شعار الموقع

مؤتمر دولي لتكريم الشهيدين الأول والثاني: رائدي الفقه والإصلاح

محمد تهامي دكير 2012-10-04
عدد القراءات « 869 »

تكريماً للعالمين الشهيدين اللبنانيين، الشيخ محمد بن مكي الجزيني (ت 786هـ) والشيخ زين الدين الجبعي (911-965هـ) نظمت جمعية الإمام الصادق (عليه السلام) لإحياء التراث العلمائي والمستشارية الثقاقية الإيرانية في بيروت، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) والمركز العالمي للعلوم والثقافة الإسلامية في إيران، المؤتمر الدولي الفكري لتكريم العالمين الكبيرين الشهيدين، الشيخ محمدبن مكي الجزيني والشيخ زين الدين الجبعي: رائدي الفقه والإصلاح وتتويجاً لتحقيق وطبع آثارهما.

وذلك في بيروت بين 30 أيار و2 حزيران 2011م.

وقد شارك في هذا المؤتمر عدد كبير من العلماء والفقهاء والمفكرين وأساتذة الجامعة من لبنان وسورية والسعودية ومصر والبحرين وإيران وتركيا.

في الجلسة الافتتاحية تحدث في البداية آية الله الشيخ محمد علي التسخيري (الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران) عن الإسلام وكيف وضع الأسس للعقلانية والحوار والاجتهاد، وتأكيده على الوحدة في المسيرة البشرية، لأن هدف الإسلام هو أن تتلاقى القلوب وتتقارب بدل الصراع والاختلاف والتنازع.

وهذا ما تجسد في عصر الصحابة والتابعين والأئمة الذين رغم اختلافاتهم كانوا يحرصون على العيش في إطار الأخوة الدينية والوحدة الإسلامية.

وهذا المنهج سار عليه كبار العلماء على طول التاريخ الإسلامي ومن بينهم الشهيدين، لذلك فإحياء ذكراهما هو إحياء لمسيرة التقريب وتمهيد للوحدة الإسلامية الكبرى التي أكد عليها القرآن.

ثم تناول الكلمة كل من الشيخ حسن البغدادي (عضو المجلس المركزي في حزب الله ورئيس اللجنة العلمية للمؤتمر)، فأشار إلى أهمية تكريم هذين العالمين المجاهدين، اللذين اشتهرا بالاهتمام بالمنهج الفقهي المقارن والوحدة الإسلامية، وهذا المؤتمر سيكون للإعلان عن الانتهاء من تحقيق تراثهما وطباعته في خمسين مجلداً (20مجلداً للشهيد الأول و30 للشهيد الثاني).

كذلك تحدث ممثل رئيس مجلس الشورى الإسلامي في إيران د. لاريجاني، السفير الإيراني في لبنان د. غضنفر ركن آبادي، الذي أشار إلى الأهمية العلمية للشهيدين في مسيرة العلم والفقه الشيعي الإمامي، بالإضافة إلى جهودهما التقريبية والوحدوية، والحاجة الآن إلى استلهام هذه التجربة لمواجهة وضع مليء بالمؤامرات لتفتيت وحدة هذه الأمة.

تحدث كذلك الشيخ أحمد قبلان (المفتي الجعفري الممتاز)، فأشار في كلمته إلى المكانة العلمية للشهيدين وما أضافاه في مجال الفقه والاجتهاد، فالشهيد الأول أسس مفهوم الحيثية الحقوقية كمركز لنظام السلطات والإجراءات، أما الشهيد الثاني فأسس لمقولة الشرعنة على قاعدة أن مركز المصالح الكونية والتشريعية هو الإنسان، الذي هو علة شرعية السلطان ومبرر النظام، وإلَّا تحول الحكم إلى حديد واستبداد.

أما ممثل مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني الشيخ محمود مسلماني، فقد أشاد بعلم وفقاهة الشهيدين، مؤكداً أن المذاهب الإسلامية قد تختلف لكنها تنطلق من قاعدة واحدة وهي طلب اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما بالنسبة للمحتفى بهما فهي مناسبة لتأكيد دور وأهمية العلم والاعتدال، خصوصاً في زمن الفتن والتطرف.

