شعار الموقع

الإسلام والمفاهيم الضيقة

الدكتور عبد الهادي الفضلي 2012-10-05
عدد القراءات « 681 »

دراسة موجزة حول بعض المفاهيم الدينية ومقارنتها بآفاق المعرفة الإنسانية

*

* عضو الهيئة الاستشارية للمجلة.

المقدّمة

تتقاذف إنسان اليوم مجموعة من التيارات والتوجّهات والأفكار والرؤى، وهي التوجهات التي تحددها مجموعة من العوامل والدوافع الحياتية، لعل البيئة التعليمية وما تطرحه وسائل الإعلام الحديثة هي من أبرز تلكم المحدّدات في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم.

ولغلبة الخطاب الغربي على المشهد العالمي في واقعنا المعاصر، تنعكس تلكم التيارات على واقع مجتمعاتنا الإسلامية، فتختلط -نتيجةً لذلك- مجموعة من المفاهيم التي نمت وتطورت في بيئاتها الغربية، ليشوبها بعض التشويش والغموض في تنقلاتها من بيئتها الأمّ إلى بقية البيئات الأخرى.

ونحن نشهد مجموعة غير قليلة من هذه المفاهيم غير المستقرّة على مدلول أو معنًى واحد معيّن، ذلك أن بعضها من المفاهيم الحائرة التي لا يمكن تحديدها في معنًى واحد ووحيد دون أن يكون لها انطباق على معانٍ أخرى، فيما بعضها الآخر هو من المفاهيم الضيّقة التي تستعمل في أكثر ممّا تدلّ عليه من معنى. وهي الحال التي قد يرجع سبب القلق أو الضيق فيها إلى توابع الترجمة، فالذي قام بترجمة هذه الألفاظ من اللغات الأخرى، كاللغة الإنجليزية والفرنسية، إلى اللغة العربية قد لا يكن بالمستوى الذي يستطيع أن يفهم مدلول هذا المصطلح أو معنى هذا المفهوم، فيتصرّف من عندياته، فيحصل شيء من الارتباك أو الخلط في المعنى. وفي حال أخرى، قد يكون ذلك بسبب اختلاف البيئات فيما تشهده كل بيئة من تاريخ اجتماعي يختلف عن بقية المجتمعات الأخرى. وفي حالٍ ثالثة، قد يكون للخلفية الفكرية التي يرتكز عليها ذلكم المفهوم دور في تحديد معناه أو ضبابيته في بعض استعمالاته، إلى غيرها من الأسباب.

وقد وردت إلينا هذه الألفاظ نتيجة التفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، وبخاصّة الحضارة الغربية. ذلك أن من طبيعة الحضارات تقارض الألفاظ فيما بينها، فتأخذ هذه الحضارة من رصيفتها بعض ما لديها من مخزون لغوي، فيما تعطي من ألفاظها الأصيلة لتلك الحضارة المغايرة. وعادةً ما يحصل هذا بشكل تلقائي، وإذ ذاك قد يحصل شيء من القلق أو الضيق أو السعة في المفهوم.

ولتكرّر هذه المفردات وما تحمله من مفاهيم في المناخات التعليمية وفي وسائل الإعلام وعلى ألسنة العامّة والخاصّة، رأيتُ من المهم استعراض الرؤية الإسلامية حولها لرفع الكثير من الغبش الذي يلفّها في مجتمعاتنا الإٍسلامية، مستعينًا -في ذلك- بالنصوص القرآنية الكريمة، لكونها المصدر الإسلامي الأول في تحديد الرؤية ورسم الخطوط العامّة حول هذه المفاهيم المفتاحية.

وهي محاولة موجزة رجوت منها رسم بعض معالم النظرة الإسلامية حول هذه المفاهيم. أرجو أن أكون قد وفّقتُ فيها إلى ما هدفتُ إليه. والله تعالى ولي التوفيق، وهو الغاية.

مصادر المعرفة بين الغيب والشهادة

تستعمل كلمة (المعرفة) بكثرة، فنقول: «هذه معرفة علمية»، و«عرفتُ أن زيدًا أخوك». ونجمعها على (معارف)، فنقول: «هذه مجموعة من المعارف غير المنظّمة»، و«تلك من المعارف الحقّة». فماذا نريد بـ«المعرفة»؟

المعرفة هي: الفكر الموجود في ذهن الإنسان. فعندما يقال: «عرفتُ هذا الإنسان»، إنما يشير القائل إلى صورة ذهنية يحتفظ بها لذلك الإنسان الذي يتحدّث عنه. وعندما يقول آخر: «معرفتي بهذا الموضوع جيّدة»، فهو يتحدّث عن مجموعة من الأفكار والصور الذهنية التي يحتفظ بها عن ذلكم الموضوع. وقريب من ذلك التعبير التالي: «أعرف محمدًا أخا علي». إن ما تعنيه كلمة (المعرفة) في مثل هذه الاستعمالات هو: انطباع الصور والأفكار في الذهن، وهذه الصور المنطبعة نسميها (فكرة أو أفكار) و(معرفة أو معارف). ورد في المعجم الوسيط: «عرف الشيء معرفةً: أدركه بحاسّة من حواسه».

وقد بحثت المعرفة في أقدم بحوثها ودراساتها في الفلسفة. ومن أقدم الفلسفات التي بحثتها الفلسفة الإغريقية أو اليونانية. وقد بحثت كموضوع من موضوعاتها، ومنها انتقلت إلى الفلسفات الأخرى، وبخاصّة الفلسفة الإسلامية؛ ذلك أن الفلسفة الإسلامية اليوم تبحث في موضوعين رئيسين، هما: نظرية المعرفة، ونظرية الوجود.

وتتبُّعًا لتطوّر هذه المفردة، نجد أن الفلسفة اليونانية التي تأثرت بها الفلسفات الأخرى، كالفلسفات الغربية المعاصرة على اختلاف أنماطها -ومعها الفلسفة الإسلامية القديمة والمعاصرة- عندما تبحث المعرفة، تتناولها من عدّة جوانب، مبتدئةً في ذلك بمصادر المعرفة، وغير منتهية بطرق تلقيها وتحليلها وطرق تنميتها. ذلك أن هذه الفلسفات جميعًا (بما فيها الفلسفة الإسلامية) تحدد تلكم المصادر والوسائل التي نحصل من خلالها على المعارف والأفكار الموجودة في أذهاننا في المصدرين التاليين: الحسّ والعقل.

