شعار الموقع

أسس توجهات القراءة عند التوحيدي

الدكتور أحمد الكبداني 2012-10-04
عدد القراءات « 1255 »

مقدمة

بالسؤال والتساؤل، بدأ التوحيدي نحت أولى تجاربه في مجال التأليف، ومع المعرفة الموسوعية التي اكتسب بعضها من أفواه العلماء، وبعضها لقط من بطون الكتب، وفي فضاء المسامرات والجلسات والمحاورات، ومع ألق البلاغة الذي توهج فيه؛ استطاع بذكائه صوغ أسئلة مهمة، تشاغب بتبصر ووعي مختلف الموضوعات المطروحة أمام الوعي الإنساني: الله، الإنسان، العالم. وفي الوقت نفسه «تنتمي إلى موضوعات متعددة بتعدد مجالات التفكير الإنساني، ومنها البلاغة والأدب والنظم والنثر، ثم دونها باعتبارها موضوع تفكيره ومبعث حيرته واستغرابه، وصك بها مسامع مسكويه ومن معه من الأدباء والعلماء الباحثين عن الحكمة والمال في حضرة ابن العميد، ثم جمعها بعد ذلك، أو جمعها غيره، مع أجوبة مسكويه عليها في كتاب «الهوامل والشوامل» وهو من أوائل كتبه».

من هنا تأتي أسئلة البلاغة والأدب والنظم والنثر كما لو أنها محطات لإعادة النظر، لحظات للتأمل، وهو ما قام به التوحيدي بعد تجربة «الهوامل والشوامل»، حيث تأبط من جديد أسئلة الفكرية والأدبية التي كانت تشغله في غير حمية أو انصراف عنها- إلى غيره من أدباء بغداد وفلاسفته، وكأنه بهذا العمل لم يقتنع بأجوبة ابن مسكويه. فكان «الإمتاع والمؤانسة» طبعة مزيدة ومنقحة للأسئلة نفسها في «الهوامل والشوامل»، لاسيما أسئلة الشعر والنثر والمفاضلة بينهما، وهو ما سيمتد إلى كتاب «المقابسات» فيما بعد.

-1-
فلسفة السؤال والتساؤل لدى التوحيدي

إن الرغبة في التساؤل مطلب أساسي وضروري لبناء المعرفة والعلم، في أي زمان ومكان، ومن شأن الأسئلة المتوهجة التي طرحها التوحيدي في مؤلفاته، والتي تمتد على مدى قرن من الزمان أو يزيد بقليل أو ينقص؛ أن تسعفنا في الإمساك بحقيقة الأمور كيفما كانت، وتساعدنا بالتالي على بناء وعي معرفي يعي أهدافه، ويسعى إلى التحكم في المواضيع التي يشتغل عليها.

ولا ندعي -هنا- أن أبا حيان التوحيدي قد فات الأولين وبز المتأخرين، كما لا ينكر أحد أن المبدع الحقيقي «لا يبدع خارج الأسئلة، الأسئلة مفاتيح السراديب المغلقة، في لحظة السؤال يكشف المبدع عن غربته، يعري ويتعرى، ويرحل في لحظة الاسترجاع ليكتب تواريخه، يتلذذ بعذاباته الراحلة في الأنا الموجعة».

وهذه القدرة على السؤال والمساءلة عند التوحيدي، هي التي وسعت من رؤيته في تعميق الفهم بالأشياء في سكونها، وحركيتها وصولاً إلى جس نبضات العصر الذي يعيش فيه مصوراً حقائقها المتجددة، وتجلياتها الظاهرة والخفية، وما تسمية كتاب «الهوامل والشوامل» إلا إيمان بقدرة التوحيدي على صوغ الأسئلة «المنطلقة الحرة التي تنتجع من يشبعها، فهي إذاً كالإبل المسيّبة. ومن الجائز أن تكون [الهوامل] جمعاً لهاملة، من هملت السماء أي دام مطرها في سكون، والمراد إذاً الأسئلة المنطلقة المتوالية الموجهة إلى ابن مسكويه، كأنها المطر النازل المدرار».

فبالسؤال والمحاورة يشرف الوعي على طرح أسئلة، تحاول ما أمكن خلخلة الوعي المستهلك لأجوبة أثبتت مع مرور الزمن- ترهلها في ظل محدودية إمكاناتنا. فالتوحيدي يسأل والسؤال وليد الدهشة، وهي عنده أن «تعض عن الفهم بالوهم»، كما أنها «لازمة لاختراق حواجز الكون».