مدير المركز الكاثوليكي الأب عبده أبو كسم ألقى كلمة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق مار بشارة بطرس الراعي، وقد أشار فيها في البداية إلى تلازم تاريخ الشيعة مع مشروع الشهادة منذ استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وأن مشروع الشهادة هو مشروع كل المؤمنين الذين يرفضون الباطل بغض النظر عن دينهم ومذهبهم، وهذا ما جسده الشهيدان في حياتهما.

أما نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم فقد أكد في كلمته على أن دعاة الفتنة وُجدوا دائماً في كل مكان وزمان، وتركوا آثاراً سلبية على المجتمع، خصوصاً عندما يجتمع حاكم جاهل بالدين وواعظ عند السلطان مليء بالحقد والجهل كذلك. أما بالنسبة للبنان فإننا -يقول الشيخ نعيم:- لم نختلف مذهبيًّا مع أحد ولم تطرح قضايا عقائدية أو فقهية خلافية، بل بالعكس.. اختلفنا سياسيًّا مع فريق آخر في البلد فيه من جميع المذاهب والطوائف، اختلفنا بأننا مع المقاومة واستمراريتها بسبب استمرار الاحتلال والخطر الإسرائيلي، واختلفنا سياسيًّا على رفض الوصاية الأمريكية، والبعض يُسهِّل وجودها ويعمل وفق برنامجها.

وتابع الشيخ نعيم مؤكداً أن الشهيدين أسَّسا لقيادة علمائية فريدة جامعة وداعية للوحدة والتقريب، وقد دفع الشهيدان حياتهما ثمناً لذلك...

وفي الأخير، اختتمت الجلسة الافتتاحية بكلمة لرئيس مجلس النواب اللبناني الأستاذ نبيه بري، حيث أشار إلى التحديات التي تواجه لبنان والشرق الأوسط، وأهمها الفتن المذهبية والتحريض الطائفي ونشر الكراهية والتعصب، ومحاولات إجهاض حركات التحرر والثورة، أما بالنسبة للشهيدين فقد أكد الأستاذ بري أنهما دأبا على نشر المعرفة كما أسَّسا لمشروع مقاومة دائم، وكانت تضحيتهما بالذات هو الالتزام بالإسلام.

ثم انطلقت بعد ذلك أعمال المؤتمر التي توزعت على ست جلسات وفي أماكن متفرقة: في بيروت والجنوب والبقاع.

فيما يلي قراءة في عدد من أوراق هذا المؤتمر.

«دور الواجب الكفائي في تعميق وتوسعة المسؤولية الاجتماعية بالتركيز على الاستلهام من الشهيد الثاني»، هذه الورقة قدمها الشيخ أحمد مبلغي (أستاذ في الحوزة العلمية في مدينة قم الإيرانية، والمشرف العام على المؤتمر)، وقد سلط الباحث الضوء على بحث الواجب الكفائي ودوره في تعميق وتوسعة المسؤولية الاجتماعية، مستلهماً أقوال وآراء الشهيد الثاني عن الواجب الكفائي في كتبه.

في البداية عرَّف الكاتب الفرض الكفائي، ثم تعرَّض لما يميز الفرض الكفائي من العيني، وفي الأخير تحدث عن الدور الذي يلعبه الواجب الكفائي قبال المسؤولية الاجتماعية، فعرف المسؤولية الاجتماعية وعناصرها مثل: الشمولية والذاتية وعنصر التركيز على التوجه نحو المجتمع.. وهذا العنصر –كما يرى الباحث– يتمتع بأبعاد مثل: التوحد مع الجماعة والتعامل معها ومحاولة تحقيق مصالح ومطالبات المجتمع، والتغطية الديناميكية المتطورة للقضايا الاجتماعية.

أما بخصوص العناصر ذات التأثير في المسؤولية الاجتماعية في الواجب الكفائي، فقد أكد الكاتب أن أول أداء يقوم به الواجب الكفائي هو إيجاد الإحساس بالمسؤولية في المكلف، ويبلغ هذا الإحساس درجة يحس المكلف بكونه آثماً لو تخلى عن الذي كلفه الله سبحانه به كواجب شرعي كفائي فيما لم يقم غيره به، وهذا الأداء القوي للواجب الكفائي يرجع إلى أن فكرة الواجب الكفائي تربط مقولة: إحساس المسؤولية الاجتماعية بمقولة وقوف الإنسان أمام الله سبحانه.