الحسّ المصدر الأول للمعارف

من خلال حاسّة البصر يدرك الإنسان الكثير من المعارف، فما يراه بعينيه من صور يختزنه عقله، فتتراكم المعارف البصرية في ذهنه. وهكذا عن طريق حاسّة السمع التي يتلقّى بها أهم وسيلة للتواصل الإنساني، وهي الألفاظ اللغوية. ومعهما بقية الحواس الخمس التي تساهم بصورة مستمرّة في تزويد الإنسان بالمزيد من المعارف من يومه الأول الذي يبدأ فيه باكتساب ما يتلقاه من أسرته من لغة وثقافة وعادات وطبائع متواصلةً معه إلى الأبد. فهذه المعارف لا يدرسها الإنسان بصورة نظرية عقلية، وإنما يتلقّاها بواسطة أهم مصادر المعرفة الإنسانية، وهو: الحسّ.

العقل المصدر الثاني للمعارف

تشير مختلف المدارس الفلسفية إلى أن المصدر الثاني للمعرفة هو العقل، ولكنها قد تختلف في تحديد ماهية العقل ووظائفه، ذلك أنها لم تتفق على تعريف واحد للعقل. لكننا، كبشر، بغض النظر عن تلكم التعريفات المختلفة، ندرك أننا نملك عقلاً متحرّكًا، وذلك من خلال عملية التفكير التي نشعر بها وجدانيًّا. فهذا التفكير ينطلق من جهاز، وهو ما نسميه العقل، سواءً آمنّا بمادّية هذا الجهاز فنذهب إلى أنه يتكوّن من المخّ والمخيخ والنخاع الشوكي، أو أعطيناه الصفة المعنوية البحتة، دون أن نحدد موقعه هل هو في الدماغ أم هو في القلب، أو في مكان ثالث كما هو رأي بعض النظريات الحديثة.

ما نتّفق عليه أن موطن التفكير هو ما نسميه (العقل)، وأن هذه المعلومات التي نحصل عليها عن طريق الحواسّ يتمّ تنظيمها في هذا الجهاز لنصل من خلال هذا التنظيم إلى معلومات جديدة. ذلك أننا في حال التقينا -مثلاً- شخصين متشابهين تشابهًا تامًّا، فالنظر إليهما ووصول صورتهما إلى العقل هو إدراك ومعرفة يتوصّل إليها الإنسان من خلال حاسّة النظر، لكنّ الحكم على هذين الشخصين بأنهما توأمان هو العملية العقلية التي تضيف للمعلومة السابقة معلومةً ومعرفةً جديدةً.

إنّ ما يقوم به العقل الإنساني هو التحرّك في هذه المحسوسات والمعارف التي تصله عن طريق الحسّ ليستخرج منها معلومات جديدة، تُسمّى معلومات عقلية. وذلك نسبةً إلى مصدرها الأساس، وهو العقل. وهي ما يطلق عليها في المنطق بالقضايا النظرية، إذ يتمّ التوصّل إليها من خلال إعمال النظر فيها عقليًّا.

بين العلمي والديني في المنهج المعرفي

ما نعيشه اليوم من افتراق منهجي كبير بين المنهج العلمي في تحليل الظواهر، وبخاصّة ما يرتبط منها بالجانب الاجتماعي، وبين المنهج الديني الشرعي في تحليل تلكم الظواهر، يرجع في كثير من نواحيه إلى تحديد المصادر الأساس للمعرفة الإنسانية، ففي حين تثنّي هذه الفلسفات المصادر في الحس والعقل، يضيف الفكر الديني إليهما مصدرين آخرين، هما: الوحي والإلهام.

ذلك أننا لو رجعنا إلى القرآن الكريم كأهم مصدر للمعرفة الدينية وأكثرها وثاقة في الثقافة الإسلامية، نراه يشير إلى الحسّ والعقل مصدرين أساسيين للمعرفة الإنسانية يدعو الإنسان إلى تبصّر الحياة من خلالهما، يقول تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}. ففي هذه الآيات دعوة صريحة إلى أن يتبصّر الإنسان فيما حوله من مخلوقات، وذلك فيما يشاهده بحواسه ليخرج من خلال هذه المشاهدات إلى ما يعزّز لديه استشعار القدرة الإلهية العظيمة التي خلقت جميع هذه المخلوقات بهذه الدقة المتناهية. وهذه الأخيرة هي عملية عقلية جديدة تضاف إلى سابقتها الحسية.

وبالإضافة إلى هذين المصدرين المعرفيين يضيف القرآن الكريم إليهما مصدري: الوحي والإلهام. ذلك أن القرآن الكريم يثبت عن طريق العديد من آياته أن حركات الدعوة النبوية ما هي إلَّا امتثال وتبليغ للوحي الإلهي الذي يختار الله تعالى من يصطفيه من أنبيائه المخلصين ليكونوا الواسطة بين الخالق وعباده من بني الإنسان، فيكون الوحي هو الوسيلة لتلقي تلكم الرسالة الإلهية المقدّسة. يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. وهناك الكثير من الإشارات القرآنية إلى أن الطبيعة النبوية منبعها البعث الإلهي دون أن تكون مبادرات شخصية، وذلك من خلال العديد من القصص القرآني الذي يتحدث عن سير حركة دعوة الأنبياء، إذ غالبًا ما تبدأ القصة النبوية بقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا...}، في إشارة واضحة إلى أنّ النبي في حركته الدعوية لم ينطلق لولا التفويض والإرسال من قبل الله تعالى، وفي تأكيد هذا المعنى نجد بعض القصص تبدأ بقوله تعالى: {إنَّا أَوْحَيْنَا...} في تعميق بيِّن لمركزية الوحي في خطّ الدعوة الدينية.

وإلى جانب الوحي، يضيف القرآن الكريم مصدرًا رابعًا، هو الإلهام، وهو الخطاب الإلهي المباشر لمخلوقاته دونما علاقة مباشرة بالتشريع الإلهي، وذلك كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ}. وفي آية ثانية يقول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}، والوحي هنا بمعنى الإلهام لهما بالقيام بتلكم الوظائف الواردة في الآيتين.

