شعار الموقع

الغيرية المذهبية : بُعْدًا فكريًّا في الثقافة العربية الإسلامية

الدكتور محمد الناصر صدّيقي 2012-10-04
عدد القراءات « 856 »

الغيرية المذهبية

بُعْدًا فكريًّا في الثقافة العربية الإسلامية

الدكتور محمد الناصر صدّيقي

المقدمة

إن يختلف الناس في آرائهم ومذاهبهم، وإن تباينت عقائدهم وتنوعت مذاهبها، فإنّها تؤدّي إلى الطريق الواحد المستقيم حسب مدرسة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، التي عملت على إيجاد توفيقيّات في عصرها بين كل فرقاء الجماعة الإسلامية لخلق نوع من «الألفة»، لا سيما أن العقل العربي الإسلامي الرسمي يعمل بكل إمكاناته المتاحة على إقصاء «الآخر» من ضمن البيت الإسلامي الكبير. وقد أسهمت السلطة في تأجيجه وإذكاء نار فتنه فحازبها من حازبها وعارضها من عارضها.

ورغم ذلك ارتأت مجموعات تدّعي الحياد خلق تقاليد جديدة علّها ترسي قيم تناظرية جديدة بين «الأغيار» والفرقاء بعيداً عن قعقعة السيوف، وفي إطار نَفَسٍ جذّاب حضاري كانت له إسهاماته المميّزة في تراثنا الفكري في محطّات عدّة من تاريخنا العربي الإسلامي، أخرجت هذا الجدل من ثوب المؤسسة الإسلامية السلطويّة إلى موقع الفعل البشري بتلك الخلفيات الإيديولوجية لأقطابها في حركة إبستمولوجية علميّة أغنت العقل العربي. وقد مدّ الفعل الفكري البشري بحقائق عينيّة كان لها وقعها الخاصّ في العصر الذهبي للفكر الإسلامي، مزجت فيه ما هو لاهوتي بما هو عقلي، لعب فيه العقل دور المحرّك لقسم هام من أحداث ذلك العصر. فعديد التشكلات المذهبية في عصر الحراك السياسي والمذهبي كانت وليدة تلك المناظرات والتأويلات للنص المقدّس بامتياز، سواء خضعت هي للعقل أو سيطر عليها النقل.

وفي هذا المجال ظهرت مصنّفات في بدايات عصور الانحطاط، وسيطرت الحتميّة، وبرزت مدارس السلطة ومحازبيها على المشهد الثقافي والفكري في العالم الإسلامي. ومن هذه المصنّفات التي عملت على تقييد روح المناظرة ورفض «الغير» نذكر كتاب الصاحب محي الدين يوسف بن عبد الرحمن ابن الجوزي الحنبلي (تـ 656هـ/ 1258م) كتاب «الإيضاح لقوانين الاصطلاح: في الجدل والمناظرة». ويمكن أن يُعدّ هذا الكتاب المرجعيّ في الجدل والمناظرة من الوثائق التي يحتاجها المتكلّمون، والتي تنمّ عن روح تؤمن بالحجّة والبرهان، وعن انفتاح في مواجهةِ مَنْ تختلف معه بالرأي والبرهان رغم ما تميّزت به من نفس حنبلي.

وتميّز العالم الإسلامي في العصر الوسيط بوجود تنوّع «إثني» واختلاف مذهبي. ونلحظ ذلك في أدبيّات الإسماعيليّة الفاطميّة، مرجع بحثنا في الغيرية في تاريخنا العربي الإسلامي والعيش المشترك. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال الرسائل المتبادلة بين الشيرازي داعي الدُعاة الفاطمي بالقاهرة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعرّي، أو علاقة أبي حامد الغزالي باعتباره ممثّلاً ومرجعاً فقهيًّا للسلطة العباسيّة في إسلام العصر الوسيط والمعارضة الإسماعيلية في المجال الإيراني بعد اجتياح السلاجقة الأتراك للمجال العربي في العراق وبلاد الشام.

ولا يفوتنا أن نشير في هذا السياق إلى أنّ الاختلاف المذهبي والخلاف المتولّد عنه لا يمكن أن نختصره في رقعة جغرافية ضيّقة، بل إنّه إن وُجد في رقعة صغيرة فهو سرعان ما يروج بسرعة ويتقاطع مع غيره، وما فرض من أنماط تفكيريّة كانت أقرب لثقافة السلطة من سلطة المثقف. في حين أنّ المنطقة العربية عرفت في ظل الوجود الفاطمي حريّات وتعدديّة فكريّة ودينيّة يمكن أن تُعزى إلى أنّ الخلفاء الفاطميين كانوا أئمة وفلاسفة ومشرّعين.

