شعار الموقع

حقوق الإنسان في الأديان

محمد الناصري 2012-10-03
عدد القراءات « 2264 »

ودور الأديان في ترشيد
منظومة حقوق الإنسان المعاصرة

من أهم إنجازات الفكر الإنساني المعاصر، المراجع المقررة في حقوق الإنسان؛ والهادفة إلى حماية الإنسان من كل أشكال القهر والتسلط والعدوان التي يمكن أن يمارسها إنسان على آخر أفراداً أو جماعات-. وتتمثل تلك المراجع في كل الإعلانات العالمية والمواثيق الدولية أو المحلية المهتمة بحقوق الإنسان.

بيد أن الناظر إلى مرجعيات هذه الإعلانات والفلسفات النظرية المؤطرة لكثير من الحقوق المندرجة تحتها، وإلى أشكال التطبيق والتنفيذ المعاصرة داخل القطر الواحد أو بين الأقطار والشعوب المختلفة، يلحظ أن ثمة مشكلات بنيوية تسهم في جعل تلك الإعلانات غير متحققة بمقاصدها وغاياتها من إقرار تلك الحقوق. إذ لم تنتهك حقوق الإنسان يوماً، كما تنتهك الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين. على الرغم من التقدم الكبير الذي حققته البشرية في تقنيات الاتصال والمعلومات.

أمام هذه الانتكاسة التي تعرفها حقوق الإنسان في عالمنا المعاصر، نعتقد أن الأصول الفكرية المهيمنة على هذه الحقوق...، والتي هي أصول ذات مرجعية فلسفية مادية، وذات نفوذ مركزي غربي إقصائي/ إلغائي غير عادل مع الجميع سبب رئيس في تلك الانتكاسة.طبعاً دون إغفال الحديث عن السياسات التحكمية و الجائرة للغرب.

أ- فلم يُنظر إلى الحقوق من الجهة الأولى، إلَّا باعتبار المصلحة الذاتية والمرودية والإنتاجية والأداء الكمي والمتعة واللذة والسعادة التي بشر بها العصر الصناعي على حد تعبير إريك فروم. ونجد تفسير هذا في مذهب المنفعة الأساس النظري للديمقراطية الليبرالية الذي ينص على أنه «مبررٌ أخلاقيًّا أن يتصرف الفرد في ضوء مصالحه،وأنه كلما فعل الفرد هذا أكثر عاش حياة أفضل» ولو كان ذلك على حساب حقوق وحياة الآخرين.وعليه وبناءً على ما سبق لا يمكن إلزام الإنسان باحترام حقوق غيره إذا لم يكن يرى في ذلك منفعة أو مصلحة ذاتية. ليصح إطلاق المذهب الأناني الذي روَّج إليه هوبز على مذهب المنفعة. ولقد كان الإنسان في كينونته الإنسانية هو المتضرر الأول من هذا التوجه الفلسفي في إقرار هذه الحقوق. إذ انتقل من مركز الاستخلاف والسيادة في الكون من خلال القيم و الأخلاق الفطرية فيه؛ إلى مركز التبعية والذوبان في منظومات قيمية وأخلاقية صناعية بديلة، الفعل فيها لايعتبر صحيحاً أو غير صحيح بذاته بل بناءً على نتائجه.

ب- ثم لم يُنظر كذلك إلى تلك الحقوق من الجهة الثانية؛ إلَّا من خدمتها للإنسان الغربي أولاً وطموحاته التوسعية باعتباره أصلاً ومركزاً والباقي أطرافاً وهوامش، ومن ثَمَّ يكون الحق مُتحيِّزاً لإنسان دون آخر، ولشعب دون سواه، ولقوم وحده دون غيره..تبعاً لتقسيمات وتصنيفات إثنية ودينية وسياسية وأيديولوجية، تجعل جزءاً من العالم متقدماً وآخر متخلفاً؛ أو بين شمال وجنوب؛ وشرق وغرب؛ ومسيحيين وغير مسيحيين؛ وأبيض وأسود... فتكون الحقوق بذلك غير خادمة للإنسان من حيث كونه إنساناً بغض النظر عن كل تلك التصنيفات والتقسيمات.

إجمالاً حقوق الإنسان في عالمنا المعاصر هي للإنسان الغربي؛ ليس لغيره. لتغدو الحضارة الغربية حضارة حقوق الإنسان في رقعة الحدود الجغرافية للغرب، وحضارة انتهاك هذه الحقوق خارج تلك الحدود. إنها سياسة الكيل بمكايلين على حد تعبير الجابري.

فإذا كانت هذه أهم، أو بعض خلاصات التوجُّه الفلسفي المادي والمركزي الغربي في التعامل مع منظومة الحقوق، حيث ما يزال الضرر لاحقاً بالإنسان، إنسان الغرب نفسه وإنسان الشعوب الأخرى؛ فإننا نعتقد أن استبعاد الدين والفلسفات الدينية عن هذا المجال، كان له دور حاسم في إفراغ تلك الإعلانات من مضامينها الإنسانية العميقة، وأنه مهما يكن اجتهاد الإنسان في البحث عن سعادته فإن جهده هذا يبقى قاصراً بحكم نسبيته ومحدودية معرفته في إدراك غايات ومقاصد الخلق التي لا سبيل إليها إلَّا من خلال الأديان، الأديان بما هي وضع إلهي يُرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات.

ونحن إذ نؤكد على أهمية ودور الأديان في تفعيل وترشيد وتصويب منظومة الحقوق؛ نؤكد كذلك على المشترك بين الأديان في هذا الاتجاه، تغليباً له على دائرة الاختلاف التاريخي التي تحكَّمت في تفسير النصوص وتأويلها بين مختلف الفرق والمذاهب. فالأصل في الأديان أنها لسعادة ومصالح العباد في المعاش والمعاد.

