شعار الموقع

مشكلة تأصيل مفاهيم النقد الغربي في النقد العربي المعاصر

الدكتور علي صديقي 2012-10-04
عدد القراءات « 1758 »

مشكلة تأصيل مفاهيم النقد الغربي في النقد العربي المعاصر

مفهوم التناص أنموذجاً

الدكتور علي صديقي

-1-

سعى عدد من النقاد العرب المعاصرين إلى تأصيل كثير من المفاهيم النقدية الغربية؛ بالبحث لها عن أصول وسوابق في التراث النقدي والبلاغي العربي، منها على سبيل المثال: «التناص»، و«الاختلاف»، و«النحوية»، و«الأثر»، و«موت المؤلف»، وغيرها. ويجمع هؤلاء النقاد على أن التراث النقدي والبلاغي العربي حافل بالنظريات والمفاهيم النقدية، ومن الضروري العودة إليه للكشف عما فيه من أصول للنظريات والمفاهيم النقدية الغربية الحديثة، وإعادة إدماجها في النقد الحديث.

ويعد مفهوم التناص من أكثر المفاهيم الغربية تعرضاً للتأصيل في النقد العربي المعاصر، وقد جرى تأصيل هذا المفهوم عن طريق ربطه بمفهوم «السرقات» التراثي، وبما يرتبط به من مفاهيم أخرى، مثل: «الاقتباس»، و«التلميح»، و«التضمين»، و«الاحتذاء»، وغيرها. والنقاد الذين قاموا بالربط بين المفهومين كثر يصعب حصرهم، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى اثنين منهم، هما: عبد الملك مرتاض، وعبد العزيز حمودة.

ينطلق مرتاض من مسلمة مفادها أن العرب القدامى قد أغنوا التراث النقدي الإنساني، من خلال النظريات النقدية التي أنتجوها وطبقوها على الإبداع الشعري العربي، ليتساءل عن إمكانية توظيف بعض هذه النظريات النقدية التراثية، وإعادة إدماجها في النقد الحديث.

والنتيجة التي يخلص إليها، هي أن هذا التراث ما دام حافلاً بالنظريات النقدية، فمن الضروري العودة إليه للكشف عما فيه من أصول للنظريات النقدية الغربية الحديثة. يقول مرتاض: «إن الفكر النقدي العربي حافل بالنظريات، ومن الاستحذاء والعقوق أن نضرب صفحاً عن الكشف عما قد يكون فيه من أصول لنظريات نقدية غربية تبدو لنا الآن في ثوب مبهرج بالعصرانية، فننبهر أمامها، وهي في حقيقتها لا تعدم أصولاً لها في تراثنا الفكري، مع اختلاف المصطلح والمنهج بطبيعة الأمر».

وفي هذا السياق، يؤكد مرتاض ضرورة العودة إلى التراث النقدي العربي، والبحث فيه عن العناصر «الصالحة»، القادرة «على أن تصمد للحدثان، وتقاوم بلى الزمان، لتبدو، من جديد، قشيبة، فتكون منطلقاً لنظرية عربية حديثة».

هكذا يتضح أن الهدف من إعادة قراءة التراث النقدي العربي عند مرتاض، هو البحث فيه عن الأصول المفترضة للنظريات النقدية الغربية الحديثة، وذلك قصد جعلها مألوفة لدى القارئ العربي، وجعل هذا التراث معاصراً لنا، بالكشف عن عناصره «الصالحة» التي تستجيب للقراءة المعاصرة، قصد إنتاج «نظرية عربية حديثة».

غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو: كيف يمكن جعل التراث معاصراً؟ وما هي المعايير التي ستعتمد لتقرير ما هو «صالح» في التراث، وما هو «غير صالح»؟

والجواب عند مرتاض واضح؛ إن المعيار هو النموذج الغربي، فالصالح هو الذي «يصمد للحدثان»، وهذا ما يؤكده حين يدعو الباحثين الشباب في الوطن العربي، إلى إعادة قراءة التراث بروح وأدوات جديدة، وهي هنا، روح النظريات النقدية الغربية الحديثة وأدواتها، التي توجه مرتاض وتتعالى عنده على خصوصيتها وتاريخيتها، قصد إعادة صياغة -وليس اكتشاف- «النظرية النقدية العربية». يقول: «... نود أن نهيب بالباحثين الشباب، على امتداد الوطن العربي المترامي الأطراف، أن يعيدوا قراءة التراث النقدي بروح جديدة، أي يعمدوا إلى قراءته بأدوات تقنية جديدة، وذلك في محاولة لإعادة صياغة النظرية النقدية العربية».