فما هي الأبعاد الفكرية لتلك الغيرية المذهبية في الثقافة العربية الإسلاميّة؟

I - تأمّل في الروح التوفيقية بين فرقاء الخط الواحد

يمكن القول: إنّ الأعمال والدراسات التي تناولت الفرق الإسلامية متنوّعة ومتعددة. وفي المجمل تطوّرت أدبيّات الفرق والمجموعات الكلامية في الإسلام مما هو طقسي إلى ما هو ممارسة فكرية. إن مثل هذه النصوص الوصفيّة التي تعدّ محاولة فقهيّة ودينيّة مجسّمة لتلك الانقسامات الجزئية في الإسلام قد اكتسبت مكانة الأمر الواقع داخل كل مدرسة من مدارس الإسلام الفكرية، وأصبحت مصادر علميّة أوليّة لتاريخ المذاهب والأديان في الإسلام، ومن خلال الألفاظ والمصطلحات والأساليب التي تظهر فيها تلك الشخصيات والاختلافات بناءً سلبيًّا توضّحه مصطلحات مثل «البدعة»، «الغلاة»، و«الملحد» و«الزنديق».

وقد حاولت الاصطلاحات المناوئة لذاك النقاش والمناظرات الدينيّة والفقهيّة القائمة على تفسير قواعد الإسلام وفق منظورها الضيّق جدًّا والخاصّ وفق فهمها الإسلام وفرض نمطها.

ونذكر في هذا الباب على سبيل المثال محمد بن أحمد النسفي في مصنفه «كتاب المحصول». ويعتبر محمد بن أحمد النسفي من دُعاة المدرسة الإسماعيلية في إيران التي عرفت بميولها إلى الفلسفة الأرسطوطالية والأفلاطونية المحدثة.

وما يعنينا من هذا كلّه أنّ كتاب «المحصول» يُحسب على التيّار القرمطي الإسماعيلي المعارض للأئمة الفاطميين وشرعيّة إمامتهم. لقد برز لأبي حاتم الرازي من المدرسة الإسماعيلية الإيرانية نفسها من عارضه في آرائه وأفكاره وطُرحاته حول فكرة الخلاص والقائم المنتظر، وألّف كتاب يبيّن فيه آراءه المنتقدة لما ورد في «كتاب المحصول».

وقد سمّى أبو حاتم الرازي كتابه بـ«الإصلاح» فتصدى له أحد دُعاة المدرسة الإسماعيلية الإيرانية ليدحض آراءه وينصر شيخه وأستاذه محمد بن أحمد النسفي. فكان أبو يعقوب السجستاني من برز بكتابه «النصرة» مدافعاً عن آراء شيخه النسفي وتأويلاته العقائديّة التي تجمّدت عند المجموعات الإسماعيلية المبكرة سواء في المجال الإيراني أو عند قرامطة البحرين وأرض السواد العراقي. دفاع السجستاني عن طُرحات شيخه النسفي ورده على أبي حاتم الرازي المكتبة الإسماعيلية الإيرانية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وهي فترة أوج المدّ الإسماعيلي في العالم الإسلامي وقد كان في قمة ذيوعه وانتشاره.

وكانت هذه المناظرات عبر المِداد والرقّ حامية بين كبار دُعاة المدرسة الإيرانية، دفعت بحميد الدين الكرماني (تـ411هـ) إلى تأليف مصنفه «كتاب الرياض في الحكم بين الصادين»، يعني صاحب «الإصلاح» وصاحب «النصرة». وبمهارة فائقة قرظ الكرماني الآراء التي جاءت في الكتب الثلاثة، ونقدها علميًّا، وبيّن النظريات الفلسفية والعقائدية الرسمية للخلفاء الفاطميين في عصره. ولم يخفِ «الكرماني» ميله إلى طُرحات أبي حاتم الرازي. ورغم ذلك نجد صاحب «الرياض» يشير إلى نقائص في كتاب الرازي وتجاهله لآراء النسفي في كتابه «المحصول» وقد أوردها الكرماني في الباب العاشر من كتابه.

وما يعنينا أن الغيريّة بين أفراد الخط العقدي الواحد مهما اتّسعت الهوّة الفكريّة بينهم لا بدّ أن تصوّر طرحاً فلسفيًّا توفيقيًّا مثل الذي اعتمده «الكرماني» لجمع آراء مختلفة من أجل رأب الصدع وتكوين نهج فلسفي واحد.

ويبدو أن الخط الدعوي «لإخوان الصفاء وخلان الوفاء» المنظرين السريين للدعوة الإسماعيلية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، هو نفسه المنهج والخط الذي عمل الأئمة الخلفاء من الفاطميين على توخّيه، وهو أنّ جميع المذاهب الفلسفيّة مذهب واحد، يوافق جميع الأديان. وربما كان ذلك مسعى من قبل الحاكم بأمر الله الفاطمي (386هـ/ 411هـ) في محاولاته إيجاد توازن ديني لتوحيد معتقدات الرعيّة في خلافة ضمّت فسيفساء من الأديان والمذاهب.