وها هو الآن، ينبعث من رماد تجربته ليبعث فينا روح الدهشة والتساؤل من جديد، وهذا الأمر لا يتحقق في نظرنا، إلا بكسر «صمت النصوص حتى تنطق وتبوح، ويتاح لها قلق صحي عظيم، وهكذا في كل أعمال النثر التي نتطلع إليها، نقرأ كثيراً مما يقال عنها في إطار التاريخ، ولكننا في أشد الحاجة إلى أن نقرأ وجوه تحديها لنا واستجابتها لبعض مطالبنا نحن».

وبناء على ذلك، فإن الكثير من أسئلة التوحيدي في مظان كتبه، قد تباينت من جهة، حسب طبيعة الأسئلة التي تدور حول موضوعات أدبية، فلسفية، أو موضوعات ذات صبغة معرفية عامة، ومن جهة أخرى، حسب نوعية الثقافة التي كان يحاورها؛ «فهناك ثقافة الخاصة من العلماء والمفكرين الذين خرجوا على النمط التقليدي المألوف، ومع العلماء الذين كان ينتمي إليهم، كما كان يحاور ثقافة الخاصة من علماء ومفكري الثقافة النمطية التقليدية (اللغة، النحو، الفقه، الشريعة)».

وهذه المراهنة على السؤال نجدها تمتد إلى إبراز مثالب الوزيرين والسخرية منهما، ففي ثنايا مؤلفه «أخلاق الوزيرين» يصرح بالسؤال وبما يريد به، مع ميل إلى الإيجاز نحو قوله: «وقلت للزعفراني الشاعر، وكان من أهل بغداد: أصدقني أيها الشيخ عن هذا الإنسان كيف وجدته في طول ما عجمت عوده، وتصفحت أخلاقه، وخبرت دخلته». على أنه أحياناً، نجده يكتفي بعبارة (سألت فلانا عنه أو قلت لفلان كيف تراه).

وأحياناً نكون أمام محاورة على النحو الآتي: «وقلت للتميمي الشاعر المصري المعروف بالرغيب: كيف ترى هذا الرجل، أعني ابن عباد؟ فقال: طويل العنان في اللؤم، قصير الباع في الكرم... فقلت: أين هو من صاحبكم بمصر أعني ابن كلِّس؟ فقال: ذاك رجل له دار ضيافة وله زوار كالقطر».

تأسيساً على ما سبق، يمكن القول: إن المظهر الأكثر جلياً لِمَلْمَح التساؤل عند التوحيدي، يظهر أكثر في «المحاورات» التي تقوم على مخاطبة الآخر، «وتتم هذه المخاطبة عبر صيغة السؤال والجواب، وهي أبسط صور هذا الخطاب؛ حيث يلقى السؤال من قبل السائل، ثم يتلقى الإجابة عنه دفعة واحدة، سواء أكان هذا السؤال بسيطاً أم مركباً (يتضمن أسئلة عدة). وتغلب هذه الطريقة على صياغة تساؤلات «الهوامل والشوامل».

غير أن مخاطبة الآخر تتم عبر صور أكثر تعقيداً من مجرد طرح السؤال من قبل الراوي، كما هو الحال في «الهوامل والشوامل»، ذلك أن المحاورة تتخذ شكلاً أكثر تركيباً في كل من «الإمتاع والمؤانسة» و«المقابسات»، فالمحاورة عنوان الانفتاح على مختلف إنجازات الثقافة والمعارف، كما أنها في الوقت نفسه إعادة الاعتبار لثقافة المشافهة، وقيامها على نظام السؤال والجواب هو المسلك المتبع عند أبي حيان التوحيدي في عرض ما دونه من مناظرات، ويمكن اعتبارها منهجية فريدة من نوعها فيما صدر من إنتاج أدبي على يد أبي حيان التوحيدي في حدود ما نعلم، ونحن نؤمن أن هناك كتّاباً آخرين سامروا الوزراء والأمراء.

