراهات وقوانين عرض وطلب وتوجهات ومراهنات… وقد أدى هذا إلى انعاش وتعميم منظور مقاولاتي وتسليعي للتربية والتعليم والتكوين، ينظر إلى القوى البشرية لا في أبعادها ومقوماتها الإنسانية والقيمية والفكرية الوطنية أو الكونية، وإنما كموارد اقتصادية أو كمواد "خام" يمكن تشكيلها وتبضيعها وتسويقها، كما هو شأن مجمل السلع والخدمات والمنتجات الصناعية…في إطار هذا المنظور المقاولاتي للتربية ستقوَّى الدعوات الرامية إلى إعادة النظر في تجديد وظائفها وأهدافها، ففي ظل هذا التحول العولمي الراهن سوف تكف المؤسسة التربوية: (المدرسة والجامعة وما يوازيهما) عن أن تبقى منحصرة في القيام بأدوارها التقليدية في تلقين المعارف والمهارات، وتكوين المواطنين وفق خصوصيات وغايات وسياسات الدول الوطنية، إذ غدا مطلوباً منها أن تعمل على تأهيل وإعداد البشر وفق مطالب وحاجات وقواعد السوق من جهة، وأن تعمل من جهة أخرى على تكوينهم وتنشئتهم لإدماجهم فيما أشرنا إليه سالفاً من "ثقافة السوق الكونية"، التي تتجه أكثر فأكثر نحو تكريس قيم شمولية مثل: الانفتاح، والحوار، والاستحقاقية، والتنافسية، والكفاءة، والتشارك، والديموقراطية، وحماية البيئة، واحترام الشرعية الدولية وحقوق الإنسان، وصيانة شرعية التعدد والاختلاف الديني والعرقي والثقافي والجنسي والحضاري العام…إلخ، إنها إذن "نهاية التربية أو المدرسة الوطنية" بالمفهوم الكلاسيكي، وبزوغ مرحلة جديدة تستلزم خروج/ أو إخراج المدرسة من إكراهات ما تمارسه الدولة الوطنية من وصاية وحجر وتدجين، وتحريرها من بوتقة سياقها الوطني الضيق لتنفتح على آفاق وقيم ورهانات كونية أشمل وأوسع[13].
2- الانفجار المذهل لما أصبح يعرف بـ "الثورة المعرفية والتكنولوجية الجديدة" وفي أساسها "ثورة الأنفوميديا" ويراد بها ما حصل على المستوى العالمي، من تقدم مذهل في إنتاج وإعادة إنتاج وتطوير الكثير من تقنيات وأساليب ووسائل الإعلام والمعلوميات والاتصال والتواصل…من حواسيب وبرمجيات وأنظمة رقمية وفضائيات وغيرها. الأمر الذي أسهم بشكل غير مسبوق، في تسرع وتجديد طرائق إنتاج وتداول المعارف والمعلومات والأخبار والمشاهد، بل والأفكار والقيم وأنماط العيش ونماذج السلوك، والمواقف والرؤى والمشاعر وتصورات العالم…إلخ. لذا فإن من يتحكم في شروط التعامل مع هذه الثورة وامتلاك مقوماتها سوف يكون مؤهلاً أكثر للانخراط في "مجتمع المعرفة" الحالي، الذي أصبحت فيه السلطة أو الثورة أو النفوذ… مقومات لا تعود فقط إلى أصول مادية اقتصادية أو عسكرية… بل إلى المعرفة ذاتها. إنه التحول الحضاري الهائل الذي يشكل النقلة النوعية المميزة لـ "مناخ العصر" المعولم هذا[14].
غير أنه إذا كانت المجتمعات الغربية المتقدمة- ونظراً لشروط سوسيوتاريخية وحضارية ليس هذا مكاناً مناسباً لبحثها- هي التي تمتلك أفضل وأكثر من غيرها من مجتمعاتنا المتخلفة شروط ومؤهلات الاقتدار على الاستفادة من خيرات ومنتجات وإيجابيات هذه الثورة المعرفية السابقة الذكر، فإن خطورة هذا الوضع اللامتكافئ تتجلى فيما أنتجته، وتنتجه وسوف تنتجه مستقبلاً، هذه الثورة من "فجوة أو هوة معرفية وتقانية" بين مجتمعات متقدمة يمنحها الوضع الجديد حظوظاً أكبر وأوسع للنماء والتطور، ومجتمعات متخلفة ضعيفة يفاقم الوضع الجديد ظروفها ومشكلاتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لتتسع بذلك فيها دوائر الفقر والتخلف والتهميش، بل لتتطور وتتعمق بشكل مقلق رهيب.