هذا فيما يتعلق بتباينات أبناء الخط العقدي الواحد وربما يبقى ذلك الصدى المبثوث في صفحات تلك الرسائل حيًّا في وجدان جماعات الإسماعيليّة في مناطق انتشارها في مسعاها التوفيقي. «ينبغي لإخواننا... ألَّا يعادوا علماً من العلوم أو يهجروا كتاباً من الكتب ولا تحيّزوا لمذهب من المذاهب؛ لأنّ رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعاً...».

II- مناظرات الشيرازي والمعرّي

1– تاريخية الرسائل «المناظرات»

يعود تاريخ هذه الرسائل والمناظرات بين داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي وأبي العلاء المعرّي إلى النصف الأول من القرن الخامس الهجري في الفترة الممتدة 438هـ/ 1047م إلى السنة 449هـ/ 1057م. وقد رجح المبحر فلاديمير إيفانوف أن الكتاب الثامن من كتب المؤيد في الدين وهو «جامع الحقائق في تحريم اللحوم والألبان» مستخرج من المجالس المؤيدية.

وقد تضمّنت هذه المجالس مراسلات المؤيد الشهير والفيلسوف الشامي أبي العلاء المعري (ت. 449هـ/1057م) حول الكثير من الأطعمة الحيوانية والنباتية. وبالعودة إلى تاريخيّة هذه المراسلات نجد مرجوليوث يعيدها إلى سنة 438هـ/ 1047م. بينما ذهب محمد كامل حسين إلى أنها قد كتبت سنة 449 هـ - 1057م .

وتجمع المصادر التي تناولت شخصية أبي العلاء المعري بالدراسة، على أن رسالة الداعي الشيرازي الأخيرة وصلت إلى معرّة النعمان بعد وفاة شيخ المعرّة سنة 449هـ/ 1057م. وإذا عدنا إلى سيرة المؤيد في الدين، نجد أنّه قد خرج إلى بلاد الشام والعراق بأمر من الخليفة الفاطمي المستنصر شخصيًّا ووزيرة اليازوري سنة 447هـ/ 1055م، وذلك من أجل استقطاب البساسيري وتوظيف حركته الانقلابية في المشروع الفاطمي. وقد استعرض المؤيد في الدين نشاطاته في المجال الشامي والعراقي بسيرته الذاتية، وقد كشف لنا فيها دوره الخطير في حركة البساسيري. وعاد المؤيد إلى القاهرة سنة 449هـ/ 1057م

ومن خلال هذا العرض يمكننا القول: إنّ تاريخيّة هذه الرسائل تعود إلى فترة وجود المؤيد بالشام أثناء مهمته السياسية والدعوية. وتوجد إشارة نقلها ياقوت الحموي عن «كتاب فلك المعاني» بأن المناظرة بين أبي العلاء والشيرازي بمصر في ذبح الحيوان فأمر الأخير بأن يُؤتى بأبي العلاء إلى حلب.

وفي الرسالة الثالثة والأخيرة من رسائل المؤيد في الدين تصريح واضح بأنه كان في بلاد الشام أثناء هذه المناظرة الكتابية. ويوجد نص ورد في المجالس المؤيديّة على لسان الخليفة الفاطمي المستنصر: «حتى توجه من وجهناه من داعينا للقاء التركمانية فالعقد بيّنه المؤيد المبعوث الدعوي (الفاطمي) وبينه (أي المعري) من المناظرة مكاتبة لا مشافهة». وهذه إشارة دالة على أن المؤيد في الدين كتب رسائله التناظرية للمعري وهو يقوم بمهمته الخطيرة مع الضابط التركي البساسيري، في الفترة الممتدة من سنة 447هـ/ 1055 م إلى سنة 449هـ/ 1057م، تاريخ عودة المؤيد إلى القاهرة، أي قبل استيلاء البساسيري على العاصمة العباسية بغداد بفترة قصيرة.

وحسب مجالس المؤيد ومحاضراته، أنه كان على علم بعقيدة المعري ومذهبه الاجتماعي قبل انتقاله إلى الشام في مهمته الخاصة. وما يهمّنا هو أن تاريخية هذه الرسائل تعود إلى فترة التخطيط الفاطمي للقضاء على العباسيين واستثمارهم لحركة البساسيري الانقلابية. ومن المرجح جدًّا أنها كتبت طبعاً أثناء وجود المؤيد في حلب لترتيب أمور الحكم المرداسي الموالي للفاطميين بها، في الفترة الممتدة من 448هـ/ 1056م و 449هـ/ 1057م. وهي فترة أوج المدّ الفاطمي.

2 - المناظرات المتبادلة بين الشيرازي والمعري

تعد هذه الرسائل المتبادلة جزءاً من الموروث الفكري والحضاري العربي الإسلامي، وبعضاً من أمثلته؛ لأنّ كلتا الشخصيتين كانتا على قدر كبير من الشهرة والعالمية، وتدور الرسائل الثلاث التي أرسلها المؤيد في الدين لأبي العلاء المعري حول مواضيع حياتية وعقائدية فلسفية انتهجها شيخ المعرة. وكان سبب المناظرة كما ذكر المؤيد في الدين أنّه جرى ذكر المعري في مجلسه بدار العلم فهجاه الحاضرون واقترح أحدهم في هذا المجلس أنّ يجرد لأبي العلاء من يحاجّه ويناظره حتى تنكشف عواره وتنحط قدرته.

