شعار الموقع

تعدّد السبل

الدكتور عبد الهادي الفضلي 2012-10-03
عدد القراءات « 732 »

الإسلام بين حفظ الهوية الحضارية
للشعوب والتزام النظام الإسلامي

مقدِّمة

تمكّن الإنسانُ ممّا سخّره الله له على هذه الأرض من خيرات وثروات طبيعية، وبخاصّة مع ما نراه اليوم من تقدُّم علمي وفكري هائل، أصبحت معه الكثير من الأحلام سابقًا واقعًا يعيشه إنسان اليوم، وذلك بفضل الانفجار المعلوماتي والتقني الكبير الذي تشهده المجتمعات الإنسانية في عصرها الراهن.

ولكن الإنسان -مع كل هذا التقدُّم- تظلّ لديه طموحات دون التحقُّق، وهي طموحات طالما بشّرت بها المنظومات الفكرية طوال التاريخ، لعل أهمها البلوغ بالإنسان إلى مرحلة تحقيق العدالة والسعادة الاجتماعيين، وهي مرحلة لم تبلغها تلك المجتمعات الإنسانية التي تشهد تطوّرًا ملحوظًا فيما يتعلّق بحقوق الإنسان والحريات الفكرية إلى الآن، فضلاً عن أن تشهدها بقية المجتمعات الأخرى، ولعلّ لذلك أسبابه التي لا يمكن استعراضها في مقالتنا هذه.

ولكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن الشعوب بدأت تتطلّع إلى منظومات فكرية بديلة تحقّق لها ما عجزت عنه أنظمة الحضارة الغربية، ذلك أنها وجدت في مبادئها وقيمها التي تدعو إليها سببًا للعديد من الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أنها لم تحقّق المستوى المأمول من العدالة الاجتماعية، فلا تزال المجتمعات الغربية تعيش حالاً من الطبقية المقيتة والتعيسة فيما يرتبط بمسألة توزيع الثروات.

إن الإسلام اليوم يطرح نفسه بديلاً حضاريًّا عالميًّا، وهو بذلك ينافس ويتحدّى الحضارة الغربية، وذلك فيما يقدّمه من قيم ومبادئ وقوانين وفكر إنساني سامٍ ينسجم والطبيعة الإنسانية السليمة، وهو الأمر الذي دفع بالفكر السياسي الغربي إلى محاصرته تمهيدًا للمواجهة والصراع اللذين يراهما الغربيون أمرين حتميَّين، وبخاصّة بعد انهيار قطب النظام الاشتراكي الشرقي (الاتحاد السوڤييتي السابق)، وذلك لعدم إمكانية تعايش هاتين الحضارتين جنبًا إلى جنب، وإذ ذاك لا مناص من حالة الصراع والتحدي والغلبة.

حول هذه المسألة سيكون بحثنا، الذي خصَّصنا عنوانه الأول للحديث عن المفاهيم المفتاحية التي سنتناولها خلاله، وهي: السبُل، والنظام، والثقافة، والحضارة، ليكون ذلك مقدّمة لمفردة البحث الثانية حول: الموقف الفكري الغربي حول مسألة تعدّد الحضارات، مقارَنًا بالنظرة الإسلامية في هذا المجال، ليكون العنوان الخاتمة حول الموقف العملي الإسلامي من تعدّد السُّبُل، وذلك من خلال الإشارة إلى الآلية التي اتبعها الإسلام في التعايش مع الحضارات والثقافات التي دخلت الإسلام في بدايات دعوته الأولى.

أولاً: وقفة مع المفاهيم

«تعدُّد السبل» من أهم موضوعات الساعة، ومن الموضوعات التي هزّت العالم هزًّا عنيفًا ولا تزال، وكل ما نجده الآن من اضطراب ومن عدم استقرار في هذا العالم، ومن الضحايا التي تذهب في سبيل الحق أو في غير سبيله، ومن الدماء التي تُراق في سبيل إعلاء كلمة الله أو في غير هذا السبيل، كلها نابعة من هذا الموضوع، ذلك أنه موضوع له أهميته الكبيرة الآن وفي هذا الظرف العالمي الذي نعيشه.

وقبل الدخول في بحث موضوع تعدّد السبل، لا بدّ من استيضاح المراد من «السُّبُل» في هذا السياق وبهذا الصدد:

السُّبُل مفهومًا قرآنيًّا

السُّبُل: جمع سبيل، والسبيل في -موضوعنا-: الطريقة التي يتبعها الإنسان في سلوكه وتعامله مع الآخرين، سواءً كان ذلك الإنسان فردًا أو جماعة أو أمّة أو دولة، فالطريقة التي تُتَّبَع في توجيه السلوك تسمى «السبيل»، وهذه التسمية مأخوذة من القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، فعبَّرت الآية عن الطريقة التي كان يتبعها النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدعوة إلى الله ﺑ«السبيل»، وتأسيسًا على ذلك يكون معنى «تعدُّد السُّبُل» هو تعدُّد الطرق والمنهجيات التي يتّبعها الإنسان فردًا كان أو جماعة.

