شعار الموقع

الربيع العربي وآليات المصالحة والإنصاف

محمد محفوظ 2012-10-05
عدد القراءات « 739 »

«إن خاصية الديكتاتورية أن كل شيء فيها يبدو على ما يرام إلى حد الربع الأخير من الساعة الأخيرة».

الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت

مفتتح

لا ريب في أن ما شهدته بعض البلدان العربية من تحوُّل دراماتيكي وسريع في نظامها السياسي سواء على مستوى الزعامات السياسية الأولى، أو في بعض هياكلها الإدارية والسياسية وخياراتها الداخلية والخارجية، وما تعيشه بلدان عربية أخرى من إرهاصات تتَّجه بشكل حثيث نحو التغيير والانتقال إلى طور سياسي آخر، يختلف في حدوده الدنيا جزئيًّا عن الواقع السياسي القائم.. أقول: إن ما تشهده هذه البلدان من تحوُّلات لم تكن في الحسبان، ولم تكن مُتوقَّعه لدى أغلب المُحلِّلين والمهتمين بمصائر العالم العربي.

وإن هذه التحوُّلات والتطوُّرات المتسارعة تثير الكثير من الأسئلة حول طبيعة ما يجري في العالم العربي، ولماذا عبَّر الشارع العربي عن نفسه بهذه الكيفية، وكيف ستتعامل الأنظمة السياسية مع طموحات شعوبها وحراكها نحو التغيير؟ إنها أسئلة محورية تتعلَّق بما يجري في العالم العربي من تحوُّل وتغيير. وحتى لا نقع في عملية الاجتزاء والاختزال من المهم هنا التفريق بين الموقف من هذه الأحداث والتطوُّرات وتفسيرها؛ فإننا كشعوب عربية من المحيط إلى الخليج، تفاعلنا بأشكال ومستويات متفاوتة، مع ما يجري في العالم العربي من تغيُّر وتحوُّل في السياسات والخيارات، وإن هذه التطوُّرات أزالت الرُّكام التاريخي عن عقل ونفس الإنسان العربي الذي أَلِف اليأس والسُّكون، وإنه ليس بمقدور أحد تغيير ما هو قائم، فجاءت هذه الأحداث والتطوُّرات، وأزالت كل هذا الرُّكام والرَّين، وأوضحت بشكل صريح أن الشعوب العربية قد تمرض إلَّا أنها لا تموت، وإن القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة هي التي حرَّكت المياه الراكدة، وهي التي زحزحت ما هو قائم بإرادتها السلمية وصبرها على المكاره والشدائد.

لهذا فإن العمل على تفسير ما يجري هو -في تقديري- أهم من طبيعة الموقف الذي نتَّخذه تجاه ما يجري؛ لأن صياغة تفسير دقيق وواقعي لما يجري في العالم العربي، سيساعدنا على أن تكون مواقفنا ورؤيتنا إلى مآلات حركة التغيير دقيقة وموضوعية.

فالعالم العربي بعد زمن طويل من السكون والخمول يتحرَّك ويتغيَّر، ويُعيد صياغة المعادلات المحلية والإقليمية على أسس جديدة؛ لهذا فإننا نعتقد وببساطة شديدة، إن هذه الأحداث والتطوُّرات مهما كانت نتائجها النهائية، فإنها أدخلت العالم العربي بأسره في مرحلة جديدة وستكون مختلفة عن الحقبة الماضية..

فالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنشدها الشعوب العربية، تحوَّلت عناوينها وأولوياتها لدى الشعوب التي تحرَّكت ونالت ما تريده من عملية التغيير إلى حقائق قائمة، وبدأت عجلة التنفيذ بالحركة مهما كانت الصعوبات والعقبات. فالشعب التونسي بحركته السلمية المذهلة نقل مطالبه في الديمقراطية والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى حيِّز التنفيذ، وبدأت قوى المجتمع المختلفة تتلمَّس السُّبل المناسبة لعملية التحوُّل نحو الديمقراطية.

كما أن الشعب المصري الذي برزت فيه قوى اجتماعية وسياسية جديدة، بدأت تتَّضح معالم حياته السياسية الجديدة، حيث الحريات الإعلامية والسياسية والتجديد البنيوي في أسس النظام السياسي المصري، وانخراط متعاظم لكل القوى السياسية والاجتماعية في الحياة العامة. ويبدو من طبيعة الأحداث والتطوُّرات التي تجري في بلدان عربية أخرى، أن ربيع العرب لا زال قائماً، وإن إرادة العرب المتَّجهة صوب التغيير لا زالت قائمة وحيوية وستصل إلى أهدافها في بلدان عربية جديدة.

وتظهر الوقائع الراهنة في البلدان العربية، أن لكل بلد عربي ظروفه وخصوصياته وأولوياته، ولكن تظهر هذه الوقائع والتطوُّرات، أن طبيعة المشاكل الجوهرية التي تواجه الشعوب العربية واحدة أو متشابهة؛ فكل هذه الشعوب تنشد الإصلاح والتغيير، وإنها بنسب متفاوتة تعاني التغييب عن الحياة العامة وصناعة المصير، لذلك نجد أن الشعارات والأهداف التي حملتها الشعوب العربية، وهي تجوب الشوارع وتعتصم في الميادين، واحدة أو متطابقة إلى حدٍّ بعيد.

وإن الشعوب العربية تستحق واقعاً سياسيًّا واقتصاديًّا أحسن وأفضل مما تعيشه، وإن مقولة الشعوب العربية ليست مؤهَّلة للانتقال نحو الإصلاح والديمقراطية سقطت، لأن هذه الشعوب عبَّرت عن نفسها بطريقة سلمية حضارية، وأبانت بأجيالها المختلفة عن شوقها التاريخي إلى الحرية والعدالة.

فالشباب العربي الذي كان يُتَّهم بالضمور والميوعة وللامبالاة، سطَّر أروع مُلِحَّمة سياسية في التاريخ العربي المعاصر؛ فهم الذين تحرَّكوا وحرَّكوا الشارع العربي، وهم الذين بمبادراتهم وخطواتهم المتلاحقة، تجاوزوا جميع النخب، وأبانوا أن البطن العربي ولَّاد، وأن بإمكانه أن يُنجب كفاءات وطاقات جديدة، قادرة على تصحيح الاعوجاج وترك بصمات نوعية في مسيرة العالم العربي.

صحيح أن هناك قوى وأطرافاً عربيةً، تعمل بوسائل مختلفة لإدامة الشتاء العربي، ولكن وعي الشباب وإصرارهم بوسائل سلمية حضارية على الإصلاح والتغيير هو الذي أفشل ولا زال تلك المحاولات التي تعمل على تأبيد العالم العربي وإبقائه في مرحلة السكون والخمول.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن طريق التغيير والإصلاح في العالم العربي مُعبَّداً، وإنما تعمل القوى المضادة لإدخال المجتمعات العربية في أتون الطائفية والمذهبية والعصبيات المناطقية والجهوية، لكي تُعرقل حركة الإصلاح والتغيير؛ فالقوى الدافعة على التغيير تعمل على تجاوز هذه الحفر والعقبات، والقوى المُضادة تعمل على إدخال حراك الشارع العربي في نفق هذه العناوين، وهي عناوين تعرقل الإصلاح والتغيير، وتجعل المجتمعات العربية بين خيارين مُرَّين: إما استمرار الكبت والاستبداد والفساد، أو الحروب الأهلية، التي تبرز فيها كل التناقضات الأفقية والعمودية في المجتمعات العربية، فينشغل الجميع بالجميع، وتتحوَّل حركة الإصلاح والتغيير من حركة سلمية تستهدف إصلاح الأوضاع السياسة والاقتصادية والاجتماعية العامة، إلى حركة تتصارع بعضها مع بعض إما لاعتبارات طائفية أو مذهبية أو قبلية أو جهوية.

ويبدو أن دفع المجتمعات العربية إلى الاحتراب الداخلي، هو السلاح الأخير الذي تمتلكه القوى المضادة لحركة التغيير والإصلاح في العالم العربي.

لهذا فإن إصرار قوى المجتمع العربي الحية ووعيها، بهذه المخاطر والمزالق، هو الذي سيفشل آخر العقبات التي تحول دون تدفُّق حركة التغيير في المجتمعات العربية؛ لأن الإصلاح والتغيير في العالم العربي هو ضرورة ملحة لكل الفئات والشرائح والمكونات، وأن جميع المكونات والتعبيرات قد اشتركت في عملية التغيير التي جرت في تونس ومصر، كما أن جميع قوى وفئات المجتمع اليمني والليبي، هي التي تُطالب بالإصلاح وتُقاوم يداً بيد كل محاولات إجهاض عملية التغيير في هذين البلدين.