كما نؤكد كذلك على أن دائرة المشترك بين الأدبان وبين إعلانات حقوق الإنسان الدولية واسعة. وأن البناء المرجعي لفلسفات الحقوق على أسس دينية مشتركة يكسبها أبعاد تفعيليه إضافية، كما يحول دون كثير من أشكال الإجحاف والظلم والتمييز الموجودة في المرجعيات المادية المتمركزة.ونعتقد أن تفعيل البعد الديني بإمكانه أن يسهم في تنقيح الحقوق نفسها وتصحيح مسار المشكلات النفسية والاجتماعية المدمرة للإنسان والتي هي إحدى إفرازات التطور الفلسفي المادي المحض.

ليس المراد أخيراً من هذا التوجُّه العودة إلى فلسفات ونزعات دينية مغلقة تُقيِّد أكثر مما تُحرِّر، وتضر أكثر مما تنفع. بل المراد ردّ الاعتبار إلى الحالة الوسط السواء والمتوازنة التي ينبغي أن يكون عليها الفرد والمجتمع، والتي تسهم في صوغها الأديان توجيهاً وإرشاداً إلى الأصلح وفقاً لغايات ومقاصد الوجود الإنساني، وتسهم فيها كذلك العلوم والمعارف المكتسبة في كل عصر بما يحقق التطور والتنمية والتحديث لصالح الإنسان كل إنسان، من غير تحيّزات و تمركزات خفية أو معلنة.

وغرضنا في هذا البحث بيان أهمية ودور الأديان في تفعيل وترشيد وتصويب منظومة الحقوق؛ من خلال التأكيد على أن الديانات السماوية تأتي على رأس المصادر التي عًنيت بالإنسان. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا، في هذا الخصوص: إن ما تم التنصيص عليه مثلاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948م، وفي العديد من الإعلانات والمواثيق التالية ذات الصلة بحقوق الإنسان، بشأن عدم جواز التمييز في المعاملة بين الأفراد لأسباب متعلقة بالجنس أو الأصل الوطني، أو العرقي أو الانتماء السياسي، ما هو إلَّا أمر كاشف عما نصّت عليه قبلاً- هذه الأديان السماوية. إذ تلتقي الرسالات التوحيدية الثلاث: اليهودية، المسيحية والإسلام حول احترام الإنسان عامة، والدعوة إلى تحقيق الكرامة الإنسانية، ومنح الناس المساواة، والتي هي أساس الحقوق جميعاً.

ونأتي بهذا البيان بعرضنا لبعض النصوص التوراتية والإنجيلية المؤكدة لبعض الحقوق الإنسانية مع تسجيل بعض ملاحظاتنا بخصوص الفلسفة الحقوقية لكل من الديانتين اليهودية والمسيحية. وإنهاء بحثنا بالحديث عن الفلسفة الحقوقية في الإسلام باعتبارة الدين الخاتم المصدق المهيمن الحافظ لتراث من سبقه واستمراراً له.

حقوق الإنسان في اليهودية

انطلقت التشريعات اليهودية من صحف موسى التي سماها القرآن بهذا الاسم في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، ومن الألواح التي جاء ذكرها في سفر التثنية (22): «هذه هي الوصايا التي كلَّم الله بها وكتبها على لوحي الجبل وسلمها إليَّ»، وقد تحدَّث عنها القرآن في عدد من السور والآيات، ومنها ما جاء في سورة الأعراف {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وفي الأعراف أيضا قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}.

والوصايا المشار إليها هي الوصايا العشر التي كلَّم الله بها موسى، وهي تتضمن احترام بعض حقوق الإنسان كحقه في الحياة الذي جاء في صيغة النهي عن القتل: «لا تقتل»، وحق صون الملكية الذي جاء في صيغة النهي عن المس به: «لا تسرق»، وفي صيغة «لا تشته بيت أحد ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لسواك»، وفي النهي عن الكذب الذي قد يُرتكب لإنكار حق الغير وإضاعته أو الإسناد ظلم». وقد تضمن سفر التثنية العديد من الحقوق الإنسانية الأخرى، من ذلك:

الحقوق الدينية: الحق في البراءة الأصلية وعدم تحمل أوزار الغير «لا يُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل».

الحقوق الأسرية: حق الوالدين في الإحسان إليهما وإكرامهما «أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك».

الحقوق الاجتماعية: حق الفقراء والمحتاجين في المساعدة والمواساة: «وإن كان فيك فقير، أحد من إخوتك... فلا تُقسِ قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك واقرضه مقدار ما يحتاج إليه».

الحقوق الاقتصادية: حفظ الإنسان في حقوقه المالية وذلك بالنهي عن:

الربا: «لا تقرض أخاك برباً، ربا فضة أو ربا طعام».

الغش: «لا يكن لك في كيسك أوزان مختلفة كبيرة وصغيرة... وزن صحيح وحق يكون لك... كل من عمل غشاً مكروه لدى الرب إلهك».

الرشوة: «ولا تأخذ رشوة فإن الرشوة تعمي أعين الحكماء».

الحقوق السياسية والمدنية:

- الحق في التنقل والهجرة: «تحولوا وارتحلوا».

- الحق في المحاكمة العادلة: «وأمرت قضاتكم في ذلك الوقت قائلاً: اسمعوا بين أخويكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله».

- الحق في المساواة: «للصغير كالكبير تسمعون، لا تهابوا وجه إنسان».

- الحق في الحرية: «أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية».

- الحق في التعليم: «وتحرص أن تعمل حسب كل ما يعلمونك».

- الحق في القصاص: «لا تشفق عينك، نفس بنفس، عين بعين، سن بسن، يد بيد، رجل برجل...».

- الحق في العمل: «ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك».

- الحق في العطلة والراحة: «وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وثورك وحمارك وكل بهائمك، ونزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك».

بناءً على ما سبق نؤكد أن اليهودية قد أسهمت بشكل كبير في ترسيخ قيم حقوق الإنسان من منطلق ما أوصت به من حقوق، وما دعت إليه من وجوب حمايتها من كل اعتداء.

