-1-
إقبال.. ونظرية ختم النبوة
حاول الدكتور محمد إقبال ربط فكرة ختم النبوة بتطور دور العقل في الإسلام، وأشار إلى هذه النظرية عند حديثه عن روح الثقافة الإسلامية في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وجاءت في سياق الكشف عن القيمة الثقافية لفكرة ختم النبوة، التي وصفها إقبال بالفكرة الإسلامية العظيمة.
وعند النظر في هذه النظرية، يمكن تحديدها في العناصر التالية:
أولاً: توقف إقبال عند تعريف النبوة، ويرى أنها «ضرب من الوعي الصوفي ينزع ما حصله النبي في مقام الشهود إلى مجاوزة حدوده، وتلمس كل سانحة لتوجيه قوى الحياة الجمعية توجيهاً جديداً، وتشكيلها في صورة مستحدثة، فالمركز المتناهي من شخصية النبي يغوص أغواراً لا نهائية ليطفو ثانية مفعماً بقوة جديدة تقضي على التقديم، وتكشف عن توجيهات للحياة جديدة».
ثانياً: من تعريف النبوة انتقل إقبال إلى مفهوم الوحي وطرق استعماله في القرآن الكريم، فالحق عنده -كما يقول:- «أن الطريقة التي استعمل بها القرآن لفظ الوحي تُبيِّن أنه يعتبر الوحي صفة عامة من صفات الوجود، وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التدرج والتطور في الوجود. فالنبات الذي يزكو طليقاً في الفضاء، والحيوان الذي ينشئ له تطوره عضواً جديداً ليمكنه من التكيف مع بيئة جديدة، والإنسان المستلهم للنور من أعماق الوجود، كل أولئك أحوال من الوحي تختلف في طبيعتها وفقاً لحاجات مستقبل الوحي، أو لحاجات نوعه الذي ينتمي إليه».
ثالثاً: من تحديد مفهوم الوحي، انتقل إقبال إلى ربط ظاهرة النبوة بمراحل تطور البشرية نفسيًّا واجتماعيًّا، حيث يرى إقبال أن «في طفولة البشرية تتطور القوة الروحانية إلى ما أسميه الوعي النبوي، وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي، والاختيار الشخصي، وذلك بتزويد الناس بأحكام واختيارات وأساليب للعمل أُعدت من قبل».
رابعاً: عند حديثه عن مراحل تطور البشرية، توقَّف إقبال عند مرحلة مولد العقل، حيث يرى أن «الوجود أخذ بمولد العقل، وظهور ملكة النقد والتمحيص تكبت الحياة، رعاية لمصلحتها، التكوين والنمو لأحوال المعرفة التي لا تعتمد على العقل، والتي فاضت القوى الروحانية خلالها في مرحلة مبكرة من مراحل تطور الإنسانية، والإنسان محكوم أساسيًّا بالعاطفة والغريزة. أما العقل الاستدلالي، وهو وحده الذي يجعل الإنسان سيداً لبيئته، فأمر كسبي؛ فإذا حصلناه مرة وجب أن نثبت دعائمه ونشد من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه».
خامساً: في إطار فكرة التطور، حاول إقبال النظر إلى النبوة في الإسلام من زاوية العلاقة ما بين العالم القديم والعالم الحديث، وفي نظره «أن العالم القديم قد أخرج للناس بضعة مذاهب فلسفية عظيمة، عندما كان الإنسان على الفطرة الأولى نسبيًّا يكاد يحكمه الإيحاء، ولكن يجب ألا ننسى أن قيام هذه المذاهب في العالم القديم، كان من عمل التفكير المجرد، وهو لا يعدو أن يكون تنسيقاً لمعتقدات دينية غامضة، ولتقاليد اصطلح عليها الناس، دون أن يجعل لهم سلطاناً على أوضاع الوجود المحسوس».
ومن هذه الزاوية، يبدو لإقبال أن نبي الإسلام «يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها، فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم اتجاهها الجديد، ومولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي».
سادساً: مع مولد الإسلام ومولد العقل الاستدلالي، يقترب إقبال من فكرة ختم النبوة، حيث يرى أن «النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو».
سابعاً: إن ختم النبوة كشفت عنها وترتبت عليها -في نظر إقبال- العديد من الصور، وحسب رأيه أن «إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل وللتجربة على الدوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية؛ كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة».
ثامناً: إن فكرة انتهاء النبوة، لا تعني في نظر إقبال توقف أو انقطاع الرياضة الصوفية، التي يرى أنها تمثل حقيقة من حقائق الحياة، وحسب قوله: إن فكرة انتهاء النبوة «ليس معناها أن الرياضة الصوفية، وهي لا تختلف من حيث الكيف عن النبوة، قد انقطع وجودها الآن بوصفها حقيقة من حقائق الحياة. والحق أن القرآن يعد الأنفس والآفاق مصادر للمعرفة، فالذات الإلهية ترينا آياتها في أنفسنا وفي العالم الخارجي على حد سواء، ولهذا وجب على الإنسان أن يحكم على كفاية كل ناحية من نواحي التجربة في إفادة العلم».
تاسعاً: إذا كانت فكرة ختم النبوة، قد ارتبطت في الإسلام بمولد العقل الاستدلالي، فإن هذا لا يعني -في نظر إقبال- إحلال العقل محل الشعور إحلالاً كاملاً، وحسب قوله: إن فكرة انتهاء النبوة لا ينبغي أن «يفهم منها أنها تفرض أن مصير الحياة في نهايةٍ، هو إحلال العقل محل الشعور إحلالاً كاملاً. فمثل هذا ليس ممكناً ولا مرغوباً فيه، إنما قيمة هذه الفكرة من الناحية العقلية هي في اتجاهها إلى خلق نزعة حرة في تمحيص الرياضة الصوفية، إذ تجعل الإنسان يعتقد أن كل سلطان شخصي يزعم أن له أصلاً خارقاً للطبيعة قد فات أوانه في تاريخ البشر. ومثل هذا الاعتقاد قوة سيكولوجية تحول دون نمو مثل هذا السلطان، وعمل هذه الفكرة هو أنها تفتح سبيلاً جديداً للمعرفة في ميدان الرياضة الروحية عند الإنسان».
هذه هي ركائز وأركان نظرية إقبال في ختم النبوة، بأقواله ونصوصه الواردة في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وعلاقتها بتطور مفهوم العقل في الإسلام.
وقد أثارت هذه النظرية نقاشاً جدليًّا ونقديًّا واسعاً في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، إذ تعددت حولها وتباينت المواقف ووجهات النظر، بين من وجد فيها فرصة للدفاع عن العقل والعقلانية، وبين من وجد فيها إخلالاً في توازن العلاقة ما بين الوحي والعقل.
والملاحظ أن النصيب الأكبر من هذا النقاش الجدلي والنقدي، حصل في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر في إيران، حيث يتمتع إقبال هناك بحضور وتأثير فكري وأدبي يفوق ما هو عليه في المجال العربي، وساعد على ذلك أن إقبال اعتمد اللغة الفارسية في نظم العديد من قصائده الشعرية، القصائد التي لقيت صدى وإعجاباً عند الإيرانيين، الذين عرف عنهم تذوقهم للشعر، ومن هذه النافذة الأدبية ولج إقبال إلى ساحة الفكر والأدب هناك.
-2-
شريعتي.. ونظرية ختم النبوة
أظهر الدكتور علي شريعتي في إيران، تأييداً واضحاً لنظرية إقبال في ختم النبوة، ويعد إقبال من الشخصيات التي تأثر بها شريعتي، وكشف شريعتي عن علاقته وتأثره بإقبال في كتاب خصصه عنه بعنوان (نحن وإقبال)، وهناك من يرى أن شريعتي كان مولعاً بإقبال، ويعتبره نموذجاً رائعاً في القرن العشرين.
ومن هذه الجهة، يعد الدكتور شريعتي أحد أبرز المفكرين الذين عرَّفوا بإقبال: فكره وأدبه وشخصه، في المجال الفكري والأدبي الإيراني، وأحدث تموُّجاً لأفكاره وأشعاره ومقولاته، ومنها نظرية ختم النبوة التي أسهم شريعتي في إثارة النقاش الجدلي والنقدي عنها في ساحة الإيرانيين.