ولعل من أهم الثمار التي سيجنيها العالم العربي، من حركة التغيير والإصلاح التي جابت العديد من الدول، أنها ستُعيد تنظيم حقل السياسة، بحيث ستتمكَّن هذه التحوُّلات من خلق مجال سياسي جديد، يتواصل مع جميع المكونات، ويستفيد من جميع الطاقات والكفاءات؛ لأنه حينما «يغيب المجال السياسي المفتوح على كل الإرادات، فإن تناقضات المجتمع وهي طبيعية وموضوعية لا تُعبِّر عن نفسها تعبيراً سياسيًّا بالمعنى الحديث للكلمة، أي لا تجد لنفسها قنوات تصريف ضرورية تحفظ للمجتمع والكيان حقوقه وتوازنه في الآن نفسه.

لذلك عادة ما تميل التناقضات الاجتماعية إلى الإفصاح عن نفسها في أشكال تضع المجتمع الوطني برمته أمام انقسام داخلي حادٍّ، يُدمِّر كل الجوامع والوشائج بين فئاته وقواه المختلفة. والمشكلة الأبرز لغياب المجال السياسي هو التعبير عن التناقضات والمشاكل بوسائل عنفية، تُدمِّر الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتُدخل الجميع في أتون العنف والعنف المضاد».

وعلى كل حال، ما نودّ أن نقوله هو أن العرب ومنذ اللحظة التي أحرق فيها (محمد البو عزيزي) نفسه في تونس، دخلت مرحلة جديدة، حيث تحوَّلت فكرة الإصلاح والتغيير في بلدان عربية عديدة، من رغبة وشوق تاريخي، إلى حقيقة ملموسة، صنعها الشباب العربي بإرادته وعزمه على بناء مستقبل أفضل للعرب.

الدولة للعسكر والسلطة للإسلاميين

يبدو من مجموع المعطيات السياسية والاستراتيجية والأمنية المتوافرة، عن البلدان التي نجحت فيها ثورات الربيع العربي، أنها تتَّجه لاعتبارات داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها، بحيث تكون الدولة (بالمعنى العلمي) والتي تشمل المؤسسات الثابتة والخيارات الاستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، بحيث هي التي تتحكَّم فيها وتُديرها وفق الرؤية الاستراتيجية القائمة، أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية.

وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حدٍّ بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكَّل بين العسكر والإسلاميين، فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتَّجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني.

حيث سيطرت العسكر على المفاصل الأساسية للدولة ومع منافسة دائمة للسياسيين على المساحات السياسية والاقتصادية الأخرى.

أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية وديمقراطية حقيقية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية - ديمقراطية تتَّجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة، حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج التركي.

لهذا فإننا نعتقد أن اللحظة السياسية التي تعيشها دول الربيع العربي، هي لحظة حساسة ومصيرية، وحضور جميع القوى الديمقراطية في الميدان ويقظتها الدائمة، سيساهمان في تحديد شكل المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي.

وبتعبير آخر أقول: إن الدول التي قطعت أشواطاً مهمة باتجاه العلمانية، هي الدول القادرة اليوم على بناء نموذج ديمقراطي جديد؛ لأنه لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية، دون وجود دولة بمختلف مؤسساتها ثابتة ومستقرة وضاربة بجذورها في الاجتماع الوطني... ووفق هذه الرؤية فإنني أعتقد أن الدولة القادرة وفق المعطيات الحالية لبناء ديمقراطية شبه حقيقية هي جمهورية تونس، لكونها فيها دولة بمختلف مؤسساتها، وقطعت أشواطاً حقيقية وفعلية باتجاه العلمنة والخيار العلماني.

أما في جمهورية مصر العربية فإن الاستبداد السياسي الذي تعاقب لعقود طويلة، ومؤسسة الدولة لم تسلم منه، لذلك فهي تعاني من ذات العيوب التي تعاني منها السلطة في مصر..

مما يُعقِّد عملية الانتقال نحو الديمقراطية في التجربة المصرية، ويدفعنا إلى تبني هذا التحليل حول مآل دول الربيع العربي المنظور، هو وجود إرادة دولية، عملت عبر وسائل عديدة للتحكم أو المساهمة في التحكم في مآل هذه الثورات والتحوُّلات الكبرى.

والذي يبدو أن الإرادة الدولية لا زالت تراهن على المؤسسة العسكرية لضمان استمرار الخيارات الاستراتيجية لهذه الدول، بحيث تحول دون تحوُّلها الاستراتيجي على مستوى الخيارات والتحالفات.

وعلى كل حال، فإن ما تشهده دول الربيع العربي من انتخابات برلمانية ومظاهر ديمقراطية أخرى، هي الخطوة الأولى في مشروع إرساء معالم وحقائق الديمقراطية في الفضاء الوطني لهذا البلد العربي أو ذاك. وإن هذه البلدان تحتاج إلى الكثير من الجهود والمثابرة والإبداع السياسي، من أجل تعزيز خيار الديمقراطية في الفضاء الاجتماعي والسياسي، ومن أجل الحؤول دون عودة السلطة المضادة حتى ولو كانت بقفازات ناعمة.

فالديمقراطية ليست مشروعاً ناجزاً، وإنما هي تُبنى لبنة لبنة، وتحتاج إلى كل الجهود والطاقات من أجل إرساء حقائقها في السياسية والمجتمع.

ولا ريب في أن سقوط الديكتاتور، ليس نهاية الطريق، وإنما هو بدايته، وكما كان لحضور الشعب بكل فئاته وشرائحه وظيفة أساسية في سقوط الديكتاتور، فإن الديمقراطية لن تُبنى إلَّا بحضور الشعب وحيوية وفعالية كل مكوناته في المجال العام والحياة المدنية. فلحظة الانتقال والتحوُّل من نظام إلى آخر، هي من أدق اللحظات وأخطرها؛ لهذا فإننا نعتقد أن حضور الشعب في الميدان وفعالية الحركات السياسية والمدنية، هما حجر الأساس لإدارة لحظة الانتقال والتحوُّل بطريقة تضمن التحوُّل السياسي نحو التعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

وكلما أصبحت مجتمعاتنا مُهدَّدة بالعنف وظواهر النبذ والاستبعاد والتهميش والتعصُّب الطائفي والمذهبي والقومي والعرقي، تتأكَّد حاجتنا كأفراد ومجتمعات إلى الخلاص والمصالحة والإنصاف؛ لأن العنف لا يُعالج بعنف مثله، ولأن النبذ والمفاصلة الشعورية والعملية لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية، لا يمكن مواجهة كل مفاعيل ومتواليات هذه التباينات والصراعات، إلَّا بالإصرار على التسامح والعفو وحسن الظن والمصالحة والتفاهم بعيداً عن لغة الانتقام والثأر والتشفي. فالمنجز الحضاري والثقافي هو الكفيل بوقف حركة التاريخ نحو الانحدار صوب الصراعات والنزاعات العبثية، فمن المعلوم أن قصر الحمراء في غرناطة يعتبر أحد روائع الفن المعماري والثقافي معاً، ولكن بما أنه إسلامي، فإن الأسبان بعد سقوط الأندلس هجروه وأهملوه زمناً طويلاً، بل تركوه للغجر لكي يحتلوه ويفعلوا به ما يشاؤون، وذلك قبل أن يُرمِّموه في العقدين الأخيرين ويُقدِّموه تحفةً يهرع السُّيَّاح لرؤيتها والاستمتاع بها.

فالعنف لا يُعالج إلَّا بالإصرار على الحوار والعفو والتسامح، ونزعة التدمير لا تُضبَط إلَّا بالاستمرار في بناء حقائق التنمية وتجويد العمل الصالح.

ومن الطبيعي القول: إن سقوط الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، والتي عاثت في مجتمعاتها فساداً بكل صنوفه وألوانه، ليس نهاية الطريق، بل هو الخطوة الأولى في مشروع تفكيك حوامل الاستبداد والفساد. وإن الشعور بأن كل المشاكل قد انتهت بعد انهيار الأنظمة الديكتاتورية، هو شعور مخادع وزائف. لا ريب أن انهيار الأنظمة الاستبدادية علامة من علامات الخير والإنجاز، ولكنها علامة ليست كاملة؛ لأن قوى النظام الشمولي المنهار، قد تمتلك القدرة على الالتفاف على كفاح الناس، بحيث يبقى النظام السابق الذي صنع الديكتاتور قائماً ومستمراً ولكن بقفازات ناعمة. فمن حق الناس أن تفرح بسقوط الديكتاتور، ولكن مشاعر الفرح والحرية لا تكتمل دون تفكيك بُنية النظام الشمولي، وبناء حياة قانونية ودستورية وقضائية جديدة، تُؤسِّس لنظام سياسي جديد، يحول دون عودة الديكتاتور والنظام الفاسد، حتى ولو بجلباب جديد. فامتلاك المستقبل والقبض على عوامل التحكُّم في المصير، تتطلَّبان بناء الخطط والعمل المتواصل لتأسيس وبناء دولة مدنية حديثة، تُعيد الاعتبار لجميع المكونات والتعبيرات وتتعامل مع مجتمعها وفق القانون والعدالة، وبعيداً عن كل نزعات الاستئثار والاحتكار والاستزلام؛ فالمطلوب ليس القضاء على الديكتاتور الفرد، وإنما القضاء على الديكتاتور الظاهرة بكل جذورها وأسبابها وموجباتها.