غير أنه وفي اللحظة هذه يتوجب علينا الإجابة عن سؤالين مهمين حتى يتسنى لنا فهم منطق اليهودية في الدفاع عن حقوق الإنسان.

أولهما: هل شريعة موسى احتفظت بخاصية الرحمة والموعظة التي وصفها القرآن بها، أم اكتسبت صفات أخرى مناقضة لذلك؟

ثانيهما: هل الحقوق التي أقرتها التوراة مطلقة تشمل كل الناس، أم أنها خاصة ببني إسرائيل من اليهود؟

الجواب عن السؤال الأول: بالسلب قطعاً؛ إذ بقراءتنا لسفرين من أسفار العهد القديم، وهما سفر التثنية وسفر العدد، يتبيَّن أن شريعة موسى تحوَّلت من شريعة الرحمة -كما وصفها القرآن- إلى شريعة الإصر والأغلال والحرج والمشقة والأخذ بقوة والتشديد على الناس... وفي هذا اعتداء على حقوق الإنسان وحطٌّ من كرامته. وللتدليل على قولنا نورد هاهنا نصوصاً نوضِّح من خلالها نزوع اليهودية نحو الغلو والتشديد والمشقة... من خلال تأكيدها على الإفراط في العقوبة؛ حيث نقرأ في سفر التثنية:

- الحكم بقطع يد المرأة التي تدافع عن زوجها في خصومة، «إذا تخاصم رجلان بعضها بعضاً رجل وأخوه، وتقدمت امرأة أحدهما لكي تُخلِّص رجلها من يد ضاربه ومدت يدها وأمسكت بعورته فاقطع يدها، ولا تشفقك عينك».

- الطرد من جماعة الرب لابن الزنا حتى الجيل العاشر: «لا يدخل ابن زنا في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر، لا يدخل منه أحد في جماعة الرب».

- الرجم لعاق والديه: «إذا كان الرجل ابن عاق ومارد لا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه... يرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت».

ونقرأ في سفر العدد عقوبة:

- القتل لمن يكسر العمل في السبـت: «ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلاً يحتطب حطباً يوم السبـت، فقال الرب لموسى: قتلاً يقتل الرجل يرجمه بحجارة كل الجماعة».

- الحكم بالنجاسة والنفي على الإنسان لمجرد حضوره موت إنسان آخر أو لمرضه بالبرص: «أوص بني إسرائيل أن ينفوا من المحلة كل أبرص، وكل ذي سيل، وكل متجنس لميت، الذكر والأنثى تنفون إلى خارج المحلة تنفونهم لكيلا ينجسوا محلاتهم حيث أنا ساكن في وسطهم».

كثيرة هي النصوص التي من هذا القبيل، والتي تُشدِّد العقوبة على أفعال صغيرة، مما يفسّر هشاشة منظومة حقوق الإنسان في اليهودية فبالقدر الذي تدعو فيه شريعة الموسوية إلى احترام حقوق الإنسان وحمايتها بقدر حطها من كرامة الإنسان والاعتداء على حقوقه.

أما بخصوص السؤال الثاني فإن ما أقرته اليهودية من حقوق للإنسان هي خاصة ببني إسرائيل من اليهود دون غيرهم، وليست شاملة لكل الناس، إذ تضمنت التوراة نصوصاً، أخلَّت بإطلاقها وجعلت النص الأول منحبساً في قيود أفرغته من محتواه؛ فمثلاً الحق في الحياة فهو خاص بالإنسان اليهودي دون سواه الذي لا يستحق إلَّا القتل، حيث نقرأ في سفر العدد: «فعند ارتحال المسكن ينزله اللاويون... والأجنبي الذي يقترب يقتل».

وفي سياقه نقرأ في سفر التثنية: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف».

كما أن الحق في التملك يُعَدُّ حقًّا خاصًّا باليهود أما غيرهم فمصيرهم الطرد والتهجير القسري، وعن ذلك نقرأ في سفر التثنية إصحاحاً عنوانه «طرد الأمم»، وهو الإصحاح السابع الذي جاء فيه: «متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها، وطرد شعوب كثيرة من أمامك... ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم لا تقطع لهم عهداً، ولا تشفق عليهم، ولا تصاهرهم... ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم... لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك».

والحق في الحرية لليهودي، وأما غيره فمصيره السب والأسر، من منطلق شعب الله المختار، الشعب المُقدَّس الذي سُخِّرت له سائر شعوب الأرض لخدمته والسهر على راحته. وعن ذلك نقرأ في سفر التثنية: «فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك».

وعليه باتت مقولة شعب الله المختار أحد مرتكزات النسق الديني اليهودي، بعدما حلَّ الإله في الأرض لتصبح مُقدَّسة، وحلَّ في الشعب فصار مختاراً ومُقدَّساً وأزليًّا. جاء في سفر اللاويين: «أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم من الشعوب... وتكونون لي قِدِّيسين لأني قدوس أنا الرب، وقد ميَّزتكم من الشعوب لتكونوا لي».

إلى ذلك، ركَّز (التلمود) الذي تَمَّ تدوينه في القرن السادس الميلادي، وأصبح كتاب اليهود الديني الأول، حتى أنه حلَّ محل العهد القديم نفسه على خصوصية اليهود بين سائر البشر، وساهم في تحقيق عزلتهم التي أسَّست للفكر الصهيوني والحركة الصهيونية، والصهيونية مهما كانت محدداتها هي ذات مضمون عنصري، استعلائي، إرهابي، «والإرهاب الصهيوني ليس حدثاً عابراً عرضيًّا، وإنما هو كامن في المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، وفي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، كما أن حلقات وآليات هذا الإرهاب مترابطة ومتلاحقة».

على ذلك، يصير الحديث عن حقوق الإنسان عند اليهود، وفي اليهودية، نوعاً من المخاطرة العلمية، هذا مع التمييز بين الصهيونية واليهودية، وضرورة ملاحظة وجود أشخاص يهود غير صهاينة.