ومن العناصر التي تم عبرها التأثير في المسؤولية الاجتماعية كذلك عنصر الشمولية، قابلية التغطية لأنواع المصلحة والمعرفة، وقد استدل الكاتب على ذلك بأقوال الشهيد الثاني مثل:

- (تأمين ما يضطر إليه الأطفال واجب كفائي).

- (إطعام الجائعين واجب كفائي).

- (الصناعات المهمة التي بها قوام المعاش من فروض الكفاية)...

«الإعجاز القرآني وعلم الدلالة في تمهيد الشهيد الثاني» عنوان الورقة التي قدمها د. علي زيتون (أستاذ جامعي – لبنان)، تناولت هذه الورقة البحث في علم الدلالة العربي الإسلامي من خلال كتاب الشهيد الثاني (التمهيد)، لما يمثله هذا الكتاب من ثمرة لجهود تاريخية متتابعة بذلها علماؤنا الأجلاء عبر التاريخ، خصوصاً أن الشهيد الثاني كان ذا منهج واضح في بحثه عن الدلالة، يرتكز في جانب أول على أسئلة اللغة العربية التي طرحتها على نفسها بواسطة ثنائيات عديدة هي ثنائيات (اللفظ/ المعنى) وثنائية (الحقيقة/ المجاز) وثنائيات (التوقيف/ المواضعة)، وقد ناقش الباحث هذه المواضيع ضمن عناوين أربعة أساسية، علم الدلالة في الغرب، الدلالة وحضارة النص، دلالة التمهيد من المنهج اللساني إلى المنهج البراغماتي، الشهيد الثاني وأسئلة اللغة العربية.

وبعد مناقشة هذه المواضيع وعرض الأمثلة، خلص الباحث إلى أن الإطلالة على علم الدلالة العربي الإسلامي من خلال الشهيد الثاني، كانت إطلالة مفيدة كشفت عن أصالة تعاطي العلماء القدامى مع هذا العلم، وأن جهودهم كانت سابقة للجهود الغربية في الدراسات اللغوية، ولعل ظاهرة التأويل –يقول الباحث-: التي قدمها النص القرآني بوصفها منهجاً دلاليًّا مستقلاً جمع نظرية التلقي إلى المنهج السيميولوجي، هي ظاهرة عربية إسلامية من دون منازع، وهذه الجهود لابد من وضعها «في مصاف الجهود العالمية في هذا الحقل اللغوي الذي يعد من أبرزالحقول العلمية حداثة، نظراً لارتباطه بالعلوم الإنسانية والاجتماعية...».

«قراءة في المنهج الفقهي عندالشهيدين: التطابق ونقاط الاختلاف»، هذه الورقة قدمها السيد هاشم بن السيد محمد الشخص (عالم دين من السعودية)، في البداية يرى الكاتب أن هذين العالمين الجليلين، رغم تباعدهما الزمني (يفصل بينهما قرابة قرنين من الزمن)، إلا أن بينهما نقاط اشتراك كثيرة، بحيث يكاد الشهيد الثاني يكون امتداداً للشهيد الأول.

أما نقاط الاشتراك فهي كما ذكر الكاتب: كلاهما من جبل عامل، التخصص في العلوم الفقهية، التقارب في الذوق والمنهج الفقهي، التجديد والإبداع في الفقه، كلاهما كانت لهما جولات وأسفار في بلدان عديدة، كلاهما كانت له صلات علمية ومباشرة بعلماء من أهل السنة.

وأخيراً كلاهما نال الشهادة، وكان ضحية التعصب المذهبي والاستبداد السياسي.

«المدر سة النورية: محطة مضيئة في مشروع التقريب»، هذه الورقة قدمها الشيخ محمد يزبك (رئيس الهيئة الشرعية في حزب الله)، في البداية أشار الشيخ يزبك إلى ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي اهتمام علماء الشيعة في لبنان بالوحدة والتقريب بين المذاهب، ومرورهم بمدينة بعلبك، حيث المدرسة النورية التي استقر بها الشهيد الثاني ودرس فيها الفقه على المذاهب الخمسة.