ومع إيماننا بأهمية العمل على تفكيك كل الحوامل المنتجة لظاهرة الاستئثار والاستبداد، فإننا في الوقت ذاته نُدرك أهمية العمل على ضبط النزاعات الأهلية وحالات الانتقام والثأر. بمعنى: إننا في الوقت الذي ندعو فيه إلى إنهاء كل موجبات ظاهرة الاستبداد والديكتاتورية من الفضاء الاجتماعي والسياسي، في الوقت ذاته نُدرك أهمية المصالحة الداخلية وطي صفحة الماضي دون ثأر وانتقام؛ لأنه لا يمكن أن تُبنى ديمقراطية في ظل نزعات العنف والانتقام، لأن هذه النزعات تُغذِّي الإحن والأحقاد، وتُفجِّر كل عناوين التَّشظِّي العمودي والأفقي في المجتمع. ولكي تكتمل رؤيتنا في هذا السياق سنوزع الدراسة إلى محورين أساسيين، وهما:

1- العرب والتحوُّل السياسي.

2- آليات وميكانيزمات الإنصاف والمصالحة في المجتمعات العربية.

العرب والتحوُّل السياسي

إن طبيعة التطوُّرات الاستراتيجية والأحداث السياسية التي تمر بها المنطقة، تتَّجه إلى تأكيد حقيقة أساسية في المشهد السياسي للمنطقة، وهي أن النخبة أو الفئة سواء كانت حاكمة أو محكومة التي تربط مصيرها بخارج حدود الوطن، فإن هذا لا يُفضي إلَّا إلى المزيد من الإرباك والتدهور.

حيث إن الارتباط الهيكلي بخارج الحدود، سيزيد من فرص استخدام القهر والقوة لفرض الخيارات وجبر النقص في العلاقات الداخلية من جرّاء الارتهان للأجنبي.

وهذا يقود إلى تنامي مشاعر العداء والخيبة من كل ما يجري في الساحة العربية، وستشهد المنطقة من جرّاء ذلك حالة من عدم الاستقرار والقلق والخوف، كما سيتفاقم العنف الرمزي والمادي، لأن القهر والظلم والإذلال ينبوع دائم للإرهاب والعنف وعدم الاستقرار.

وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأن الاستقرار السياسي الحقيقي والدائم في فضائنا العربي والإسلامي لا يتأتَّى من حالة الارتهان للأجنبي أو الانسجام المطلق مع استراتيجياته وخياراته الإقليمية والدولية. بل إن هذه الحالة، تزيد من فرص انهيار الاستقرار وتفاقم من حالات اختراق الأمن الوطني والقومي.

لذلك فإنه يُخطئ من يتصوَّر أن بوابة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا، هي الخضوع لرهانات الأجنبي وخياراته في الغطرسة والهيمنة.

فالتجارب السياسية تثبت أن الارتهان للأجنبي لا يجلب إلَّا المزيد من الصعوبات وسخط المجتمعات وفقدان ثقتها وإيمانها بنخبتها السياسية والاقتصادية.

وفي ظل الأوضاع الراهنة تزداد مخاطر الارتهان للأجنبي على مختلف المستويات. ويبقى في تقديرنا خيار تنمية مشروع المصالحة الداخلية في الفضاء السياسي والاجتماعي العربي. إذ إننا لا يمكن أن نحقق الأمن والاستقرار إلَّا على قاعدة المصالحة الداخلية في المجتمعات العربية بين مختلف المكونات والتعبيرات.

مصالحة بين السلطة والمجتمع، بين النخب السياسية والثقافية والاقتصادية، بين المكونات والتوجهات الدينية والقومية. بحيث يتوافر مناخ جديد يزيد من فرص الوفاق والتوافق، ويقلل من إمكانية الصدام والصراع المفتوح بين الخيارات المتوافرة في الساحة.

إننا جميعاً -نخباً ومجتمعاتٍ- لا نمتلك القدرة الحقيقية لإنجاز حلول جذرية لأزماتنا ومشكلاتنا. واستمرار أوضاعنا وأحوالنا على حالها سيفاقم من الأزمات وسيوصلنا جميعاً إلى شفير الهاوية.

لذلك وفي ظل أحوالنا المتردية والتحديات والمخاطر الكبرى التي تواجهنا من مختلف المواقع، وغياب القدرة الحقيقية لدينا جميعاً للانعتاق الجذري من هذه الاختناقات. لذلك كله لا يبقى أمامنا حكوماتٍ وشعوباً إلَّا أن يلتفت بعضنا لبعض، ونعمل بوعي وإحساس عميق بالمسؤولية لإطلاق مشروع مصالحة سياسية واجتماعية بين مختلف مكونات المجتمع، حتى نتمكَّن من الخروج من هذه الدائرة الجهنمية التي تُراكم المخاطر وتُكثِّف من التحديات وتزيدنا ضعفاً وتراجعاً وانتكاساً.

فالتطوُّرات السياسية الأخيرة في العراق وفلسطين تُؤكِّد أن المجال العربي بأسره عاجز عن حماية ذاته والدفاع عن أمنه الوطني والقومي، وأن المشروع الصهيوني يتغوَّل ويتضخَّم ويصل إلى أهدافه الخطيرة من جرَّاء عجزنا وضعفنا. ولن تستطيع الخطب الرنانة أو الشعارات الصارخة أن تُغيِّر من أحوالنا وأوضاعنا وتُزيل عن كاهلنا حالة العجز المطبق التي كلَّفتنا ولا زالت الكثير من الخسائر والانكسارات. كما أن استمرار الأوضاع الداخلية في البلدان العربية على حالها، يعني استمرار الأخطار والخسائر. وهذا يُنذر بحدوث كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في العديد من المناطق والبلدان.

لذلك لا خيار حقيقي أمامنا إلَّا مصالحة أنفسنا وإعادة بناء عقد سياسي واجتماعي جديد على المستويين الوطني والقومي،حتى نتمكَّن من توفير شروط الخروج والانعتاق من هذه الأزمات الخانقة التي تُهدِّد وجودنا ومستقبلنا كله.

فلا أحد في العالم العربي كلِّه يتحمَّل اليوم الانتقال من خسارة إلى أخرى ومن نكسة إلى نكسة أخرى أشد منها وطأة وخطراً وتأثيراً على الحاضر والمستقبل. ففي ظل الأوضاع الحالية ازدادت الأمة معاناةً وتراجعاً، وفي ظل النظام العربي الرسمي القائم توسَّع المشروع الصهيوني وأصبح يُهدِّد الجميع أمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وازددنا تفكُّكاً وتفتُّتاً على ضوء الموقف من مشروع السلام والتطبيع.

وفي ظل هذه الظروف والأوضاع حدثت حروب ومصادمات عربية - عربية أرهقت الجميع وأدَّت إلى أضرار فادحة في جسم الأمة.

وخلاصة الأمر: أن جميع الوقائع والتطوُّرات الداخلية والخارجية، تُثبت بشكل لا لبس فيه حاجتنا جميعاً إلى نظام وعقد سياسي جديد يضع الأمة من جديد في الطريق الصحيح من أجل تحقيق أهدافها وتطلعاتها التاريخية.

إننا أحوج ما نكون اليوم إلى رؤية وعقد جديدين يُنظمان العلاقات الداخلية بين قوى الوطن المتعددة والدول العربية بعضها مع بعض. ويُنمِّي طاقاتنا ويصقل مواهبنا ويُعزِّز قدراتنا الذاتية والموضوعية ويُحرِّر إرادتنا من العجز أو الارتهان والتبعية، ويشحذ كل طاقات وقدرات الأمة من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والتاريخية، ودحر المشروع الصهيوني من فضائنا ومجالنا السياسي والحضاري.

فثغرات واقعنا العربي عديدة وعظيمة، والتحديات والمخاطر التي تُهدِّدنا متواصلة، ولا خيار أمامنا سوى إعادة ترتيب أوضاعنا وأحوالنا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل التطوُّرات والتطلُّعات الداخلية، دون أن نُغفل حاجتنا جميعاً إلى الائتلاف والوحدة.

وهذا يتطلَّب من النُّخب السياسية في المجال العربي، اتِّخاذ إجراءات وخطوات عملية ملموسة لوقف الانهيار والانطلاق في بناء حياة سياسية جديدة، تُؤسِّس لمشروع عربي جديد، يُحقِّق نهضتنا، ويُوفِّر لنا القدرة النوعية لمجابهة التحديات الكبرى التي تفرضها قوى الهيمنة والغطرسة في المجال العربي.