لم يتوسع شريعتي كثيراً في الحديث عن هذه النظرية، ولم يفرد لها كتاباً أو فصلاً في كتاب، وإنما تطرق إليها مرات عدة في كتاباته ومحاضراته، وأشار إليها في كتابيه (معرفة الإسلام)، و(العودة إلى الذات)، وهذان الكتابان هما من أشهر مؤلفاته، وأكثرهما اهتماماً عند الآخرين، إلى جانب كتاب (التشيع العلوي والتشيع الصفوي).
ولعل من السهولة حصر النصوص التي تشرح وجهة نظر شريعتي في هذا الشأن، وسوف تساعد هذه النصوص على تكوين المعرفة برؤيته، وبطريقته في التعبير عن هذه الرؤية من الناحية البيانية واللسانية، وهذه النصوص تكاد تتحدد في نصين أساسيين هما:
النص الأول: «أن النبي عندما يصف نفسه بأنه خاتم الأنبياء، لا يريد القول بأن ما قاله يكفي البشرية إلى الأبد، بل مراده من الخاتمية أن الإنسانية كانت إلى ذلك الحين محتاجة إلى هدايتها من قبل ما وراء الطبيعة والتربية البشرية، أما الآن، أي في القرن السابع الميلادي، وبعد ازدهار الحضارة اليونانية والرومانية ومن ثم الإسلامية، وبعد نزول التوراة والإنجيل وعلى أثرهما القرآن؛ فقد تلقَّت البشرية ما يكفي من التعاليم الدينية، ولم تعد هناك ضرورة للمزيد ممَّا وراء الطبيعة، فالإنسان قادر، من الآن فصاعداً وبدون الوحي، على سلوك طريقه في الحياة دون الحاجة إلى نبي جديد، وهذا معنى الخاتمية، أي أنه لا رسول بعد اليوم، انطلقوا بالاعتماد على أنفسكم».
النص الثاني: «في الإسلام أفهم الخاتمية على أساس أن الرسالة التي تعهد الأنبياء بها بين أقوامهم حتى الآن، على المفكرين أن يواصلوها من الآن فصاعداً. لكن ليس هذا الصنف من المفكرين الذي يملك معلومات في أحد فروع العلوم، بل هذا الصنف من المفكرين الذي يتمتع بشعور النبوة، الشعور الذي دفع المهاجرين المنحطين الوثنيين المتفرقين في منطقة بين النهرين، إلى طريق وضع أساس أعظم حضارة، وثقافة مادية ومعنوية قديمة، وهو الشعور الذي نجَّى قوماً أذلاء جُبلوا على العبودية والخضوع لفرعون، والعبودية لأمة غريبة، وجعلهم صُنَّاعاً جديرين بالثقافة العظيمة الفياضة في فلسطين، وهو الشعور الذي نفخ روحاً لطيفة، وهادئة، وإنسانية في مسارح القتل، والقسوة في المجتمع الروماني، وميادين المصارعين المخزية، وقصور قيصر السوداء المظلمة الظالمة محترفة الجريمة، وسَمَت بمواطن القسوة، والدم، والسلاح إلى مستوى العاطفة والإيمان، والروحانيات، وفي النهاية هو الشعور الذي جعل من بدو غلاظ ومغمورين وبدائيين في صحراء ما؛ بناة لأعظم حركة عالمية، وأعظم حضارة، وثقافة في التأريخ الإنساني.
هذا الشعور الإنساني الخاص، وما فوق العلمي، هو محول الإنسان والمجتمع، وعلاوة على منبعه الميتافيزيقي يمكن -كوعي ذاتي خلاق ومسؤول- أن يواصل كذلك حياته وحركته، ودوره في خلق الإنسان وبناء المجتمع، والمقصود به المفكرون الذين يتعهدون بمثل هذه الرسالة الصعبة والخطيرة، وينبغي عليهم أن يمسكوا بزمام تأريخ الغد في أيديهم».
وما يريد الدكتور شريعتي قوله في هذا النص، أن في «عصر الوحي كان هناك الرسل، وبعد ختم الوحي بدأ عصر الفكر، أي عصر المفكرين».
وإذا كانت هناك نصوص أخرى، فعلى الأغلب أنها تدور في فلك هذين النصين، ولا تخرج عليهما أو تتجاوزها.
والنص الأول هو الذي أثار نقاشاً وجدلاً، اختلافاً واعتراضاً عند البعض، أما النص الثاني فكان بعيداً عن ساحة الجدل والنقاش. ومن جهة أخرى فإن النص الأول أسبق زمناً وتاريخاً من النص الثاني. وهما في الأصل نصين شفهيين، فالنص الأول جاء جواباً على سؤال أثناء الدروس والمحاضرات التي ألقاها شريعتي على طلبة كلية الأدب بجامعة مشهد خلال العام الدراسي 1966 - 1967م، والنص الثاني ورد في محاضرة ألقاها شريعتي في حسينية الإرشاد بطهران التي افتتحت سنة 1969م، وأغلقت سنة 1973م.
وعندما أشار شريعتي إلى النص الأول ذكَّر بكلام إقبال، لكنه اعتبر أن هذا النص يمثل رأياً شخصيًّا له، وأنه مسؤول عنه. والمعترضون على هذا النص وجدوا فيه دعوةً لتحجيم دور الوحي، وإخلالاً لدور الدين ومكانته في الحياة.
-3-
البهشتي.. ونظرية ختم النبوة
ألقى الدكتور محمد البهشتي محاضرتين على طلبة مدرسة الحقانية في مدينة قم الإيرانية، تناولتا الحديث عن الدكتور شريعتي وموضوع الخاتمية، ونُشرتا لاحقاً في كتاب حمل عنوان: (الدكتور علي شريعتي باحث على طريق التكامل).
في هاتين المحاضرتين شرح الدكتور البهشتي أن الباعث عليهما هو ما أثاره الشيخ مصباح اليزدي من اعتراضات على الدكتور شريعتي، إذ خصص الشيخ اليزدي حديثاً وحواراً مع بعض طلبة مدرسة الحقانية لنقد كتابات شريعتي، وحدَّد ثلاثة انتقادات تتعلَّق بثلاثة موضوعات عقائدية، هي النبوة والإمامة والمعاد، وكان في مقدمة هذه الانتقادات قضية الخاتمية، وما يتصل بالوحي ودور الأنبياء.
وحسب شرح الدكتور البهشتي فإن الشيخ اليزدي اعتبر أن شريعتي ذهب في تلك القضايا الثلاث إلى ما يخالف الأسس الثابتة والأكيدة للشرع الإسلامي، ودعا الطلبة الذين استمعوا إليه إلى المطالعة والتحقيق والبحث في هذه الموضوعات والقضايا، وطلب منهم إذا توصلوا إلى النتائج نفسها التي توصل إليها الشيخ اليزدي، شاطروه الموقف في إماطة اللثام عن الأفكار الباطلة لشريعتي، تفعيلاً للواجب الديني المُلقى على عاتقهم، وأما إذا وجدوا أن موقف الشيخ اليزدي كان خطأ فعليهم أن يلفتوا نظره إلى هذا الأمر، كي يعزف عن متابعة البحث فيه.
وحين رجع إليه الطلبة أنفسهم الذين استمعوا من قبلُ لكلام الشيخ اليزدي، طالبين معرفة رأيه، خصص الدكتور البهشتي محاضرتين في هذا الشأن.
وعند النظر في هاتين المحاضرتين، يمكن تحديد رؤية الدكتور البهشتي وموقفه في ثلاثة أبعاد، هي:
البعد الأول: له علاقة بالطريقة والأسلوب في التعامل مع الأفكار والأشخاص. ومن هذه الجهة يرى الدكتور البهشتي ضرورة أن يكون الحوار والنقاش في أجواء هادئة، وبعيداً عن الضجيج، حتى يجري تبادل الرؤى بصورة منطقية وبنَّاءة، خاصة في المؤسسات التي تتطلع إلى إدارة شؤونها بروح إسلامية، مع تأكيده على تعويد الذات بالحديث الهادئ والمنطقي، وأن يكون الإنسان مهتماً بالحق، وحريصاً في كلامه وسلوكه ومواقفه لئلا يتضرر الحق بسببه، مع أن الحق لا يتضرر.
