استيقظت المجتمعات العربية، في مطالع العصر الحديث الذي ارتبط لديها زمنيًّا بنهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع عشر، وحديثاً بدخول الاستعمار إلى الأراضي العربية، «استيقظت» على تناقض حاد بل جارح، بين تمثلاتها الذاتية أي بين صورتها عن ذاتها وبين واقعها العيني. فالصورة الذاتية المتراكمة عبر القرون تقدم صورة أمة لديها أحسن لغة وأحسن دين وأحسن تراث ثقافي وحضاري وعلمي، في حين أن الواقع العيني يكذب هذه الصورة في كل لحظة. فواقع العرب هو واقع التخلف الاقتصادي والاستبداد السياسي والتأخر المعرفي والتقني، هو واقع الخضوع للاستعمار الغربي الأوروبي، واقع التخلف الاجتماعي المتمثل في الفقر المعمم وفي انتشار المهول للأمية والأمراض والاستبداد والتمرد والفوضى في المجال السياسي.
هذا التناقض بين الصورة التمجيدية عن الذات ونقيضها المتمثل في التأخر والتبعية والدونية وسم الوعي العربي العام، وعي النخبة ووعي الجماهير، بنوع من الوعي الشقي وبنوع التمزق والتيهان؛ لأن الواقع يكذب في كل لحظة ما هو مسطور في الأذهان.
يرجع الفضل للفئات العصرية من النخبة المثقفة العربية في تدشين مخاض تفكير نقدي عسير في واقع العرب الأليم وفي وعيهم الممزق. غير أن هذه النخب الثقافية نفسها ظلت تعكس تجاذبات الواقع وآلياته واتجاهاته وكذا التوترات الثقافية. فقد اتجهت النخب المثقفة المشبعة بالثقافة التقليدية من فقهاء وقضاة ومثقفين على وجه العموم إلى التأكيد على صحة التشخيص لكنها أرجعت هذا الانحدار أو الانحطاط إلى التفريط في الدين والتخلي عن مقومات الهوية الدينية. وكان هذا التشخيص والتعليل شائعاً وقويًّا لأنه يعكس بادئ الرأي الشائع، ويرجع التأخر والخضوع للأجنبي نتيجة للتخلي عن المقومات الأساسية للدين الحنيف. هذا الوعي التقليدي ظل وعياً إيديولوجيًّا قويًّا ومترسخاً في المجتمع العربي إلى اليوم وإن بدرجات متفاوتة وبتلوينات مختلفة.
النمط الثاني للوعي العربي هو الوعي الحداثي الذي يشخص الحالة العربية بأنها حالة الانقطاع عن التطور التقني والعلمي والسياسي والثقافي منذ عشرات القرون أو منذ ما يطلق عليه عصر الانحطاط. فهو على النقيض من النمط التقليدي يرجع التأخر والانحطاط إلى الذات العربية نفسها وإلى عدم قدرتها على التطور إما بسبب الجمود السياسي أو الفكري أو الاجتماعي أو غيره. إلا أن هذا النمط من الوعي ظل محدوداً وخافتاً ومحدود الفعالية؛ لأنه يتطلب مستوى عالياً من التفكير والنقد ومراجعة الذات والتخلص من هيمنة الرؤى التقليدية، بل غالباً ما نظر إلى هذا النوع من الوعي على أنه أقرب ما يكون إلى الوعي التغريبي أو الوعي المستلب أو المستجيب للغزو الفكري.
هذان النمطان من الوعي هما النمطان الثقافيان المؤطران لكافة أشكال الوعي العربي في مختلف تجلياتها، وهو نمط يخترق كافة أنماط الوعي الجزئية الأخرى كالوعي السياسي والوعي التقني والوعي الاجتماعي والوعي الاقتصادي.
هذه الأنماط الفرعية من الوعي تتضمن التشخيصات والحلول في الوقت نفسه، أي أنها تضع يدها على مواطن الداء وعلى مكان ومواصفات الدواء في الوقت نفسه.
ركز رواد الوعي السياسي على أن السبب الرئيسي لتأخر المجتمعات العربية هو نظامها السياسي العتيق، الذي هو نظام سلطوي مستبد ولا يتيح للمواطنين الحقوق والحريات الضرورية واللازمة.
بيد أن هذا النمط من الوعي اخترقه الإحداثي الأساسي الموجه للرؤية العامة في المجتمع. فئة من النخبة السياسية ومن النخبة الثقافية اتجهت إلى القول بأن الحل يكمن في إعادة إحياء أو استلهام النظام السياسي التقليدي والثقافة السياسية الإسلامية التقليدية، وبخاصة تجربة الخلافة النبوية وتجربة الخلفاء الراشدين ومن أتى بعدهم، والمتمثلة في اعتماد الإجماع والشورى والنصيحة والحوار والتسامح والاسترشاد بأمثلة السلف الصالح. هذا بينما اتجهت فئات أخرى نحو القول بأن إصلاح أحوال المسلمين وإعادة الهيبة والمكانة للدولة الإسلامية يتطلب الانفتاح على التجارب السياسية للعصر في الدول المتقدمة وانتقاء أو استلهام نموذجها السياسي المتمثل في تنظيم المالية والاقتصاد وتنظيم الجيش وتنظيم الإدارة والأخذ بالأساليب السياسية الحديثة. وقد دعم هذا الاتجاه العصري تلك الجدالات الحادة حول مدى وجود نظرية إسلامية في السلطة، وذلك على اعتبار أن الإسلام دين روحي بالأساس، وأنه يتضمن توجيهات أخلاقية ويكل للناس أمر تنظيم دنياهم بالطريقة الملائمة. ولعل هذا الاتجاه قد عبرت عنه أفكار علي عبد الرزاق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم».