على أننا نجد في بعض الأحيان، أن نظام الأسئلة والأجوبة لم يأت بشكل تلقائي من أبي حيان التوحيدي بل كانت هناك دوافع وراء اتباع هذا النظام، كما هو الشأن في كتاب «الإمتاع والمؤانسة». حيث سلطة الوزير السياسية نفسها ساهمت في اتباع هذا النظام عن طريق نثره لأسئلته إذ يقول: «لأتعرف منك أشياء كثيرة مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت لكي أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض». فرغبة الوزير هذه ساهمت في اتباع هذا النظام، وكان أبو حيان التوحيدي مضطراً وليس مخيراً في الالتزام برغبات الوزير، فيجيب حسب ما يتطلبه السؤال، ولذلك دون كتابه على هذه الطريقة أي نظام الأسئلة والأجوبة، يقول أحمد أمين عن هذا النظام: «فكان يدون في كل ليلة ما دار فيها بينه وبين الوزير على طريقة قال لي وسألني وقلت له وأجبته. وكان الذي يقترح الموضوع دائماً هو الوزير، وأبو حيان يجيب عما اقترح. وكان الوزير يقترح أولاً موضوعاً حسبما اتفق وينتظر الإجابة؛ فإذا أجاب أبو حيان أثارت إجابته أفكاراً ومسائل عند الوزير فيستطرد إليها ويسأله عنها، قد يسأله سؤالاً يأتي في أثناء الإجابة عنه ذكر لابن عباد أو ابن العميد أو أبي سليمان المنطقي، فيسأله الوزير عنهم وعن رأيه فيهم». الأمر نفسه يسلكه في طريقة رسم المقابسة إذ «كثيراً ما كان يبدأ المقابسة بقوله: سمعت، أو قرأت، وأملى عليَّ... وقيل لأبي سليمان أو قال أبو سليمان، وسألت، وأشياء سمعناها عن.. وسأل... ثم يبدأ بتسجيل الأسئلة والأجوبة، ويداخل غير واحد من جلّة علماء ذلك العصر في المحاورات، تلك التي تقف وحدها بكبرياء قبالة محاورات أفلاطون، وخاصة في المائدة (Banquet)».

في الحوار والإنصات إلى الآخر أهمية كبرى في فكر أبي حيان التوحيدي، حيث يرى في الحوار والمناقشة ثلاثة أنماط، وهي المهاترة والمذاكرة والمناظرة.

يقول موضحاً معنى المذاكرة: «فالمقصود بها طلب الفائدة، كالرأي المعروض على العقول المختلفة إلى أن يقع الاختيار عليه بعد الاتفاق.

المهاترة: وهي الكلام مع الخصم التي تنشأ من التنافس وإيثار الغلبة. أما المناظرة: فمتوسط بين المهاترة والمذاكرة قد تفضي إلى المنافسة، وقد توجد بها الفائدة». وهكذا نجد التوحيدي قد «سعى إلى زرع بذور ثقافة السؤال وسط ثقافة الأجوبة الجاهزة، هو التزامه بالطريقة الحوارية والإصرار على سنن المشافهة، حتى ولو تحولت الكتابة إلى مؤسسة مستوية الصرح».

والسؤال والتساؤل متحه أبو حيان من معين الفلسفة، والعقل الخالص، في سعيه الحثيث نحو الإمساك بحقائق الأمور. وثقافة السؤال هذه جعلته يصول ويجول بديهيًّا، ويطرق الأبواب، ويستعرض كل ما يصل إليه الفكر في الأدب والبلاغة والنقد والفلسفة. وكأن التوحيدي قدَّر بحسه النقدي أن المشكلة في العلوم الإنسانية لا تكمن في عدم وجود الأجوبة، بل تكمن أساساً في أننا لم نفلح بعد في صوغ السؤال وطرحه!

-2-
حـــوار الـعـقــل

لا نتوخى في الحديث عن العقل التيه في عالم المعطيات النظرية الصرف، فمثل هذا العمل قام به العديد من الدارسين والباحثين، وأذكر على سبيل المثال، دراسات كل من الدكتور «محمد عابد الجابري» ود. «عبد الله العروي». لذلك فإن الحديث عن مفهوم ما للعقل، لن يكون مقبولاً إلا ضمن دائرة المعرفة الموسوعية التي يتحرك فيها التوحيدي، والتي ضربت بسهم كل ميدان، وأخذت من كل شيء بطرف، فقد انتبه التوحيدي -كغيره من النقاد والمفكرين- إلى أهمية العقل في استجلاء مواطن الجمال وإدراك أسراره، منوهاً في الوقت نفسه بأهميته في نسج الجمال الأدبي شعراً كان أم نثراً.