وهكذا فإن أطروحة "نهاية التربية أو المدرسة" بالمفهوم المنَّوه به آنفاً، هي أطروحة لها، في هذا المساق وبذلك المعنى ما يبررها. وإذا كان الأمر لا يتعلق البتة بانتهاء دورها في تكوين المواطنين والحفاظ على القيم والمعتقدات والمقومات المكونة للثقافة أو الهوية الوطنية،ـ فإن ما أصبح مطلوباً من المدرسة الآن هو أن تشكل بالنسبة للأفراد والجماعات والمجتمعات جِسْرَ عبور إلى "مجتمع المعرفة" وإلى امتلاك القدرة على التفاعل مع خصوصياته ومطالبه ومكوناته ومستجداته المعرفية والقيمية والمهارية والمهنية والسوسيوحضارية الشاملة. غير أنه إذا كانت المجتمعات الغربية المتقدمة يشكو بعضها أحياناً من تأزم نظم التربية والتعليم والتكوين، رغم ما عرفته هذه الأنظمة خلال القرن العشرين الفائت من إعادة هيكلة وتحديث وإصلاح… الأمر الذي يثير بعض مخاوفها من احتمال عدم قدرة هذه النظم، إذا لم تتجاوز أزماتها بتأهيل كافٍ، على مجابهة ومواكبة متغيرات وتحديات القرن الحادي العشرين… نقول: إذا كان هذا يصدق على بعض نماذج المجتمعات المتقدمة، فماذا يمكن أن يقال بالنسبة لنظم التربية والتعليم والتكوين في مجتمعاتنا العربية والثالثية، التي ما تزال- رغم جهودها وبعض إنجازاتها المتواضعة، وأكلافها الثقيلة – تصارع غول الأمية الأبجدية، في الوقت الذي أمست الأمية في شروط "مجتمع المعرفة" متجاوزة في مفاهيمها ومستوياتها التقليدية، ليغدو "أميّ العصر" ليس هو الذي لا يعرف القراءة والكتابة والحساب، وإنما هو الذي لا يتقن لغة الحاسوب والبرمجيات والأنظمة الرقمية المتطورة؟ إنه ليس أزمة فقط، ولكنه "وضع كارثي" ذاك الذي تعيشه نظمنا التربوية، والذي تعمق توعكاته تلك الفجوة المعرفية بيننا وبين المجتمعات المتقدمة، كما أشرنا إلى ذلك آنفاً. ومع تشعبات أبعاد هذا الوض، نظراً لاندراجه على مستوى عوامله وجذوره، ضمن أزمة اجتماعية بنيوية شمولية ومركبة وناظمة للكلّ المجتمعي، تصبح مهام ومسؤوليات إصلاح نظم التربية والتعليم والتكوين في مجتمعاتنا على قدر كبير من التعقيد والراهنية والخطورة والثقل، على أكثر من صعيد، كما نوهنا بذلك غيرما مرة[15].
ثالثاً: من أزمة التربية إلى مشاريع الإصلاح والتجديد: مهام وأولويات من أجل بناء تربية للمستقبل
يستخلص من كل ما سبق أن العهد العولمي الجديد قد وضع حدّاً- أو هكذا يفترض- بين تاريخين هامين: تاريخ الإيديولوجيا وصراع الشرق والغرب، وهيمنة المذاهب والقناعات الفكرية الكبرى: Dogme... وهو عصر انتهى الآن، بالمفهوم النسبي للنهاية الذي أوضحناه سابقاً، وتاريخ جديد للانفتاح والتحرر ودعم التعدد والنسبية والاختلاف وكل قيم الليبرالية المتجددة، والتي أصبحت تشكل خلفية ثقافة النظام العالمي الجديد. وهي ثقافة لم تنته معها لا الإيديولوجيا ولا التربية ولا التاريخ، وإنما أمست هي ذاتها إيديولوجيا هذا النظام المعولم ومرجعيته الفكرية والخلقية والعقدية الأساسية، حتى لو لم يصرح أو يُقر بذلك جل منظِّري ومسوّقي منتوجات وخطابات الفكر العولمي الجديد، وتلك قضية أخرى، وواجهة ثانية للنظر والتحليل.
ضمن هذا السياق الممهور بهيمنة منظومات معقدة ومتداخلة من المستجدات والإكراهات والتحديات… يمكن أن نتساءل – كمغاربة وعرب وثالثيين عموماً- عما هو مطلوب منا، في هذه الشروط الكونية الضاغطة لإصلاح وتحديث وإعادة تأهيل نظم التربية والتعليم والتكوين في مجتمعاتنا، لتصبح- بعد انتهاء عهد التربية والمدرسة الوطنية بالمدلول الآنف التحديد- مستجيبةً في توجهاتها ومضامينها ووظائفها… للمواصفات التي يجب أن تتوفر عليها "تربية أو مدرسة المستقبل" من جهة، ولرهاناتنا الاجتماعية والحضارية من جهة ثانية؟.
يتضمن العديد من دراساتنا السابقة، وكذا بعض الملاحظات المركزة الواردة في هذا العرض، بعضاً من عناصر الإجابة على السؤال المحوري الآنف، والتي إذا كنا لا نرى هنا فائدة منهجية كبيرة في العودة إلى مناقشتها من جديد، فإنه يبدو لنا مفيداً أن نذكر بعض أهمها وأكثرها ملحاحية وراهنية. وهكذا فإننا نعتقد أن من آكد ما هو مطلوب لإصلاح نظمنا التربوية مايلي:[16]
1- ضرورة بناء فلسفة تربوية واجتماعية واضحة الأهداف والمعالم، عليها تُبنى السياسات والاتجاهات والمشاريع التربوية، المتعلقة إما بالتجديد أو التطوير أو الإصلاح الشمولي لأنساق التربية والتكوين. وتقتضي نجاعة هذه الفلسفة صياغة مفهوم متكامل للإنسان/ المواطن/ الفرد، ولأهداف تكوينه وتأهيله للاندماج في محيطه الوطني والعالمي، وللتكيف مع مختلف المعطيات المتجددة لعصر سريع التغير والتحول. وهو عصر يشكل الآن "نهاية التربية" بتوجهاتها وغاياتها وأدوارها الكلاسيكية، ويستلزم إعادة بنائها على أسس وأهداف وتوجهات جديدة منافية للانغلاق الثقافي أو القيمي أو الإثني أو المعتقدي أو الحضاري…. مكرسة للانفتاح على التغير والتجدد والتنوع والاختلاف المتعدد الأنماط والأطر المرجعية المتباينة…. وذلك لتصبح "تربية للتغير السوسيوحضاري والمعرفي والمهاري، وللتطور والتقدم، وللمستقبل بشكل عام"[17].
2- أهمية المراجعة النقدية الشمولية لمضامين مناهج التربية والتعليم والتكوين.