البعد الثاني: له علاقة بطريقة تكوين المعرفة بفكرة ختم النبوة، ومن هذه الجهة تساءل الدكتور البهشتي: ما الشيء الذي اختُتم في ختم النبوة؟
وتحددت إجابته عن هذا السؤال، في نقاط أربع هي:
1- إن ختم النبوة تعني أن عملية تلقي النداء الإلهي للخلق وإبلاغه إياهم قد انتهت، ولم يعد هناك أحد يتلقَّى الوحي من الله تعالى، ويُبلِّغه للناس بعد نبي الإسلام.
2- النبي نذير وبشير، والإنذار والتبشير القائمان بوجود النبي وفي مستواه، هما أمر قائم بذاته، لكن أصل الإنذار والتبشير ليس كذلك، فهما يقعان على عاتق الجميع وعلى كل واحد.
3- النبي يتمتع بقوة جذب، فهو أسوة يخلق بإيمانه وعمله وتقواه نوعاً من الجاذبية لا تنتهي بختم النبوة، وعلى كل مسلم وخاصة من يرى في نفسه ودوره منزلة من مراتب الهداية والقيادة أن يكون له شيء من الجاذبية التي تقرّب الناس إلى الله تعالى.
4- إن النبي جاء بشريعة جديدة وكتاب جديد، وهذا الدور قد انتهى بالتأكيد مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لا وجود لأي شخص بعد رسول الإسلام يأتي بشريعة جديدة وكتاب إلهي، وهذا هو الدور المختص بالخاتمية.
البعد الثالث: له علاقة بطريقة فهم كلام الدكتور شريعتي، ومن هذه الجهة توقَّف الدكتور البهشتي أمام النص الأول السالف الذكر للدكتور شريعتي، وطرح تساؤلات حول ما هو مراد صاحب هذا النص؟
وتابع الدكتور البهشتي بقوله: إذا كان مراد المتكلم القول بأن القضايا التي كانت تحل في عهد النبي عن طريق الوحي لا بد من حلها اليوم عن طريق التفكير والتدبر، فهذا أمر مفهوم، ولا يستدعي وضع علامة الانحراف أمامه.
وإذا كان المراد منه القول بأن البشرية بلغت مرحلة لا تحتاج معها إلى ما جاء به الأنبياء، فهذا كفر وإلحاد وزيغ عن القرآن الكريم. وما يعترض هذا الأمر هو كيف نُوفِّق بين هذا المراد وبين من يستند في كلامه وكتاباته ونشاطاته إلى الإسلام والقرآن الكريم وأقوال أئمة الدين؟
وعن رأيه الشخصي يرى الدكتور البهشتي أنه لم يفهم من النص المذكور معنى الارتداد والانحراف، وحتى من عبارة «العقل يحل محل الوحي»، فهل هو في الأمور كافة؟ أم أنه يحل محله في الأمور التي كان للوحي فيها قول الفصل سابقاً؟ وهي الآن غير موجودة حتى يقول الوحي فيها رأيه؟
وأما عن علاقة الخاتمية بالتكامل العقلي فإن من المستحيل -حسب قول البهشتي- فهم معنى الخاتمية بمعزل عن التكامل العقلي، وهذا ما يقوله المعترضون أيضاً. ويضيف البهشتي: أليس الاستدلال الشائع يقول: إن البشرية طوت من قبلُ مراحل من التكامل الثقافي والعقلي حتى بلغت مرحلة ظهر فيها النظام الأخير، ومعنى هذا أن التكامل العقلاني للبشرية له مدخلية في معنى الخاتمية.
-4-
الطباطبائي.. ونظرية ختم النبوة
نشر السيد محمد حسين الطباطبائي بحثاً قصيراً حول ختم النبوة، كان واضحاً عليه تركيزه على نقد كلام الدكتور شريعتي من دون أن يسميه، بل إن البحث جاء خصيصاً لنقد كلامه ومتمحوراً حوله، ومستنداً إليه.
أو أنه جاء جواباً عن سؤال تعلَّق بكلام الدكتور شريعتي، الذي أثار في وقته جدلاً ونقاشاً، وتحدَّد هذا السؤال في هل أن مآلات الخاتمية تعني بالتحديد الإعلان عن عصر العقل، بالشكل الذي يكون فيه العقل بديلاً عن الوحي؟
وقبل أن يبدي السيد الطباطبائي رأيه حول هذا السؤال، توقف عند طبيعة الاستدلال الذي يتقوم به كلام الدكتور شريعتي، وحسب رأي السيد الطباطبائي فإن هذا الاستدلال يقوم على «أن الإنسان يخضع كسائر أنواع الوجود الأخرى إلى مسيرة التكامل، وخلال هذه المسيرة تكتسب المجتمعات البشرية بمرور الزمان وتبدل الأعصار أوضاعاً وجودية خاصة تنتج بدورها شروطاً جديدة تدعو إلى بروز احتياجات تربوية معينة.
وهكذا تتطلب كل مرحلة من مراحل التكامل الإنساني نمطاً حياتيًّا يتسق مع شروط المرحلة واحتياجاتها، وبالتالي فإن كل مرحلة ستكون بحاجة إلى تكاليف وأحكام دينية جديدة تنسجم مع شروطها وتشبع حاجاتها.
ومعنى ذلك تحديداً أننا لا نستطيع أبداً أن نفترض وجود دين أو صيغة حياتية معينة يتسمان بالاستمرار والأبدية، وهذا ينسحب على الإسلام نفسه الذي لا يمكن أن يكون دائماً أبديًّا».
ومن الواضح -في نظر السيد الطباطبائي- أن هذه النتائج هي حصيلة طبيعية تترتب على المساق لختم النبوة، فمفهوم الخاتمية بالمعنى المشار إليه يفترض «أن الإنسان قبل البعثة يتسم بالضعف العقلي والإدراكي، بحيث كان بحاجة في حياته إلى الهداية المستمدة مما وراء العقل -الغيب، الوحي، السماء، النبوة-، بيد أنه مع النبوة الخاتمة -القرن الميلادي السابع- أصبح أمام تراكم حضاري ديني بلغ به درجة النضج العقلي من ناحية، وجعله مستغنياً عن الوحي والنبوة من ناحية الثانية.
فعلى الخط الحضاري شهد الإنسان حضارات اليونان والروم، وعاصر ولادة الحضارة الإسلامية. وعلى الخط الديني نزلت إلى البشر الكتب السماوية من توراة وإنجيل وقرآن؛ فتشبع الإنسان بهدي الوحي والتربية ما فوق البشرية، وبلغ مرتبة من الرشد العقلي يستغني بها عن النبوة والوحي، وهكذا أصبح بمقدور الإنسانية أن تواصل مسارها الحياتي بالاعتماد على ذاتها وقدراتها العقلية والإدراكية، معلنةً بذلك انتهاء عصر الوحي في مقابل بداية عصر العقل».
هذه الرؤية بمقدماتها ونتائجها لا يمكن التسليم بها في نظر السيد الطباطبائي، وهي في تصوره بحاجة إلى نقد ونقاش من الجهات التالية:
أولاً: كما أننا لا نستطيع أن نشك في أن الإنسان يتحرك على الصعيد الفردي والاجتماعي في إطار مسيرة التكامل، فإننا لا نستطيع أن نشك أيضاً في أن هذا الإنسان محدود من الوجهة الواقعية، وأن مساره التكاملي لا يمكن أن يكون أمراً غير متناهٍ من الوجهتين الكمية والكيفية، فالتكامل مهما بلغ من السعة والتفصيل لا يمكن أن نفترضه لا متناهياً، بل لا بد له أن يتوقف حين يبلغ مداه ونهايته.
وفي المحصلة الأخيرة لا بد أن نصل في المرحلة التي يبلغ فيها التكامل نهايته ومداه إلى منهج حياتي ثابت، ومنظومة مستقرة غير متغيرة تحكم حياة الإنسان.