ويفهم من رسالة المؤيد في الدين الثالثة أن الأخير هو من اقترح ذلك في مجلسه «سمعت عن الشيخ -وفقه الله- بفضل الأدب والعلم قد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل. ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين... وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظنّة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرًّا... فقصدته قصد موسى (عليه السلام) للطور اقتبس منه ناراً، بمعرفه ما تخلَّف عن معرفته المتخلفون واختلف في حقيقته المختلفون. فأدليت دلوي...».

ومن خلال ما ذكره المؤيد في رسالته الثالثة نستنتج أنه لم يسرف في الحكم على أبي العلاء إسراف معاصريه ولم يذهب مذهبهم في عقيدته. وقد ذكر في أحد مجالسه «قد انتهى إليكم خبر الضرير الذي نبغ بمعرة النعمان وما كان يغرى إليه من الكفر والطغيان، على كون الرجل متقشفاً، وعن كثير من المآكل التي أحل الله له متعففاً، وقد كان خبره يصل إلى كل صقع بما يحرك النفوس للفتك به حمية بزعمهم للدين وغيره على الإسلام والمسلمين».

وهذا ما بعث المؤيد في الدين على مناظرته كتابيًّا، وقد أنجز ذلك في مرحلة لاحقة أثناء وجوده في بلاد الشام.

وتمثّل هدف المؤيد من هذه المناظرة في معرفة حقيقة مذهب المعري وتوضيح سره، وما ميزّ هذه المناظرات الكتابية أنّ المؤيد في الدين مبعوث الخلافة الفاطمية الخاصة لبلاد الشام والعراق، ورجل الفكر والسياسة بما أوتي من سلطة وقوة؛ آثر أسلوب الحوار، لإيمانه بحرية الفكر واستعمال الحجة والبرهان. وهو ما دفعه إلى المبادرة في الكتابة إليه وتوضيح حقيقة مذهب أبي العلاء ومرجعيته في ذلك عندما سمحت الفرصة.

إذن بادر المؤيد في الدين إلى مكاتبة المعرّي وفتح باب الحوار، وقد افتتح رسالته الأولى بذلك الإعجاب والتقدير لأبي العلاء بخطاب راقٍ قلَّ نظيره بقوله: «... الشيخ (حسن إليه توفيقه) الناطق للسان الفضل والأدب، الذي ترك من عداه صامتاً، مشهود له بهذه الفضيلة من كل من هو فوق البسيطة». وكان هذا الخطاب الحضاري بين الأضداد في المذهب العقائدي والمنهج الفكري باعتبار أن كلا الرجلين ينظر إلى الأمور من زاوية مختلفة بالطبع عن تلك التي نظر منها الآخر إليها.

فالشيرازي رجل الفكر والدين من دعاة الإسماعيلية الكبار، وهو رجل السياسة بحكم وظيفته في البلاط الفاطمي، ومهمته الخاصة مع البساسيري؛ يعود في طرحه وحجاجه إلى مرجعية دينية، أما المعري فإنّ مرجعيته فكرية أساسها الشك والبحث في قصة الخلق للوصول إلى حقائق سر الكون وخالقه. لقد كانت رسالة الداعية الشيرازي للمعري استفسارية عن منهج المعري النباتي طالباً منه طرح حجته في ذلك لعله يكتسب بذلك معارف جديدة.

أما ردّ فيلسوف الشعراء أبي العلاء المعرّي في رسالته الجوابية ، عن استفسارات المؤيد فقد جمع فيه كل ما هو فلسفي وديني، مستنيراً بالتاريخ، مرتباً حججه وأفكاره بشكل إيجابي. وهذه براعة من المعري، خاصةً وأنّه يتناظر مع كبير من كبار رجال الدعوة عند الفاطميين، وهو ما جعله يحترس. وفي جواب الشيرازي إلى المعري في رسالته الثانية، فإنه لم يجد من شيخ المعرّة وفيلسوفها ما كان يأمله، فأعاد طرح استفساراته مجدداً، وقد تخلل هذا الجواب شيء من السخرية «ولم يقصد بها احتقار خصمه»، خاصةً وأن المعري قد استعمل في جوابه المحسنات اللفظية ولم يتطرّق إلى معاني الموضوع وأصله. وما شدّ المرء في هذه المناظرة الكتابية هو ذلك الإجلال والتقدير بين الأضداد في الفكر والمعتقد واحترام كلّ منها للآخر.