ثمة تضارب في الآراء اليهودية بشأن نصوص العهد القديم، والمعتقدات اللاحقة، وثمة جماعات يهودية مختلفة التكوينات الاجتماعية والقومية، ومتعددة الأهداف السياسية، ولو أن المشروع الصهيوني حاول على مدى قرن من الزمان توحيد الرؤى والأهداف السياسية، من خلال الحديث المزعوم عن وجود ما يسمى بالشعب اليهودي.

بتعبير آخر: مسألة حقوق الإنسان في اليهودية تعدت الوصايا الموسوية العشر «لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد على قريبك شهادة زور...»، وباتت دراستها مرتبطة بالتلمود، والصهيونية، وها هو النموذج الإسرائيلي في الشرق الأوسط يقدم صورة معينة عن العنصرية والانعزال، وخصوصية فهم السلام والأمن والاستيطان... إنها خصوصية التعامل مع الآخر، الذي هو أدنى مرتبة ومكانة من العنصر اليهودي.

حقوق الإنسان في المسيحية

على النقيض من هذا نجد المسيحية قد التزمت الوصايا العشر، وأضافت إليها مبادئ مسيحية جديدة، تدعو في عمومها، إلى تكريم الإنسان وحفظ حقوقه، وتحث على إقامة المحبة، ونشر العدل والتراحم بين الأفراد والجماعات، وتشجّع على المساواة والتآخي بين الناس، استناداً إلى المعتقد المسيحي القاضي بأن البشر إخوة انطلاقاً من أبوتهم الواحدة. وعن ذلك نقرأ في إنجيل متى: «إنهم جميعاً إخوة، ولا تدعوا أحداً أبا لكم في الأرض؛ لأن لكم أباً واحداً هو الأب السماوي».

انطلاقاً من هذا الاعتبار نجد المسيحية قد تكرّرت دعواتها بضرورة تمتيع الإنسان بحقوقه كاملة غير منقوصة، وللتدليل نورد النصوص التالية:

الحقوق الدينية

حرية الاعتقاد: «أنا النور الذي جاء إلى العالم، فكل من آمن بي لا يقعد في الظلام، من يسمع كلامي ولا يعمل به، فأنا لا أحكم عليه، لأني جئت، لا لأحكم على العالم، بل لأنقذ العالم، من يرفضني ولا يقبل كلامي، له من يحكم عليه، رسالتي التي أنادي بها ستحكم عليه في اليوم الآخر».

الحقوق الأسرية

حق الزوج على زوجته: «كذلك أيها الزوجات اخضعن لزواجكن حتى وإن كان الزوج غير مؤمن بالكلمة. تجذبه زوجته إلى الإيمان بتصرفها اللائق دون كلام، وذلك حين يلاحظ سلوكها الطاهر ووقارها»، «فسارة مثلاً كانت تُطيع زوجها، وتدعوه سيدي، والمومنات اللاتي يقتدين بها يتبين أنهن بنات لها».

حق الزوجة على الزوج: «وأنتم أيها الأزواج إذ تساكنون زوجاتكم عالمين لأنهن أضعف منكم، أكرموهن باعتبارهن شريكات لكم في وراثة نعمة الحياة لكيلا يعوق صلواتكم شيء».

حق الوالدين على الأبناء إكرامهما والإحسان إليهما: «أكرم أباك وأمك»، «قال الله: أكرم أباك وأمك، ومن لعن أباه أو أمه فموتاً يموت».

الحقوق السياسية والمدنية

الحق في الحياة: عن طريق النهي عن القتل: «لا تقتل».

قال «يسوع للكتبة أسألكم سؤالاً: أيحل في السبت فعل الخير أم فعل الشر؟ تخليص النفس أم إهلاكها»، «سمعتم أنه قيل لآبائكم: لا تقتل فمن يقتل يستوجب حكم القاضي، أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القاضي».

- الحق في العدل: «قال عيسى: عملت عملاً واحداً في يوم السبت فانزعجتم كلكم، موسى أمركم بالختان ولذلك فأنتم تمارسون الختان حتى في يوم السبت لئلا تخالفوا شريعة موسى... فهل تغضبون عليَّ لأني شفيت إنساناً بكامله في يوم السبت، لا تحكموا بحسب الظاهر بل احكموا بالعدل».

- الحق في المساواة: «فلا فرق بين اليهودي واليوناني؛ لأن للجميع ربًّا واحداً».

- الحق في الحرية: «تصرفوا كأحرار حقًّا لا كالذين يتخذون من الحرية ستاراً لارتكاب الشر».

- الحق في التعليم: فمثلاً في إنجيل مرقس وحده وردت كلمة يعلم (15 مرة)، ودُعي المسيح معلماً (12 مرة)، ليس فقط من تلاميذه، وجموع الشعب، وإنما حتى من أعدائه والمقاومين له. من هذه النصوص: «ثم خرج أيضاً إلى البحر وأتى إليه كل الجمع فعلمهم».

- الحق في التعبير: «وكان كل سبت يناقش الحاضرين في المجمع لإقناع اليهود واليونانيين».

- الحق في العمل: «ولما جاء المساء قال صاحب الكرم لوكيله: ادعُ العمال كلهم وادفع لهم أجورهم»، «إن العامل يستحق طعامه».

- الحق في الإرث: «ما دمنا أولاداً فنحن أيضاً وارثون».

بالإضافة إلى هذه الحقوق فقد طبع تعاليم المسيحية عموماً التسامح حيث نقرأ: «أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضكم، وباركوا لأعينكم، وصلوا واستغفروا للمسيئين إليكم. ومن ضربك على خدك فحوِّل له الآخر».

«والمحبة صنو المسيحية في مدلولاتها الاجتماعية والإنسانية، بدءاً من حياة الطفل وتكوين الأسرة، لذلك ثمة تأكيدات على الكرامة الإنسانية، والحرية والمساواة بين البشر، ولا فرق بين الرجل والمرأة لأسباب جنسية، فكلاهما مدعو لتغيير وجه الأرض، وكلاهما كائن عاقل وحر».