وهذا هو المعنى القرآني للتعبير الذي وضعناه عنوانًا للدراسة، ولكن ماذا يُراد ﺑ«تعدُّد السبل»/ «السبيل» في لغة هذا العصر وفي لغة السياسة، وكذلك في لغة علم الاجتماع، أو في لغة الإعلام، ماذا نريد ﺑ«السبيل» في لغتنا المعاصرة؟

تعدّد السبل مصطلحًا معاصرًا

حينما نطلق هذا التعبير اليوم، فإننا -في الواقع- نطرحه تساؤلاً مصيريًّا حول إمكانية تعدُّد الطرق والمناهج الفكرية: هل يؤمن الإسلام بتعدُّد هذه المناهج أم يفرض منهجًا واحدًا ووحيدًا يُلزم معتنقيه به؟!

هذا التساؤل هو محور حديثنا، وللإجابة عنه نمهّد لذلك بالإشارة إلى نقطة مهمّة في وقفتنا هذه مع المفاهيم، وهو أن المراد بالسبيل في عصرنا الحاضر حينما نطلقه في هذا السياق يُقصَد به واحدٌ من معنيين مفترقين، وقد يُقصَد المعنيان معًا مجتمعين، وهما:

المعنى الأول: «النظام»: الذي يُراد منه مجموعة الأحكام والقوانين التي تنظّم حياة الناس، سواءً كان هذا النظام موضوعًا من قبل الله تعالى، أو من قبل الدولة، وبهذا المعنى يصبح التساؤل على النحو التالي: ما هو الأفضل: أن يكون للناس نظام واحد، أو أن يكون لديهم أنظمة متعدّدة؟

وللإجابة عن هذا التساؤل، نجد أنّ هناك خلافًا كبيرًا بين المفكرين في مختلف المجالات السياسية والفكرية والأخلاقية القِيَمِيَّة، فبينما يذهب بعضهم إلى أحادية النظام -وهي الدعوة القائمة في عصرنا الراهن، حيث نجد الدعوات المتكرّرة لإقامة النظام العالمي الجديد ذي القطبية الواحدة-، نجد في المقابل من يرى من المفكرين إيجابية تعدّد الأنظمة والسبل، في حال وُجِدَ الطريق إلى أن يتعايش أنصار كل نظام وسبيل.

المعنى الثاني: «الحضارة»: بما تشمله من ثقافات ومظاهر عمرانية، وفي هذا المعنى يتردّد السؤال السابق، فهل تكتفي الإنسانية بحضارة واحدة تهيمن على جميع الشعوب والأمم، أم أن الأصلح للعالم أن تتقاسمه عدّة حضارات؟

الحضارة مصطلحاً معاصرًا

إنَّ الحضارة من المصطلحات والمفاهيم الاجتماعية، وتسرّبت بعد ذلك من علم الاجتماع إلى مختلف العلوم الإنسانية الأخرى. ويشاركها في ذلك مصطلحا: «المدنيّة» و«الثقافة»، حيث نجد تعريفات متعدّدة لكل واحد من هذه المفاهيم الثلاثة، ولكننا لا نعدم أن نستخلص معنى كل مفهوم منها، وذلك من خلال مجموعة من التعريفات التي تذكر لذلك المفهوم.

فـ«الثقافة» يراد بها في استعمالنا الحديث: العلوم والآداب والفنون على اختلاف ألوانها وأنماطها.

بينما يراد من «الحضارة» معنًى أوسع من مفهوم الثقافة، ذلك أن الثقافة -بما تشمله مع العلوم والآداب والفنون- جزء من الحضارة، ويضاف إليها: القوانين والأنظمة والتشريعات والأعراف الاجتماعية الموجودة عند الناس، والتقاليد الاجتماعية الموروثة، فجميع هذه تدخل ضمن عنوان «الحضارة»، لذلك فهو مفهوم أوسع من سابقه.

وحينما نبحث مفهوم «المدنيّة» نرى أن مجموع ما يَرِدُ حوله من تعريفات تركّز على أنه يراد منه الجانب المادي من الحياة، ولنأخذ لذلك مثالاً توضيحيًّا: فالثلاجة في حال النظر إليها كجهاز تبريد تعدّ من مظاهر المدنيّة الحديثة، ولكنّ الفكر الذي أنتج الثلاّجة واستُعْمِل في تصنيعها يُعَدُّ من مظاهر الحضارة، إذ علينا أن نفرِّق -في ذلك- بين الفكر وبين المادّة، فما نجده من مبانٍ وآثارٍ عمرانية وغيرها من المظاهر المادية تعدّ من المدنية، بينما الفكر (الجانب المعنوي) الذي أنتج هذه المظاهر يعدّ من الثقافة التي هي جزء من الحضارة.