أمّا عن جواب المعري في رسالته الثانية للمؤيد في الدين، فنجد فيه إبحاراً فيما هو عقائدي، ومحاولة للردّ على تلك السخرية بطريقة مخفّفة، مبرزاً قناعته بمواقفه ونهجه بكل ثبات ويقين ودون أي قلق أو ترهيب نفسي أو فكري له. ذلك أنّ المعري كان مؤمناً بأنّ لكلا الرجلين آراءه الخاصة وحقّ الاختلاف عن خصمه، وذلك بقوله:

«ولو ناظر أرسطاطاليس لجاز أن يفحمه وأفلاطون لنبذ حججه خلفه». وواقع الحال أن المؤيد في الدين قد ضيق الخناق على خصمه مما جعله يتلمس الطريق بأسلوبه الخاص لتجنب موضوع المناقشة والمؤيد يعمل على جذبه نحو أصل الموضوع، وهو ما لمسناه الرسالة الجوابية الثالثة من الشيرازي في آخر أيام إقامته بحلب 449هـ/ 1057م إلى شيخ المعرة. لكن المنية حالت دون اطلاع المعري على هذه الرسالة.

ولو طالت الحياة بشيخنا لوجدنا الإضافة في المكتبة العربية، ولظفر التراث الأدبي بثروة عظيمة من هذه المناظرات بين أضداد الفكر في القرن الخامس الهجري. وفي هذه الرسالة الثالثة من ردود الشيرازي قبل تعيينه في منصب داعي الدعاة سنة 450هـ/ 1058م وتكليفه برئاسة دار العلم، نقرأ رغبته في محاورة المعري وإعجابه بشخصيته ومنهجه الفلسفي، ورفضه كل تلك الأقوال والآراء المكفرة له والتي لا تستند إلى حجة أو برهان.

وما يهمّنا من هذه المناظرات بين هذين القطبين كلًّا حسب تخصصه المعرفي، ذاك النموذج الرائع والمتميز من الحوار والمناظرة بين خصوم الفكر والعقيدة في الشرق الإسلامي قبيل الغزو السلجوقي للمنطقة، وما نتج عنه من كبت للحريات والإبداع الفكري وغلق أبواب الاجتهاد، وما سببته من تعطيل وتكميم لأفواه العلماء والمفكرين؛ مازالت أثارها ظاهرة إلى يوم الناس هذا.

فالمعرّي الذي نظّر لفلسفته وأفكاره في مسقط رأسه بمعّرة النعمان، وكتب بكل حرية دون خوف أو قلق، لم يسع أي كان من معاصريه إلى إرهابه أو الضغط عليه، بالرغم من أن مجمل أفكاره متعارضة مع الطرح الفكري والعقائد الذي يؤمن به الفاطميون.

وتعد هذه الرسائل أنموذجاً للحراك الفكري بين أقطاب الثقافة العربية الإسلامية آنذاك. في مستوى راقٍ من الحريات الفكرية والاحترام للآخر. علما أن الذين قاموا بتكفير المعري واتهامه بالإلحاد والزندقة والمروق عن جادة الدين لم يعاصروه بل كانوا جميعاً، ودون استثناء، ممن عاش في عصر الكبت الفكري والحتمية، ونهل من ينابيع مدرسة السلاجقة. لذلك كان نتاج هذه المدرسة هزيلاً وثقافتها ثقافة أزمة وفكر تميّز باللامبالاة ورفض الآخر وتفكيره. مما أسهم في تحجير العقل وتجميد طرق التفكير والاستنباط.

III- ثقافة الاختلاف في عصر السلاجقة الأتراك:
كتاب «فضائح الباطنية» نموذجاً

بعد انحصار المد الإسماعيلي الفاطمي وبدايات الانهيار للمدن الخاضعة لحكمها وسقوطها بأيدي السلاجقة رُفعت المنابر بالدعاء للعباسيين ولمناصريهم السلاجقة، وتم قطع الخطبة الفاطمية. ولم يبق للخلافة الفاطمية إلا المناطق الساحلية والقريبة من المجال المصري جنوباً مع احتفاظهم باليمن والحجاز. ونجح السلاجقة في مراحل عديدة في استئصال الوجود الكياني للشيعة عسكريًّا، فقد حققوا انتصاراً كبيراً في إزالة الكيان القرمطي على ضفاف الخليج العربي سنة 469هـ/ 1075م. كما عمل خلفاؤهم الزنكيّون ثم النوريّون والأيوبيون على إسقاط الخلافة الفاطميّة نهائيًّا في سنة 567هـ/ 1171م على يد الضابط الكردي في جيش نور الدين زنكي صلاح الدين الأيوبي، وأمر خطباء المساجد بالدعوة للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله في 7 محرم 567هـ/ 10 سبتمبر 1171م، وأزيلت الرموز الفاطمية، وأعيد السواد شعار العباسيين.

وقد رافق سياسة العسكر السلجوقي سياسة تجفيف منابع «الفكر الشيعي» التي ابتدعها وزير السلاجقة الأكبر نظام الملك الطوسي. فأسس سلسلة من مدارس حملت اسمه أشهرها نظاميّة بغداد، فقد أوقف عليها الأحباس ومكّن إطارها التدريسي من جرايات وتدخّل في اختيار الأساتذة والطلاب وتحديد مناهج التدريس التي تسير عليها هذه المدارس.