وإن الخطوة الأولى في مشروع وقف الانهيار وإعادة التوازن إلى المجال العربي هي إصلاح وتطوير العلاقة بين السلطة والمجتمع في الإطار الوطني والعربي. فهي مدخل وقف التراجع والتقهقر، وهي التي تُمكِّننا من التغلُّب على المصاعب الاقتصادية والسياسية التي تواجه دول العالم العربي لأسباب وعوامل مختلفة.

وإن هذه المصالحة بما تتضمَّن من رؤية ونمط جديد للعلاقة والتعامل، هي اليوم أكثر من ضرورة. إنها خيارنا المتاح للدخول في حركة التاريخ من جديد وتجاوز كل المعضلات والعقبات التي تحول دون تقدمنا وانطلاقتنا من جديد.

وما لم تقوم دول العالم العربي بمشروع المصالحة مع شعوبها ومجتمعاتها، فسيكون مستقبل المجال العربي بأسره قاتماً وخطيراً على مختلف المستويات.

فلا تَقدُّم دون إصلاح، ومن ينشد التطوُّر والتقدُّم دون القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، فإن أغلب الخطوات التي يقوم بها ستُراكم من الأزمات، وستُكثِّف من حالات الإحباط والفشل. فالارتباط بين الإصلاح والتقدُّم هو ارتباط النتيجة بالسبب.

وهذا العقد الاجتماعي - السياسي هو الذي يُحقِّق مصالح الجميع، وهو المرجعية العليا لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوترات والأزمات، وجود عقد يُنظِّم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعددة. ويُحدِّد الأهداف المرحلية والاستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق وواجبات كل طرف.

ومن المؤكد أن تنظيم العلاقة بين مختلف مكونات الأمة، بحاجة إلى العديد من الجهود والإمكانات، وإلى ثقافة سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها تعبئة المجال العربي وفق أهداف واضحة وأساليب ممكنة وحضارية، وإلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والثقافية، بحيث نصل إلى مستوى حضاري يحكم علاقة السياسي بالثقافي والعكس.

وجماع القول: أن بوابة خلق الإجماع الوطني والقومي الجديد، هي تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضاً.

والعقد السياسي - الاجتماعي الجديد، هو الذي يوفّر الأرضية المناسبة لتطوير مؤسسة الدولة وتحديث هياكلها الدستورية، وبناء الاقتصاد الوطني ووضع برامج النهوض في مختلف الميادين والمجالات.

فالعرب اليوم ولاعتبارات عديدة ذاتية مرتبطة بالواقع العربي وطبيعة الأداء والخيارات السياسية والاقتصادية، ومستوى العلاقة بين السلطات العربية ومجتمعاتها بكل تعبيراتها وأطيافها. وموضوعية مرتبطة بانكشاف العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه أمام التدخلات الأجنبية، والسعي الحثيث والماكر الذي تبذله كل القوى الدولية والإقليمية للاستفادة القصوى من لحظة الضعف والعجز العربي. أقول: إن العرب اليوم ولهذه الاعتبارات، غير قادرين على علاج مشكلات واقعهم سواء على الصعيد الداخلي أو المستوى الإقليمي والدولي. وهذه (عدم القدرة) التي تصل لحد العجز الواضح والبيِّن، يُلقي بظلاله السلبية والخطيرة على الفضاء العربي بكل مستوياته ودوائره. والذي يزيد الأمر صعوبةً وتعقيداً، هو تعدُّد المشاكل والأزمات التي تواجه العرب اليوم. فما يُواجهه العالم العربي اليوم، ليس مشكلة واحدة فحسب، وإنما مجموعة من المشاكل والأزمات، وجميعها يُهدِّد وبشكل أو بآخر الأمن والاستقرار العربيين. فمن القضية الفلسطينية التي أصبحت قضايا وعناوين فلسطينية عديدة، إلى أزمة العراق التي دُشِّنت باحتلال القوات الأمريكية لهذا البلد العربي العريق، إلى مشروع الحرب على الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بعقلية الإمبراطور العالمي، الذي لا يعرف إلَّا أمنه ومصالحه واستقراره. ويدفع بكل الدول إلى تبني خيارات أمنية وسياسية وعسكرية، تفتح الباب واسعاً أمام احتمالات المواجهات والحروب الأهلية. إلى ما يجري في لبنان، الذي لا زال يئن من وطأة مشاكله وخياراته وتناقضاته. إلى احتمالات المواجهة الأمريكية - الإيرانية، والمخاطر الكبرى المترتبة على هذه المواجهة؛ فالعالم العربي اليوم، يعيش في وضع لا يحسد عليه في مختلف المستويات. وإن استمرار حالة العجز العربي تُنذر بتداعيات ومتواليات خطيرة تُهدِّد الفضاء العربي من محيطه إلى خليجه. وما نقوله ليس مدعاة للخضوع والاستسلام، وإنما من أجل معرفة واقعنا وحجم المخاطر التي تُواجهنا، وشحذ الهمم لبلورة طرق الخروج من هذه الأزمات والمآزق. فلا يمكن أن نرفع الراية البيضاء تجاه التحوُّلات والأحداث الكبرى التي تجري في منطقة. فالمطلوب اليوم هو:

1- إعادة بناء العلاقة بين السلطة والمجتمع في المجال العربي على أسس المشاركة والمساواة وصيانة حقوق الإنسان؛ لأن تغييب المجتمعات العربية عن الشؤون العامة وصياغة واقعه ومستقبله، أدَّى إلى تفاقم المشكلات السياسية والأمنية الداخلية، مما أضعف الواقع العربي داخليًّا وخارجيًّا، ولا يمكن مواجهة مشاكل المرحلة وصعوباتها إلَّا ببناء علاقات إيجابية جديدة بين السلطة والمجتمع في المجال العربي.

2- الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي، والعمل على إنهاء نقاط التوتر القائمة في كل بلد عربي. والإصلاح السياسي الذي نتطلع إليه هو ضرورة للحكومات العربية لتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وتجديد شرعيتها، وإضافة دماء جديدة إلى مؤسساتها وهياكلها، كما هو ضرورة للمجتمعات العربية حتى تُنهي عقود من التغييب والتهميش، وتضبط نزعات التطرُّف في فضائها وتُعيد صياغة أولوياتها بما ينسجم ومقتضيات الاستقرار السياسي.

3- إعادة صياغة دور ووظيفة المؤسسات القومية العربية، وعلى رأس هذه المؤسسات الجامعة العربية. فالعرب اليوم لا يُمكن أن يُديروا أوضاعهم الإقليمية والدولية دون جامعة عربية فعَّالة، وتمتلك القدرة السياسية الفعلية لضبط الخلافات العربية، وتطوير وتفعيل كل المواثيق والاتفاقيات العربية - العربية.

فالتحوُّل السياسي المطلوب اليوم عربيًّا، لا يُمكن أن يتحقَّق دون إصلاح وضع الجامعة العربية، وإعادة صياغة أدوارها ووظائفها. وجماع القول: أن العرب اليوم بحاجة إلى تحوُّلات سياسية جادة ونوعية لإصلاح أوضاعهم الخاصة والعامة، حتى يتمكَّنوا من مواجهة تحديات وصعوبات لحظتهم التاريخية المفتوحة على كل المخاطر والاحتمالات.

والتحوُّلات السياسية الكبرى تتطلَّب باستمرار ثقافة سياسية جديدة، تُعطي أولوية إلى الصفح والعفو وتعزيز قيم الوئام والسلام في الفضاء الاجتماعي والوطني؛ لأن نزعات الانتقام وسفك الدم لا تفضي إلَّا إلى الانهيار، وتأسيس نظام سياسي واجتماعي يُكرِّر الاستبداد والقمع الذي حاربه تحت شعارات ويافطات جديدة.

وإن الخطوة الأولى في مشروع التحوُّل الديمقراطي الحقيقي في دول الربيع العربي، هي القطع مع ثقافة الانتقام ونزعات التصفية وممارسة العنف بحق من مارس الظلم والاضطهاد في ظل النظام السياسي البائد. ونحن هنا ندعو كل المتضررين والمضطهدين من النظام السياسي السابق، إلى تجاوز المرارات والويلات من أجل بناء وطن بعيداً عن نزعات الثأر والانتقام، ولتتجه الجهود صوب معالجة المشكلات الكبرى التي يُعاني منها الوطن والمجتمع؛ لأن استمرار حالة الفساد والمحسوبية والظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، يُنذر باستمرار الكوارث التي يُعاني منها المجتمع في زمن النظام السياسي البائد. فالمرحلة ليست مرحلة انتقام وثأر، وإنما عفو وصفح، ومعالجة الاختلالات البنيوية والهيكلية التي تُعاني منها الدولة وتؤثر في حياة المواطن في مختلف مجالات الحياة. فالكرامة لا تُستعاد إلَّا ببناء نظام سياسي ديمقراطي تعدُّدي، يحترم حقوق الإنسان، ويُعبِّر عن كل الحساسيات الاجتماعية والسياسية الموجودة في الوطن.