بين النظام والحضارة

وإذا أردنا أن نفرِّق بين النظام والحضارة بعد أن فسَّرنا السبيل بهذين التعريفين، نجد أن النظام يمثّل التشريع والقانون الذي يستعمل لتنظيم حياة الإنسان الفردية أو الاجتماعية، ذلك أن لكل دولة من الدول قانونها ودستورها الذي تنطلق منه في حفظ وتسيير أمور مواطنيها ويتحاكم بعضهم إلى بعضٍ وفقه، وينبثق عنه مجموعة من الأنظمة تسمى في أحيان كثيرة ﺑ«التشريع».

والتشريعات الدولية إما أن تكون مستمدّة من الأحكام الدينية -كما هو الحال مع الدين الإسلامي-، أو أن تكون من وضع المشرّعين والمقنّنين الخبراء في هذا المجال من بني الإنسان، وتسمى الأخيرة بالقوانين الوضعية، فيما تسمى الأولى بالتشريعات الإلهية أو الأنظمة السماوية، على اختلاف في التسمية والتعبير.

هذا فيما يرتبط بالنظام، أما الحضارة فهي تشمل -كما أسلفنا- التشريع وما هو أوسع منه، كالثقافة والأعراف والتقاليد والعادات... إلخ، وهذا هو الرابط بين المعنيين من معاني السبيل.

تقسيمات الحضارة

ما نحن بصدد الحديث عنه هو توحّد المجتمعات الإنسانية على سبيل واحد (حضارة واحدة/ نظام واحد) أم سُبُل متعدِّدة (تعدد الحضارات/ تعدّد الأنظمة)، وفي حال تعدّد السُّبُل، ما هي العلاقة المُتَصَوَّرة بينها؟

إننا في حال فسَّرنا السبيل بالحضارة، نجد أن كل أمة من الأمم لها حضارتها الراسخة والمتميّزة بثقافتها وعاداتها ونظامها الخاص، فالهنود في عصرنا الراهن امتداد لحضارة هندية قديمة وراسخة في المجتمعات الهندية، وكذلك الحال مع الصينيين الذين يرثون حضارةً قديمة لها ثقافتها وروحها الحضارية الخاصّة. كما أن المسلمين يمتدّ بهم التاريخ إلى موروث حضاري قديم لا يزال قائمًا في مجتمعاتهم المعاصرة، وحديثًا يشهد العالم بزوغ الحضارة الغربية وسيطرتها على معظم مفاصل الحياة العصرية، فهل العلاقة بين هذه الحضارات الموجودة علاقة صراع أم علاقة تعايش سلمي؟

إننا لا نعدم أن نرى تأثُّرًا وتأثيرًا من خلال احتكاك هذه الحضارات بعضها مع بعض، ولكن هذا التبادل والتأثُّر يختلف من حضارة إلى أخرى، وذلك تبعًا لطبيعة هذه الحضارة أو تلك، من حيث امتلاكها لمكامن القوّة وقابلية الاستمرار والصمود، ذلك أن الحضارات تقسّم تقسيمات عدّة، نذكر منها التقسيمين التاليين:

التقسيم الأول: إلى إقليمية وعالمية، حيث يراد ﺑ:

أ ) الحضارة الإقليمية: الحضارة التي تقتصر على مجتمعها وأمتها التي انطلقت منها، وذلك مثل: الحضارة الهندية، إذ تعدّ حضارة إقليمية بما فيها من أنماط الفكر وغيره من العادات والتقاليد والفنون. وفي السياق نفسه تقع الحضارة الصينية التي تعدّ -كذلك- حضارة إقليمية فيما تملك من ثقافة وأعراف اجتماعية.

ب) الحضارة العالمية، وهي الحضارة التي تملك المقوّمات التي تساعدها على أن تكون الحضارة الوحيدة في العالم، وهي الروح التي تتملّك الحضارة الغربية المعاصرة، وتوازيها في ذلك الحضارة الإسلامية.

وما يجعل المسلمين يؤسسون لحضارة عالمية هو ما يعتقدونه من أن الإسلام دين منزل للناس كافّة، ويقابلهم في ذلك ما يشعر به الغربيون اليوم من قوّة فيما أنشؤوه من حضارة يرون فيها المقوّمات التي تساعدها على أن تكون حضارة العالم كله.

التقسيم الثاني: وهو انقسامها إلى حضارة منهزمة وأخرى صامدة، فالحضارات في واقع صراعها تنقسم إلى هذين القسمين:

- حضارة فيها قابلية الانهزام والضعف والضمور.