أضف إلى ذلك، أن الباحث، ورغم إشارته في البداية إلى مكانة التراث النقدي العربي، وتأكيده أهميته بالنسبة للتراث العالمي؛ يعود ليتهم هذا التراث بـ«السطحية»، والاهتمام بـ«القشور»؛ حيث يرى أن انشغال النقاد العرب القدامى بالسرقات الأدبية انشغال بـ«القشور عوض دراسة النص وتفجيره من الداخل. ولعل مباشرية الشعر العربي ووضوحه إلى حد السطحية، في بعض الأطوار، من العوامل التي أغرت النقاد بالاشتغال بمثل هذه القضايا السطحية والعزوف عن تحليل النص وتشريحه بالتفكيك، ثم إعادة التركيب للانتهاء إلى النتائج المتوخاة من دراسة أي نص على عهدنا الراهن».

كما يذهب إلى أن عدم تمكن النقد العربي من الولوج «في صميم نظرية التناص» من «سوء حظ» هذا النقد، رغم اقتناعه «بأن العرب عرفوا فكرة التناص في مفهومها وأبعادها وبعض وظائفها، وإنما لم يصطنعوا بطبيعة الحال هذا المصطلح الغربي».

ويلاحظ قارئ هذه الدراسة أن مرتاضاً كان مقتنعاً بنتائجها قبل البحث في هذه القضية، وإنجاز هذه الدراسة، وأن هذا الاقتناع قد جاء كما يقول- نتيجة «حديث ثنائي مع الدكتور عبد الله الغذامي»، وكذلك «بعد الاطلاع على دراسة صبري حافظ».

وهذا يعني أن الاقتناع كان سابقاً على البحث في المصطلحين، وأن الحكم قد سبق الدراسة المتقصية لكل أبعاد المفهومين وسياقهما وخلفياتهما.

إن الناقد هنا يعزل مفهوم السرقات عن سياقه، وينظر إليه ويحاكمه بمقاييس النقد الغربي الحديث الذي يسعى لدراسة النص من الداخل. غير أنه إذا كان الاهتمام بالسرقات اهتمام بالقشور وبالقضايا السطحية، وأن مصطلح السرقات «يجني على التناصية»، و«ذو نزعة أخلاقية»، وهو غير مقبول، لأنه «لا علاقة له بالتفاعل الطبيعي بين النصوص والنصاصين»، وأنه «مجرد قضية كانت وانتهت بانتهاء أصحابها، إذ نحن المعاصرين، شعراءَ ونقاداً، لا نميل إلى هذا التهجين الذي لا يتلاءم مع التقاليد الحضارية لعصرنا».

وأن المصطلح الذي يتجانس مع مصطلح السرقات هو «التهمة»، فكيف يجيز مرتاض لنفسه أن يعده أصلاً لمفهوم التناص، وأن يقرر في نهاية بحثه بأن «التناصية، كما يبرهن على ذلك اشتقاق المصطلح نفسه، هي تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما، ونصوص أدبية أخراة. وهذه الفكرة كان الفكر النقدي العربي عرفها معرفة معمقة تحت شكل السرقات الشعرية»؟!.

-2-

أما عبد العزيز حمودة، فيبدو أن رفضه المبدئي والمطلق لكثير من المناهج النقدية الغربية ومفاهيمها، لم يثنه عن محاولة تأصيل كثير من المفاهيم النقدية الغربية الحداثية وما بعد الحداثية، في النقد العربي، أو لنقل محاولة تأسيس شرعية مفاهيم التراث النقدي العربي عن طريق ربطها بمفاهيم النقد الغربي، وبيان صلتها بها. فهو يؤكد، في هذا السياق، أن القوة الدافعة التي كانت تحركه طوال الوقت الذي قضاه في قراءة التراث، هي «تأسيس شرعية الماضي التراثي، وليس الحاضر الحداثي أو غير الحداثي».