من قضايا الانتقال الديمقراطي

في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تجري في أكثر من بلد عربي، يتم الخلط الدائم بين الفكرة الديمقراطية التي قد لا تختلف عليها كل القوى السياسية والاجتماعية الموجودة في هذا المجتمع أو ذاك، والنظام الديمقراطي، الذي يتطلَّب في المرحلة الأولى تفكيك النظام السابق أو شبكة المصالح القائمة وبعد ذلك تأتي مرحلة تثبيت أو إرساء معالم النظام الديمقراطي الجديد. وبطبيعة الحال فإن مرحلة تفكيك النظام القديم لن تمر بسهولة أو دون عقبات ومشاكل؛ لأن هناك قوى وفعاليات لها مصالح ثابتة وأكيدة في استمرار النظام القديم، وستعمل هذه القوى بوسائل مختلفة مشروعة وغير مشروعة لإدامة الأوضاع السياسية على حالها، وستعمل للدفاع عن موقعها ومصالحها المختلفة.

وفي المقابل فإن القوى السياسية والاجتماعية الجديدة تريد الإسراع في إنهاء النظام القديم وتثبيت النظام الجديد؛ فيتولد من جراء اختلاف المصالح والقناعات والأولويات نزاعات وصراعات مفتوحة على كل الاحتمالات.

لهذا فإن المرحلة الانتقالية من النظام القديم إلى النظام الجديد، هي من أهم المراحل التي تُحدِّد طبيعة المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذا البلد أو ذاك المجتمع.

فكل القوى والفعاليات تُشْعِر أن هذه المرحلة هي من أفضل المراحل لتوسيع نطاق عملها وتأثيرها ومنافستها اليومية للقوى والفعاليات الأخرى. والجميع كسر حاجز الخوف، ولا يخاف من أية قوة قادرة على إجهاض عمله أو عرقلته؛ فهي مرحلة سائلة ومتحركة وفوضوية، والكل يسعى إلى تثبيت نفسه ومصالحه في إطار النظام الجديد المَنْوِي تشكيله.

ودائماً ولاعتبارات سيكولوجية واجتماعية وثقافية، فإن عملية الصراع والتنافس، بين مجموع القوى، لا تلتزم بقواعد اللعبة لأنها لم تتشكَّل بعدُ، كما أنها ستلجأ إلى وسائل غير مشروعة أو غير أخلاقية، في الدفاع عمَّا تراه مصالحها ومجالها الحيوي.

وبالاستمرار في المراحل الانتقالية التي تمر بها الأمم والمجتمعات، تزداد الفروقات، وتبرز التناقضات، وتطفو على السطح المشاكل والتوترات الكامنة في قاع المجتمع؛ لهذا فإن النظرة الحالمة أو اليوتوبية إلى الأمور أو قضايا التحوُّل والانتقال، تصدم الجميع ولا نصيب لها من الحقيقة والواقع.

فالناس جميعاً بكل انتماءاتهم وأيدلوجياتهم، حينما يسقط النظام القديم أو يتلاشى، فإنهم يُسرعون بمختلف الوسائل لملء الفراغ أو توسيع شبكة المصالح والمنافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون النظر أو الأخذ في عين الاعتبار حقوق الآخرين أو مساحة تأثيرهم الواقعية أو المفترضة.

لهذا فإن لحظة الانتقال من واقع إلى آخر، ومن نظام سياسي واجتماعي إلى آخر، هي لحظة انفجار سياسي واجتماعي، وصعود متعاظم لكل التناقضات والتوترات.

ودائماً وفي كل التجارب والممارسات السياسية، فإن ولادة النظام الديمقراطي، أو عملية الانتقال من نظام سياسي أو اجتماعي بموصفات معينة إلى آخر بمواصفات أخرى أو بقوى اجتماعية واقتصادية أخرى، لا يتم بسلاسة وسهولة؛ فهي دائماً ولادة عسيرة ومكلفة على مختلف الصعد والمستويات.

فالفكرة الديمقراطية هي فكرة حالمة لأنها تتحدَّث عمَّا ينبغي أن يكون، دون الوقوف أمام مشاكل الانتقال وطبيعة الانقسامات والصراعات الاجتماعية والسياسية الناتجة من تناقض المصالح أو الخوف من ضياعها وخسارتها.

وبين النظام الديمقراطي الذي يتطلَّب وقائع اجتماعية جديدة وممارسة ثقافية واجتماعية تعتني بإدارة اللحظة بكل زخمها وتبايناتها وتناقضات القوى المختلفة التي تشكلها.

وهذه المرحلة بكل تداعياتها وآفاقها هي ما تعيشه تونس ومصر بعد عملية التغيير والتحوُّلات السياسية التي تجري فيهما؛ فهناك قوى قديمة عديدة، وتمتلك عناصر قوة حيوية في أكثر من مجال، تعمل لاعتبارات عديدة لتخفيف الزخم الجماهيري أو صياغة أطر وأقنية فرعية لاستيعابه أو التخفيف من زخمه العام، وتسعى هذه القوى عبر شبكة علاقاتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية، لضمان مصالحها الخاصة والعامة.

وفي المقابل هناك قوى جديدة ترى أن ما تحقق هو بفضل تضحياتها وعزيمة أبنائها، فهي أحق بكل المكاسب من غيرها.

وإنها كقوى لن تضمن الواقع الجديد إلَّا بإحداث تحوُّلات كبرى وجذرية في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلد.

وبإمكانها لإنجاز ذلك الاستفادة من الزخم الجماهيري وسقوط حاجز الخوف وحالة الفوضى النسبية، التي تُغري الجميع بالتقدُّم إلى الأمام دون خوف أو وجل من أحد.

وبين هذه القوى والفعاليات الداخلية، هناك قوى خارجية، تسعى ولاعتبارات عديدة، لدفع الأمور باتجاه لا يناقض مصالحها وفضائها الاستراتيجي.

لهذا فإن عملية التحوُّل والانتقال، لا تتم بسهولة ويسر؛ وذلك لأنها مرحلة دون قواعد محدَّدة للتنافس والصراع، مما يجعل كل القوى غير قادرة على حسم أية مشكلة كبرى تجري في المجتمع والدولة.

وأيضا لأنها مرحلة تُعجِّل ببروز كل التناقضات والتباينات الأفقية والعمودية الكامنة في المجتمع، والتي تتحيَّن الفرصة للبروز. لهذا نسمع هذه الأيام عن مشكلة قبلية في تونس أو مشكلات طائفية ومجتمعية عديدة في مصر، وهذه المشاكل لم تخلق من العدم، ولكن الإدارة الخاطئة والعنيفة لها هي التي عمَّقها، ووفَّر لها حساسيات ومخاوف جديدة.

أسوق كل هذه الكلام، لأقول: إن ما نشهده من توتُّرات وصراعات وتنافس وتناقضات بين مجموع القوى في المشهدين التونسي والمصري، هو حالة طبيعة في مرحلة الانتقال والتحوُّل. وهذه الحالة ليست خاصة بمجتمعاتنا العربية، بل سادت في كل التجارب الإنسانية، والاختلاف الحقيقي بين التجارب الإنسانية في مرحلة التحوُّل الديمقراطي هو في الحجم والدرجة.

فالدول التي تعيش الاستبداد واحتكار عناصر القوة وغياب الحياة السياسية الطبيعية، فإن مرحلة الانتقال والتحوُّل الديمقراطي بالنسبة إليها ستكون عسيرة وقاسية، لأنها تفتقد بسبب شمولية النظام السياسي إلى تقاليد العمل السياسي العام وقواعد التنافس الاجتماعي الحر والمفتوح.

أما الدول التي تعيش أجواء الحرية والانفتاح والحياة السياسية الطبيعية بشكل نسبي فإن عملية التحوُّل الديمقراطي فيها، ستجري بمشاكل قليلة أو أزمات محدودة.

