شعار الموقع

العمارة والفن الإسلامي

الدكتور فلاح جبر 2012-10-05
عدد القراءات « 2091 »

*

* أستاذ محاضر بقسم المعماري- جامعة العلوم و التكنولوجيا - وهران - الجزائر.

مقدمة

تعدّ العمارة من أبرز مظاهر ونتاج الحضارة الإنسانية، وهي نتاج حضاري، بل الحضارة التي تُجسّد فكر المجتمع ومعتقداته، وقد اختلفت العمارة من حضارة إلى أخرى بسبب اختلاف أفكارها ومعتقداتها، مما أكسب كل عمارة خصوصياتها التي امتازت بها عن باقي الحضارات.

الإسلام منهج إلهي للحياة البشرية، يعلو فوق الزمان والمكان ويشمل كل المقومات المنتظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، صاغ مجمل معالم الحضارة الإنسانية ونتاجاتها المتنوعة ومنها العمارة. تعكس هذه الحضارة الإسلامية ومنها العمارة كإحدى مظاهر هذه الحضارة المهمة التي تميّزت بخصائص أعطتها سمة مشتركة وهوية ميّزتها عن باقي الحضارات بالرغم من امتدادها على أرض شاسعة لها ظروف بيئية وثقافية وحضارية لعدة قرون.

أخذ الاهتمام بالعمارة الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية أبعاداً تميّزها عن غيرها، وهذا الاهتمام جاء كرد فعل على العمارة الحديثة التي انتشرت في هذه البلدان، والتي فشلت في تلبية الكثير من متطلبات هذه المجتمعات ثقافيًّا واجتماعيًّا كما أنّ هذا الاهتمام مرتبط برغبة هذه المجتمعات لتحقيق خصوصيتها وانتمائها.

ولكن بالرغم من كل تلك الدعوات فإنّ الأغلبية من المصممين لا يأخذون بعين الاعتبار العلمية والعملية لهذه العمارة حيث كانت عنصرًا فعّالاً ومؤثرًا في موقعه، وأحياناً لا يدركون تماماً التأكيد على مبدأ التكوين الفضائي للمبنى، ونظرة العمارة إليه في تحديد التجاور بين الفضاءات وعلاقة المبنى بما يجاوره بصريًّا وحركيًّا، مركزية التكوين، توجيه زاوية النظر وغيرها...، بعضهم يجهل تمامًا الشروط الشرعية والمعمارية لاتِّباعها في العمارة الإسلامية، بل يغيب عن البعض العناصر الأصلية والمضافة المكونة لهذه العمارة.

لقد تميّزت معظم الدراسات عن العمارة الإسلامية بطابع توثيقي وصفي أو آثاري، مما جعل بعض الدراسات الجادة التي حاولت بلورة تلك المسائل مع اقتراح لتناول العمارة بصورة أكثر شمولية وموضوعية.

حاولت المدرسة الاستشراقية النظر إلى العمارة بنظرة غير موضوعية وغير منصفة، وهذا من الطبيعي أن يتولى علماء الغرب المعاصرين سد هذا الفراغ وتوظيف المناهج التي درسوها وتدربوا عليها منذ أقدم العصور مسقطين على العمارة الإسلامية مفاهيم غربية مستعملين المصطلحات والمقاييس الخاصة بهم.

وإن لم نكن مبالغين نقول: إنّ دراسة العمارة الإسلامية كادت تبقى لفترة زمنية طويلة حكراً على المستشرقين الذين كان لهم فضل السبق في هذا الميدان، وقد شملت الدراسات الاستشراقية كل الميادين والأقاليم، وبفضلها أصبحنا اليوم نميّز بين الأنواع والأنماط والأساليب وكل أنواع الفنون الإسلامية.

علماً أنّ الإبداع في العمارة الإسلامية كان ولا يزال أحد المحددات في فكر كل معماري مسلم، وأن البحث في العمارة الإسلامية لتحقيق التواصل يلتزم البحث في الأصول الفكرية التي كانت وراء إبداع هذه العمارة وفنونها.