إننا -كمتدينين- حصلنا عن طريق الوحي -بخاصّة- على الكثير من المعارف التي لا يمكن للحسّ أو العقل أن يصلا إليها، كما هي الحال مع المخلوقات الغيبية، كالملائكة والجنّ، وهي المخلوقات التي لو لم يرد ذكرها في المصادر الدينية لم يكن بمقدورنا التوصّل إلى معرفتها. ومثيلهما فيما يرتبط بعالم الغيب البحت، كما هي الحال مع مبدأ الخلق ونشأة الإنسان على هذه البسيطة، ويقابل ذلك منتهى هذا العالم فيما يتعلّق بالمصير الإنساني النهائي والحتمي وما يرتبط به من الجنّة والنار والحساب والآخرة، وغيرها من التفصيلات الغيبية. وهي مسائل غالبًا ما ترتبط بالشأن العقائدي، إذ نستند في معرفتها والتفاعل معها إلى ما وصلنا من عالم الوحي الإلهي.

إنَّ الفكر الديني -بعمومه- يدعو إلى توسيع دائرة مصادر المعرفة بما يشمل المعارف التي تلقاها المتدينون عن طريق الوحي، ذلك أن التشريع الإلهي يقوم في أساسه على تلقي التعاليم الدينية الموحاة إلى الأنبياء (عليهم السلام)، بينما يرفض الفكر الفلسفي الغربي تلكم الغيبيات لعدم تعقّله تعدّد تلكم المصادر بما يشمل الوحي الإلهي، فيرفضون كل ما يتعلّق بهذه المعرفة الغيبية، ولذلك يرفضون الاعتقاد بالذات الإلهية ومعها كثير من الاعتقادات الدينية الأخرى ذات العلاقة.

الفكر الإنساني بين الأصالة والاتِّباع

من الكلمات التي كثيرًا ما تُداول في عصرنا الحاضر كلمة (الفكر)، إذ من الشائع استعمالها في التعبيرات التالية: «الفكر الإسلامي»، و«فكر أهل البيت (عليهم السلام)»، و«الفكر الغربي». وهو من الاستعمالات الحديثة في اللغة العربية، إذ إنها -في استعمالها العربي المعجمي- يراد بها عملية التفكير العقلي. فعندما يقوم العقل الإنساني بتنظيم بعض المعلومات للربط بينها واستخراج معلومة أو معلومات جديدة، تسمّى هذه العملية تفكيرًا وفكرًا. وعندما يعطي الإنسان رأيه في قضية معيّنة، فإن رأيه يسمّى فكرًا أيضًا.

ولعلّ الاستعمال الحديث لهذه المفردة لا يختلف كثيرًا عمّا كان العرب يستعملونها سابقًا، إلا أنّها تستعمل اليوم ويراد منها في كثيرٍ من الأحيان نتيجة إعمال العقل الإنساني بمجموعه العام، فعندما يقال: «الفكر الإسلامي»، فالمقصود هو نتيجة إعمال عقول المسلمين بعامّة في موضوع معيّن. وعند التعبير بـ«فكر أهل البيت» فإن المقصود هو النتائج العلمية لموضوع معيّن بحثه أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

وما تضيفه النظرة الإسلامية حول مفردة (الفكر) هو رعاية الجانب التطبيقي للفكر، ذلك أن الدين الإسلامي يبحث بخصوص هذه المفردة في كيفية تحويل ما يؤمن به الإنسان من فكر إلى قيمة لها تأثيرها ودافعيتها للإنسان نحو العمل والتطبيق، وهي النقطة غير المبحوثة في جانبها الغربي. فالفكر ليكون فاعلاً ومؤثّرًا -وفق النظرة الإسلامية- يجب أن يحتوي على الصفات التالية:

(1) الأصالة

ونقصد بالأصالة -هنا-: ما يقابل التقليد والاتِّباع للغير دون تمحيص أعمق للفكرة. وكمثال توضيحي، نورد ما أشيع حول نظرية أصالة العرق الآري الغربي. وهي النظرية التي بُذلت العديد من الجهود العلمية لإثبات صحتها، وبخاصّة في ألمانيا أيام الحكم النازي الذي أوصل الزعيم الألماني أدولف هتلر إلى الحكم هناك. وهي نظرية ثبت تاريخيًّا أنها وُجدت لخدمة الأغراض السياسية أكثر من أن تكون نظرية مبنية على واقع علمي متين. وما تخلص إليه هذه النظرية هو تقدّم العرق الآري وبخاصّة الجرماني منه على بقية الأعراق البشرية. وهي نظرية مبنية على العنصرية والتشدد ضد الأعراق الأخرى، وعلوّ أجناس بشرية على أخرى. وتؤمن بالقمع والإبادة ضد الأعراق الدنيا. وبالمقابل تؤمن بالحفاظ على «طُهْر» الأعراق العليا. ولعلّ ما ساعد على شيوع هذه النظرية هو ما تملّك الشعوب الغربية من اعتزاز بواقع مجتمعاتهم مقارنةً بواقع المجتمعات الشرقية. متناسين في ذلك ما كان عليه واقع الشرق، وأن كثيرًا من التقدّم الغربي الحديث يرجع في الأصل إلى ما استفاده من الفكر الشرقي القديم.

وهذه النظرية عندما يطالع مفرداتِها بعضُ المنبهرين بواقع المجتمعات الغربية قد يتولّد لديه الانطباع المؤيّد لأفكارها، وبخاصّة مع ما يراه من تقدّم علمي وتقني ومدني في مجتمعاتهم. إنّ تقبّل هذه النظرية من خلال حالة الانبهار العاطفي ومجرّد الانطباع الأولي يعدّ نوعًا من التقليد؛ لأنه قائم على مجرّد التلقّي العاطفي غير القائم على الدراسة الواعية والمتأنّية لواقع المجتمعات الشرقية قديمًا وحديثًا ومقارنتها بواقع المجتمعات الغربية قديمًا وحديثًا. وهو بخلاف ما نعنيه بالأصالة في الفكر، ذلك أن الأصالة -وهي الحالة التي تشجّع عليها النصوص الدينية- تدعو الإنسان إلى عدم تقليد الآخرين وتحكيم عقله في تقبل الأفكار وتبنيها.