وبالتالي فإن الذي يُحدِّد طبيعة التحوُّلات الديمقراطية في المجتمعات العربية، هو طبيعة النظام السياسي، ومدى مشاركة القوى السياسية والاجتماعية فيه.. و«يصبح بالإمكان تسليط الضوء على إشكالية الانتقال إلى الديمقراطية من زاوية الفرق بين تأسيس الديمقراطية من جهة، أو تأسيس النظام الديمقراطي تاريخيًّا، وهي عملية جرت النظام وراءها، وعملية إعادة إنتاج نظام ديمقراطي من جهة أخرى، أي توفر مقومات إعادة إنتاج النظام لذاته، وهذا يشمل تطوُّره في إطار الظاهرة نفسها، وبعد أن نضجت كنظام.. وهو فلسفيًّا تقسيم قريب من تمييز هيغل بين جدلية الجوهر في مقابل جدلية الوجود.. والمقصود هو التمييز بين عملية إعادة إنتاج الظاهرة الاجتماعية كظاهرة نشأت وباتت مستقلة ذات حدود، أي كظاهرة تُعرِّف ذاتها عبر إعادة إنتاج ذاتها، وبين عملية إنتاجها التاريخية كتوليد لظاهرة اجتماعية ما زالت معتمدة في وجودها على عوامل نشوئها التاريخية السابقة لها وعوامل أخرى محيطة بها.. ففي حالة تولد أو توليد ظاهرة اجتماعية يصبح الاعتماد على جدلية العلاقة بينها وبين عوامل خارجية لها، وعلى جدلية علاقتها مع المرحلة التاريخية التي سبقتها، أساسيًّا، لفهمها.. وهنالك فرق كبير بين الأمرين: نشوء الظاهرة تاريخيًّا وإعادة إنتاجها».

فبناء الديمقراطيات يتطلَّب مغالبة دائمة، لكل نزعات الاستبداد والديكتاتورية، وتأسيس مستمر لوقائع وحقائق الحرية والديمقراطية في الفضاء السياسي والاجتماعي.

ووجود أزمات ومشاكل وانقسامات اجتماعية ونزاعات سياسية، كلها ظواهر طبيعية في مجتمع، يُريد الانعتاق من أغلال عديدة. كما أن الديمقراطية لا تُنهي هذه النزاعات والانقسامات، وإنما تُنظِّمها في إطار تنافس سياسي سلمي، محكوم بقواعد قانونية ودستورية.

والعيوب التي تبرز على السطح في المرحلة الانتقالية، ليس المسؤول عنها النظام الجديد أو فكرة الديمقراطية، وإنما هي نتاج تاريخي للحقبة الماضية بكل خياراتها وسياساتها وصراعاتها.

وإن هذه العيوب ليست قدراً مقدّراً على مجتمعاتنا، وإنما هي عيوب ناتجة من الممارسات السابقة، وهي بحاجة إلى مواجهتها على نحو حقيقي، حتى نتمكَّن من التخلُّص من جذورها، وننطلق في مشروع البناء والتنمية والعمران.

العبور العربي

كل التحوُّلات والوقائع في العالم العربي اليوم، تُؤشِّر بشكل لا لبس فيه، أن هذا العالم وبعد حقبة طويلة من الجمود والسكون، يمر بمرحلة عبور من واقع إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى.

وإن مرحلة العبور العربي مليئة بالأحداث والتطوُّرات الدراماتيكية، حيث تتسابق مع الزمن، وفي كل لحظة زمنية نشهد على تحوُّل ما أو تغيُّر ما.. ونحن هنا لا نود أن نطلق أحكام قيمية على ما يجري في المنطقة العربية، وإنما نحاول أن نصف المشهد والتحوُّل الكبير الذي تشهده المنطقة العربية بأسرها.

ولا ريب أن في مرحلة الانتقال والعبور تبرز على السطح في كل المجتمعات العربية جملة المشاكل والتناقضات الكامنة في القاع العربي؛ لأنه في زمن العبور تتراخى القبضة الأمنية والتراتبيات الاجتماعية القائمة، وتبرز على العناوين واليافطات الكامنة في الجسم العربي، ويتم تداول مصالح وأهداف وآمال كل الجماعات البشرية الفرعية.

وبعيداً عن الدخول في دهاليز وصف هذه المرحلة وطبيعتها، وديناميتها وآفاقها المستقبلية، نود التأكيد على بعض النقاط والأفكار التي تساهم -في تقديرنا- في تخفيف الاختناقات والهواجس الموجودة في المجتمعات العربية، وهي على النحو التالي:

1- إطلاق المبادرات الوطنية والاجتماعية، التي تستهدف تجسير العلاقة بين مختلف الأطراف والأطياف الموجودة في المجتمعات العربية؛ لأن غياب هذه المبادرات، مع استمرار حالة الشحن والتصعيد بين مختلف الأطراف في المشهد العربي، ينذر بأحداث جسام تُهدِّد الأمن والاستقرار في كل المنطقة العربية. فمهما كانت المشاكل والصعوبات، لا خيار أمام المجتمعات العربية، إذا أرادت التقليل من خسائرها وتناقضات أطرافها ومكوناتها الحادة، إلَّا إطلاق مبادرات جادة للحوار والتلاقي والتفاهم بين مختلف الأطياف والأطراف؛ فكل طرف أو طيف مهما كانت قوته، فإنه لن يتمكَّن من نيل حقوقه والوصول إلى أهدافه، دون التفاهم والتلاقي والحوار مع شركاء وطنه من كل الأطراف والأطياف. والحوار الذي نُشجِّع عليه وندعو إليه في كل دولنا العربية، ليس تكتيكاً سياسيًّا لقتل الوقت أو توسيع هامش المناورة لدى هذا الطرف أو ذاك، وإنما لإيماننا العميق أن طبيعة المستقبل العربي المنظور في كل دولنا ومجتمعاتنا العربية، مرهون إلى حدٍّ بعيد على قدرة هذه المجتمعات بكل مكوناتها وأطرافها وتعبيراتها، على الجلوس على طاولة الحوار الجاد والمفتوح على كل الأمور والقضايا، من أجل تدوير الزوايا الحادة، والتقليل من نزعات الاستئصال والاحتكار وتوسيع الدوائر والمساحات المشتركة بين جميع الأطراف.

والحوار بين تعبيرات المجتمع العربي ليس حالة ترفية، وإنما هو ضرورة وطنية لكل البلدان العربية وضرورة قومية لكل العالم العربي.

فالبديل المتوقَّع حينما يغيب الحوار هو المزيد من تفجُّر كل التناقضات الأفقية والعمودية في الواقع العربي؛ فالحوار الجاد والحقيقي بين جميع الأطياف في الواقع العربي، هو الذي يجنب الجميع احتمالات كارثية على راهن العرب ومستقبلهم.

2- إن النخب العربية بكل مستوياتها ودوائرها، تتحمَّل مسؤولية كبرى في ظل هذه الظروف الحساسة التي يشهدها العالم العربي.

لهذا فإن انزواء وانكفاء النخب العربية عن المشهد العام يتيح لغير الكفاءات تصدُّر المشهد ودفعه باتجاهات ليست بالضرورة مناسبة لمصالح العرب الجوهرية.

كما أن اتخاذ موقف الفرجة على ما يجري من أحداث وتطوُّرات متلاحقة في العالم العربي، لا ينسجم والخلفيات الفكرية والسياسية التي تنطلق منها هذه النخب.

وعليه فإننا نعتقد أن النخب العلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية في العالم العربي، تتحمَّل مسؤولية حقيقية وحيوية في هذه اللحظة من مسيرة العالم العربي.

وتتجسد هذه المسؤولية في بلورة مشروعات عربية ووطنية من قبل هذه النخب في كيفية الخروج من هذه المحن، والعمل على التواصل الفعَّال مع المجتمعات العربية لتعبئة الشارع العربي باتجاهات البناء والتنمية والتقدُّم.

3- في هذا الزمن المتحوِّل والمتغيِّر باستمرار، تتحمَّل المؤسسات والمنظمات القومية العربية، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، مسؤولية خاصة وهامة في آن؛ فهي معنية ببلورة رؤية عربية متكاملة تجاه ما يجري من أحداث وتحوُّلات، والمساهمة في معالجة بعض الملفات التي تثقل كاهل المنطقة العربية في لحظة زمنية حساسة وخطيرة. ففي زمن العبور والانتقال العربي من مرحلة إلى أخرى لا يصح، وليس مقبولاً من المؤسسات القومية العربية، أن تتَّخذ موقف الصمت أو الفرجة على ما يجري من تطوُّرات دراماتيكية في المنطقة؛ فهي معنية، أي المؤسسات القومية قبل غيرها، بأحداث المنطقة، وضرورة العمل على صياغة مبادرات لإنهاء أو الحد من نقاط توتر في هذا البلد أو ذاك. فالجامعة العربية هي مظلة العرب جميعاً، ولا يمكنها في زمن التحوُّلات السريعة، أن تبقى دون رؤية واستراتيجية عملية، للمساهمة في تقليل الخسائر، أو سد بعض نقاط الضعف والثغرات الموجودة في الجسم العربي، والشعوب العربية التي تتعرَّض للقتل والذبح اليومي، هي أحوج ما تكون اليوم إلى كلمة وموقف لنصرتها والدفاع عن حقوقها؛ فالصمت يعد وقوفاً مع الجلاد ضد الضحية، واللا موقف يعد تشجيعاً للقاتل بضرورة الاستمرار في قتله وتعديه على حقوق الناس المادية والمعنوية.