إجمالاً، فالمسيحية كانت أكثر من اليهودية دعوة إلى احترام حقوق الإنسان، وحرصاً على حفظ كرامته، إلَّا أنه وقبل إنهاء الحديث عن حقوق الإنسان في المسيحية ينبغي التأكيد هاهنا على ملاحظتين:

أولاهما: أن الفلسفة الحقوقية في المسيحية عصية الفهم صعبة الضبط، فهي وبالنظر إلى ما ذكر- قد تبدو مكرمة للإنسان محافظة على حقوقه في عقيدته واجتماعه، وفكره، ومعاملاته المادية والأخلاقية والأسرية. لكن بقراءة الأناجيل تصادفنا نصوص عديدة تنقض نقضاً صريحاً تلك الحقوق وتلغيها.

ولا شك في أن هذا التناقض بين نصوص الأناجيل، بل الإنجيل الواحد، مرده إلى التحريف والهوى الذي سيطر على قلوب أولئك الذين كتبوا تلك الأناجيل.

ثانيتهما: أن الكنيسة وخصوصاً في العصور الوسطى- كانت تمارس باسم الدين الوصاية على الدين نفسه وعلى الدولة، فاتَّسمت ممارستها بالظلم والقهر والتعسف والتطرف في كل شيء:

- التطرف في الوصاية على الدين: باحتكار فهمه وتفسيره وزعم الاستمداد المباشر من الله أو من المسيح (صكوك الغفران، تكفير الخطايا، حجز مقاعد في الجنة...).

- التطرف في السياسة: بامتلاك حق تعيين الملوك أنفسهم أو تنحيتهم وإقرار النظم والتشريعات التي تخدم مصالح الكنيسة أولاً.

- التطرف في الإقطاع: بامتلاك الأراضي الشاسعة والقصور الفخمة وآلاف الرقيق، وفرض الضرائب والمكوس والإتاوات.

- التطرف في الانحلال الخلقي وشيوع مظاهر الإدمان والشذوذ إلى درجة وصلت معه الأوساط الفكرية إلى القول بأن رجل الجيش أرقى خلقاً من رجل الدين.

ولحماية هذه الأشكال من التطرف عمدت الكنيسة إلى رصد مؤسساتها الضخمة المعروفة بمحاكم التفتيش، المجهزة بكل أنواع التصفية والتعذيب، لمتابعة وملاحقة المخالفين من رجال العلم والفكر والدين... بوحشية وهمجية شديدة، ضاعت معها حقوق الإنسان وانطلقت بشكل صريح. أمام بشاعة جرائم الكنيسة وفظاعتها، وتعدد فضائحها كانت هناك ثورة عارمة وعلى كل الأصعدة، فجاء الرد بالتطرف ضد الدين وفي كل التيارات المادية والإلحادية التي ظهرت بحجم الاستبداد والطغيان والتسلط، وباختصار بحجم التطرف الكنسي ذاته، مما قاد أوروبا لاحقاً إلى ثورات متتالية تناولت بآثارها كافة مناحي الحياة، وأسست لعصر النهضة ولنشوء التيارات الإصلاحية ثم العلمانية.

حقوق الإنسان في الإسلام

«يمكن القول دون جدال إن أبرز ما يشخص حقوق الإنسان في الإسلام، وما يتميز به الإسلام عما عداه في مجال اقرار الحقوق، وهو ما أقره الله للإنسان منذ أن بدأ خلقه- من حقوق التكريم لجنسه وتفضيله على من سواه، وتسخير ما في الأرض والسماوات والفضاءات لخدمته، واستخلافه في الأرض نيابة عنه لإصلاحها واستثمارها.

لقد ضمن الله لجنس البشر حق تكريمهم، أو بتعبير العصر ضمن لهم حق الكرامة، عندما قال سبحانه في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}».

ونلاحظ أن مفهوم التكريم الذي أشارت إليه الآية الكريمة لم يحدد فئة معينة لهذا التكريم كأن يكونوا من عنصر أو جنس أو لون معين، بل لم تشر الآية إلى عقيدة الإنسان، وإنما أشارت إلى كونه إنسان مكرم لذاته الإنسانية. كما أن الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان تنطلق من كونه إنساناً مستخلفاً من الله سبحانه وتعالى لعمارة الأرض، لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ}، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}. «ولاشك في أن من استخلفه الله سبحانه وتعالى وأكرمه يستحق من الحقوق ما يمكّنه من أداء هذه المهمة، وهي عبادته سبحانه وعمارة الأرض، بتنميتها وتطويرها واستثمارها، بما يحقق الرفاه ويوفر حاجات الإنسان»، كل إنسان «حتى من كفر وضل عن السبيل، فالجنس البشري كيفما كانت عقيدته وتصرفه فوق الأرض، مكرم مفضل (مستخلف) مسخرة له السماوات والأرض وملكوت الله كله».

«وقد طبقت السنة تعاليم الله بتكريم البشر، فلم تدعُ إلى عنصرية مقيتة، وجاءت لتُنهي عهد التمييز العنصري والإقصاء. إن الإسلام لم يصنف البشر فصائل وأنواعاً، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود، ولا تفاخر بالأنساب، فالعمل الفاضل هو الأزكى والأطهر: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وخلاف ذلك عودة إلى الجاهلية التي أتى الإسلام ليهدم أسسها، ويهدّ أركانها، وليقيم على أنقاضها ثورة تحررية قوامها تحرير الإنسان من الخضوع والذل أمام سلطة الأرض، وربطه بسلطة السماء. أليس شعار الإسلام الخالد هو الله أكبر؟ ونعمة تحرير الإنسان على هذا الشكل أعظم حقوق الإنسان.