ومن المفاهيم التي سعى الناقد إلى تأصيلها وتأسيس شرعيتها، مفهوم «السرقات»، ومن ورائه الدراسة الداخلية للنص، فهو يرى أن «الجدل الذي انشغل به البلاغيون العرب مبكراً حول سرقة المعاني وتداعيها، واقتباس الصور أو تقاربها، كان البداية الحقيقية للنقد التطبيقي القائم على قراءة لصيقة للنص close reading. وأهمية ذلك تاريخيًّا أن الحديث في أمور السرقات الشعرية في تلك المرحلة المبكرة، وقبل أي تأثر حقيقي بالنظريات والأفكار الوافدة... أصل الممارسات التطبيقية تأصيلاً كاملاً في الفكر العربي وثقافته».

وقد تنبَّه حمودة للفروق الكائنة بين المفهومين، والاختلافات الموجودة بين أهدافهما، والجدل الذي قام حولهما، حيث يؤكد أن «أهداف القول بالتناص والجدل الذي اشتد منذ أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات تقريباً حول أهمية التناص حتى العقد الأخير من القرن العشرين اختلفت في كل شيء تقريباً عن أهداف الجدل حول السرقات الشعرية في البلاغة العربية. فلم يكن من بين أهداف الجدل البلاغي القديم، أبداً، الدعوة إلى فوضى القراءة وموت النص!».

من هنا، يدعو إلى تنقية مفهوم التناص من عوالقه التي تجعل منه مفهوماً خطيراً، ليصبح بالإمكان تأصيله، واعتباره الصياغة الجديدة والمعاصرة لمفهوم السرقات القديم. يقول حمودة: «وإذا نقّينا مفهوم التناص المعاصر من بعض شطحاته التي تفتح ما أسميته أبواب الجحيم، وأبرزها كون النص كياناً مراوغاً دائم التغير والتحول، ولا نهائية الدلالة، أي بعد ترويض المفهوم وتقليم أظافره وأظلافه الجارحة، يصبح التناص في الواقع هو الصياغة ما بعد الحداثية البراقة للسرقات الأدبية المقننة والتي عرفها عبد القاهر الجرجاني بـ(الاحتذاء)».

إلا أنه رغم هذا التنبيه، فهو ينفي وجود «اختلافات جذرية بين مفهوم السرقات أو الاحتذاء في البلاغة العربية والتناص». ويقرر في النهاية، بأن مفهوم السرقات يعد البداية الحقيقية لمفهوم التناص، يقول: «وفي هذا نقول: إن السرقات الأدبية التي انشغل بها البلاغيون انشغالاً كبيراً لمدة قرنين على الأقل هي البداية الحقيقية للمفهوم ما بعد الحداثي والمصطلح النقدي الباهر الذي استخدم للدلالة عليه وهو «التناص»، أو «البينصية» Intertextuality».

إن المتأمل لما كتبه حمودة حول هذه القضية، يلاحظ أنه، مثله مثل مرتاض، وغيره من النقاد الذين ربطوا بين التناص والسرقات، يعزل المفهومين عن سياقهما التاريخي وخلفياتهما الثقافية، رغم وعيه التام بهما وبأوجه الاتفاق والاختلاف بينهما، ورغم إدراكه تحيزات مفهوم التناص وخطورته، وما يؤدي إليه من «فوضى» في قراءة النص ولا نهائية الدلالة، حيث يقول: «وهكذا يحول مفهوم التناص بمعناه ما بعد الحداثي النص الأدبي إلى كيان لا ينتهي، بل إلى الوحش القبيح المرعب الذي صوره به باختين في تأكيده لفكرة «رفض النص للانتهاء»...».

وتكشف الدراسة المتفحصة لمفهومي السرقات والتناص عن وجود اختلافات جوهرية بينهما، تجعل من المتعذر النظر إلى السرقات باعتبارها تشكل الصورة العربية القديمة للتناص؛ فالشروط التاريخية، والخلفيات المعرفية والثقافية التي تحكمت في نشأة المفهومين مختلفة، وهذا ما تنبَّه إليه عدد من النقاد والباحثين العرب.