ومن هنا نستنتج أن مسيرة التكامل الإنساني هي بنفسها دليل على ضرورة تحقق الدين الثابت الأبدي، وليست دليلاً على نفي وجود مثل هذا الدين.
ثانياً: إن وضع حضارة اليونان والروم على صعيد واحد، مع معطيات تربية السماء للإنسان وإمداده بهداية ما وراء العقل، هو أمر يتنافى مع صريح القرآن الكريم، فتلكما الحضارتان هما محصلة لأفكار وثنية، وعبوديات زائفة، وقوانين وضعية، بحيث وصفهما القرآن بالضلال، ونعت منهجهما بالهلاك.
وحتى ما كان من أعمال تلك الحضارتين يبدو بصورة الأعمال الصالحة، فقد عدها القرآن ضرباً من ضروب الإحباط والباطل الذي لا أثر له سوى الضلال، والآيات الدالة على ذلك كثيرة.
ومن الواضح أن حضارة مثل هذه لا يمكن أن تدخل التراث الإنساني كدليل للهداية، أو تكون معطياتها معياراً يوصل الإنسان للسعادة.
ثالثاً: ثمة تناقض صريح في الرؤية المطروحة، فمن جهة ترى تلك الرؤية، أن العقل الإنساني شهد بدءاً بالقرن الميلادي السابع -بداية البعثة النبوية لخاتم النبيين- نضجاً بلغ به درجة الرشد والتكامل، بحيث أضحى الإنسان مستغنياً عن شريعة السماء وهداية الوحي، ثم نُذعن من جهة ثانية بظهور البعثة ومجيء الشريعة الخاتمة، فإذا كان العقل الإنساني بلغ كماله ورشده، فما الحاجة إذاً لانبثاق الدعوة الجديدة، وظهور الشريعة الخاتمة، هذه الشريعة التي يصفها القرآن الكريم بأنها أسمى الشرائع وأشملها، وأكثرها اكتمالاً من الشرائع السماوية السابقة.
-5-
المطهري.. ونظرية إقبال
توقف الشيخ مرتضى المطهري باهتمام عند نظرية إقبال في ختم النبوة، وشرحها وناقشها بطريقة نقدية في كتابه (الوحي والنبوة)، واعتبر الشيخ المطهري أن إقبال مع جميع النقاط الدقيقة التي انتفع بها كثيراً في الموضوعات الإسلامية التي عالجها وتطرق إليها في كتبه، إلا أنه قد أخطأ في تبرير فلسفة ختم النبوة وتفسيرها.
وبعد أن عدد الشيخ المطهري أركان هذه النظرية وأصولها، كما شرحها إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وجد أن من المؤسف -حسب قوله- أن تكون هذه الفلسفة مجروحة وغير صحيحة في كثير من أصولها. وتحددت ملاحظاته وانتقاداته في النقاط التالية:
أولاً: إذا كانت نظرية إقبال صحيحة، لم يكن عدم الحاجة إلى وحي جديد ونبي جديد فحسب، بل لا حاجة مطلقاً لتوجيه الوحي؛ لأن توجيه العقل التجريبي قد حل محل توجيه الوحي. وإذا كانت هذه الفلسفة صحيحة فهي فلسفة ختم الدين لا ختم النبوة، وأن عمل الوحي الإسلامي يكون فقط إعلان انتهاء دور الدين وبدء دور العقل والعلم. ولم يكن هذا الموضوع مخالفاً لضرورة الإسلام فحسب، بل هو مخالف لنظرية إقبال نفسه.
إن جميع مساعي إقبال تتركز في أن العلم والعقل واجبان للمجتمع البشري، ولكنهما غير كافيين، فالبشر يحتاج إلى الدين والإيمان الديني بقدر ما يحتاج إلى العلم.
هذه النظرية المشوبة بالخطأ -في نظر المطهري- حصلت بسبب الاستنتاج الخاطئ في اعتبار أن حاجة البشر إلى الوحي والأنبياء هي من نوع حاجة الطفل إلى معلم الصف، فالطفل يرقى كل سنة إلى صف أعلى، ويستبدل المعلم بمعلم آخر، فالبشر أيضاً يتقدم إلى مرحلة عليا دوراً فدوراً وتتغير شريعته وقانونه، والطفل يصل إلى آخر صف ويأخذ شهادة التخرج، ومن ثم يبادر بنفسه إلى التحقيق مستقلاً عن المعلم والأستاذ، والبشر أيضاً يأخذ شهادة التخرج وعدم الحاجة إلى كسب العلم الكلاسيكي في دور الخاتمية بإعلان ختم النبوة، ويبادر بنفسه مستقلاً إلى التحقيق بدراسة الطبيعة والتاريخ، وهذا معنى الاجتهاد، إذاً فختم النبوة يعني وصول البشر إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي.
ويرى المطهري أن مثل هذا التفسير لختم النبوة خطأ دونما شك، وأن نتائج هذا النوع من التفسير حول ختم النبوة هي أشياء لا إقبال يقبلها، ولا الأشخاص الذين استنتجوا مثل هذه النتائج من كلام إقبال.
ثانياً: إذا كانت نظرية إقبال صحيحة، كان من الواجب أن ينتهي أيضاً ذلك الشيء الذي يسميه إقبال التجربة الباطنية، مكاشفات أولياء الله؛ لأن الفرض على أن هذه الأمور من نوع الغريزة، وبمجرد ظهور العقل التجريبي فإن الغريزة، التي هي توجيه من الخارج، تخمد. والحال أن إقبال بنفسه يصرح بأن التجربة الباطنية باقية إلى الأبد، وفي رأي الإسلام أن التجربة الباطنية هي إحدى مصادر المعرفة الثلاثة، ولإقبال نزعة عرفانية شديدة، ويعتقد كثيراً بالإلهامات المعنوية، ويرى أن إلهامات أولياء الله وكراماتهم ومكاشفاتهم لم تنتهِ بانتهاء النبوة، ولكن حجيتها الماضية واعتبارها قد انتهيا.
كانت المعجزة والكرامة في الماضي -عندما كان العقل التجريبي لَمَّا يولد بعدُ- سنداً طبيعيًّا تماماً، وموضوع قبول لا يقبل التشكيك، ولكن هذه الأمور لا حجية لها، ولا سند بالنسبة إلى الإنسان الناضج الواصل إلى الكمال العقلي، إنسان دور الخاتمية، ويجب أن توضع موضع التجربة العقلية كأي حادثة أو ظاهرة أخرى، كان عصر ما قبل الخاتمية عصر المعجزة والكرامة، أي إن المعجزة والكرامة كانتا قد سيطرتا على العقل، ولكن عصر الخاتمية هو عصر العقل، ولا يأخذ العقل النظر إلى الكرامة دليلاً على شيء، إلا أن يكشف صحة حقيقة مكشوفة عن طريق الإلهام واعتبارها وفقاً لموازينه.
ويرى الشيخ المطهري أن هذا الجزء من كلام إقبال مجروح أيضاً، سواء من ناحية دور ما قبل الخاتمية، أم دور ما بعد الخاتمية.
ثالثاً: يرى الشيخ المطهري أن اعتبار إقبال الوحي نوعاً من الغريزة كان خطأ، وترتبت عليه أخطاء أخرى، فإقبال يرى أن الغريزة لها ميزة طبيعية لا اكتسابية ولا شعورية، وهي أقل مرتبة من الحس والعقل، وقد أودعها في الحيوانات قانون الخلقة في المراحل الأولى لحياة الحيوان الحشرات وما يقل عنها، وتضعف الغريزة وتخمد بنمو الهدايات العليا في المراتب الحس والعقل، لهذا فإن الإنسان الذي يعتبر أغنى الحيوانات من ناحية التفكير، أضعفها من ناحية الغريزة.
وهذا بخلاف الوحي الذي هو هداية خارجة عن نطاق الحس والعقل، بالإضافة إلى أنه اكتسابي إلى حد كبير، وأكثر من ذلك أنه في أعلى درجة من الوعي، وجانب وعي الوحي أسمى من الحس والعقل بمراتب لا توصف، والفضاء الذي يكتشف عن طريق الوحي أوسع وأعمق من الفضاء الذي يتمكن العقل التجريبي من اكتشافه.