ومن خلال هذه الدراسة التي قمنا بها، وبيّنا فيها أنّ العمارة ذات أبعاد وخصوصيات دينية نابعة من العقيدة الإسلامية، كان لا بد لنا من الاستعانة بميادين عالم الفكر.

أولا: الفكر في العمارة الإسلامية

جوهر الحضارة الإسلامية هو الإسلام، وإنّ جوهر الإسلام هو التوحيد Monothéisme، أي أنّ الله هو الخالق الواحد المطلق المتعال ورب الكائنات جميعاً وسيدها. هذان المبدآن الأساسيان باديا الوضوح، ولم يتطرّق الشك بهما قط إلى من كان ينتمي إلى هذه الحضارة أو ساهم فيها.

التوحيد نظرة إلى الواقع والحقيقة والعالم والزمان والمكان والتاريخ البشري

إنّ مبدأ التوحيد بمعناه العام، مبدأ مشترك بين المسلمين، وهو عندهم جميعاً كذلك من الأصول الأساسية لعقيدة الإسلام، ولكن المعتزلة تفردوا بتفسير خاص له. وهو يعتمد مبدأ العقل والنقل، الذي يعني التأويل، وثنائيات أخرى كالجبْل والحرية (التسيير والتخيير)، (الذات والصفات)، (الخلق والقدم)، أي سؤال: هل العالم قديم أم محدث؟

وقد حاول المعتزلة حلّ هذه الإشكالات عن طريق الثنائية الكبرى العقل والنقل، التي تقودنا رأساً إلى استخدام التأويلات، قصد إيجاد صيغة يقبلها العقل وتتفق مع النصوص الشرعية، فالمعتزلة يتعاملون مع لغة الفلسفة مباشرة وفق مقولات منطقية تعتمدها الفلسفة الميتافيزيقية عادة في مباحثها. والملاحظ هنا أنهم ينطلقون في تفسير مبدأ التوحيد بين الموقف الفلسفي بمعزل عن النصوص الإسلامية الواردة في الموضوع، بمعنى أنّهم يقررون المبدأ النظري أولاً على قاعدة المقولات ثم يرجعون إلى هذه النصوص لكي يأخذوا بما يتفق منها مع ما قرروه نظريًّا، وليؤولوا منها ما يتنافى ظاهر مع نظريتهم. أي أنّ المرجع الأوّل عندهم هو العقل، وأّما الشرع فينبغي أن يخضع للتفسير الموافق للعقل، وهذا ما يعنيه عمربن عبيد أحد كبار شيوخ المعتزلة بقوله: «إنّ الدين هو تقرير حجة الله في عقول المكلفين».

ومن المفاهيم التي خضعت إلى التفسير العقلي لمفهوم التوحيد عند المعتزلة نصوص نقلها عنهم مؤرخو الفرق الإسلامية كالشهرستاني، والمسعودي، وأبي حسن الأشعري، وأحمد بن يحيى المرتضى وغيرهم. ومن نصوص المؤرخين ما قاله المسعودي: «وتفسير قولهم -أي المعتزلة- فيما ذهبوا إليه من الباب الأول، وهو باب التوحيد، هو ما اجتمعت عليه المعتزلة من البصريين والبغداديين وغيرهم، وإن كانوا في غير ذلك من فروعهم متباينين، من أنّ الله -عز وجل- لا كالأشياء، وأنّه ليس بجسم ولا عرض ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وأن شيئاً من الحواس لا يدركه، وأنّه لا يحصره المكان ولا تحويه الأقطار (الأبعاد) بل هو الذي يزل (أي أزلي)، ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حد، وأنّه الخالق للأشياء، المبدع لها لا من شيء، وأنّه القديم وما سواه محدث».

وذكر الشهرستاني مما اتفق عليه المعتزلة: نفي التشبيه عنه «أي نفي تشبيه الله بالكائنات المادية من كل وجه: جهةً، ومكاناً، وصورةً، وجسماً، وتحيزاً، (احتلال حيز أي مكان) وانتقالاً وزوالاً، وتغيراً، وتأثراً، وأوجبوا تأويل المتشابه فيها».