وانطلاقًا من واقع حركات الدعوة النبوية التي هي في أساسها رفض للسائد وتأسيس لواقع اجتماعي جديد، تدعو هذه الحركات الإنسان إلى التعقُّل وبناء واقعه الجديد وفقًا لأسسها التي تدعوه لتلقيها بعقله قبل أن يتلقاها بقلبه، يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}، حيث تشير الآية الشريفة إلى أن جوهر قبول الدين إنما هي دعوة لاتباع التعاليم النبوية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ}، في مقابل حالة الرفض التي هي في جوهرها تقليد أعمى للموروث السائد {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا}. وما تعلّق عليه الآية الكريمة هو نبذ هذه الحال وتحكيم العقل في تلقي الجديد {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ؟!}.

(2) العمق

وهي الصفة المتمّمة للصفة الأولى، ذلك أن الأصالة تتطلّب من الباحث الذي يهدف إلى تقديم فكره للآخرين أن تتسم دراسته بالعمق في مقابل السطحية؛ فالبحث في أعماق المسألة دائمًا ما يكشف مسائل جديدة لم يكن ليتوصّل إليها لولا ذلكم الحفر في الخلفيات المعرفية لتلكم المسألة. وهذا ما نراه جليًّا في المنهج الفقهي الإمامي الذي تعدّ صفة العمق من أبرز سماته، فنجد الفقيه يظل لشهر أو أكثر لا يعطي رأيًا محدّدًا للمسألة، وذلك لعدم استيفائه البحث بما يكفي لإعطاء الحكم الشرعي فيها. وهذا بخلاف البعض الذي قد يفتي في كثير من القضايا -وبخاصّة المعاصرة منها- دون رويَّة وجهد علمي واضح، ما يجعل الحكم والفتوى حولها أشبه بحالة الاستعجال والمقارنة السريعة بين الماضي والحاضر، ما يترتّب عليه وهْنٌ في التشريع الإسلامي لمثل تلكم المسائل. ومع تراكم هذه الحال لا يكون الفكر التشريعي الإسلامي بالمستوى المطلوب.

(3) الاستقلالية

المراد من الاستقلالية عدم التبعية في النتائج وإبداء الأحكام دون تأمّل عقلي متأنٍّ. إذ يجب أن يكون الفكر الذي يعرضه صاحب الرأي وفقًا لما تمليه المنهجية العلمية وما توصل إليه من نتائج وفقًا لقوّة ومتانة الدليل. وهي أمر أكّدته الآيات القرآنية، ذلك أن التبعية للمجموع هي في الغالب ما تمنع الإنسان من تحكيم العقل وإنصاف الحق. يقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، إذ الآية هي خطاب من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه الذين لا يزالون يصرّون على تكذيب دعواه، يدعوهم فيها إلى عدم التأثّر بالأجواء المحيطة والمؤثّرة وليتفكّر كلٌّ منهم إما مع قرينه أو منفردًا فيما أتاهم به من دعوة، كما يدعوهم إلى التفكّر في دعوى المخالفين له فيما يشيعونه حوله من الجنون ومس الجنّ وغيرهما من الشائعات المنفّرة. وهي دعوة صريحة لاستقلالية الإنسان فيما يصل إليه من نتائج وفيما يمارسه من أحكام تجاه الآخرين.

(4) الشمولية

المراد بالشمولية هنا استيعاب كل أطراف الموضوع، ذلك أن الاستيعاب من أبرز المؤثرات في فاعلية الفكر. ذلك أنها تجعل من الفكر قابلاً للتطبيق في الواقع العملي لشموله لأكثر أطراف الموضوع. وما يجعل الفكر الديني فكرًا ذا قابلية للتطبيق هو شموليته واستيعابه لجميع أفراده، وهو بخلاف الفكر التشريعي البشري الذي أثبتت التجربة عدم وفائه لجميع أطراف الموضوع محلّ النزاع، ما يجعله يفتقد لعنصر العدالة في كثيرٍ من مناطقه التي لا يراعيها في تشريعه.

الوعي بالذات ضمن متغيرات المحيط

(الوعي) من التعبيرات الشائع استعمالها في عصرنا الحاضر، فيقال -مثلاً-: «هذا الموضوع يجب بثّ الوعي الجماهيري حوله»، و«نحتاج إلى توعية شاملة فيما يرتبط بالموضوع...».

والوعي لغةً-: الفهم، فـ(وعيتُ الأمر): فهمته. ويردُ هذا المصطلح في علم النفس بمعنى الذكاء، وفي الفلسفة يراد من (الوعي): الإدراك.

وما يضيفه الفكر الديني فيما يرتبط بهذه المفردة -كرصيفتها (الفكر)- هو تفعيل الوعي الإنساني في واقعه الاجتماعي بما يستحثّه الوعي في النفس من دافعية عاطفية نحو العمل. وأول ما تدعو إليه النظرة القرآنية في هذا الاتجاه أن يعي الإنسان ذاته وأن يكون على بصيرة منها. يقول تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}. إذ تشير الآيات الكريمة السابقة إلى أن الإنسان حينما يُحاسَب إنما على ما اقترفته يداه، وذلك بما يتحمّل من مسؤولية لا يمكنه التنصّل منها في ذلكم اليوم، وعليه أن يدرك حقيقةَ أنَّ الإنسان مسلّط على هذه النفس، وأنّ عليه أن يكون على بصيرة ووعي كامل بها ليقيها شرور شطحاتها وهفواتها التي قد تودي به إلى الجحيم في ذلكم العالم الآخر. ذلك أن الإنسان في حال كان على هذه الدرجة من الوعي سيسعى إلى الرقيّ بها في هذا العالم الذي يعيش يومه ولحظته.

والقرآن الكريم كما يُحمِّل الإنسان الفرد مسؤولية الوعي الذاتي بنفسه، يحمّل الأمة بمجموعها وعيَ ذاتها ومكانتها بين الأمم لترتقي بنفسها إلى ذلكم المستوى الذي يتناسب وما تحمله من فكر وحضارة، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

لقد أعطى الله للأمة الإسلامية المركز الوسط بين الأمم، فلا إفراط فيما تحمله من فكر وتشريع ولا تفريط. وهو ما يمكن تقريبه بالعدالة في النظام. وهذه الآية من الآيات التي من المفترض بالأمة -حكوماتٍ وشعوبًا- أن تعيها وعيًا يبعث فيها روح التطلّع للمستقبل الذي يفترض بها أن تحتله بين الأمم، وكلنا أمل في أجيالنا القادمة أن تتبصّر هذه الآية بما تختزنه من قيمة حضارية كبيرة لا ينبغي لنا كأمّة أن نتكاسل في السعي نحوها.