وفق المرجعية الفكرية الآنفة. وذلك بغرض تجديدها وتحديثها وجعلها أكثر نجاعة ووظيفة مما هي عليه الآن.ومستهدفة لإقامة توازن عقلاني ومعقول بين الكم والكيف، بين المنحى المعرفي المعلوماتي وبين المنحى التمهيني المهاري، بين أهداف التعليم والتكوين، وبين الإعداد التربوي والقيمي للمواطن، بين الرهان على ماهو كوني في هذه المضامين من قيم وتوجهات ومعارف وخبرات وتقنيات جديدة… وبين ما ينبغي أن يظل مرتبطاً بالواقع المحلي مساهماً في بناء علاقة سليمة معه، وذلك عبر تدعيم مواطنية أو هوية أو إنْسية منفتحة واعية من جهة، بخصوصيات معتقداتها وثقافتها وانتمائها الذاتي الوطني أو القومي، ومتفاعلة من جهة أخرى، مع المتغيرات المعرفية والقيمية والحضارية للنظام العالمي القائم. ونظراً لخطورة هذا المطلب –لارتباطه بلُبِّ العملية التربوية وعمقها- فإنه يتطلب إضافة إلى التوفر على المرجعية الرؤيوية الموجهة، ضرورة توفير الأجهزة والكفاءات والتمويل والتخطيط والبرمجة الملائمة، هذا فضلاً عن أهمية الاستنجاد بالكفاءات والخبرات القومية أو الدولية، سواء تعلق الأمر بخبراء أو بمؤسسات أو هَيْئَات حكومية. شريطة أن يكون ذلك في إطار توجهات فكرية ومنهجية موجَّهة، ومستقلة عن أية تبعية لجهات أو مراكز قرار مهيمنة على المستوى العالمي، كما تعودنا على ذلك في العديد من مشاريع الإصلاح التربوي في مجتمعاتنا العربية- المغرب كنموذج- مما كان عاملاً هاماً من بين عوامل ضعف مردوديتها الإيجابية، وقصورها، بل وفشلها الذريع المتكرر في الكثير من الأحوال والسياقات والتجارب[18].
3- لقد أبرز العديد من الدراسات التي اهتمت بمقاربة المؤسسة التربوية الحديثة وأوضاع التربية والتكوين وطنياً وقومياً أن هذه المؤسسة قد أمست، في ظل شروط مأزمية هذه الأوضاع، مؤسسة متدهورة مأزومة ومتخلفة على أكثر من صعيد، الأمر الذي يجعل إصلاحها عملية بالغة الصعوبة والتعقيد. ولعل من أهم ما هو مطلوب في هذا الإصلاح الذي ينبغي أن ينطلق ضرورة من الرؤية الشمولية المنوه بها فيما سبق، إجراءات إصلاحية جذرية من بينها:
أ – ترشيد وتحديث مختلف أساليب تدبير مواردها المالية والبشري، ومنحها الشروط والإمكانات الميسرة لذلك: الكفاءات البشرية المؤهلة، الاستقلالية الذاتية المطلوبة والتمويل الكافي، وسائل المراقبة وتقييم المردود المؤسسي…إلخ؟.
ب – إعادة النظر في أساليب إدارة العلاقات والتفاعلات والممارسات التربوية والبيداغوجية والاجتماعية الإنسانية… وضرورة إقامتها على أسس تدبيرية حداثية مدعمة. لقيم ونماذج سلوكية وتبادلية مثرية للعمل التربوي والثقافي، ومؤسسة لمناخ تربوي واجتماعي منتج، سليم، معقلن، وموفر لجودة المردود والأداء.
ج ـ يتطلب الأمر كذلك إعادة تأهيل لوجيستيكي للمدرسة، وذلك بجعل إدارتها وتدبير شؤونها المختلفة قائمة على استثمار التقنيات الحديثة في هذا المجال، مثل الحاسوب، والبرمجيات والأنترنيت والوسائل السمعية البصرية الجديدة المتعددة… والتي أصبح مستقبل التربية، على المستوى الكوني، مرتهناً بمدى قدرته على تملكها، معرفةً وتحكماً وتوظيفاً،[19] وذلك باعتبارها وسائل بالأساس، إذا كانت مهمة وشارطة في عهد الثورة التكنولوجية والمعرفية ا لجديدة، فهي ليست غايات في حدّ ذاتها، الأمر الذي يستوجب استخدامها وفق أهداف وغايات وشروط واضحة محددة.
د ـ ولعل من أخطر ما أصبحت تعاني منه المؤسَّسة التربوية في مجتمعاتنا، وبحكم ما سبق التذكير به، ما يلي:
- إضافة إلى تخلفها في مضمار تعزيز وظائفها وآليات اشتغالها بالعدد ومنهجيات وتقنيات التدبير والتسيير الآنفة الذكر، ظلت المدرسة عندنا متخلفة مثل بعض المؤسسات التقليدية: (الأسرة، بعض أشكال ومضامين التربية الوالدية..) عن مجمل الوسائل الحديثة في تلقين وتلقي المعارف والقيم وأنماط الموضات والسلوك والعيش… مما أصبح ترويجه وتناقله واستهلاكه بفضل وسائل الإعلام والمعلوميات والاتصال المختلفة، يتم بشكل فائق السيولة والسرعة والانتشار بين الأفراد والأجيال والسياقات السوسيو ثقافية المتباينة، التي أصبحت الآن عرضة لاختراقات هبَّات العولمة بثقافتها السوقية الكونية الجديدة. وإذا كان هذا الوضع قد جعل المدرسة في العديد من المجتمعات كما هو شأن مجتمعاتنا، مؤسسةً عاجزةً أحياناً عن منافسة أو مسايرة هذا المد التواصلي الكوني الكاسح العابر للفضاءات الجغرافية والثقافية العالمية، حاملاً إليها أعرافاً وتقاليد وقيماً ولغة اجتماعية جديدة: (الفضائيات، الأنترنيت، الأفلام، الأقراص المدمجة، والبرمجيات… إلخ) فإنه قد أصبح يتطلب إعادة تأهيل للمدرسة قيماً ومضامين ومناهج وآليات عمل، وإدارة ممنهجة لعملياتها ومكوناتها ومواردها وشأنها التربوي والاجتماعي[20].