وعلى هذا الأساس لجأ المعتزلة إلى تأويل هذه الآيات {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} تأويلاً عقليًّا ينفي دلالتها المادية الظاهرة، أي أنّهم صرفوا الألفاظ ذات المدلول المادي عن معانيها اللغوية المباشرة، إلى معانٍ مجازية أو إلى دلالات رمزية.

وهكذا فإنّ الفكر المعتزلي، وهو -كما نرى- يتخذ صفة (المفهوم) الفلسفي المستند إلى مقولات منطقية فلسفية كمقولة (الكل والجزء)، ومقولة (المكان والزمان)، ومقولة (الجهات والأبعاد)، ومقولة (الجوهر والعرض).

ومن ثنائية العقل والنقل، أو بعبارة أخرى: السمع والعقل، التي فكر واجتهد من خلالها المعتزلة في تؤولاتهم الكثيرة جاء الفيلسوف الكندي ليخرج من هذه الثنائية المحكومة بحدود علم الكلام الذي كان يطرح مسائل عقدية بحتة إلى ثنائية كبرى هي الشريعة والفلسفة، حيث حاول أن يُوفّق بينهما؛ إذ رأى أنّ الغاية في الشريعة والغاية في الفلسفة واحدة، فكلاهما يخدم هدفاً واحداً «تعليم الناس الحق وتوجيه نحو الخير».

ثم تواصل هذا المنهج مع الفارابي الذي حاول التوفيق بين الشريعة والفلسفة بشكل أكثر ثراء وتنوعاً فاستنبط مثلاً ثنائية (الوجوب والإمكان)، وقد أخذنا من نظام أرسطو ثنائية العلة والمعلول، القوة والفعل. فالممكن هو الذي ليس له من نفسه أن يكون موجوداً وإنّما يوجد بعلة خارجية، والواجب الذي تكون علة وجوده من ذاته لا من خارجه.

وتواصل الجهد مع ابن سينا، الرازي، ابن طفيل، وكذلك ابن رشد الذي اعتبر أنّ الشريعة والحكمة (فلسفة) متفقتان، أي ثنائية تنتهي إلى صيغة توفيقية. والرابط هو النظر الوارد في الآيات والأرض وما خلق الله من شيء.

وقد أوّل النظر بالنظر العقلي وليس المقصود به النظر المتعلق بحاسة البصر، وبذلك يعتبر أحد الفلاسفة الذين استخدموا التأويل بشكل واسع وفعّال للخروج من الثنائيات الكثيرة التي فرضتها النصوص والوقائع، مثل (العلم الكلي والعلم الجزئي، العلم فاعل والعلم المفعول، القِدم والحدوث، إلخ).

إنّ هذه العلاقة الثنائية بين الله والعالم هي بين البسيط والمجرد والملموس والمركب، والبحث لاستخراج الدلالات وتأويلها من حيث وجودها المتناقض بين الروح والمادة بين الثابت والمتحول، واللفظ (الشكل) والفكر (المضمون)، الزمان والمكان، من هذه العلاقات الثنائية وفق مفهوم المعتزلة خضعت للتأويل لتجديد هذه المفاهيم.

نستنتج أن هذه الثنائية في الفكر الإسلامي تختلف عن الفكر الفلسفي الأوروبي الممتد من اليونان إلى القرن العشرين، بطرح مقولات الثنائية بشكل واضح وبسيط وأساسي، كمقولة الخير والشر، والحياة والموت، والجمال والقبح، فهناك من اعتبر العلاقة بينهما علاقة تقابل مثل أفلاطون وديكارت أو علاقة جدل مثل هيراقليطيس وهيغل، وأكدوا أنّ هذه الثنائيات هي جوهر الفكر ومنطق العقل، فهذه التناقضات تمثل تكاملات لا بد منها لفهم أصل الموجودات.لكنها تختلف عن غيرها، أنّها ليست تعادلية أو جدلية، وإنّما هي ثنائية تفاضل، فالأولية المطلقة فيها هي المضمون (الثابت)، هو مبدأ النظام والانسجام والثبات والوضوح، الذي يحرّك ويوجّه هو في مرتبة السبب وفي مرتبة النتيجة، إنّه الترابط الذي يرسم بدوره الفكر ويحدد وظيفته، وهي القواعد والمبادئ الثابتة.