مفهوم الدين بين السعة والضيق

بسبب الاستعمار الغربي لكثير من بلداننا الإسلامية ظهر هناك نوع من الصراع في تحديد مفهوم الدين، وبخاصّة أن الحضارة الغربية قام الكثير من أنظمتها على أنقاض رفضها لتدخّل الكنيسة في شؤون الدولة الحديثة. ولذلك فإن المفهوم الموروث لدى هذه الحضارة إنما يرتكز في كثير من خلفياته على الممارسات الكنسية في فهمها لحدود وضوابط الدين. والشريعة المسيحية في تطبيقاتها الحديثة المنبثقة عن الكنيسة هي شريعة أخلاقية في الأساس، تنحصر وظائفها في الطقوس العبادية وفي بعض مسائل الأحوال الشخصية، إذ تمارس الكنيسة اليوم دورها في تنظيم شؤون العبادات وشرح نصوص الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، ومعهما بعض المسائل الشخصية، كالزواج والطلاق والحضانة والميراث ومثيلاتها مما يعرف بنظام الأسرة. وهذا بخلاف واقع الدين الإسلامي، ذلك أنه يمثّل نظامًا شاملاً للحياة، يحتوي في تفصيلات مسائله الشرعية على جميع احتياجات الإنسان فيما يرتبط بتنظيم حياته الشخصية والأسرية والاجتماعية.

لقد طبّق الغربيون مفهومهم للدين المسيحي على الدين الإسلامي، مما ولّد نوعًا من الصراع في تحديد سعة وضيق الدين فيما يُحتكم إليه من قضايا الحياة المعاصرة، ذلك لأن من المفاهيم الرئيسة التي يتبناها الفكر الغربي هو فصل الدين عن الدولة (السياسة)، وهذا يرجع في جانب منه إلى طبيعة حركة الدعوة المسيحية التي لم ينشأ فيها قيامٌ للدولة المبنية على أساسٍ من الحكم الديني كما هي حال حركة الدعوة الإسلامية التي أنشأ فيها نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) النواة الأولى للدولة الإسلامية التي كانت عاصمتها المدينة، مثّل فيها (صلى الله عليه وآله وسلم) رأس الدولة وقائدها العام، وجاء من بعده من خلفه في قيادة الدولة الإسلامية كان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبرز الشخصيات الإسلامية التي مارست الحكم الإسلامي وفق ضوابطه الشرعية.

ولذلك عندما ينطلق المسلمون في ممارسة الفعل السياسي انطلاقًا من الرؤية الدينية للحكم، فذلك انطلاقًا من واقع التجربة التاريخية، وليس انتحالاً وتحميلاً للدين بما ليس فيه، كما يذهب إليه بعض المتأثّرين بواقع التجربة الغربية في الحكم.

الهويّة وتعدّد الانتماءات

كلمة (الهوية) من الكلمات العربية المنحوتة من كلمتين، هما: (ما هو) أو (ما هي)، إذ نُحِتَ منهما (هَوِيَّة) أو (هُوِيَّة) -بفتح الهاء وضمها-. وهي من التعبيرات الجديدة التي دخلت المعجم العربي الحديث. جاء في المعجم الوسيط: «الهُوِيَّة: في الفلسفة: حقيقة الشيء أو الشخص الذي تميّزه عن غيره. والهوية: بطاقة يُثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله، وتسمى البطاقة الشخصية أيضًا».

وقد انتقل استعمال كلمة (الهوية) من معناها الفلسفي إلى المعنى الاجتماعي، فأصبحت من المعاني المتداولة. إذ يُسأل الإنسان عن انتمائه الفكري والديني وخطّه السياسي الذي يمتاز به عن غيره من بين أقرانه. وتحديد المقوِّم الأساس لهوية الإنسان له علاقة مباشرة بأولوية الانتماءات التي تتعدّد لدى كل إنسان. ولذلك يعدّ هذا المفهوم من المفاهيم الملتبسة والحساسة في كثير من تمظهراتها الاجتماعية.

الإنسان في انتماءاته المتعدّدة

تتداخل في نفس الإنسان انتماءات عدّة، منها الانتماء إلى الوطن الذي تربى بين جنباته، وهو الانتماء الذي قد يتوسّع إلى الانتماء القومي، فيشعر الإنسان بانتمائه العربي الذي يتعدّى القطرية المحدودة. وفي حال مقابلة قد يضيق إلى الانتماء العرقي أو القبلي أو المناطقي. ولأن هذه الانتماءات -عندما تتحدّد أولوياتها داخل النفس الإنسانية- يكون لها فعلها الفردي والجماعي الذي قد يتحوّل في كثير من حيثياته إلى عصبيات مقيتة أشعلت العديد من الصراعات بين أتباعها في شتى أصقاع المعمورة على فترات تاريخية متباعدة حينًا ومتقاربة أحيانًا أخرى. كان لذلك دوره في تحديد المدى الذي تمثّله الهوية في النفس الإنسانية في عصرنا الحاضر.

وما يطرحه الفكر الديني -فيما يرتبط بالهوية- هو تعزيز الانتماء إلى المبدأ. وذلك بأن يكون مرتكز الهوية التي يشعر الإنسان تجاهها بالانتماء الأول هو ما يعتقد به من مبدأ ومعتقد. وهو ما نفهمه من خلال مبدأ الأخوّة الإيمانية التي أسس لها القرآن الكريم فيما يحويه من آيات بيّنات حول وحدة الأمة الإسلامية. يقول تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ويقول في آية ثانية: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.

«حقّ الحياة» بين السعة والضيق

من أبرز العناوين الخبرية المتُداولة في وسائل الإعلام اليوم وعلى ألسنة الناس بجميع طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية ما يُسمّى ﺑـ(حقوق الإنسان)، وهو مصطلح انطلق تداوله من خلال الوثيقة الدولية التي تعرف بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي صدرت في 10 ديسمبر 1948م، وهي الوثيقة التي تتضمّن 30 مادّةً حقوقيةً، تعدّ -حسب الوثيقة- الحقوق الأساسية التي يجب أن تكفلها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لمواطنيها. ومن بين أهم هذه الحقوق ما تنصّ عليه المادّة الثالثة من أهمية تمتّع «كل فرد بالحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه». وعندما يتناول الحقوقيون المعنى المراد ﺑـ«حقّ الحياة»، فإنهم يشيرون إلى ضرورة تمتّع الإنسان بالعيش في ظل هذه الدول بالشكل الذي تكفل له الدولة توفير متطلبات الحياة الأساسية من المأكل والمشرب والمأوى والملبس، وذلك ضمن حقوقه المشروعة من ثروات البلاد التي ينتمي إليها.