ـ تعاني المدرسة عندنا في مجمل وظائفها وشروط اشتغالها، من هشاشة أو حتى من غياب المَأْسَسَة. مما جعلها عرضةً للكثير من عناصر الفوضى واللاتكامل في الأفكار والمنهجيات والتوجهات والممارسات… ويقتضى إذن، تجاوز هذه الحالة المتدهورة تجديد مقومات النسق المدرسي، وذلك بإقامته على قاعدة منظومة منسجمة ومتكاملة من الخبرات والقيم والمعارف والأعراف المهنية والأخلاقيات والضّوابط والأطُر المرجعية والنماذج الإرشادية (البراديغمات) الموجِّهة للنظر والممارسة. وذلك حتى يصبح العمل التربوي متسماً بالاستمرارية في مراكمة التجارب والخبرات، وبعيداً عن الأهوائيات الفردية، وعن المزاجية والاعتباطية والارتجال… كما هو قائم حالياً. وإذا كان غياب هذه المَأْسسة في الحقل التربوي يُعَدُّ، على مستوى خلفيتها السوسيولوجية، جُزْءاً من وضع اجتماعي وثقافي وسياسي عام ضعيف المَأْسَسَة والتنظيم، غامض المشروع المجتمعي والحضاري بشكل عام، فإن الوعي بهذا المعطى في سيرورة أي إصلاح تربوي واجتماعي يعتبر مسألة أساسية لتجاوز الاختزال والرؤية القطاعية الضيقة للحقل التربوي وضرورة اعتباره جزءاً لا يتجزأ من كل مجتمعي عام.[21]
4 ـ دعم المزيد من انفتاح المؤسسة التربوية (المدرسة والجامعة..) على محيطها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي العام، وذلك عبر الكثير من آليات وإمكانات التبادل والتفاعل مع حاجاته ومكوناته، التي لعل من بين أهمها:
أ ـ العمل على تجديد ومراجعة مناهج ومضامين التكوين وتوجيهها باتجاه الاستجابة للمحددات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للتربية والتكوين. وإذا كنا في زمن العولمة وإكراهاتها وتعاليمها نحتاج إلى مدرسة لتلبية مطالب السوق الاقتصادية، فنحن في الآن ذاته محتاجون بنفس القدر وأكثر إلى مدرسة لتكوين المواطن وتعزيز الهوية الوطنية والقومية في مجمل أبعادها المحلية والعالمية.
ب ـ يتطلب الإجراء الإصلاحي التربوي الآنف إعادة تأهيل النظام الاقتصادي والاجتماعي أيضاً وجعله بدوره معقلناٍ في مقوماته وآليات اشتغاله، وممتلكاً لشروط الانفتاح التبادلي على النظام التربوي، وتيسير عمليات إدماج واندماج مخرجاته اقتصادياً ومهنياً وثقافياً واجتماعياً. فليست المدرسة عندنا هي التي ينبغي أن تُدان لانغلاقها على ذاتها وقصورها عن التواصل الإيجابي المنتج مع محيطها الاجتماعي العام، بل إن هذا المحيط هو نفسه ـ وبفعل ما يعتوره من تبعية وتشوه ولا عقلانية في القيم والعلاقات والممارسات، كالمحسوبية والزبونية والرشوة والفساد… إلخ ـ غير قادر على تحقيق هذا التواصل المنشود.
ج ـ جعل المدرسة، في سيرورة الإصلاح والتحديث هذه، قادرة على بلورة انفتاحها على المحيط عملياٍ. وذلك بربطها بما هو ممكن من شراكات وأشكال تعاون، وبرامج مندمجة اقتصادية وثقافية وتربوية: (التكوين بالتداول، مشاريع بحوث للتطوير والتنمية، مشروعات إنتاجية مشتركة..إلخ) فلقد أصبحت المؤسسة التربوية، في عهد الخوصصة وثقافة السوق، تتجه في المجتمعات المتقدمة تحديداً، نحو امتلاك طابع المقاولة المستقلة. ولكن ليس بالمفهوم المقاولاتي الاقتصادي الضيق والذي انتقدناه وإنما بالمفهوم التربوي والاجتماعي المنفتح الذي نوهنا به فيما سبق.[22]
د ـ العمل على تحويل المؤسسة التربوية، بفضل الممارسات والإجراءات الإصلاحية والتصحيحية الآنفة إلى قطب إشعاعي جاذب، وإلى محور مركزي للإنماء السوسيو اقتصادي والتربوي والثقافي العام. ويقتضي ذلك إقْدارها ـ عبر منحها الإمكانات والموارد والاستقلالية اللازمة ـ على احتضان أنشطة مختلفة تتجاوز أدوارها الروتينية المعتادة، وذلك مثل الأنشطة الثقافية والجمعوية وبرامج التربية غير النظامية، والتظاهرات الرياضية، بل وحتى الأنشطة النقابية والسياسية… إلى غير ذلك مِمَّا يمكنها من استعادة القيمة والمكانة والدور، ومن الاندماج التفاعلي مع محيطها المحلي والعالمي، ومن تعويض ما كانت تقوم به بعض المؤسسات التقليدية عندنا (مثل المسجد، والجامع، والزاوية..إلخ) من مهام ووظائف دينية واجتماعية وثقافية مندمجة ومتفاعلة مع محيطها السوسيوثقافي العام. وهو ما تعجز المدرسة، كمؤسسة عصرية، عن القيام به الآن، وبالكفاءة التربوية والاجتماعية المطلوبة. ولنستحضر هنا حالة المؤسسة التربوية في أوساطنا الريفية لنقف على كارثية وضعها المتدهور[23].