وفي نظر المطهري أن إقبال لو كان يدقق ويتعمق بصورة أكثر في آثار أولئك الذين يكنّ لهم الاحترام، لعلم أن الوحي ليس من نوع الغريزة، فهو روح وحياة أسمى من الروح والحياة العقلية.
رابعاً: يرى الشيخ المطهري أن إقبال واجه الخطأ نفسه الذي واجهه عالم الغرب، ولكن الطريق الذي سلكه في فلسفة ختم النبوة يصل إلى هذه النتيجة. وقد عرف إقبال الوحي بأنه نوع من الغريزة، ويدَّعي أن واجب الغريزة ينتهي بعمل جهاز العقل والفكر، وتخمد الغريزة نفسها. هذا الكلام صحيح إذا كان جهاز التفكير يسلك الطريق نفسها التي كانت الغريزة تسلكها. ولكن إذا فرضنا أن للغريزة واجباً ولجهاز التفكير واجباً آخر، لا يبقى دليل لعطل الغريزة بعد عمل جهاز التفكير. إذاً لنفرض أننا اعتبرنا الوحي نوعاً من الغريزة، ونعتبر عمل هذه الغريزة عرض نوع من النظرة للعالم والفكرة التي لم تكن صنيعة العقل والتفكير، فلا دليل لانتهاء عمل الغريزة بنمو العقل البرهاني والاستقرائي على حد تعبير العلامة إقبال نفسه.
بعد هذه الملاحظات النقدية على نظرية إقبال في ختم النبوة، أبدى الشيخ المطهري انطباعاً أو تقييماً لشخصية إقبال، وحسب رأيه أن «العلامة إقبال بكل نبوغه وشخصيته وتحرقه الإسلامي، يُبتلى أحياناً ببعض الأخطاء الفاحشة على أثر أن ثقافته ثقافة غربية، والثقافة الإسلامية هي ثقافته الثانوية، أي إن دراساته كلها كانت في الفروع الغربية، وله في الثقافة الإسلامية، لا سيما الفقه والعرفان وقليل من الفلسفة، مطالعات فقط. وقد أشرنا، في الجزء الخامس من أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، إلى قصور فكرة إقبال في الموضوعات الفلسفية العويصة».
-6-
سروش.. ونظرية إقبال
جدد الدكتور عبد الكريم سروش النقاش الجدلي والنقدي حول نظرية إقبال في ساحة الفكر الديني في إيران، ووسّع من دائرته، ورفع من وتيرته، وظهر في موقف المساند لإقبال، والناقد لرؤية الشيخ المطهري وموقفه من إقبال، وطريقة تحليله لنظرية ختم النبوة.
وشرح الدكتور سروش رؤيته لنظرية إقبال في كتابه (بسط التجربة النبوية). وعند النظر في هذه الروية، يمكن تحديدها في ثلاث جهات: جهة تتصل بشرح نظرية إقبال، وجهة ثانية تتصل بنقد رؤية الشيخ المطهري، وجهة ثالثة تتصل برؤيته هو لنظرية إقبال.
عن الجهة الأولى التي تتصل بشرح نظرية إقبال، يرى الدكتور سروش أن إقبالاً هو أول شخص بحث مسألة ختم النبوة على المستوى الفلسفي والتاريخي، وذكر نقاطاً مهمة في هذا الباب، وكان صريحاً جدًّا، ولم يستخدم أدوات الاحتياط إطلاقاً.
وفي شرحه لهذه النظرية، يقول الدكتور سروش: إن إقبالاً يرى أن البشرية مرت بمرحلتين، المرحلة الأولى التي كانت واقعة تحت سيطرة الغرائز، والمرحلة الثانية عندما ازدادت قوة العقل وتغلبت على الغريزة، وحينئذ أصبحت البشرية تتحرك في خط الرشد وبقيادة العقل لا بقيادة الغريزة، وهذا لا يعني أن الغرائز تعطلت تماماً، بل إن مرحلة جديدة في حياة البشر قد بدأت من خلال سيطرة العقل الاستقرائي على حد تعبير إقبال، ولهذا السبب انتهت المرحلة التي اقتضت بعث الأنبياء في العصور السالفة، وقد وصلت البشرية إلى مرحلة لا تحتاج فيها إلى قيادة نبي، ولا هي قادرة على خلق نبي.
ومن خلال هذه الرؤية، فإن نبي الإسلام يقف برزخاً بين مرحلتين في التاريخ البشري، فمن حيث المبدأ والمنبع فإن خطابه يرتبط بالعالم القديم، وأما من حيث المحتوى والمضمون فيرتبط بالعالم الجديد، إن منبع خطابه النبوي هو من جنس الوحي، والوحي بدوره -كما يرى إقبال- هو من جنس الغريزة ولكن مضمونه ومحتواه خطاب عقلاني، أي إنه يدفع بالإنسان والبشرية لسلوك خط العقلانية والاستفادة من العقل الاستقرائي، والتأمل في عالم الطبيعة والتاريخ فيما يمثلانه من مصدرين مستقلين للمعرفة البشرية.
فعند ظهور هذه التأملات والمفاهيم ووصول العقل إلى مرتبة الحجية انتهت حجية الغريزة أو الوحي فيما يمثله من مصدر معرفي للإنسان، وكما يقول إقبال: إن هذا المعنى يعد من كمال النبوة حيث أدرك النبي لزوم ختم نبوته، وأن عليه أن ينسخ نفسه، أي إنه أدرك هذه الحقيقة وهي أن التاريخ البشري لا يتحمل بعد الآن ظاهرة النبوة، وقد بدأت مرحلة العقلانية بالظهور، وينبغي للإنسان أن ينظر إلى مضامين الوحي والتجارب الدينية بل إلى جميع المعارف البشرية برؤية نقدية، ولذلك انتهت المرحلة التي كان الأنبياء والأولياء يستمدون ولايتهم على الناس من السماء.
لم يقنع إقبال بحدود هذا الرأي، بل تجاوزه إلى القول بأننا نحن المسلمين نُعتبر من أكثر الناس في العالم حرية على مستوى الدين؛ لأننا نعتقد بختم النبوة، ولا نجلس بانتظار المصلح السماوي ليعود إلينا مرة أخرى، ويصحح أخطاءنا ومسيرتنا، ويأخذ بأيدينا كالأطفال في خط الصلاح والمسؤولية، ومن هنا نجد باب النقد مفتوحاً أمامنا، وعين عقلانيتنا بصيرة فلا يوجد أي رأي أو فتوى أعلى وأقوى حجية من فتوى العقل. إن إلغاء الكهنوت وسلطنة المؤسسة الدينية شاهدة على هذا المعنى وملازم للقول بختم النبوة، لأن مرحلة الهداية المباشرة قد انتهت، والإنسان المعاصر يستطيع من خلال الاستفادة من التراث البشري أن يقود سفينته رغم تحديات الظروف الصعبة، ويوصلها إلى ساحل الأمان في حركة الواقع.
وعن الجهة الثانية التي تتصل بنقد رؤية الشيخ المطهري، يرى الدكتور سروش أن الشيخ المطهري لم يحالفه التوفيق في فهم رأي ونظرية إقبال، فكان نقده لهذه النظرية مجانباً للصواب.
وعند النظر في ملاحظات سروش على نقد المطهري لنظرية إقبال، يمكن تحديد هذه الملاحظات في النقاط التالية:
أولاً: يرى سروش أن المطهري قد تحوّل في موقفه تجاه إقبال، من موقف التمجيد والتقدير إلى موقف الطعن والتجريح. وحسب رأيه أن المطهري ألقى سنة 1968م بعض المحاضرات في حسينية الإرشاد، نشرت لاحقاً في السنة نفسها في كتاب حمل عنوان (محمد خاتم النبيين)، في هذه المحاضرات تحدث المطهري عن نظرية إقبال من موقع التمجيد والتقدير، ونقل مقاطع طويلة من نظرية إقبال وصفها بأنها كلام لطيف.
وظهر الشيخ المطهري في هذه المحاضرات -كما يقول الدكتور سروش- في رأيه حول الخاتمية متأثراً بوضوح بنظرية إقبال، وحتى في الموارد التي لا يأتي فيها على ذكر اسمه، حيث كانت نظرية إقبال مشهودة في كلمات المطهري.