وفي البلدان التي تنطلق دساتيرها ومواثيقها من وثيقة حقوق الإنسان، تلتزم هذه الدول توفير فرص العمل ليحصل الإنسان من خلال مشاركته في بناء الدولة على ما يكفل له الحياة الكريمة بتوفير متطلباتها الأساسية من المأكل والمشرب والمأوى والملبس. وفي حال كانت فرص العمل وما يجنيه المواطن من مقابل مادي لا يؤمّن له جميع احتياجاته الضرورية، فإن هذه الدول تتكفّل -من خلال مؤسسات الضمان الاجتماعي- بتغطية النقص الموجود في حاجاته الأساس.

دور المجتمع في مسألة التكافل الاجتماعي إسلاميًّا

ولعل الفارق الأساس بين الفكر الغربي فيما يرتبط بتوفير حقّ الحياة كاملاً وبين الفكر الإسلامي هو ما يلقيه الدين من مسؤولية على المجتمع في حال تغيّب مؤسسات الدولة عن القيام بواجباتها تجاه مواطنيها. ذلك أن الفرد في حال لم يكن متكاسلاً في طلب الرزق، ولم تؤمّن الدولة له ما يكفل له الحياة الكريمة، فإن الدين الإسلامي يلقي بالمسؤولية على المجتمع عن طريق ما يعرف فقهيًّا بالتكافل الاجتماعي، وذلك من خلال الحقوق المالية العامّة، كالزكوات والأخماس والصدقات والكفّارات.

وبسبب اختلاف النظرة الإسلامية لمعنى حقّ التمتع بالحياة عن تلكم النظرة الغربية، فإن لذلك مدخليته في هذا الإطار، ذلك أن الإسلام يضيف إلى مقوّمات الحياة الإنسانية: مسألة الكرامة، فبالإضافة إلى تمتع الإنسان بتوفّر المأكل والمشرب والمأوى والمسكن، يضيف إليها الإسلام أهمية التمتّع بهذه الحقوق فيما يحفظ له كرامته. يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، إذ لا تستثني الآية إنسانًا دون آخر، وذلك ما نستفيده مما ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي يقول: «النَّاسُ صِنْفَان، إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»، إذ وفقًا لهذه الكلمة الرائعة الواردة عن الإمام علي (عليه السلام) على الإنسان أن يتمتّع بحق الحياة التي يحتفظ معها بكرامته إما لكونه مسلمًا أو لكونه إنسانًا. بل إن الرواية النبوية الشريفة توسّع هذا المفهوم بما يشمل كل كائن حيّ، إذ ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «لكل كبدٍ حرّى أجرٌ عند الله»، بما يعني أن على المسلم أن يستشعر آلام الآخرين فيسعى إلى تخفيف معاناتهم، وذلك في دائرة واسعة جدًّا تشمل بالإضافة إلى حيّزها الإنساني العام كل كبد حرّى مما حوله في هذه الطبيعة.

ولذلك فإن مفهوم حقّ الحياة في الإسلام لا يعني -في حدوده الدينية- تلكم المعاني التي قد تقتصر على توفير تحقيق مستوى الحياة بما يتساوى فيها الإنسان مع الحيوان، وإنما يوسّعها الإسلام بما يشمل مقوِّمًا أساسيًّا من مقومات الشخصية الإنسانية، وهو العيش بكرامة. وهو ما نراه جليًّا في كثير من تفصيلات الأحكام الشرعية، كما هي الحال مع الصدقات الشرعية التي هي إحدى جوانب التكافل الاجتماعي الذي يمارسه المسلم تجاه من يتقاسم معه الوحدة الاجتماعية التي ينتمي إليها بغض النظر عن انتمائه الديني والمذهبي والعرقي. حيث يحرّم الإسلام على المتصدّق أن يمارس هذه العبادة بطريقة المنّ والتفضّل، ذلك أن المنّ وإشعار الآخرين بالتفضّل يجرح كرامة المتصدّق عليه. فالتبرّع المالي قد يوفر -في جانبه المادّي- بعض الاحتياجات الضرورية للإنسان، ولكنه في المقابل يُنقص من كرامته التي هي حقّ أساسي من حقوقه الإنسانية التي لا يجيز الإسلام أن يفرّط فيها.

ولنا في أئمتنا (عليهم السلام) خير مثال على ذلك، فعندما نقرأ سيرة إمامنا زين العابدين (عليه السلام)، تشير مصادر السيرة إلى أنه حينما توفي وحضر المسلمون لتغسيله والصلاة عليه، وجدوا على ظهره آثار حمل الجراب الذي كان يحمله (عليه السلام) ليلاً في ذلكم الظلام الحالك، فيمرّ على بيوتات فقراء المدينة دون أن يعرّفهم بنفسه بأنه علي بن الحسين (عليه السلام) ليوزّع عليهم تلك الصدقات. فكان أداؤه لهذه الفريضة متمثِّلاً روحها الإسلامية التي يوفّر معها للإنسان كامل حقوقه، بما فيها حقّ الكرامة. فعندما لا يتعرّف ذلك المحتاج إلى واهب الصدقات لن يشعر بأي درجة من درجات النقص تجاه واهبه.

الحرية بين النظرية والتطبيق

الحرية من أبرز ما تتنادى به المجتمعات الإنسانية من أقصى العالم إلى أقصاه في عصرنا الحاضر، ولكنّ ذلك لا يعني وضوحها ذلكم الوضوح البيّن، بل هي من المفاهيم الحائرة التي يشوبها الكثير من الضبابية. لذلك من المناسب الوقوف مع تطورات هذا المفهوم التاريخية والبيئات التي ظهر فيها ذلكم التطوّر، وذلك في حدود المتاح.