وبسبب الحوافز المادية والامتيازات التي يحظى بها الإطار التدريسي بالنظاميّة، تخلّى عدد من المشائخ والأساتذة على مذهبهم التعبدي في عصر كان التعصّب المذهبي سمة من سماته البارزة، وكان عدد من الحنابلة قد انتقلوا إلى مذهب الشافعي في حركة أقلقت البعض؛ فنجد الرجل يتحول مذهبيًّا لغايات ماديّة بحتة، فمن مدرسة أبي حنيفة النعمان إلى نهج المحدث أحمد بن الحنبل، ثم أتبع هذا بالانتقال إلى مذهب الشافعي، فأنشد الشاعر محمد بن أحمد أبو البركات (تـ 599م) في ذلك أبياتاً قال فيها:

«ومن مبلغ عني الوجيه رسالة

وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل

وذلك لما أعوزتك المآكل

وما اخترت رأي الشافعي تديناً

ولكنها تهوى الذي هو حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر

إلى مالك فافطن لما أنا قائل»

كما لم يكن يُسمح للتدريس بالنظاميّة لغير أهل السنّة، بدليل أن علي بن محمد الفصيحي (تـ516هـ) مدرّس النحو بهذه المدرسة طُرد منها عندما تبيّن أنّه شيعي.

يستوقفنا في هذا الإطار أولئك الذين أوقفوا فكرهم لخدمة السلطة وأهدافها في محطات عدّة من تاريخنا، وكانت أقلامهم وفتاويهم لساناً ناطقاً باسم الخليفة ظل الله في أرضه. وما أخرجته النظاميات من مشايخ وقضاة ومفتين مازالت أصداء فتاويهم ونصوصها معتمدة إلى الآن. والخطر ليس في دخول المشايخ للحقل السياسي إنما يكمن في توظيف هؤلاء «المساكين» لخدمة أغراض لا تخفى على أحد في عصرهم، والمهم بالنسبة إليهم تقوية مؤسسة الحكم، وعباءة الخليفة تغطّي الجميع. وإذا كانت إحدى أهم ثمرات المدارس النظاميّة تمهيد الطريق وتسويته لسيادة المذهب الأشعري، فإنه كان من أبرز نجاحاتها الحدّ الكبير من نفوذ الفكر الشيعي بجميع مرجعياته.

ومن أبرز الذين تجنّدوا لهذا الغرض نذكر الغزالي (ت 505هـ) الذي شنّ حرباً شعواء على الشيعة عموماً وعلى الخط الإسماعيلي على وجه التحديد، وقد نعته بالـ«باطني»، إذ يذكر أنه ألّف كتباً عدّة، أشهرها «فضائح الباطنيّة»، الذي كُلف بتأليفه في عام 487هـ/ 1094م من قبل الخليفة العباسي المستظهر بالله (أبو العباس أحمد 487 - 512هـ/ 1094 - 1118م)، حتى أنه سمي مؤلفه بـ«المستظهري».

وواضح من عنوان الكتاب أنه تنفيذ لأمر سياسي صرّح به الغزالي نفسه: «في تنفيذ أمر الخليفة امتثالاً لأمر الله بطاعة ولي الأمر، علاوة على أن المأمور به فيه دفاع عن الحق المبين». وهذا ما يؤكد لنا أن المفكر المسلم أشعري العقيدة جنّد قلمه وفكره لمناهضة المجموعات الإسماعيلية في المجال الإيراني باسم «الخليفة السنّي».

ويُعدّ كتاب «المستظهري» المعروف بـ«فضائح الباطنية» المرجع الرئيس الذي اعتمده أصحاب أدبيات الملل والنحل بعد الغزالي.

ولا يخفى علينا دوافع الخلافة العباسية ،في جميع مراحلها من قوّة وضعف وانحدار، أنها تعمل بكل إمكاناتها المادية والفكرية للتشنيع على معتقدات خصومها السياسيين منذ تأسيس الخلافة الفاطميّة. فمن بين التشنيعات الكثيرة زعموا أن الإسماعيليين لا يلتزمون تطبيق الشريعة؛ لأنهم يقولون: إنهم عثروا على سبيل للوصول إلى معانيها المستورة في الباطن، ومن هنا راحوا يشيرون إلى الإسماعيلية بالـ«الباطنيّة» بقصد الإساءة. إضافة إلى نعتهم بـ«الملاحدة»، علماً بأن الإسماعيلية في مراحلها النشأوية التزموا ممارسة الشرع السائد في المناطق التي عاشوا فيها.