هـ ـ يستلزم الأمر، ضمن هذا التطور الإصلاحي، إتاحة الفرصة لإشراك ومشاركة كل الفرقاء والفاعلين والفعاليات والأطراف المعنية: الدولة ومؤسساتها وأجهزتها بالطبع، وذلك رغم الانحسار المتزايد لدورها ومكانتها في عصر العولمة، ثم مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات وهيئات مختلفة، وجماعات محلية ومجالس منتخبة.. وأيضاً مؤسسات وفعاليات القطاع الخاص..إلخ. إن ما أصبح مطلوباً في تدخلات ومبادرات هذه الأطراف ـ أوما غدا موسوماً بـ "الفاعلين الجدد" هو اعتماد التخطيط التشاركي كاستراتيجية عملية، والهوية الموحدة كإطار مرجعي موجَّه. ذلك أن ما تعلمنا إياه دروس التاريخ الكوني الحديث منه والمعاصر، هو أن المجتمعات التي تمكنتْ من تحقيق تنمية متوازنة بل قفزات هائلة إلى الأمام أحياناً، هي تلك التي جعلت من مشاريعها التربوية دعامة لتخطيطاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المندمجة والتشاركية المتكاملة، بل جعلت من مشاريعها التربوية هذه رافعة أساسية ونواة مركزية لمشاريعها الاجتماعية والحضارية الشمولية، فغدت إصلاحاتها التربوية بذلك مداخل رئيسية للإصلاح المجتمعي العام في أبعاده الاقتصادية والتربوية والثقافية والسياسية المتكاملة.[24]
رابعاً: تعقيب عام: المدرسة الوطنية الجديدة: مستلزمات وآفاق التنمية والتحديث في زمن العولمة.
لقد حاولنا في الفقرات السابقة من هذا العرض، الإشارة المركزة إلى بعض الملاحظات المتعلقة ببعض مقتضيات إصلاح وتحديث المؤسسة التربوية، وجَعْلها أكثر ديمقراطية وفاعلية وتنظيماً، وأقدر على مواجهة تحديات المرحلة، التي تفرض عليها الانخراط في مسار معقلن وهادف من التصحيح والتجديد والإصلاح، لتكون في مستوى رهانات العولمة، ومطالب الاندماج المتفاعل مع الثورة المعرفية والتكنولوجية الجديدة المتجددة.
ذلك أن الكثير من الدراسات والندوات والمؤتمرات التربوية ذات المستوى الدولي، قد أكدت على أن المؤسسة التربوية، كفضاءٍ للتربية وتلقين المعرفة وتكوين القوى البشرية المؤهّلة وتكوين المواطَنَة، سوف لن تنتهي، كما تُرَوّج لذلك بعض الخطابات التبسيطية التي انتقدنا بعض نمادجها آنفاً، وإنما غدا مطلوباً منها تخطي شروط اشتغالها التقليدية، والتسلح بما تتطلبه الظرفية الراهنة من توجهات ومضامين، ونماذج تدبير… مما يتلاءم مع أدوارها ومهامها المحلية والكونية الجديدة.
يستلزم الأمر، إذن، إنضاج وعي نقدي عقلاني باشتراطات اللحظة العولمية الحالية وأبعادها وتداعياتها. وذلك بهدف التمكن من بلورة تصور حداثي متكامل لما يجب أن تكون عليه ((المدرسة الوطنية)) في المستقبل. ولعل من بين أهم شروط إنضاج هذا الوعي ما يلي:
1 ـ التقدير العقلاني المتزن لأبعاد وآثار ومستتبعات بالعولمة، والتمييز فيها بين السلبي والإيجابي والطارئ والمطرد، والواقعي والمتخيل، والحتمي والصدفوي، والمعرفي والتاريخي.. إلخ. إن العولمة في تقديرنا ـ بل كما يجب أن يتم النظر إليها من زاوية سوسيولوجية أو حتى أنثروبولوجية عامة ـ ليست تنزيلاً جبرياً لا فكاك منه، ولا هي النعيم الموعود الواعِد، ولا هي أيضاً ذلك الشر أو الجحيم المتوعد، وإنما هي ظاهرة اجتماعية وتاريخية، يصدق عليها ما يصدق على الظواهر المماثلة، من شروط وقوانين وقابلية للتحليل العلمي وللفهم والتفسير والتأويل…إلخ. ولذا فإنَّ التعامل الموضوعي معها يستوجب، بدل المواقف القدرية أو الامتداحية أو التفنيدية التبسيطية وغير المؤسَّسة، التزام الحذر النقدي النظري والمنهجي والفطنة السياسية والرؤية الفكرية الهادئة المنفتحة[25].
2 ـ يُنتظر من الوعي المنوه به أعلاه أن يكون مَعْبراً للبحث عن شروط عقلانية للتموقع الإيجابي داخل اللحظة الحضارية المعولمة لا خارجها. وذلك بناء على الفهم العميق لظاهرة العولمة في مجمل أبعادها ومكوناتها ورهاناتها ومصالح أطرافها… بهدف التدبير السليم لعلاقة متوازنة معها موسومة بالنجاعة والموضوعية والفاعلية المنتجة. وهي علاقة لم تعد مجرد اختيار أو مفاضلة بين قبولها أو رفضها، وإنما أمست وضعاً كونياً يجب التعامل مع متغيراته وإكراهاته، بل وإغراءاته أيضاً، بما يلزم من العقلانية والواقعية والمرونة والانفتاح المبني على حسابات دقيقة للمصالح والمراهنات والتموضعات المفترضة محلياً وكونياً.