والمدرسة النورية في بعلبك أنشأها نور الدين زنكي وكانت تحت إشراف قاضي القضاة الشافعي، وقد قضى فيها الشهيد الثاني أياماً ميمونة، كما يصفها هو في سيرته، استطاع فيها أن يقيم علاقات متينة مع علمائها وناسها. وقد استطاع أن يفتح قلوب الطلبة فيها على المنهج المقارن، ليكتشف الجميع مقدار المشتركات بين المذاهب الإسلامية، ما يؤدي إلى احترام اجتهادات العلماء وأنوعها، ويخفف من التعصب الناجم عن الجهل بالآخر المخالف.

وقد أشار الشيخ يزبك إلى تركيز الشهيد الثاني على أحاديث الرسول K المتعلقة بالوحدة ومحاولته نشرها في الوسط الاجتماعي والعلمي، ما جعل أهل بعلبك يحبونه ويجلونه.

إن دعوة الشهيد الثاني –كما يقول الشيخ يزبك– إلى الوحدة نابعة من خالص توحيده، وهل الإسلام إلا كلمة التوحيد ووحدة الكلمة.. من هنا انطلق وبرؤية واضحة يُعبِّد الطريق إلى وحدة الأمة عمليًّا، بالانفتاح والحوار بقلب مشع وعقل نيّر وفكر وقاد...

«المنهج الإعلامي عند الشهيدين الأول والثاني: دراسة مقارنة مع مناهج إعلام اليوم»، هذه الورقة قدمها الأستاذ عبدالله أحمد قصير (مدير عام قناة المنار اللبنانية)، وفيها يحاول الكاتب كما يقول: تسليط الضوء من زاوية إعلامية على الشعارات والقيم والمواثيق التي تتبناها المؤسسات الإعلامية اليوم، وإجراء عملية مقارنة للمنهج الذي تبناه الشهيدان في حركتهما مع مناهج هذه المؤسسات الإعلامية، مع ذكر الشواهد والقرائن.

ثم شرع بعد ذلك في تحديد ماهية المنهج الإعلامي وقدَّم عرضاً وصفيًّا لشعارات وقيم ومواثيق المؤسسات الراهنة، فلكل مؤسسة شعار،، مثلاً شعار المنار: قناة العرب والمسلمين/ قناة المقاومة والتحرير.

أما القيم الأساسية المشتركة بين هذه المؤسسات، فهي كما يرى الباحث تسع قيم نذكر منها: الصدق والمصداقية في نقل الأخبار وتوصيف الأحداث، الجرأة في الموقف والتعبير، الإنصاف والتوازن في النظر إلى الآراء والأفكار المتنوعة، البحث عن الحقيقة من مصادرها ومنابعها الأصلية، المواكبة والمتابعة الميدانية للتطورات والمتغيرات... إلخ.

وهذه القيم استطاع الشهيدان أن يجسدانها في حركتهما العلمية والعملية معاً، نذكر منها: أهمية التعرف على الرأي الآخر من مصادره، يرى الشهيد أن «الفقيه لا يصبح فقيهاً حتى ينظر على قدر الاستطاعة ومع بذل الوسع والجهد في الاطلاع على كافة الآراء الفقهية محل البحث والاجتهاد سواء لدى علماء المذهب الاسلامي الشيعي أو عند علماء المذاهب الإسلامية السنية..».

والإيمان بهذه القيمة دفعهما للذهاب إلى المدارس الفقهية السنية والتعلم والتدريس فيها بغية الاطلاع المباشر على الرأي الآخر.

وبعد أن استعرض الباحث عدة أمثلة ومقارنات، وكيف جسد الشهيدان القيم الإعلامية في حياتهما، مثل شعار حمل قضايا العرب والمسلمين، وشعار بناء مجتمع إسلامي معاصر، وشعار أصالة وإبداع؛ قام الباحث بمقارنة منهج الشهيدين بالقيم المهنية للمؤسسات الإعلامية ومع ميثاق الشرف الإعلامي العربي.