- حضارة فيها قابلية الصمود والتحدّي.

ولتقريب الفكرة أُعطي مثالاً واحدًا هنا، فعندما ظهر الإسلام، كانت منطقة الشام -المعروفة اليوم بلبنان والأردن وسورية- خاضعة للسريان، والسريان من الحضارات القديمة التي نزل كتاب الإنجيل بلغة قومهم، ولكن الإسلام عندما دخل الشام انهزمت هذه الحضارة أمامه وخضعت له، حتى أن اللغة السريانية طغت عليها اللغةُ العربية، فأصبحت الشام منطقة خالية من اللغة السريانية إلى يومنا هذا، وهي اللغة الأصلية في تلك المنطقة، وما هو موجود اليوم من اللغة السريانية ما يدرسه طلاب اللغات السامية القديمة في كليات الآداب، ولذلك تعد الحضارة السريانية من الحضارات المنهزمة تاريخيًّا.

وفي مثالٍ آخر مقابل، نجد أن الحضارة الغربية عندما دخلت ووفدت على البلدان العربية والإسلامية غازيةً أوجدت حالاً من الصراع بينها وبين الحضارة الإسلامية، ولكنها لم تستطع أن تتمكن من القضاء عليها، إذ بقيت هذه الأخيرة تعيش في بلاد المسلمين وتهيمن على الكثير من جوانب الحياة لديهم، وهو الأمر الذي يجعل من الحضارة الإسلامية حضارة فيها قابلية الصمود والتحدي.

ثانيًا: الموقف الفكري من تعدُّد السُّبُل

كان العالم منشغلاً بحالة الصراع بين العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي، بين أوروبا الغربية وأمريكا من جانب والاتحاد السوڤييتي من الجانب الآخر، وبسبب هذا الصراع أُسِّسَ حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو) سنة 1949م، الذي يقع مقرّه في مدينة باريس، وهو الحلف الذي يضمّ الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة من الدول الأوروبية الغربية وتركيا من الدول الشرقية، وذلك بهدف تسوية النزاعات التي تقوم بين الدول الأعضاء، فعندما تقوم نزاعات أو خصومات بين دوله الأعضاء من مهماته التدخُّل وحلّ هذه النزاعات. وبالإضافة إلى ذلك، من مهماته مسألة الدفاع المشترك، حيث يُعَدُّ الهدف الأهم والدافع الأبرز من وراء إنشاء هذا النوع من المؤسسات العسكرية، فعندما يُعتدى على دولةٍ من دوله الأعضاء فإن من واجب جميع الدول الأخرى المشاركة في الدفاع عن تلك الدولة المعتدى عليها، ومن أهدافه المعلنة -أيضًا- بذل المساعدات المالية المتبادلة.

ولاتخاذ القرارات في هذا الحلف يجب أن تتوافق دوله حول قراراته، حيث يتألف من مجلس وأعضاء للمجلس، غالبًا ما يكون الأعضاء وزراء خارجية هذه الدول، أو وزراء الدفاع فيها، وفي حالٍ ثالثة قد يكونون مندوبين دائمين في الحلف، وربما يكون الأعضاء خليطًا من بين هذه المناصب السابقة.

الفكر السياسي الغربي وحفظ حضارته

ما أشرنا إليه أعلاه من أهداف تأسيس حلف الناتو هي الأهداف المعلنة، بينما الهدف الأساس الذي أنشئ من أجله هذا الحلف العسكري هو حالة الصراع المحتدم الذي كان ناشئًا حينها بين أنظمة الدول الغربية والنظام الاشتراكي في الاتحاد السوڤييتي، إذ كان للحلف دور مخابراتي كبير في إسقاطه سنة 1990م، فكان الحدث الأبرز والأهم في ذلك العام. وحول هذا الحدث العالمي تحدّث قادة دول أعضاء الحلف في ذلك العام كثيرًا في وسائل الإعلام، كان من بين أهم مَنْ تحدّث: الأمين العام للحلف الأطلسي مانفريد فورنر في مقابلة نشرتها آنذاك مجلّة نيوزويك المعروفة، وكان من بين ما قال إجابةً عن سؤال وجهه إليه المراسل الصحفي حول مبرّرات بقاء هذا الحلف بعد سقوط الاتحاد السوڤييتي، إذ من المعروف في تاريخ هذه المنظّمة أنها أنشئت للوقوف في وجه السوڤييت وللعمل على إسقاط الاتحاد، فكان جوابه التالي: «صحيح أن المواجهة مع الشيوعية لم تعد قائمة [وبخاصّة مع سقوط الاتحاد السوڤييتي رمز الشيوعية]، إلَّا أن ثمة مواجهة أخرى يمكن أن تحلّ محلها بين العالم الغربي والعالم الإسلامي»، وكان التصريح بهذا النوع من الصراع مثيرًا، وهو ما جعل الصحفي ينتزع منه سؤالاً آخر حول كيفية تجنّب تلك المواجهة المحتملة بين الإسلام والغرب، ليجيبه بقوله: «ينبغي أن تحلّ أوروبا مشاكلها، ليصبح النموذج الغربي أكثر جاذبيةً وقبولاً من جانب الآخرين في مختلف أنحاء العالم، وهذا يعني أن يتجه العالم إلى حل مشكلات دول هذه القارّة، بينما تُترك مشكلات بقية أنحاء العالم، وبطبيعة الحال إذا أردنا أن نقارن بين مجتمع ليس فيه مشاكل ومجتمع يرزح تحت نير المشاكل والأزمات، سنفضّل المجتمع الخالي من تلك المشاكل، وإذا فشلنا في تعميم ذلك النموذج الغربي، فإنّ العالم سيصبح مكانًا في منتهى الخطورة».