ولم تُصَغْ قواعد الفقه الإسماعيلي إلا على يدي القاضي النعمان (ت974م)، لذلك لا بد من التنبّه إلى ما رسخته المدرسة النظامية بحرابة السلطة والحوافز لإطاراتها في التحامل على الآخر ضمن البيت الإسلامي الكبير. فالباطنية -حسب تعبير الغزالي- هم أنفسهم المجموعات الإسماعيلية الإيرانية المرتبطين بالحسن الصباح رفيق درب الخواجة نظام الملك الطوسي وزير السلاجقة وعقلهم السياسي المدبر.

وبالعودة إلى الغزالي وإلى إشارته عن «الباطنية» وطعونه العقدية فيهم بسبب أمر عمليات خلائفي باستهدافهم وتشويه مذهبهم، واستخدامه أشد العبارات النابية ضد إسماعيلية إيران؛ فإننا نجد هؤلاء يفضلون، ككل المجموعات، تسميتهم بأحب الأسماء إليهم، كأن تكون الإشارة إليهم بأصحاب «الدعوة الهادفة» أو «الدعوة الجديدة»، باعتبار أن الدعوة القديمة تعني الإشارة إلى الدعوة الإسماعيلية الفاطمية بالقاهرة.

فالدعوة الجديدة أصبحت حركة إسماعيلية تنسب إلى الابن الأكبر للخليفة الفاطمي المستنصر «نزار» لذلك سميت بالإسماعيلية النزارية، وهي مستقلة عن الفاطميين. وجرى تنظيمها بشكل شبه منفرد بقيادة الحسن الصباح (تـ 518هـ/ 1124م).

وكان كتاب «المستظهري» قد كتب إبان الطور التكويني للحسن الصباح وقبيل وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر (ت 487هـ/ 1099م). لذلك اعتبر الغزالي حراك الحسن الصباح امتداداً طبيعيًّا لفاطمي القاهرة في صراعها السياسي والمجالي على مناطق النفوذ الكبرى في قلب العالم الإسلامي، خاصّة وأن رقعة الخلافة الفاطمية اقتطعت منها أجزاء عدة، فانفصل الشمال الإفريقي وأعلن ولاءه المذهبي للعباسيين بقيادة آل زيري بإفريقية سنة 443هـ/ 1051م.

إضافة إلى ما ذكرناه من احتلال سلجوقي للحواضر الفاطمية ببلاد الشام فقد كان لكلتا القوتين الإسلاميتين الأكبر طموحاً للهيمنة على مجمل أراضي «دار الإسلام».

واستند الفاطميون إلى سلطة إمامهم الخليفة الذي مثّل السلطتين الدينية والسياسية، بينما تلفح السلاجقة بعباءة العباسية السوداء في بغداد بعد أن مددوا في أنفاس وجودها السياسي. وقد حرّضت هذه المنافسة الغزالي ودفعته إلى اتّخاذ موقف المخاصمة والتحامل، ورأى في مجمل المشروع الإسماعيلي الشيعي للفاطميين ممثلاً «للآخر بكلّيته» والذي لا مجال للصلح والاتفاق معه، كما شكّل قول الإمام الشيعي بالسلطة والعصمة، تحدياً لفرضيات التقليد السني «الأشعري» بحد ذاتها، وبالتالي المس بوجود فقهاء السنة.

والظاهر أن التحدي الكبير الذي واجه المنظومة الدعائية للسلاجقة ومفكريهم وعلى رأسهم الغزالي هو نظام الدعوة الفاطمي وإشراف قادة علماء عليها. فالحسن الصباح عدوّ السلاجقة اللدود في المجال الإيراني كان عالماً في الأمور الدينية وإليه يعود الفضل في تأسيس مكتبة الموت الضخمة، بل إن أغلب قلاع الإسماعيلية قد زودت بكتب مهمة وأدوات علميّة، كما جدّد الحسن الصبّاح عقيدة التعليم بصورة أكثر تشدداً في رسالة دينية لم يحالفها البقاء، لكنها اقتبست أو احتفظت بأجزائها المبثوثة في المصادر، وعلى يد الحسن الصباح أصبحت «عقيدة التعليم» هي التعليم المركزي للنزاريين الذين صاروا يُعرفون منذ تلك الفترة باسم التعليمية.

يُعدّ عمل الحسن الصباح الفكري تحدياً حقيقيًّا لمؤسسة التفكير الرسمية عند السنة الأشعرية، بما في ذلك نقضها لشرعية الخليفة العباسي. وهذا ما دفع الغزالي لقيادة هجوم على الإسماعيليين وعلى عقيدتهم في التعليم. وجاءه الردّ من أحد إسماعيلية اليمن الداعي الوليد.

لقد وفرت عقيدة التعليم النزارية مجالاً لاستقلالية السلطة التعليمية لكل إمام في عصره، الأساس والمرجع الكلامي لجميع التعاليم النزارية اللاحقة. ووسع الإسماعيلية النزاريون رعايتهم للعلم لتشمل علماء من خارج جماعتهم، بمن في ذلك السنة الأشاعرة والاثنا عشريون، بل حتى من غير المسلمين. وقد وجد عدد كبير من مثل هؤلاء العلماء ملجأ لهم في الحصون والقلاع الخاضعة للنزارية، ولا سيما عقب الغزو المغولي لمناطق آسيا الوسطى، وقد أفاد هؤلاء العلماء أنفسهم من مكتبات النزاريين ومن رعايتهم للعلم.