ويضيف سروش: وبعد عشر سنوات، وتحديداً في سنة 1978م، نشر المطهري كتابين هما (الحركات الإسلامية في القرن الأخير)، و(الوحي والنبوة)، في هذين الكاتبين تغيَّر موقف المطهري من نظرية إقبال، إلى موقف الطعن والتجريح.
وحسب رأي سروش فإن المطهري ظهر في هذين الكتابين باتهام إقبال بأنه يستوحي أفكاره من الغرب، ولا يفهم شيئاً عن الفلسفة الإسلامية، وأن نظريته في ختم النبوة تنتهي إلى مقولة ختم الدين، واعتبار أن شخصيته أدنى مستوى من السيد جمال الدين الأفغاني، وتحوَّلت عبارته عن نظرية إقبال من كلام لطيف، وصارت فلسفة مخدوشة.
ثانيا: يرى سروش أن المطهري اعتبر أن إقبال بنى رأيه في معنى ختم النبوة على وصول البشرية لمرتبة الاكتفاء الذاتي وعدم الحاجة إلى النبوة، وهذا يعني -في نظر سروش- أن المطهري فهم كلام إقبال من خلال نافذة الحاجة إلى الدين، ومحورية لزوم النبوة.
وعند التدقيق في كلمات إقبال يتبين لسروش أن إقبال لم يفكر في مسألة الحاجة إلى النبوة، ولم يكن بصدد إثبات أو نفي الحاجة إلى الوحي والدين، وأن نظريته لا تستدعي مثل هذه المعطيات.
وفي نظر سروش أن نظرية إقبال بغض النظر عن صحتها وعدم صحتها، كانت في مقام بيان أن الطبيعة والتاريخ بما أنهما غير قادرين بعد الآن على إنتاج نبوات، فإن من الطبيعي أن تختم النبوة بنبي الإسلام.
وعلى هذا فإن تحليل إقبال لنظرية ختم النبوة يختلف عن تحليل المطهري، ويعتقد سروش أن تحليل إقبال «يقوم على أساس منهج كانْت، وفي صدد الكشف عن شروط إمكان أو امتناع تجربة بشرية معينة، وهذا التحليل يختلف عن تحليل المطهري في نقده لإقبال وجوابه عن هذا السؤال: هل تحتاج البشرية إلى ظهور أنبياء آخرين بعد نبي الإسلام أم لا؟ ومن هنا نرى أن إقبالاً، وخلافاً للمطهري، لم يشر في كلماته إلى تحريف كتب الأنبياء السابقين، وعدم تحريف القرآن في عملية الاستدلال على هذا المعنى، لأنه يرى أن هذا المفهوم لا يدخل في صميم تحليل مسألة الخاتمية».
ثالثاً: يرى سروش أن اتهام إقبال بأنه قد استوحى أفكاره الفلسفية من مصادر غربية، فهل المطهري بعيد عن هذا النقد وغير مشمول بهذه الشكوى؟ وهل فلسفته تمثل فكراً إسلاميًّا خالصاً؟ وأن ما يسميه بالفلسفة الإسلامية لا يخرج عن إطار وروح الفلسفة اليونانية أي الغربية في جوهرها وعمقها؟
ويعتبر سروش أن المطهري كما كان مخطئاً في فهم عمق ومفاد نظرية إقبال عن الخاتمية، فكذلك هو مخطئ في نقده لها، وحتى في حكمه على الفلسفة الإسلامية وما يعطيها من قيمة عالية، ولو أننا سألنا عرفاء الإسلام العظام كمولوي والعطار والغزالي لقالوا: إن ضرر الفلسفة التي تسمى الفلسفة الإسلامية على الإسلام أكثر من نفعها.
في حين أن إقبالاً في نظر سروش كان مطلعاً على آراء الفلاسفة الغربيين وبالذات كانْت وهيغل وبرغسون ونيتشه وغيرهم، وقد استفاد من أفكارهم وآرائهم في حل بعض التعقيدات الفكرية، ومن جهة أخرى فإن إقبالاً كان يتحرَّك في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، من موقع تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية، وكان يشعر بمرارة من أن المسلمين كانوا يفهمون القرآن ولمدة قرون مديدة بأدوات الفكر والمنطق اليوناني.
أما الجهة الثالثة التي تتصل برؤية سروش لنظرية لإقبال، فهو يرى أن إقبالاً طرح نظريته في إطار الفكر البرغسوني نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون رغم أنه لم يذكر اسمه، إلا أنه من الواضح عند سروش أن إقبالاً كان متأثراً بما ذهب إليه برغسون، الذي يرى أن قوة الحياة أو الغريزة تتحرك في خط النمو والرشد إلى أن تصل إلى مرتبة تتولد فيها العقول، ومع ولادة العقل لا تبقى هناك ضرورة لوجود قوة الغريزة، فالحياة تمتد وتتسع من خلال العقلانية، وبذلك تتولد مرحلة جديدة في حياة الإنسان والتاريخ، والخاتمية تتعلق بمرحلة جديدة من مراحل التاريخ البشري.
والملاحظة الثانية عند سروش أن نظرية إقبال تتحدد في إطار وقوع الواقعة التي تعني الاعتقاد بالخاتمية كأصل ثابت مُسلَّم به، ومن ثم يقرر أن البشرية قد وصلت إلى حالة تستوجب الخاتمية، وإلَّا فالنبوات مستمرة.
وهذا التحليل -في نظر سروش- غير قادر على استشراف المستقبل إطلاقاً، بمعنى أنه لولا وجود الآيات والأحاديث النبوية في تقدير هذه الحقيقة، فلا أحد بإمكانه إصدار حكم قطعي بشأنها، والقول بأن البشرية وصلت في حركة الحياة الدينية والمعرفية إلى مرحلة لا حاجة بها إلى النبوة فلا مفر من ختم النبوة.
والخاتمية -في نظر سروش- تعني أن نبي الإسلام هو خاتم الأنبياء، وأن دينه آخر الأديان، وشخصيته آخر شخصية حقوقية نبوية، وعصره يمثل آخر عصر من عصور تربية الأنبياء في تاريخ البشرية، وبعده لا يمكن أن تتوافر الأرضية المناسبة لولادة نبي جديد، والأهم من ذلك أن كلامه يستمد رصيده وقوته من شخصية النبي نفسه،... وبذلك نرى فتح باب الاجتهاد في الدين، وذلك من خلال الاستفادة من أدوات العقل والمنطق والاستدلال بالشواهد العينية والموضوعية من أجل عقلنة هذا الدين،... وبهذا المعنى يكون باب الولاية والنبوة موصداً بعد النبي، فبعد رحلة النبي يتساوى جميع أفراد البشر في دائرة التكليف وتعيين الحكم، وتكون الأفضلية للتقوى والتعقل. فعندما يقول إقبال: إن مرحلة النبوة قد ختمت بظهور طلائع العقلانية، فليس مقصوده وجود تقاطع وتضاد بين العقل والنبوة، بل مقصوده هو انتهاء مرحلة الولاية الشخصية لشخص معين، فبعد ختم النبوة يصل الدور إلى العقل الجمعي بصفته الكلية ليكون حاكماً وولياً ومورد اعتماد الناس.
-7-
ملاحظات ونقد
بعد هذه الجولة من عرض النظريات والمناقشات، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية، ومنها:
أولاً: إن هذا التنوع والتعدد في النظريات والأفكار، أظهر هذا الموضوع بمظهر الغنى والثراء، والموضوع الذي ينال هذا المستوى من العناية والاهتمام فإنه يحافظ على حيويته وتجدده، وعلى بقائه وديمومته، ويكون عصيًّا على الإهمال والنسيان.
وهذه لعلها أول محاولة -على ما أظن- تجمع وتؤلِّف ما بين هؤلاء الأشخاص ونظرياتهم وأفكارهم ومناقشاتهم، بحيث يمكن القول: إن النظر لهذا الموضوع أصبح مغايراً ومختلفاً عمَّا كان عليه من قبلُ حين كان مجزأ ومفككاً، أو ليس بهذا القدر من الجمع والتأليف.