وفي هذا السياق، يؤكد محمد مفتاح أن نظرية التناص تحكمت في نشوئها شروط اجتماعية وفلسفية وثقافية وسياسية خاصة، مثلما أن السرقات الأدبية وراءها خلفيات اجتماعية وثقافية وسياسية خاصة. «وعليه، فإنه من مجانبة الوعي التاريخي ومنطق التاريخ، أن تقع الموازنة بين نشأة وتطور دراسات السرقات الأدبية في العصر العباسي، وبين نظرية التناص التي هي وليدة القرن العشرين، فمفهوم السرقات استمر أدبيًّا وجماليًّا وأخلاقيًّا بناء على محدداته. وأما نظرية التناص فهي أدبية وفلسفية يهدف الجانب الفلسفي منها إلى نسف بعض المبادئ التي قامت عليها العقلانية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، لذلك فإنه ينبغي ألَّا يتخذ مفهوم الإنتاج وإعادة الإنتاج والهدم والبناء، مطية وذريعة في ترسيخ المفاهيم النقدية العباسية باعتبارها سبقت ما يوجد لدى الأوروبيين».

ويجمع الباحثون على أن دراسة السرقات في النقد العربي القديم دراسة منهجية، لم تظهر إلَّا في العصر العباسي، وأن هذه اللفظة لم تنتشر إلَّا عندما اشتدت الخصومة حول أبي تمام بين أنصار القديم وأنصار الحديث. يقول محمد مندور: «والذي نظنه هو أن دراسة السرقات دراسة منهجية لم تظهر إلَّا عندما ظهر أبو تمام، وذلك لأمرين:

1- قيام خصومة عنيفة حول هذا الشاعر، ومن الثابت أن مسألة السرقات قد اتخذت سلاحاً قويًّا للتجريح: ونحن نعلم الآن أنه قد كتبت عدة كتب لإخراج سرقات أبي تمام وسرقات البحتري، وكان المؤلفون متعصبين لأبي تمام ومذهب البديع، أو للبحتري وعمود الشعر، أي منقسمين إلى أنصار الحديث وأنصار القديم.

2- ثم لأنه عندما قال أصحاب أبي تمام: إن شاعرهم قد اخترع مذهباً جديداً وأصبح إماماً فيه، لم يجد خصوم هذا المذهب سبيلاً إلى رد ذلك الادعاء خيراً من أن يبحثوا للشاعر عن سرقاته ليدلوا على أنه لم يجدد شيئاً، وإنما أخذ عن السابقين ثم بالغ وأفرط...».

وعندما ظهر أبو الطيب المتنبي، تجددت الخصومة حوله، «فحاول أعداؤه تجريحه بإظهار سرقاته أيضاً».

وقد امتدت المنافسة بين أنصار القديم وأنصار الحديث من الشعراء إلى البلاغيين ونقاد الشعر، في محاولة منهم لإثبات «رسوخهم في العلم بفن الشعر وأسرار صناعته، تبعاً لحرارة المنافسة بين الشعراء التي أججت المنافسة بين أشياعهم من النقاد». فكان العلم بالسرقات الشعرية، والتمييز بين أصنافها ومراتبها، شرط إثبات تفوق الناقد ورسوخه في العلم بالشعر. يقول القاضي الجرجاني (ت 366ﻫ) تحت باب بعنوان: «السرقات الشعرية»: «وهذا باب لا ينهض به إلا الناقد البصير، والعالم المبرز. وليس كل من تعرض له أدركه، ولا كل من أدركه استوفاه واستكمله. ولست تعد من جهابذة الكلام، ونقاد الشعر، حتى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيط علماً برتبه ومنازله، فتفصل بين السرق والغصب، وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرق فيه، والمبتذل الذي ليس أحد أولى به، وبين المختص الذي حازه المبتدئ فملكه، وأحياه السابق فاقتطعه، فصار المعتدي مختلساً سارقاً، والمشارك له محتذياً تابعاً، وتعرف اللفظ الذي يجوز أن يقال فيه: أخذ ونقل، والكلمة التي يصح أن يقال فيها: هي لفلان دون فلان».