إن ما يدور اليوم من أحداث في المجتمع العربي، وبخاصة ما يطلق عليه «الثورات» العربية أو «الربيع» العربي هو مخاض تاريخي طويل الأمد، إنه مخاض تحولٍ تدريجي عميق في مجتمع يسوده الاستبداد السياسي العنيف والشرس، إلى الحدود التي جعلت الكثير من الملاحظين يتحدثون عن استمراء العنف السياسي أو عن قدرية ما كان الباحثون الغربيون يسمونه «الاستبداد الشرقي» وكان الاستبداد خاص بالمجتمعات الشرقية، إلى مجتمع يتوق نحو تحقيق نوع أو قدر من الحداثة السياسية في صيغة الديمقراطية مما يحقق الحد من سلطة الدولة وتقسيم السلطة وتنظيمها، وإقامة مؤسسات وآليات لمراقبتها والحد من شططها، وكذا إعادة القيمة والمكانة للمواطن كفاعل سياسي ذي حقوق يتعين التنصيص عليها. كما يتعين تفعيل دوره كفاعل سياسي لا كمجرد متلقٍ سلبي، وكذا ضمان الحريات المختلفة للأفراد والمجموعات من قبيل الحريات السياسية والحريات الفكرية وغيرها.
ما يحدث اليوم (في 2011)، بحكم حدوثه في أكثر من ستة بلدان عربية، أصبح بمثابة ظاهرة عامة كاسحة. وانطلاقاً من الجانب الاحتجاجي والمطلبي الذي يحركها، وبغض النظر عن عدم وجود ملامح أيديولوجية جامعة فإن هذه الحركية الاجتماعية العنيفة التي أسقطت رموز بعض الأنظمة، فإنها تتخذ صبغة حركية تاريخية مفصلية أو انتقالية تطمح إلى إقامة أنظمة ديمقراطية تعوق أولاً عودة الاستبداد السياسي والعسكري (الحزبي والعائلي والقبلي...) الذي شهدته البلدان العربية منذ حصولها على استقلالاتها السياسية من الاستعمار الغربي في أواسط القرن العشرين، وتطمح ثانياً إلى إرساء دولة القانون القائمة على الشرعية التمثيلية بدل الشرعيات الأيديولوجية والقومية التي تعللت بها العديد من الأنظمة العربية بعد الاستقلال، وتحولت من خلالها إلى أنظمة عسكرية أوقفت وأعاقت أشكال التطور التلقائي المدني لكل من المجتمع والدولة.
الدولة الديمقراطية أو دولة القانون التي تنشدها الشعوب العربية من خلال الإصرار والمثابرة اللذين يطبعان الحراك التاريخي العربي الحالي، هي دولة القانون أولاً ودولة المؤسسات (لا دولة الأشخاص أو العائلات)، والدولة الضامنة للحريات وللحقوق، والمتيحة لفاعلية الأفراد المواطنين ولحقهم في محاسبة السلطة إما بأنفسهم أو عبر ممثليهم في المجالس الجهوية والوطنية المنتخبة.
هذا التطلع القوي نحو الديمقراطية والتعلق بها بشكل قوي يجعلها تبدو أحياناً كيوتوبيا تاريخية ملهمة، وأحياناً كفكرة خلاصية أو محملة ببشائر الخلاص، وهو ما يدل من جهة على شراسة وعنف الاستبداد السياسي العربي كما يدل على مدى التوق إلى الخلاص وإلى الخروج من دوائر الاستبداد السياسي وعن مدى الحاجة إليها.
إلا أن هذا التطلع نحو الديمقراطية والرهان عليها كحل يشي بالخلاص هو تطلع يواجه العديد من المثبطات والعوائق الثقافية والمؤسسية:
- البنيات والمؤسسات التقليدية: البنية القبلية والعشائرية والقرابية.
- الثقافة التقليدية المنغلقة التي لم تنفتح على ثقافة العصر.
- السلطة السياسية الميالة إلى الارتكاز على البنى التقليدية والقائمة على السلطة القائمة على العنصرين المكونين السابقين وإن تنمقت بمصطلحات ومقولات مستقاة من الثقافة الكونية أو متكيفة معها.
مجموع العناصر الثلاثة السابقة تشكل كتلة صلبة متداعمة العناصر تعوق وتبطئ آليات التطور، وبخاصة انتشار وشيوع الآليات والأفكار الديمقراطية.
وشيوع مقولة الإصلاح في الفكر العربي السياسي والثقافي الحديث يعود من جهة إلى أن نموذج التطور
Paradigme ظل هو فكرة أو آلية الإصلاحات والتنظيمات التي تبنتها الدولة العثمانية استجابةً لمطالب وضغوط الدول الأوروبية في تنظيم التجارة، وتنظيم الجيش، والمالية، والقضاء، والإدارة؛ لكنه يعود من جهة ثانية إلى الطابع المسالم والتدرجي للإصلاح. فهذا الأخير يفترض ويضمر أن ما هو قائم صحيح وجيد وملائم لكن يتعين «فقط» إصلاحه بإدخال بعض الإصلاحات والتحسينات، وبالتالي فهو لا يتضمن نقداً جذريًّا أو محاسبة ذاتية قوية أو مراجعة راديكالية لما هو قائم، ولا يفترض أن البديل هو الثورة. فكرة الإصلاح هاته هي استجابة للتشخيص المشوس وللحلول الملتبسة ومبقٍ لرضا الذات على نفسها.ولعل استيعاب مضمون الديمقراطية وتبني آلياتها يتضمن ويقتضي على الأقل قسطاً من مراجعة الذات، كما يضمر ضرورة الحد من غلواء الأوهام الذاتية ومن سطوتها وهيمنة الصورة المتواترة على النفوس.