خلاصة القول: إننا في العالم العربي نعيش لحظة تحوُّل كبرى، وتمر هذه اللحظة بصعوبات كبيرة وخطيرة، ولا يصح في زمن التحوُّلات الكبرى، أن تبقى النُّخب والمؤسسات القومية صامتة أو مُتفرِّجة، وإنما هي معنية قبل غيرها بضرورة القيام بخطوات عملية للتقليل من الصعوبات أو الحد من عمليات سفك الدماء وتذليل بعض المشاكل التي تحول دون المصالحة الوطنية في هذا البلد العربي أو ذاك.

إنها لحظة مصيرية تتطلَّب تضافر كل الجهود والإمكانات، لعبور هذه اللحظة بأقل خسائر ممكنة سواء على صعيد الأرواح أو مُتطلَّبات الاستقرار السياسي والاجتماعي.

تفكيك الديكتاتوريات وآليات المصالحة والإنصاف

في زمن تفكيك الديكتاتوريات تتجمَّع في سياق هذا العمل تنويعات أيديولوجية وسياسية وشعبية مختلفة، جمعها كفاحها من أجل إسقاط الديكتاتور، ولكن بعد سقوط الديكتاتور واندحار المستبد، تبدأ تباينات هذه التنويعات بالبروز، لهذا فإننا نعتقد بأهمية العمل في دول الربيع العربي، إلى بناء الأطر وعقد المؤتمرات من أجل إنجاز حالة المصالحة والإنصاف بين مختلف فعاليات الشعب وتنويعاته الدينية والمذهبية والجهوية والسياسية؛ لأن غياب الإنصاف والمصالحة وسيادة نزعات المغالبة، كلها تُؤسِّس لمحنة جديدة ومآزق مُتعدِّدة قائمة؛ لهذا فإن جهود المصالحة والإنصاف تستهدف إدارة حاضر مجتمعات الربيع العربي بأقل خسائر ممكنة وصياغة المستقبل السياسي والاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات على أسس تضمن المساواة والعدالة للجميع.

وفي تقديرنا: إن شروط نجاح جهود المصالحة والإنصاف في مجتمعات الربيع العربي هي الآتي:

1- الالتزام بمقتضيات التغيير الديمقراطي السلمي في الدولة والمجتمع؛ لأن أي نزعة عنفية مهما كانت مبرراتها أو مسوغاتها، فإنها تُضِرُّ بعملية المصالحة والإنصاف، وتُدشِّن لمرحلة من العنف والعنف المضاد، مما يقضي على كل أسس المصالحة والإنصاف؛ لهذا فإن استمرار نهج التغيير الديمقراطي السلمي والالتزام بكل مقتضياته وموجباته، يهيئ الأرضية السياسية والقانونية والاجتماعية لنجاح كل جهود المصالحة والإنصاف لهذا نرى أن المجتمعات التي تورَّطت في عمليات انتقام وثأر وعنف ضد بعض مكوناتها الاجتماعية أو تعبيراتها السياسية، فإن جهود المصالحة والإنصاف فيها تعاني من العديد من المشكلات والمآزق الميدانية التي تعرقل جهود المصالحة والإنصاف.

من هنا فإننا نعتقد أن سلمية عملية التغيير والالتزام بآليات الديمقراطية في عملية الانتقال والتحوُّل من النظام القديم إلى النظام الجديد، هو أحد الشروط الأساسية لنجاح جهود المصالحة والإنصاف.

بينما سفك الدماء واستخدام العنف لتغيير المعادلات السياسية والاجتماعية، فإنه يُؤسِّس للمزيد من ظواهر العنف والقتل ويُبدِّد كل فرص النجاح لمشروعات المصالحة والإنصاف.

2- بناء التحالفات السياسية والاجتماعية الواسعة: لعل من أهم الدروس التي تُوضِّحها تجارب الربيع العربي، هي أن الحزب السياسي الواحد مهما أُوتي من قوة وقدرة وحضور اجتماعي، إلَّا أنه بوحده لا يتمكَّن من تحقيق الإنجاز في عملية التحوُّل والتغيير؛ لهذا فإن التحوُّل السياسي في مجتمعات الربيع العربي، قادته ائتلافات وتحالفات سياسية واجتماعية واسعة، بحيث شكَّلت كتلة وطنية ممتدة، هي التي باشرت عملية النضال ضد الأنظمة الاستبدادية والشمولية، وهي التي لا زالت تقود مرحلة الانتقال والتحوُّل الديمقراطي.

لهذا فإننا نعتقد أن من أهم المداخل السياسية لإنجاز حقائق المصالحة والإنصاف، هو استمرار نهج بناء الائتلافات والتحالفات السياسية.

التنافس السياسي والاجتماعي بين مختلف القوى والتعبيرات سيبقى طبيعيًّا وإيجابيًّا، ما دام يُدار بعيداً عن نزعة الاحتكار والاستئثار، ولكي يضمن الجميع عدم استئثار طرف ما بالعملية السياسية، من الضروري التأكيد على فكرة بناء الائتلافات الواسعة، التي تساهم في تحويل الأحزاب والتكتلات السياسية من أحزاب ذات طغيان لبعدها الأيديولوجي إلى أحزاب وظيفية، تلتقي مع الكثير من منافسيها من الأحزاب السياسية الأخرى على قاعدة وحدة وتشابه البرامج السياسية المرحلية والاستراتيجية.

بمعنى أن بناء التحالفات السياسية يجعل نمط العلاقة بين مختلف الوجودات السياسية قائمة على وحدة البرنامج السياسي واختلاف أو تباين المنطلقات الأيديولوجية.

أما إذا غابت التحالفات السياسية فإن ما يبرز من كل الأحزاب هو منطلقاتها الأيديولوجية التي هي مختلفة بالضرورة مع منطلقات الأحزاب الأخرى، مما يُشتِّت الساحة، ويجعلها خاضعة لتنافسات غير منضبطة بأي ضابط؛ لهذا فإننا نجد أن المجتمعات التي تُدار من تحالف سياسي واسع بين قواها المتعددة، فإنها أقدر من غيرها في إدارة مرحلتها الانتقالية وضبط نزعات العنف والثأر والانتقام، وتحقيق مقتضيات المصالحة والإنصاف بين مختلف الأطراف والأطياف.

«فالتجارب العربية التي اجترحت التغيير وإسقاط الأنظمة في موجة الربيع العربي الراهنة، لم تكن بعيدة عن هكذا نوع من العمل السياسي والعمل الميداني بين سياسيين ومثقفين وناشطين لم يُوحِّدهم إلَّا هدف التغيير والخلاص من الاستبداد، وربما كان الاستبداد التونسي والمصري لا يزال ماثلاً أمام أعيننا اليوم لو تمذهب الحراك أو تحزَّب أو بقي كل تيار أو طرف اجتماعي وسياسي وديني متمسكاً بثوابته الأيديولوجية، بعيداً عن ائتلافات وتجمعات شبابية متحررة داخليًّا وضاغطة بقوة في ساحات التغيير. فمن تونس إلى مصر، كان رفع مسألة التغيير التي حان أوانها إلى مصاف الهدف الوحيد مرحليًّا بغض النظر عما عداه كفيلاً بتحقيقه».

فالتحالفات العابرة للمشارب الأيديولوجية والفكرية والسياسية، هي القادرة على إنجاز المصالحة والإنصاف، وضبط نزعات الثأر والانتقام.

ومن خلال التحالفات والائتلافات السياسية الواسعة، تتشكَّل كتلة وطنية ممتدة، تقود عملية تفكيك كل حوامل الاستبداد والديكتاتورية، وبناء أسس المجال السياسي الوطني، الذي يستند إلى قيم الحرية والتعددية والتداول.

وبهذه القيم والمجال السياسي الجديد يتم تجاوز التكوينات الاجتماعية التقليدية، بحيث لا تكون هذه العناوين هي المتحكمة في الحياة السياسية والاجتماعية. فالمطلوب أن تكون الحياة السياسية الجديدة مستندة إلى قيم المواطنة، مع احترام تام لكل الخصوصيات الموجودة في التكوينات الاجتماعية القائمة.

وإننا نعتقد أن هذا المدخل (أي بناء التحالفات العابرة للانتماءات التقليدية ) من أهم المداخل التي تساهم في إنجاز حقائق المصالحة والإنصاف في الاجتماع الوطني الحديث.

3- الديمقراطية حق الجميع: لعل من الأخطاء الكبرى في مرحلة العدالة الانتقالية، والتي تساهم في شحن النفوس والبحث عن آليات للدفاع عن الجماعة الخاصة، هو العمل بعقلية (ديمقراطية الاستثناء).. بمعنى أن النخب السياسية الجديدة تعمل على إرساء معالم وحقائق الديمقراطية في الحياة السياسية والوطنية الجديدة، إلَّا أنها ولاعتبارات مرتبطة بالمرحلة الماضية، تعمل ووفق آليات ديمقراطية وسياسية، إلى استبعاد شريحة أو فئة واستثنائها من الحياة السياسية الجديدة.