-3-

إن الصراع بين القديم والحديث وأنصار كل منهما كان عنصراً حاسماً في نشأة مفهوم السرقات، كما أن هذا المفهوم قد اعتمد، من لدن أنصار القديم، معياراً أخلاقيًّا وسلاحاً موجهاً ضد خصومهم لتجريحهم والتقليل من شأنهم. وهكذا، نجد القاضي الجرجاني يعتبر السرقة «عيباً عتيقاً»، و«داءً قديماً». يقول: «والسرق أيدك الله- داء قديم، وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه، وكان أكثره ظاهراً كالتوارد الذي صدرنا بذكره الكلام، وإن تجاوز ذلك قليلاً في الغموض لم يكن فيه غير اختلاف الألفاظ، ثم تسبب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب، وتغيير المنهاج والترتيب، وتكلفوا جبر ما فيه من النقيصة بالزيادة والتأكيد والتغريض في حال، والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل، فصار أحدهم إذا أخذ معنى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يقتصر معه عن اختراعه وإبداع مثله».

وقد قسم القدماء السرقات إلى عدة أنواع، وعبروا عنها بجملة من الألفاظ، مثل «الأخذ»، و«الاتفاق»، و«الاستمداد»، و«الاستعانة»، و«الاحتذاء»، وغيرها. غير أنهم اتفقوا على أن المعاني المشتركة بين الناس، والمتداولة فيما بينهم، لا تكون فيها السرقة؛ فقد ميز القاضي الجرجاني بين نوعين من المعاني، هما: المعاني المشتركة بين الناس اشتراكاً عامًّا، والمعاني التي سبق إليها المتقدم فأبدعها وابتكرها، لكنها أصبحت بعده متداولة ومستعملة بكثرة، وكلا المعنيين تنتفي فيهما السرقة، ويمتنع فيهما القول بالاتباع والأخذ. يقول: «فمتى نظرت فرأيت أن تشبيه الحسن بالشمس والبدر، والجواد بالغيث والبدر... أمور متقررة في النفوس، متصورة للعقول، يشترك فيها الناطق والأبكم، والفصيح والأعجم، والشاعر والمفحم، حكمت بأن السرقة عنها منتفية، والأخذ بالاتباع مستحيل ممتنع، وفصلت بين ما يشبه هذا ويباينه، وما يلحق به وما يتميز عنه، ثم اعتبرت ما يصح فيه الاختراع والابتداع، فوجدت منه مستفيضاً متداولاً متناقلاً لا يعد في عصرنا مسروقاً، ولا يحسب مأخوذاً، وإن كان الأصل فيه لمن انفرد به، وأوله للذي سبق إليه، كتشبيه الطلل المحيل بالخط الدارس...».

ويتفق عبد القاهر الجرجاني (ت 471 أو 474ﻫ) مع سلفه القاضي الجرجاني في أن المعاني المشتركة والمتداولة بين الناس لا سرقة فيها؛ حيث يرى أن اتفاق الشاعرين واشتراكهما، إما يكون «في الغرض على العموم»، أو «في وجه الدلالة على ذلك الغرض». فأما الاشتراك في الغرض على العموم، فهو «أن يقصد كل واحد منهما وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء، أو حسن الوجه والبهاء، أو وصف فرسه بالسرعة، أو ما جرى هذا المجرى». وأما الاتفاق في «وجه الدلالة على الغرض، فهو أن يذكر ما يستدل به على إثباته له الشجاعة والسخاء مثلاً». وينقسم هذا الوجه إلى عدة أقسام، منها تشبيه الشجاع بالأسد، والسخي بالبحر، وغير ذلك.

وبعد هذه الإشارة إلى أوجه الاتفاق والاشتراك بين الشعراء، يقرر الجرجاني أن الاتفاق في الوجه الأول، لا يدخل في «الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة»، وأن ادعاء دخوله فيها لا يقع إلا «من بعض من لا يحسن التحصيل، ولا ينعم التأمل».