وما نستفيده من هذا التصريح أن القائمين على هذه المنظّمة يبقونها على جهوزيتها وفاعليتها لأن مهمتها قد انتهت من جانب، ولكنها بدأت من جانب آخر، لتدخل عالم الصراع مع الحضارة الإسلامية، كما أن أمين عام حلف الناتو يرى أنه في حال لم تتغلّب الحضارة الغربية من خلال جذب الأنظار إلى نموذجها وبقيت الحضارة الإسلامية على صمودها وتحديها ليس هناك إلَّا الحرب للقضاء على هذه الحضارة المناوئة.

وما ننقله هنا هو رأيٌ لمفكر من مفكري السياسة الغربية في هذا المجال، وهو يعبر عن توجّه موجود على مستوى صناع القرار في عواصمه الغربية، حيث يدعو هذا الاتجاه إلى توحيد العالم في توجّه حضاري واحد، وإلغاء ما يضادّه من توجهات أخرى، وبخاصّة تلك الحضارات التي تملك خاصيتي: الشمول (العالمية) وعنصر الصمود والتحدي.

وفي هذا المجال ننتقل إلى رأي آخر من آراء المفكرين الغربيين، هو لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق (ريتشارد نيكسون)، وهو الرأي الذي استعرضه في كتابه (الفرصة السانحة)، الذي يعدّ وثيقة سياسية مهمّة كُتِبَ حولها الكثير من التعليقات من كبار المفكرين والساسة الغربيين، حيث أوجد هزّة في الفكر السياسي العالمي؛ لأن مؤلفه نيكسون يغلب على مزاجه الحدّة والعنف في أطروحاته للحلول والمقترحات، ولذلك قد يولّد التصريح بها نوعًا من الصدمة للمتابعين والمحلّلين، وما نحن بصدد الحديث عنه في كتابه هذا هو حديثه المثير حول طبيعة العلاقة مع العالم الإسلامي، إذ يقول فيه: لأجل أن ينهض العالم الإسلامي من واقعه المتخلِّف أمامه ثلاثة خيارات، خياران ليسا في صالح الغربيين، وخيار واحد في صالح الغربيين، وهي:

الخيار الأول: خيار الرجعية

الذي يُقْصَد به أن يرجع المسلمون إلى الدعوات القومية، بحيث يدعو العرب إلى قوميتهم العربية، والفرس إلى القومية الآرية... وهكذا، وما تثبته الدراسات التي أجريت على واقع الدعوات القومية التي كانت قبل فترات تاريخية قصيرة أنها غالبًا ما تصاب بنوعٍ من التعصُّب والتشنّج، وتعتمد على الجانب العاطفي، فالعرب عندما يدعون إلى عروبتهم، ستدفعهم هذه الدعوات إلى نوعٍ من التعاطف مع الشؤون العربية القُطرية، وسوف توحِّدهم هذه الدعوات نحو عدوٍّ واحدٍ مشترك، وهذا ليس في صالح الغربيين، وفي الوقت نفسه ليس في صالح العالم الإسلامي، حيث ستغلب القومية على حساب المبدأ والمعتقد.

الخيار الثاني: خيار الأصولية الإسلامية

فلو تُرِكَ المسلمون يأخذون بأصوليتهم دون أن يكون هناك أي تدخُّل من الأنظمة الغربية للحيلولة دون ذلك، فإنه سيمهِّد لأن تطرح هذه الأصولية نفسها نظامًا قابلاً للتطبيق يوازي النظامين: الرأسمالي والاشتراكي، ليكون هو النظام العالمي البديل الذي ينتظره المسلمون، وشعوب أخرى تنتظر ولادة نظامٍ يخلف هذين النظامين الحاليين اللذين لم يلبيا لهم السعادة والرفاهية والعدالة المنتظرة، وتصبح الحضارة الإسلامية هي سيدة العالمين. وهذا أيضًا ليس في صالح الغربيين.