«آفاق التقريب في تجربة الشهيدين الأول والثاني»، هذه الورقة قدمها د. خنجر حمية (أستاذ الفلسفة الإسلامية – الجامعة اللبنانية والإسلامية)، في البداية تحدث الباحث عن الظروف التاريخية التي عاش فيها كل من الشهيدين الأول والثاني، والتي تميزت بالاضطراب السياسي والتعصب المذهبي، فالأول عاش في ظل المماليك، أما الشهيد الثاني فعاش في ظل السلطة العثمانية، وكلاهما انخرط في تجربة العلم والفكر، واحتفظ بعلاقة جيدة مع السلطات الحاكمة، وإن انتهى بهما المطاف إلى الاستشهاد.

لقد كان للشهيدين مشروعهما الوحدوي والتقريبي، وقد نشطا لتحقيقه باتجاهين -حسب الباحث– الأول سياسي، والآخر معرفي، تمثل الأول في الانفتاح على السلطة بالرغم من مآخذه عليها، حيث استطاع أن يقيما علاقات متينة مع رجالاتها في المناطق ومراكز القرار في بيروت ودمشق، كما كان الشهيد الثاني حريصاً على إظهار ممارسته السياسية وكأنها تعبير عن قبول طائفته لأن تكون جزءاً لا يتجزأ من جملة الرعايا الخاضعين للسلطة. أما الاتجاه المعرفي فقد تمثل في إعادة بلورة تأصيل راسخ للثقافة الشيعية في أبعادها الفقهية، والعمل على فتح قنوات التواصل مع المذاهب الأخرى ليؤكد ضرورة التنوع في ضل الوحدة، وأن تنوع المذاهب وتعددها في سياقاتها التاريخية، إنما هو عنصر غنى لابد منه، ليبلغ العلم الديني طموح تطوره واكتماله.

أما بالنسبة للشهيد الثاني فقد أعاد استئناف هذه التجربة واستفاد منها، فهو ابتعد عن أي موقف يمس السلطة العثمانية أو يطعن في مشروعيتها، لذلك سافر إلى القسطنطينية والتقى بأعلى مراكز القرار هناك.. وعندما عاد إلى لبنان اختار المدرسة النورية في بعلبك، لتكون محطة للقاء والتعايش مع الوسط السني وعلمائه، كما سافر إلى مصر والتقى بعلمائها ودرس عليهم. وقد حققت له هذه التجربة المقاصد التي كان يطمح لها وهي «الدفع باتجاه التقارب العملي الواقعي للمذاهب، في سلوك يومي يقرب القلوب ويوسع أفق المعرفة، وينير العقل، ويدفع إلى التسامح».

وبشكل عام فتجربة الشهيدين قامت على قناعة راسخة بوحدة المسلمين، ووحدة مصائرهم، ووحدة اجتماعهم السياسي، وإن اختلفوا في الرأي، وبوحدة أصولهم المعرفية وإن اختلفت اجتهاداتهم.

«الشهيدان برؤية حضارية» عنوان الورقة التي قدمها د. محمد علي آذر شب (أستاذ في جامعة طهران)، في البداية أشار الباحث إلى أهمية العودة إلى التاريخ بذهنية واعية للاستفادة من الماضي للانطلاق نحو بناء المستقبل، أما بالنسبة للشهيدين فيرى الباحث أنهما استطاعا أن يخلدا على مر القرون وتذكرهما الأجيال بإكبار وإجلال لما قاما به من دور علمي وعملي، والسبب يعود إلى أن المشروع الحضاري الإحيائي قد تجلى فيهما فكانا حيين وإحيائيين.

ثم بعد ذلك شرع الباحث في تعريف معنى الإحياء، فأكد أن الإحياء هو هدف الإسلام النهائي، ولما كانت الذاتية هي الانغماس في خصلة الطين وهي أكبر صنم يقف حائلاً أمام تكامل الإنسان والمجتمع، فقد حاول الإحيائيون جميعاً تحرير الإنسان من هذه الذاتية الضيقة، وتحريكه نحو مثل أعلى خارج ذاته وإيجاد الدافع لهذه الحركة.

أما تجليات مظاهر الحياة الحضارية في حياة الشهيدين، فقد تحدث الباحث عن مجموعة من المظاهر مثل: التعارف حيث نجد الشهيدين يكثران من السفر لأجل التواصل مع المجتمعات الإسلامية وعلماء المذاهب، وقد أثمر هذا التواصل حرصهما على التقارب ودعوتهما للوحدة الإسلامية.