ولا غرابة أن نجد التوحيدي يؤثر الأدب الذي جمع فألف بين العقل والفن «فخير الكلام على هذا التصفح والتحصيل- ما أيده العقل بالحقيقة، وساعده اللفظ بالرقة، وكان له سهولة في السمع، ووقع في النفس، وعذوبة في القلب، وروح في الصدر... يجمع لك بين الصحة والبهجة والتمام. فأما صحته فمن جهة شهادة العقل بالصواب، وأما بهجته فمن جهة جوهر اللفظ واعتدال القسمة...».

في الاحتفاء بالعقل -عند أبي حيان التوحيدي- استجابة حتمية لشروط عصر تميز بالمطارحات الفكرية والكلامية، والتلاقح الثقافي بين الحضارات. فلم تعد سلطة النقل كافية للوصول إلى «الآخر» ومحاورته، ومن ثم جاء الإعلاء من شأن العقل، وضرورة استخدامه في ساحة النزال الفكرية كشرط أساسي لبلوغ المعارف الحقيقية. فالعقل هو «ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر بينهما مستمد منهما، ومؤد بعضها إلى بعض بالفيض الإمكاني والتوزيع الإنساني، فصواب بديهة الفكرة من سلامة العقل، وصواب رؤية الفكرة من صحة الطباع».

ففي «الإمتاع والمؤانسة» يظهر سؤال العقل جليًّا وواضحاً «وما العقل، وما أنحاؤه، وما صنيعه؟!».

العقل قوة إلهية لأنه «خليفة الله، وهو القابل للفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى». أما وظيفته فهي «الحكم بقبول الشيء ورده، وتحسينه وتقبيحه». إلى أن ينتهي تشبيهه بالشمس المضيئة في عالم المحسوسات «وإذا كان للشمس غروب وطلوع وتحلّ وكسوف... وليس كذلك العقل لأن إشراقه دائم، ونوره منتشر، وطلوعه سرمد...».

وفي المقابل، جعل أبو حيان التوحيدي للعقل مراتب، فهناك العقل الفعال وهو الفاعل ثم عقل النهاية وعقل المفعول، وبينهما العقل المستفاد نسبة إلى الفعل، حيث يحتاج إلى من يخرجه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، ويمثل هذا التصنيف مسار التفكير المنطقي في عملية الخلق، قال أبو سليمان: «اسم العقل يدل على معان، وتنقسم تلك المعاني إلى أقسام، بحسب ما ينقسم كل ذي عقل، وذلك أن له ابتداء وانتهاء ووسطاً، فأخذها وهو بمعنى الابتداء بالطبع، هو العقل الفعال، وهو في نسبة الفاعل. والثاني: بحسب الانتهاء، وهو العقل الإنساني، ويسمى هيولانيًّا، وهو في نسبة المفعول. والثالث: بحسب معنى الوسط، هو العقل المستفاد، وهو في نسبة الفعل، والعقل الإنساني الذي هو بمنزلة المفعول، وهو في حيز القوة التي تحتاج إلى أن تخرج إلى الفعل وحده».

وفي تمجيد العقل يقول: «والكلام في العقل مطرب جدًّا، خاصة إذا ترنم بتمجيده من وفَّر الله تعالى حظه منه، وصبغ كله وبعضه به، وغمس ظاهره وباطنه فيه، وبسط سداه ولحمته عليه». من هنا فالعقل عند التوحيدي «تمييز وتحصيل. وتصفح وحكم وتصويب وتَخْطِئَة وإجازة وإيجاب وإباحة». ولأهمية العقل ومكانته عند التوحيدي، نجده يقر بصعوبة الكلام عنه نظراً لقيمته وشرفه «فكيف الكلام في العقل، وهو البحر العميق، والمعنى الذي في ذرى نيق».

بناء على ما سبق، انطلق التوحيدي في بيان أهمية العقل في تذوق مواطن الجمال من المرجعيات الفلسفية والمنطقية، التي أعلت قيمة العقل وفي المقابل حطت من قيمة الحس، فالعقل كما ينقل عن النوشجاني «خليفة العلة الأولى عندك، يناجيك عنه، ويناغيك به، ويبلغ إليك منه، ويدلك على قصده، والسكون في حرمه، ويدعوك إلى مواصلته والتوحد به، والاعتزاز إليه، والاعتزاز به». أما الحس فهو كما عرفه في موضع: «قوة روحانية تفعل فعلها من خارج». وكما عرفه في موضع آخر: «هو قبول صور المحسوسات دون حواملها».