وهكذا أدّت هذه الثنائية التفاضلية في ثنائية تقويمية الثابت والمتحول، الشكل والمضمون، الزمان والمكان.

الثنائية التفاضلية مخطط (1)

من هنا فالتوحيد هو ذلك المبدأ الذي يمنح الحضارة الإسلامية هويتها، ويربط مكوناتها معاً ليجعلها كياناً عضويًّا متكاملاً نسميه الحضارة، وفي ربط العناصر المتفرقة معاً، يقوم جوهر الحضارة وهو التوحيد في هذه الحالة بطبع تلك العناصر الأخرى بطابعه الخاص، ثم يعيد تكوينها بشكل يتناسق مع العناصر الأخرى ويدعمها.

ولا يقوم الجوهر بالضرورة بتغيير طبيعة تلك العناصر، بل يحوّلها ليصوغ منها حضارة ويُعطيها صفاتها الجديدة التي تكوّن تلك الحضارة. ويختلف مدى التحوّل بين ضئيل وجذري، اعتماداً على مدى علاقة الجوهر بالعناصر المختلفة ووظائفها، وقد برزت هذه العلاقة في أذهان المسلمين الذين يتابعون ظواهر الحضارة، لذلك اتخذوا التوحيد عنواناً لأهم أبحاثهم، وأدخلوا جميع الموضوعات الأخرى تحت لوائه، ومن ضمنها العمارة والفنون الإسلامية.

ثانياً: الفن الإسلامي

لا يمكن لنا أن نفهم أو ندرك الغايات والأبعاد الروحية والفنية لجماليات العمارة الإسلامية دون معرفة الأسس الفكرية التي قامت عليها العقيدة الإسلامية التي يتلخص جوهرها في التوحيد المجرد المطلق.

ومن هنا فالإبداع الفني والمعماري الإسلامي استلهم أفكاره من العقيدة الإسلامية، ولهذا الإبداع وسيلة تواصل أساسية هي الكلمة، باعتبار أنّ القرآن كلام الله، وهو النص المقدس الوحيد الذي يقدّم نفسه على أنّه كلام الله حصراً وبالكامل، في حين أنّ الأناجيل ليست غير روايات متعددة لسيرة السيد المسيح (عليه السلام)، والتوراة قصص وسير وأحداث تعدَّد مدونوها، على أنّ الكلمة كانت لبنة التأسيس للحضارة.

وهكذا، فالكلمة هي محور التعبير بامتياز عن حضارة بأسرها، فالكلمة هي نقطة التقاء العالم العلوي الرباني بالسفلي الدنيوي البشري، وأداة التواصل بينهما، وهي الرابط بين المعاني، ذهنية لا مادية شاملة لا يحتويها حيز.

إذن فالكلمة هي لغة يحاول الفن والعمارة أن يعبرا عنها في إطار العقيدة (التوحيدية)، وإنّ وحدة الدلالات الفكرية (المضامين) مع المدلولات اللفظية (الأشكال) مختلفة باختلاف لغة كل أمة عن لغة أمة أخرى، وهذا فقد نشأت تقانة معمارية إسلامية عن ممارسات للغة معمارية ومفردات بنائها، والمعماريون يتعاملون بها للدلالة بها على تفاصيل أعمالهم، وكانت هذه المفردات غزيرة ومتعددة ومتنوعة باختلاف المعلمين المعماريين وباختلاف بيئاتهم ولهجاتهم، شكل (1).

شكل (1) فن الخط الإسلامي

إنّ التوحيد هو المرادف للتجريد الذي تضمنته قواميس اللغة العربية، كما نجد أنّ التوحيد هو أصل مبدأ التجريد، وهو في الفن والعمارة الإسلامية أساس مبدأ الوحدة، وهي سمة أساسية في العمارة والمدنية الإسلامية.