أما الاتفاق في الوجه الثاني، فيستدعي النظر والتأمل، «فإن كان مما اشترك الناس في معرفته، وكان مستقراً في العقول والعادات، فإن حكم ذلك، وإن كان خصوصاً في المعنى، حكم العموم الذي تقدم ذكره. من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء... وإن كان مما ينتهي إليه المتكلم بنظر وتدبر، ويناله بطلب واجتهاد، ولم يكن كالأول في حضوره إياه... نعم إذا كان هذا شأنه، وهاهنا مكانه، وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية، وأن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد...».

ويلاحظ قارئ النص السابق أن الجرجاني تحفظ على استعمال لفظتي السارق والمسروق منه لما لهما من دلالة تجريحية، واستعمل بدلا منهما ألفاظ «السلف» و«الخلف»، و«المفيد» و«المستفيد».

وفي هذا السياق، نجد القاضي الجرجاني يعتذر لمعاصريه من الشعراء ومن بعدهم، ويرى أنهم معذورون لأن من تقدمهم قد استغرق جميع المعاني وسبقهم إليها. يقول: «ومتى أنصفت علمت أن أهل عصرنا، ثم العصر الذي بعدنا أقرب فيه إلى المعذرة، وأبعد من المذمة، لأن من تقدمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنما يحصل على بقايا: إما أن تكون تركت رغبة عنها، واستهانة بها، أو لبعد مطلبها، واعتياض مرامها، وتعذر الوصول إليها، ومتى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنه غريباً مبتدعاً، ونظم بيت يحسبه فرداً مخترعاً، ثم تصفح عنه الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه، أو يجد له مثالاً يغض من حسنه، ولهذا السبب أحظر على نفسي، ولا أرى لغيري بت الحكم على شاعر بالسرقة».

هذا هو، باختصار، مفهوم السرقات في التراث النقدي والبلاغي العربي، وهذه هي ظروفه التي نشأ فيها.

-4-

أما التناص، فهو مفهوم غربي ما بعد حداثي، تحكمت في نشأته ظروف تاريخية محددة، وتحولات فكرية وفلسفية أدى تجاهلها وإغفالها إلى سوء فهمه وتحريفه، والاعتقاد بأنه السرقات التي تحدث عنها القدامى. يقول محمد مفتاح: «لقد انتشر مفهوم التناص بين المؤولين والمبدعين... إلا أن توظيفه وتشغيله قد اعتراهما كثير من التحريف والتحوير وسوء الفهم. فقد غفل كثير من المؤولين عن شروط إمكان انبثاقه فاعتقدوا أنه الحديث عن المصادر، أو أنه هو السرقات... ومرد هذا، هو عدم إدراك ظروف نشأة المفهوم وأبعاده الفلسفية والفكرية، فالمفهوم نشأ في ظروف اعتراضية: الاعتراض على المؤسسات السياسية والثقافية والعلوم الرائجة. وكانت شعارات المرحلة هي القطيعة، والإبدال، والإبستمي، والفوضى، والعماء... والتناص، فهو من زمرة هذه المفاهيم الثورية».

ويحصي النقاد عدداً من الفروق بين المفهومين، أهمها:

1- تختلف السرقات والتناص من حيث حكم القيمة، فالسرقات الشعرية تعد من النقائص، وقد رأينا سابقاً كيف أن القاضي الجرجاني اعتبرها عيباً وداء، ويأتي الحديث عنها في سياق تهجين السارق وتجريحه، واستنكار ما قام به. ولذلك فهي مذمومة، ويجب على الشاعر تفاديها. أما التناص، فبعيد كل البعد عن هذه المعاني، وما يراد به منه هو نقيضها، فهو امتصاص النص غيره من النصوص وتفاعله معها، بشكل يدل على سعة اطلاع المبدع وثقافته، ومهارته في النسج وإعادة الإنتاج، ولذلك فهو محمود ولا مفر للمبدع منه.

2- يختلفان من حيث المنهج، فالسرقات تعتمد المنهج التاريخي التأثري، والسبق الزمني؛ وهكذا يكون اللاحق هو السارق، والسابق هو المبدع، ولهذا علاقة بالصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث الذي أشرنا إليه سابقاً. أما التناص، فلا شأن له بهذا الصراع ولا بالسبق الزمني، فمنهجه وظيفي؛ لا يهتم بالنص المأخوذ منه، أو النص الغائب، وإنما كل همه النص الجديد الذي امتص النصوص الأخرى وحوّلها.