وهذه العوائق من مستويات مختلفة جعلت البعض يتحدث عن «العجز الديمقراطي العربي»، بمعنى الإعاقة أو العجز العضوي عن استيعاب وتبني الديمقراطية، وهي الأطروحات التي رددها العديد من المستشرقين كبرنار لويس ووارتربوري بصيغ مختلفة، تجعل البعض منهم يبالغ ويجازف بإرجاع كل مظاهر القصور والنقص العربي إلى أسباب «ماهوية» و«أنطولوجية»، مما يفقد تحليله الحد الأدنى من المصداقية العلمية التي تحتكم إلى الوقائع والتاريخ لا إلى الماهيات والجواهر.
غير أنه يجب علينا في الوقت نفسه أن نبذل جهداً فكريًّا ونقداً ذاتيًّا كافياً لاستيعاب الأسباب الذاتية للعطالة التاريخية العربية في العديد من المجالات ومن بينها المجال السياسي ومجال الديمقراطية. فالذي حدث هو «استيراد» تقنيات وآليات سياسية حديثة وإقامتها في أرضية اجتماعية وثقافية غير ملائمة، وكأن الأمر يتعلق بعملية إفسال «
greffe» مؤسسات وتنظيمات ديمقراطية في بيئة تقليدية ما تزال القبلية والعشائرية والإقطاعيات العصبيات الجهوية والإثنية والبنيات القرابة راسخة وقوية وفاعلة فيها، وما تزال شبكات الإدراك والتقييم تنتمي فيها في الأغلب الأعم إلى الثقافة التقليدية.كانت الخطاطات الشائعة التي روجتها الماركسية الحركية الكلاسيكية، تعتبر في إطار نظرتها الميكانيكية للعلاقة بين النظر والممارسة أن كل بنية سياسية أو اجتماعية أو تقنية ستولد حتماً ثقافتها وستفرضها، لكن التطور بين أن الثقافة التقليدية لها من المتانة والرسوخ والقوة ما يمكنها من الصمود، وهو ما يجعلها لا تستسلم لتفسح المجال لرديفتها الحديثة بل تظل تحيا وتقاوم وتناور من أجل البقاء. فمظاهر التحديث لا تستنبت ثقافة حديثة بل بالأحرى هي التي تتطلب بيئة ثقافية تحتضنها وتكون بمثابة إطار للحد الأدنى من الاستقبال والتلقي.
ولعل هذا قانون عام يحكم المجتمع العربي برمته، وهو أن الانخراط الجزئي والتدريجي، سلماً أو بعنف، في أتون عمليات التحديث التقني والتنظيمي لم تواكبه تحولات ثقافية ذاتية المنشأ بسبب تباطؤ التطور الثقافي في مجتمع تقليدي.
هذا بالنسبة للعوائق التي تحول بين المجتمع العربي والتحول نحو الديمقراطية، أما بالنسبة للمفكر وبالنسبة للمثقف العربي عامة وبخاصة المثقف القومي والحداثي والنهضوي، فإن التحول نحو الاقتناع العميق بالنموذج الديمقراطي لم يكن تحولاً سهلاً ولا متيسراً.
طبعاً لم تكن الفكرة الديمقراطية منذ البداية فكرة لامعة وجذابة ومغرية، لا فقط بسبب تلكؤات النموذج الثقافي التقليدي، ولا فقط بسبب التشويش الكبير الذي سلطته الماركسية والنزعات الاشتراكية على الديمقراطية السياسية، باعتبارها فكراً يتعارض مع ما يمكن تسميته بالديمقراطية الاجتماعية، بل أيضاً وبسبب الغموض والتباس المثال الديمقراطي نفسه.
وإذا تتبعنا خط تطور الفكر السياسي العربي الحديث منذ الأجيال الأولى المتمثلة في الفكر الإصلاحي العربي (رشيد رضا، الأفغاني، محمد عبده، رفاعة الطهطاوي، لطفي السيد، خير الدين التونسي، علال الفاسي...) فإننا لن نجد أن لفكرة الديمقراطية حضوراً قويًّا وجذاباً، وأنها قد بدأت تتبلور لتأخذ صورة حل أو مثال هادى أو مخرج أو غيره. بل إن هذه الفكرة قد تدرجت وتدفقت باحتشام عبر هذه المسيرة الفكرية الطويلة ولم تأخذ في التبلور التدريجي إلا مع الأجيال اللاحقة من المفكرين العرب: قسطنطين زريق، عبد الله العروي، محمد أركون، جورج طرابيشي، صادق جلال العظم، طيب تيزيني، حسن حنفي، غسان سلامة، برهان غليون، هشام جعيط، محمد عابد الجابري، فؤاد زكريا وآخرون، وذلك بعد أن قطعت في المرحلة الفكرية السابقة أشواطاً أولى محتشمة مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ولطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى وبلحسن الوزاني وعلال الفاسي وعبدالله إبراهيم في المغرب، الذين تمحورت أفكارهم السياسية ذات النكهة الإصلاحية حول مقولتي الحرية والدستور والبرلمان، أي حول مسألة تنظيم وضبط السلطة.
فالفكرة الديمقراطية لم تنزل كالوحي في لحظة واحدة، بل تدرجت وتعثرت وتلكأت في الواقع وفي الأذهان. ولعل الرنة التاريخية الكبيرة للديمقراطية كانت هي سقوط المعسكر الاشتراكي وما تلاه من ازدهار للأفكار الليبرالية. لقد أخذت الفكرة الديمقراطية كامل ألقها وزخمها بالخصوص بعد ذبول الوردة الاشتراكية وتضخم فكرة النموذج الليبرالي باعتباره ذروة أو نهاية التاريخ البشري. وفي تقديري أن هذا الإطار السياسي هو الأساس التاريخي القوي للانفجار الكبير للفكرة الديمقراطية، باعتبارها النظام السياسي «الأمثل» الذي جربته البشرية إلى حد الآن، وباعتبارها الشكل السياسي الذي يحقق:
- سيادة الشعب.