إنّ التجريد يهدف للسمو بالواقع وبلوغ الصفات المطلقة للخالق، فهذا هو ما يُعبر عنه للوصول إلى عمق الجوهر، والتعبير عن اللاملموس، الغموض، الجاذبية، وينقلك من المجرد إلى الملموس ومن الملموس إلى المجرد، إشارات ضمنية عن الآليات لتأويلها.

إنّها شهادة على المطلق (غياب الموضوع) عن الفن الإسلامي الذي تعدّد ضمن صفات موحدة عبر عدة قرون في مساحات جغرافية شاسعة، وبين شعوب متعددة البيئات والمصادر، معنى ذلك أننا أمام فن يسقط الزمان والمكان، شكل (2).

شكل (2) الزخرفة الإسلامية، (المصدر الفن الإسلامي 1983)

إنّ العلاقة بين التوحيد (الدين) والفن الإسلامي هي علاقة حميمية خاصة؛ وذلك لأنّ ولادة الفن إنما تمت في المسجد، إذا جاز القول، والمسجد هو متحف الفن الإسلامي، إلا أننا لا نستطيع نسيانه كمكان للصلاة، وأنّ عبقرية الفن الإسلامي تكمن في هذا التماس المدهش بين الفن والدين.

وإنّ العمل الفني الإسلامي، يقيم بدوره ثنائية على غرار الزمان والمكان، الغيب والوجود، الرب والعبد، الظاهر والباطن، المرئي واللامرئي، الشكل والمضمون، الثابت والمتغير (المتحول).

ما يرافق ذلك من معانٍ جمالية كالإيقاع والتدرج من البسيط إلى المعقد من الخارج إلى الداخل، التزاوج بين المجرد والملموس، والملموس والمجرد، وكذلك نسجل في المسجد لقاء عدة فنون منها (النحت، الرسم، الخط، الزخرفة).

قبة الصخرة

صورة رقم (3) الفن الإسلامي

فن يسقط عنه الزمان والمكان، فالعمل الفني يتم بعيداً عن الموضوع (ليس ثم خبر أو رواية أو تاريخ، فرح، مشاعر، عواطف)، وأقام في الوقت نفسه توازناً وقاعدةً بأن يكون الشكل المضمون، ويدل الشكل على الموضوع جاعلاً من الشكل الفني في ذاته مضموناً.

وقد وصف روجيه غارودي ذلك، «إنّ كل الفنون تؤدي إلى المسجد والمسجد يؤدي إلى الصلاة، وهذا ليس انطباعاً فقط وإنّما هو واقع يجسده المعمار».

لذا يعتبر المسجد كونه نتاجاً هو أكبر التعبيرات أمانةً وصدقاً عن جوهر الروح الإسلامية، حيث إنّ المسجد أهم مكان تتمثل فيه العمارة الإسلامية والفن الإسلامي معاً وهو أيضاً حيّز الحضور الإنساني الهادف إلى التواصل والاتصال مع الخالق عبر الفروض التي يؤديها المخلوق لخالقه.

ثنائية المرئي واللامرئي الفن الإسلامي مخطط رقم 2

فقد ارتبطت سمات وخصائص العمارة الإسلامية بالجوانب الفيزيائية الشكلية المادية، في تناولها بعض الجوانب التي ارتبطت بالمعاني والمضمون، وهي كالآتي:

1- التركيز والانفتاح على الداخل (المضمون) أكثر من الخارج (الشكل).

2- المرونة وقابلية التكيّف والامتداد الأفقي.

3- عمارة إنسانية ذات مقياس إنساني.

4- ثابت المضمون مع التغيّر في الشكل.

5- الإيقاعية والهندسية.

6- التجريد والرمز.

7- الوحدة والتنوع.

في العمارة الإسلامية توحد وحدة في الشكل والتنوع، فالوحدة بدون تنوّع تقود إلى الرتابة، والتنوع بدون وحدة يقود إلى الفوضى.

ثالثاً: الوحدة في العمارة الإسلامية

و الوحدة ميزة مهيمنة وواضحة في العمارة الإسلامية، والتي تتأتى فيها وحدة الإله، وبهذا المعنى يقول أبو حيان التوحيدي: «وأنا أعوذ بالله من صناعة لا تُحقّق التوحيد ولا تدل على الواحد ولا تدعو إلى عبادته والاعتراف بوحدانيته والقيام بحقوقه والصبر على قضائه والتسليم بأمره».