3 ـ أهمية الوعي ـ كما أكدنا على ذلك سابقاً ـ بما للتربية والتعليم والتكوين من أدوار فاعلة في تسريع عمليات الانخراط في مسارات الزمن العولمي الراهن. وذلك عبر الاستثمار الرشيد الهادف والموجَّه، لما لمبادئه وقيمه من أبعاد وجوانب إيجابية. وإذا كانت ثقافة النظام العالمي الجديد مكرسةً في مجملها بالفعل للأمركة وتنميط الفكر والسلوك وتغريب العالم، فإن العمل من أجل أنسنة ودمقرطة قيم هذه الثقافة، مثل التسامح، والحوار والانفتاح واحترام حقوق الإنسان، وبناء كونية متكافئة وعادلة…إلخ، يظل رهاناً مشروعاً، بل نضالاً ينبغي الاستعداد بما يكفي لخوضه بكفاءةٍ وفاعلية وحس استراتيجي نقدي ناضج، وعلى ((المدرسة الوطنية الجديدة)) أن تعمد إلى إعادة صياغة أهدافها وتوجهاتها وثقافتها وقيمها ضمن هذه الاشتراطات الكونية الراهنة لا خارجها. وذلك حتى تصبح بالفعل مؤسسة تربوية لتأصيل ثقافة الديمقراطية والحداثة، ورفد مسيرة الانتقال الديمقراطي، وتأهيل المجتمع لامتلاك الاقتدار والجدارة وأهلية الانتماء إلى ((مجتمع المعرفة)) والاستجابة لمطالب المستقبل.[26]
4 ـ ولعل الاستخلاص الأساسي الذي نود التأكيد عليه من جديد، بعد ما سبق عرضه، هو أن ((خطاب النهايات)) يتطلب المزيد من القراءة الممنهجة، ومن التفكيك والنقد وكشف الإواليات الفكرية والإيديولوجية. كما أن أطروحة ((نهاية التربية أو المدرسة الوطنية)) لا تعني، ضمن منظور سوسيوتاريخي نقدي، موت المؤسسة التربوية ونهايتها، بقدر ما تعني ما أصبحت تعيشه هذه المؤسسة مما يمكن توصيفه بـ ((أزمة أسُس)) أي أزمة في التوجهات والأهداف والقيم والمعايير وآليات التنظيم والتدبير والأشغال..إلخ. وهي أزمة أصبحت تستلزم إعادة تأهيل جذري لهذه المؤسسة، وتحديثها وتجديد شروط عملها. وذلك انطلاقاً من مشروع إصلاحي تربوي مندمج في مشروع إصلاح مجتمعي شمولي متكامل.[27]
وإذا كان البعد الوطني لهذه المؤسسة، كما لمؤسسات وقطاعات اجتماعية أخرى مثل الدولة والسيادة والاقتصاد والثقافة… قد أصبح عرضة للتهديد والانتهاك من قبل الاكتساح الاختراقي الشامل لقيم العولمة وثقافتها السوقية الكونية، فإن ما أصبح مطلوباً الآن من المدرسة الوطنية الجديدة، مدرسة المستقبل ومجتمع المعرفة، هو أن تراهن على المكاملة المتوازنة، في مضامينها وثقافتها وأهدافها، بين مطالب الاستجابة للخصوصيات والمصالح والتوجهات والأهداف ومصالحها ورهاناتها الحالية والمستقبلية. وهكذا فإن ((المواطنية أو الهوية)) التي غدا مطلوباً من المؤسسة التربوية الوطنية الجديدة أن تساهم في بنائها والحفاظ عليها، لا يجب أن يُنظر إليها فقط في بعدها الذاتي الخاص، ولا في جانبها الستاتيكي القار، وإنما في بعدها الديناميكي المتغير، وفي ارتباطاتها الثقافية و الحضارية ذات الطابع الإنساني الكوني الشامل، والتي تعمل على توسيع دائرتها الآن تلك العولمة الشمولية للعديد من القيم الثقافية وأنماط التفكير والاستهلاك والعيش ونماذج التبادل والسلوك… مما لم يعد من الممكن فهم محمولاته ودلالاته إلا عن طريق رَبْطه الجدلي بمعطيات سياق عالمي عام.[28]
وإذا كان هذا الفهم التاريخي المنفتح لمفاهيم ((المواطنية والهوية والخصوصية)) هو ما تؤكده بالذات، مقاربات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإن الرؤية النقدية لجدلية الخصوصي والكوني في لحظة العولمة هذه، وشروط التموضع الاستراتيجي الواعي ضمن إكراهاتها ورهاناتها، والتدبير العقلاني للتفاعل التبادلي والعلائقي معها…[29] أمور أصبحت ضرورة لا محيد عنها لبلورة أي تصور أو مشروع إصلاحي مستقبلي، لا لمكونات الحقل التربوي فقط، وإنما للمجتمع بشكل عام. إنه أحد الدروس البليغة الذي يمكن استنباطها من الوقائع العينية للتاريخ ومن تجارب الأمم والشعوب، وخاصة من تمكن منها من كسب مستحق لرهانات التحديث والتجديد والإصلاح، واحتلال المكانة الدولية الوازنة في عالم شديد التعقيد، سريع التغير والتبدل، كما أنه التحدي الأكبر الذي أصبح مطلوباً من مجتمعاتنا العربية بالذات مواجهته بما يلزم من الوعي والفاعلية ووضوح الرؤية المنهجية والمشروع الحضاري المتجدد، الواضح المقومات والأهداف.
هوامش وإحالات
1 ـ انظر بشأن هذه الخطابات:
فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ و الإنسان الأخير، ترجمة جماعية بإشراف د.مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1993.
ـ راسل جاكوبي: نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، ترجمة فاروق عبد القادر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة ((عالم المعرفة))، عدد 269 الطبعة الأولى، 2001.
ـ جان ماري جونيو: نهاية الديمقراطية، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان سرت، الطبعة الأولى، 1995.
2 ـ مورتمر سيلرز: النظام العالمي الجديد (…)، ترجمة إبراهيم عودة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001
- Georges Corm: Le mouveau de'sordre e'comomique, Ed. La de'couverte, Paris, 1993
3 ـ عبد الوهاب المسيري: النظام العالمي الجديد: عولمة الالتفاف بدلاً من المواجهة، مجلة (المعرفة), وزراة المعارف، الرياض، عدد 46، أبريل /ماي، 1999، ص ص: (18-19).