- الفصل بين السلط.
- الحد من ميل السلطة الطبيعي نحو التضخم.
- سيادة القانون.
- المساواة بين الناس.
- اعتبار الأفراد مواطنين ذوي حقوق لا يمكن سلبها.
- ضمان الحريات الفردية والجماعية كحرية الفكر والاعتقاد والحركة وإنشاء الهيئات.
- استبعاد واحدية النمط عبر قبول التعددية والتداول على لسلطة.
إلى غير ذلك من المزايا والمدائح التي ليس هنا مجال التفصيل فيها، كما ليس هنا مجال تعداد نقائص الديمقراطية وحدودها المتمثلة في كونها حلًّا للمسألة السياسية وليس للمسألة الاجتماعية (مسألة تعبير المجتمع، مسألة توزيع الثروة، مسألة العدالة الاجتماعية...)، وذلك على اعتبار أن المجتمعات العربية هي أحوج ما تكون إلى حل المسألة السياسية بالدرجة الأولى باعتبار أشكال الشطط في استعمال السلطة والاستبداد السياسي الذي ميَّز السلطة العربية طيلة عدة عقود بل قرون. فنقائص الديمقراطية تعني بالدرجة الأولى المجتمعات التي طبقتها لعقود وقرون.
إلَّا أن التحول العربي التدرجي والبطيء نحو الديمقراطية يعاني منذ البداية من نقص أساسي يتمثل في:
1- الميل نحو تصور اختزالي وأداتي للديمقراطية، أي اعتبار الديمقراطية مجرد آليات وتقنيات تتمثل في الانتخاب والدستور والبرلمان والمجالس المنتخبة... إن مجموعة أدوات ووسائل لتدبير مسألة السلطة في المجتمع أساس هذا التطور الاختزالي والاجتزائي هو فصل الديمقراطية عن ثقافتها أو عن أسسها الثقافية. فالديمقراطية جزء من ثقافة هي ثقافة الحداثة، بل إن الديمقراطية هي الحداثة في شقها أو وجهها السياسي. ومحاولة فصل الحداثة السياسية (الديمقراطية) عن الحداثة كثقافة -سواء كان هذا الفصل واعياً أو غير واعٍ، وسواء كان بحسن نية أو بسوء نية- هي تنقيص من الديمقراطية وإخلال بأسسها وحرمان لها من روحها.
المحاولات العربية في فصل الديمقراطية عن أسسها تضمر إلى حد كبير الرغبة في اختيار جزء من الحداثة وكأن الحداثة قابلة للفصل، في حين أن المطلوب هو استيعاب ثقافة الحداثة ككل والتعامل معها ككل غير قابل للتبعيض، وفتح باب الاجتهاد الثقافي والفقهي والسياسي لتبيئة هذه الثقافة كما ظل يدعو إلى ذلك المرحوم محمد عابد الجابري، وذلك عبر عملية فكر مزدوجة: التنقيب في تراثنا عن اللحظات العقلانية والحوارية والتنويرية المضيئة واستثمارها من جهة، وكذا إخضاع ثقافة الحداثة ذاتها لتحليلات فاحصة لأسسها بغية استبانة مكوناتها العقلانية والكونية عن ملامحها المحلية أو الأيديولوجية الخاصة.
وهذه المهمة العسيرة تتطلب من الثقافة العربية نقداً ذاتيًّا جريئاً، والتخلي عن كل مظاهر النرجسية الثقافية، والانفتاح على الثقافة الكونية بدون عقدة نقص مركبة متعالية في ظاهرها. وهي مهمة عسيرة بسبب غلبة البعد الدفاعي والاحتمائي الذي يبدو أن الوعي العربي الإسلامي والنسق الثقافي العام الذي يحكمه ما يزال يراوح ضمنه بدرجات وبدلالات مختلفة.
في هذا المنظور يبدو أن «الثورات» العربية الحالية هي حراك اجتماعي طموح يتجاذبه ديناميتان أساسيتان قويتان: الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. المطلب الديمقراطي هو مطلب النخب السياسية والثقافية والاجتماعية الواعية التي يجمع مطلبها الديمقراطي بين التشخيص واستشراف الحل. فالوسيلة أو التقنية السياسية القادرة على الحد من غلواء السلطة واستشراء الاستبداد وتغوله هو تبني النظام الديمقراطي الحديث. وكلما نزلنا في السلم الاجتماعي وربما الثقافي يبين لنا أن حركية الجماهير هي بالأساس حركة احتجاجية تتمحور مطالبها حول العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، والتمكين من الحقوق الاجتماعية. الباقة الأولى من المطالب تتمحور حول الحرية، والباقة الثانية تتمحور حول الحقوق.
وهذا التحليل يندرج على وجه العموم في الخطاطة التفسيرية أو التأويلية العامة التي أصبحت بمثابة قاسم مشترك بين التحليلات المتداولة عربيًّا وكونيًّا حول «الثورات» العربية، والتي تتلخص ملامحها وعناصرها العامة فيما يلي:
- أن هذه التحركات هي أساساً احتجاجات موجهة بالأساس ضد النظام السياسي القائم، وهي احتجاجات محملة بمطالب مادية ملموسة حول الفقر والغلاء والبطالة والتفاوت، وبمطالب معنوية حول الدونية والحكرة وغياب الكرامة والحقوق وبمطالب سياسية للديمقراطية.
- أن فئة الشباب وبخاصة الشباب المتعلم، أو الشباب حاملي الشهادات، هم الفئة الاجتماعية المتضررة أكثر، بسبب معاناتها من الإقصاء الاجتماعي والتهميش السياسي، كما أنها هي الفئة الأولى المتصدية والمتصدرة للاحتجاجات.