من خلال تلك الوحدة خرجت منجزات الفن المعماري الإسلامي تكاد تشبه بعضها بعضاً في سائر البلاد الإسلامية مع شيء من التباين اليسير الذي تحمله كل بيئة وتختص به وتمليه مواهب أهلها الموروثة، ولكن دون أن تخلّ هذه المفارقات بوحدة الفن الإسلامي.

تتكشف العمارة الإسلامية في البيئة الإسلامية، حيث يمكن الشعور بها كما يرى Schulz قبل أن نلتقي بأي إنسان أو نرى أي علاقة كتابية، ونشعر بها في كل مبنى وفي كلّ زخرفة وعلى مستوى المدينة ككل.

وهذا هو الذي جعل Schulz يطلق على العمارة الإسلامية مصطلح (عمارة الوحدة) Arachitecture de unite. إنّ العمارة الإسلامية اعتمدت عمارة الوحدة بالتركيز على أحد القطبين من الثنائيات المتناقضة كالبساطة والتعقيد، في حين اعتمدت الثنائية المتلازمة والمترادفة في الصيغة الإثنية.

إذ برز من الدراسات التي تركزت حول العمارة الإسلامية طرحت بشكل عام جوانب متباينة ومتشعبة ترتبط بزوايا النظر المختلفة، تراوحت في نواحي فلسفية من جهة إلى نواحي شكلية من جهة أخرى، ويبرز بشكل واضح مجال أهمية إنجاز دراسة على مفاهيم (الثابت والمتحول - الشكل والمضمون) لنستوعب خصوصيات العمارة الإسلامية بشكل عام.

الثنائية في العمارة الإسلامية مخطط رقم (3)

ونستنتج من ذلك أنّ العمارة الإسلامية تعكس شرعية الدين الإسلامي في توحيد المضمون وتنوع في أنماط أشكالها العمرانية، إنّ هذه الأسس الثابتة والمتغيرة هي التي تمنح الديمومة والاستمرارية للعمارة الإسلامية حتى وقتنا الحاضر، بالإضافة إلى أنّها تعكس إبداع العمارة الإسلامية، التي تربط بين الماضي والحاضر وصولاً إلى المستقبل.

لقد أفرزت هذه الدراسات التي تناولت العمارة الإسلامية أنّ الدين الإسلامي هو المحور الأساسي للعمارة، وظهور قصور معرفي في هذه الدراسات التي بيّنت أهمية استكشاف المبادئ والقيم الضمنية والظاهرة في العمارة الإسلامية، الثابتة والمتحولة التي تشكل المرجع الفكري الإسلامي في التأثير على العمارة حتى في وقتنا الحاضر لإعطائنا الهوية والخصوصية الإسلامية مع استجابتها لمؤثر الزمان والمكان.

1- الثابت والمتحول

برزت مناقشة الفكرتين لعدم وجودهما بشكل مكتمل بحيث تتحولان إلى مفاهيم، ومثال على ذلك الفيلسوف الكندي (788 - 873) نراه قد فصل بين الأمور العقلية والأشياء الحسيّة، والتزم الفصل القاطع بين العقلي المجرد والحسي العيني، وهما يتنافران. وإنّ نظرية المعرفة عند الكندي تتميز بـ:

1- المجرد - إدراك الكليات الثابتة - ساكن.

2- الحسي - إدراك الجزئيات المتغيرة - متحرك.

أمّا عن إخوان الصفا فيقسمون الأشياء الحسية إلى العيني والمجرد، وهما يتكاملان بالوجود ووحدته، وهما الثابت والمتحول، وينتقل التطبيق على الزمان والمكان، المكان هو الوعاء لكلّ متمكن، وهو الجسم المحيط به، المكان الجوهر، والزمان الحركة والتحول من السكون والثبات إلى الحركة والتغيير والنقل، إنّ وحدة الوجود تتضمن (وحدة المجرد والحسي) التي يحتضنها الزمان والمكان.