إن القوانين الدولية أو المواثيق التي أعلنت حقوق الإنسان في الغرب، إنما كانت تستهدف ترسيخ تمتعه بحق الكرامة الذي يسمى في الإسلام بحق التكريم، إذ يمكن إرجاع كل حق من الحقوق التي تتحدث عنها هذه الوثائق إلى هذا الحق الأسمى. أليس حقوق الإنسان في تمتعه بالحريات العامة، ورد الاعتبار إلى شخصيته، وحمايته من الظلم التي جاءت بها الدساتير، والمواثيق، وإعلان الحقوق سواء حديثة العهد أو المعاصرة، وركز عليها النظام الديمقراطي الغربي، أليس كل ذلك إلَّا جزءاً من حق التكريم أو الكرامة؟

وقد اهتم الإسلام بتخويل حق تكريم الإنسان للمومنين، ولأهل الكتاب والمعاهدين وأهل الذمة، ولمن عاش في دار الإسلام على أي دين ومن أي جنس، والتزم النبي به في دستور الصحيفة، وسهر على تطبيقه نصًّا وروحاً، وسار على هديه الخلفاء في عهود الإسلام المشرقة التي لم تهضم لا كرامة المؤمنين، ولا كرامة الجاحدين، وتعامل بمفهومها المسلمون مع غيرهم في الحرب والسلم وفي عهود الانتصار وعهود الانحسار».

إلى جانب انطلاق فكرة حقوق الإنسان في الإسلام من مبدئي الكرامة والاستخلاف، تنطلق من مبدأ المساواة المقرر في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

يقول صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يخطب الناس في حجة الوداع: «أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر؛ فضل إلَّا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب».

إنها أهم دعامة في حقوق الإنسان «إنها المساواة، فالناس كافة متساوون في القيمة الإنسانية المشتركة وهي الجوهر، وإذا كان هناك اختلاف في المظهر كالجنس واللون والمعتقد والأصل والقبيلة، فهذا الاختلاف مدعاة للتعارف والتآلف لا للجفاء والتناكف، بحسب منطوق الآية 13 من سورة الحجرات وبحسب الحديث أعلاه.

وانطلاقاً من هذه المساواة المطلقة بين الناس كافة في القيمة الإنسانية المشتركة، يجعل الإسلام المساواة بين الناس في جميع الحقوق الأخرى كالحقوق العامة والحقوق المدنية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية أمراً مفروضاً مفروغاً منه. فلا يجوز التمييز بين الناس لفروق مفتعلة فالناس في الإسلام- كأسنان المشط، فلا عنصرية ولا تمييز.

لقد حاولنا في كل ما سبق أن نحدد منطلقات وأسس الرؤية الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، لكن هذا كله لا يعد سوى جانب ثانوي من المشكلة الحقوقية، ولسوف يكون عملنا هذا ناقصاً كل النقص لو اقتصرنا عليه، وأعرضنا عن النماذج الواقعية والآثار التطبيقية العملية التي قدمها لنا الإسلام في مجال حقوق الإنسان، ولا يقودنا إلى اكتشاف هذه الآثار سوى إيراد نماذج من منظومة حقوق الإنسان في الإسلام، متخذين من تيمة حقوق غير المسلمين في الإسلام مثالاً عن ذلك.

والذي أعنيه بغير المسلمين: الأفراد الذين يعيشون في دار الإسلام محميين بحماية المسلمين- ممن لا يدينون بدين الإسلام، سواء أكانوا من أهل الكتاب (الذميين) أم من غيرهم من المشركين والوثنيين.

والناظر في الميراث النبوي المتعلق بحقوق غير المسلمين، يجد أنه قد خصص حيِّزاً هامًّا لحقوق غير المسلمين، يستفاد ذلك من العهود التي عقدها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع اليهود والنصارى من أهل الكتاب والمشركين... وقد لا نستطيع جرد هذه الحقوق كلها إذا نحن أردنا رصد أعيانها وتعداد جزئياتها، ولكن إذا نظرنا إلى هذه الحقوق نظرة تأصيل وتقعيد وجدناها تستوعب كل الحقوق التي تم التنصيص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

فكيف جاء تجسيد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لتلك الحقوق في علاقته بالمخالف دينيًّا والنقيض عقديًّا؟

اليهود... وثيقة المدينة

وثيقة المدينة هي تلك الصحيفة أو الدستور كما يسميه البعض- الذي أبرمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عقب هجرته إلى المدينة المنورة (يثرب)، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات المجتمع المديني من مهاجرين وأنصار (أوس وخزرج) ويهود، ووثنيين فكان -بذلك- أي دستور المدينة، لبنة مهمة في رسم حدود العلاقة بين المسلمين وغيرهم.

ولقد حاز هذا الدستور قصب السبق بالنسبة لكل دساتير العالم، إذ يُعد أول دستور مدون في العالم.

ومما ذكرته الصحيفة بخصوص غير المسلمين من يهود: «وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا مُتناصَر عليهم... وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلَّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلَّا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار... وأن ليهود بني الحارث... وأن ليهود بني ساعدة... وأن ليهود بني جشم... وأن ليهود بني الأوس... وأن ليهود بني ثعلبة، مثل ما ليهود بني عوف إلَّا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلَّا نفسه وأهل بيته، وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وأن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم... وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلَّا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره».

ومما ذكرته الوثيقة بين المسلمين واليهود: «... وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين... وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وألَّا يأثم امرئ بحليفة، وأن النصر للمظلوم، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم... وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلَّا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم... وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلَّا من ظلم، وآثم، وأن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)».

هذه بعض بنود الدستور الذي وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم».

بقراءتنا لوثيقة المدينة نلحظ أنها قد اهتمت اهتماماً بالغاً بحقوق:

العدل والحرية لتلازمهما الوطيد مع السلام، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدرك تمام الإدراك أن غياب العدل وانعدام الحرية بكل أشكالها كانا من أقوى أسباب الصراع والفتن قبل الإسلام.

العـــــــدل

لهذا أكدت الصحيفة على مسألة العدل في القضاء تأكيداً كبيراً، واعتبرته أولوية مطلقة يجب تحققها في تعامل المسلمين مع غيرهم من اليهود، يظهر هذا من خلال التنصيص على العدل في أكثر من بند في الصحيفة، كما هو الحال في البنود (3-4-5-6-7-8-9-10-11) والتي تؤكد على إقامة القسط بين مختلف مكونات المجتمع المديني بما في ذلك اليهود، لارتباط الأمر بالأمن العام للمجتمع.