- أن هذه الفئات استعملت على نطاق واسع، وبحكم نوع ثقافتها المهنية التقنية الحديثة، وسائل الإعلام الحديثة، واستعملت بشكل واسع الشبكات الاجتماعية؛ لما توفره من وسائل الاتصال والتبليغ والتجييش والتحشيد، وتسبب تمكينها لهذه الفئات من تحاشي وتلافي إجراءات القهر والقمع والخنق التي تمارسها الأجهزة السياسية والأمنية للنظام القائم.
- أن التنظيمات النقابية والسياسية (الأحزاب) الكلاسيكية فقدت الكثير من قدرتها الاحتجاجية والتعبوية، إما بسبب التآكل الذاتي أو الاحتراقي الداخلي، أو الصهر والإلحاق، أو الإسكات، أو الدمج، أو غيرها من الأسباب.
- هناك نوع من الميل إلى التركيز على أهمية العنصر السياسي المتمثل في الاستبداد السياسي الذي يلغي المجتمع كله وفاعليه المدنيين، ولا يبقى من خيار إلا التمرد، وذلك كلما استطاعت النخب السياسية بلوة الاحتجاجات وأعطتها بصمة سياسية.
- غياب نخبة ثقافية أو سياسية مؤطرة وموجهة بالمعنى التقليدي.
- غياب أيديولوجيا واحدة وموحدة وغلبة الطابع المطلبي والبراغماتي في الاحتجاجات.
- تفضيل الوسائل والأدوات والشعارات السلمية على أدوات العنف التي لا يتم اعتمادها إلا اضطراراً. وفي ذلك نوع من الرغبة في التميز والانفصال عن حركات العنف السياسي الدينية واليسارية معاً.
هذه الخطاطة تشى بأن الفهوم والمعالجات المتداولة في المجال الإعلامي العربي العام، بعيداً عن الخطابات التعبوية، تنتمي في أغلبها الأعم -بغض النظر عن قضية المفاهيم والمناهج والدقة الأكاديمية- إلى مجال العلوم الاجتماعية وبخاصة لعلمي الاجتماع والسياسة. لكن هناك صنفاً تحليليًّا آخر لم يحض بالانتباه الكافي وهو التحليلات الفلسفية لهذا الحراك العربي. وهي تحليلات قوامها رصد دينامية هذا الحراك من خلال بعض المقولات الفلسفية. فالعديد من المحاولات الفلسفية -على ندرتها- فحصت التحولات العربية الجارية من حيث إنها تعبير عن عقد اجتماعي جديد، في المجال السياسي على الأقل، بين الحاكم والمحكوم، في اتجاه الاعتراف بسيادة الشعب وحقوقه السياسية، مقابل حكم اتسم عامة باستبداد ووضع الشعب بين قوسين، بينما حاولت تحليلات أخرى فحص هذه التحولات من زاوية اندراجها في الحداثة والتحديث، على الأقل في شقها السياسي، وتندرج في هذه الخانة معظم مقالات السيد ولد باه في صحف عربية عديدة (يمكن التعرف عليها في الشبكة الكونية). نجد كذلك بعض التحليلات ذات النكهة الفلسفية التي ترصد هذا الحراك من منظور هيجلي، أي مدى انخراط هذا الحراك في أوديسا الحرية الكونية وانتزاعه لهوامش الحرية السياسية والفكرية والعقدية، سواء تعلق الأمر بالحريات الفردية أو بالحريات الجماعية، أو التحرر الاجتماعي للطبقات والفئات الاجتماعية من الاستغلال والاستلاب، أو بتحقيق حرية واستقلالية قرار الدولة المعنية. هناك صنف ثالث من التحليلات يرصد هذا الحراك من زاوية مدى اكتساب المجتمعات العربية لقدر أكبر من العقلانية وتحقق العقل في مسيرة التاريخ العربي الحالي، سواء نظرنا إلى لعقل أو العقلانية من زاوية التنوير كما فعل ذلك الفيلسوف المصري، أو نظرنا إليه باعتبار العقلنة خطوة في درب التحديث الاجتماعي والثقافي (من المنظور الفيبري الذي طوره المفكر الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه)، وذلك في اتجاه التخلص من النظرة السحرية للعالم. هناك صنف آخر من التحليل الفلسفي ينظر إلى هذه التحولات من حيث إنها على صلة بالتقنية وبثقافة التقنية، وذلك من منظور هيدجري يرصد التحولات من زاويتي التقنية وثقافة التقنية، باعتبار أن هذه الأخيرة هي الشكل الأخير لتحقق الكينونة عبر التاريخ الطويل المتدرج لتجليها، ومن زاوية تكييف التقنية للحاجات والرغبات وأنماط التعبير والحكم، ومن حيث دورها المزدوج في التقوية التقنية للسيطرة السياسية وتحويل الدولة إلى جهاز تقني للسيطرة الشاملة، ومن زاوية أخرى آفاق التحرر التي تفتحها التقنية المتمثل في شحذ دور الميديا والإعلاميات.