فالعقل عند التوحيدي، أداة تمارس فعل الحفر في مختلف المجالات المعرفية كيفما كانت طبيعة هذا المجال، ولذلك كان العقل عنده وعند أساتذته أشرف من الحس وأرفع، لذلك كان الحس خادماً للعقل، زائداً له.

فعندما سئل أبو سليمان: «فلم استغنى في نهاية المعقول عن الحس؟ ولم يستغن في نهاية المحسوس عن العقل؟ فقال: لأن المعقول في نهايته عقل، والعقل غني عن كل شيء ينحط عنه، والمحسوس في نهايته حس، والحس يحتاج إلى ما ارتفع عليه، ولابد من حس يبين به الخلق في العموم، ولابد من عقل يوصل به إلى الباري على الخصوص، والحس رائد، ولكنه يرود لمن هو أعلى منه، والعقل مستريد ولكن يستريد من هو دونه.

فالتوحيدي يقر بفضيلة الحس، ورغم ذلك فهو يقدم العقل عليه ويحله المحل الأول، فقد ورد في «رسالة الحياة»: «إن العيان العقلي فوق القياس الحسي، لأن العقل مولى والحس عبد، وشهادة المولى مقدمة على شهادة العبد».

وما يدعم هذا الرأي أيضاً، ما جاء في «المقابسات»: «إن المغمض من أرباب الحكمة يدرك بفكره ما لا يدركه المحدق ببصره من غيرهم، وذلك أن الحس محطوط من سماء العقل، والعقل مرفوع عن أرض الحس، فمجال الحس في كل ما ظهر بجسمه وعرضه، ومجال العقل في كل ما بطن بذاته وجوهره».

وفي هذا الإطار تبقى الحسيات كما لو أنها معابر للعقليات، تقود الإنسان إلى العالم العلوي، لأنه لا يمكن الوصول إلى العقل بدون حس، وحين نصل إلى حقائق العقل نفارقها مستغنين عنها «ففي كل محسوس ظل من العقل وليس في كل معقول ظل من الحس». فإذا كان الحس يدل على الجانب الضعيف المحدود، فإن العقل يشكل الجانب القوي المطلق؛ لأن «الحس ضيق الفضاء، قلق الجوهر، سيال العين، مستحيل الصورة، متبدل الاسم، متحول النعت، والعقل فسيح الجو، واسع الأرجاء، هادئ الجوهر، قار العين، واحد الصورة، راتب الاسم، متناسب الحلية، صحيح الصفة».

وجلي أن هذا التصور أقامه التوحيدي انطلاقاً من التضاد بين مجموعة من الثنائيات، تظهر خصوصية كل من الحس والعقل، ويمكن توضيحه انطلاقاً من الجدول الآتي:

الحس

العقل

ضيق الفضاء

قلق الجوهر

سيال العين

مستحيل الصورة

متبدل الاسم

متحول النعت

فسيح الجو

هادئ الجوهر

قار العين

واحد الصورة

راتب الاسم

صحيح الصفة

في هذه الأضواء يمكن القول: إن العقل عند التوحيدي ما هو إلا مقياس لضبط الأمور، وإعلاء من أمر الحقيقة، والحكم المرجوع إليه في حالة وقوع طارئ ما وثماره اليقين. لذلك قال: «إن العقل هو الملك المفزوع إليه، والحكم المرجوع إلى ما لديه، في كل حال عارضة، وأمر واقع، عند حيرة الطالب ولَدَدِ الشاغب، ويَبَس الرِّيق، واعْتِساف الطريق [...] نوره أسطع من من نور الشمس... التكليف تابعه، والحمد والذم قريناه، والثواب والعقاب ميزانه به ترتبط النعمة، وتستدفع النّقمة، ويُستدام الوارد ويُتأَلف الشارِد، ويعرف الماضي، ويقاس الآتي شريعته الصّدق، وجُندُه الخيرات، وحِليته الإيمان وزينته التقوى وثمرته اليقين».