4 ـ انظر بالإضافة إلى الهامشين أعلاه:2 و 3:
Alain Minc: Le Nouveru moyen age, Gaffimard, Paris, 1993
- cf. Gabariel Robin= Un mande sans maikre, -5 ordre etde'sordre entre les mations, Ed. Odife Jacob, Paris, 1995.
6 ـ ارجع، بشأن هذه المسألة بشكل خاص، إلى:
ـ فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ (…)، مرجع سابق الذكر.
7 ـ انظر حول هذه المسألة:
- G.Bachelard: Le Nouvel esprit scientifique, ed. PUF, Paris, 1971.
- L.Alth’usser: Ele’ments, d’autocritique, Ed. Hachette, Paris, 1974.
- TH. Kuhm: La structure des ne'vofutions scientifu’ques, Ed.
Flammarian, Paris, 1993.
8 - بنجامين باربر: عالم ماك: المواجهة بين التأقلم والعولمة، ترجمة أحمد محمود، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، المشروع القومي للترجمة (42)، (د،ت) – J.CH. Ruffin: L’empire etles Nouveau
barbares, Ed. Latte’s, Paris, 1991.
9 – إضافة إلى مرجعي الهامش السابق (رقم 8)، ارجع إلى:
ـ د. سمير صارم: معركة سياتل: حرب من أجل الهيمنة، دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، 2000.
ـ باتريسيو نولاسكو، أنمي شاوبس، آلان ديمس: الأمم المتحدة: الشرعية الجائرة، تعريب د. فؤاد شاهين، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، سرت، الطبعة الأولى، 1995،ص ص: (36-9).
10- انظر: عبد الوهاب المسيري:نفس المرجع السابق الذكر:
ـ حسن بكر: مطارحة نقدية لنظرية فوكوياما: نهاية التاريخ أم إيديولوجيا الرجل الأخير؟ مجلة ((مستقبل العالم الإسلامي))، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطا، السنة الثالثة، العدد ، شتاء 1993 ص ص: (276-263)
- Cf. J. Boudrillard: L’ illusion de la fin, Ed.
- Galile’e, Paris, 1992
11- عن التحديات التي تطرح أمام مستقبل التعليم في زمن العولمة عُدْ إلى:
ـ د. منير بشور: التربية العربية: التعليم في العالم العربي في القرن الحادي والعشرين، دار نلسن، السويد، الطبعة الأولى، بيروت، 195، ص ص: (68-53).
ـ المجلة العربية للتربية: نحو رؤية مستقبلية للتربية العربية في القرن الحادي والعشرين (دراسات مرجعية)، عدد خاص، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، المجلد السابع عشر، العدد الأول، يونيو 1997، ص ص: (248-5).
ـ د. زكريا يحيى لال: الأنظمة الرقمية ومستقبل التعليم، مجلة (العربي) وزارة الإعلام، الكويت، العدد ، يناير 2000، ص ص: (38-35).
- cf. F.Sachwad: Les de'fis dela mandialistion, Ed. Masson, (IFRI), Paris, 1994.
12- فيما يتعلق بتأْثير ثقافة السوق الكونية على التربية، انْظُرْ:
د. حامد عمار: نحو تعليم المستقبل، مجلة العربي، وزارة الإعلام، الكويت، العدد 494، يناير 2000، ص ص: (55-50).
ـ د. زكريا يحيى لال: الأنظمة الرقمية ومستقبل التعليم، مرجع سابق الذكر.
ـ إنيت شونغلونج: العولمة تحدٍّ للتعلم الإنساني، ترجمة محمد سعيد الصباريني، مجلة "الثقافة العالمية" الكويت، العدد 85، نوفمبر/ ديسمبر ، ص ص: (131-122).
13- ألفن توفلر: تحول السلطة: المعرفة والثروة العامة والعنف على أعتاب القرن الحادي والعشرين، (الجزء الأول)، ترجمة لبنى الريدي، الهيئة المصرية العالمة للكتاب، القاهرة، سلسلة "الألف كتاب الثاني"، 1995,181، ص ص: (118-110).
ـ ألفن توفلر: حضارة الموجة الثالثة، ترجمة عصام الشيخ قاسم، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراته، الطبعة الأولى، 1990، ص ص ص: (243-141)
14- ارجع، إضافة إلى المرجعين السابقين: (هامش 13) إلى:
ـ د. حامد عمار: نحو تعليم المستقبل، مرجع سابق الذكر.
ـ د. خلاف خلف الشاذلي: المجتمع العربي بين مخاطر العولمة الثقافية وتحديات ثقافة العولمة، مجلة "شؤون عربية"، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، القاهرة، العدد 107، سبتمبر 2001، ص ص: (106-86).
ـ د. منير بشور: التربية العربية (…)، مرجع سابق الذكر، ص ص: (79-69).
ـ د. مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري (رؤية سوسيولوجية نقدية)، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1999، ص ص: (41-19).
ـ أفانيش بيرسود: الفجوة المعرفية، ترجمة صفاء روماني، مجلة "الثقافة العالمية"، الكويت، العدد ، يوليو ـ أغسطس 2001، ص ص: (186-175).
15- مصطفى محسن: أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب (الأصول والامتدادات)، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2001، ص ص: (88-71) وص ص: (112-89).
ـ المجلة العربية للتربية: نحو رؤية مستقبلية للتربية العربية في القرن الحادي والعشرين (…) مرجع سابق الذكر.
ـ جبرائيل بشارة: (ملف من إعداد…): المؤتمر الأول لوزراء التربية والتعليم والمعارف العرب حول موضوع: ((مستقبل التربية في الوطن العربي)) والمنعقد بتاريخ: 1995/12/5 في طرابلس، ليبيا، المجلة العربية للتربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، المجلد الثامن عشر، العدد الثاني، ديسمبر 1998 ص ص: (40-8).