وإذا تأملنا «كتاب المستظهري»/ «فضائح الباطنية» نجد الغزالي قد أجبر على القيام بمناظرة فكرية تمت صياغتها بأسلوب المجادلات الكلاميّة، وهو أسلوب من النقاشات الذي وجدت منه صيغ مختلفة عديدة، فقد اشتملت عموماً على تحليل وتفنيد مجادلات الخصم أو مزاعمه، بحيث يتم تفحص الصلاحية المنطقية للافتراضات التي بُني عليها. وكتبت بالصيغة القديمة للحوار مع محاور مفترض.

ومما لا شك فيه، أن كتابات الغزالي كانت من أولها إلى آخرها متحاملة على الإسماعيليين.

وهذه المجابهة المتحاملة تخطت -ولا سيما «كتاب المستظهري»- كونها مجرد مجابهة دفاعية أو استجابة لردة فعل، ولكن بالإمكان وصفها بـ«التفكير المعمق» في التحدي الإسماعيلي النزاري (التعليمي).

وبغض النظر عن دوافع الغزالي الدينية والسياسية لجهده الفكري في مقارعة الإسماعيلية النزارية أو الباطنية كما نعتها هو للتشنيع بهم، فإننا نتوقف عند مجاملته للخليفة العباسي الذي اعتبره هو الخليفة والإمام الشرعي بإفراد الباب التاسع «في إقامة البراهين الشرعية على أنه الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله»، كما يمكن القول: إنه من سقوطات الغزالي نظراً إلى أن الخليفة المنادى بشرعيته مغلوباً على أمره يسيطر عليه الغلمان والعساكر الترك، ومع كل ذلك فإن النفس الحواري المفترض الذي حاول الغزالي توخّيه ضد «الغير» يعد إيجابيًّا من ناحية استعماله جانبا تحليليًّا وفلسفيًّا، بغض النظر عن مدى صحته أو عقلانيته، إلَّا أنه يعد إيجابيًّا في ظل سياسة التقتيل والإبادة والتحريق السلجوقية، ورفضها للآخر أو لكل نفس سياسي مختلف «عن رأي الجماعة» الذي هو رأي المؤسسة الإسلامية الرسمية التي عملت طوال مراحل من تاريخنا على دحض حجج «الآخر»/ «الغير» وإضعافها.

وكل الروايات التي وصلتنا عن الخط الإسماعيلي في «آل موت» كانت صنيعة غرف النظامية ومشائخها، واستبدت بالمخيال الجمعي الإسلامي حتى ضاهت حقيقةً هذه الجماعات التي عرفت بـ «الحشاشين» في مراحل لاحقة.

الخاتمة

إن ثقافة الاختلاف قدمت الكثير لبناء منظومة فكرية نقدية ارتقت بالعقل الإسلامي، وأوجدت تنوعاً جمع بين «المقدس»/ «الأُخروي» و «المدنس»/ «الدنيوي» لعب فيها العقل النقدي والعلمي والمؤسطر وبالطبع العقل الديني، دوراً مُؤججاً في الحراك الفكري والسياسي، وبحكم أن تاريخنا العربي الإسلامي مُزج فيه الديني بالدنيوي، والتصق هذا الثنائي بكل الأحداث والتطورات؛ فإن يفشل فيه العقل السياسي ينجح فيه العقل الديني خاصة في «العلاقات الغيرية».

لقد أُريقت دماء لأسباب طائفية وعقدية فقصّة خلق القرآن في العصر الذهبي للعباسيين أفاضت بحاراً من الدماء، وقُتل فيها أعلام شوامخ، وربما تكون من الموبقات التي لا تُغتفر أن يضم العقل السياسي العقل العلمي ورجال الفكر إلى عباءته لشرعنة أعماله، وكانت الحوافز محرضاً على تبديل ولاءاتهم المذهبية، كما لعب السيف دوراً في إلغاء الآخر وفرض «غيرية» جديدة تحاكي سلطة الخلائف، وفي المجمل ومحاولةً للإنصاف ورد الاعتبار لا بد لنا من قراءة أخرى أكثر تأنياً للتاريخ الإسلامي إن لم ندعُ إلى إعادة كتابته وبيان أدوار الأغيار في بناء منظومة فكرية أعطت للحراك الفكري مكانته، فوصلتنا أدبيات عن روح قبول الآخر وحجاجه وكذلك رفضه.

ويبقى سيف السلاجقة والنظاميات من يعيق ذلك التواصل مع الآخر، إضافة إلى سيطرة روح الأنانية ونرجسية الفشل والتبرير على العقل المهمش بين سلطة العمائم وسيف السلطان.