أما فيما يخص أحوالهم الشخصية، فالصحيفة قد تركت لهم حرية الاختيار في الاحتكام إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلَّا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلَّا نفسه وأهل بيته». وهذا ما ينسجم مع قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

المســاواة

ولإقامة العدل، وضمان تحققه على أتم صورة، أكدت الوثيقة على حق المساواة بين الناس، في تجرد كامل عن كل أشكال التفرقة العنصرية والتمييز الطبقي، فالكل سواسية في الدستور الجديد؛ إذ نص (البند 15) من الصحيفة على «أن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم» لا فرق بين مسلم ويهودي أو بين غني و فقير أو قوي وضعيف، فـ «الله جار لمن بَرَّ واتَّقى» كما نصّت الصحيفة في (البند 47)، فمعيار التفاضل في المجتمع هو البر والتقوى، وهذا ما ينسجم مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

ومن مظاهر المساواة في وثيقة المدينة -بالإضافة إلى المساواة أمام القضاء- نذكر:

- المساواة في النفقات المالية والمشاركة الحربية لدفع كل عدوان خارجي على حرم المدينة دون تمييز لأي طرف على آخر، (البند 24 + البند 38) «وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين»، و(البند 37) «... وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة».

- المساواة في الانتساب إلى الأمة، حيث اعتبرت الصحيفة اليهود «جزءاً أصيلاً في الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية»؛ إذ نصت الصحيفة في بنودها من (البند 35) إلى (البند 45) على أن «يهود بني عوف... ويهود بني النجار... ويهود بني الحارث... ويهود بني ساعدة... ويهود بني جشم... ويهود بني الأوس... ويهود بني ثعلبة... ويهود بني شطيبة... أمة مع المؤمنين».

الحــــريــة

إلى جانب تقرير الصحيفة لحقوق العدل القسط- المساواة، فقد ضمنت لمختلف رعايا المجتمع المديني: حق «الحرية» بما يحفظ إنسانيتهم، ويصون كرامتهم الآدمية، إذ جاءت نصوص الوثيقة متضمنة لكل أشكال الحرية:

- الحرية الدينية/حرية الاعتقاد: التي لم تكن شيئاً مذكوراً قبل مجيء الإسلام، والتي لم يعرفها الغرب إلَّا منذ قرن ونيف، لقد «كان نصارى الإمبراطورية الرومانية يقومون باضطهاد اليهود انتقاماً منهم لاضطهاد المسيح والحكم عليه بالقتل صلباً؛ لذا شاع قتل اليهود بالصلب والتحريق بالنار. وخلال القرن السادس الميلادي ظهرت في يهود فلسطين المضطهدين من النصرانية نزعة إلى أخذ الثأر من النصرانية، وشجّعهم على ذلك قيام حكم باليمن على رأسه «ذو نواس» الذي نبذ النصرانية واعتنق اليهودية فحرضوه على الانتقام من نصارى اليمن الموجودين خاصة بنجران، بتحريق كنائسهم وجمع معتنقي النصرانية في واد باليمن وصفه القرآن بالأخدود (أي الحفرة المستطيلة بين شعبتي جبل) وتصفيتهم بإحراق أجسادهم، ودفنهم جملة فيه، وكانت هذه أول محرقة جماعية يتعرض لها معتنقو النصرانية.

وقد سجَّل القرآن هذه المجزرة المحرقة في سورة البروج: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. واستمر مسلسل التناحر الديني بين اليهودية والنصرانية، إذ على إثر هذه المحرقة تحرَّكت الإمبراطورية الرومانية وطلبت من إمبراطورية الحبشة الانتقام من يهود اليمن لإحراقهم نصارى نجران بالرد على صنيعهم بمثله، فالتجأت اليمن المتهودة إلى إمبراطورية فارس لحمايتها.

في ظل هذا الوضع الديني القائم على التعصب وعدم التسامح يعلن القرآن شعاره العالمي {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} وبكل وضوح تورد «صحيفة المدينة» في (بندها25) «أن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». بما ينسجم وقوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

- الحرية الاقتصادية: لقد ضمنت «الصحيفة» لليهود، حريتهم الاقتصادية، في احترام تام للملكية الخاصة، ونبذ كل اعتداء أو ظلم على ممتلكاتهم، حيث نقرأ في (البند37) «وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم».

- الحرية السياسية: حيث نصّت الصحيفة على أن من حق اليهود أن يعقدوا سلاماً منفرداً، إذا كان لا يتعارض ومصلحة الدين الإسلامي والدولة الإسلامية، وهذا هو مضمون (البند 45) من الوثيقة إذ جاء فيه «وأنهم (أي اليهود) إذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين، إلَّا من حارب في الدين».

- حرية التعبير: بما هي إبداء للنصح والنصيحة وبما يعود بالخير والنفع على الجميع، وهذا هو مضمون (البند 37) من الصحيفة «وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم».

- حرية التنقل: مع ضمان الأمن للمتنقل حيث نقرأ في (البند 47) «وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة».

واقعية الوثيقة وتطبيق بنودها

لم تكن «وثيقة المدينة» عبارة عن شعارات مضللة، الهدف منها كسب ودّ سكّان يثرب حتى التمكن من أرضهم، ثم الغدر بهم والتخلي عنهم باستعبادهم... كما هو الحال بالنسبة لعالم اليوم، حيث تبيح دول الغرب لنفسها احتلال الآخر واستغلال خيرات أراضيه تحت يافطات مختلفة وشعارات جوفاء من قبيل الديمقراطية، حقوق الإنسان، الحضارة، المدنية... وعندما يتأتَّى لهم أمر الاحتلال والاستغلال يتم التنكُّر لأبسط تلك المقولات.