3- يختلفان من حيث الوعي والقصدية؛ فإذا كان الأخذ في السرقات الشعرية يتم في الغالب عن وعي وقصد، ولذلك يعد الآخذ سارقاً، فإن التناص قد يكون عن قصد ووعي، ولكنه في الغالب يكون عن غير وعي. فهو يأتي في صورتين، «أولاهما هي الصورة القصدية أو البارزة المتعمدة، وهي تقع تحت الوعي الكامل للمبدع، وتتمثل في نصوص ظاهرة، جلبت عمداً لإرادة دخولها في نص ما لتحقيق الأهداف المقصودة منها...

وعلى الجهة المقابلة هناك الصورة العامة الأخرى للتناص، وهي العفوية غير الواعية المتمثلة في كل ما يتسرب إلى النص من لا وعي المبدع دون قصد منه، وبذلك تتداخل النصوص مع بعضها عبر علاقات خفية، وتراكمات لا نهاية لها».

ويذهب عبد الوهاب المسيري، في سياق كشفه عن تحيزات مفهوم التناص، إلى أبعد من هذه الفروق التي رصدها هؤلاء النقاد، فيربط ظهوره بالتحولات التي طرأت على مفهوم النص في خطاب ما بعد الحداثة، وبمفهوم الاختلاف عند جاك دريدا، ويرى أنه إذا كان «الاخترجلاف هو العنصر الأساسي داخل النص، فإن التناص هو العنصر الأساسي خارجه، فالمعنى داخل النص يسقط في شبكة الصيرورة من خلال الاخترجلاف، ويسقط النص ككل في الشبكة نفسها من خلال التناص. فالتناص هو الاخترجلاف على مستوى النصوص، فكل نص يقف بين نصين، واحد قبله وواحد بعده، وهو يفقد حدوده فيما قبله وفيما بعده، وفي كل النصوص الأخرى التي تركت آثارها على النصوص التي تسبقه وعلى النصوص التي تأتي بعده، فكل نص هو أثر أو صدى لكل النصوص الأخرى، أي إن النص ليست له هوية محددة واضحة، فهو مجرد وقع أو صدى».

كما أشار إلى أن كثيراً من الدارسين الغربيين صاروا يربطون بين التناص والرغبة الجنسية. يقول المسيري: «وكثيرون يربطون الآن بين التجربة الجمالية والتجربة الجنسية (بالإنجليزية: استيتكس aesthetics وإروتيكس erotics) وبين النصوصية أو التناص والسيولة المرتبطة بالدافع الجنسي (بالإنجليزية: تكستيواليتي textuality وسيكشواليتي sexuality). فالنص المنغلق هو شكل من أشكال قمع الرغبة الجنسية أو إعلاء أو تجاوز لها من خلال شكل مستقل له حدود وهوية، أما النصوصية فهي التداخل الكامل للنصوص المنفتحة بحيث يحيلك نص إلى نص آخر يحيلك بدوره إلى نص ثالث... إلى ما لا نهاية، إذ لا توجد أية حدود لأي نص، وهو ما يعني تراقص النصوص وانزلاقها...».

بل إن المسيري يؤكد أن مفهوم التناص بمفهومه التفكيكي، «له ما يشبهه في التراث الديني اليهودي، فالتفسيرات الحاخامية متضاربة متشابكة، فكل تفسير يشير إلى التفسير الذي سبقه والذي يليه إلى ما لا نهاية. فإن كان ثمة تناص بين النص المقدس والتفسير، فهو كذلك حالة تناص بين كل التفسيرات».

والنتيجة التي يخلص إليها هؤلاء النقاد الذين رصدوا هذه الفروق بين السرقات الشعرية والتناص، هي «أن السرقات الشعرية بمفهومها المعروف في تراثنا النقدي ليست هي الصورة القديمة أو العربية للتناص، وليست رديفاً له، وإن تشابها شكلاً وظاهراً، فالعبرة ليست بالتشاكل، وإنما بالقيم الداخلية للنصوص وتلاقحها وما تكتسبه من أبعاد فنية ورؤيوية من عمليات التناص الواعية والمعقدة».