من مظاهر الحياة الحضارية في نظر الباحث كذلك، الاستماع والفكر المقاصدي والوحدة والعشق.. وفي حياة الشهيدين ترى شوقاً إلى الاستماع أو ما يسمى اليوم الانفتاح على الآخر، وتفكيراً في مقاصد الإسلام الكبرى، واتجاهاً نحو واجب العلماء في رعاية شؤون الأمة وتطبيق الشريعة.

أما بخصوص الوحدة في حياة الشهيدين فنجدها في موقفهم من الدولة العثمانية، وفي ارتباطهم بعلماء العالم الإسلامي، وفي خطابهم العلمي والثقافي.

«البعد الأخلاقي للتربية والتعليم: كتاب منية المريد نموذجاً» هذه الورقة قدمها د.طلال عتريسي (أستاذ علم الاجتماع التربوي في الجامعة اللبنانية) بعد التعريف بالشهيد الثاني صاحب الكتاب، وكيف أنه قضى ردحاً من الزمن يتنقل في بلاد الدولة العثمانية في زمن التشدد والعصبية المذهبية، حاملاً لواء التقريب.

تحدث الكاتب مفصلاً عن البعد الأخلاقي للتربية والتعليم، من خلال كتاب منية المريد، وفي إطار مقارن بين آراء الشهيد الثاني والنظريات الغربية في التربية والتعليم.

وفي هذا الإطار تحدث الكاتب عن أهمية العلم وفضله بين نظرية الإسلام الذي يفضل العلم والعالم، ويعتبر تحصيل العلم قربة إلى الله؛ والنظرية الغربية التي تربط العلم بسوق العمل، وبالتالي فالتراجع القيمي في النظرة إلى التعليم جعلت منه بعيداً من أن يكون قيمة إنسانية عليا بحد ذاته بغض النظر عن الوظيفة التي سيحصل عليها المتعلم.

كذلك تحدث الكاتب عن قضية إخلاص النية في طلب العلم التي أولاها الشهيد الثاني أهمية كبيرة، بينما التربية الغربية لا تعير هذه القيمة أي اهتمام.

كذلك تحدث الباحث بالتفصيل عن علاقة المعلم بالمتعلم التي أولاها الشهيد الثاني أهمية كبيرة في عملية التربية والتحصيل العلمي، من حيث احترام طالب العلم لمعلمه وهيبة المعلم. لقد أغفلت النظريات التربوية الغربية هذا الجانب وركزت على تعظيم دور المتعلم وحريته، بل حطمت جميع القيم المتعلقة بالطاعة واحترام المعلم أو أفراد الأسرة، وبذلك تزعزعت سلطة الأسرة والمعلم معاً، وبات التلميذ يواجه أستاذه من موقع الند للند.. وبذلك فقد المعلم وظيفته في التربية والتأديب.

لقد ركز الشهيد الثاني على الجانب المعنوي لتحصيل العلم أو ما يسمى بفلسفة التربية، ومن خلال مبادئ وقيم الإسلام وضع نظريته المتكاملة في العملية التربوية والتعليمية.

وفي الأخير نبَّه الكاتب للمخاطر المستقبلية الكبيرة الناجمة عمَّا يطلق عليه بالعولمة المتوحشة، والتي ستؤثر في نظام القيم التي تلعب التربية ومناهجها ونظرياتها دوراً مهماً في الترويج له أو الابتعاد عنه.

«المواطنة عند الشهيدين» عنوان الورقة التي قدمها د. خضر نبها (أستاذ في الجامعة اللبنانية)، وقد تحدث الكاتب فيها عن مفهوم المواطنة لدى الشهيدين من خلال مجموعة من العناوين.

في البداية وتحت عنوان: مدخل سؤالي وإطار البحث، تساءل الكاتب: هل الشيعي الإمامي اللبناني ينتمي إلى الوطن انتماء حقيقيًّا، أم أن صفة المواطنة غائبة عنه وبعيدة المنال؟

وبالأحرى: هل المواطنة والانتماء للوطن هو شعور راسخ عند الشيعة الإمامية أم أنه شعور على دخن، يتجاوز الوطن إلى أوطان أخرى؟

كما تساءل: هل نجد عند فقهاء الإمامية ما يشير إلى حب الوطن والتعلق به والدفاع عنه؟ أم لا أثر لذلك في سيرهم العملانية ومقالاتهم الفكرية؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة، طالب الكاتب بمعالجة موضوع المواطنة لدى الفقهاء بضرورة العمل على نظرية فقهية معاصرة للكشف عن الرؤية الفقهية تجاه مقولة (الوطن والمواطنة).