مما يوسع حجم الثقوب والعيوب في نهج المصالحة والإنصاف؛ لأننا نعتقد أن سيادة نهج الاستثناء والإقصاء، لأي اعتبار كان، يساهم في تأسيس وتنظيم قوى مجتمعية عديدة للعمل ضد الوضع الجديد، في حين أن المطلوب هو رفع هواجس ومخاوف الجميع، وأن التحوُّل والتغيير الذي يجري في الوطن، هو لصالح كل الفئات والشرائح، وليس هناك مكون اجتماعي أو سياسي ينبغي أن يُستثنى من العملية السياسية الجديدة.

وبروز فكرة الفلول أو نهج الاجتثاث، يُدشِّن لمرحلة جديدة من الظلم السياسي تحت هذا العنوان، فليس كل من انتمى إلى الحزب أو النخبة السياسية الحاكمة سابقاً، ينبغي أن يخضع لقانون الاستئصال والاجتثاث؛ لأن هذا القانون ومتوالياته السياسية والأمنية والاجتماعية، هو ضد نهج المصالحة والإنصاف، ويساهم في إذكاء التوترات والأحقاد بين فئات المجتمع المختلفة.

والشخصيات والفعاليات التي مارست الظلم والاضطهاد بحق أبناء الشعب، ينبغي أن يقدموا إلى القضاء، وهو المعني وحده بالبت في مصيرهم. فمن يبحث عن تعزيز مقتضيات المصالحة والإنصاف فعليه أن يلتزم بأن الديمقراطية كحقوق وواجبات هي لجميع المواطنين دون استثناء، وإذا قبلنا -لأي اعتبار- باستثناء أحد من العملية الديمقراطية، فهذا يعني أننا بدأنا الخطوة العملية الأولى في مشروع إخضاع الحق الديمقراطي الذي يتساوى جميع المواطنين فيه لاعتبارات الصراع أو التنافس السياسي. وهذا مما لا شك فيه أنه يُضعف الواقع السياسي الجديد، ويُؤسِّس لمرحلة من الظلم والاستبداد لفئة أو مكون من مكونات المجتمع تحت يافطة ديمقراطية. وإننا من الضروري أن نرفض كل عمليات الاستئصال والاجتثاث، سواء تمت بعناوين استبدادية صارخة، أو بقفازات ديمقراطية ناعمة.

فالاستثناء والإقصاء يُخرِّب العملية السياسية، ويفتح المجال للنافذين إلى التلاعب في هذا الحق، الذي ينبغي أن يحترمه ويصونه الجميع.

وهذا بطبيعة الحال، يقتضي إعطاء أولوية إلى بناء مرجعية قانونية ودستورية، حتى يتم التنافس بين مختلف القوى والفعاليات في سياق مرجعية دستورية، تكون هي الحكم والفيصل حين النزاع، أو في تحديد الأولويات وجدول الأعمال الوطني للتغيير والإصلاح.

وتُعلِّمنا التجارب السياسية العديدة، وبالذات في لحظات التحوُّل والانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن نظام إلى آخر، أن الرهان من أجل ضبط نزعات الاستئثار والهيمنة السياسية، ليس على الضمير والمناقبيات الأخلاقية (مع أهمية ذلك)، وإنما على الأنظمة القانونية والإجراءات الدستورية، التي تُوزِّع مصادر القوة، وتحول دون احتكار القوة السياسية أو المادية لدى شخص معين أو طرف محدد؛ فلكيلا تُبنى أنظمة استبدادية جديدة، من المهم العمل على بناء منظومة دستورية متكاملة، تُوزِّع عناصر القوة بين أطراف الدولة المختلفة، وتحول دون خلق مستبد جديد. فاحتكار القوة هو الذي يُفضي إلى بناء نظام مستبد، ولا يمكن أن تتعزَّز قيم الديمقراطية وآلياتها المتعددة، إلَّا في ظل دولة تتوزَّع فيها عناصر ومصادر القوة.. و«المجتمعات العربية لا يحكمها التجانس، ولا تُوحِّدها عقيدة أيديولوجية شمولية، ولا يجمعها تصوُّر مشترك أحادي، وهي لهذه الأسباب لا يمكن أن يُعبِّر عنها حزب ذو هيكلية عقائدية شمولية أو أحادية إقصائية. وهذا ما جعل الحزب الشمولي الحاكم في أكثر من بلد عربي في موقع مواجهة مع المجتمع الذي يسيطر عليه، مما أدَّى إلى بروز حالة خوف متبادل بين المجتمع التونسي أو المصري أو السوداني الذي يرفض الانسجام مع النزعة الشمولية للحزب الحاكم، لأنها تطمس تموُّجاته، وتعطُّل تطلُّعاته الديمقراطية، وبين الحزب الشمولي الذي يطالب هذا المجتمع العربي أو ذاك بالخروج عن حقيقته الراهنة كمجتمع تعدُّدي قائم على الاختلاف والتنوُّع والتعارض».

خاتمة القول: ثمة قوى سياسية واجتماعية متباينة في طريقة تعاملها مع ثورات الربيع العربي، وفي تحديد اتجاهها الأساسي نحو المستقبل المنظور. فهناك قوى تتقاطع مصلحتها مع مصالح القوى الكبرى في العالم، التي تسعى دون إنجاز تحوُّل حقيقي في دول الربيع العربي، حيث تكتفي بإسقاط الزعيم دون إسقاط النظام الذي أحتضنه، ومارس من خلاله استبداده وفساده، وأقصى ما تسعى إليه هذه القوى على هذا الصعيد، هو إحداث تحوُّلات جزئية في بنية الدولة ومؤسساتها، وطرق تشكيل النخبة السياسية الجديدة. وفي مقابل هذه القوى هناك قوى أخرى تعمل انطلاقاً من وعيها السياسي والديمقراطي والنضالي، من أجل إحداث تحوُّل جذري وشامل في طبيعة وبنية وخيارات الدولة والمجتمع، وتعمل بكل ثقلها السياسي والإعلامي والاجتماعي لتوفير كل مستلزمات هذا التحوُّل الشامل. ويبدو من مجموع المعطيات القائمة أن دول الربيع العربي ستعيش خلال الفترة القادمة مرحلة التراوح من خلال عملية الجذب والاستقطاب المضاد بين هذه الخيارات السياسية والاستراتيجية. ومن المؤكد في هذا السياق أن توفير أرضية صلبة لمصالحة بين قوى وفعاليات المجتمع المختلفة ستساهم، بطريقة أو أخرى، في تحديد نوعية وطبيعة الخيار السياسي، الذي سيتحكَّم في مسار العملية السياسية الجديدة.

فالمستقبل المنظور لهذه الدول والمجتمعات لم يتشكَّل بعدُ، وطبيعة الصراع والتنافس الحالي بين مجموع القوى ستُحدِّد إلى حدٍّ بعيد نوعية المستقبل المنظور لهذه الدول والمجتمعات.

فالمجتمعات التي تتمكَّن، عبر فعالياتها الحزبية والمدنية والسياسية، من صياغة عقد جديد لتنظيم حياتها القانونية والسياسية الجديدة، هي مجتمعات ستتمكَّن من اجتياز هذه المرحلة الحساسة بأقل خسائر ممكنة.

أما المجتمعات التي لم تتمكَّن من بناء عقد سياسي واجتماعي جديد لها، سواء لأسباب داخلية أو خارجية، فإنها ستُعاني وستعيش الكثير من الصعوبات والمشاكل التي تُهدِّد أمنها واستقرارها وطبيعة العلاقة بين مكوناتها المتعددة.

ومن أجل ألَّا تضيع كل التضحيات، التي بذلتها الشعوب العربية من أجل الكرامة والحرية والعدالة، آن الأوان لكل القوى أن تبقى حاضرة في الميدان من أجل الديمقراطية وحماية القيم التي تحرَّكت من أجلها شعوبنا العربية.

والأولوية اليوم هي لبناء أنظمة سياسية ديمقراطية تعدُّدية، تحترم المواطن، وتصون كرامته، وتُدافع عن حقوقه ومكتسباته، فهي مربط الفرس وحجر الأساس من أجل الانعتاق من ربقة التخلُّف والاستبداد السياسي.

وبطبيعة الحال، ستبرز عيوب في ممارستنا للديمقراطية، ولكن هذه العيوب لا تُعالَج إلَّا بالإصرار على الديمقراطية وممارستها، والالتزام بكل مقتضياتها، حتى تصبح (الديمقراطية) طريقة حياة وممارسة يومية وأخلاق عامة وخيار ثابت للجميع. إن ما تعيشه دول الربيع العربي هو لحظة تاريخية ستُحدِّد شكل المستقبل ونوعيته، لذلك من الضروري التعامل معها بالمزيد من اليقظة والحضور النوعي في الساحات.