وهذا الاهتمام المحموم بالعقل عند التوحيدي، هو ما انتبه إليه الباحث «علي شلق» في تقديمه لكتاب «المقابسات» حيث يقول: «فلو أحصينا تكرار لفظ العقل مرات متعددة في مقابساته لبان لنا أن التوحيدي مهووس بالعقل، وهذا الذي حمل بعض الكاتبين عنه أن يحشره في صف المعتزلة، كما حشره البعض في جماعة إخوان الصفاء».

لقد بلغ أبو حيان التوحيدي من إعلائه لشأن العقل أن جعله ركيزة أساسية في نظراته إلى الأدب، والبلاغة، وشتى فنون اللغة، إذ جعل العقل مقياساً أساسيًّا من مقاييس الجمال في النص الأدبي، ويدل على ذلك دعوته إلى الالتحام بين العقل والأدب، فقد جاء في «البصائر والذخائر»: «إذا صح العقل التحم بالأدب التحام الطعام بالجسد الصحيح، وإذا مرض العقل نبا عنه ما يسمع من الأدب، كما يقيء المَمْعُودُ ما أكَل من الطعام».

وبناء عليه، «إذا قل حظ الأديب من العقل، فلا خير يرجى ولا جدوى من جميع خصاله الأخرى، لأن العقل هو الذي يبني الشخصية الأدبية ويصوغها، وهو الذي يعمل على تركيزها وتوجيهها ويرسم لها غايتها وحدها (وكذا شأنه ودوره بالنسبة إلى الأثر الأدبي)؛ فهو الدعامة واللقاح والمعيار، ولولا العقل لما استطاع الأديب أن يتمثل ما يلتهمه من ألوان المعرفة وما يعيشه من تجارب فيسيغها مادة حية تصبح جزءاً لا ينفصل عن كيانه».

من هذا المنطلق، أفسح أبو حيان التوحيدي المجال لعمل العقل، القادح لكوامن الحقيقة، والمعيار الدقيق الذي به ينطلق الكتّاب في رؤيتهم للأشياء والإبداع والنقد، فلننصت إلى التوحيدي وهو ينصح الكاتب أن يضع الغاية، أو الغرض الذي يسعى إلى تحقيقه نصب عينيه أثناء الكتابة «ولكن أقرب الطرق في الإفهام أن تكون الغاية مثالاً للعقل، ثم يكون المعنى مسوقاً إليها، واللفظ مسوقاً عليها». وما يؤكد هذا الأمر قول أبي سليمان يورده التوحيدي: «المعاني صوغ العقل واللفظ صوغ اللسان»، فالمعنى من هذا القبيل هو نتاج للعقل والفكر والتدبر «المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر». ونجد أيضاً حضور العقل عند التوحيدي حتى في حديثه عن أداء الكلام وإبداعه؛ فالإنشاء من وجهة نظره «صناعة مبدؤها من العقل».

وقد جاء في معرض المفاضلة بين العالم بالحساب والعالم بصياغات الكلام قوله: «اعلم أن البليغ مُسْتَمل بلاغته من العقل، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح».

إن مطلب الحقيقة هو الشغل الشاغل للعقول كافة، والبحث عنها غاية بعيدة لا يصل ولا يدنو منها إلا النادر من الأدباء والمفكرين، ممن توفرت فيهم خصائص أبرزها العقل «ولطائف الحكمة لا يصل إليها الجبس الجافي، والغليظ الجلف، والفدم.. وإنما هي تعرض لمن صح ذهنه، واتسع فكره، ودق بحثه، ورق تصفحه، واستقامت عادته، واستنار عقله، وحسن خلقه، وعلت همته، وخمد شره، وغلي خيره، وأَصُل رأيه، وجاد تمييزه، وعذب بيانه، وقرب إيقانه».

وأخيراً، فإن الكلام في العقل -كما ينقل التوحيدي عن النوشجاني- «واسع، ولسنا نقدر على أكثر من هذا الإيضاح، في هذا الوقت، مع تقسم البال، وافتيات القول».

-3-
الـتـوســــط

اعتبر التوحيدي التوسط في الأمور دون تفريط أو إفراط مقياساً في الحكم على الأشياء ووزن الأمور. والمتتبع لمؤلفات التوحيدي سواء تعلق الأمر بالمصنفات الجامعة مثل «البصائر والذخائر» و«الإمتاع والمؤانسة»، أو المصنفات التي تنحو نحو معالجة موضوع معين كـ«أخلاق الوزيرين»، يلاحظ هذا الاهتمام بالتوسط، والالتزام به في جملة من القضايا التي كان يعالجها سواء أكانت أدبية أم غير أدبية. فقد جاءت فكرة التوسط على لسانه في الليلة الثانية من ليالي «الإمتاع والمؤانسة»: «انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الرُّبوبي نافذين في هذه الخلائق بواسطة ما بينه وبينها، ولتكون المصلحة بالغة غايتها. وهذه سياسة دار الفناء، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء».