الخيار الثالث: خيار التقدّم

وفي هذا الخيار يطرح نيكسون تركيا نموذجًا أمثل للحياة الفُضْلى، فهي الدولة التي ينتمي مواطنوها إلى الدين الإسلامي، في الوقت الذي يحكمهم النظام العلماني الذي جاء به مصطفى كمال أتاتورك خلفًا للسلطنة العثمانية التي كانت تحكم وفق النظام الإسلامي، لذلك يطرحه خيارًا أفضل يصبّ في صالح القوى الغربية.

ونيكسون -هنا- في الوقت الذي يصوِّر تركيا أنها وصلت بنظامها العلماني إلى أوج التقدّم عندما رفضت الإسلام وأخذت بمبادئ العلمانية، ما يجعله يضعها نموذجًا للحياة الفاضلة للمجتمعات الإسلامية، يصرِّح بأن ذلك لم يَصْرِف الأتراك عن الذهاب إلى الخيار الإسلامي الملتزم بالقيم والمبادئ الإسلامية العليا، يقول في ذلك: «مع تقديم هذا النموذج الأمثل الذي تتمثّل فيه الحياة الفاضلة -وهو مجتمع تركيا-، يظل المسلمون باقين على صمودهم يتحدّون الحضارة الغربية، ولا يريدون إلَّا الإسلام.

ولذلك فإن الموقف هو الصراع وتصفية الحضارة الإسلامية»، وهذا يعني أنه يؤمن بالحضارة الغربية حضارةً مسيطرةً ووحيدة على جميع الأنظمة الحاكمة في العالم.

وأسوق في المجال نفسه رأيًا ثالثًا، أنقله عن مجلّة «الشؤون الدولية» الصادرة عن جامعة كامبردج البريطانية التي تعدّ من الجامعات المرموقة عالميًّا في المستوى الأكاديمي، وكذلك فيما يرتبط بالدراسات والبحوث الصادرة عنها، حيث خصّصت المجلّة عددًا عن الإسلام والمسيحية والماركسية، انتهى فيها الباحثون في دراساتهم المنشورة إلى أن هذه العقائد الثلاث: (الإسلام والمسيحية والماركسية) لا يزال الإسلام -من بينها- نظامًا صالحًا للتطبيق والمعاصرة.

وهذه النتيجة التي توصل إليها الباحثون من المهمّ أن أوضحها بصورة أفضل، وذلك انطلاقًا من النظرية الاجتماعية التي مفادها بأن «المجتمعات الصناعية التي توجد فيها صناعات ثقيلة -كصناعة السيارات والبواخر والطائرات- لا يؤمن أبناؤها بالدين»، وهي نظرية سائدة في علم الاجتماع يستشهد القائلون بها بأمثلة ونماذج كثيرة.

وتأسيسًا على هذه النظرة في علم الاجتماع كان الرئيس الأندونيسي سوكارنو الذي كانت لديه ميولاً اشتراكية يطمح إلى إبعاد أبناء موطنه عن الدين، لذلك كان يذهب إلى أهمية تحديث أندونيسيا -وهي بلد زراعية من الدرجة الأولى-، وذلك من خلال الاعتماد -في زراعتها- على الآلات والوسائل الحديثة، بمعنى ألَّا يعتمد المزارعون على الأمطار والأمور الطبيعية فقط في ريّ مزارعهم، وبذلك يقل حضور الدين في نفوس الناس، ومن ثَمَّ يُنتزع الإيمان من قلوبهم، وبخاصّة في الأجيال الشابة والصاعدة، ما شجّع سوكارنو على أن يُقدِم على هذه الخطوة، ولكنه لم يصل إلى مبتغاه منها، ولم يستطع انتزاع الإسلام من المجتمع الأندونيسي.

وهو مثال تقريبي لمخطّطات غربية كانت تتوقّع أن إغراق الدول الإسلامية بالوسائل الحديثة وتحديث مجتمعات المسلمين سيكون له الدور الفاعل في تغليب الثقافة الغربية على الإسلام في هذه المجتمعات، ولكن ما فاجأهم هو حضور الفكر الإسلامي في عقر دارهم، فها هو ينتشر في قلب أوروبا التي تحكمها النُّظُم العلمانية.

من هذه الأمثلة الثلاثة أعلاه وسواها نستطيع أن نصل إلى أنَّ فريقًا من المفكرين الغربيين يرون في الحضارة الإسلامية تهديدًا لحضارتهم التي لا تتعايش مع حضارة أخرى تماثلها في الشمولية والقوّة، لذلك يذهبون إلى أحادية الفِكْر والحضارة.