الحرّية مصطلحًا فقهيًّا

الحرية من المصطلحات التي تتداولها المدوّنات الفقهية الإسلامية، ولكنه يرد في تلكم المتون فيما يقابل: (العبودية) و(الرقّ). وذلك يتعلّق بالجانب التاريخي لظهور الدين الإسلامي. إذ إن الإسلام -في بدء ظهوره- كان قد جاء وحالة الرقّ تعد من الظواهر الاجتماعية المنتشرة بشكل فظيع جدًّا. وللقضاء على هذه الظاهرة فتح الإسلام أبوابًا كثيرة للحدّ من هذه الظاهرة، فلم يكن هناك أمام الاستعباد إلَّا وسيلة واحدة فقط، وهي أسرى الحرب. إذ كانت الوسيلة الوحيدة التي يتمكّن منها المسلم من تملّك العبيد. وقد استمرّ الحال إلى أن انتهى عصر الرق إلى غير رجعة في العالم كله والحمد لله على ذلك، وهي الحال التي تلتقي والروح الإسلامية في شيوع مبدأ الأخوة بين جميع البشر، دونما أي مائز بينهم.

الحرية مصطلحًا معاصرًا

ولكنّ المناداة بالحرية في عصرنا الحاضر لا تتمثّل في إلغاء العبودية، فعندما يطالب الابن أبويه بالحرية التي قد يجدها مسلوبةً منه في بعض صورها، أو تلك التي تطالب بها الزوجة من زوجها عندما يقيّدها ببعض الضوابط فيما يتعلّق بسعة حقّ التصرّف أو ضيقه، وكذلك عندما يطالب المواطنون حكوماتهم بمزيد من الحريات العامّة والخاصّة، فإنهم جميعًا لا يطالبون بالحرية مقابل العبودية التي لا وجود لها اليوم، وإنما يقصدون بها معنًى آخر، ربما يعدّ توضيحه وبيانه من أعقد المشكلات المفهومية في عصرنا الحاضر.

ولكننا قد نستطيع أن نستخلص المعنى العام لها، ذلك أن كلمة (الحرية) بمعناها المعاصر وردت إلينا من الحضارة الغربية، وذلك انطلاقًا من وثيقة حقوق الإنسان التي مرّ ذكرها أعلاه، وبخاصّة فيما يرتبط بالمادتين 18 و19، التي تنصّ أولاهما على أن: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة»، فيما تنصّ الأخرى على أن: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية». وبالإضافة إليهما تتردّد كلمة (الحرية) في العديد من فقرات ومواد هذا الإعلان العالمي الذي أصبح ثقافة عامّة يتحاكم ويتقاضى الناس وفقًا لمبادئها وتعاليمها في شتّى أصقاع المعمورة.

وقد صدرت هذه الوثيقة في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وجاءت نتيجةً لما عاناه الإنسان الغربي خاصةً من ويلات تلكم الحروب وما ارتكب فيها من فظائع مسّت الإنسان ونالت من جميع حقوقه التي لم يتمتّع بها في تلكم الحروب والصراعات التي كان يمارسها أصحاب السلطة في تلكم البلدان، فيما دفع فاتورتها الباهظة ذلكم الإنسان والمواطن البسيط. وقبل تلكم الحروب ضاق الإنسان ذرعًا من طبيعة السلطات التي كان بعضها جمهوريات والآخر ملكيات. وبخاصّة تلكم الملكيات الديكتاتورية التي لا تنتظم أمور الدولة فيها وفق دستور واضح متوافَق عليه ومنتخَب من قبل الجمهور، أو تلكم الجمهوريات التي هي في الأصل نظام جمهوري وصل الحاكم فيها عبر صناديق الاقتراع ولكنّ نظامها الدستوري شبه معطّل وتتمّ القرارات فيها وفق إرادة ذلكم الحاكم المستبدّ الذي استغلّ سلطاته فيما هو لصالحه الخاصّ.

نتيجةً لمثل هذه الصراعات، توافقت المؤسسات الرسمية الغربية على وثيقة عالمية تنظّم العلاقات الإنسانية البينية تلتزم الحكومات تطبيقها، وأن تكون جزءًا أساسًا من دساتيرها، ينال المواطن حقوقه ويطالَب بواجباته انبثاقًا منها.

الإسلام ونظرته إلى الحرية بمفهومها المعاصر

وهذه النتيجة التي توافقت عليها الشعوب من أجل أن يتمتّع المواطن بكافّة حقوقه كاملة، ولتجنيبه آثار تلكم الصراعات التي قد يكون الساسة من أسبابها، أمرٌ تقرّه الديانات الإلهية وتدعو إليه، وتلكم الحرّية الشخصية تكفلها الديانات بما يتوافق والتعاليم الدينية. ولكنّ المناداة بالحريات في كثيرٍ من الأحيان، وبخاصّة في عالمنا العربي، قد ينطلق من خلط في المفاهيم وبعض المغالطات التي تدعو الإنسان إلى الإباحية والانفلات الأخلاقي والديني بدلاً من نيل الحريات التي من شأنها الارتقاء بالمجتمعات الإنسانية إلى ما هو عالٍ وسامٍ؛ ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص الموجودة في الشريعة الإسلامية في تعامل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كنموذج أعلى في تطبيق الشريعة الإسلامية عندما مارس دوره في الحكم سنرى أن الحرية تعني: أن كل فردٍ من المواطنين يعطى كامل حقوقه المكفولة له كما تنصّ عليها تعاليم الشريعة الإسلامية، دون أن يكون هناك أي نوعٍ من الاعتداء على حقوق الآخرين.

وهذه النتيجة لا يمكن تحقيقها -وفق النظرة الإسلامية- إلَّا في حالٍ واحدة فقط، وذلك عندما يكون نظام الدولة نظامًا يحقّق مبدأ العدالة الاجتماعية بين المواطنين، وأن يكون القائم على تطبيق النظام يتّسم بصفة العدالة أيضًا، فيراعي تطبيق النظام على جميع المواطنين على حدٍّ سواءٍ دونما مائز بينهم. في مثل هذه الحال نستطيع أن نوجد الحرية، بحيث يأخذ الجميع كامل حقوقهم دون أن يعتدي أحدهم على الآخر. ولذلك فإن وجود نظام لا يحقّق مستوًى من العدالة في بعض جوانبه، أو أن يكون هناك على رأس السلطة الحاكمة من لا تتوفّر فيه صفات العدالة، لا نعدم أن نجد مجموعة من الحريات المسلوبة. ولذلك جاء التأكيد من جانب الشريعة الإسلامية على مسألة العدل الاجتماعي نظامًا وقوّامًا، وبخاصّة وفق النظرة الإمامية التي تشترط درجة عالية من العدالة في الحاكم الإسلامي، وهذا الشرط غير قابل للتنازل عنه. ففي حال سقوط هذه الصفة عن الحاكم -وفق الفقه الإمامي- يوجب ذلك سقوطه حاكمًا شرعيًّا على المسلمين، ولا يجوز التعامل معه باعتباره حاكمًا شرعيًّا. ذلك أن شرط العدالة يجب توفره في الحاكم الإسلامي من حين توليه السلطة إلى آخر يومٍ له فيها، وذلك بغرض تحقيق الحريات العامّة للمواطنين من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة بينهم جميعًا.