يمكن أن يستلهم التناول الفلسفي منابع فكرية أخرى، نذكر من بينها استلهام الجانب الفلسفي في التحليل النفسي الذي يعتبر الحضارة والثقافة مبنية على حد أدنى من القمع والكبت الضروري الذي يصب في اتجاه التصعيد
la sublimation وخدمة الإنتاج الحضاري، وهي الرؤية التي استلهمها المحلل الفرنسي جاك لاكان (J.Lacan) الذي كان قد واجه الطلبة الثائرين في مايو 1968 في فرنسا بقوله: أنتم إنما تبحثون عن سيد (آخر) وسيتحقق لكم ذلك، مضمراً فكرة أن التاريخ هو استبدال سيد بسيد وسلطة بسلطة.وسأقف هنا قليلاً عند نمط جديد من التحليل الفلسفي لم نعهده من قبل، والذي يمثله في تونس فتحي المسكيني، وفي المغرب الباحث الشاب عادل حدجامي. ينطلق المسكيني من رؤية «حيوية» (
vitaliste) للحراك العربي، يستلهم فيها نيتشه وفوكو ودولوز لفهم وتحليل هذه الظاهرة أو هذه الحيوية التاريخية العربية الفريدة، التي تختلف عن سابقاتها، والتي تستعصي على المقولات الكلاسيكية المتداولة حول «الثورة» باعتبارها فعلاً ناتجاً عن تخطيط وتنظيم، وعن «مشروع مجتمعي»، وعن إرادة جماعية تؤطرها نخبة سياسية أو ثقافية، وتوجهها قيادة سياسية، وتندرج في سياق تاريخ كوني.يستعمل المسكيني مصطلح «الاحتجاج الجذري والعنيف» الذي يقوده «جيل حيوي» يناضل من أجل حقه في الحياة بعيداً عن أية مدونة أيديولوجية، وعن أية رابطة قومية، وعن أية منظومة عقدية (سواء كانت علمانية أو دينية)؛ جيل عارٍ إلا من بيولوجيته، جيل بدون أية أوهام أيديولوجية، وبدون أشباح يوتوبية، وبدون بيروقراطية ثورية، وبدون أصنام، وبدون عناية فوقية؛ جيل متذرر لا يصل حتى إلى مستوى الجماعة (وبالأحرى الجماعة المنظمة) بل هو مجرد كثرة بشرية بلا توقيع شخصي (كثرة هلامية أو فلانية).
وهذه الكثرة الهلامية، المتدفقة من الشوارع والساحات، هي كثرة تقع خارج منطق الهوية الذي ابتدعته الدولة الحديثة، لتنميط «رعاياها»، بهدف التحكم الكامل فيهم. بل إن هذه الكثرة تستعمل الهوية بإفراغها من حمولتها الملموسة وتحويلها إلى رقم مجهول، أو إلى فلانية (نسبة إلى فلان) أي إلى مجهولية مفتوحة، مصوَّبة ضد المنطق التصنيفي التسخيري الذي تنتهجه الدولة. الكتلة البشرية الهلامية هي شكل من أشكال تعبئة الهوية وتسخيرها من أجل تقديم هوية شكلية غير ملموسة بل مشخصة جسديًّا فقط، وذلك ضد الدولة الأمنية الساحقة والكلية القدرة.
هذه الحركية الاحتجاجية العربية هي رد فعل عنيف، هلامي، فلاني، جذموري
Rhizomatic، غير متحدد الملامح، وهي ليست حتى ثورة مدنية؛ لأن هذه الأخيرة تفترض وجود دولة-أمة، وتفترض وجود مواطنة وأطر قانونية، كما تفترض وجود مواطن أي كائن سياسي فاعل ذي حقوق. فالفرد في المجتمع العربي ليس فرداً ولا مواطنا بل هو فقط كائن هلامي تحكمه الجماعة والجموع والمتخيل الديني والثقافي. إنه مجرد كائن «زائدة» (دودية) تابعة للدولة، بل إن اعتباره كذلك، أي مجرد كائن حي، هو أحسن التقديرات والنظرات؛ لأن هذه الرؤية تحميه وتحفظه من أن ينحدر أكثر في سلم الكائنات.إن ما يحدث في الفضاء العربي ليس ثورة، وليس بالأحرى ثورة مدنية، بل هو مجرد عصيان جماهيري تمارسه أجساد جائعة سائبة متناثرة في الأزقة والساحات، وهو عصيان موجَّه ضد جهاز الدولة الأمني الذي يسخّر أكثر وآخر إنتاجات التكنولوجيا لقمع هذه الأجساد الجائعة وممارسة نوع من «الإرهاب» الرسمي الجسمي والنفسي ضدها. إنه إرهاب الدولة الأمنية ضد الفرد الهلامي العربي الذي لم يبلغ بعد درجة المواطن، وبالأحرى ذا الحقوق، وهو ما يدفع هذه الأجساد لتتجمع وتكوِّن في النهاية حزمة أو عرمة من الأجسام المستغيثة المطالبة برمق الحياة بعيداً عن أية حرمة أخلاقية أو أيديولوجية.
الأجسام «الحية» التي هي في مستوى الجراثيم أو «الجرذان» المتحركة في الشارع العربي ضد السيد والسادة لا تجد في النهاية بدًّا من أن تعرض وتُعرِّض نفسها للرصاص الحي (رصاص الأجهزة العسكرية والأمنية المنظمة ورصاص القناصة)، وقد يبلغ بها الأمر حد أن تحرق ذاتها. وبهذه التقنية الجديدة المضادة، تقنية الاحتراق، تريد هذه الأجسام أن تقول للدولة الأمنية، ذلك الجهاز أو الوحش البارد الآلي والبشع: «خذوا هذا الجسم الذي علّمته الدولة الأمنية أنه لا يستحق الحياة».
هذا الفعل إذن ليس ثورة أو لم يبلغ حتى مستوى أو درجة أن يكون ثورة، وليس نضالاً من أجل الأمة، أو من أجل الوطن أو من أجل غيره من الأوثان، بل هو مجرد استرجاع أو إعادة ممتلكات إلى مالكها الأصلي بعيداً عن أي مدلول وطني (نضال) أو ديني (استشهاد)، أي بعيداً عن مقولات الخير والشر وفيما قبل مقولات الحلال والحرام. يتميز هذا التحليل براديكاليته وبعودته إلى العظم وإلى الجذور الأولى، وبتعارضه مع العديد من التحليلات الشائعة والمتداولة وبإنكاره للعديد من المقولات والتصورات التي تضفي على الفعل درجات من الحداثة لا يمتلكها.