الإسلام الحاضن للحضارات في ظل النظام الواحد

بعد تعرّفنا الموقف الغربي من مسألة تعدّد السُّبُل التي قد تعني النُّظُم أو الحضارات، لابدّ لنا من وقفة أخيرة نتعرّف فيها النظرة الإسلامية من تعدُّد السبُل، ذلك أن الإسلام يفرّق -في نصوصه القرآنية الشريفة- بين هذين المعنيين، إذ لا يتعارض الإسلام وتعدّد الحضارات الإنسانية، فيستوعبها جميعًا في نظامه الشامل، في الوقت الذي لا يقرّ بتعدُّد الأنظمة، يقول تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾، فهي إشارة إلى شمولية النظام الإسلامي، حيث يُستفاد من الآية أن الإسلام يؤمن بتطبيق النظام الذي يسود العالم، وفي ظل الإسلام يمكن أن تتعايش الحضارات الأخرى بالصورة التي لا تصطدم في بعض صورها وتطبيقاتها مع هذا النظام الإسلامي، فيمارس المسيحيون طقوسهم الدينية التي لا تتعارض مع الإسلام، وغيرهم من أتباع الديانات والحضارات الأخرى، باستثناء الوثنية التي لا يقبلها الإسلام دينًا وممارسة.

وهو أمر نفهمه بصورة واضحة من قوله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾، ذلك أن اختلاف اللغات والألوان يفرض نوعًا من اختلاف الحضارات وتعدّدها، وهي ما تَعُدُّه الآية علامةً من علامات القدرة الإلهية وصورة مشرقة في الطبيعة الإنسانية، ولذلك فإن الدين الإسلامي لم يفرض لغةً معينة على معتنقيه، كما ترك للمسلم حريته في كثير من الممارسات الفردية والاجتماعية الناتجة عن الثقافة والبيئة التي نشأ فيها ما لم يتعارض ذلك والأحكام الإسلامية، بل إن القرآن يجعل مسألة تعدّد الثقافات طريقًا إلى التعارف وتلاقح العلوم والمعارف والفنون، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فالشعوب والقبائل هي مجتمعات متعدّدة لكلٍّ منها أعراف وتقاليد وعادات لا يجد الإسلام أي غضاضة من المحافظة عليها واستفادة بقية المجتمعات الأخرى منها، وهي مسألة نجد تأكيدها بصورة أوضح في آيةٍ رابعة، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، حيث يؤكّد المقطع الأخير من هذه الآية أن مسألة الاختلاف فيما بين المجتمعات الإنسانية أمر ينسجم والطبيعة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها.

ثالثًا: الموقف العملي من تعدُّد السُّبُل

يُعدّ القرآن الكريم المصدر الأمثل لتعرُّف مختلف الأنماط الحضارية للمجتمع الجاهلي، ذلك أن الشعر العربي المسمى بديوان العرب لا يصوّر لنا المجتمع الجاهلي في أنماطه الحضارية المتنوّعة، فالقرآن الكريم حينما يستعرض مسألة النظرة الجاهلية للخالق، نجده يفصّل هذه المسألة، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾، حيث تؤكّد هذه الآية إيمان مشركي مكّة بالله خالقًا لهذا الكون، لكنهم يجعلون هذه الأوثان وسائط بينهم وبين الله، فلا يؤمنون به إلهًا معبودًا، ومدبِّرًا لمجريات الحياة اليومية.

وعندما نراجع أدبيات الفلسفة اليونانية القديمة -وهي من أقدم الفلسفات- نجد الفلاسفة اليونانيين يؤمنون بالله خالقًا للكون، ولكنهم لا يؤمنون به مدبِّرًا، حيث تسير شؤون الكون وتخضع لعملية العلل والأسباب المادية الموجودة فيما حولهم من طبيعة. وتوافقهم في ذلك الفلسفة الرومانية، ولذلك وردت في أدبياتها هذه المقولة: «ما لله لله، وما لقيصر لقيصر»، فيؤمنون بأن تدبير الأمور بيد الإنسان الذي يتزعّمه في حينه قيصر الروم.

وعندما نصل إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة، نجدها تؤمن بالله خالقًا، وتؤمن بالأديان الإلهية أيضًا، ولكنها تؤمن بالجانب العبادي من الدين، بحيث تظل بقية الأمور الحياتية المفصلية يتدبرها الإنسان بما يضعه من قوانين ودساتير وأنظمة.