وانطلاقًا مما أشير إليه أعلاه، هناك تباين في الرؤى والمنطلقات بين الرؤية الإسلامية لمسألة الحريات وما تنادي به المنظمات الدولية الراعية لحقوق الإنسان. فحينما تنطلق تلكم الدعوات بضرورة إطلاق الحريات العامّة لكافّة المواطنين من قبل هذه المؤسسات، وذلك فيما تصدره من تقارير دولية دورية ترصد بها الحركة الحقوقية في كل بلدٍ على حدة، إنها في تلكم التقارير تنظر إلى جانب واحد من المعادلة التي من المفترض أن تكفل هذه الحريات، وهو السلوك العام لتلكم الحكومات، دون أن يكون هناك تركيز واضح على النظام الذي ينتظم هذا البلد أو ذاك وفقه، إذ قد يكون الخلل نابعًا من النظام نفسه.

إنّ الدعوات الدولية كما ينبغي أن تركز على السلوك العام للحكومات، لا بدّ أن يكون هناك تتبّع لحركة التشريع في تلكم الدول، ذلك أن تراكم هذه الدراسات من شأنه أن يكفل تحقيق هذه الحريات على أرض الواقع. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن النظام -من خلال التجربة الواقعية- ما دام يَصدُر عن العقل الإنساني دونما الرجوع إلى التشريعات الإلهية لا يكون عادلاً في كافّة جوانبه، فالنظام العادل لا يصدر إلَّا عن العادل المطلق، وهو الله تعالى.

السياسة والضابطة الشرعية في الإسلام

مفهوم السياسة من المفاهيم التي تختلف النظرة فيها كليًّا فيما تقدّمه الحضارة الغربية عمّا تلتزمه التعاليم الدينية تجاه قيادة الناس وتنظيم شؤونهم في وحدة اجتماعية واحدة. ذلك أن السياسة في شقّها الغربي تعني فنّ إدارة المجتمع من خلال التداول السلمي للسلطات العليا فيه عبر وصول نخب اجتماعية معيّنة إلى سدّة القرار. ولكن آلية الوصول إلى موقع القرار ومن ثَمّ إصدار القرارات وتنظيم الحياة الاجتماعية ينطوي -في ممارسته- على الكثير من خداع الجمهور بغرض تمرير الكثير من المصالح الشخصية على حساب المصالح العامّة.

وهذا المنحى في الممارسة السياسية لا يلتقي والنظرة الدينية، حيث يحتاج اختيار القيادة الاجتماعية -دينيًّا- إلى مجموعة من الصفات والمميزات، تأتي مسألة الانضباط الشرعي في مقدّمتها. إذ إن تحقيق العدالة الاجتماعية في الإسلام، كما يُرتكز فيها على النظام التشريعي العادل، فإن الدعامة الثانية لتحقيق هذه العدالة هو أن يكون القائم على تطبيق النظام ممّن تتوفّر فيه صفة العدالة، وذلك لضمان التطبيق السليم لذلكم النظام الذي يحتكم إليه أفراد المجتمع سعيًا لحياة إنسانية كريمة يتساوى فيها الجميع دونما مائز طبقي أو عرقي أو مناطقي أو اجتماعي بينهم. ومما يؤسف عليه أننا حينما نتحدّث عن الرؤية الإسلامية فيما يتعلّق بالشأن السياسي، إنما ننطلق في ذلك من نماذج قليلة جدًّا، ذلك أن التاريخ الإسلامي في الحكم لم يَحتكِم فيه ممارسوه إلى تلكم النظرة المتقدّمة في سياسة وقيادة المجتمع المسلم.

إن التجربة الأكثر إشراقًا في تاريخ المسلمين بعد رحيل النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم هي تلكم الفترة القصيرة التي حكم فيها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي أدار شؤون الأمة الإسلامية طبق تعاليم الشريعة ولم يحد عنها قيد أنملة. ولذلك فإننا حينما نريد فهم السياسة في سياقها الإسلامي، فإننا نفهمها على أنها سياسة مبادئ، الغرض منها هو قيادة الناس وفق مبادئ وتعاليم المبدأ الذي تنتمي إليه تلكم الأمة التي توحدت واندمجت تحت رايته، وهو مبدأ توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له دون سواه، وليست سياسة مصالح ومطامح شخصية تخدم شريحة على حساب بقية شرائح المجتمع. وهذا ما نتبينه مما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان الفرق بين سياسته المبدئية وسياسة معاوية بن أبي سفيان المصلحية النفعية، إذ ورد عنه قوله (عليه السلام): «وَاللَّهِ، مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي؛ ولَكِنَّهُ يَغْدِرُ ويَفْجُرُ. ولَوْ لا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ، لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ. ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ، وكُلُّ فُجَرَةٍ كَفَرَةٌ. ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. واللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالمَكِيدَةِ، ولا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ».

إنّ الإمام عليًّا (عليه السلام) في هذا النص يعرض لسياسة معاوية نافيًا جهله بأمور الحكم، وهي التهمة التي قد تلصق به لأنه لا يقوم بممارسات الحكام كما عهدهم الناس، فهو في هذه الكلمة يؤسس لمعنًى جديد للسياسة ونمط الحكم في الإسلام، وهو نمط لا يقوم على الخديعة والمكر -كما يقوم به معاوية ومن هم على شاكلته-، وإنما يقوم على التزام المبادئ والحفاظ عليها، ذلك أن المخالفة لهذه المبادئ فجور وخروج عن الإسلام فيما أسس له من تعاليم وأحكام ثابتة لا تبدلها ظروف ومقتضيات الحكم مهما قُدِّمت للحاكم من مغريات ومورست عليه من ضغوط.