ـ المجلة العربية للتربية: مدرسة المستقبل، (ملف عن المؤتمر الثاني لوزراء التربية والتعليم والمعارف في الوطن العربي، المنعقد بتاريخ: 30-29 يوليو، دمشق سوريا)، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، المجلد العشرون، العدد الثاني، ديسمبر 2000، ص ص: (74-8).
16- عبد الله عبد الدايم: نحو فلسفة تربوية عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991.
17- د. ابراهيم محمد الشافعي وآخرون: المنهج المدرسي من منظور جديد، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1996.
18- ارجع، فيما يتعلق بمستلزمات وشروط إعادة تأهيل المؤسسة التربوية، إلى: جاك حلاق: تعزيز القدرات المؤسسية تحقيقاً للإصلاحات التربوية، مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية، بيروت، 1996.
ـ المجلة العربية للتربية: مدرسة المستقبل، مصدر سابق الذكر، ص ص: (74-52)
- Le Monde de l'Education: Quelles missions pour
- L’e’cole? (Dossier), N= 285, October 2000, pp: (23-43)
19- انظر بصدد هذه المسألة:
ـ د. حامد عمار: نحو تعليم المستقبل، مرجع سابق الذكر، ص ص: (52-50).
ـ مصطفى محسن: أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب (…)، مرجع سابق الذكر، ص ص: (114-108)
Revue Imtermationale d' Education: Hypothe'ses
D’e’cole, (Dossier), N= Hors seu'e 1998,pp: (1-63)
20 - مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي (…) مرجع سابق الذكر، ص ص: (101-99)
ـ جاك حلاق: تعزيز القدرات المؤسسية تحقيقاً للإصلاحات التربوية، مرجع سابق الذكر.
- cl. W.G. Van velzenetal: Parvemir a une ame’lioration effective dufonctionnement, del’e’cole: Principes et guide pratique, Ed. Economica, Paris, 1988.
20 - أحمد المهدي عبد الحليم: إعادة بناء التعليم، لماذا وكيف؟ دار الشروق القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، ص ص: (79-41)
- Le monde de l’Education: cpuelles Missions pour l'e'cole> op. Cit.
- Revue Intermationale del’e’ducation, Hypothe’ses d'e'coles, op. Cit.
21 - مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي (…) مرجع سابق الذكر، ص ص: (112-96)
ـ جاك حلاق: تعزيز القدرات المؤسسية تحقيقاً للإصلاحات التربوية، مرجع سابق الذكر.
- cf. Jaques Hallak: Imvestir dans l'avenir: Definir les priorite's del'e'ducation dans le mondeen de've loppement, Ed. L’Harmattan, (IIPE), UNESCO, Paris, 1990, pp: (1-80).
23- نفس المرجعين السابقي الذكر.
- - Le monde de l'Education: No 274, october 1999, Un colle'ge pour tous (Dossior), pp: (11-40)
- Ecole ouverte ou e'cole sanctutaire? (Debat), pp: (42-47).
- Cf. Jaques Hallak: Imvestir daus l’avemur (…) op. Cit, pp: (231-290), et pp: (316-345).
-24 رونالد روبرتسون: العولمة: النظرية الاجتماعية والثقافية الكونية، ترجمة أحمد محمود ونورا أمين، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 1998.
- السيد يسين = العالمية والعولمة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2000.
- Jean – Pierrd Paulet = La mandiahsation, Ed, Armand Colin/Masson, Paris, 1998.
-25 د. سيد إسماعيل علي: التعليم على أبواب القرن الحادي والعشرين، عالم الكتب، القاهرة، 1998، ص ص: (204-199) وص ص: (219-213).
- د. كريم أبو حلاوة: الآثار الثقافية للعولمة: حظوظ الخصوصيات الثقافية في بناء عولمة بديلة، مجلة "عالم الفكر" الكويت، العدد 3، المجلد 29، مارس/2001، ص ص: (202-171).
26 - ارجع، بشأْن هذه المسألة إلى:
ـ المجلة العربية للتربية = مدرسة المستقبل، مصدر سابق الذكر، ص ص: (51-16)
- cf. Lemonde de l’Education = Quelles missions pour l’e’cole? Op, cit.
- Revue International de l’education: Hypothe’ses d’e’ coles, op, cit
27- مصطفى محسن: أسئلة التحديث في الخطاب التربوي بالمغرب (…)، مرجع سابق الذكر، ص ص: (121-119)
.F. Mariet. L. Porch’er: Apprendre a deveniw citoyen a l’e’cole, Ed. ESF, Paris, 1987, pp: (15-43).
28 - عُدْ، بصدد إشكالية الهوية والمواطنة إلى :
ـ جان فرانسوا بايار: أوهام الهوية، ترجمة سليم طوسون، كتاب العالم الثالث، دار العالم الثالث، القاهرة، 1998.
ـ أولريش بك: هذا العالم الجديد: رؤية مجتمع المواطنة العالمية، ترجمة د. أبو العيد دودو، منشورات الجمل، كولونيا،2001.
ـ مجموعة مؤلفين: العولمة والهوية: (أعمال ندوة)، أكاديمية المملكة المغربية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1997.
ـ علي حرب: فتوحات العولمة أو أزمة الهوية في عصر العولمة والشبكة، في مجموعة مؤلفين: الكتاب الثقافي السنوي 1، موسم جامعة البحرين الثقافي 2000/1999، ص ص: (116-107).
ـ رونالد روبرتسون: العولمة النظرية الاجتماعية والثقافية الكونية، مرجع سابق الذكر.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أستاذ علم اجتماع التربية والشغل والتنمية البشرية/مركز التوجيه والتخطيط التربوي/ص.ب 6222/الرباط –المعاهد/ المغرب.