الإسلام في معالجته للنظرة السائدة حول الإله

حينما صدع رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام دينًا جديدًا وسط البيئة الجاهلية التي كانت تؤمن بالله سبحانه خالقًا، وبالأوثان معبودات ومدبّرات لمجريات حياة الإنسان، عالج هذه المسألة بتأكيد صفة التدبير لله تعالى، ووحدة الخلق واستحقاق العبادة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾، فالخلق والتدبير صفتان لله تعالى كما هو مفهوم هذه الآية التي تعضدها آية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، وهي مسألة عقائدية كان الإسلام لا يقرّ للأقوام المنضوية تحت نظامه أن تُجاهر بخلافها.

ولقد كانت الآيات القرآنية الأولى تعالج كثيرًا من القضايا الفكرية، وذلك من أجل تصحيح النظرة حول هذه المسائل. وهذا ما كانت تقوم به الآيات على المستوى الفكري وما يُفترَض بالإنسان اعتناقه والإيمان به، وهذا لا يعني بحال أن يتدخّل الإسلام في المكوّنات الثقافية والحضارية الأخرى، بل على العكس، إذ نجد أن الإسلام -بهذا الخصوص- يقدّم نموذجًا متقدِّمًا في وضع الإنسان الموضع الصحيح، من حيث الطبيعة الإنسانية وما يضطلع به من دور في هذا النظام الكوني الفريد، إذ يعرض عليه العقائد والأفكار للإيمان بها، مع المحافظة على الهوية والبيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها.

موقف الإسلام من الإنسان في الدور والطبيعة

ولبيان الموقف الإسلامي من الإنسان طبيعةً ودورًا بصورة أجلى، نمهّد لذلك ببيان موقف الحضارة الهندية -كمثال- من الإنسان، ذلك أن الحضارة الهندية التي تعدّ من بين أقدم الحضارات الإنسانية حضارة يطغى فيها الجانب الروحي على بقية الجوانب الأخرى، ولذلك تعدّ منبع الفلسفات الغنوصية التي هي تجمّع لأفكار مختلفة يجمعها التركيز على المسألة الروحية والمعنوية في الإنسان، ومنها وفدت على الإسلام الحركات والطرق الصوفية، وهي الحال التي تهمّش الإنسان تمامًا ولا تجعل له دورًا كبيرًا في مجريات الحياة، فالإنسان -وفق مبادئ الحضارة الهندية- مجبر في تصرّفاته وسلوكه العام، وليس له حرية أو إرادة مستقلّة، فإذا أراد الخلاص والراحة النفسية والسعادة المطلقة، عليه أن يفنى في المطلق وفي ذات الله.

ولذلك نجد أن الصوفي -في الثقافة الإسلامية- ينتقل من مرتبة إلى أخرى ومن درجة إلى ما يليها، حتى يصل إلى مرتبة الفناء في الله سبحانه، وذلك عن طريق تأملات وطرق معنوية يسلكها بعيدًا عن الأجواء الاجتماعية التي قد تكون أجواءً مشوِّشةً بالنسبة إليه. ولذلك نجد المتصوّفة أناسًا منعزلين عن واقع الحياة وشوؤنها العامّة.

وعلى العكس من الحضارة الهندية، نجد الحضارة الغربية الممتدة من اليونانية القديمة إلى الحضارة المعاصرة التي تقترب من تأليه الإنسان، فالله -وفق هذه الفلسفة- خلق الكون وترك أمر تدبيره إلى الإنسان، بحيث وصل الإنسان إلى مرحلة يَعُدُّ نفسه قادرًا ومتمكِّنًا من كل شؤون الحياة، وبخاصّة مع ما وصل إليه اليوم من مبتكرات علمية متقدّمة، وهي مسألة يعرضها القرآن الكريم مستنكرًا على الإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة من الثقة المبالِغة في النفس وقدراتها، يقول تعالى: ﴿حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

بينما يعرض الإسلام رؤيةً للإنسان يضعه فيها الموضع الوسط بين التهميش والتأليه، فالإنسان -في الرؤية القرآنية- خليفة الله في الأرض، بمعنى أنه موكَّل على هذه الطبيعة، فيتصرَّف فيها موكَّلاً وليس مستقلاًّ، وذلك وفق وثيقة ومعاهدة بينه وبين الله سبحانه لها بنودها وأحكامها الضابطة لها، وهي ما تعبِّر عنها الرسالات الإلهية ﺑ«الدين».

إن هذه الرؤية التي يقدّمها الإسلام -نظريًّا وتطبيقيًّا- في التعامل مع الحضارات الإنسانية، تضع الإسلام نظامًا وفكرًا له القدرة على قيادة الحياة على هذه الأرض، بمرونة وصلاحية عالية، تعطي للإنسان الأمل في أن يعيش بسعادة وكرامة وهبتها له السماء، ودون مِنّة من نظام أو قوّة مسيطرة، كما هي الحال مع بقية الأنظمة والحضارات الأخرى.