إن دستور المدينة كان على العكس تماماً، فـ«مسألة التطبيق (لبنوده) كانت مسألة دقيقة، فلم يحدث في مدى الوجود اليهودي المسالم في المدينة أية حالة من حالات الاعتداء على اليهود في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم واستقرارهم في الوطن الإسلامي الجديد، ولم يتعرض أحد لسوء، مما يخالف أصول الصحيفة المعاهدة، حتى نقضوا العهد، وتحالفوا مع المشركين في واقعة الأحزاب... إن قيمة صحيفة المدينة أن النظرية الإسلامية في التعايش على أساس قاعدة (العهد)، تحرَّكت مع سلامة التطبيق، بحيث لم يرتفع في كل تلك الفترة أي صوت يهودي يشكو من سوء المعاملة، ولم يحصل هناك أي اختلال في النسيج الاجتماعي المتوازن بينهم وبين المسلمين، بالرغم من الدسائس الخفية التي كانوا يمارسون تحريكها في داخل المجتمع الإسلامي لإعادة الأحقاد بينهم، لاسيما في بعض تحالفاتهم السرية مع المنافقين، ولم يقم المسلمون بأي عمل سلبي لإخراجهم من دينهم بالقوة حتى مع بعض خططهم التي كانوا يخططون بها لإيجاد حالة من الشك والريبة لدى المسلمين في دينهم، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستقبلهم، ويستمع إلى حواراتهم، ويقبل الدعاوى الموجهة من بعضهم ضد بعض، بكل رحابة صدر، وبكل مسؤولية، حتى أنه كان يرجعهم إلى أحكامهم الشرعية في التوراة حذراً من أن يفرض عليهم أي حكم إسلامي لا يعترفون به.

ومما يؤكد واقعية بنود وثيقة المدينة تأكيداً تامًّا «أن بعض المسلمين قام بالسرقة لبعض الناس، وحاول أهله إلصاق التهمة بيهودي، من خلال بعض القرائن المزورة أو الشهادات الكاذبة، لتبرئة المسلم، فأنزل الله قرآناً لتبرئة اليهودي، طالباً من النبي (صلى الله عليه وسلم) ألَّا يدافع عن الخائنين من المسلمين، وألَّا يحكم ضد اليهودي البريء في مدى تسع آيات بدأت بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وانتهت بقوله سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}».

و«الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً، وتشهد وحدها- بأن القرآن لابد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم لا يمكن أن يرتفعوا بأنفسهم- إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات، إلَّا بوحي من الله. هذا المستوى الذي يرسم خطًّا على الأفق لم تصعد إليه البشرية، إلَّا في ظل هذا المنهج، ولا تملك الصعود إليه أبداً، إلَّا في ظل هذا المنهج كذلك. إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين، في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب، ويُؤلِّبون المشركين، ويشجّعون المنافقين ويرسمون لهم الطريق، ويطلقون الإشاعات، ويضللون العقول، ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة...

في هذا الوقت الحرج، الخطر، الشديد الخطورة كانت هذه الآيات كلها تتنزل على رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الجماعة المسلمة، لتُنصف رجلاً يهوديًّا، اتُّهم ظلماً بسرقه، ولتُدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة، والأنصار يومئذ هم عدة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة. إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلاً ثقيل الوزن في ميزان الله إنما كانت أكبر من ذلك، كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيًّا كانت الملابسات والأحوال. وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد، وعلاج الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلّق الأمر بإقامة العدل بين الناس وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تُدنِّسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، التي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات.

إن هذا الحادث يؤكد واقعية بنود وثيقة المدينة لكونه «يوحي بأن حفظ حقوق اليهودي البريء، الذي يملك حق الدفاع عن حقوقه في المجتمع الإسلامي، بفعل مبدأ العدل الشامل، وبواسطة المعاهدة، هو من الأمور الحيوية، بالدرجة التي يتدخل فيها الوحي لتأكيد سلامة التطبيق في هذه القضية الحساسة التي اجتمعت فيها كل وسائل الإثبات ضد اليهودي حتى لا يشعر المظلوم (ولو كان يهوديًّا) بأن الإسلام يقف إلى جانب الظالم (حتى لو كان مسلماً) ضده، وهذه مسألة غير عادية، لا سابق لها من حيث تدخل الوحي الإلهي فيها».

بهذا تُشكِّل وثيقة المدينة التجسيد العملي لحقوق الإنسان في الإسلام لما زخرت به بنودها من حقوق لليهودي المخالف دينيًّا والنقيض عقديًّا. ولا يقتصر الأمر على اليهودي بل يتعداه ليشمل كل إنسان بصرف النظر عن دينه أو لونه أو لغته... أو غير ذلك من الاعتبارات. فالكل في الإسلام سواء من منطلق التكريم الإلهي للناس جميعاً.

وعلى ذلك، فلا تعسف في القول هنا: إن الإسلام دين حقوق الإنسان، التي تندرج في نظام التحرير العالمي الشامل الذي جاء به الإسلام، الهادف إلى إخراج الناس من عبادة بعضهم بعضاً مع ما يفيد ذلك من تسلط الإنسان على الإنسان- إلى عبادة الله الواحد،وهذه العبادة هي عقيدة التوحيد (لا إله إلَّا الله) التي حرَّرت الناس من العبوديات كلها، وسوَّت بينهم تسوية كاملة لا ميزة لأحد عن أحد، ووضعتهم على قدم المساواة التي هي أصل الحقوق جميعاً.

خاتمة

وأخيراً نعتقد أن التعريف بما جاء عن حقوق الإنسان في الإسلام والديانات السماوية الأخرى خير ما يخدم رسالة إشاعة ثقافة حقوق الإنسان التي ما تزال في حاجة إلى المزيد من الجهود الفكرية، قصد جعلها منظومة عالمية لا جدال فيها. وما من شك في إن إشاعتها عبر العالم ستعزز بتسليط الأضواء على مرجعيتها الدينية، ولم نرد من هذا البحث المقتضب إلَّا هذا الغرض.