غير أن هناك مستوى تحليليًّا آخر للحراك العربي، وهو تحليل نادر بقدر ما هو عسير، وهو التحليل الجيواستراتيجي الشمولي الذي يعالج هذا الحراك من حيث هو حركة تتفاعل فيها جملة عوامل من مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتتداخل فيها العوامل الذاتية والمحلية بالعوامل الخارجية، حركة تجري أحداثها ضمن شبكة قوى عالمية تتحكم بمصائر العالم وتوجه خيوطه الفاعلة إمام منظور الشرق الأوسط الجديد أو من منظور القوى الخلاقة أو إعادة صياغة العالم.
لكن المفارقة التاريخية اليوم تتمثل في أنه في الوقت الذي يراهن فيه الكثيرون -بما فيهم الغرب الأوروبي والأمريكي- على كون الحراك العربي حراكاً نحو الديمقراطية والحداثة السياسية نجد أن هذا الحراك الذي يبتعد كثيراً عن النموذج الإيراني ويستلهم بوعي أو بغير وعي النموذج التركي، قاد في النهاية إلى فوز الحركات الإسلامية في الانتخابات وصعودها إلى سدة السلطة؛ حزب النهضة التونسي، الإخوان في مصر، الإسلاميون في ليبيا، حزب العدالة والتنمية في المغرب... إلخ فكيف نستسيغ أو نفسر هذه المفارقة الكبرى.
يبدو لي أن المراهنة على فوز الليبراليين العرب أو اليسار العربي كان ضرباً من التقدير السياسي غير الدقيق، والذي يعكس أملاً ورغبةً وحلماً أكثر من كونه تعبيراً عن الواقع.
أولاً: فالمجتمعات العربية هي مجتمعات تراوح الخطو بين قوة التقليد وجاذبية الحداثة والتحديث. فقد انخرطت -مع بدايات العصر الحديث- في سياق التحديث الكوني وإن بصورة بطيئة أو مجتزأة أو متعثرة، ولم تشهد تحولات ثقافية كبرى -بغض النظر عن الحركية السياسية والأيديولوجية المرتبطة بازدهار اليسار في الستينات والسبعينات من القرن الماضي- بل إن هذه المجتمعات وجدت دوماً في الثقافة التقليدية ملاذاً ومصدراً ملهماً لمواجهة الصراعات الداخلية ولمواجهة أشكال العدوان الغربي سياسيًّا وثقافيًّا. وبعبارة أخرى فإن انخراط المجتمعات العربية في سيرورة التحديث الكونية قد ارتبط بالصدمة الاستعمارية والتدخل الخارجي وظل على صراع وتنافر مع البنيات التقليدية. والأنظمة السياسية العربية نفسها ساهمت في تشجيع التصورات التقليدية وشحذها لمواجهة فصول الصراع السياسي مع اليسار. ولنقل إجمالاً أن خطوات العرب في درب الحداثة والتحديث ظلت بطيئة ومتعثرة وانتقائية كثيراً.
ثانياً: أن هناك رهاناً عربيًّا قويًّا وواضحاً حول اجتزاء الديمقراطية وفصلها عن أسسها الثقافية الحداثية الكونية. ويتمثل هذا الاجتزاء في الميل إلى تغليب تصور أداتي أو أدائي أو وظيفي للديمقراطية باعتبارها فقط مجموعة أدوات وآليات وطرائق لتنظيم مسألة السلطة في المجتمع، ويمكن أن نصطلح على هذا التصور بالتصور الإجرائي
conception procédurale، وهو تصور يجبُّ الديمقراطية عن نسيجها الثقافي (الليبرالي) القائم على حرية الأفراد وحرية المعتقد وحرية الممارسة وحرية التعبير، والقبول بتعدد التصورات والآراء والاختيارات والممارسات، بعيداً عن أية نظرة أحادية أو واحدية أو إجماعية، وكذا القبول بنسبية الأحكام وبمشروطيتها الاجتماعية والانتمائية، والقبول بحد أدنى من العقلنة في التصور والممارسة، والقبول بالآخر (رأياً أو شخصاً أو جماعةً) المختلف، وبمقولة التسامح العقدي، وبتاريخانية الأفعال والتصورات، وبالفعالية الإنسانية ضمن التصور الحتمي الشرطي للوقائع الاجتماعية. أساس رهان فصل الديمقراطية عن سياقها الثقافي (De culturalisation de la démocratie) هو حماية الثقافة التقليدية والتصورات التقليدية من أي تلاقح أو إفسال ثقافي باعتباره شكلاً من أشكال الغزو الثقافي.هذه العملية الاجتزائية أو الاقتلاعية ذات وجهين، فهي من جهة تنقية للديمقراطية من شوائبها الثقافية «المشبوهة» وعزلها عن ملوناتها، لكنها من جهة أخرى تليين للديمقراطية وتسويغ لها بغية استمرائها سياسيًّا وثقافيًّا، انطلاقاً من طواعيتها ومرونتها وقابليتها للتكييف، وهذا هو السر في القبول الذي تحظى به من طرف كل الاتجاهات بما في ذلك الاتجاهات التي تمتح من الإسلام السياسي.
الوجه الآخر لقبول الديمقراطية وتقبلها هو الالتزام بمحدداتها وشروطها، المتمثلة في إقامة السلطة على أساس الشرعية التاريخية التمثيلية، وبالتالي عدم تحصينها من النقد والمحاسبة، باعتبارها ممارسة بشرية غير معصومة من الأخطاء والأهواء، والقبول بالاجتهاد والتعدد في المواقع والمواقف والآراء والمعتقدات والتصورات، وبالتالي نسبية وتاريخية الأحكام، والابتعاد عن نموذج الإجماع وواحدية الرأي، ونبذ الإقصاء والتكفير السياسي، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق الفئات وعلى رأسها حقوق المرأة التي تشكل مرتكزاً أساسيًّا للحداثة السياسية.