فالتوحيدي تحدث في هذا النص على التوسط الذي تتحقق به المصلحة أو نظرية الأصلح، وهذه سياسة دار الفناء القائمة على اجتماع النعماء بالبأساء، أو قل امتزاج الخير بالشر، ويبدو التوحيدي هنا متأثراً بأستاذه الجاحظ يحذوه حذو النعل بالنعل، فقد جاء في كتاب «الحيوان» قوله: «اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى انقضاء مدتها امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع والمكروه بالسارِّ، والضَّعَةِ بالرِّفعة، والكثرة بالقلة، ولو كان الشرُّ صِرْفاً ملك الخلقُ، أو كان الخير محضاً سقطت المحنة وتقطَّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبُّت وتوقّف وتعلُّم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبين ولا دفعُ مضرة ولا اجتلاب منفعة...».

وَقَرِيب من هذا النص، ما أودعه التوحيدي من أمثلة تبين وجود مجموعة من الثنائيات في الكون نحو وجود الخير إلى جانب الشر، والنافع إلى جانب الضار، والحكمة هنا وهناك، ونرى المفسدة هنا وعدم الحكمة هناك، فلننصت إليه وهو يتحدث عن ذلك مبتدئاً خطابه بصيغة فعل أمر «فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه، وجَوْب الطول والعرض وإصابة الربح، وطلب العلم، كيف توسَّط بين السلامة والعطب، والنجاة والهلكة، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويَهلِك، لكان في ذلك مفسدة عامّة؛ ولو استمرَّت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو لكان في ذلك مفسدة عامة، فالحكمة إذا ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله من ينجو، ويسلم نفسه لله من يهلك».

فالإنسان -في نظر التوحيدي- فيه الخير والشر، ولذلك يذكر على لسان السجستاني أنه: «فيه طرفان، أعني فيه شرف الأجرام الناطقة بالمعرفة والاستبصار والبحث والاعتبار، وفيه صفة الأجسام الحية الجاهلة، التي ليس لها ترشيح بشيء في الخير، ولا فيها انقياد له». ولذلك قيل إن: «الإنسان لب العالم، وهو في الأوسط، لانتسابه إلى ما علا عليه بالمماثلة، وإلى ما سفل عنه بالمشاركة».

في إيمان التوحيدي بفكرة التوسط، نجده يستحضر نصوصاً في وصفه لكلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالاقتصاد في الكلام والتوسط فيه، والبعد عن التكلف باعتباره أمراً ممقوتاً، حيث نجده يقول «وافسح بالك للسماع والتحصيل والفهم والإدراك... عرِّفني ما السبب في إطباق الناس على أن التكلف مكروه، وعلى أن المتكلِّف معنوت عليه، ممقوت فيما اختاره، ومردود إليه ما أتاه وإن كان حسناً وبالغاً، وما عَرِيَ من التكلف وخلا منه محبوب ملتذّ مقبولٌ، وإن كان دون التكلف؟ وقد قال عز وجل: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ في صفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم): أنا ومن اتبعني براء من التكلّف».

وإنما نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) «عن تشقيق الخطب كأنه كره للخطيب أن يتكلف، والتكلف مكروه لأنه زائد عما يحتاج إليه، والمنقوص عما يحتاج إليه أخف على النفوس من الزائد، وذلك أن الزيادة على المقدار نقص مكرر والتقصير عن المقدار نقص غير مكرر».

وأيضا «تكلم رجل عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال النبي (عليه السلام): كم دون لسانك من حجاب؟ قال: شفتاي وأسناني، فقال: إن الله يكره الانبعاق في الكلام».

وبالنظر إلى أهمية فكرة التوسط، يورد التوحيدي قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حيث قال: «عليكم بأوساط الأمور، فإنه إليها يرجع العالي، وبها يلعَقُ التالي، وشبه ذلك بالحبل إذا قبض على وسطه، فالقابض قريب من طرفيه، والآخذ بأحد طرفيه بعيد من الآخر».