ولم يعد مجزياً بعد الآن النظر لهذا الموضوع، دون الإحاطة والاطِّلاع على هذه النظريات والأفكار.
ثانياً: هناك قدر من الغموض والإبهام والتعقيد في طريقة صياغة نظرية إقبال، ولا أدري هل هذه الملاحظة هي أثر من آثار الترجمة التي تتسبب في أحيان كثيرة بهذا النوع من الإشكالات، أم هي أثر من آثار إقبال نفسه الذي يتحدث بنزعتين، نزعة روحانية أو صوفية يطلق عليها التجربة الباطنية، ونزعة عقلية وثيقة الصلة بالفلسفة الأوروبية.
وندرك هذا القدر من الغموض والإبهام والتعقيد فيما نراه من اضطراب في الآراء والمواقف والتحليلات عند الكتّاب والباحثين، وحتى عند بعض العلماء والمفكرين، الذين توقفوا عند نظرية إقبال تحليلاً وتأويلاً، تفسيراً وتوصيفاً، نقداً ومناقشة.
وندرك أيضاً هذا القدر من الغموض والإبهام والتعقيد حين نجد مفكراً مثل الشيخ مرتضى المطهري الذي يقال عنه: إنه في مرحلةٍ فَهِمَ نظرية إقبال بطريقة، وفي مرحلة أخرى تغيرت هذه الطريقة من الفهم.
ومن ملامح الغموض والإبهام والتعقيد في كلام إقبال، حين يُعرِّف النبوة بقوله: «إنها ضرب من الوعي الصوفي ينزع ما حصَّله النبي في مقام الشهود إلى مجاوزة حدوده، وتلمس كل سانحة لتوجيه قوى الحياة الجمعية توجيهاً جديداً، وتشكيلها في صورة مستحدثة، فالمركز المتناهي من شخصية النبي يغوص أغواراً لا نهائية ليطفو ثانية مفعماً بقوة جديدة تقضي على القديم، وتكشف عن توجيهات للحياة جديدة، وهذا الاتصال بأصل وجوده ليس خاصًّا بالإنسان بأي حال من الأحوال».
أليس هذا الكلام الغامض والمبهم في تعريف النبوة، بحاجة إلى تفكيك في كلماته وعباراته، وبحاجة إلى تأويل وتفسير في معناه ومبناه.
وهكذا حين يقول إقبال: «إن نبي الإسلام يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث؛ فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها».
فماذا يقصد إقبال بالعالم القديم والعالم الحديث؟ وماذا يقصد من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، ومن العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها؟ أظن أن هذا الكلام حيَّر كل من توقَّف عنده، وتضاربت الآراء في تفسيره وتحليله وتأويله وبطريقة لا يمكن الجزم بها.
ثالثاً: لعلنا لا نختلف إذا قلنا: إن وظيفة العقل في الإسلام من حيث السعة والأفق بعد ختم النبوة قد اختلفت أو تغيَّرت عمَّا كانت عليه قبل ختم النبوة.
بمعنى أن ختم النبوة جاء لكي يُعطي سعةً وأفقاً أكبر لدور العقل ووظيفته في الإسلام، وبعبارة أخرى: إن ختم النبوة أعلن عن مرحلة جديدة لدور العقل ووظيفته في الإسلام.
لكن محل النزاع في نظرية إقبال يدور حول هل أن ختم النبوة يعني إحلال العقل محل الوحي، وانتهاء عصر الوحي وبدء عصر العقل؟!
فهناك من حاول تغليب هذا المعنى، تأويلاً لوظائف ومقاصد أيديولوجية يراد منها تضييق مساحة النص الديني ودور الدين في الحياة، وعلى خلفية أن عصر العقل إنما يبدأ بعد عصر الوحي والدين، وكونه -أي العقل- يمثل مرحلة أعلى من مرحلة الدين.
لكن هذا المعنى ليس له ظهور بيِّن في نظرية وكلام إقبال، وإنما هو تأويل، وتأويل أيديولوجي تام.
فإذا كان ختم النبوة لا يعني عند إقبال إحلال العقل محل الشعور إحلالاً كاملاً حسب قوله، فمن باب أولى عنده أنها لا تعني إحلال العقل محل الوحي.
وأستطيع أن أكون قاطعاً وجازماً في أن إقبالاً لا يريد ولا يقترب أساساً من فكرة إحلال العقل محل الوحي، ولو أن إقبالاً علم بهذا التأويل لنظريته لأعاد صياغتها بطريقة تقطع الطريق على تأول هذا المعنى، مع قناعتي أن هذه النظرية هي بحاجة إلى إعادة صياغة من إقبال نفسه لتكون أكثر وضوحاً وتماسكاً.
رابعاً: اعتبر الشيخ مرتضى المطهري في أولى انتقاداته على نظرية إقبال، أن إقبالاً بقصد أو من دون قصد، أراد ختم النبوة فانتهى إلى ختم الدين، حين أحل توجيه العقل التجريبي محل توجيه الوحي.
هذه الملاحظة التي أشار إليها الشيخ المطهري في كتابه (الوحي والنبوة)، أعاد التذكير بها في كتابه (الحركات الإسلامية في القرن الأخير)، مستدلاً بها على أن إقبالاً لم يكن يمتلك معرفة عميقة بالثقافة الإسلامية، وأن مطالعاته في سائر العلوم والمعارف الإسلامية هي مطالعات سطحية.
ولعل الشيخ المطهري هو أول من أشار إلى هذه الملاحظة، وأظن أنه آخر من قال بها أيضاً؛ لأن هذا الاستنتاج الذي توصَّل إليه المطهري هو في نظري استنتاج بعيد، بعيد عن المبنى، وبعيد عن المعنى، بعيد عن المبنى لأن الكلام اللفظي لإقبال لا يعطي المعنى الذي أشار إليه الشيخ المطهري، وبعيد عن المعنى لأن إقبالاً لم يكن بصدد إحلال توجيه العقل التجريبي محل الوحي، ولم يكن يريد القول: إن عمل الوحي جاء لإعلان انتهاء دور الدين وبدء دور العقل. وهذا ما يعرفه الشيخ المطهري قبل غيره.
وأظن أن الشيخ المطهري ما كان بحاجة إلى إثارة هذه الملاحظة التي تضع نظرية إقبال في دائرة الشك والالتباس، فهذه الملاحظة هي أشد الملاحظات حساسية في التعاطي مع نظرية إقبال.
خامساً: لاحظ الباحثون الإيرانيون تغيُّراً في موقف الشيخ المطهري تجاه نظرية إقبال، إذ تحول من الموافقة والتأييد كما ظهر في كتابه (محمد خاتم النبيين)، إلى المخالفة والتفنيد كما ظهر في كتابه (الوحي والنبوة).
ولتفسير هذا التحوُّل في موقف الشيخ المطهري، وقفت على رأيين، رأي يرجعه إلى عامل فكري له علاقة بتطور الموقف الفكري عند المطهري، ورأي آخر يرجعه إلى عامل ذاتي له علاقة بالخصومات الفكرية التي مرت على المطهري.
الرأي الأول أشار إليه الباحث الإيراني محمد جعفري، الذي يرى أن الشيخ المطهري تصور في أول الأمر أن إقبالاً كان بصدد بيان فلسفة ختم النبوة التبليغية لذلك أيده وأثنى عليه، وذلك بناء على أن المطهري كان يقسم النبوة إلى تشريعية وتبليغية، ويعتقد أن الإنسان بعد الدين الخاتم بلغ سن الرشد فكريًّا واجتماعيًّا، وتولى بنفسه مهمة الدعوة إلى الدين وإقامته.
ويضيف جعفري: لكن المطهري بعد عشر سنوات، وأثناء تأليفه كتاب (الوحي والنبوة)، لاحظ أن إقبالاً لا يُفرِّق بين النبوة التبليغية والنبوة التشريعية، واعتبر أن تحليله يشمل كلتا الحالتين لذلك خالفه وبادر إلى نقد نظريته.