أما بخصوص مفهوم المواطنة لدى الشهيدين، فقد استعرض الكاتب مجموعة من الأقوال والفتاوى والمواقف العملية يفهم منها حرصهما الشديد على الانتماء للوطن الذي كانا يعيشان فيه، ودعوتهما للتعايش والتقارب والتواصل مع المخالفين لهما مذهبيًّا ودينيًّا، واحترام الآخر، والابتعاد عن كل ما يعكر صفو العلاقة بالآخرين ضمن المجتمع الواحد، كما أشار إلى العلاقة الطيبة للشهيد الأول مع سلطان زمانه، وأنه كان مثالاً يحتذى به في الصدق والإخلاص والانتماء الوطني، وكيف أنه رفض الهجرة إلى إيران وفضل البقاء في موطنه.

أما الشهيد الثاني فمواقفه وفتاواه تشهد على أنه كان من دعاة التعايش الاجتماعي، فقد أفتى يوماً بخصوص الصلاة وراء المخالف قائلاً: «وأما الصلاة خلف المخالف ففيها ثواب عظيم، بل هي أفضل وأكثر ثواباً من جماعة المؤمنين..»، وهذا نهج تأسيسي للعيش المشترك والوفاق الوطني.

وفي الأخير أكد الباحث أن «التشيع عند فقهائنا هو رؤية وسلوك واجتهادات ومواقف، وليس مشروع سلطة أو دولة مستقلة عن منظومة الأمة أو الوطن..».

«بعض الابتكارات الأصولية للشهيد الثاني» هو عنوان الورقة التي قدمها الشيخ محمد رحماني (أستاذ بالحوزة العلمية في مدينة قم الإيرانية)، في البداية تحدَّث الباحث عن مكانة الشهيد الثاني في علم أصول الفقه من خلال الحديث عن مراحل تطور علم الأصول عند الشيعة الإمامية وأسباب تطوره.

يرى الباحث أن بعض المحققين تحدث عن وجود ثلاثة مراحل فيما ذكر آخرون ثماني دورات، لكن الجميع يشترك في الاعتراف بثلاثة مراحل: التأسيس، التوسعة، ثم مرحلة التكامل، وفي المرحلة الأخيرة برزت شخصيات أصولية مهمة كالشيخ البهائي، ولعل من أشهرها الشهيد الثاني، الذي وبفضل ابتكاراته والامتيازات التي أكسبت هذا العلم رونقاً باهراً، أضحى أشهر من أن يعرف وقد ظهرت ابتكاراته في كتابه المهم (تمهيد القواعد) حيث نجد الاستفادة من المنهج التطبيقي، واستعراض الأدلة والشواهد الكثيرة على أية قاعدة، ما يكشف عن علمه الغزير وتبحره في هذا العلم.

ومن ابتكاراته كذلك: عرض الأقوال والآراء المختلفة والاهتمام بجوانب البحوث والمواضيع الجوهرية، والاستفادة من المطالب العربية في البحوث الفقهية.

تحدث الباحث كذلك عما امتاز به الشهيد الثاني عن الأول، ثم شرع في عرض بعض أفكاره في أصول الفقه، مثل رأيه في الحد الأقل والأكثر من الدين، ودوران الحكم بين الحكومة والأصل الأولي، ودور الفعل بين الوجوب والندب... إلخ، وتقديم الاستصحاب على قاعدة اليد.

كذلك استعرض الباحث بعض أفكار الشهيد الثاني في القواعد الأدبية مثل: صدق الكلام على الكتابة دون غيرها، تبديل الحاء بالهاء، والقاف بالكاف... إلخ

وفي الأخير عرض الباحث بعض الآراء التي تبناها الشهيد الثاني ولم يوافقه عليها بعض الفقهاء مثل: رأيه في مفهوم الوصف والزمان والمكان، ودخول العبيد في عموم خطابات الشارع، واختصاص الخطابات بالمشافهة...