وتقدم جوليا كريستيفا مثلاً على ذلك النص على أنّه وحدة مجسدة في مستويات مختلفة ملائمة لبنية كلّ نص، وممتدة، فكلّ نص له تصوران كبيران، أحدهما ثابت، ستاتيكي، والثاني ديناميكي متحرك.

وهنا تظهر العمارة الإسلامية للمسجد في تحولاتها وتقلباتها عبر الأزمنة والأمكنة، التي تحدد العوامل المتغيرة والثابتة مع الزمان والمكان، وهي:

أ- العوامل الثابتة Elements permanente: هي ذات تأثير ثابت Static وواحد غير متغير في المسجد مهما كان المكان والزمان، وتتمثل في:

- اتجاه القبلة.

- الموقع والمحيط.

- النسيج العمراني.

- الطرق الرئيسية للتجارة.

- وسائل النقل.

ب- العوامل المتغيرة Elements Variables: هي ذات طبيعة متطورة Dynamic، وليست ثابتة Dynamique وتأثيرها حسب الزمان والمكان في المجتمع الإسلامي وهي ذات:

- طابع ديني اجتماعي.

- طابع اقتصادي.

- طابع سياسي.

- تكنولوجيا كواد البناء.

إنّ التحول مرتبط بمفهوم البنية (Structure) التي تعني منظومة من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولات، وما تتميز به البنية ليس ثباتها، بل كونّها تخضع لمعياري الثابت والمتحول تزامنيًّا (Synchronique) وزمانيًّا (Diachronique)، وكذلك مكانيًّا هنالك حالتان يمكننا من خلالهما دراسة تفاعل القيّم مع الأشكال الفيزيائية في العمارة الإسلامية:

الحالة الأولى هي رؤية هذا التفاعل تزامنيًّا، أي فهم الكيفية التي ارتبطت بها القيم مع الأشكال العمرانية المحتملة وكيف تبدلت هذه الأشكال عبر الزمن.

أمّا الحالة الثانية فهي رؤية التفاعل بين القيّم والأشكال العمرانية في حقبة زمنية محددة.

إنّ هذه العوامل تخلق التنوع في العمارة الإسلامية وهو الذي يفرض نفسه لظروف موضوعية تمثل الزمان والمكان والتأثيرات الحضارية واستجابته للواقع الذي يعبر عن نفسه، علماً أنّ هذا التنوع في الشكل والثبات في المضمون هو غنى للعمارة، وإنّ حقيقة هذا التنوع لا ينبغي أن تبتعد عن الأصول الأساسية لعقيدة التوحيد.

2- المضمون والشكل

أ- المضمون (contenu) هو كل ما يشتمل عليه العمل الفني من فكر أو فلسفة أو أخلاق أو اجتماع أو سياسة أو دين، أو غير ذلك من موضوعات ذات شأن تاريخي ووطني، ومن ضمن الطروحات على المضمون في الفن أنّه كلّه مضمون (مدرسة المضمون).

تارة بما يلد، وتارة بما يتفق مع الأخلاق، وتارة بما يسمو بالإنسان إلى سماوات الفلسفة والدين، وتارة بما هو صادق من الناحية الواقعية، وتارة بما هو جميل من ناحية الطبيعة المادية.

والمضمون في المنهج الإسلامي أمام قواعد ثابتة لكل زمان ومكان غير خاضعة للتبديل أو التغيير مهما اختلف الزمان والمكان.

إنّ المضمون هو الجوهر الفكري المستمد من الدين الإسلامي والمؤثر على تشكيل أنماط العمارة والذي يتسم بالثبات لكل زمان ومكان.

ويمثل جانب المضمون في العمارة الإسلامية هو أساس تفسير الشكل المعماري وأن تحليل جانب المضمون الإسلامي يعطي تفسيراً متكاملاً (للفكر والتعبير) في العمارة الإسلامية، لذا فالمضمون هو أعم وصفاً من التعبير المعروف في العمارة (بالوظيفية) المحكومة بمحددات هندسية وفنية اقتصادية، وهو تعبير يضم المتطلبات الوظيفية بجانب المتطلبات الإنسانية والاجتماعية، ويعتبر المحور الرئيسي الذي تُبنى عليه النظرية المعمارية في إطار المنظور الإسلامي، ولا يتغير بتغير الفترة الزمنية المحددة لمنطقة مكانية معينة.