والرأي الثاني أشار إليه الدكتور عبد الكريم سروش، الذي يرى أن تغيُّر موقف الشيخ المطهري له علاقة بالصراع الذي حصل بينه وبين الدكتور علي شريعتي، وما تولد عنه من سوء ظن شديد بالمثقفين المتدينين من غير رجال الدين، أدى في نظر سروش إلى تعميق واتساع الهوة ما بين هاتين الشريحتين، كما أدى أيضاً إلى ظهور جماعة المنهائيون التي ترى عدم الحاجة إلى رجال الدين في عملية التدين، وظهور جماعة الفرقان التي دعت إلى التخلص من سيطرة رجال الدين، وراح ضحيتها الشيخ المطهري نفسه.
وأساس هذه الملاحظة، أن إقبالاً كانت له منزلة مؤثرة في الحياة الثقافية في إيران خلال فترة ستينات وسبعينات القرن العشرين، وكانت أفكاره ونظرياته تُؤوَّل بطرق مختلفة، وتوظَّف أحياناً في النزاعات الفكرية التي جرت بين الأشخاص والتيارات والجماعات المتنازعة فكريًّا واجتماعيًّا.
مع ذلك فإني أشك أن يكون المطهري قد غيَّر رأيه تجاه إقبال ونظريته بسبب خلافه ونزاعه مع شريعتي كما ظن سروش، وأرى أن ما حصل عند المطهري كان طبيعيًّا، ويحصل عادة مع مرور الوقت عند كل إنسان، وأظن أن هذا ما حصل عند المطهري بعد مرور عشر سنوات.
سادساً: أضاف الدكتور عبدالكريم سروش التباساً لنظرية إقبال، حين وضع هذه النظرية في إطار نظرية برغسون من جهة، ونظرية نهاية التاريخ من جهة أخرى، إذ افتتح سروش شرحه لنظرية إقبال بربط هذه النظرية بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، واختتم شرحه لهذه النظرية بربطها بنظرية نهاية التاريخ.
فقد اعتبر سروش أن إقبالاً طرح نظريته في إطار الفكر البرغسوني، ورغم أنه لم يذكر اسم برغسون إلَّا أن من الواضح عند سروش أن كلامه كان متأثراً بما ذهب إليه برغسون، واختتم شرحه لهذه النظرية بالقول: «والجدير بالذكر أن إقبالاً يرى في نظرية الخاتمية مفهوماً شبيهاً بنظرية نهاية التاريخ، فمدلول قضية «لا نبي بعدي»، هو لا قوم بعدنا، فبعد أمة الإسلام لا تأتي أمة تعيش الانسجام الديني في حركة المجتمع البشري، وكما أن نبينا خاتم الرسل فنحن أيضاً خاتم الأقوام والملل».
ولو اطلع إقبال نفسه على هذا التحليل، لكان أول المعترضين عليه. فما قيمة هذه النظرية من الوجهة الإسلامية إذا كانت تبدأ من برغسون وتنتهي بفوكوياما صاحب مقولة نهاية التاريخ، وهي النظرية التي أراد منها إقبال الكشف عن قيمتها الثقافية بوصفها إحدى الفكر الإسلامية العظيمة.
وبهذا يكون سروش قد أضاف التباساً لنظرية إقبال، التي ما كانت تنقصها الالتباسات، بدل أن يقدّم شرحاً وتوضيحاً.
سابعا: اعتبر الدكتور سروش أن كلام الشيخ المطهري عن إقبال في كتابه (الحركات الإسلامية في القرن الأخير)، جاء مشحوناً بالتوتر والغضب والألفاظ الخشنة.
وحين رجعت إلى كتاب الشيخ المطهري، وجدت صورة مغايرة تماماً عن الصورة التي أشار إليه الدكتور سروش، ففي هذا الكتاب تحدّث المطهري وباهتمام كبير عن الخصائص الإيجابية لإقبال وعدَّد ستًّا منها، ثم امتدح موقفه من التشيع، واعتبر أنه نظم أشعاراً ثورية وحكيمة باللغة الفارسية في مدح أهل البيت، لا يمكن أن نرى لها نظيراً بين كل شعراء الفرس من أهل الشيعة، ثم تحدَّث عن فلسفته واعتبر أنه صاحب فلسفة يسميها فلسفة الذاتية.
وبعد كل هذا الحديث الإيجابي والخصائص الإيجابية، أشار المطهري إلى نقاط الضعف عند إقبال، وحدَّدها في نقطتين لا غير، الأولى أن معرفته بالثقافة الإسلامية لم تكن معرفة عميقة مع أنه يعتبر فيلسوفاً إسلاميًّا بالمفهوم الغربي.
والثانية أن إقبالاً لم يسافر إلى الدول الإسلامية، ولم يطَّلع عن قرب على أوضاع التيارات والحركات والنهضات الإسلامية، ولهذا السبب فإن تقييمه لبعض الشخصيات والحركات في العالم الإسلامي كانت خاطئة خطأ فاحشاً.
وإذا كان هناك من يختلف مع الشيخ المطهري بشأن الملاحظة الأولى على إقبال، فإن من الصعب الاختلاف معه بشأن الملاحظة الثانية، حيث امتدح الحركة البهائية في إيران، وحركة أتاتورك في تركيا.
الأمر الذي يعني أن سروش لم يكن موضوعيًّا في تصويره لموقف المطهري من إقبال في كتابه (الحركات الإسلامية في القرن الأخير).
ثامناً: إذا كان كلام المطهري عن إقبال -في نظر سروش- كان مشحوناً بالتوتر والغضب والألفاظ الخشنة، فإن كلامه هو أيضاً عن المطهري كان مشحوناً بالتوتر والغضب والألفاظ الخشنة.
فحين دافع سروش عن إقبال أمام كلام المطهري، من جهة أنه قد استوحى أفكاره الفلسفية من مصادر غربية، التفت سروش إلى المطهري وتساءل بقوله: وهل هو بعيد عن هذا النقد وغير مشمول بهذه الشكوى؟ وهل فلسفته تمثل فكراً إسلاميًّا خالصاً؟ وهل ما يسميه بالفلسفة الإسلامية لا يخرج عن إطار وروح الفلسفة اليونانية أي الغربية في جوهرها وعمقها؟
ويضيف سروش: إن المطهري كما كان مخطئاً في فهم عمق ومفاد نظرية إقبال عن الخاتمية، فكذلك هو مخطئ في نقده له. وكذلك الحال في حكمه على الفلسفة الإسلامية فيما يعتبر لها من قيمة عالية، والحقيقة أنه لو سألنا عرفاء الإسلام العظام كمولوي والعطار والغزالي لقالوا إن ضرر الفلسفة التي تسمى الفلسفة الإسلامية على الإسلام أكثر من نفعها.
ولم يكتفِ سروش بهذا القدر فقد فتح هامشاً في ذيل الكتاب متمماً كلامه المشحون بالتوتر والغضب، ونص كلامه: «إن كلام الشيخ المطهري وموقفه السلبي من الفلسفة الغربية ليس له مبرر على الإطلاق، والحق أن المطهري لو حاز درجة (100) في الفلسفة الإسلامية، فإن درجته في الفلسفة الغربية لا تكاد تصل إلى (10) في أحسن الأحوال، إن شرحه لفلسفة السبزواري المنظومة الذي يُعدُّ من أفضل ما كتبه المطهري في الفلسفة، يبين بوضوح مقدار إطلاعه على الفلسفة الجديدة، وخصوصاً فلسفة الآناليتيك. وعلى سبيل المثال لو ألقينا نظرة على بحثه في موضوع الاستقراء وسطحية هذا البحث في الفلسفة الإسلامية إلى جانب التعقيد الشديد، والعمق والغموض في الفلسفة الجديدة لأدركنا مدى البون الشاسع بينهما، والأغرب من ذلك مساهمة ومشاركة أساتذة الفلسفة في بلداننا في هذه البحوث الفلسفية التي تثير البكاء بل الضحك».
أليس هذا الكلام جاء مشحوناً بالتوتر والغضب والألفاظ الخشنة وحتى غير اللائقة!
هذه مناقشات فكرية ونقدية متعددة ومتباينة، ووجهات نظر حول نظرية إقبال في ختم النبوة وعلاقتها بدور العقل في الإسلام.