ثالثاً: أنه غالباً ما يتم تناسي الوجه الآخر للعملية، وهو الوجه المتمثل في أن فوز التيارات الإسلامية في المباراة الديمقراطية الحالية -بعد مرحلة «الثورات» العربية والرهان على حداثتها وديمقراطيتها- يرتبط بتقبلها للديمقراطية. فرغم أن هذه الاتجاهات ترفع شعار «الإسلام هو الحل» فإنها لا تجد أمامها إلا الديمقراطية، حيث تقبل بها وتتبناها، وتدخل في مرحلة مران أو تمرين ديمقراطي، وهذا مكسب للطرفين معاً. وما دام الأمر يتعلق بقبول إرادي واعٍ فلا داعي لكل التخوفات التي تم التعبير عنها؛ لأن للديمقراطية ضوابطها وقواعدها وقوانينها الملزمة. فهي ليست لعبة أو مجرد سلّم يمكن الصعود عليه ثم رميه، بل إن الأمر يتعلق بعقد سياسي وبالتزام وبضوابط وبمراقبة محلية ودولية. وربما شكّل هذا الفوز تحولاً مفصليًّا في التاريخ العربي الإسلامي الحديث، أولاً بالانتقال من الإسلام الراديكالي العنيف والرافض إلى إسلامٍ عصريٍّ يقبل بالحداثة المتدرجة، وخاصة الحداثة السياسية، ويدخل معها في عملية تفاعل وتبادل واختبار متبادل، ثانياً بالانتقال نحو نموذج سبقتنا إليه المجتمعات المتقدمة والمتمثل فيما يسمى بالديمقراطية المسيحية أو بالأحزاب المسيحية الديمقراطية.
رابعاً: هناك، على وجه العموم، ثلاثة منظورات عامة متمايزة لما يحدث في الوطن العربي. المنظور الأول يقرأ ما يحدث من زاوية الوعي والإرادة والغائية، وتندرج في سياقه كل التحليلات المستلهمة لمناهج ومقولات العلوم الإنسانية التي أدرجناها أعلاه ضمن ما أسميناه بالخطاطة التفسيرية المتداولة (حراك اجتماعي احتجاجي تقوم به الشعوب من أجل تحقيق مكاسب اجتماعية ملموسة تصب في خانة العدالة الاجتماعية، أو من أجل توفير الأداة السياسية لتحقيق ذلك عبر إقامة الدولة الديمقراطية، وهو حراك بريادة فئة الشباب المتعلم المحروم من الاندماج الاجتماعي السريع، والمشبع بالثقافة التقنية المعلوماتية، والمسخر لها، وهو الاحتجاج الموجّه أساساً ضد الاستبداد السياسي الذي خلق الدولة الأمنية العربية كنموذج ساند في كل جل البلاد العربية)، والمنظور الثاني هو القراءة الفلسفية لما يحدث من خلال مقولات فكرية أو فلسفية كالتنوير والعقلنة والعدالة والحداثة والاستجابة لنداء الجسم أو أوديسة الحرية.
أما المستوى الثالث لقراءة ما يحدث فهي القراءة الجيوستراتيجية، وهذه القراءة متحررة مبدئيًّا أو جزئيًّا من «الأوهام» الذاتية: أوهام الوعي والفعل والإرادة والتحرر والعفوية والقصدية والغائية، وخاصة إذا ما نظرنا إليها من زاوية مقولة الذات، التي تنظر إلى ما يحدث باعتباره سيرورة تاريخية طويلة، تتفاعل فيها عدة عوامل وفواعل، بعضها ظاهر وجلها خفي، عوامل توحي للفاعلين المباشرين بأنهم الفاعلون الوحيدون، وأن فعلهم هو الحاسم، وأن مقاصدهم هي دليل التاريخ، وأن العملية التاريخية متحكم فيها بالكامل وموجهة بوعي وقصد.
وهذه القراءة هي بالتأكيد قراءة عميقة لكنها نادرة وغير متيسرة. وهي على قرابة من قراءة فلسفية مماثلة هي القراءة الهيجلية المتمحورة حول مفهوم مكر التاريخ. وهي قراءة تميز بين الظاهر والباطن في الأحداث التاريخية، بين وعي الفاعل وأوهامه ومقاصده وبين السيرورة الموضوعية للأحداث بعيداً عن تصورات وتخيلات الفاعل، كما تميز بين الفواعل الواهمة والفواعل الحقيقية، بين الغايات المقصودة والغايات المرصودة، بين الفواعل المرئية والمباشرة (الذوات الفاعلة الفردية والجماعية)، والفواعل الخفية غير المرئية على شكل خيوط قوى وخيوط مصالح وتمويلات وإعداد تقني ومعلومات لأطر شابة تبعث للميدان وتسريب معلومات... إلخ، أو مستوى آخر من الفواعل الخفية (التقنية وثقافتها وما تولده من مدلولات وحاجات وشبكات العولمة أو القوى الإمبراطورية التي لا تنام لها عين سواء عبر مخططاتها لإنشاء الشرق الأوسط الكبير أو الجديد وإحلال الإسلام المعتدل محل الحركات الإسلامية العنيفة، أو عبر ما تسميه زرع الفوضى الخلاقة).
وكلما ارتقينا في التحليل وانتقلنا من مستوى الفعل المباشر، أو الفواعل الصغيرة إلى مستوى الخطط جيوستراتيجية، وإلى مستوى الفواعل الكبيرة المؤسسية منها (الإمبراطورية) أو غير المؤسسية (التقنية - العولمة - التوسع الكوني للرأسمالية والنزعة الاستهلاكية) بدا لنا أن تحليلاتنا ورؤانا في المستوى الأول هي تحليلات ورؤى تحتاج إلى الكثير من التطعيم والإغناء.