من هذا نستنتج أنّ المضمون الإسلامي هو منهج علمي للمعماري، وأنّه ثابت لا يتغير، وأنّ المفردات المعمارية التي ترتبط بالمحيط الثقافي تتغير باختلاف المكان، وأنّ المضمون الإسلامي يتناسب مع كل زمان ومكان، وأنّ المضمون هو المكون للشكل الذي سنتناوله فيما بعد.

ب- الشكل (Forme) إذا ما استقر المضمون الإسلامي في تحديد الأشكال الفراغية والحجمية للعناصر المكونة للعمل المعماري، وتحديد العلاقات المكانية والفراغية، فلا يبقى إلّا التعبير المعماري عن الشكل الذي تتكامل فيه هذه العناصر.

فإنّ الشكل من خلال المضمون الإسلامي للعمارة في بيئات مختلفة من العالم الإسلامي الذي لا تحدّه حدود زمانية ومكانية، وإنّ الشكل يستمر في انعكاس البحث بالربط بين النظرية والتطبيق.

وقد تناولت الدراسات التي تطرّقت إلى الشكل في العمارة الإسلامية من خلال بعض الأفكار التي عبرت عن السمة والخصائص المختلفة، وتباين بعضها عن بعض في طبيعة المفهوم المحدد والخصائص التي ترتبط به.

وإن الشكل يجمع معاً الزمان والمكان. إن الأشكال الزماكانية في صورها المختلفة تجسد المكان في الزمان والزمان في المكان. ووظائف الأشكال الزماكانية تتأسس في كونها أداة تحليل تاريخية ومعمارية لفحص العلاقة بين العمارة والحياة.

كون العادة حضارة، وكون أساسها كنز من صور وذاكرة زمان ومكان، ويبدو أن الجامع بينها هو وظيفتها الدلالية، إن كل ما يؤدي معنى أو يسهم في بنائه هو شكل من أشكال الزمان والمكان.

وإن الفترات المختلفة تغطي أشكالاً زماكانية مختلفة، والأشكال الزماكانية أيضاً هي أدوات فعالة النمط تؤثر وتعكس النمط، ويبرز بشكل واضح مجال أهمية مفهوم استيعاب خصوصية العمارة الإسلامية؛ إذ توضح وجود عدة عوامل عكست على طبيعة العمارة الإسلامية أنماطها التي جاءت ضمن البيئة الحضرية والعمرانية، وارتباط النمط في العمارة بفكرتي الثبات والمتغير؛ لذا وجب عرض النمط والبحث عنه من خلال الزمان والمكان في التكوين المعماري الإسلامي.

وعليه فإن النمط في ذهن مجتمع معين في عصر معين يعبر عن حالة الفكر والمشاعر، ثم يتجسد هذا النمط ماديًّا في نموذج أو (موديل Model) له صفة مستقلة وخاصة عن مجمل التغيرات المؤثرة في العمارة (عوامل سياسية، عوامل اقتصادية، عوامل مكانية، واجتماعية وثقافية بيئية وعلمية وعملية)، فهو يعبر عن الزمان والمكان والحالة، مع احتفاظه بخصائص البنية العامة للنمط، فيبدو أنّه آخر حلقة في السلسلة النمطية، إلا أنّه بعد عملية إرجاع أو تجريد إلى خصائصه الأساسية والكلية في التشكيل يتحول ثانية إلى نمط جديد، له قابلية على إعادة الإنتاج والتطوير بشكل مستمر، وبهذا يصبح النمط عملية ديناميكية مستمرة للإبداع والتطوير.

ونستنتج أنّ الحضارة الإسلامية في كلّ جوانبها، فلسفتها، عمارتها، فنها، حركتها العملية والفكرية، كلّ هذه الجوانب يحكمها الفكر، حيث جاءت العلاقات بينهما قوية جدًّا.