وتأسيساً على هذا، يمكن القول إن: «التوسط هو القسطاس المستقيم الذي توزن به أعمال بني آدم، وهو الذي يوفق بين التقابلات لإيجاد حلول وسطى في العقيدة وفي العلم وفي السياسة، وبناء على هذه التوسطية، فإن الزهد والتقشف وجمود الطموح وغيرها رذائل... والشره إلى المآكل والمشارب والمناكح وغيرها من اللذات رذائل».

كما يمكن تلمس هذه التوسطية عند التوحيدي من خلال الاستراتيجية العامة التي يعتمد عليها في السرد، والتي تقوم على مبدأين متضادين: الجد والهزل. وهذا التوسط بينهما نجده الملمح الغالب في تصانيفه ومؤلفاته، ولاسيما كتابيه «البصائر والذخائر» و«الإمتاع والمؤانسة». ولعل سبب الجمع بين الجد والهزل يعود إلى «الفلسفة الاعتدالية التوسطية الهندسية التي تحكم تفلسف أبي حيان وأضرابه، فما بين الجد المطلق والهزل المطلق تتحقق الفضائل الأربع الوسيطة التي هي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة. وتاج هذه الفضائل هو الحكمة، على أن النوادر لا تعني الهزل دائماً وإنما هو أحد معانيها، فهي تعني أيضاً- ما هو ثمين وغريب مثل نوادر اللغة ونوادر الفقه».

إن حديث التوحيدي عن مبدأ التوسط، لا يشمل فقط الفكر والعمل والرؤية للعالم، وإنما نجده حاضراً حتى أثناء مناقشة القضايا الأدبية والنقدية، نذكر على سبيل المثال موقف أبي حيان من قضية اللفظ والمعنى، حيث اتخذ موقفاً وسطاً فرأى أن مواطن الجمال لا تتحقق إلا بمراعاة جانب اللفظ وجانب المعنى، والاهتمام بهما معاً ولهذا قال: «ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ، وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء ويؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم... ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم، واعرف قدرك تسلم، والزم حدك تأمن».

وما مذهب إصابة المقدار عنده إلا مقياس لكل جودة، وقد اعتمده التوحيدي في تفسير جودة السجع، حيث اعتبر الإكثار منه سماجة يقول: «ومهما آتيت في هذا الشأن فلا تلهجنَّ بالسجع فإنه بعيد المرام، إذا طلب الواقع موقعه، والنازل مكانه، ولا تهجرنه أيضاً كلّه فإنك تعدم شطر الحسن، والذي يجب أن يُعْتَمد في ذلك هو مقدار يجري مجرى الطِّراز من الثوب والعَلِم من المُطْرَفِ، والخال من الوجه، والعين من الإنسان، والسواد من الحدقة والإشارة من الحركة».

وإنه لمن اللافت للنظر، أن نجد ناقداً مثل أبي حيان التوحيدي يلخص لنا مبدأ الوسطية القائم على الاعتدال والتوسط والاقتصاد في قوله: «واتق الحذف المخل بالمعنى، والإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يُسْتغنى عنه».

ومراعاة التوسط، وعدم التفريط في الصنعة، نجدهما يردان على لسان أبي حيان التوحيدي أثناء الحديث عن النثر والنظم، باعتبارهما صورتين للكلام في السماع، فقد جاء في «أخلاق الوزيرين» ما يلي: «ما أحسن ما قال قائل: [البسيط]

وإنَّما الشعر لبُّ المرء يَعْرِضُهُ

على الِمجالسِ إن كَيَساً وإن حُمَقَا

وإنَّ أشعرَ بيت أنت قائِلُهُ

بَيْتٌ يُقَالُ، إذَا أنشدتَه صَدَقا

وهذا باب لا يفيد الإغراق فيه إلا ما يفيد التوسط والقصد، فلا وجه مع هذا للإطالة، ولما يكون سببا للملالة». بل أكثر من ذلك، نجد التوحيدي على خلاف مشاهير عصره، يميل إلى التوسط، وهو ما أكده بنفسه حين طلب منه الوزير ابن سعدان أن يصف بعض علماء عصره فقال: «وصف هؤلاء أمر متعذر، وباب من الكلفة شاق، وليس مثلي من جسر عليه وبلغ الصواب منه، وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم، فعرف حاصلهم وغائبهم، موجودَهم ومفقودهم».